صحوت مبكرا، نزلت لأرى شوارع نيويورك وهي في هدوء الصباح، ولبثت أطوف على مهل، شاخصا ببصري هنا، لامسا بأصابعي هنا، واقفا عند مفترق الطرق هناك! حتى إذا ما حان موعد العمل في المكاتب قصدت إلى مؤسسة جون وتني في المبنى الضخم بميدان روكفلر، وهي المؤسسة التي منحتني منحة سخية لأقيم في أمريكا عاما دراسيا، أحاضر في اثنتين من جامعاتها: في جامعة كارولاينا الجنوبية بكولمبيا خلال النصف الأول من العام، وفي كلية الدولة بولاية واشنطن في النصف الثاني من العام. استقبلتني الآنسة «ل» وهي فتاة في نحو الخامسة والعشرين من عمرها، أو قد تزيد قليلا، سمحة الوجه، جميلة الملامح، مهندمة في أناقة واحتشام، تبدو عليها علائم التهذيب والثقافة، استقبلتني بترحاب شديد، وأعطتني القسط الأول من منحتي المالية، ودعتني على الغداء مع مدير المؤسسة الدكتور «و» ... وفي الدقائق القليلة التي صحبتني فيها الآنسة «ل» لتعينني على صرف راتبي من مصرف في أسفل البناء، أنبأتني عن جون وتني صاحب المؤسسة ومانحي المنحة المالية أنه رجل فوق الأربعين بقليل، وقد كسب أمواله من سباق الخيل، حتى اقترن اسمه بالسباق في أرجاء البلاد كلها، فأراد أن يغير منحى حياته ليكسب لنفسه شهرة عن طريق آخر ، وبدأ عدة أعمال من أهمها إنتاج الطعوم المثلجة المعبأة، وهو الآن في هذا المجال التجاري قد بلغ أوج الشهرة ... تذكرت عندئذ أنني حين كنت أتحدث في الطائرة إلى جاري القسيس، وأنبأته أنني أستاذ زائر بمنحة من جون هيي وتني صاحب الملايين، سألني القسيس: أهو وتني رجل السباق؟ فقلت له: أي سباق؟ لا أظن ذلك؛ فهو رجل كل ما أعلم عنه أنه مشجع للعلم والعلماء.
تركت الآنسة «ل» لأعود إلى مكتب المؤسسة ساعة الغداء، وقبل أن أسير في شوارع المدينة جلست على مقعد قريب، ونشرت الخريطة أمامي لأرى أين أسير، وحددت لنفسي ثلاثة مواضع أزورها هذا الصباح: عمارة إمباير ستيت التي هي أعلى بناء في العالم، والمكتبة العامة وبناء جمعية الأمم ... الحق أنك لا تلبث في نيويورك أن تتعود ناطحات السحاب، كأنما أنت مقيم فيها منذ أول نشأتك! فهي كما عهدناها في الصور وعلى الشاشة حتى ليخيل إليك ألا جديد.
دخلت المكتبة العامة فإذا بها فوق كل خيال من الأناقة والفخامة والنظافة والذوق، وقد رأيت على بابها إعلانا عن معرض لمخطوطات إمرسن، فجعلته هدفي من الزيارة، ووقفت في غرفة المعرض أنظر إلى الصفحات المنشورة في صناديق الزجاج بخط إمرسن، وقرأت له بضعة خطابات وجدت خطه فيها غاية في الوضوح. إن القارئ ليعجب أن يقرأ للأديب العظيم مثل إمرسن خطابات خاصة كأنه رجل عادي له ما لسائر الناس من توافه وصغائر في حياته! ...
إنني أنظر إلى الناس في الطرق، فلا أجد ما توقعته من علامات السرعة والانشغال؛ فقد كنت قرأت لكاتب مصري زار نيويورك وكتب لنا عنها أنه كلما سأل أحدا في الطريق سؤالا امتنع عن الإجابة معتذرا أو بغير اعتذار؛ لأن الجميع في رأيه يسيرون وكأنهم يعدون عدوا، ليس لديهم الوقت الذي يقفون فيه ليجيبوا السائل عن سؤاله ... إنني لم أشهد شيئا من ذلك؛ فهم ناس كسائر الناس ذوي القلوب الطيبة، تسأل من شئت منهم فيقف لك محتملا لغتك المتعثرة، ليفهم قولك ثم يهديك بقدر ما في مستطاعه أن يهدي.
تناولت الغداء مع الدكتور «و» والآنسة «ل» من مؤسسة وتني، وكان حديثنا على مائدة الغداء يدور معظمه حول سؤال سألني إياه «و»، وهو: ما رأي المصريين في الأمريكيين؟ فقلت له صادقا: رأي المصريين عن الأمريكيين لسوء الحظ مأخوذ من السينما؛ فالأمريكي عندهم - كما هو عند العالم أجمع - رجل غني قليل الثقافة غريب النزوات؛ وأضفت إلى ذلك قولي: إن تقدير المدنية الأمريكية مختلف عليه؛ فمن الناس من يرفعها ومن الناس من يخفضها، فقال الدكتور «و»: التبعة في ذلك كله واقعة على من يستعمل الألفاظ بغير تحديد لمعانيها، فما معنى «مدنية أمريكية»؟ من هو «الأمريكي» أولا؟ وما هي «المدنية» ثانيا؟ أتظن أن الأمريكيين كلهم سواء؟ إنك ذاهب إلى الجنوب، وسترى طرازا من الناس ولونا من العيش ووجهة للنظر تختلف كثيرا عما تراه في نيويورك، وعما تراه في وسط البلاد وفي غربها، فمن هو «الأمريكي» من هؤلاء؟ ثم ماذا يقصد على وجه التحديد بقولهم «مدنية أمريكية»؟ ... ومضى «و» في حديثه على هذا النحو، فوجدته يتفق مع طريقتي في التفكير كل الاتفاق؛ لأنني من القائلين بوجوب تحديد هذه الألفاظ الغامضة التي تلقى في الحديث جزافا ...
قلت له: إن المتحدثين عن «المدنية الأمريكية» يقصدون على الأرجح مدنية تقوم على العلم دون الجانب الإنساني من عقيدة وفن وما إلى ذلك؛ فقالت الآنسة «ل»: هذا لسوء الحظ رأي شائع عنا في أنحاء العالم كله؛ ولذلك ترى أولي الأمر منا يبذلون اليوم جهود الجبابرة في زيادة الاهتمام بالإنسانيات في التربية والتعليم.
وسئلت عن رأي رجال العلم عندنا في الإنتاج العلمي الأمريكي، فقلت صادقا مرة أخرى: إن رجال العلم عندنا أميل إلى اتهام الإنتاج الأمريكي بالضحولة مع أنهم مخطئون؛ فقد قال لي يوما رجل من المشتغلين بعلم النفس في مصر عن علماء النفس الأمريكيين إنهم سطحيون، مع أنك لا تراه يقرأ إلا مراجع أمريكية! قالت الآنسة «ل»: وبماذا تعلل هذه التهمة إذا؟ قلت: لعلها مسألة نسبة؛ فالأمريكيون ينتجون أكثر من غيرهم، وبالطبع يستحيل أن يكون كل الإنتاج جيدا، فإذا فرضنا مثلا أن كل خمسة كتب بينها كتاب واحد جيد، فيكون الأثر على المتتبع لهذا الإنتاج هو أن القلة جيدة والكثرة رديئة، مع أن هذا القليل الجيد هو في ذاته أكثر مما ينتجه أي بلد آخر ... فأعجب الدكتور «و» بهذا التعليل وقال: مصداقا لما تقوله أضيف ما يأتي: الأمريكيون أغنى من سواهم؛ فالنتيجة هي أن يخرج منهم لزيارة البلاد الأخرى عدد كبير من أوساط الناس، فإذا فرضنا مثلا أن كل خمسة أشخاص يزورون البلاد الأجنبية بينهم شخص واحد ممتاز وأربعة من الأوساط الوسطى، فسيكون أثر ذلك على الشعوب الأخرى هو أن أقلية قليلة من الأمريكيين ممتازة، وأما كثرتهم الغالبة فدون مرتبة الامتياز في ثقافتها وأخلاقها، ولما كانت البلاد الأخرى - كإنجلترا مثلا - لا يستطيع الخروج منها إلا الممتاز، فستقول عنهم الشعوب الأخرى إنهم شعب ممتاز.
هكذا تحدثنا على مائدة الغداء، حتى إذا ما فرغنا علمت أن الآنسة «ل» قد أعدت لي زيارة لقسم الفلسفة بجامعة كولمبيا بنيويورك، وقالت: إني سأقابل هناك الأستاذ إرون إدمان الذي يريد أن يتحدث إلي؛ فسررت كل السرور أن تتاح لي فرصة لقاء رجل كنت أقرأ له وأنا في القاهرة، ولو أنني لا آخذ في الفلسفة مأخذه؛ وكان موعد اللقاء الساعة الثالثة. ركبت السيارة العامة وقصدت إلى الجامعة، وفي الساعة الثالثة تماما نقرت على باب غرفة الأستاذ، وجاء الأستاذ وتلقاني لقاء عجيبا؛ فقد كان يظن أنني طلبت لقاءه لأستفسر عن شيء معين، وكنت من ناحيتي أظن أنه طلب لقائي ليستفسر عن شيء معين، وهكذا بدأت الزيارة بسوء تفاهم عند الطرفين، ولم تكن زيارة موفقة، ولعل أهم ما دار فيها من حديث أنه سألني عن اتجاهي الفلسفي. فلما قلت له: إنني وضعي منطقي، قال: إنني لسوء الحظ مصاب بالعمى نحو الوضعية المنطقية فلا أرى فيها شيئا؛ فأنا مختص بعلم الجمال، وليت الأستاذ فلان كان هنا لتلتقي به؛ لأنه يتجه في الفلسفة وجهتك، وودعته وانصرفت.
الإثنين 21 سبتمبر
غادرت نيويورك بالطائرة قاصدا إلى كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية حيث أحاضر في الفلسفة مدة النصف الأول من العام ، ومررت في طريقي مرورا خاطفا بواشنطن حيث قابلت الدكتورة «إ» وتحدثت معها فيما أنا مكلف بعمله أثناء زيارتي، كما مررت مرورا سريعا بأصدقائي في مكتب البعثات والسفارة ... واستأنفت الطيران إلى كولمبيا فبلغتها عند الغروب، وكان يستقبلني في المطار العميد «ن» والدكتور «ش»، وهما من رجال الجامعة الأعلام، فما كان أشد دهشتي - بل حيرتي - حين رأيت هذين الأستاذين الجليلين يسبقانني إلى حمل حقائبي ووضعها في سيارة الأول، ثم صحباني إلى الفندق الذي نزلت فيه ... الحق أنني ساعتئذ تخيلت أستاذا أمريكيا يزور مصر كما أزور أنا اليوم أمريكا، ثم سألت نفسي: من من رجال الجامعة عندنا يفكر في استقباله في المطار كما استقبلني هذان السيدان، ويظل يرعاه حتى يطمئن على استقراره؟ ... لكننا نغمض الأعين عن هذه الأمثلة الإنسانية، ونصر على أن نمضي في صياحنا - لأن الأمر لا يعدو الصياح - بأن هؤلاء الناس يعيشون في مدنية مادية ليس فيها شيء من القيم الإنسانية، أما نحن فنترع وننعم بمدنية روحية!
Bilinmeyen sayfa