لكن الدور العلوي من المتحف مليء بإنتاج الفنانين المحدثين من أهل الولاية نفسها؛ فها هنا تجد الاتجاهات الحديثة متمثلة كلها جنبا إلى جنب، فترى فنانا يتبع بيكاسو ومدرسته، وآخر يرسم على طريقة الانطباعيين، وثالثا يرسم على طريقة الفن المنقوط وهكذا ... إنه لا حق لي حتى الآن أن أحكم على الفن الأمريكي؛ لأنني لم أر منه إلا القليل، وفي عزمي أن أدرسه دراسة أوفى حين أزور المتاحف الكبرى في واشنطن ونيويورك وشيكاجو، لكني أقولها الآن متحفظا، وهي أن الأمريكيين لم ينشئوا لأنفسهم مدرسة فنية خاصة بهم، بل نقلوا المدارس الأوروبية وتابعوها، ثم ظهرت فردياتهم وشخصياتهم في حدود المدارس الأوروبية.
الجمعة 9 أكتوبر
قرأت قصة جيدة في مجلة «بوست» عنوانها «رجل بين فتاتين»، وخلاصة القصة التي يهمني تسجيلها، هي أن إحدى الفتاتين كانت لا تميل بطبعها إلى البقاء في البيت زوجة وأما لأطفال، وتريد إذا ما تزوجت أن يكون العمل ميدان نشاطها، وهي فوق ذلك لعوب تحب السهرات الأنيقة والمطاعم الفاخرة وما إلى ذلك، وأما الفتاة الأخرى فتعمل انتظارا للزواج، وتؤثر لنفسها إذا ما تزوجت أن تجعل من دارها مملكة لها؛ الفتاتان تعملان مع الفتى في مكتب واحد، والأولى تبادله الحب علنا، والثانية تحبه ولا تفصح عن حبها؛ وبعد تحليل رائع يشرح النفوس الثلاث، انتهى بنا الكاتب إلى موقف وقف فيه الفتى موقف الذي يختار، لكنه لم يلبث أن اختار لحياته الفتاة الثانية، فتاة البيت التي ترى عزتها وسعادتها في زوجها وأبنائها، ولا تزيغ بصرها الحفلات والسهرات والارتقاء في ميادين العمل الخارجي.
والمهم عندي هو أنه إذا كانت هذه القطعة الأدبية تصور الأمريكي في ميوله ونزعاته، كان الأمريكي أميل إلى زوجة لا تعمل؛ وإذا فلا يزال الرجل هو الرجل أينما كان، ولا يزال المثل الأعلى الذي يطمح إليه الزوج أن يكون هو عائل الأسرة ليكون سيدها.
السبت 10 أكتوبر
الأب «م» وزوجته يشرفان على نشاط اجتماعي في الكنيسة التي يتبعانها كل سبت في المساء؛ أعلم ذلك ولا أدري على وجه الدقة ما نوع هذا النشاط، وقد دعاني الأب «م» اليوم أن أصحبه إلى كنيسته، وهي الكنيسة البرزبتيريانية ففعلت ... ذهبت فإذا بي أرى ما لم أتوقعه في كنيسة؛ إذ رأيت ندوة ملحقة بالكنيسة، وعرفت أنها مكان لنشاط اجتماعي كل مساء، وأما مساء السبت فهو خاص بالجنود؛ ففي كولمبيا معسكر كبير للجنود وهم في مرحلة التدريب، فتوجه إليهم الدعوة أن يحضر منهم من يحضر إلى ندوة الكنيسة في هذا الموعد، وتدعى طائفة كبيرة من الفتيات ليكون الاجتماع طبيعيا مؤلفا من الجنسين؛ وما هو إلا أن دارت أقراص الحاكي بالموسيقى ودار معها الرقص! وفي الندوة استعداد للألعاب المختلفة كالبنج بونج والشطرنج؛ وكذلك أعدت مائدة كبيرة عليها القهوة والشاي والكوكاكولا وأنواع الشطائر والفطائر لمن يريد شرابا أو طعاما بغير ثمن.
وقال لي الأب «م» وهو يشرح لي أوجه نشاطهم في كنيستهم هذه: إن كثيرا من الكنائس الأخرى لا توافق على أن نقيم في الكنيسة رقصا، ولكن كنيستنا لا ترى أبدا ما يمنع أن يحيا الإنسان حياة مرحة ما دامت حياة شريفة.
الإثنين 12 أكتوبر
في المساء ألقيت في النادي الفلسفي محاضرة عن الوضعية المنطقية ... إنني أصبحت لا أستريح إلى الدكتور «ف» أستاذ الفلسفة؛ لأن له ملاحظات أشك في أنها تنطوي على قصد طيب؛ فمثلا أشاع أنني لولا دراستي في إنجلترا لما أبديت الذي أبديته من قدرة، فما كان - في رأيه للناس - أن تخرج مصر دارسا مثلي؛ مما اضطرني يوما أن أعلن في محاضرة قلتها، أنني بخيري وشري صناعة مصرية، ذهبت إلى إنجلترا بعد أن بلغ سني الأربعين وبعد أن أخرجت ستة عشر كتابا ... وكان اليوم له تعليق أثار غيظي لكني كتمت الغيظ في نفسي وناقشته بأعصاب يبدو عليها الهدوء؛ وذلك أنه في المناقشة التي أعقبت محاضرتي في النادي الفلسفي، انتهز فرصة ذكري لأوجست كونت فقال: إن أوجست كونت لا يظن خيرا بالمدنية العربية كلها ... فأجبته بعد صمت قصير استجمعت فيه هدوئي: أنا لا أعرف أنه قال شيئا من ذلك، وسأفرض أنه قال فأحكم عليه في هذه النقطة بأنه قد بعد عن كل روح فلسفي صحيح، فليست المدنية كلمة ترسل إرسالا بغير حساب، المدنية دين وأدب وفن وحكومة وعلم ونظام عيش وغير ذلك، فكم قرأ أوجست كونت من الديانة الإسلامية ليحكم؟ وكم قرأ من الأدب العربي في أصوله ليحكم؟ وهل درس دقائق الفن العربي وتفصيلات الحكومة العربية ليحكم؟ أم قالها قولة من لم يدرس ولم يحلل؟ إن كان قد فعل ذلك فليس هو بالفيلسوف المسئول في قوله هذا ... وبالطبع كنت في ذلك بمثابة من يقول إياك أعني واسمعي يا جارة؛ فالدكتور «ف» إنما يحتمي بأوجست كونت، لكنه يريد أن يقول هو عن المدنية العربية هذا الحكم، ولو قاله عن دراسة لما كان ثمة ما يدعو إلى لوم، لكن أسباب الدراسة بالطبع لم تتهيأ له؛ لأنه - على الأقل - لا يعرف اللغة العربية ليقرأ أصول المدنية العربية.
إن من أظهر المعالم التي يلاحظها الإنسان في الأمريكيين مما يثير دهشته أول الأمر؛ نسبة الأمريكي نفسه لأصله الأوروبي؛ فكلما أخذت في التحدث إلى واحد منهم كان الأرجح أن يذكر لك في حديثه أنه إنجليزي أو إيطالي أو فرنسي ... إلخ. فلا غرابة أن تجد في صحافتهم اتجاها نحو تقوية «التأمرك»، وفي ذلك قرأت مقالا للكاتبة المعروفة لنا بشدة عطفها على الشرق الأوسط «دوروذي تومسن» تقول فيه: إنهم بحاجة إلى بث الدعاية لروح «التأمرك» هذه في نفوس الأمريكيين؛ فلو فرضنا مثلا أن حربا قامت في تشيكوسلوفاكيا - هكذا قالت الكاتبة - فليس من الإنجليز أو الفرنسيين من يحس أن حربا قامت في وطنه وبين بني جنسه، أما الأمريكيون فغير ذلك؛ لأن منهم من لا يزال إخوته وبنو عمومته هناك، فهو أمريكي بقوميته وجزء من شعوره، لكن الجزء الباقي من شعوره ملتفت إلى أهله الأولين، وكيف ينسى وهم لا يزالون معه في تراسل وتزاور؟
Bilinmeyen sayfa