السماء أصفى من البلور، والشمس ناصعة الضياء، والبرد ألواح من الثلج تسد عليك الفضاء الشفاف ...
جلست ساعة الضحى في بهو الفندق أقرأ، فقرأت تعليقا على كتاب للأطفال عنوانه «الريح في الصفصاف» ومؤلفه «كنث جراهام» سكرتير بنك إنجلترا، وفي هذا التعليق نقف من مقدمة المؤلف لكتابه، وهي مقدمة تحتوي على لمحات عجيبة، ولفتات تدعو إلى الإعجاب من حيث تحليلها لوجهة نظر الأطفال إلى آبائهم وأولي أمرهم من الكبار؛ فهؤلاء الكبار هم في نظر الأطفال مصابون بالجنون والعته، تعوزهم أبسط قواعد المنطق السليم، والأطفال يتعجبون إذ يرون مقاليد الأمور قد ألقيت في أيدي هؤلاء الكبار المرضى بفقر الدم، البطاء في حركتهم ونشاطهم، المغلولين إلى مقاعدهم، السجناء في بيوتهم، الذين استبدت بهم عاداتهم التي يكررونها في غفلة تكرارا مطردا ممولا، ولطالما يعجب الأطفال بأي عقل في الدنيا يفضل الكبار جلوسهم في منازلهم مع أن أمامهم متع الحياة وملاذها، كتسلق الأشجار والخوض في برك الماء؟ وإذا كانوا قد فقدوا صوابهم فيما يختص بأنفسهم، فليتركوا الأطفال وشأنهم يغوصون في هذه المتع والملاذ.
يقول الكاتب إن دنيا الحيوان أقرب إلى فهم الطفل من هؤلاء الكبار؛ فالطفل يرى في تصرف الفأر مثلا سلوكا أكثر قبولا عند العقل السليم من تصرف أبيه وأمه؛ ولذلك يمتعه أن يرقب الحيوان وأن يحاكيه، ولا يمتعه أن يرقب والديه وأصدقاءهما من الكبار.
ويجعل الكاتب في هذا الكتاب شخصيتين تدور حولهما الحوادث والأحاديث هما: «السيد الفأر» و«السيد الضفدع»، وهو يعتقد أن هذين الحيوانين من أحكم مخلوقات الله تصرفا في حياتهما؛ فهما كالإنسان قبل سقوطه من الجنة، لا تفلت منهما فرصة للتمتع بالحياة إلا انتهزاها.
ومدار شخصية الطفل - وكذلك الفأر - أن يجمع بين المغامرة والمأوى الآمن، كالذي يحب أن يجول في الغابة المجهولة الثنايا، على شرط أن يظل قادرا على العودة إلى الطريق المؤدية إلى منزله، وكذلك الفأر يحب لنفسه المأوى الآمن في جحره، فيخرج إلى مغامراته ثم يعود.
قرأت ذلك كله، وأعجبني فيه صدق التحليل، وعجبت بدوري لماذا يلقى بزمام الأطفال في أيدي الكبار؟ للأطفال طبائع غير طبائع الكبار؛ وليس من العدل أن تسحق طبيعة أخرى.
الجمعة 25 ديسمبر
اليوم عيد الميلاد ...
جلست في بهو الفندق أقرأ جرائد الصباح على مهل؛ فالمدينة خالية الشوارع، ولا خروج أثناء النهار؛ وبعد قراءة الصحف جلست أتفرس الوجوه وأقرأ أفكار الناس وعواطفهم من ظواهرهم.
الظاهر أني أب بالطبع؛ فإني لا أتأثر لشيء أقرؤه بمقدار ما أتأثر إلى درجة تقرب من البكاء إذا ما قرأت عن طفل أصيب، خصوصا إذا وقعت الإصابة في ظروف غريبة؛ فقد قرأت اليوم عن صبي في الثانية عشرة من عمره، كان أمس يساعد جدته في ترتيب شجرة عيد الميلاد بما يوضع في ثنايا فروعها من هدايا، وكانت أمه في جولة شرائية ... وبعد أن فرغ الصبي من ذلك، ذهب مع زميل له إلى شاطئ النهر حيث أشجار الصنوبر، فأراد أن يقطع من إحدى الشجرات فرعا يأخذه إلى المنزل ليجعل منه شجرة ميلاد أخرى، واقتضاه ذلك أن يصعد على حاجز حجري على حافة النهر، وكان الحاجز مغطى بالنبات الزلق، فانزلق الصبي إلى الماء المثلوج إلى غير عودة ... عادت جدته وأمه إلى البيت تحملان جثة الفقيد في وقفة العيد، ونظرتا إلى هداياه الموضوعة تحت شجرة عيد الميلاد، فلما تصورت هذه الهدايا هناك تنتظر إلى الأبد من لم تمتد له يد بعد الآن لأخذها، دمعت عيناي.
Bilinmeyen sayfa