أخذ مستر «ه» يجول بنا في أراض زراعية فسيحة هي أرضه وأرض أسرته؛ إن أهل كارولاينا الجنوبية يعتزون بالأسرة وبالحسب شأن البلاد الزراعية العتيقة؛ فمستر «ه» فخور بآبائه وأجداده ومكانة أسرته واتساع ملكها؛ فهذه ثلاثة وستون ألفا من الفدادين، هي أرض جده لأبيه، وهذه خمسة وثلاثون ألفا هي أرض جده لأمه، وهذه قطعة مساحتها ثمانون فدانا في وسطها مبنى صغير أهداها من أرضه للنادي الزراعي ... ثم أخذنا إلى مقبرة كبيرة وسط الشجر الكثيف، هي مقبرة أسرته، قبورها كلها من المرمر، تتفاوت جدة وتاريخا، لكن وحدة الأسرة بادية فيها؛ فعلى كل قبر اسم من فيه: فلان «ه»، أو فلانة «ه»؛ وهكذا يتبعثر أفراد الأسرة في حيواتهم ويتفرقون ثم يعودون فيلتقون في مقبرة واحدة أسرة واحدة.
وكان مستر «ه» يعرج بنا في الطريق إلى جوف غابة هنا وقلب مزرعة هناك، مشيرا إلى بيوت منعزلة قائمة وحدها بغير جيران، فيقول هذا منزل ابن عمي فلان، أو فلان أو فلان؛ وحدث أحيانا أن رآه سكان هذه المنازل فخرجوا إليه مرحبين، لكننا لم ندخل من هذه الدور إلا دارا واحدة قال عنها إنها لابنة عمه فلانة، وهي تحتفظ بمجموعة قيمة من الصور الفنية النادرة أراد لنا أن نراها؛ فاستقبلتنا في هذه الدار سيدة نصف جميلة، لم يكن في الدار غيرها وغير ابن لها في نحو العاشرة من عمره جلس إلى مكتب صغير يذاكر دروسه؛ البيت قائم وحده في جوف غابة، لا جار له إلى مسافة بعيدة جدا، وهو يبلغ درجة الكمال نظافة وأناقة وحسن ذوق، أخذت السيدة تدخلنا غرف الدار واحدة بعد أخرى؛ لتطلعنا على الصور الفنية التي تقتنيها، وهي لأشهر الفنانين الأمريكيين في القرن التاسع عشر، وكثير منها صور لأفراد أسرة «ه».
وكنت في الطريق قبل بلوغنا هذه الدار، قد سألت الدكتور «ت» ما معنى كلمة «يانكي» التي يوصف بها أهل الشمال؛ فبين أهل الشمال وأهل الجنوب حزازات إلى اليوم لا يدرك مداها إلا من زار أمريكا، فأهل الجنوب يمقتون أهل الشمال الذين هزموهم في حرب تحرير العبيد، وأهل الشمال لا يخلون من احتقار خفيف للجنوبيين، ولا تزال الفوارق بعيدة بين أهل الشمال وأهل الجنوب، خصوصا في مسألة الزنوج؛ فيريد الشماليون ألا تكون هناك تفرقة بين أبيض وأسود، ويصر الجنوبيون على أن ينشق المجتمع نصفين لا يختلطان ولا يمتزجان ولا يتماسان بأي وجه من الوجوه: البيض والسود ... على كل حال، سألت الدكتور «ت»: ما معنى «يانكي» التي تصفون بها أهل الشمال؟ فلم يعرف، ولما وصلنا إلى دار هذه السيدة، قال الدكتور «ت» للسيدة: أعندك قاموس أبحث فيه لهذا السيد عن معنى «يانكي» وأصلها؟ فأجاب الغلام الذي يذاكر دروسه قائلا: هي تحريف كلمة «إنجليزي» فلما هاجر الإنجليز لأول مرة إلى أمريكا حرف الهنود الأصليون كلمة «إنجليزي» وجعلوها «يانكي» ... وفتحنا القاموس فوجدنا هذا المعنى الذي قاله الغلام، وإلى جانبه احتمال آخر، وهو أن تكون مأخوذة من «يان كي» التي هي كلمة هولندية.
وانتهت بنا الرحلة إلى غايتها المقصودة، وهي الدار الصغيرة التي يسكنها قريب لمستر «ه» هو القاضي «ه» وعمره ستة وثمانون عاما، كان قاضيا وهو الآن يقضي شيخوخته وحيدا في هذه الدار.
دار القاضي «ه» في ضاحية مدينة أوجستا، وهي مدينة تساوي كولمبيا مرة ونصف مرة، يسكنها الأغنياء، ويقصد إليها المستشفون من داء الصدر لحسن جوها؛ لما اقتربنا من الغابة التي سننفذ خلالها إلى حيث دار القاضي «ه» قال لي مستر «ه»: إننا يا دكتور محمود قادمون على بيت ابن عمي القاضي «ه»، وهو رجل مسن متهدم ضعيف؛ ولذلك فلن نطيل المكث عنده، فإذا رأيتنا نسرع في الرجوع وإذا رأيته لا يعبأ بذلك، فاعلم أن السبب هو ضعف شيخوخته.
وصلنا إلى الدار الصغيرة القائمة وسط أشجار باسقة، وحولها فضاء صغير قطعت أشجاره ونشأت فيه بركة ماء تسبح عليها بجعتان؛ المنزل صغير جدا، غرفتان صغيرتان ومطبخ وحمام، في الغرفة الأولى مكتبة على جدرانها الأربع، وفي وسطها منضدة صغيرة متينة جديدة، قال عنها القاضي «ه» إنه صنعها من خشب أشجاره؛ وفي الغرفة الثانية سرير صغير ومنضدة محملة بأكداس المجلات، مجلات هذا الأسبوع أو هذا الشهر، ثم كتاب مفتوح عنوانه «الماء»؛ وأخذ يقص علينا القاضي «ه» خلاصة ما قرأه حتى الآن في هذا الكتاب، وهو خاص بمشكلة الماء في ولاية كارولاينا الجنوبية؛ فالزراعة فيها معتمدة على المطر، لكن قد يحدث أحيانا أن يمتنع المطر فتتعرض الزراعة للخطر، وهذه هي المشكلة التي يعالجها الكتاب.
وجاء إلى القاضي «ه» ونحن معه ضيف يحمل إليه زهورا من أنواع نادرة، فراح القاضي الكهل ينظر إليها واحدة واحدة كأنه يتفرس في لوحات فنية ويستطلع أسرارها، وانصرف الضيف والتفت إلينا القاضي بحديثه، فإذا حديثه سلسلة لا تنقطع من النكات والطرائف، وهو في ضحك مستمر غير أن شيخوخته لم تمكنه من الضحك العالي القوي كما يفعل قريبه الأصغر مستر «ه»؛ وقد كانوا حدثوني عنه أنه لا يشرب الخمر أبدا - على عكس قريبه مستر «ه» الذي لا يكاد يمسك عن الشراب لحظة؛ فزجاجة الخمر معه أنى ذهب - فما كدنا نستقر مع القاضي في داره الصغيرة حتى أخرج مستر «ه» زجاجة خمره، فكانت مثار نكات القاضي فترة طويلة.
وقد أدهشني أن أرى القاضي «ه» - مع الدكتور «ت» - يتلو أسطرا من شيكسبير في كل مناسبة؛ كان يبدأ هو الأسطر فيسايره فيها الدكتور «ت»، أو يبدأ الدكتور «ت» فيلاحقه القاضي، كأنما كانا يتسابقان أيهما يحفظ أكثر من زميله وأجود، وأيهما يغوص في بحر شيكسبير اللجي ليعود ومعه لؤلؤة تناسب الموقف والسياق.
أصر القاضي الكهل على شيخوخته أن يطوف معنا في أرضه وبين أشجاره؛ فأول خروجنا من داره كان يحمل قطعة من الخبز في يده، فقال إن البجعتين لن يلبثا أن يريا الخبز في يدي فيقبلا علي؛ لكن البجعتين لم تأبها، فراح القاضي يقول النكات على نفسه؛ ثم انتقلنا إلى بركة أخرى قال إنها مليئة بالسمك، وإنه قد عود السمك أن يطفو على الماء زرافات كلما ألقى إليه بفتات الخبز، لكنه جعل يلقي الفتات في الماء فلا يأبه له السمك، فاستأنف القاضي الفكه نكاته، فقد عصاه البجع والسمك لسبب لا يدريه.
وللقاضي في غابته حديقة زهور بها كثير من أشجار الكاميليا، قيل إنها أكبر زهور للكاميليا استطاع إنسان أن ينبتها في الولاية كلها؛ ولهذه الأشياء عندهم قيمة أي قيمة! وراح القاضي يحدثنا عن كل شجرة، بل عن كل زهرة كأن هذا الزهر بنوه وبناته؛ إنه لا يتحدث عن زهوره بالجملة، بل يتحدث عنها فردا فردا؛ لأنها أحياء في ذهنه ينميها ويربيها ويتعقبها بالعناية والملاحظة والرعاية كل يوم.
Bilinmeyen sayfa