[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
البسملة
شرح الكلمات:
البسملة: قول العبد: بسم الله الرحمن الرحيم.
الإسم: لفظ جعل علامة على مسمى يعرف به ويتميز عن غيره.
الله: إسم علم على ذات الرب تبارك وتعالى يعرف به.
الرحمن: اسم من أسماء الله تعالى مشتق من الرحمة دال على كثرتها فيه تعالى.
الرحيم: إسم وصفة لله تعالى مشتق من الرحمة ومعناه ذو الرحمة بعباده المفيضها عليهم في الدنيا والآخرة.
معنى البسملة:
ابتدىء قراءتي متبركا باسم الله الرحمن الرحيم مستعينا به عز وجل.
حكم البسملة:
مشروع للعبد مطلوب منه أن يبسمل عند قراءة كل سورة من كتاب الله تعالى الا عند قراءة سورة التوبة فإنه لا يبسمل وان كان في الصلاة المفروضة يبسمل سرا إن كانت الصلاة جهرية.
ويسن للعبد أن يقول باسم الله. عند الأكل والشرب، ولبس الثوب. وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند الركوب. وعند كل أمر ذي بال.
كما يجب عليه أن يقول بسم الله والله أكبر عند الذبح والنحر.
[1.2]
شرح الكلمات:
الحمد: الوصف بالجميل، والثناء به على المحمود ذي الفضائل والفواضل، كالمدح والشكر.
لله: اللام حرف جر ومعناها الاستحقاق أي أن الله مستحق لجميع المحامد والله علم على ذات الرب تبارك وتعالى.
الرب: السيد المالك المصلح المعبود بحق جل جلاله.
العالمين: جمع عالم وهو كل ما سوى الله تعالى، كعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الانس وعالم الحيوان، وعالم النبات.
معنى الآية:
يخبر تعالى أن جميع أنواع المحامد من صفات الجلال والكمال هي له وحده دون من سواه؛ إذ هو رب كل شيء وخالقه ومالكه.
وأن علينا أن نحمده ونثني عليه بذلك.
[1.3]
تقدم شرح هاتين الكلمتين في البسملة. وأنهما اسمان وصف بهما اسم الجلالة " الله " في قوله: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ثناء على الله تعالى لاستحقاقه الحمد كله.
[1.4]
شرح الكلمات:
مالك: المالك: صاحب الملك المتصرف كيف يشاء.
ملك: الملك ذو السلطان الآمر الناهي المعطي المانع بلا ممانع ولا منازع.
يوم الدين: يوم الجزاء وهو يوم القيامة حيث يجزي الله كل نفس ما كسبت.
معنى الآية:
تمجيد لله تعالى بأنه المالك لكل ما في يوم القيامة حيث لا تملك نفس لنفس شيئا والملك الذي لا ملك يوم القيامة سواه.
هداية الآيات:
في هذه الآيات الثلاث من الهداية ما يلي:
1- أن الله تعالى يحب الحمد فلذا حمد تعالى نفسه وأمر عباده به.
2- أن المدح يكون لمقتض. وإلا فهو باطل وزور فالله تعالى لما حمد نفسه ذكر مقتضى الحمد وهو كونه رب العالمين والرحمن الرحيم ومالك يوم الدين.
[1.5]
شرح الكلمات:
إياك: ضمير نصب يخاطب به الواحد.
نعبد: نطيع ما غاية الذل لك والتعظيم والحب.
نستعين: نطلب عونك لنا على طاعتك.
معنى الآية:
علمنا الله تعالى كيف نتوسل إليه في قبول دعائنا فقال احمدوا الله واثنوا عليه ومجدوه، والتزموا له بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به وتستعينوه ولا تستعينوا بغيره.
هداية الآية:
من هداية هذه الآية ما يلي:
1- آداب الدعاء حيث يقدم السائل بين يدى دعائه حمد الله والثناء عليه وتمجيده. وزادت السنة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل حاجته فإنه يستجاب له.
2- أن لا يعبد غير ربه. وأن لا يستعينه إلا هو سبحانه وتعالى.
[1.6]
شرح الكلمات:
إهدنا: أرشدنا وأدم هدايتنا.
الصراط: الطريق الموصل إلى رضاك وجنتك وهو الإسلام لك.
المستقيم: الذي لا ميل فيه عن الحق ولا زيغ عن الهدى.
معنى الآية:
بتعليم من الله تعالى يقول العبد في جملة إخوانه المؤمنين سائلا ربه بعد أن توسل إليه بحمده والثناء عليه وتمجيده، ومعاهدته أن لا يعبد هو وإخوانه المؤمنون إلا هو، وأن لا يستعينوا إلا به. يسألونه أن يديم هدايتهم للإسلام حتى لا ينقطعوا عنه.
من هداية الآية:
الترغيب في دعاء الله والتضرع إليه وفي الحديث الدعاء هو العبادة.
[1.7]
{ صراط الذين أنعمت عليهم }
شرح الكلمات:
الصراط: تقدم بيانه.
الذين أنعمت عليهم: هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وكل من أنعم الله عليهم بالإيمان به تعالى ومعرفته، ومعرفة محابه، ومساخطه، والتوفيق لفعل المحاب وترك المكاره.
معنى الآية:
لما سأل المؤمن له ولإخوانه الهداية إلى الصراط المستقيم، وكان الصراط مجملا بينه بقوله صراط الذين أنعمت عليهم وهو المنهج القويم المفضي بالعبد إلى رضوان الله تعالى والجنة وهو الإسلام القائم على الإيمان والعلم والعمل مع اجتناب الشرك والمعاصي.
هداية الآية:
من هداية الآية ما يلي:
1- الاعتراف بالنعمة.
2- طلب حسن القدوة.
{ غير المغضوب عليهم ولا الضآلين }
شرح الكلمات:
غير: لفظ يستثنى به كإلا.
المغضوب عليهم: من غضب الله تعالى عليهم لكفرهم وافسادهم في الأرض كاليهود.
الضالين: من اخطأوا طريق الحق فعبدوا الله بما لم يشرعه كالنصارى.
معنى الآية:
لما سأل المؤمن ربه الصراط المستقيم وبينه بأنه صراط من أنعم عليهم بنعمة الإيمان والعلم والعمل. ومبالغة في طلب الهداية إلى الحق، وخوفا من الغواية استثنى كلا من طريق المغضوب عليهم، والضالين.
هداية الآية:
من هداية الآية:
الترغيب في سلوك سبيل الصالحين: والترهيب من سلوك سبيل الغاوين.
[تنبيه أول]: كلمة آمين ليست من الفاتحة: ويستحب أن يقولها الإمام إذا قرأ الفاتحة يمد بها صوته ويقولها المأموم، والمنفرد كذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمن الإمام فأمنوا. أي قولوا آمين بمعنى اللهم استجب دعاءنا، ويستحب الجهر بها؛ لحديث ابن ماجة:
" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال آمين حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد ".
[تنبيه ثان]: قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة من الصلاة، أما المنفرد والإمام فلا خلاف في ذلك، وأما المأموم فإن الجمهور من الفقهاء على أنه يسن له قراءتها في السرية دون الجهرية لحديث:
" من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة "
ويكون مخصصا لعموم حديث:
" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".
[2 - سورة البقرة]
[2.1-5]
{ الم }
شرح الكلمة:
الم: هذه من الحروف المقطعة تكتب الم وتقرأ هكذا:
ألف لام ميم. والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة أولها البقرة هذه وآخرها القلم " ن " ومنها الأحادية مثل ص. وق، ون، ومنها الثنائية مثل طه، ويس، وحم، ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية ولم يثبت في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء وكونها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه أقرب إلى الصواب ولذا يقال فيها: الم: الله أعلم بمراده بذلك.
وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين: الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن مخافة أن يؤثر في نفوس السامعين كان النطق بهذه الحروف حم. طس. ق. كهيعص وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن فيسمعون فيتأثرون وينجذبون فيؤمنون ويسمعون وكفى بهذه الفائدة من فائدة. والثانية لما انكر المشركون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كانت هذه الحروف بمثابة المتحدي لهم كأنها تقول لهم: إن هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا أنتم مثله. ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالبا نحو { الم ذلك الكتاب }.
الر تلك آيات الكتاب
[يونس: 1، يوسف: 1، الحجر: 1]،
طس تلك آيات القرآن
[النمل: 1]، كأنها تقول: إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا.
{ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين }
شرح الكلمات:
ذلك: هذا، وإنما عدل عن لفظ هذا إلى ذلك. لما تفيده الإشارة بلام البعد من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن.
الكتاب: القرآن الكريم الذي يقرأه رسول الله صلى الله علي وسلم على الناس.
لا ريب: لا شك في أنه وحي الله وكلامه أوحاه إلى رسوله.
فيه هدى: دلالة على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين.
للمتقين: المتقين أي عذاب الله بطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
معنى الآية:
يخبر تعالى أن ما أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتابا فخما عظيما لا يحتمل الشك ولا يتطرق إليه احتمال كونه غير وحي الله وكتابه بحال، وذلك لإعجازه، وما يحمله من هدى ونور لأهل الإيمان والتقوى يهتدون بهما الى سبل السلام والسعادة والكمال.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- تقوية الإيمان بالله تعالى وكتابه ورسوله، الحث على طلب الهداية من الكتاب الكريم.
2- بيان فضيلة التقوى وأهلها.
الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون.
أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون.
شرح الجمل:
يؤمنون بالغيب: يصدقون تصديقا جازما لكل ما هو غيب لا يدرك بالحواس كالرب تبارك وتعالى ذاتا وصفات والملائكة والبعث، والجنة ونعيمها والنار وعذابها.
ويقيمون الصلاة: يديمون أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مراعاة شرائطها وأركانها وسننها ونوافلها الراتبة وغيرها.
ومما رزقناهم ينفقون: من بعض ما آتاهم الله من مال ينفقون وذلك بإخراجهم لزكاة أموالهم وبإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم وتصدقهم على الفقراء والمساكين.
يؤمنون بما أنزل إليك: يصدقون بالوحي الذي أنزل إليك أيها الرسول وهو الكتاب والسنة.
وما أنزل من قبلك: ويصدقون بما أنزل الله تعالى من كتب على الرسل من قبلك كالتوراة والإنجيل والزبور.
وبالآخرة هم يوقنون: وبالحياة في الدار الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب هم عالمون متيقنون لا يشكون في شيء من ذلك ولا يرتابون لكامل إيمانهم وعظم اتقائهم.
أولئك على هدى من ربهم: الإشارة إلى أصحاب الصفات الخمس السابقة والإخبار عنهم بأنهم بما هداهم الله تعالى إليه من الإيمان وصالح الأعمال هم متمكنون من الاستقامة على منهج الله المفضي بهم إلى الفلاح.
وأولئك هم المفلحون: الإشارة الى أصحاب الهداية الكاملة والإخبار عنهم بأنهم هم المفلحون الجديرون بالفوز الذي هو دخول الجنة بعد النجاة من النار.
معنى الآيات:
ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث صفات المتقين من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بما أنزل الله من كتب والإيمان بالدار الآخرة وأخبر عنهم بأنهم لذلك هم على أتم هداية من ربهم، وأنهم هم الفائزون في الدنيا بالطهر والطمأنينة وفي الآخرة بدخول الجنة بعد النجاة من النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
دعوة المؤمنين وترغيبهم في الاتصاف بصفات أهل الهداية والفلاح، ليسلكوا سلوكهم فيهتدوا ويفلحوا في دنياهم وأخراهم.
[2.6-7]
شرح الكلمات:
كفروا: الكفر: لغة التغطية والجحود، وشرعا التكذيب بالله وبما جاءت به رسله عنه كلا أو بعضا.
سواء: بمعنى مستو انذارهم وعدمه، إذ لا فائدة منه لحكم الله بعدم هدايتهم.
أأنذرتهم: الإنذار: التخويف بعاقبة الكفر والظلم والفساد.
ختم الله: طبع إذ الختم والطبع واحد وهو وضع الخاتم أو الطابع على الظرف حتى لا يعلم ما فيه، ولا يتوصل إليه فيبدل أو يغير.
الغشاوة: الغطاء يغشى به ما يراد منع وصول شيء إليه.
العذاب: الألم يزيد عذوبة الحياة ولذتها.
مناسبة الآيتين لما قبلهما ومعناهما:
لما ذكر أهل الإيمان والتقوى والهداية والفلاح ذكر بعدهم أهل الكفر والضلال والخسران فقال: { إن الذين كفروا } إلخ فأخبر بعدم استعدادهم للإيمان حتى استوى إنذارهم وعدمه وذلك لمضي سنة الله فيهم بالطبع على قلوبهم حتى لا تفقه، وعلى آذانهم حتى لا تسمع، ويجعل الغشاوة على أعينهم حتى لا تبصر، وذلك نتيجة مكابرتهم وعنادهم وإصرارهم على الكفر. وبذلك استوجبوا العذاب العظيم فحكم به عليهم. وهذا حكم الله تعالى في أهل العناد والمكابرة والإصرار في كل زمان ومكان.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان سنة الله تعالى في أهل العناد والمكابرة والإصرار بأن يحرمهم الله تعالى الهداية وذلك بتعطيل حواسهم حتى لا ينتفعوا بها فلا يؤمنوا ولا يهتدوا.
2- التحذير من الإصرار على الكفر والظلم والفساد الموجب للعذاب العظيم.
[2.8-10]
شرح الكلمات:
ومن الناس: من بعض الناس.
من يقول آمنا بالله: صدقنا بالله وإلها لا إله غيره ولا رب سواه.
وباليوم الآخر: صدقنا بالبعث والجزاء يوم القيامة.
يخادعون الله: بإظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر.
وما يخدعون الا أنفسهم: إذ عاقبة خداعهم تعود عليهم لا على الله ولا على رسوله ولا على المؤمنين.
وما يشعرون: لا يعلمون أن عاقبة خداعهم عائدة عليهم.
في قلوبهم مرض: في قلوبهم شك ونفاق وألم الخوف من افتضاح أمرهم والضرب على أيديهم.
فزادهم الله مرضا: شكا ونفاقا وألما وخوفا حسب سنة الله في أن السيئة لا تعقب إلا سيئة.
عذاب أليم: موجع شديد الوقع على النفس.
مناسبة الآية لما قبلها وبيان معناها:
لما ذكر تعالى المؤمنين الكاملين في إيمانهم وذكر مقابلهم وهم الكافرون البالغون في الكفر منتهاه ذكر المنافقين وهم المؤمنون في الظاهر الكافرون في الباطن. وهم شر من الكافرين البالغين في الكفر أشده.
أخبر تعالى أن فريقا من الناس وهم المنافقون يدعون الإيمان بألسنتهم ويضمرون الكفر في قلوبهم. يخادعون الله والمؤمنين بهذا النفاق. ولما كانت عاقبة خداعهم عائدة عليهم.
كانوا بذلك خادعين أنفسهم لا غيرهم ولكنهم لا يعلمون ذلك ولا يدرون به.
كما أخبر تعالى أن في قلوبهم مرضا وهو الشك والنفاق والخوف، وأنه زادهم مرضا عقوبة لهم في الدنيا وتوعدهم بالعذاب الأليم في الآخرة بسبب كذبهم وكفرهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
التحذير من الكذب والنفاق والخداع، وأن عاقبة الخداع تعود على صاحبها كما أن السيئة لا يتولد عنها إلا سيئة مثلها.
[2.11-13]
شرح الكلمات:
الفساد في الأرض: الكفر وإرتكاب المعاصي فيها.
الإصلاح في الأرض: يكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وترك الشرك والمعاصي.
لا يشعرون: لا يدرون ولا يعلمون.
السفهاء: جمع سفيه: خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين لا تفسدوا في الأرض بالنفاق وموالاة اليهود والكافرين ردوا عليه قائلين: إنما نحن مصلحون في زعمهم فأبطل الله تعالى هذا الزعم وقرر أنهم هم وحدهم المفسدون لا من عرضوا بهم من المؤمنين، إلا أنهم لا يعلمون ذلك لاستيلاء الكفر على قلوبهم. كما أخبر تعالى عنهم بأنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين أصدقوا في إيمانكم وآمنوا إيمان فلان وفلان مثل عبد الله بن سلام ردوا قائلين: أنؤمن إيمان السفهاء الذين لا رشد لهم ولا بصيرة فرد الله تعالى عليهم دعواهم وأثبت السفه لهم ونفاه عن المؤمنين الصادقين ووصفهم بالجهل وعدم العلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ذم الإدعاء الكاذب وهو لا يكون غالبا إلا من صفات المنافقين.
2- الإصلاح في الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله، والإفساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3- العاملون بالفساد في الأرض يبررون دائما إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد.
[2.14-16]
شرح الكلمات
لقوا: اللقاء: والملاقاة: المواجهة وجها لوجه.
آمنوا: الإيمان الشرعي: التصديق بالله وبكل ما جاء به رسول الله عن الله، وأهله هم المؤمنون بحق.
خلوا: الخلو بالشيء: الإنفراد به.
شياطينهم: الشيطان كل بعيد عن الخير قريب من الشر يفسد ولا يصلح من إنسان أو جان والمراد بهم هنا رؤساؤهم في الشر والفساد.
مستهزئون: الاستهزاء: الاستخفاف والاستسخار بالمرء.
الطغيان: مجاوزة الحد في الأمر والإسراف فيه.
العمه: للقلب كالعمى للبصر: عدم الرؤية وما ينتج عنه من الحيرة والضلال.
اشتروا: استبدلوا بالهدى الضلالة أي تركوا الإيمان وأخذوا الكفر.
تجارتهم: التجارة: دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه، والمنافقون هنا دفعوا رأس مالهم وهو الإيمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزا وغنى في الدنيا فخسروا ولم يربحوا إذ ذلوا وعذبوا وافتقروا بكفرهم.
المهتدي: السالك سبيلا قاصدة تصل به إلى ما يريده في أقرب وقت وبلا عناء والضال خلاف المهتدي وهو السالك سبيلا غير قاصدة فلا تصل به إلى مراده حتى يهلك قبل الوصول.
معنى الآيات:
ما زالت الآيات تخبر عن المنافقين وتصف أحوالهم إذ أخبر تعالى عنهم في الآية الأولى أنهم لنفاقهم وخبثهم إذا لقوا الذين آمنوا في مكان ما أخبروهم بأنهم مؤمنون بالله والرسول وما جاء به من الدين، وإذا انفردوا برؤسائهم في الفتنة والضلالة فلاموهم، عما ادعوه من الإيمان قالوا لهم إنا معكم على دينكم وما آمنا أبدا. وإنما أظهرنا الإيمان استهزاء وسخرية بمحمد وأصحابه.
كما أخبر في الآية الثانية [15] أنه تعالى يستهزىء بهم معاملة لهم بالمثل جزاء وفاقا ويزيدهم حسب سنته في أن السيئة تلد سيئة في طغيانهم لتزداد حيرتهم واضطراب نفوسهم وضلال عقولهم. كما أخبر في الآية [16] أن أولئك البعداء في الضلال قد استبدلوا الإيمان بالكفر والإخلاص بالنفاق فلذلك لا تربح تجارتهم ولا يهتدون الى سبيل ربح أو نجح محال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالمنافقين والتحذير من سلوكهم في ملاقاتهم هذا بوجه وهذا بوجه آخر وفي الحديث: شراركم ذو الوجهين.
2- إن من الناس شياطين يدعون الى الكفر والمعاصي، ويأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
3- بيان نقم الله، وإنزالها بأعدائه عز وجل.
[2.17-20]
شرح الكلمات:
مثلهم: صفتهم وحالهم.
استوقد: أوقد نارا.
صم، بكم عمي: لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون.
الصيب: المطر.
الظلمات: ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر.
الرعد: الصوت القاصف يسمع حال تراكم السحاب ونزول المطر.
البرق: ما يلمع من نور حال تراكم السحاب ونزول المطر.
الصواعق: جمع صاعقة: نار هائلة تنزل أثناء قصف الرعد ولمعان البرق يصيب الله تعالى بها من يشاء.
حذر الموت: توقيا للموت.
محيط: المحيط المكتنف للشيء من جميع جهاته.
يكاد: يقرب.
يخطف: يأخذه بسرعة.
أبصارهم: جمع بصر وهو العين المبصرة.
معنى الآيات:
مثل هؤلاء المنافقين فيما يظهرون من الإيمان مع ما هم مبطنون من الكفر كمثل من أوقد نارا للاستضاءة بها فلما أضاءت لهم ما حولهم وانتفعوا بها أدنى انتفاع ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. لأنهم بإيمانهم الظاهر صانوا دماءهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم من القتل والسبي وبما يضمرون من الكفر إذا ماتوا عليه يدخلون النار فيخسرون كل شيء حتى أنفسهم هذا المثل تضمنته الآية الأولى [17] وأما الآية الثانية [18] فهي إخبار عن أولئك المنافقين بأنهم قد فقدوا كل استعداد للاهتداء فلا آذانهم تسمع صوت الحق ولا ألسنتهم تنطق به ولا أعينهم تبصر آثاره وذلك لتوغلهم في الفساد فلذا هم لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان بحال من الأحوال. واما الآية الثالثة والرابعة [19] [20] فهما تتضمنان مثلا آخر لهؤلاء المنافقين. وصورة المثل العجيبة والمنطقبة على حالهم هي مطر غزير في ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف وهم في وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى لا يسمعوا صوت الصواعق حذرا أن تنخلع قلوبهم فيموتوا، ولم يجدوا مفرا ولا مهربا لأن الله تعالى محيط بهم هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن البرق لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه وإذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيارى خائفين، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم لأنه تعالى على كل شيء قدير هذه حال أولئك المنافقين والقرآن ينزل بذكر الكفر وهو ظلمات وبذكر الوعيد وهو كالصواعق والرعد وبالحجج والبينات وهي كالبرق في قوة الإضاءة، وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم وإزاحة الستار عنهم فيؤخذوا، فإذا نزل بآية لا تشير إليهم ولا تتعرض بهم مشوا في إيمانهم الظاهر. وإذا نزل بآيات فيها التنديد بباطلهم وما هم عليه وقفوا حائرين لا يتقدمون ولا يتأخرون ولو شاء الله أخذ أسماعهم وأبصارهم لفعل لأنهم لذلك أهل وهو على كل شيء قدير:
هداية الآيات:
من هداية هذه الآيات ما يلي:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- خيبة سعي أهل الباطل وسوء عاقبة أمرهم.
3- القرآن تحيا به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر.
4- شر الكفار المنافقون.
[2.21-22]
شرح الكلمات:
الناس: لفظ جمع لا مفرد له من لفظه، واحده إنسان.
اعبدوا: أطيعوا بالإيمان والامتثال للأمر والنهي مع غاية الحب لله والتعظيم.
ربكم: خالقكم ومالك أمركم وإلهكم الحق.
خلقكم: أوجدكم من العدم بتقدير عظيم.
تتقون: تتخذون وقاية تحفظكم من الله، وذلك بالإيمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك والمعاصي.
فراشا: وطاء للجلوس عليها والنوم فوقها.
بناء: مبنية كقبة فوقكم.
الثمرات: جمع ثمرة وهو ما تخرجه الأرض من حبوب وخضر وتخرجه الأشجار من فواكه.
رزقا لكم: قوتا لكم تقتاتون به فتحفظ حياتكم إلى أجلها.
أندادا: جمع ند: النظير والمثيل تعبدونه دون الله أو مع الله تضادون به الرب تبارك وتعالى.
المناسبة ومعنى الآيتين:
وجه المناسبة أنه تعالى لما ذكر المؤمنين المفلحين، والكافرين الخاسرين ذكر المنافقين وهم بين المؤمنين الصادقين والكافرين الخاسرين ثم على طريقة الالتفات نادى الجميع بعنوان الناس ليكون نداء عاما للبشرية جمعاء في كل مكان وزمان وأمرهم بعبادته ليقوا أنفسهم من الخسران. معرفا لهم نفسه ليعرفوه بصفات الجلال والكمال فيكون ذلك أدعى لاستجابتهم له فيعبدونه عبادة تنجيهم من عذابه وتكسبهم رضاه وجنته، وختم نداءه لهم بتنبيههم عن اتخاذ شركاء له يعبدونهم معه مع علمهم أنهم لا يستحقون العبادة لعجزهم عن نفعهم أو ضرهم.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب عبادة الله تعالى، إذ هي علة الحياة كلها.
2- وجوب معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.
3- تحريم الشرك صغيره وكبيره ظاهره وخفيه.
[2.23-24]
شرح الكلمات
الريب: الشك مع اضطراب النفس وقلقها.
عبدنا: محمد صلى الله عليه وسلم.
من مثله: مثل القرآن ومثل محمد في أميته.
شهداءكم: أنصاركم. وآلهتكم التي تدعون أنها تشهد لكم عند الله وتشفع.
وقودها: ما تتقد به وتشتعل وهو الكفار والأصنام المعبودة مع الله عز وجل.
أعدت: هيئت وأحضرت.
الكافرين: الجاحدين لحق الله تعالى في العبادة له وحده المكذبين برسوله وشرعه.
مناسبة الآية ومعناها:
لما قرر تعالى في الآية السابقة أصل الدين وهو التوحيد الذي هو عبادة الله تعالى وحده قرر في هذه الآية أصل الدين الثاني وهو نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وذلك من طريق برهاني وهو ان كنتم في شك من القرآن الذي أنزلناه على عبدنا رسولنا محمد فأتوا بسورة من مثل سوره أو من رجل أمي مثل عبدنا في أميته فإن لم تأتوا لعجزكم فقوا أنفسكم من النار بالإيمان بالوحي الإلهي وعبادة الله تعالى بما شرع فيه.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإثبات نزول القرآن عليه.
2- تأكد عجز البشر عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن الكريم لمرور ألف سنة وأربعمائة وست سنين والتحدي قائم ولم يأتوا بسورة مثل سور القرآن لقوله تعالى { ولن تفعلوا }.
3- النار تتقي بالإيمان والعمل الصالح وفي الحديث الصحيح،
" اتقوا النار ولو بشق تمرة ".
[2.25]
شرح الكلمات:
بشر: التبشير: الإخبار السار وذلك يكون بالمحبوب للنفس.
تجري من تحتها: تجري الأنهار من خلال أشجارها وقصورها والأنهار هي أنهار الماء وأنهار اللبن وأنهار الخمر وأنهار العسل.
وأتوا به متشابها: أعطوا الثمار وقدم لهم يشبه بعضه بعضا في اللون مختلف في الطعم.
مطهرة: من دم الحيض والنفاس وسائر المعائب والنقائص.
خالدون: باقون فيها لا يخرجون منها أبدا.
المناسبة والمعنى:
لما ذكر تعالى النار وأهلها ناسب أن يذكر الجنة وأهلها ليتم الترهيب والترغيب وهما أداة الهداية والإصلاح.
في هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى رسوله أن يبشر المؤمنين المستقيمين بما رزقهم من جنات تجري من تحتها الأنهار لهم فيها أزواج مطهرات نقيات من كل أذى وقذر وهم فيها خالدون. كما أخبر عنهم بأنهم إذا قدم لهم أنواع الثمار المختلفة قالوا هذا الذي رزقنا مثله في الدنيا. كما أخبر تعالى أنهم أوتوه متشابها في اللون غير متشابه في الطعم زيادة في حسنه وكماله. وعظيم الالتذاذ به.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- فضل الإيمان والعمل الصالح إذ بهما كان النعيم المذكور في الآية لأصحابهما.
2- تشويق المؤمنين إلى دار السلام، وما فيها من نعيم مقيم ليزدادوا رغبة فيهما وعملا لها.
بفعل الخيرات وترك المنكرات.
[2.26-27]
شرح الكلمات:
لا يستحيي: لا يمنعه الحياء من ضرب الأمثال وإن صغرت كالبعوضة أو أصغر منها كجناحها.
أن يضرب مثلا: أن يجعل شيئا مثلا لآخر يكشف عن صفته وحاله في القبح أو الحسن.
ما بعوضة: ما نكرة بمعنى شيء أي شيء كان يجعله مثلا، أو زائدة. وبعوضة المفعول الثاني. والبعوضة واحدة البعوض وهو صغار البق.
الحق: الواجب الثبوت الذي يحيل العقل عدم وجوده.
الفاسقون: الفسق الخروج عن الطاعة، والفاسقون: هم التاركون لأمر الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح، وبترك الشرك والمعاصي.
ينقضون: النقض الحل بعد الإبرام.
عهد الله: ما عهد به إلى الناس من الإيمان والطاعة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
من بعد ميثاقه: من بعد إبرامه وتوثيقه بالحلف أو الإشهاد عليه.
يقطعون ما أمر الله به أن يوصل: من إدامة الإيمان والتوحيد والطاعة وصلة الأرحام.
يفسدون في الأرض: الإفساد في الأرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصي.
الخاسرون: الكاملون في الخسران بحث يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
سبب النزول والمعاني
لما ضرب الله تعالى المثلين السابقين الناري والمائي قال المنافقون: الله أعلى وأجل أن يضرب هذا المثل فأنزل الله تعالى ردا عليهم قوله { إن الله لا يستحى } الآية.
فأخبر تعالى أن لا يمنعه الاستحياء أن يجعل مثلا بعوضة فما دونها فضلا عما هو أكبر. وأن الناس حيال ما يضرب الله من أمثال قسمان مؤمنون فيعلمون أنه الحق من ربهم. وكافرون: فينكرونها ويقولون كالمعترضين: ماذا أراد الله بهذا مثلا!؟.
كما أخبر تعالى أن ما يضرب من مثل يهدي به كثيرا من الناس ويضل به كثيرا، وإنه لا يضل به إلا الفاسقين الذين وصفهم بقوله: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض }. وحكم عليهم بالخسران التام يوم القيامة فقال: { أولئك هم الخسرون }
هداية الآية
من هداية الآيتين ما يلي:
1- أن الحياء لا ينبغي أن يمنع من فعل المعروف وقوله والأمر به.
2- يستحسن ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
3- اذا أنزل الله خيرا من هدى وغيره ويزداد به المؤمنون هدى وخيرا، ويزداد به الكافرون ضلالا وشرا، وذلك لاستعداد الفريقين النفسي المختلف.
4- التحذير من الفسق وما يستتبعه من نقض العهد، وقطع الخير، ومنع المعروف.
[2.28-29]
شرح الكلمات:
كيف تكفرون بالله: الإستفهام هنا للتعجب مع التقريع والتوبيخ. لعدم وجود مقتض للكفر.
وكنتم أمواتا فأحياكم: هذا برهان على بطلان كفرهم، إذ كيف يكفر العبد ربه وهو الذي خلقه بعد أن لم يك شيئا.
ثم يميتكم ثم يحييكم: إن إماتة الحي وإحياء الميت كلاهما دال على وجود الرب تعالى وقدرته.
ثم إليه ترجعون: يريد بعد الحياة الثانية وهو البعث الآخر.
خلق لكم ما في الأرض جميعا: أي أوجد ما أوجده من خيرات الأرض كل ذلك لأجلكم كي تنتفعوا به في حياتكم.
ثم استوى إلى السماء: علا وارتفع قهرا لها فكونها سبع سماوات.
فسواهن: أتم خلقهن سبع سماوات تامات.
وهو بكل شيء عليم: إخبار بإحاطة علمه تعالى بكل شيء، وتدليل على قدرته وعلمه ووجوب عبادته.
معنى الآيتين:
ما زال الخطاب مع الكافرين الذين سبق وصفهم بأخس الصفات وأسوأ الأحوال حيث قال لهم على طريقة الالتفات موبخا مقرعا، { كيف تكفرون بالله وكنتم أموتا فأحيكم } الآية.
وذكر من أدلة وجوده وكرمه. ما يصبح الكفر به من أقبح الأمور وصاحبه من أحط الخلائق وأسوأهم حالا ومآلا. فمن أدلة وجوده الإحياء بعد الموت والإماتة بعد الإحياء ومن أدلة كرمه وقدرته أن خلق الناس في الأرض جميعا لتوقف حياتهم عليه وخلق السماوات السبع، وهو مع ذلك كله علمه محيط بكل شيء سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- إنكار الكفر بالله تعالى.
2- إقامة البرهان على وجود الله وقدرته ورحمته.
3- حلية كل ما في الأرض من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب إلا ما حرمه الدليل الخاص من الكتاب أو السنة لقوله: { خلق لكم ما في الأرض جميعا }.
[2.30]
شرح الكلمات:
الملائكة: جمع ملأك ويخفف فيقال ملك وهم خلق من عالم الغيب أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى خلقهم من نور.
الخليفة: من يخلف غيره، والمراد به هنا آدم عليه السلام.
يفسد فيها: الإفساد في الأرض يكون بالكفر وإرتكاب المعاصي.
يسفك: يسيل الدماء بالقتل والجرح.
نسبح بحمدك: نقول سبحان الله وبحمده. والتسبيح: التنزيه عما لا يليق بالله تعالى.
ونقدس لك: فننزهك عما لا يليق بك. والتقديس: التطهير والبعد عما لا ينبغي. واللام فى لك زائدة لتقوية المعنى إذ فعل قدس يتعدى بنفسه يقال قدسه.
معنى الآية
يأمر تعالى رسوله أن يذكر قوله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة يخلفه في إجراء أحكامه في الأرض، وأن الملائكة تساءلت متخوفة من أن يكون هذا الخليفة ممن يسفك الدماء ويفسد في الأرض بالكفر والمعاصي قياسا على خلق من الجن حصل منهم ما تخوفوه.
فأعلمهم ربهم أنه يعلم من الحكم والمصالح مالا يعلمون.
والمراد من هذا التذكير: المزيد من ذكر الأدلة الدالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة للايمان به تعالى ولعبادته دون غيره.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- سؤال من لا يعلم غيره ممن يعلم.
2- عدم انتهار السائل وإجابته أو صرفه بلطف.
3- معرفة بدء الخلق.
4- شرف آدم وفضله.
[2.31-33]
شرح الكلمات:
آدم: نبي الله أبو البشر عليه السلام.
الأسماء: أسماء الأجناس كلها كالماء والنبات والحيوان والإنسان.
عرضهم: عرض المسميات أمامهم، ولما كان بينهم العقلاء غلب جانبهم، وإلا لقال عرضها.
أنبئوني: أخبروني.
هؤلاء: المعروضين عليهم من سائر المخلوقات.
سبحانك: تنزيها لك وتقديسا.
غيب السماوات: ما غاب عن الأنظار في السماوات والأرض.
تبدون: تظهرون من قولهم
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة: 30] الآية.
تكتمون: تبطنون وتخفون يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر الله تعالى وعدم طاعته.
الحكيم: الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه، ولا يفعل ولا يترك إلا لحكمة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى في معرض مظاهر قدرته وعلمه وحكمته الموجبة لعبادته دون سواه أنه علم آدم اسماء الموجودات كلها، ثم عرض الموجودات على الملائكة وقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في دعوى أنكم أكرم المخلوقات وأعلمهم فعجزوا وأعلنوا اعترافهم بذلك وقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ثم قال تعالى لآدم أنبئهم بأسماء تلك المخلوقات المعروضة فأنبأهم بأسمائهم واحدا واحدا حتى القصعة والقصيعة.. وهنا ظهر شرف آدم عليهم، وعتب عليهم ربهم بقوله: { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموت والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان قدرة الله تعالى حيث علم آدم أسماء المخلوقات كلها فعلمها.
2- شرف العلم وفضل العالم على الجاهل.
3- فضيلة الاعتراف بالعجز والقصور.
4- جواز العتاب على من ادعى دعوى هو غير متأهل لها.
[2.34]
شرح الكلمات:
اسجدوا: السجود هو وضع الجبهة والأنف على الأرض، وقد يكون بانحناء الرأس دون وضعه على الأرض لكن مع تذلل وخضوع.
إبليس: قيل كان اسمه الحارث ولما تكبر عن طاعة الله أبلسه الله أي أيأسه من كل خير ومسخه شيطانا.
أبى: امتنع ورفض السجود لآدم.
استكبر: تعاظم في نفسه فمنعه الإستكبار والحسد من الطاعة بالسجود لآدم.
الكافرين: جمع كافر. من كذب بالله تعالى أو كذب بشيء من آياته أو بواحد من رسله أو أنكر طاعته.
معنى الآية:
يذكر تعالى عباده بعلمه وحكمته وإفضاله عليهم بقوله: { وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لأدم... } سجود تحية وإكرام فسجدوا إلا إبليس تعاظم في نفسه وامتنع عن السجود الذي هو طاعة الله، وتحية آدم. تكبرا وحسدا لآدم في شرفه فكان بامتناعه عن طاعة الله من الكافرين الفاسقين عن أمر الله ، الأمر الذي استوجب إبلاسه وطرده.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- التذكير بإفضال الله الأمر الذي يوجب الشكر ويرغب فيه.
2- التحذير من الكبر والحسد حيث كانا سبب إبلاس الشيطان، وامتناع اليهود من قبول الإسلام.
3- تقرير عداوة إبليس، والتنبيه إلى أنه عدو تجب عداوته أبدا.
4- التنبيه إلى أن من المعاصي ما يكون كفرا أو يقود إلى الكفر.
[2.35-37]
شرح الكلمات:
رغدا: العيش الهني الواسع يقال له الرغد.
الشجرة: شجرة من أشجار الجنة وجائز أن تكون كرما أو تينا أو غيرهما وما دام الله تعالى لم يعين نوعها فلا ينبغي السؤال عنها.
الظالمين: لأنفسهما بارتكاب ما نهى الله تعالى عنه.
فأزلهما: أوقعهما في الزلل، وهو مخالفتهما لنهي الله تعالى لهما عن الأكل من الشجرة.
مستقر: المستقر: مكان الاستقرار والاقامة.
إلى حين: الحين: الوقت مطلقا قد يقصر أو يطول والمراد به نهاية الحياة.
فتلقى آدم: أخذ آدم ما ألقى الله تعالى إليه من كلمات التوبة.
كلمات: هى قوله تعالى:
ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 23].
فتاب عليه: وفقه للتوبة فتاب وقبل توبته، لأنه تعالى تواب رحيم.
معنى الآيات:
في الآية الأولى [35] يخبر تعالى عن إكرامه لآدم وزوجه حواء حيث أباح لهما جنته يسكنانها ويأكلان من نعيمها ما شاءا إلا شجرة واحدة فقد نهاهما عن قربها والأكل من ثمرها حتى لا يكونا من الظالمين.
وفي الآية الثانية [36] اخبر تعالى أن الشيطان أوقع آدم وزوجه في الخطيئة حيث زين لهما الأكل من الشجرة فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما فلم يصبحا أهلا للبقاء في الجنة فأهبطا الى الأرض مع عدوهما إبليس ليعيشوا بها بعضهم لبعض عدو إلى نهاية الحياة.
وفى الآية الثالثة [37] يخبر تعالى أن آدم تلقى كلمات التوبة من ربه تعالى وهي:
ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 23] فقالاها توبة فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- كرامة آدم وذريته على ربهم تعالى.
2- شؤم المعصية وآثارها في تحويل النعمة إلى نقمة .
3- عداوة الشيطان للإنسان ووجوب معرفة ذلك لاتقاء وسوسته.
4- وجوب التوبة من الذنب وهي الاستغفار بعد الاعتراف بالذنب وتركه والندم على فعله.
[2.38-39]
شرح الكلمات:
اهبطوا منها جميعا: إنزلوا من الجنة إلى الأرض لتعيشوا فيها متعادين.
فإما يأتينكم مني هدى: إن يجئكم من ربكم هدى: شرع ضمنه كتاب وبينه رسول.
فمن اتبع هداي: أخذ بشرعي فلم يخالفه ولم يحد عنه.
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون: جواب شرط فمن اتبع هداي، ومعناه إتباع الهدى يفضي بالعبد إلى أن لا يخاف ولا يحزن لا في الدنيا ولا في الآخرة.
كفروا وكذبوا: كفروا: جحدوا شرع الله، وكذبوا رسوله.
أصحاب النار: أهلها الذين لا يفارقونها بحيث لا يخرجون منها.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى أنه أمر آدم وحواء وإبليس بالهبوط إلى الأرض بعد أن وسوس الشيطان لهما فأكلا من الشجرة، وأعلمهم أنه إن أتاهم منه هدى فاتبعوه ولم يحيدوا عنه يأمنوا ويسعدوا فلن يخافوا ولن يحزنوا، وتوعد من كفر به وكذب رسوله فلم يؤمن ولم يعمل صالحا بالخلود في النار.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- المعصية تسبب الشقاء والحرمان.
2- العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يسبب الأمن والإسعاد، والإعراض عنهما يسبب الخوف والحزن والشقاء والحرمان.
3- الكفر والتكذيب جزاء صاحبهما الخلود في النار.
[2.40-43]
شرح الكلمات:
بنو إسرائيل: إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وبنوه هم اليهود، لأنهم يعودون في أصولهم إلى أولاد يعقوب الأثني عشر.
النعمة: النعمة هنا إسم جنس بمعنى النعم، ونعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة ستمر أفرادها في الآيات القرآنية الآتية.
أوفوا بعهدي: الوفاء بالعهد إتمامه وعهد الله عليهم أن يبينوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به.
أوف بعهدكم: أتم لكم عهدكم بإدخالكم الجنة بعد إكرامكم في الدنيا وعزكم فيها.
وإياي فارهبون: اخشوني ولا تخشوا غيري.
آمنوا بما أنزلت: القرآن الكريم.
ولا تشتروا بآياتي: لا تعتاضوا عن بيان الحق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
ثمنا قليلا: متاع الحياة الدنيا.
وإياي فاتقون: واتقوني وحدي في كتمانكم الحق وجحدكم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن أنزل بكم نقمتي.
ولا تلبسوا الحق بالباطل: أي لا تخلطوا الحق بالباطل حتى يعلم فيعمل به، وذلك قولهم: محمد نبي ولكن مبعوث إلى العرب لا إلى بني إسرائيل.
واركعوا مع الراكعين: الركوع الشرعي: انحناء الظهر في امتداد واعتدال مع وضع الكفين على الركبتين والمراد بها هنا: الخضوع لله والإسلام له عز وجل.
مناسبة الآيات ومعناها:
لما كان السياق في الآيات السابقة في شأن آدم وتكريمه، وسجود الملائكة له وامتناع إبليس لكبره. وحسده وكان هذا معلوما لليهود لأنهم أهل كتاب ناسب أن يخاطب الله تعالى بني إسرائيل مذكرا إياهم بما يجب عليهم من الإيمان والاستقامة. فناداهم بعنوان بنوتهم لإسرائيل عليه السلام فأمرهم ونهاهم، أمرهم بذكر نعمته عليهم ليشكروه تعالى بطاعته فيؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى وأمرهم بالوفاء بما أخذ عليهم من عهد لينجز لهم ما وعدهم، وأمرهم أن يرهبوه ولا يرهبوا غيره من خلقه وأمرهم أن يؤمنوا بالقرآن الكريم. وأن لا يكونوا أول من يكفر به. ونهاهم عن الاعتياض عن بيان الحق في أمر الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ثمنا قليلا من متاع الحياة الدنيا وأمرهم بتقواه في ذلك وحذرهم أن هم كتموا الحق أن ينزل بهم عذابه. ونهاهم عن خلط الحق بالباطل دفعا للحق وبعدا عنه حتى لا يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإذعان لله تعلى بقبول الإسلام والدخول فيه كسائر المسلمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب ذكر النعم لشكر الله تعالى عليها.
2- وجوب الوفاء بالعهد لا سيما ما عاهد عليه العبد ربه تعالى.
3- وجوب بيان الحق وحرمة كتمانه.
4- حرمة خلط الحق بالباطل تضليلا للناس وصرفهم عنه كقول اليهود: محمد نبي ولكن للعرب خاصة حتى لا يؤمن به يهود.
[2.44-46]
شرح الكلمات:
البر: البر لفظ جامع لكل خير. والمراد هنا: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في الاسلام.
النسيان: مقابل الذكر، وهو هنا الترك.
تلاوة الكتاب: قراءته، والكتاب هنا التوراه التي بأيدي اليهود.
العقل: قوة باطنية يميز بها المرء بين النافع والضار، والصالح والفاسد.
الاستعانة: طلب العون للقدرة على القول والعمل.
الصبر: حبس النفس على ما تكره.
الخشوع: حضور القلب وسكون الجوارح، والمراد هنا الخضوع لله والطاعة لأمره ونهيه.
يظنون: يوقنون.
ملاقوا ربهم: بالموت، راجعون إليه يوم القيامة.
معنى الآيتين:
ينعى الحق تبارك وتعالى في الآية الأولى [44] على علماء بني إسرائيل أمرهم بعض العرب بالإيمان بالإسلام ونبيه، ويتركون أنفسهم فلا يأمرونها بذلك والحال أنهم يقرأون التوراة، وفيها بعث النبي محمد والأمر بالإيمان به واتباعه ويقرعهم موبخا لهم بقوله: أفلا تعقلون، إذ العاقل يسبق إلى الخير ثم يدعو إليه.
وفي الآيتين الثانية والثالثة [45-46] يرشد الله تعالى بني إسرائيل إلى الاستعانة بالصبر والصلاة حتى يقدروا على مواجهة الحقيقة والتصريح بها وهي الإيمان بمحمد والدخول في دينه، ثم يعلمهم أن هذه المواجهة صعبه شاقة على النفس لا يقدر عليها إلا المخبتون لربهم الموقنون بلقاء الله، والرجوع إليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- قبح سلوك من يأمر غيره بالخير ولا يفعله.
2- السيئة قبيحة وكونها من عالم أشد قبحا.
3- مشروعية الاستعانة على صعاب الأمور وشاقها بالصبر والصلاة، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
4- فضلية الخشوع لله والتطامن له، وذكر الموت، والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء.
[2.47-48]
شرح الكلمات:
يا بني إسرائيل: تقدم شرح هذه الجملة.
فضلتكم على العالمين: آتاهم من النعم الدينية والدنيوية ما لم يؤت غيرهم من الناس وذلك على عهد موسى عليه السلام وفي أزمنة صلاحهم واستقامتهم.
اتقوا يوما: المراد باليوم يوم القيامة بدليل ما وصف به. واتقاؤه هو اتقاء ما يقع فيه من الأهوال والعذاب. وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
لا تجزي نفس: لا تغني نفس عن نفس أخرى أي غنى. ما دامت كافرة.
ولا يقبل منها شفاعة: هذه النفس الكافرة إذ هي التي لا تنفعها شفاعة الشافعين.
ولا يؤخذ منها عدل: على فرض أنها تقدمت بعدل وهو الفداء فإنه لا يؤخذ منها.
ولا هم ينصرون: بدفع العذاب عنهم.
معنى الآيتين:
ينادي الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل مطالبا إياهم بذكر نعمه عليهم ليشكروها بالإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقبول ما جاء به من الدين الحق وهو الإسلام. محذرا إياهم من عذاب يوم القيامة، آمرا لهم باتقائه بالإيمان وصالح الأعمال. لأنه يوم عظيم لا تقبل فيه شفاعة لكافر، ولا يؤخذ منه عدل أي فداء، ولا ينصره بدفع العذاب عنه أحد.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب ذكر النعم لتشكر بحمد الله وطاعته.
2- وجوب اتقاء عذاب يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك والمعاصي.
3- تقرير أن الشفاعة لا تكون لنفس كافرة. وأن الفداء يوم القيامة لا يقبل أبدا.
[2.49-53]
شرح الكلمات:
النجاة: الخلاص من الهلكة، كالخلاص من الغرق، والخلاص من العذاب.
آل فرعون: أتباع فرعون. وفرعون ملك مصر على عهد موسى عليه السلام
يسومونكم سوء العذاب: يبغونك سوء العذاب وهو أشده وأفظعه ويذيقونكم إياه
يستحيون نساءكم: يتركون ذبح البنات ليكبرن للخدمة، ويذبحون الأولاد خوفا منهم إذا كبروا.
بلاء عظيم: ابتلاء وامتحان شديد لا يطاق.
فرقنا بكم البحر: صيرناه فرقتين، وما بينهما يبس لا ماء فيه لتسلكوه فتنجوا والبحر هو بحر القلزم (الأحمر).
اتخذتم العجل: عجل من ذهب صاغه لهم السامري ودعاه إلى عبادته فعبده أكثرهم، وذلك في غيبة موسى عنهم.
الشكر: إظهار النعمة بالإعتراف بها وحمد الله تعالى عليها وصرفها في مرضاته.
الكتاب والفرقان: الكتاب: التوراة، والفرقان: المعجزات التي فرق الله تعالى بها بين الحق والباطل.
تهتدون: إلى معرفة الحق في كل شئونكم من أمور الدين والدنيا.
معنى الآيات:
تضمنت هذه الآيات الخمس أربع نعم عظمى أنعم الله بها على بني إسرائيل وهي التي أمرهم بذكرها ليشكروه عليها بالإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الإسلام.
فالنعمة الأولى: انجاؤهم من فرعون وآله بتخليصهم من حكمهم الظالم وما كانوا يصبونه عليهم من ألوان العذاب. من ذلك: ذبح الذكور من أولادهم وترك البنات لاستخدامهن فى المنازل كرقيقات.
والثانية: فلق البحر لهم وإغراق عدوهم بعد نجاتهم وهم ينظرون.
والثالثة: عفوه تعالى عن أكبر زلة زلوها وجريمة اقترفوها وهي اتخاذهم عجلا صناعيا إلها وعبادتهم له. فعفا تعالى عنهم ولم يؤاخذهم بالعذاب لعلة أن يشكروه تعالى بعبادته وحده دون سواه.
والرابعة: ما أكرم به نبيهم موسى عليه السلام من التوراة التي فيها الهدى والنور والمعجزات التي أبطلت باطل فرعون، وأحقت دعوة الحق التي جاء بها موسى عليه السلام.
هذه النعم هي محتوى الآيات الخمس، ومعرفتها معرفة لمعاني الآيات في الجملة اللهم إلا جملة { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } في الآية الأولى فإنها: أخبار بأن الذي حصل لبني إسرائيل من عذاب على أيدي فرعون وملئه إنما كان امتحانا من الله واختبارا عظيما لهم. كما أن الآية الثالثة فيها ذكر مواعدة الله تعالى لموسى بعد نجاة بني إسرائيل أربعين ليلة وهي القعدة وعشر الحجة ليعطيه التوراه يحكم بها بني إسرائيل فحدث في غيابه أن جمع السامري حلي نساء بني إسرائيل وصنع منه عجلا ودعاهم إلى عبادته فعبدوه فاستوجبوا العذاب إلا أن الله من عليهم بالعفو ليشكروه.
هداية الآيات:
من هداية هذه الآيات:
1- ذكر النعم يحمل على شكرها، والشكر هو الغاية من ذكر النعمة.
2- أن الله تعالى يبتلي عباده لحكم عالية فلا يجوز الإعتراض على الله تعالى فيما يبتلي به عباده.
3- الشرك ظلم لأنه وضع العبادة في غير موضعها.
4- إرسال الرسل وإنزال الكتب الحكمة فيهما هداية الناس إلى معرفة ربهم وطريقة التقرب إليه ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا في الحياتين.
[2.54-57]
شرح الكلمات:
ظلم النفس: تدسيتها بسيئة الجريمة.
باتخاذكم العجل: بجعلكم العجل الذي صاغه السامري من حلي نسائكم إلها عبدتموه.
البارىء: الخالق عز وجل.
فاقتلوا أنفسكم: أمرهم أن يقتل من لم يعبد العجل من عبده منهم وجعل ذلك توبتهم ففعلوا فتاب عليهم بقبول توبتهم.
نرى الله جهرة: نراه عيانا.
الصاعقة: نار محرقة كالتي تكون مع السحب والأمطار والرعود.
بعثناكم: أحييناكم بعد موتكم.
الغمام: سحاب رقيق أبيض.
المن والسلوى: المن: مادة لزجة حلوة كالعسل، والسلوى: طائر يقال له السماني .
الطيبات: الحلال.
المناسبة ومعنى الآيات:
لما ذكر الله تعالى اليهود بما أنعم على أسلافهم مطالبا إياهم بشكرها فيؤمنوا برسوله. ذكرهم هنا ببعض ذنوب أسلافهم ليتعظوا فيؤمنوا فذكرهم بحادثة اتخاذهم العجل إلها وعبادتهم له. وذلك بعد نجاتهم من آل فرعون وذهاب موسى لمناجاة الله تعالى، وتركه هارون خليفة له فيهم، فصنع السامري لهم عجلا من ذهب وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه فأطاعه أكثرهم وعبدوا العجل فكانا مرتدين بذلك فجعل الله توبتهم من ردتهم أن يقتل من لم يعبد العجل من عبده فقتلوا منهم سبعين ألفا فكان ذلك توبتهم فتاب الله عليهم إنه هو التواب الرحيم كما ذكرهم بحادثة أخرى وهي إنه لما عبدوا العجل وكانت ردة اختار موسى بأمر الله تعالى منهم سبعين رجلا من خيارهم ممن لم يتورطوا في جريمة عبادة العجل، وذهب بهم إلى جبل الطور ليعتذروا إلى ربهم سبحانه وتعالى من عبادة إخوانهم العجل، فلما وصلوا قالوا لموسى اطلب لنا ربك أن يسمعنا كلامه فأسمعهم قوله: إني أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري. ولما أعلمهم موسى بأن الله تعالى جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم، قالوا: لن نؤمن لك أي لن نتابعك على قولك فيما ذكرت من توبتنا بقتل بعضنا بعضا حتى نرى الله جهرة وكان هذا منهم ذنبا عظيما لتكذيبهم رسولهم فغضب الله عليهم فأنزل عليهم صاعقة فأهلكتهم فماتوا واحدا واحدا وهم ينظرون ثم أحياهم تعالى بعد يوم وليلة، وذلك ليشكروه بعبادته وحده دون سواه كما ذكرهم بنعمة أخرى وهي إكرامه لهم وإنعامه عليهم بتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى أيام حادثة التيه في صحراء سيناء وفي قوله تعالى: { وما ظلمونا } إشارة إلى أن محنة التيه كانت عقوبة لهم على تركهم الجهاد وجرأتهم على نبيهم إذ قالوا له:
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون
[المائدة: 24]. وما ظلمهم في محنة التيه، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عبادة المؤمن غير الله وهو يعلم أنها عبادة لغير الله تعالى تعتبر ردة منه وشركا.
2- مشروعية قتال المرتدين، وفي الحديث:
" من بدل دينه فاقتلوه "
، ولكن بعد استتابته.
3- علة الحياة كلها شكر الله تعالى بعبادته وحده.
4- الحلال، من المطاعم والمشارب وغيرها، ما أحله الله والحرام ما حرمه الله عز وجل.
[2.58-59]
شرح الكلمات:
القرية: مدينة القدس.
رغدا: عيشا واسعا هنيئا.
سجدا: ركعا متطامنين لله خاضعين شكرا لله على نجاتهم من التيه.
حطة: حطة: فعلة مثل ردة وحدة من رددت وحددت، أمرهم أن يقولوا حطة بمعنى احطط عنا خطايانا ورفع (حطة) على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا.
نغفر: نمحو ونستر.
خطاياكم: الخطايا جمع خطيئة: الذنب يقترفه العبد.
فبدل: غيروا القول الذي قيل لهم قولوه وهو حطة فقالوا: حبة في شعرة.
رجزا: وباء الطاعون.
يفسقون: يخرجون عن طاعة الله ورسوله إليهم، وهو يوشع عليه السلام.
معنى الآيتين:
تضمنت الآية الأولى [58] تذكير اليهود بحادثة عظيمة حدثت لأسلافهم تجلت فيها نعمة الله على بني إسرائيل وهي حال تستوجب الشكر، وذلك أنهم لما انتهت مدة التيه وكان قد مات كل من موسى وهارون وخلفهما في بني إسرائيل فتى موسى يوشع بن نون وغزا بهم العمالقة وفتح الله تعالى عليهم بلاد القدس أمرهم الله تعالى أمر إكرام وإنعام فقال ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا. واشكروا لي هذا الإنعام بان تدخلوا باب المدينة راكعين متطامنين قائلين. دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا التي اقترفناها بنكولنا عن الجهاد على عهد موسى وهارون. نثبكم بمغفرة ذنوبكم ونزيد المحسنين منكم ثوابا كما تضمنت الآية الثانية [59] حادثة أخرى تجلت فيها حقيقة سوء طباع اليهود وكثرة رعوناتهم وذلك بتغييرهم الفعل الذي أمروا به والقول إلى قيل لهم فدخلوا الباب زاحفين على أستاههم قائلين: حبة في شعيرة!! ومن ثم انتقم الله منهم فأنزل على الظالمين منهم طاعونا أفنى منهم خلقا كثيرا جزاء فسقهم عن أمر الله عز وجل. وكان فيما ذكر عظة لليهود لو كانوا يتعظون.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- تذكير الأبناء بأيام الآباء للعظة والاعتبار.
2- ترك الجهاد إذا وجب يسبب للأمة الذل والخسران.
3- التحذير من عاقبة الظلم والفسق والتمرد على أوامر الشارع.
4- حرمة تأويل النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشارع منها.
5- فضيلة الإحسان في القول والعمل.
[2.60-61]
شرح الكلمات:
استسقى: طلب لهم من الله تعالى السقيا أي الماء للشرب وغيره.
بعصاك الحجر: عصا موسى التي كانت معه منذ خرج من بلاد مدين. وهل هي من شجر الجنة هبط بها آدم كذا قيل والله أعلم. والحجر هو حجر مربع الشكل من نوع الكذان رخو كالمدر. وهل هو الذي فر بثوب موسى في حادثة معروفة كذا قيل أو هو حجر من سائر الأحجار؟ الله أعلم.
فانفجرت: الإنفجار: الإنفلاق فانفجرت: انفلقت من العصا العيون.
مشربهم: موضع شربهم.
رزق الله: ما رزق الله به العباد من سائر الأغذية.
ولا تعثوا: العثي والعثي: أكبر الفساد وفعله عثي كرضي يعثي كيرضي وعثا يعثو كعدا يعدو.
مفسدين: الإفساد: العمل بغير طاعة الله ورسوله في كل مجالات الحياة.
البقل: وجمعه البقول سائر أنواع الخضر كالجزر والخردل والبطاطس ونحوها.
القثاء: الخيار والقته ونحوهما.
الفوم: الفوم: الحنطة وقيل الثوم لذكر البصل بعده.
اتستبدلون: الاستبدال ترك شيء وأخذ آخر بدلا عنه.
أدنى: أقل صلاحا وخيريه ومنافع كاستبدال المن والسلوى بالفوم والبقل.
مصرا: مدينة من المدن قيل لهم هذا وهم في التيه كالتعجيز لهم والتحدي لأنهم نكلوا عن قتال الجبارين فاصيبوا بالتيه وحرموا خيرات مدينة القدس وفلسطين.
ضربت عليهم الذلة: أحاطت بهم ولازمتهم الذلة وهي الصغار والاحتقار.
والمسكنة: والمسكنة وهي الفقر والمهانة.
باءوا بغضب: رجعوا من طول عملهم وكثرة كسبهم بغضب الله وسخطه عليهم وبئس ما رجعوا به.
ذلك بأنهم: ذلك إشارة إلى ما أصابهم. من الذلة والمسكنة والغضب وبأنهم أي بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء وعصيانهم، فالباء سببية.
الاعتداء: مجاوزة الحق إلى الباطل، والمعروف إلى المنكر. والعدل إلى الظلم.
معنى الآيتين:
يذكر الله تعالى اليهود المعاصرين لنزول القرآن بالمدينة النبوية بأياديه في أسلافهم وأيامه عز وجل فيهم وفي الآية الأولى رقم [60] ذكرهم بأنهم لما عطشوا في التيه استسقى موسى ربه فسقاهم بأمر خارق للعادة ليكون لهم ذلك آية ليلزموا الإيمان والطاعة وهو أن يضرب موسى عليه السلام بعصاه الحجر فيتفجر الماء منه من اثني عشر موضعا كل موضع يمثل عينا يشرب منها سبط من أسباطهم الاثني عشر حتى لا يتزاحموا فيتضرروا أكرمهم الله بهذه النعمة، ونهاهم عن الفساد في الأرض بارتكاب المعاصي.
وفي الآية الثانية [61] ذكرهم بسوء أخلاق كانت في سلفهم منها عدم الصبر، والتعنت وسوء التدبير والجهالة بالخير، والرعونة وغيرها. وهذا ظاهر في قولهم يا موسى بدل يا نبي الله أو رسول الله لن نصبر على طعام واحد. وقولهم أدع لنا ربك بدل ادع الله تعالى لنا أو ادع لنا ربنا عز وجل. وفي مللهم اللحم والعسل وطلبهم الفوم والبصل بدلا عنهما وفي قول موسى عليه السلام أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ما يقرر ذلك كما ذكرهم بالعاقبة المرة التي كانت لهم نتيجة كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء، واعتدائهم وعصيانهم، وهي أن ضرب الله تعالى عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم.
كل هذا وغيره مما ذكر الله تعالى اليهود به في كتابه من أجل أن يذكروا فيتعظوا ويشكروا فيؤمنوا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ويدخلوا في دينه فيكملوا ويسعدوا بعد أن ينجوا مما حاق بهم من الذلة والمسكنة والغضب في الدنيا، ومن عذاب النار يوم القيامة.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- استحسان الوعظ والتذكير بنعم الله تعالى ونقمه في الناس.
2- مطالبة ذي النعمة بشكرها، وذلك بطاعة الله تعالى بفعل أوامره. وترك نواهيه.
3- ذم الأخلاق السيئة والتنديد بأهلها للعظة والإعتبار.
4- التنديد بكبائر الذنوب كالكفر وقتل النفس بغير الحق لا سيما قتل الأنبياء أو خلفائهم وهم العلماء الآمرون بالعدل في الأمة.
[2.62]
شرح الكلمات:
الذين آمنوا: هم المسلمون آمنوا بالله ووحدوه وآمنوا برسوله واتبعوه.
الذين هادوا: هم اليهود سموا يهودا لقولهم: إنا هدنا إليك أي تبنا ورجعنا.
النصارى: الصليبيون سموا نصارى إما لأنهم يتناصرون أو لنزول مريم بولدها عيسى قرية الناصرة، والواحد نصران أو نصراني وهو الشائع على الألسنة.
الصابئون: أمة كانت بالموصل يقولون لا إله إلا الله. ويقرأون الزبور. ليسوا يهودا ولا نصارى واحدهم صابيء، ولذا كانت قريش تقول لمن قال لا إله الا الله صابيء أي مائل عن دين آبائه إلى دين جديد وحد فيه الله تعالى.
مناسبة الآية ومعناها:
لما كانت الآية في سياق دعوة اليهود إلى الإسلام ناسب أن يعلموا أن النسب لا قيمة لها وإنما العبرة بالإيمان الصحيح والعمل الصالح المزكي للروح البشرية والمطهرة لها فلذا المسلمون واليهود والنصارى والصابئون وغيرهم كالمجوس وسائر أهل الأديان من آمن منهم بالله واليوم الآخر حق الإيمان وعمل صالحا مما شرع الله تعالى من عبادات فلا خوف عليهم بعد توبتهم ولا حزن ينتابهم عند موتهم من أجل ما تركوا من الدنيا، إذ الآخرة خير وأبقى.
والإيمان الصحيح لا يتم لأحد إلا بالايمان بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم والعمل الصالح لا يكون إلا بما جاء به النبي الخاتم في كتابه وما أوحى إليه، إذ بشريعته نسخ الله سائر الشرائع قبله وبالنسخ بطل مفعولها فهي لا تزكي النفس ولا تطهرها. والسعادة الأخروية متوقفة على زكاة النفس وطهارتها.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- العبرة بالحقائق لا بالألفاظ فالمنافق إذا قال هو مؤمن أو مسلم، ولم يؤمن بقلبه ولم يسلم بجوارحه لا تغني النسبة عنه شيئا، واليهودي والنصراني والصابىء وكل ذي دين نسبته إلى دين قد نسخ وبطل العمل بما فيه فأصبح لا يزكي النفس، هذه النسبة لا تنفعه، وإنما الذي ينفع الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
2- أهل الإيمان الصحيح والإستقامة على شرع الله الحق مبشرون بنفي الخوف عنهم والحزن وإذا انتفى الخوف حصل الأمن وإذا انتفى الحزن حصل السرور والفرح وتلك السعادة.
[2.63-66]
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
الطور: جبل أو هو الجبل الذي ناجى الله تعالى عليه موسى عليه السلام.
بقوة: بجد وحزم وعزم
توليتم: رجعتم عما التزمتم القيام به من العمل بما في التوراة.
اعتدوا في السبت: تجاوزوا الحد فيه حيث حرم عليهم الصيد فيه فصادوا.
قردة: القردة جمع قرد حيوان معروف مسخ الله تعالى المعتدين في السبت على نحوه.
خاسئين: مبعدين عن الخير ذليلين مهانين.
نكالا: عقوبة شديدة تمنع من رآها أو علمها من فعل ما كانت سببا فيه.
لما بين يديها وما خلفها: لا بين يدي العقوبة من الناس، ولمن يأتي بعدهم.
وموعظة للمتقين: يتعظون بها فلا يقدمون على معاصي الله عز وجل.
معنى الآيات:
يذكر الحق عز وجل اليهود بما كان لأسلافهم من أحداث لعلهم يعتبرون فيذكرهم بحادثة امتناعهم من تحمل العمل بالتوراة وإصرارهم على ذلك حتى رفع الله تعالى فوقهم جبلا فأصبح كالظلة فوق رؤسهم حينئذ أذعنوا غير أنهم تراجعوا بعد ذلك ولم يفوا بما التزموا به فاستوجبوا الخسران لولا رحمة الله بهم.
كما يذكرهم بجريمة كانت لبعض أسلافهم وهي أنه تعالى حرم عليهم الصيد يوم السبت فاحتالت طائفة منهم على الشرع واصطادوا فنكل الله تعالى بهم فمسخهم قردة، وجعلهم عظة وعبرة للمعتبرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق.
2- يجب أخذ أحكام الشرع بحزم، وذكرها وعدم نسيانها أو تناسيها.
3- لا تتم التقوى لعبد إلا إذا أخذ أحكام الشرع بحزم وعزم.
4- حرمة الاحتيال لإباحة المحرم وسوء عاقبة المحتالين المعتدين.
[2.67-71]
شرح الكلمات:
البقرة: واحدة البقر والذكر ثور والأنثى بقرة.
الذبح: قطع الودجين والمارن.
الهزؤ: السخرية واللعب.
الجاهل: الذي يقول أو يفعل مالا ينبغي قوله أو فعله.
الفارض: المسنة، والبكر الصغيرة التي لم تلد بعد. والعوان: النصف وسط بين المسنة والصغيرة.
فاقع: يقال: أصفر فاقع شديدة الصفرة كأحمر قانىء وأبيض ناصع.
الذلول: الريضة التي زالت صعوبتها فاصبحت سهلة منقادة.
تثير الأرض: تقلبها بالمحراث فيثور غبارها بمعنى أنها لم تستعمل في الحرث ولا في سقاية الزرع أي لم يسن عليها، وذلك لصغرها.
مسلمة: سليمة من العيوب كالعور والعرج.
لا شية فيها: الشية العلامة أي لا يوجد فيها لون غير لونها من سواد أو بياض.
معنى الآيات:
واذكر يا رسولنا لهؤلاء اليهود عيبا آخر من عيوب أسلافهم الذين يعتزون بهم وهو سوء سلوكهم مع أنبيائهم فيكون توبيخا لهم لعلهم يرجعون عن غيهم فيؤمنوا بك وبما جئت به من الهدى ودين الحق. اذكر لهم قصة الرجل الذي قتله ابن أخيه استعجالا لإرثه ثم ألقاه تعمية في حي غير الحي الذي هو منه، ولما اختلفوا فى القاتل قالوا نذهب الى موسى يدعو لنا ربه ليبين لنا من هو القاتل فجاءوه فقال لهم أن الله تعالى يأمركم أن تذبحوا بقرة من أجل أن يضربوا القتيل بجزء منها فينطق مبينا من قتله فلما قال لهم ذلك قالوا أتتخذنا هزؤا فوصفوا نبي الله بالسخرية واللعب وهذا ذنب قبيح وما زالوا يسألونه عن البقرة ويتشددون حتى شدد الله تعالى عليهم الأمر الذي كادوا معه لا يذبحون مع أنهم لو تناولوا بقرة من عرض الشارع وذبحوها لكفتهم. ولكن شددوا فشدد الله عليهم فعثروا على البقرة المطلوبة بعد جهد جهيد وغالى فيها صاحبها فباعها منهم بملء جلدها ذهبا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان عليه قوم موسى من بني إسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق ليتجنب مثلها المسلمون.
2- حرمة الإعتراض على الشارع ووجوب تسليم أمره أو نهيه ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهي وعلتها.
3- الندب إلى الأخذ بالمتيسر وكراهة التشدد في الأمور.
4- بيان فائدة الاستثناء بقول إن شاء الله، إذ لو لم يقل اليهود إن شاء الله لمهتدون ما كانوا ليهتدوا إلى معرفة البقرة المطلوبة.
5- ينبغي تحاشي الكلمات التي قد يفهم منها انتقاص الأنبياء مثل قولهم الآن جئت بالحق، إذ مفهومه أنه ما جاءهم بالحق إلا في هذه المرة من عدة مرات سبقت!!
[2.72-74]
شرح الكلمات:
نفسا: نفس الرجل الذي قتله وإرثه استعجالا للإرث.
ادارأتم فيها: تدافعتم أمر قتلها كل قبيل يقول قتلها القبيل الآخر.
ما تكتمون: من أمر القاتل سترا عليه دفعا للعقوبة والفضيحة.
ببعضها: ببعض أجزاء البقرة كلسانها أو رجلها مثلا.
معنى الآيات:
يقول تعالى لليهود موبخا لهم اذكروا إذ قتل أحد أسلافكم قريبه ليرثه فاختصم في شأن القتل كل جماعة تنفي أن يكون القاتل منها، والحال أن الله تعالى مظهر ما تكتمونه لا محالة إحقاقا للحق وفضيحة للقاتلين فأمركم أن تضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة فيحيا ويخبر عن قاتله ففعلتم وأحيا الله القتيل وأخبر بقاتله فقتل به فأراكم الله تعالى بهذه القصة آية من آياته الدالة على حلمه وعلمه وقدرته وكان المفروض أن تعقلوا عن الله آياته فتكملوا في إيمانكم وأخلاقكم وطاعتكم، ولكن بدل هذا قست قلوبكم وتحجرت وأصبحت أشد قساوة من الحجارة فهي لا ترق ولا تلين ولا تخشع على عكس الحجارة إذ منها ما تتفجر منه العيون، ومنها ما يلين فيهبط من خشية الله كما اندك جبل الطور لما تجلى له الرب تعالى، وكما اضطرب أحد تحت قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ثم توعدكم الرب تعالى بأنه ليس بغافل عما تعملون من الذنوب والآثام وسيجزيكم به جزاء عادلا إن لم تتوبوا إليه وتنيبوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتقريرها أمام اليهود إذ يخبرهم بأمور جرت لأسلافهم لم يكن يعلمها غيرهم وذلك إقامة للحجة عليهم.
2- الكشف عن نفسيات اليهود وإنهم يتوارثون الرعونات والمكر والخداع.
3- اليهود من أقسى البشر قلوبا إلى اليوم، إذ كل عام يرمون البشرية بقاصمة الظهر وهم ضاحكون.
4- من علامات الشقاء قساوة القلوب، وفي الحديث:
" من لا يرحم لا يرحم ".
[2.75-78]
شرح الكلمات:
افتطمعون: الهمزة للإنكار الاستبعادي، والطمع تعلق النفس بالشيء رغبة فيه.
يؤمنوا لكم: يتابعونكم على دينكم (الإسلام).
كلام الله: في كتبه كالتوراة والإنجيل والقرآن.
يحرفونه: التحريف الميل بالكلام على وجه لا يدل على معناه كما قالوا في نعت الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة: أكحل العينين ربعة جعد الشعر حسن الوجه قالوا: طويل أزرق العينين سبط الشعر.
إذا لقوا الذين آمنوا: إذا لقي منافقوا اليهود المؤمنين قالوا آمنا بنبيكم ودينكم.
أتحدثونهم: الهمزة للاستفهام الإنكاري، وتحديثهم إخبار المؤمنين بنعوت النبي في التوراة.
بما فتح الله عليكم: إذا خلا منافقوا اليهود برؤسائهم أنكروا عليهم إخبارهم المؤمنين بنعوت النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، وهو مما فتح الله به عليهم ولم يعلمه غيرهم.
ليحاجوكم به: يقولون لهم لا تخبروا المؤمنين بما خصكم الله به من العلم حتى لا يحتجوا عليكم به فيغلبوكم وتقوم الحجة عليكم فيعذبكم الله.
أميون: الأمي: المنسوب إلى أمه كأنه ما زال في حجر أمه لم يفارقه فلذا هو لم يتعلم الكتابة والقراءة.
أماني: الآماني جمع أمنية وهي إما ما يتمناه المرء في نفسه من شيء يريد الحصول عليه، وإما القراءة من تمني الكتاب إذا قرأه.
معنى الآيات:
ينكر تعالى على المؤمنين طمعهم في إيمان اليهود لهم بنبيهم ودينهم، ويذكر وجه استبعاده بما عرف به اليهود سلفا وخلفا من الغش والاحتيال بتحريف الكلام وتبديله تعمية وتضليلا حتى لا يهتدى إلى وجه الحق فيه ومن كان هذا حاله يبعد جدا تخلصه من النفاق والكذب وكتمان الحق { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } وهم كاذبون وإذا خلا بعضهم ببعض أنكروا على أنفسهم ما فاه به بعضهم للمسلمين من صدق نبوة الرسول وصحة دينه متعللين بأن مثل هذا الاعتراف يؤدي الى احتجاج المسلمين به عليهم وغلبهم في الحجة وسبحان الله كيف فسد ذوق القوم وساء فهمهم حتى ظنوا أن ما يخفونه يمكن إخفاؤه على الله قال تعالى في التنديد بهذا الموقف الشائن { أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون }؟
ومن جهل بعضهم بما في التوراة وعدم العلم بما فيها من الحق والهدى والنور ما دل عليه قوله تعالى: { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } أي إلا مجرد قراءة فقط أما إدراك المعاني الموجبة لمعرفة الحق والإيمان به واتباعه فليس لهم فيها نصيب، وما يقولونه ويتفوهون به لم يعد الخرص والظن الكاذب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- أن أبعد الناس عن قبول الحق والإذعان له اليهود.
2- قبح إنكار الحق بعد معرفته.
3- قبح الجهل بالله وبصفاته العلا وأسمائه الحسنى.
4- ما كل من يقرأ الكتاب يفهم معانية فضلا عن معرفة حكمه وأسراره وواقع أكثر المسلمين اليوم شاهد على هذا فإن حفظة القرآن منهم من لا يعرفون معانيه فضلا عن غير الحافظين له.
[2.79-81]
شرح الكلمات:
ويل: الويل: كلمة تقال لمن وقع في هلكة أو عذاب.
الكتاب: ما يكتبه علماء اليهود من أباطيل وينسبونه إلى الله تعالى ليتوصلوا به إلى أغراض دنية من متاع الدنيا القليل.
من عند الله: ينسبون ما كتبوه بأيديهم إلى التوراه بوصفها كتاب الله ووحيه إلى موسى عليه السلام.
يكسبون: الكسب يكون في الخير، وهو هنا في الشر فيكون من باب التهكم بهم.
أياما معدودة: أربعين يوما وهذا من كذبهم وتضليلهم للعوام منهم ليصرفوهم عن الإسلام.
أتخذتم عند الله عهدا: الهمزة للاستفهام الانكاري، والعهد: الوعد المؤكد.
سيئة: هذه سيئة الكفر والكذب على الله تعالى.
أحاطت به: الإحاطة بالشيء: الالتفاف به والدوران عليه.
خطيئته: الخطيئة واحدة الخطايا وهي الذنوب عامة.
الخلود: البقاء الدائم الذي لا تحول معه ولا ارتحال.
معنى الآيات:
يتوعد الرب تبارك وتعالى بالعذاب الأليم أولئك المضللين من اليهود الذين يحرفون كلام الله، ويكتبون أمورا من الباطل وينسبونها إلى الله تعالى ليتوصلوا بها إلى أغراض دنيوية سافلة.
وينكر عليهم تبجحهم الفارغ بأنهم لا يعذبون بالنار مهما كانت ذنوبهم ما داموا على ملة اليهود إلا أربعين يوما ثم يخرجون، وجائز أن يتم هذا لو كان هناك عهد من الله تعالى قطعه لهم به ولكن أين العهد؟ إنما هو الادعاء الكاذب فقط ثم يقرر العليم الحكيم سبحانه وتعالى حكمه في مصير الإنسان بدخول النار أو الجنة ذلك الحكم القائم على العدل والرحمة البعيد عن التأثر بالأنساب والأحساب فيقول بلى، ليس الأمر كما تدعون، وإنما هي الخطايا والحسنات فمن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فخبثت نفسه ولوثتها فهذا لا يلائم خبث نفسه إلا النار، ومن آمن وعمل صالحا فزكى بالإيمان والعمل الصالح نفسه وطهرها فإنه لا يلائم طهارة روحه وزكاة نفسه إلا الجنة دار النعيم. أما الحسب والنسب والادعاءات الكاذبة فلا تأثير لها البتة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير الشديد من الفتاوى الباطلة التي تحرم ما أحل الله أو تحلل ما حرم ليتوصل بها صاحبها إلى غرض دنيوي كمال، أو حظوة لدى ذي سلطان.
2- إبطال الإنتفاع بالنسب والإنتساب، وتقرير أن سعادة الإنسان كشقائه مردهما في السعادة إلى الإيمان والعمل الصالح. وفي الشقاوة إلى الشرك والمعاصي.
3- التنبيه على خطر الذنوب صغيرها وكبيرها، وإلى العمل على تكفيرها بالتوبة والعمل الصالح قبل أن تحوط بالنفس فتحجبها عن التوبة والعياذ بالله.
[2.82-86]
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
حسنا: حسن القول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمخاطبة باللين، والكلم الطيب الخالي من البذاءة والفحش.
توليتم: رجعتم عما التزمتم به مصممين على أن لا تتوبوا.
سفك الدماء: إراقتها وصبها بالقتل والجراحات.
تظاهرون: قرىء تظاهرون، وتظاهرون بتاء واحدة ومعناه تتعاونون.
بالإثم والعدوان: الإثم: الضار الموجب للعقوبة، والعدوان الظلم.
أسارى: جمع أسير: من أخذ في الحرب.
الخزي: الذل والمهانة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تذكير اليهود بما كان لأسلافهم من خير وغيره والمراد هدايتهم لو كانوا يهتدون، فقد ذكرهم في الآية [83] بما أخذ الله تعالى عليهم في التوراة من عهود ومواثيق على أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا في عبادته سواه. وأن يحسنوا للوالدين ولذي القربى واليتامى والمساكين وأن يقولوا للناس الحسن من القول ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وندد بصنيعهم حيث ينقض هذا العهد والميثاق أكثرهم ولم يفوا به وفي الآية الثانية [84] ذكرهم بميثاق خاص أخذه عليهم في التوراة أيضا وهو الإسرائيلي لا يقتل الإسرائيلي ولا يخرجه من داره بغيا وعدوانا عليه، وإذا وقع في الأسر وجب فكاكه بكل وسيلة ولا يجوز تركه أسيرا بحال، أخذ عليهم بهذا ميثاقا غليظا وأقروا به وشهدوا عليه وفي الآية الثالثة [85] وبخهم على عدم وفائهم بما التزموا به حيث صار اليهودي يقتل اليهودي ويخرجه من داره بغيا وعدوانا عليه. وفي نفس الوقت إن أتاهم يهودي أسيرا فدوه بالغالي والرخيص، فندد الله تعالى بصنيعهم هذا الذي هو إهمال واجب وقيام بآخر تبعا لأهوائهم فكانوا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ومن هنا توعدهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة. وفي الآية الرابعة [86] أخبر أنهم بصنيعهم ذلك اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فكان جزاؤهم عذاب الآخرة حيث لا يخفف عنهم ولا ينصرون فيه بدفعه عنهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية تذكير الناس ووعظهم بما يكون سببا لهدايتهم.
2- وجوب عبادة الله وتوحيده فيها.
3- وجوب الإحسان إلى الوالدين ولذوي القربى واليتامى والمساكين.
4- وجوب معاملة الناس بحسن الأدب.
5- تعرض أمة الإسلام لخزي الدنيا وعذاب الآخرة بتطبيقها بعض أحكام الشريعة وإهمالها البعض الآخر.
6- كفر من يتخير أحكام الشرع فيعمل ما يوافق مصالحه وهواه، ويهمل ما لا يوافق.
7- كفر من لا يقيم دين الله إعراضا عنه وعدم مبالاة به.
[2.87-90]
شرح الكلمات:
موسى: موسى بن عمران نبي مرسل إلى بني إسرائيل.
الكتاب: التوراة.
قفينا: أرسلناهم يقفو بعضهم بعضا أي واحدا بعد واحد.
الرسل: جمع رسول: ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.
البينات: المعجزات وآيات الله في الإنجيل.
روح القدس: جبريل عليه السلام.
غلف: عليها غلاف يمنعها من الفهم لما تدعونا إليه، أو هي أوعية للعلم فلا نحتاج معها إلى أن نتعلم عنك.
كتاب من عند الله: القرآن الكريم.
يستفتحون: يطلبون الفتح أي النصر.
بئسما: بئس كلمة ذم، ضدها نعم فإنها للمدح.
بغيا: حسدا وظلما.
باءوا بغضب: رجعوا والغضب ضد الرضا، ومن غضب الله عليه أبعده ومن رضي عنه قربه وأدناه.
مهين: عذاب فيه إهانة وصغار وذل للمعذب به.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إنعام الله تعالى على بني إسرائيل، وذكر معايبهم وبيان مثالبهم لعل ذكر الإنعام يحملهم على الشكر فيؤمنوا، وذكر المعايب يحملهم على الإصلاح والتوبة فيتوبوا ويصلحوا ففي الآية [87] يذكر تعالى منته بإعطاء موسى التوراة وإرسال الرسل بعده بعضهم على أثر بعض، وبإعطاء عيسى البينات وتأييده بروح القدس جبريل عليه السلام ومع هذا فإنهم لم يستقيموا بل كانوا يقتلون الأنبياء ويكذبونهم فوبخهم الله تعالى على ذلك قوله: { أفكلما جآءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون }. وفي الآية الثانية [88] يذكر تعالى تبجحهم بالعلم واستغناءهم به، ويبطل دعواهم ويثبت علة ذلك وهي أن الله لعنهم بكفرهم فلذا هم لا يؤمنون وفي الآية الثالثة [89] يذكر تعالى كفرهم بالقرآن ونبيه بعد أن كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يقولون للعرب إن نبيا قد أظل زمانه وسوف نؤمن به ونقاتلكم معه وننتصر عليكم فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنه الله عليهم لأنهم كافرون. وفي الآية الرابعة [90] يقبح الله تعالى سلوكهم حيث باعوا أنفسهم رخيصة، باعوها بالكفر فلم يؤمنوا بالقرآن ونبيه حسدا أن يكون في العرب نبي يوحى إليه ورسول يطاع ويتبع، فرجعوا من طول رحلتهم في الضلال بغضب عظيم سببه كفرهم بعيسى، وبغضب عظيم سببه كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومع الغضب العذاب المهين في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- واجب النعمة الشكر، وواجب الذنب التوبة.
2- قبح رد الحق لعدم موافقته لهوى النفس.
3- فظاعة جريمة القتل والتكذيب بالحق.
4- سوء عاقبة التبجح بالعلم وإدعاء عدم الحاجة إلى المزيد منه.
5- ذم الحسد وأنه أخو البغي وعاقبتهما الحرمان والخراب.
6- شر ما يخاف منه سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى.
[2.91-93]
شرح الكلمات:
بما أنزل الله: من القرآن.
بما أنزل علينا: التوراة.
وهو الحق مصدقا: القرآن الكريم مقرر لأصول الأديان الإلهية كالتوحيد والنبوات والبعث والجزاء في الدار الآخرة.
البينات: المعجزات.
اتخذتم العجل: يريد إلها عبدتموه في غيبة موسى عليه السلام.
وأشربوا في قلوبهم العجل: أي حب العجل الذي عبدوه بدعوة السامري لهم بذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بني إسرائيل وتقريعهم على سوء أفعالهم ففي الآية الأولى [91] يخبر تعالى أن اليهود إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن يدعون أنهم في غير حاجة إلى إيمان جديد بحجة أنهم مؤمنون من قبل بما أنزل الله تعالى في التوراة وبهذا يكفرون بغير التوراة وهو القرآن مع أن القرآن حق والدليل أنه مصدق لما معهم من حق في التوراة ثم أمر الله رسوله أن يبطل دعواهم موبخا إياهم بقوله: { فلم تقتلون أنبيآء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } إذ قتل الأنبياء يتنافى مع الإيمان تمام المنافاة.
وفي الآية الثالثة [93] يذكر تعالى اليهود بما أخذه على أسلافهم من عهد وميثاق بالعمل بما جاء في التوراة عندما رفع الطور فوق رؤوسهم تهديدا لهم غير أنهم لم يفوا بما عاهدوا عليه كأنهم قالوا سمعنا وعصينا، فعبدوا العجل وأشربوا حبه في قلوبهم بسبب كفرهم ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقبح ما ادعوه من أن إيمانهم هو الذي أمرهم بقتل الأنبياء وعبادة العجل، والتمرد والعصيان.
هداية الآيات:
1- مشروعية توبيخ أهل الجرائم على جرائمهم إذا أظهروها.
2- جرأة اليهود على قتل الأنبياء والمصلحين من الناس.
3- وجوب أخذ أمور الشرع بالحزم والعزم والقوة.
4- الإيمان الحق لا يأمر صاحبه إلا بالمعروف، والإيمان الباطل المزيف يأمر صاحبه بالمنكر.
[2.94-98]
شرح الكلمات:
الدار الآخرة: المراد منها نعيمها وما أعد الله تعالى فيها لأوليائه.
خالصة: خاصة لا يدخلها أحد سواكم.
تمنوا الموت: تمنوه في نفوسكم واطلبوه بألسنتكم فإن من كانت له الدار الآخرة لا خير له في بقائه في الدنيا.
إن كنتم صادقين: أي في دعوى أن نعيم الآخرة خاص بكم لا يشارككم فيه غيركم.
حياة: التنكير فيها لتعم كل حياة ولو كانت ذميمة.
يود: يحب.
الذين أشركوا: هم غير أهل الكتاب من سائر الكفار.
بمزحزحه: بمبعده من العذاب.
أن يعمر: تعميره ألف سنة.
جبريل: روح القدس الموكل بالوحي يتنزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نزله على قلبك: نزل جبريل القرآن على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مصدقا لما بين يديه: القرآن مصدق لما في الكتب السابقة من نعت الرسول صلى الله عليه وسلم والبشارة به ومن التوحيد ووجوب الإسلام لله تعالى.
ميكال: ميكال وميكائيل. ملك من أعاظم الملائكة وقيل معناه عبيد الله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على اليهود وإبطال حججهم الواهية ففي الآية الأولى [94] أمر الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم مباهلا إياهم: إن كانت الدار الآخرة خالصة لكم لا يدخل الجنة معكم أحد فتمنوا الموت لتدخلوا الجنة وتستريحوا من عناء الدنيا ومكابدة العيش فيها فإن لم تتمنوا ظهر كذبكم وثبت كفركم وأنكم أصحاب النار، وفعلا ما تمنوا الموت ولو تمنوه لماتوا عن آخرهم.
وفي الآية الثانية [95] أخبر تعالى أن اليهود لن يتمنوا الموت أبدا وذلك بسبب ما قدموه من الذنوب والخطايا العظام الموجبة لهم عذاب النار بأنهم مجرمون ظلمة والله عليم بالظالمين وسيجزيهم بظلمهم إنه حكيم عليم.
وفي الآية الثالثة [96] يخبر الله تعالى أن اليهود أحرص الناس على الحياة حتى من المشركين الذين يود الواحد منهم أن يعيش ألف سنة، فكيف يتمنون الموت إذا وهم على هذا الحال من الحرص على الحياة، وذلك لعلمهم بسوء مصيرهم إن هم ماتوا. كما يخبر تعالى أن الكافر لا ينجيه من العذاب طول العمر ولو عاش أكثر من ألف سنة، ثم هدد الله تعالى اليهود وتوعدهم بقوله { والله بصير بما يعملون } من الشر والفساد وسيجزيهم به.
وفي الآية الرابعة [97] يأمر تعالى رسوله أن يرد على اليهود قولهم: لو كان الملك الذي يأتيك بالوحي مكيائيل لآمنا بك، ولكن لما كان جبريل فجبريل عدونا لأنه ينزل بالعذاب، بقوله: { قل من كان عدوا لجبريل } فليمت غيظا وحنقا فإن جبريل هو الذي ينزل بالقرآن بإذن ربه على قلب رسوله مصدقا - القرآن - لما سبقه من الكتب وهدى يهتدى به وبشرى يبشر به المؤمنون الصالحون.
وفي الآية الخامسة [98] يخبر تعالى أن من يعاديه عز وجل ويعادي أولياءه من الملائكة والرسل وبخاصة جبريل فإنه كافر، والله عدو له ولسائر الكافرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صحة الإسلام، وبطلان اليهودية، وذلك لفشل اليهود في المباهلة بتمني الموت.
2- المؤمن الصالح يفضل الموت على الحياة لما يرجوه من الراحة والسعادة بعد الموت.
3- صدق القرآن فيما أخبر به عن اليهود من حرصهم على الحياة ولو كانت رخيصة ذميمة إذ هذا أمر مشاهد منهم إلى اليوم.
4- عداوة الله تعالى للكافرين. ولذا وجب على المؤمن معاداة أهل الكفر لمعاداتهم الله، ومعاداة الله تعالى لهم.
[2.99-101]
شرح الكلمات:
آيات بينات: هي آيات القرآن الكريم الواضحة فيما تدل عليه من معان.
يكفر بها : يجحد بكونها كتاب الله ووحيه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
الفاسقون: الخارجون عما يجب أن يكونوا عليه من الإيمان بالله والإسلام له ظاهرا وباطنا.
أو كلما عاهدوا: الهمزة للإستفهام الإنكاري والواو عاطفة على تقديره أكفروا بالقرآن ونبيه وكلما عاهدوا الخ..
العهد: الوعد الملزم.
نبذه: طرحه وألقاه غير آبه به ولا ملتفت إليه.
رسول: التنكير للتعظيم والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قبله عيسى عليه السلام.
لما معهم: من نعت الرسول صلى الله عليه وسلم وتقرير نبوته، وسائر أصول الدين في التوراة.
كتاب الله: التوراة لدلالتها على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحة دينه الإسلام.
وراء ظهورهم: أي أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه لمنافاته لما هم معروفون عليه من الكفر بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم لا يعلمون مع أنهم يعلمون حق العلم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته والرد على اليهود وإظهار ما هم عليه من الفسق والكفر والظلم ففي الآية الأولى [99] يرد تعالى على قول ابن صوريا اليهودي للرسول صلى الله عليه وسلم ما جئتنا بشيء بقوله: { ولقد أنزلنآ إليك آيات بينات وما يكفر بهآ إلا الفاسقون } كالأعور بن صوريا اليهودي وفي الآية الثانية [100] ينكر الحق سبحانه وتعالى على اليهود كفرهم ونبذهم للعهود والمواثيق وليسجل عليهم عدم إيمان أكثرهم بقوله: { بل أكثرهم لا يؤمنون }. وفي الآية الثالثة [101] ينعى البارىء عز وجل على علماء اليهود نبذهم للتوراة لما رأو فيها من تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإثباتها فقال: { ولمآ جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله ورآء ظهورهم كأنهم لا يعلمون }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الفسق العام ينتج الكفر، إن العبد إذا فسق وواصل الفسق عن أوامر الله ورسوله سيؤدي به ذلك إلى أن ينكر ما حرم الله وما أوجب فيكفر لذلك والعياذ بالله.
2- اليهود لا يلتزمون بوعد ولا يفون بعهد، فيجب أن لا يوثق في عهودهم أبدا.
3- التوراة أحد كتب الله عز وجل المنزلة أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران عليه السلام.
4- قبح جريمة من تنكر للحق بعد معرفته، ويصبح وكأنه جاهل به.
[2.102-103]
شرح الكلمات:
ما تتلوا الشياطين: الذي تتبعه وتقول به الشياطين من كلمات السحر.
على ملك سليمان: على عهد ملك سليمان ووقت حكمه.
الشياطين: جمع شيطان وهو من خبث وتمرد ولم يبق فيه قابلية للخير.
السحر: هو كل ما لطف مأخذه وخفي سببه مما له تأثير على أعين الناس أو نفوسهم أو أبدانهم.
هاروت وماروت: ملكان وجدا للفتنة.
فلا تكفر: لا تتعلم منا السحر لتضر به فتكفر بذلك.
بين المرء وزوجه: بين الرجل وامرأته.
اشتراه: اشترى السحر بتعلمه والعمل به.
الخلاق: النصيب والحظ.
ما شروا: ما باعوا به أنفسهم.
لمثوبة: ثواب وجزاء.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان ما عليه اليهود من الشر والفساد ففي الآية الأولى [102] يخبر تعالى أن اليهود لما نبذوا التوراة لتقريرها بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتأكيدها لصحة دينه اتبعوا الأباطيل والترهات التي جمعها شياطين الإنس والجن في صورة رقى وعزائم وكانوا يحدثون بها، ويدعون أنها من عهد سليمان بن داود عليهما السلام وأنها هي التي كان سليمان يحكم بها الإنس والجن، ولازم هذا أن سليمان لم يكن رسولا ولا نبيا وإنما كان ساحرا كافرا فلذا نفى الله تعالى عنه ذلك بقوله: { وما كفر سليمن } وأثبته للشياطين فقال: { ولكن الشيطين كفروا يعلمون الناس السحر }. كما يعلمونهم ما ألهمه الملكان هاروت وماروت ببابل العراق من ضروب السحر وفنونه وهنا أخبرنا تعالى عن ملكي الفتنة أنهما يقولان لمن جاءهما يريد تعلم السحر: إنما نحن فتنة فلا تكفر بتعلمك السحر وهذا القول منهما يفهم منه بوضوح أن أقوال الساحر وأعماله التي يؤثر بها على الناس منها ما هو كفر في حكم الله وشرعه قطعا.
كما أخبر تعالى في هذه الآية أن ما يتعلمه الناس من الملكين إنما يتعلمونه ليفرقوا بين الرجل وامرأته ، وأن ما يحدث به من ضرر هو حاصل بإذن الله تعالى حسب سنته في الأسباب والمسببات، ولو شاء الله أن يوجد مانعا يمنع من حصول الأمر بالضرر لفعل وهو على كل شىء قدير. فبهذا متعلموا السحر بسائر أنواعه إنما هم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. وفي آخر الآية يقرر تعالى علم اليهود بكفر الساحر ومتعلم السحر ومتعاطيه حيث أخبر تعالى أنهم لا نصيب لهم في الآخرة من النعيم المقيم فيها فلذا هم كفار قطعا.
وأخيرا يقبح تعالى ما باع به اليهود أنفسهم، ويسجل عليهم الجهل بنفي العلم إذ قال تعالى: { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }.
وفي الآية الثانية [103] يفتح تعالى على اليهود باب التوبة فيعرض عليهم الإيمان والتقوى فيقول: { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون }.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- الإعراض عن الكتاب والسنة لتحريمهما الشر والفساد والظلم يفتح أمام المعرضين أبواب الباطل من القوانين الوضعية، والبدع الدينية، والضلالات العقلية قال تعال:
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل
[الزخرف: 36-37] (سبيل السعادة والكمال)
ويحسبون أنهم مهتدون
[الزخرف: 37].
2- كفر الساحر وحرمة تعلم السحر، وحرمة استعماله.
3- الله تعالى خالق الخير والضير ولا ضرر ولا نفع إلا بإذنه فيجب الرجوع إليه في جلب النفع، ودفع الضر بدعائه والضراعة إليه.
4- العلم المبهم كالظن الذي لا يقين معه لا يغير من نفسية صاحبه شيئا فلا يحمله على فعل خير ولا على ترك شر بخلاف الرسوخ في العلم فإن صاحبه يكون لديه من صادق الرغبة وعظيم الرهبة ما يدفعه إلى الإيمان والتقوى ويجنبه الشرك والمعاصي. وهذا ظاهر في نفي الله تعالى العلم عن اليهود في هاتين الآيتين.
[2.104-105]
شرح الكلمات:
راعنا: أمهلنا وانظرنا حتى نعي ما تقول.
انظرنا: أمهلنا حتى نفهم ما تقول ونحفظ.
الكافرين: الجاحدين المكذبين لله ورسوله المستهزئين بهما أو بأحدهما.
أليم: كثير الألم شديد الإيجاع.
من أهل الكتاب ولا المشركين: اليهود والنصارى والوثنيين من العرب وغيرهم.
من خير من ربكم: من الوحي الإلهي المشتمل على التشريع المتضمن لكل أنواع الهداية وطرق الإسعاد والإكمال في الدارين.
الفضل: ما كان من الخير غير محتاج إليه صاحبه، والله عز وجل هو صاحب الفضل إذ كل ما يمن به ويعطيه عباده من الخير هو في غنى عنه ولا حاجة به إليه أبدا.
معنى الآيتين:
أما الآية الأولى [104] فقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يراعوا الأدب في مخاطبة نبيهم صلى الله عليه وسلم تجنبا للكلمات المشبوهة ككلمة راعنا، إذ قد تكون من الرعونة، ولما تدل عليه صيغة المفاعلة إذ كأنهم يقولون راعنا نراعك، وهذا لا يليق أن يخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأرشدهم تعالى إلى كلمة سليمة من كل شبهة تنافي الأدب وهي انظرنا، وأمرهم أن يسمعوا لنبيهم إذا خاطبهم حتى لا يضطروا إلى مراجعته؛ إذ الاستهزاء بالرسول والسخرية منه ومخاطبته بما يفهم الاستخفاف بحقه وعلو شأنه وعظيم منزلته كفر بواح.
وفي الآية الثانية [105] أخبر تعالى عباده المؤمنين بأن الكافرين من أهل الكتاب ومن غيرهم من المشركين الوثنيين لا يحبون أن ينزل عليكم من خير من ربكم وسواء كان قرآنا يحمل أسمى الآداب وأعظم الشرائع وأهدى سبل السعادة والكمال، أو كان غير ذلك من سائر أنواع الخيرات، وذلك حسدا منهم للمؤمنين كما أخبرهم أنه تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده فحسد الكافرين لكم لا يمنع فضل الله عليكم ورحمته بكم متى أرادكم بذلك.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطبته بعدم استعمال أي لفظة قد تفهم غير الإجلال والإكبار له صلى الله عليه وسلم.
2- وجوب السماع لرسول الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، وعند مخاطبته لمن أكرمهم الله تعالى بمعايشته والوجود معه.
3- التحذير من الكافرين كتابيين أو مشركين لأنهم أعداء حسدة للمؤمنين فلا يحل الركون إليهم والإطمئنان إلى أقوالهم وأفعالهم، إذ الريبة لا تفارقهم.
[2.106-108]
شرح الكلمات:
ننسخ: نبدل أو نزيل.
من آية: من آيات القرآن: جملة كلمات تحمل معنى صحيحا كالتحريم أو التحليل، أو الإباحة.
ننسها: نمحها من قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
ألم تعلم: الاستفهام للتقرير.
ولي: حافظ يحفظكم بتولي أموركم.
نصير: ناصر يدفع عنكم المكروه.
أم تريدون: بل أتريدون، إذ أم هنا للإضراب الانتقالي فهي بمعنى بل والهمزة، وما سئله موسى هو قول بني إسرائيل له:
أرنا الله جهرة
[النساء: 153].
سواء السبيل: وسط الطريق الآمن من الخروج عن الطريق.
معنى الآيات:
يخبر تعالى رادا على الطاعنين في تشريعه الحكيم الذين قالوا إن محمدا يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غدا أنه تعالى ما ينسخ من آية تحمل حكما شاقا على المسلمين إلى حكم أخف كنسخ الثبوت لعشرة في قتال الكافرين إلى الثبوت إلى إثنين. أو حكما خفيفا إلى شاق زيادة في الأجر كنسخ يوم عاشوراء بصيام رمضان، أو حكما خفيفا إلى حكم خفيف مثله كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، أو حكما إلى غير حكم آخر كنسخ صدقة من أراد أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الحكم رفع ولم يشرع حكم آخر بدلا عنه، أو نسخ الآية بإزالتها من التلاوة ويبقى حكمها كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله فقد نسخ اللفظ من التلاوة وبقي الحكم. أو بنسخ الآية وحكمها. وهذا معنى قوله أو ننسها وهي قراءة نافع، فقد ثبت أن قرآنا نزل وقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه ثم نسخه الله تعالى لفظا ومعنى فمحاه من القلوب بالمرة فلم يقدر على قراءته أحد. وهذا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية الدال عليه قوله: { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } ، وهو أيضا مظهر من مظاهر التصرف الحكيم الدال عليه قوله: { ألم تعلم أن الله له ملك السموت والأرض } فهو تعالى يتصرف فينسخ ويبقي ويأتي بخير مما نسخ أو بمثله بحسب حاجة الأمة ومتطلبات حياتها الروحية والمادية. فسبحانه من إله قدير حكيم: ينسي ما يشاء وينسخ ما يريد.
أما قوله تعالى في آية [108]: { أم تريدون أن تسألوا رسولكم } ، فهو توبيخ لمن طالب الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور ليس في مكنته، وإعلام بأن من يجري على أسلوب التعنت وسوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم قد يصاب بزيغ القلب فيكفر، دل على هذا قوله تعالى: { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سوآء السبيل }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ثبوت النسخ في القرآن الكريم، كما هو ثابت في السنة، وهما أصل التشريع ولا نسخ في قياس ولا إجماع.
2- رأفة الله تعالى بالمؤمنين في نسخ الأحكام وتبديلها بما هو نافع لهم في دنياهم وآخرتهم.
3- وجوب التسليم لله والرضا بأحكامه، وعدم الاعتراض عليه تعالى.
4- ذم التنطع في الدين وطرح الأسئلة المحرجة والتحذير من ذلك.
[2.109-110]
شرح الكلمات:
ود: أحب.
أهل الكتاب: اليهود والنصارى.
حسدا: الحسد تمني زوال النعمة على من هي به.
تبين لهم الحق: عرفوا أن محمدا رسول الله وأن دينه هو الدين الحق.
فاعفوا واصفحوا: لا تؤاخذوهم ولا تلوموهم، إذ العفو ترك العقاب والصفح الإعراض عن المذنب.
حتى يأتي الله بأمره: أي الإذن بقتالهم والمراد بهم يهود المدينة وهم بنو قينقاع وبنو النضير، وبنو قريظة.
وأقيموا الصلاة: إقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها مستوفاة الشروط والأركان والسنن.
وآتوا الزكاة: أعطوا زكاة أموالكم وافعلوا كل ما من شأنه يزكي أنفسكم من الطاعات.
معنى الآيتين:
في الآية الأولى [109] يخبر تعالى المؤمنين بنفسية كثير من أهل الكتاب وهي الرغبة الملحة في أن يتخلى المسلمون عن دينهم الحق ليصبحوا كافرين ومنشأ هذه الرغبة الحسد الناجم عن نفسية لا ترغب أن ترى المسلمين يعيشون في نور الإيمان بدل ظلمات الكفر، وبعد أن أعلم عباده المؤمنين بما يضمر لهم أعداؤهم، أمرهم بالعفو والصفح لأن الوقت لم يحن بعد لقتالهم فإذا حان الوقت قاتلوهم وشفوا منهم صدورهم.
وفي الآية الثانية [110] أمر الله تعالى المؤمنين بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات تهذيبا لأخلاقهم وتزكية لنفوسهم وواعدهم بحسن العاقبة بقوله: { إن الله بما تعملون بصير }.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- اليهود والنصارى يعلمون أن الإسلام حق وأن المسلمين على حق فحملهم ذلك على حسدهم ثم عداوتهم، والعمل على تكفيرهم.. وهذه النفسية ما زالت طابع أهل الكتاب إزاء المسلمين إلى اليوم.
2- في الظرف الذي لم يكن مواتيا للجهاد على المسلمين أن يشتغلوا فيه بالإعداد للجهاد، وذلك بتهذيب الأخلاق والأرواح وتزكية النفوس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات إبقاء على طاقاتهم الروحية والبدنية إلى حين يؤذن لهم بالجهاد.
3- تقوية الشهور بمراقبة الله تعالى ليحسن العبد نيته وعمله.
[2.111-113]
شرح الكلمات:
الجنة: دار النعيم وتسمى دار السلام وهي فوق السماء السابعة.
هودا: يهودا.
نصارى: صليبيين مسيحيين.
أمانيهم: جمع أمنية ما يتمناه المرء بدون ما يعمل للفوز به، فيكون غرورا.
البرهان: الحجة الواضحة.
بلى: حرف إجابة يأتي بعد نفي مقرون باستفهام غالبا نحو قوله تعالى:
أليس الله بأحكم الحاكمين
[التين: 8] بلى أي هو أحكم الحاكمين، ولما ادعى اليهود والنصارى أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا قال تعالى: بلى أي ليس الأمر كما تزعمون فلا يدخل الجنة يهودي ولا نصراني ولكن يدخلها من أسلم وجهه لله وهو محسن أي عبد آمن فصدق وعمل صالحا فأحسن.
ليست على شيء: أي من الدين الحق.
يتلون الكتاب: أي التوراة والإنجيل.
الذين من قبلهم: هذا اللفظ صادق على مشركي العرب، وعلى غيرهم من أمم جاهلة سبقت.
سبب نزول الآيتين ومعناهما:
لما جاء وفد نصارى نجران إلى المدينة التقى باليهود في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ولعدائهم السابق تماروا فادعت اليهود أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا، وادعت النصارى أن الجنة لا يدخلها إلا من كان نصرانيا فرد الله تعالى عليهم وأبطل دعواهم حيث طالبهم بالبرهان عليها فلم يقدروا وأثبت تعالى دخول الجنة لمن زكى نفسه بالإيمان الصحيح والعمل الصالح فقال: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن } يريد قلبه وجوارحه فآمن ووحد وعمل صالحا فأحسن فهذا الذي يدخل الجنة وهي أجره على إيمانه وصالح أعماله، فلا هو يخاف ولا يحزن.
هذا معنى الآيتين ألأولى [111] والثانية [112] وأما الآية الثالثة [113] فقد سجلت كفر كل من اليهود والنصارى، بشهادتهم على بعضهم بعضا فقد كفر اليهود النصارى بقولهم: إنهم ليسوا على شيء من الدين الحق الذي يعتد به ويؤبه له، وكفر النصارى اليهود بقولهم: ليست اليهود على شيء مع أنهم يقرأون التوراة والإنجيل فلذا كان تكفيرهم لبعضهم البعض حقا وصدقا. ثم أخبر تعالى أن ما وقع فيه اليهود والنصارى وهم أهل كتاب من الكفر والضلال قد وقع فيه أمم قبلهم دون علم منهم وذلك لجهلهم، وأخبر تعالى أنه سيحكم بينهم يوم القيامة ويجزيهم بكفرهم وضلالهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إبطال تأثير النسب في السعادة والشقاء، وتقرير أن السعادة بدخول الجنة مردها إلى تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، وإن الشقاوة بدخول النار مردها إلى الشرك، وارتكاب الذنوب. فلا نسبة إلى يهودية أو نصرانية أو غيرهما تغني عن صاحبها، وإنما المغني بعد فضل الله ورحمته الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي.
2- كفر اليهود والنصارى وهو شر كفر لأنه كان على علم.
3- الإسلام الصحيح القائم على أسسه الثلاثة الإيمان والإسلام والإحسان هو سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة.
[2.114-115]
شرح الكلمات:
ومن أظلم: الاستفهام للإنكار والنفي، والظلم وضع الشيء في غير محله مطلقا.
سعى في خرابها: عمل في هدمها وتخريبها حقيقة أو بمنع الصلاة فيها وصرف الناس عن التعبد فيها إذ هذا من خرابها أيضا.
الخزي: الذل والهوان.
فثم وجه الله: هناك الله إذ الله عز وجل محيط بخلقه فحيثما اتجه العبد شرقا أو غربا شمالا أو جنوبا وجد الله تعالى، إذ الكائنات كلها بين يديه وكيف لا يكون ذلك وقد أخبر عن نفسه أن الأرض قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، فليس هناك جهة تخلو من علم الله تعالى وإحاطته بها وقدرته عليها. ويقرر هذا قوله: { إن الله واسع عليم } ، إنه واسع الذات والعلم والفضل والجود والكرم عليم بكل شيء لأنه محيط بكل شيء.
شرح الآيتين:
ففي الآية الأولى [114] ينفي تعالى أن يكون هناك من هو أكثر ظلما ممن منع مساجد الله تعالى أن يعبد الله تعالى فيها، لأن العبادة هي علة الحياة فمن منعها كان كمن أفسد الحياة كلها وعطلها، وفي نفس الوقت ينكر تعالى هذا الظلم على فاعليه وسواء كانوا قريشا بصدهم النبي وأصحابه عن المسجد الحرام، أو فلطيوس ملك الروم الذي خرب المسجد الأقصى أو غيرهم ممن فعلوا هذا الفعل أو من سيفعلونه مستقبلا، ولذا ضمن تعالى قوله ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، أمر المسلمين بجهاد الكافرين وقتالهم حتى يسلموا أو تكسر شوكتهم فيذلوا ويهونوا.
وفي الآية الثانية [115] يخبر تعالى رادا على اليهود الذين انتقدوا أمر تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، مؤذنا بجواز صلاة من جهل القبلة أو خفيت عليه إلى أي جهة كانت فأخبر تعالى أن له المشرق والمغرب خلقا وملكا وتصرفا، يوجه عباده إلى الوجهة التي يشاؤها شرقا أو غربا جنوبا أو شمالا، فلا اعتراض عليه ولا إنكار وأن الله تعالى محيط بالكائنات فحيثما توجه العبد في صلاته فهو متوجه إلى الله تعالى، إلا أنه تعالى أمر بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة فمن عرف جهتها لا يجوز له أن يتجه إلا إليها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عظم جريمة من يتعرض للمساجد بأي أذى أو إفساد.
2- وجوب حماية المساجد من دخول الكافرين إلا أن يدخلوها بإذن المسلمين وهم أذلاء صاغرون.
3- صحة صلاة النافلة على المركوب في السفر إلى القبلة وإلى غيرها.
4- وجوب استقبال القبلة إلا عند العجز فيسقط هذا الواجب.
5- العلم بإحاطة الله تعالى بالعوالم كلها قدرة وعلما فلا يخفى عليه من أمر العوالم شيء ولا يعجزة آخره.
[2.116-119]
شرح الكلمات:
سبحانه: تنزه وتقدس عن كل نقص ومنه أن يكون له ولد.
قانتون: خاضعون مطيعون تجري عليهم أقداره وتنفذ فيهم أحكامه.
بديع السماوات: مبدعها أي موجدها على غير مثال سابق.
قضى أمرا: حكم بإيجاده.
أو تأتينا آية: كآيات موسى وعيسى في العصا وإحياء الموتى.
ولا تسأل: قرىء بالتاء للمجهول، ولا نافية والفعل مرفوع وقرىء بالبناء للمعلوم ولا ناهية والفعل مجزوم.
الجحيم: دركة من دركات النار وهي أشدها عذابا .
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أباطيل الكافرين من أهل الكتاب والمشركين والرد عليها بما يظهر زيفها ويبطلها نهائيا ففي الآيتين الأولى [116] والثانية [117] يذكر تعالى قول أهل الكتاب والمشركين في أن الله اتخذ ولدا إذا قالت اليهود العزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال بعض مشركي العرب الملائكة بنات الله، ذكر تعالى قولهم اتخذ الله ولدا ثم نزه نفسه عن هذا القول الباطل والفرية الممقوتة، وذكر الأدلة المنطقية العقلية على بطلان الدعوى.
فأولا: ملكية الله تعالى لما في السماوات والأرض، وخضوع كل من فيهما لحكمه وتصريفه وتدبيره يتنافى عقلا مع اتخاذ ولد منهم.
ثانيا: قدرة الله تعالى المتجلية في إبداعه السماوات والأرض وفي قوله للشيء كن فيكون يتنافى معها احتياجه إلى الولد، وهو مالك كل شيء ورب كل شيء وفي الآية الثالثة [118] يرد تعالى على قولة المشركين الجاهلين: { لولا يكلمنا الله أو تأتينآ آية } حيث اقترحوا ذلك ليؤمنوا ويوحدوا فأخبر تعالى أن مثل هذا الطلب طلبه من قبلهم فتشابهت قلوبهم في الظلمة والإنتكاس، فقد قال اليهود لموسى أرنا الله جهرة، أما رؤية الله وتكليمه إياهم فغير ممكن في هذه الحياة حياة الامتحان والتكليف ولذا لم يجب إليه أحدا من قبلهم ولا من بعدهم، وأما الآيات فما أنزل الله تعالى وبينه في كتابه من الآيات الدالة على الإيمان بالله ووجوب عبادته وتوحيده فيها، وعلى صدق نبيه في رسالته ووجوب الإيمان به واتباعه كاف ومغن عن أية آية مادية يريدونها، ولكن القوم لكفرهم وعنادهم لم يروا في آيات القرآن ما يهديهم وذلك لعدم إيقانهم، والآيات يراها وينتفع بها الموقنون لا الشاكون المكذبون.
وفي الآية الرابعة [119] يخفف تعالى على نبيه هم مطالبة المشركين بالآيات بأنه غير مكلف بهداية أحد ولا ملزم بإيمان آخر، ولا هو مسئول يوم القيامة عمن يدخل النار من الناس، إذ مهمته محصورة في التبشير والإنذار تبشير من آمن وعمل صالحا بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وإنذار من كفر وعمل سوءا بدخول النار والعذاب الدائم فيها .
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة نسبة أي شيء إلى الله تعالى بدون دليل من الوحي الإلهي إذ أنكر تعالى نسبة الولد إليه أنكره على أهل الكتاب والمشركين معا.
2- تشابه قلوب أهل الباطل في كل زمان ومكان لاستجابتهم للشيطان وطاعتهم له.
3- لا ينتفع بالآيات إلا أهل اليقين لصحة عقولهم وسلامة قلوبهم.
4- على المؤمن أن يدعو إلى الله تعالى، وليس عليه أن يهدى، إذ الهداية بيد الله، وأما الدعوة فهي في قدرة الإنسان، وهو مكلف بها.
[2.120-121]
شرح الكلمات:
ملتهم: دينهم الذي هم عليه من يهودية ونصرانية.
قل إن الهدى هدى الله: الهدى ما أنزل به كتابه وبعث به رسوله وهو الإسلام، لا ما ابتدعه اليهود والنصارى من بدعة اليهودية والنصرانية.
من ولي ولا نصير: الولي من يتولاك ويكفيك أمرك والنصير من ينصرك ويدفع عنك الأذى.
يتلونه حق تلاوته: لا يحرفون كلمه عن مواضعه ولا يكتمون الحق الذي جاء فيه من نعت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وغيره.
أولئك هم الخاسرون: المشار إليهم كفار أهل الكتاب والخسران خسران الدنيا والآخرة.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في أهل الكتاب يكشف عوارهم ويدعوهم إلى الهدى لو كانوا يهتدون ففي الآية الأولى [120] يخبر تعالى رسوله وأمته تابعة له أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم الباطلة وهي اليهودية أو النصرانية، وفي هذا نهي عن اتباعهم ثم أمره أن يخبرهم أن الهدى هدى الله الذي هو الإسلام وليس اليهودية ولا النصرانية إذ هما بدعتان من وضع أرباب الأهواء والأطماع المادية.
ثم يحذر الله رسوله وأمته من اتباع اليهود والنصارى بعد الذي جاءهم من العلم والنعمة التي أتمها عليهم وهي الإسلام فيقول: { ولئن اتبعت أهوآءهم بعد الذي جآءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير }.
وفي الآية الثانية [121] يخبر تعالى أن الذين آتاهم الله الكتاب التوراة والإنجيل فكانوا يتلونه حق تلاوته فلا يحرفون ولا يكتمون هؤلاء يؤمنون بالكتاب حق الإيمان أما الذين يحرفون كلام الله ويكتمون ما جاء فيه من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء لا يؤمنون به وهم الخاسرون دون غيرهم، ومن آمن من أهل الكتاب بكتابه وتلاه حق تلاوته سوف يؤمن بالنبي الأمي ويدخل في دينه قطعا.
هداية الآيات:
من هداية الآيتين:
1- لا يحصل المسلم على رضا اليهود والنصارى إلا بالكفر بالإسلام واتباع دينهم الباطل وهذا ما لا يكون للمسلم أبدا فلذا طلب رضا اليهود والنصارى محرم لا يحل أبدا.
2- لا دين حق إلا الإسلام فلا ينبغي أن يلتفت إلى غيره بالمرة.
3- من يوالي اليهود والنصارى باتباعهم على باطلهم يفقد ولاية الله تعالى ويحرم نصرته.
4- طريق الهداية في تلاوة كتاب الله حق تلاوته بأن يجوده قراءة ويتدبره هداية ويؤمن بحكمه ومتشابهه، ويحلل حلاله ويحرم حرامه، ويقيم حدوده كما يقيم حروفه.
[2.122-123]
شرح الكلمات:
إسرائيل: لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وبنو إسرائيل: هم اليهود.
العالمين: البشر الذين كانوا في زمانهم مطلقا.
لا تجزي: لا تقضي ولا تغني.
العدل: الفداء.
شفاعة: وساطة أحد.
معنى الآيتين:
يعظ الرحمن عز وجل اليهود فيناديهم بأشرف ألقابهم ويأمرهم بذكر نعمه تعالى عليهم وهي كثيرة، ويأمرهم أن يذكروا تفضيله تعالى لهم على عالمي زمانهم والمراد من ذكر النعم شكرها فهو تعالى في الحقيقة يأمرهم بشكر نعمه وذلك بالإيمان به وبرسوله والدخول في دينه الحق (الإسلام).
كما يأمرهم باتقاء عذاب يوم القيامة حيث لا تغني نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها فداء ولا تنفعها شفاعة وهذه هي نفس الكافر والمشرك حيث لا شفاعة تنال الكافر أو المشرك، ولا يوجد لهم ناصر ينصرهم فيدفع عنهم العذاب إذ اتقاء عذاب يوم القيامة يكون بالإيمان بالله ورسوله والعمل الصالح، بعد التخلي عن الكفر والمعاصي.
هداية الآيتين:
1- وجوب ذكر نعم الله على العبد ليجد بذلك دافعا نفسيا لشكرها، إذ غاية الذكر هي الشكر.
2- وجوب اتقاء عذاب يوم القيامة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والعصيان.
3- استحالة الفداء يوم القيامة، وتعذر وجود شافع يشفع لمن مات على الشرك لا بإخراجه من النار، ولا بتخفيف العذاب عنه .
[2.124]
شرح الكلمات:
ابتلى: اختبره بتكليفه بأمور شاقة عليه.
بكلمات: متضمنة أوامر ونواهي.
أتمهن: قام بهن وأداهن على أكمل الوجوه وأتمها.
إماما: قدوة صالحة يقتدى به في الخير والكمال.
الظالمين: الكافرين والمشركين والفاسقين المعتدين على الناس.
معنى الآية الكريمة:
بعد ذلك الحجاج الطويل الذي عاشه رسول الله مع طائفتي أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذا المشركين في الآيات السابقة لهذه الآية أمر تعالى رسوله أن يذكر ابتلاءه تعالى لنبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بما كلفه به من أوامر ونواهي فقام بها خير قيام فأنعم عليه بأكبر إنعام وهو أنه جعله إماما للناس، ومن أبرز تلك التكاليف وقوفه في وجه الوثنيين، وتحطيم أوثانهم، والهجرة من ديارهم والهم بذبح ولده إسماعيل قربانا لله، وبناء البيت، وحجه والدعوة إليه مما استحق به الإمامة للناس كافة وفي هذا تبكيت للفرق الثلاثة العرب المشركين واليهود والنصارى إذ كلهم يدعي انتماءه لإبراهيم والعيش على ملته فها هو ذا إبراهيم موحد وهم مشركون، عادل وهم ظالمون، متبع للوحي الإلهي وهم به كافرون ولصاحبه مكذبون وفي الآية بيان رغبة إبراهيم في أن تكون الإمامة في ذريته وهي رغبة صالحة فجعلها الله تعالى في ذريته كما رغب واستثنى تعالى الظالمين فإنهم لا يستحقونها فهي لا تكون إلا في أهل الخير والعدل والرحمة لا تكون في الجبابرة القساة ولا الظالمين العتاة.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- الإمامة لا تنال إلا بصحة اليقين والصبر على سلوك سبيل المهتدين.
2- مشروعية ولاية العهد، بشرط أن لا يعهد إلا إلى من كان على غاية من الإيمان والعلم والعمل والعدل والصبر.
3- القيام بالتكاليف الشرعية قولا وعملا يؤهل لأن يكون صاحبه قدوة صالحة للناس.
[2.125-126]
شرح الكلمات:
البيت: الكعبة التي هي البيت الحرام بمكة المكرمة.
مثابة: مرجعا يثوب إليه العمار والحجاج.
أمنا: مكانا آمنا يأمن فيه كل من دخله.
مقام ابراهيم: الحجر الذي كان قد قام عليه ابراهيم أيام كان يبني البيت وذلك أنه لما ارتفع البناء احتاج إبراهيم إلى حجر عال يرقى عليه ليواصل بناء الجدران فجيء بهذا الحجر فقام عليه فسمي مقام إبراهيم.
مصلى: مكان يصلى فيه أو عنده أو إليه.
عهدنا: وصينا وأمرنا.
تطهير البيت: تنزيهه عن الأقذار الحسية كالدماء والأبوال ومعنوية كالشرك والبدع والمفاسد.
اضطره: ألجئه مكرها إلى العذاب.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في تذكير المشركين وأهل الكتاب معا بأبي الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم عليه السلام، ومآثره الطيبة الحميدة، ومواقفه الإيمانية العظيمة ليتجلى بذلك بطلان دعوى كل من أهل الكتاب والمشركين في انتسابهم إلى إبراهيم كذبا وزورا إذ هو موحد وهم مشركون وهو مؤمن وهم كافرون فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اذكر لهم كيف جعلنا البيت مثابة للناس يثوبون إليه في كل زمان حجاجا وعمارا، وأمنا دائما من دخله أمن على نفسه وماله وعرضه. وقلنا لمن حجوا البيت أو اعتمروا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فكان من سنة من طاف بالبيت أن يصلى خلف المقام ركعتين، كما أوصينا من قبل إبراهيم وولده إسماعيل بتطهير البيت من كل رجس معنويا كالأصنام وعبادة غير الله تعالى أو حسيا كالأقذار والأوساخ من دم أو بول حتى يتمكن الطائفون والعاكفون والمصلون من أداء هذه العبادات بلا أي أذى يلحقهم أو يضايقهم.
هذا ما تضمنته الآية [125] أما الثانية [126] فقد تضمنت أمر الله تعالى لرسوله أن يذكر دعوة إبراهيم ربه بأن يجعل مكة بلدا آمنا من دخله يأمن فيه على نفسه وماله وعرضه، وأن يرزق أهله وسكانه المؤمنين من الثمرات وأن الله قد استجاب لإبراهيم دعوته إلا أن الكافرين لا يحرمون الرزق في الدنيا ولكن يحرمون الجنة في الدار الآخرة حيث يلجئهم تعالى مضطرا لهم إلى عذاب النار الغليظ وبئس هذا المصير الذي يصيرون إليه - وهو النار - من مصير.
هداية الآيات:
من هداية الآيتين:
1- منة الله تعالى بجعل البيت مثابة للناس وأمنا توجب حمد الله على كل مؤمن.
2- سنة صلاة ركعتين خلف المقام لمن طاف بالبيت.
3- وجوب حماية البيت والمسجد الحرام من أي ضرر يلحق من يوجد فيه من طائف وعاكف وقائم وراكع وساجد.
4- بركة دعوة إبراهيم لأهل مكة، واستجابة الله تعالى له دعوته فلله الحمد والمنة.
5- الكافر لا يحرم الرزق لكفره بل له الحق في الحياة إلا أن يحارب فيقتل أو يسلم.
6- مصير من مات كافرا إلى النار، لا محالة، والموت في الحرم لا يغني عن الكافر شيئا.
[2.127-129]
شرح الكلمات:
وإذ: ظرف لما مضى من الزمان ويعلق بمحذوف تقديره أذكر وقت كذا وكذا.
القواعد: جمع قاعدة ما يبنى عليه الجدار من أساس ونحوه.
البيت: الكعبة حماها الله وطهرها.
إنك أنت السميع العليم: هذه الجملة وسيلة توسل بها إبراهيم وولده لقبول دعائهما.
مسلمين: منقادين لك خاضعين لأمرك ونهيك راضين بحكمك عابدين لك.
أرنا مناسكنا: علمنا كيف نحج بيتك، تنسكا وتعبدا لك.
تب علينا: وفقنا للتوبة إذا زللنا واقبلها منا.
وابعث فيهم رسولا: هذا الدعاء استجابة الله تعالى، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو ما طلباه.
الكتاب: القرآن.
الحكمة: السنة وأسرار الشرع والإصابة في الأمور كلها.
يزكيهم: يطهر أرواحهم ويكمل عقولهم، ويهذب أخلاقهم بما يعلمهم من الكتاب والحكمة، وما بينه لهم من ضروب الطاعات.
العزيز الحكيم: العزيز الغالب الذي لا يغلب. الحكيم في صنعه وتدبيره بوضع كل شيء في موضعه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر مآثر إبراهيم عليه السلام المنبئة عن مكانته السامية في كمال الإيمان والطاعة، وعظيم الرغبة في الخير والرحمة فقد تضمنت الآيات الثلاث ذكر إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيان البيت برفع قواعده وهما يدعوان الله تعالى بأن يتقبل منهما عملهما متوسلين إليه بأسمائه وصفاته { إنك أنت السميع العليم }.
كما يسألانه عز وجل أن يجعلهما مسلمين له وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة له مؤمنة به موحدة له ومنقادة لأمره ونهيه مطيعة، وأن يعلمهما مناسك حج بيته العتيق ليحجاه على علم ويتوب عليهما، كما سألاه عز وجل أن يبعث في ذريتهما رسولا منهم يتلو عليهم آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم بالإيمان وصالح الأعمال، وجميل الخلال وطيب الخصال.
وقد استجاب الله تعالى دعاءهما فبعث في ذريتهما من أولاد إسماعيل إمام المسلمين وقائد الغر المجحلين نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وقد قرر هذا صلى الله عليه وسلم بقوله:
" أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى... عليهم جميعا السلام ".
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل الإسهام بالنفس في بناء المساجد.
2- المؤمن البصير في دينه يفعل الخير وهو خائف أن لا يقبل منه فيسأل الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته أن يتقبله منه.
3- مشروعية سؤال الله للنفس وللذرية الثبات على الإسلام حتى الموت عليه.
4- وجوب تعلم مناسك الحج والعمرة على من أراد أن يحج أو يعتمر.
5- وجوب طلب تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، وتهذيب الأخلاق بالعلم والحكمة.
6- مشروعية التوسل إلى الله تعالى في قبول الدعاء وذلك بأسمائه تعالى وصفاته لا بحق فلان وجاه فلان كما هو شأن المبتدعة والضلال في هذه الآيات الثلاث توسل إبراهيم وإسماعيل بالجمل التالية:
1- { إنك أنت السميع العليم }.
2- { إنك أنت التواب الرحيم }.
3- { إنك أنت العزيز الحكيم }.
[2.130-134]
شرح الكلمات:
ومن يرغب عن ملة إبراهيم: الرغبة عن الشيء عدم حبه وترك طلبه وملة إبراهيم هي عبادة الله وحده بما شرع لعباده.
إلا من سفه نفسه: لا يرغب عن ملة إبراهيم التي هي دين الإسلام إلا عبد جهل قدر نفسه فأذلها وأهانها بترك سبيل عزها وكمالها وإسعادها وهي الإسلام.
اصطفيناه: اخترناه لرسالتنا والبلاغ عنا، ومن ثم رفعنا شأنه وأعلينا مقامه.
أسلم: انقد لأمرنا ونهينا فاعبدنا وحدنا ولا تلتفت إلى غيرنا.
اصطفى لكم الدين: اختار لكم الدين الإسلامي ورضيه لكم فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يعقوب: هو إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم وبنوه هم يوسف وإخوته.
أمة خلت: جماعة أمرها واحد. خلت: مضت إلى الدار الآخرة.
لها ما كسبت: أجر ما كسبته من الخير.
ولكم ما كسبتم: من خير أو غيره.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة مواقف إبراهيم السليمة الصحيحة عقيدة وإخلاصا وعملا صالحا وصدقا ووفاء فوضح بذلك ما كان عليه إبراهيم من الدين الصحيح قال تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } تلك الملة الحنيفية الواضحة السهلة. اللهم لا أحد يرغب عنها إلا عبد جهل قدر نفسه، ولم يعرف لها حقها في الطهارة والصفاء والإكمال والإسعاد وضمن هذا الخبر ذكر تعالى إنعامه على إبراهيم وما تفضل به عليه من الإصطفاء في الدنيا والإسعاد في الآخرة في جملة الصالحين.
وفي الآية الثانية [131] يذكر تعالى أن ذاك إلا اصطفاء تم لإبراهيم عند استجابته لأمر ربه بالإسلام حيث أسلم ولم يتردد. وفي الآية الثالثة [132] يذكر تعالى إقامة الحجة على المشركين وأهل الكتاب معا إذ ملة الإسلام القائمة على التوحيد وصى بها إبراهيم بنيه، كما وصى بها يعقوب بنيه وقال لهم: لا تموتن إلا على الإسلام فأين الوثنية العربية واليهودية والنصرانية من ملة إبراهيم، ألا فليثب العقلاء إلى رشدهم.
وفي الآية الرابعة [133] يوبخ تعالى اليهود القائلين كذبا وزورا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية فقال تعالى: { أم كنتم شهدآء } أي أكنتم حاضرين لما حضر يعقوب الموت فقال لبنيه مستفهما إياهم: ما تعبدون من بعدي؟ فأجابوه بلسان واحد: { نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون } فإن قالوا كنا حاضرين فقد كذبوا وبهتوا ولعنوا وإن قالوا لم نحضر بطلت دعواهم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، وثبت أنه وصاهم بالإسلام لا باليهودية.
وفي الآية الأخيرة [134] ينهي تعالى جدل اليهود الفارغ فيقول لهم: { تلك أمة قد خلت } - يعني إبراهيم وأولاده - لها ما كسبت من الإيمان وصالح الأعمال، ولكم أنتم معشر يهود ما اكتسبتم من الكفر والمعاصي وسوف لا تسألون يوم القيامة عن أعمال غيركم وإنما تسألون عن أعمالكم وتجزون بها، فاتركوا الجدل وأقبلوا على ما ينفعكم في آخرتكم وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح، ولا يتم لكم هذا إلا بالإسلام فأسلموا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا يرغب عن الإسلام بتركه أو طلب غيره من الأديان إلا سفيه لا يعرف قدر نفسه.
2- الإسلام دين البشرية جمعاء، وما عداه فهي أديان مبتدعة باطلة.
3- استحباب الوصية للمريض يوصي فيها بنيه وسائر أفراد أسرته بالإسلام حتى الموت عليه.
4- كذب اليهود وبهتانهم وصدق من قال: اليهود قوم بهت.
5- يحسن بالمرء ترك الإعتزاز بشرف وصلاح الماضيين، والإقبال على نفسه بتزكيتها وتطهيرها.
6- سنة الله في الخلق أن المرء يجزى بعمله، ولا يسأل عن عمل غيره.
7- يطلق لفظ الأب على العم تغليبا وتعظيما.
[2.135-138]
شرح الكلمات:
تهتدوا: تصيبوا طريق الحق.
ملة إبراهيم: دين إبراهيم الذي كان عليه.
حنيفا: مستقيما على دين الله موحدا فيه لا يشرك بالله شيئا.
ما أوتي موسى: التوراة.
وما أوتي عيسى: الإنجيل.
في شقاق: خلاف وفراق وعداء لك وحرب عليك.
صبغة الله: دينه الذي طهرنا به ظاهرا وباطنا فظهرت آثاره علينا كما يظهر أثر الصبغ على الثوب المصبوغ.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام فقد قال اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. كونوا يهودا تهتدوا إلى الحق، وقالت النصارى من وفد نجران كذلك كونوا نصارى تهتدوا فحكى الله تعالى قولهم، وعلم رسوله أن يقول لهم لا نتبع يهودية ولا نصرانية بل نتبع دين إبراهيم الحنيف المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال.
وفي الآية الثانية [136] أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين أن يعلنوا في وضوح عن عقيدتهم الحقة وهي الإيمان بالله وما أنزل من القرآن، وما أنزل على الأنبياء كافة، وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والإنجيل خاصة، مع عدم التفرقة بين رسول ورسول والإسلام الظاهر والباطن لله رب العالمين.
وفي الآية الثالثة [137] يقول تعالى لرسوله والمؤمنين إن آمن اليهود والنصارى إيمانا صحيحا كإيمانكم فقد اهتدوا، وإن أبوا فتولوا وأعرضوا فأمرهم لا يعدو شقاقا وحربا لله ورسوله، والله تعالى سيكفيكهم بما يشاء وهو السميع لأقوالهم الباطلة العليم بأعمالهم الفاسدة، وقد أنجز تعالى وعده لرسوله فأخرج اليهود من المدينة بل ومن الحجاز مع ما جللهم به من الخزي والعار.
وفي الآية الرابعة [138] يقول تعالى لرسوله والمؤمنين ردا على اليهود والنصارى قولوا لهم: نتبع صبغة الله التي صبغنا بها وفطرته التي فطرنا عليها وهي الإسلام. ونحن له تعالى عابدون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا هداية إلا في الإسلام ولا سعادة ولا كمال إلا بالإسلام.
2- الكفر برسول، كفر بكل الرسل فقد كفر اليهود بعيسى، وكفر النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم فأصبحوا بذلك كافرين، وآمن المسلمون بكل الرسل فأصبحوا بذلك مؤمنين.
3- لا يزال اليهود والنصارى في عداء للإسلام وحرب على المسلمين، والمسلمون يكفيهم الله تعالى شرهم إذا هم استقاموا على الإسلام عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا وحكما.
4- الواجب على من دخل في الإسلام أن يغتسل غسلا كغسل الجنابة إذ هذا من صبغة الله تعالى، لا المعمودية النصرانية التي هي غمس المولود يوم السابع من ولادته في ماء يقال له المعمودي وإدعاء أنه طهر بذلك ولا يحتاج إلى الختان.
[2.139-141]
شرح الكلمات:
أتحاجوننا في الله: أتجادلوننا في دينه والإيمان به وبرسوله، والإستفهام للإنكار.
له مخلصون: مخلصون العبادة له، لا نشرك غيره فيها، وأنتم مشركون.
شهادة عنده من الله: المراد بهذه الشهادة ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهوره.
الغافل: من لا يتفطن للأمور لعدم مبالاته بها.
معنى الآيات:
يأمر تعالى رسوله أن ينكر على أهل الكتاب جدالهم في الله تعالى إذ ادعوا أنهم أولى بالله من الرسول والمؤمنين وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، فعلم الله رسوله كيف يرد عليهم منكرا عليهم دعواهم الباطلة. كما أفحمهم وقطع حجتهم في دعواهم أن إبراهيم والأنبياء بعده كانوا هودا أو نصارى، إذ قال له قل لهم: { أأنتم أعلم أم الله؟ } فإن قالوا نحن أعلم، كفروا وإن قالوا الله أعلم انقطعوا لأن الله تعالى أخبر أنهم ما كانوا أبدا يهودا ولا نصارى، ولكن كانوا مسلمين، ثم هددهم تعالى بجريمتهم الكبرى وهي كتمانهم الحق وجحودهم نعوت الرسول والأمر بالإيمان به عند ظهوره فقال ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، وما الله بغافل عما تعملون.
ثم أعاد لهم ما أدبهم به في الآيات السابقة مبالغة في تأديبهم وإصلاحهم لو كانوا أهلا لذلك فأعلمهم أن التمسح بأعتاب الماضين والتشبث بالنسب الفارغة إلى الأولين غير مجد لهم ولا نافع فليقبلوا على إنقاذ أنفسهم من الجهل والكفر بالإيمان والإسلام والإحسان، أما من مضوا فهم أمة قد أفضوا إلى ما كسبوا وسيجزون به، وأنتم لكم ما كسبتم وستجزون به، ولا تجزون بعمل غيركم ولا تسألون عنه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإخلاص وهو عدم الإلتفات إلى غير الله تعالى عند القيام بالعبادات.
2- كل امرىء يجزى بعمله، وغير مسئول عن عمل غيره، إلا إذا كان سببا فيه.
3- اليهودية والنصرانية بدعة ابتدعها اليهود والنصارى.
4- تفاوت الظلم بحسب الآثار المترتبه عليه.
5- حرمة كتمان الشهادة لا سيما شهادة من الله تعالى.
6- عدم الإتكال على حسب الآباء والأجداد، ووجوب الإقبال على النفس لتزكيتها وتطهيرها بالإيمان الصحيح والعمل الصالح.
[2.142-143]
شرح الكلمات:
السفهاء: جمع سفيه وهو من به ضعف عقلي لتقليده وإعراضه عن النظر نجم عنه فساد خلق وسوء سلوك.
ما ولاهم: ما صرفهم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة بمكة.
القبلة: الجهة التي يستقبلها المرء وتكون قبالته في صلاته.
أمة وسطا: وسط كل شيء خياره، والمراد منه أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم وأعدلها.
ينقلب على عقبيه: يرجع إلى الكفر بعد الإيمان.
لكبيرة: شاقة على النفس صعبة لا تطاق إلا بجهد كبير وهي التحويلة من قبلة مألوفة إلى قبلة حديثة.
إيمانكم: صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس قبل التحول إلى الكعبة.
رؤوف رحيم: يدفع الضرر عنكم ويفيض الإحسان عليكم.
معنى الآيتين:
يخبر الله تعالى بأمر يعلمه قبل وقوعه، وحكمة الإخبار به قبل وقوعه تخفيف أثره على نفوس المؤمنين إذ يفقد نقدهم المرير عنصر المفاجأة فيه فلا تضطرب له نفوس المؤمنين.
فقاله تعالى: { سيقول السفهآء من الناس ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ } وحصل هذا لما حول الله تعالى رسوله والمؤمنين من استقبال بيت المقدس في الصلاة إلى الكعبة تحقيقا لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ولعلة الاختبار التي تضمنتها الآية التالية فأخبر تعالى بما سيقوله السفهاء من اليهود والمنافقين والمشركين وعلم المؤمنين كيف يردون على السفهاء، فقال: قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فلا اعتراض عليه يوجه عباده حيث يشاء، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وفي الآية الثانية [143] يقول تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } خيارا عدولا أي كما هديناكم إلى أفضل قبلة وهي الكعبة قبلة إبراهيم عليه السلام جعلناكم خير أمة وأعدلها فأهلناكم بذلك للشهادة على الأمم يوم القيامة إذا أنكروا أن رسلهم قد بلغتهم رسالات ربهم، وأنتم لذلك لا تشهد عليكم الأمم ولكن يشهد عليكم رسولكم وفي هذا من التكريم والإنعام ما الله به عليم، ثم ذكر تعالى العلة في تحويل القبلة فقال: { وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع الرسول } فثبت على إيمانه وطاعته وانقياده لله ولرسوله ممن يؤثر فيه نقد السفهاء فتضطرب نفسه ويجاري السفهاء فيهلك بالردة معهم. ثم أخبر تعالى أن هذه التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة شاقة عل النفس إلا على الذين هداهم الله إلى معرفته ومعرفة محابه ومكارهه فهم لذلك لا يجدون أي صعوبة في الانتقال من طاعة إلى طاعة ومن قبلة إلى قبلة، مادام ربهم قد أحب ذلك وأمر به.
وأخيرا طمأنهم تعالى على أجور صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس وهي صلاة قرابة سبعة عشر شهرا بأنه لا يضيعها لهم بل يجزيهم بها كاملة سواء من مات منهم وهو يصلي إلى بيت المقدس أو من حيي حتى صلى إلى الكعبة وهذا مظهر من مظاهر رأفته تعالى بعباده ورحمته.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- جواز النسخ في الإسلام فهذا نسخ إلى بدل من الصلاة إلى بيت المقدس إلى الصلاة إلى الكعبة في مكة المكرمة.
2- الأراجيف وافتعال الأزمات وتهويل الأمور شأن الكفار إزاء المسلمين طوال الحياة فعلى المؤمنين أن يثبتوا ولا يتزعزعوا حتى يظهر الباطل وينكشف الزيف وتنتهي الفتنة.
3- أفضلية أمة الإسلام على سائر الأمم لكونها أمة الوسط والوسطية شعارها.
4- جواز امتحان المؤمن وجريانه عليه.
5- صحة صلاة من صلى إلى غير القبلة وهو لا يعلم ذلك وله أجرها وليس عليه إعادتها ولو صلى شهورا إلى غير القبلة ما دام قد اجتهد في معرفة القبلة ثم صلى إلى حيث أداه اجتهاده.
[2.144-147]
شرح الكلمات:
تقلب وجهك في السماء: تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظارا لنزول الوحي.
فلنولينك قبلة ترضاها: فلنحولنك إلى القبلة التي تحبها وهي الكعبة.
فول وجهك شطر المسجد: حول وجهك جهة المسجد الحرام بمكة.
الحرام: بمعنى المحرم لا يسفك فيه دم ولا يقتل فيه أحد.
الشطر: هنا الجهة واستقبال الجهة يحصل به استقبال بعض البيت في المسجد الحرام، لأن الشطر لغة: النصف أو الجزاء مطلقا.
أنه الحق من ربهم: أي تحول القبلة جاء منصوصا عليه في الكتب السابقة.
آية: حجة وبرهان.
يعرفونه: الضمير عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يعلمون أنه نبي الله ورسوله لما في كتبهم من صفاته الواضحة القطعية.
من الممترين: الشاكين والامتراء: الشك وعدم التصديق.
معنى الآيات:
يعلم الله تعالى رسوله أنه كان يراه وهو يقلب وجهه في السماء انتظارا لوحي يؤمر فيه باستقبال الكعبة بدل بيت المقدس لرغبته في مخالفة اليهود ولحبه لقبلة أبيه إبراهيم إذ هي أول قبلة وأفضلها فبناء على ذلك { فول وجهك شطر المسجد الحرام } ، وبهذا الأمر الإلهي تحولت القبلة وروي أنه كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة المعروف الآن بمسجد القبلتين فصلى الرسول والمؤمنون وراءه ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة، وكيلا تكون القبلة خاصة بمن كان بالمدينة قال تعالى: { وحيث ما كنتم } أي في نواحي البلاد وأقطار الأرض { فولوا وجوهكم شطره } أي شطر المسجد الحرام كما أخبر تعالى في هذه الآية أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن تحول القبلة حق وأنه بأمر الله تعالى وما أحدثوه من التشويش والتشويه إزاء تحول القبلة فقد علمه وسيجزيهم به إذ لم يكن تعالى بغافل عما يعملونه.
وفي الآية الثانية [145] يخبر تعالى بحقيقة ثابتة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أتى اليهود والنصارى بكل آية تدل على صدقه وأحقية القبلة إلى الكعبة ما كانوا ليتابعوه على ذلك ويصلوا إلى قبلته كما أن النصارى لم يكونوا ليصلوا إلى بيت المقدس قبلة اليهود، ولا اليهود ليصلوا إلى مطلع الشمس قبلة النصارى، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لم يكونوا أبدا ليتابعوا أهل الكتاب على قبلتهم بعد أن هداهم الله إلى أفضل قبلة وأحبها إليهم. وأخيرا يحذر الله رسوله أن يبتع أهواء اليهود فيوافقهم على بدعهم وضلالاتهم بعد الذي أعطاه من العلم وهداه إليه من الحق، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل ولو فعل لكان من الظالمين.
وفي الآية الثالثة [146] يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن الرسول حق وأن ما جاء به هو الحق معرفة تامة كمعرفتهم لأبنائهم، ولكن فريقا كبيرا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون أنه الحق، وفي الآية الرابعة [147] يخبر تعالى رسوله بأن ما هو عليه من الدين الحق هو الحق الوارد إليه من ربه فلا ينبغي أن يكون من الشاكين بحال من الأحوال.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب استقبال القبلة في الصلاة وفي أي مكان كان المصلي عليه أن يتجه إلى جهة مكة.
2- كفر كثير من أهل الكتاب كان على علم إيثارا للدنيا على الآخرة.
3- حرمة موافقة المسلمين أهل الكتاب على بدعة من بدعهم الدينية مهما كانت.
4- علماء أهل الكتاب المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم يعرفون أنه النبي المبشر به وأنه النبي الخاتم وأعرضوا عن الإيمان به وعن متابعته إيثارا للدنيا على الآخرة.
[2.148-152]
شرح الكلمات:
ولكل وجهة هو موليها: التنوين في (كل) دال على محذوف، هو لكل أهل ملة كالإسلام، واليهودية والنصرانية قبلة يولون وجوههم لها في صلاتهم.
الخيرات: البر والطاعة لله ورسوله.
الحجة: الدليل القوي الذي يظهر به صاحبه على من يخاصمه.
نعمتي: نعم الله كثيرة وأعظمها نعمة الاسلام وإتمامها بمواصلة التشريع والعمل به إلى نهاية الكمال، وكان ذلك في حجة الوداع بعرفات حيث نزلت آية:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلم دينا
[المائدة: 3].
رسولا: هو محمد صلى الله عليه وسلم والتنكير فيه للتعظيم.
يزكيكم: يطهركم من الذنوب والأخلاق السيئة والملكات الرديئة.
الحكمة: السنة وهي كل قول صالح لا ينتهي صلاحه ونفعه بمرور الزمن.
الشكر: إظهار النعمة بصرفها فيما من أجله وهبها الله تعالى لعباده.
والكفر: جحد النعم وإخفاؤها وصرفها في غير ما يحب الله تعالى.
معنى الآيات:
بعد تقرير تلك الحقيقة التي تضمنتها آية
ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب
[البقرة: 145] إلخ... وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أتى أهل الكتاب بكل آية تدل على صدقه في أمر القبلة ما تبعوا قبلته، وما هو بتابع قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض فلا اليهود يستقبلون مطلع الشمس ولا النصارى يستقبلون بيت المقدس. أخبر تعالى أن لكل أمة قبلة مولية وجهها إليها في صلاتها، فاتركوا أيها المسلمون أهل تلك الملل الضالة وسابقوا في الخيرات ونافسوا في الصالحات شكرا لربكم على نعمة هدايته لكم لقبلة أبيكم إبراهيم فإنه تعالى جامعكم ليوم القيامة وسائلكم ومجازيكم بأعمالكم إنه على كل شيء قدير، هذا ثم أمر الله رسوله أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام حيثما كان في الحضر كان أو في السفر وأعلمه أن تحوله إلى الكعبة حق ثابت من ربه تعالى فلا يتردد فيه.
هذا ما تضمنته الآيتان [148] و [149] وأما الآية [150] فإنه تعالى أمر رسوله والمؤمنين بأن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام حيثما كانوا وأينما وجدوا ويثبتوا على ذلك حتى لا يكون لأعدائهم من اليهود والمشركين حجة، إذ يقول اليهود: ينكرون ديننا ويستقبلون قبلتنا، ويقول المشركون: يدعون أنهم على ملة إبراهيم ويخالفون قبلته. هذا بالنسبة للمعتدلين منهم أما الظالمون والمكابرون فإنهم لا سبيل إلى إقناعهم إذ قالوا بالفعل: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين آبائه ويوشك أن يرجع إليه، فمثل هؤلاء لا يبالي بهم ولا يلتفت إليهم كما قال تعالى: { إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني }. فاثبتوا على قبلتكم الحق لأتم نعمتي عليكم بهدايتكم إلى أحسن الشرائع وأقومها، ولأهيئكم لكل خير وكمال مثل ما أنعمت عليكم بإرسال رسولي، يزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه من أمور الدين والدنيا معا وفي الآية الأخيرة [152] أمر تعالى المؤمنين بذكره وشكره، ونهاهم عن نسيانه كفره، فقال تعالى: { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } لما في ذكره بأسمائه وصفاته ووعده ووعيده من موجبات محبته ورضاه ولما في شكره بإقامة الصلاة وأداء سائر العبادات من مقتضيات رحمته وفضله ولما في نسيانه وكفرانه من التعرض لغضبه وشديد عقابه وأليم عذابه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الإعراض عن جدل المعاندين، والإقبال على الطاعات تنافسا فيها وتسابقا إليها إذ هو أنفع وأجدى من الجدل والخصومات مع من لا يرجى رجوعه إلى الحق.
2- وجوب استقبال القبلة في الصلاة وسواء كان في السفر أو في الحضر إلا أن المسافر يجوز أن يصلي النافلة حيث توجهت دابته أو طيارته أو سيارته إلى القبلة وإلى غيرها.
3- حرمة خشية الناس ووجوب خشية الله تعالى.
4- وجوب شكر الله تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة.
5- وجوب تعلم العلم الضروري ليتمكن العبد من عبادة الله عبادة تزكي نفسه.
6- وجوب ذكر الله بالتهليل والتكبير والتسبيح ووجوب شكره بطاعته.
7- حرمة نسيان ذكر الله، وكفران نعمه بترك شكرها.
[2.153-157]
شرح الكلمات:
الاستعانة: طلب المعونة والقدرة على القول أو العمل.
الصبر: حمل النفس على المكروه وتوطينها على احتمال المكاره.
الشعور: الإحساس بالشيء المفضي إلى العلم به.
الابتلاء: الاختبار والامتحان لإظهار ما عليه الممتحن من قوة أو ضعف.
الأموال: جمع مال وقد يكون ناطقا وهو المواشي ويكون صامتا وهو النقدان وغيرهما.
المصيبة: ما يصيب العبد من ضرر في نفسه أو أهله أو ماله.
الصلوات: جمع صلاة وهي من الله تعالى هنا المغفرة لعطف الرحمة عليها.
ورحمة: الرحمة الإنعام وهو جلب ما يسر ودفع ما يضر، وأعظم ذلك دخول الجنة بعد النجاة من النار.
المهتدون: إلى طريق السعادة والكمال بإيمانهم وابتلاء الله تعالى لهم وصبرهم على ذلك.
معنى الآيات:
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين وهم أهل ملة الإسلام المسلمون ليرشدهم إلى ما يكون عونا لهم على الثبات على قبلتهم التي اختارها لهم، وعلى ذكر ربهم وشكره وعدم نسيانه وكفره فقال: { يآأيها الذين آمنوا استعينوا } أي على ما طلب منكم من الثبات والذكر والشكر، وترك النسيان والكفر بالصبر الذي هو توطين النفس وحملها على أمر الله تعالى به وبإقام الصلاة، وأعلمهم أنه مع الصابرين يمدهم بالعون والقوة، فإذا صبروا نالهم عون الله تعالى وتقويته وهذا ما تضمنته الآية الأولى [153] أما الآية الثانية [154] فقد تضمنت نهيه تعالى لهم أن يقولوا معتقدين إن من قتل في سبيل الله ميت إذ هو حي في البرزخ وليس بميت بل هو حي يرزق في الجنة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش "
(رواه مسلم). فلذا لا يقال لمن قتل في سبيل الله مات ولكن استشهد وهو شهيد وحي عند ربه حياة لا نحسها ولا نشعر بها لمفارقتها للحياة في هذه الدار. وأما الآية الثالثة [155] فإنه يقسم تعالى لعباده المؤمنين على أنه يبتليهم بشيء من الخوف بواسطة أعدائه وأعدائهم وهم الكفار عندما يشنون الحروب عليهم وبالجوع لحصار العدو ولغيره من الأسباب، وبنقص الأموال كموت الماشية للحرب والقحط، وبالأنفس كموت الرجال، وبفساد الثمار بالجوائح، كل ذلك لإظهار من يصبر على إيمانه وطاعة ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه ومن لا يصبر فيحرم ولاية الله وأجره، ثم أمر رسوله بأن يبشر الصابرين، وبين في الآية الرابعة [156] حال الصابرين وهي أنهم إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله، فله أن يصيبنا بما شاء لأنا ملكه وعبيده، وإنا إليه راجعون بالموت فلا جزع إذا ولكن تسليم لحكمه ورضا بقضائه وقدره، وفي الآية الخامسة [157] أخبر تعالى مبشرا أولئك الصابرين بمغفرة ذنوبهم وبرحمة من ربهم، وإنهم المهتدون إلى سعادتهم وكمالهم.
فقال: { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة الصبر والأمر به والاستعانة بالصبر والصلاة على المصائب والتكاليف وفي الحديث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
2- فضل الشهداء على غيرهم بحياتهم عند ربهم حياة أكمل من حياة غيرهم في الجنة .
3- قد يبتلى المؤمن بالمصائب في النفس والأهل والمال ليصبر فترتفع درجته ويعلو مقامه عند ربه.
4- فضيلة الاسترجاع عند المصيبة وهو قول: إن لله وإنا إليه راجعون، وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم،
" ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها "
(رواه مسلم)
[2.158]
شرح الكلمات:
الصفا والمروة: جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية، والمروة جبل آخر مقابل الصفا من الجهة الشمالية والمسافة بينهما قرابة (760) ذراعا.
شعائر الله: أعلام دينه جمع شعيرة وهي العلامة على عبادة الله تعالى فالسعي بين الصفا والمروة شعيرة لأنه دال على طاعة الله تعالى.
الحج: زيارة بيت الله تعالى لأداء عبادات معينة تسمى نسكا.
العمرة: زيارة بيت الله تعالى للطواف به والسعي بين الصفا والمروة والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.
الجناح: الإثم وما يترتب على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهي عنه.
يطوف: يسعى بينهما ذاهبا جائيا.
خيرا: الخير إسم لكل ما يجلب المسرة، ويدفع المضرة والمراد به هنا العمل الصالح.
معنى الآية الكريمة:
يخبر تعالى مقررا فرضية السعي بين الصفا والمروة، ودافعا ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في السعي بينهما نظرا إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له إساف، وآخر على المروة يقال له نائلة يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة فقال تعالى: إن الصفا والمروة يعني السعي بينهما من شعائر الله أي عبادة من عباداته إذ تعبد بالسعي بينهما نبيه إبراهيم وولده إسماعيل والمسلمون من ذريتهما. فمن حج البيت لأداء فريضة الحج أو اعتمر لأداء واجب العمرة فليسع بينهما أداء لركن الحج والعمرة ولا إثم عليه في كون المشركين كانوا يسعون بينهما لأجل الصنمين: اساف ونائلة.
ثم أخبر تعالى واعدا عباده المؤمنين أن من يتطوع منهم بفعل خير من الخيرات يجزه به ويثبه عليه، لأنه تعالى يشكر لعباده المؤمنين أعمالهم الصالحة ويثيبهم عليها لعلمه بتلك الأعمال ونيات أصحابها، هذا معنى قوله تعالى: { ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم }.
هداية الآية الكريمة:
من هداية هذه الآية:
1- وجوب السعي بين الصفا والمروة لكل من طاف بالبيت حاجا أو معتمرا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي "
(رواه الدارقطني ولم يعل) وسعى صلى الله عليه وسلم في عمراته كلها وفي حجه كذلك.
2- لا حرج في الصلاة في كنيسة حولت مسجدا، ولا يضر كونها كانت معبدا للكفار.
3- الترغيب في فعل الخيرات من غير الواجبات، وذلك من سائر النوافل كالطواف والصلاة والصيام والصدقات والرباط والجهاد.
[2.159-162]
شرح الكلمات:
يكتمون: يخفون ويغطون حتى لا يظهر الشيء المكتوم ولا يعرف فيؤخذ به.
البينات: جمع بينة وهي ما يثبت به شيء المراد إثباته، والمراد به هنا ما يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من نعوت وصفات جاءت في كتاب أهل الكتاب.
الهدى: ما يدل على المطلب الصحيح ويساعد على الوصول إليه والمراد به هنا ما جاء به رسول الله من الدين الصحيح المفضي بالآخذ به إلى الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.
في الكتاب: التوراة والانجيل.
اللعنة: الطرد والبعد من كل خير ورحمة.
اللاعنون: من يصدر عنهم اللعن كالملائكة والمؤمنين.
أصلحوا: ما أفسدوه من عقائد الناس وأمور دينهم بإظهار ما كتموه والإيمان بما كذبوا به وأنكروه.
ولا هم ينظرون: أي بأن يمهلوا ليعتذروا، كقوله تعالى:
ولا يؤذن لهم فيعتذرون
[المرسلات: 36].
معنى الآيات:
عاد السياق بعد الإجابة عن تحرج بعض المسلمين من السعي بين الصفا والمروة عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب، ودعوتهم إلى التوبة بإظهار الحق والإيمان به فأخبر تعالى أن الذين يكتمون ما أنزله من البينات والهدى في التوراة والإنجيل من صفات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به وبما جاء به من الدين، هؤلاء البعداء يلعنهم الله تعالى وتلعنهم الملائكة والمؤمنون. هذا ما تضمنته الآية الأولى [159] وفي الآية التي بعدها [160] استثنى تعالى من المبعدين من رحمته من تاب من أولئك الكاتمين للحق بعدما عرفوه فبينوا وأصلحوا فهؤلاء يتوب عليهم ويرحمهم وهو التواب الرحيم.
وفي الآية الثالثة [161] والرابعة [162] أخبر تعالى أن الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم بنبيه ودينه ولم يتوبوا فماتوا على كفرهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولذا فهم مطرودون مبعدون من الرحمة الإلهية وهي الجنة خالدون في جهنم لا يخفف عنهم عذابها، ولا يمهلون فيعتذرون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة كتمان العلم وفي الحديث الصحيح
" من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار ".
وقال أبو هريرة رضي الله عنه في ظروف معينة: (لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثا) وتلا { إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات } إلخ...
2- يشترط لتوبة من أفسد في ظلمه وجهله إصلاح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغير، وإظهار ما كتم، وأداء ما أخذه بغير الحق.
3- من كفر ومات على كفره من سائر الناس يلقى في جهنم بعد موته خالدا في العذاب مخلدا لا يخفف عنه ولا ينظر فيعتذر، ولا يفتر عنه العذاب فيستريح.
4- جواز لعن المجاهرين بالمعاصي كشراب الخمر والمرابين، والمتشبهين من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال.
[2.163-164]
شرح الكلمات:
الإله: المعبود بحق أو بباطل، والله سبحانه وتعالى هو الإله الحق المعبود بحق.
وإلهكم إله واحد: في ذاته وصفاته، وفي ربوبيته فلا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون والحياة إلا هو وفي ألوهيته أي في عبادته فلا معبود بحق سواه.
اختلاف الليل والنهار: بوجود أحدهما وغياب الثاني لمنافع العباد بحيث لا يكون النهار دائما ولا الليل دائما.
وبث فيها من كل دابة: وفرق في الأرض ونشر فيها من سائر أنواع الدواب.
تصريف الرياح: باختلاف مهابها مرة صبا ومرة دبور ومرة شمالية ومرة غربية أو مرة ملقحة ومرة عقيم.
معنى الآيتين:
لما أوجب الله على العلماء بيان العلم والهدى وحرم كتمانهما أخبر أنه الإله الواحد الرحمن الرحيم وأن هذا أول ما على العلماء أن يبينوه للناس وهو توحيده تعالى في ربوبيته وعبادته وأسمائه وصفاته، ولما سمع بعض المشركين تقرير هذه الحقيقة : وإلهكم إله واحد قالوا: هل من دليل - يريدون على أنه لا إله إلا الله - فأنزل الله تعالى هذه الآية: { إن في خلق السموت والأرض } إلى قوله { يعقلون } مشتملة على ست آيات كونية كل آية برهان ساطع ودليل قاطع على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي كلها موجبة لعبادته وحده دون من سواه.
الأولى: خلق السماوات والأرض وهو خلق عظيم لا يتأتى إلا للقادر الذي لا يعجزه شيء.
الثانية: اختلاف الليل والنهار بتعاقبهما وطول هذا وقصر ذاك.
الثالثة: جريان الفلك - السفن - في البحر على ضخامتها وكبرها وهي تحمل مئات الأطنان من الأرزاق وما ينتفع به الناس في حياتهم.
الرابعة: إنزاله تعالى المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها.
الخامسة: تصريف الرياح حارة وباردة ملقحة وغير ملقحة، شرقية وغربية وشمالية وجنوبية بحسب حاجة الناس وما تطلبه حياتهم.
السادسة: السحاب المسخر بين السماء والأرض تكوينه وسوقه من بلد إلى آخر ليمطر هنا ولا يمطر هناك حسب إرادة العزيز الحكيم.
ففي هذه الآيات الست أكبر برهان وأقوى دليل على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته وهو لذلك رب العالمين وإله الأولين والآخرين ولا رب غيره ولا إله سواه. إلا أن الذي يجد هذه الأدلة ويراها ماثلة في الآيات المذكورة هو العاقل أما من لا عقل له لأنه عطل عقله فلم يستعمله في التفكير والفهم والإدراك، واستعمل بدل العقل الهوى فإنه أعمى لا يبصر شيئا وأصم لا يسمع شيئا، وأحمق لا يعقل شيئا، والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- لا إله إلا الله فلا تصح العبادة لغير الله تعالى، لأنه لا إله حق إلا هو.
2- الآيات الكونية في السماوات والأرض تثبت وجود الله تعالى ربا وإلها موصوفا بكل كمال منزها عن كل نقصان.
3- الآيات التنزيلية القرآنية تثبت وجود الله ربا وإلها وتثبت النبوة المحمدية وتقرر رسالته صلى الله عليه وسلم.
4- الانتفاع بالآيات مطلقا - آيات الكتاب أو آيات الكون - خاص بمن يستعملون عقولهم دون أهوائهم.
[2.165-167]
شرح الكلمات:
أندادا: جمع ند وهو المثل والنظير والمراد بالأنداد هنا الشركاء يعبدونها بحبها والتقرب إليها بأنواع العبادات كالدعاء والنذر لها والحلف بها.
التبرؤ: التنصل من الشيء والتباعد عنه لكرهه.
الذين اتبعوا: المعبودون والرؤساء المضلون.
الذين اتبعوا: المشركون والمقلدون لرؤسائهم في الضلال.
الأسباب: جمع سبب وهي لغة الحبل ثم استعمل في كل ما يربط بين شيئين وفي كل ما يتوصل به إلى مقصد وغرض خاص.
كرة: رجعة وعودة إلى الحياة الدنيا.
الحسرات: جمع حسرة وهي الندم الشديد الذي يكاد يحسر صاحبه فيقعد به عن الحركة والعمل.
معنى الآيات:
لما تقرر في الآيتين السابقتين بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن إله الناس أي ربهم ومعبودهم واحد وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه أخبر تعالى أنه مع هذا البيان والوضوح يوجد ناس يتخذون من دون الله آلهة أصناما ورؤساء يحبونهم كحبهم لله تعالى أي يسوون بين حبهم وحب الله تعالى، والمؤمنون أشد منهم حبا لله تعالى، كما أخبر تعالى أنه لو يرى المشركون عند معاينتهم العذاب يوم القيامة لرأوا أمرا فظيعا يعجز الوصف عنه، ولعلموا أن القوة لله وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ المتبعون وهم الرؤساء الظلمة دعاة الشرك والضلالة من متبوعيهم الجهلة المقلدين وعاينوا العذاب أمامهم وتقطعت تلك الروابط التي كانت تربط بينهم، وتمنى التابعون العودة إلى الحياة الدنيا لينتقموا من رؤسائهم في الضلالة فيتبرءوا منهم في الدنيا كما تبرءوا هم منهم في الآخرة، وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه، يريهم أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي فتعظم حسرتهم ويشتد كربهم ويدخلون بها النار فلا يخرجون منها أبدا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب حب الله وحب كل ما يحب عز وجل بحبه تعالى.
2- من الشرك الحب مع الله تعالى، ومن التوحيد الحب بحب الله عز وجل.
3- يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب ولم تبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه.
4- تبرؤ رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم في الدنيا واتبعوهم على الظلم والشر والفساد وليس بنافعهم ذلك شيئا.
[2.168-170]
شرح الكلمات:
الحلال: ما انحلت عقدة الحظر عنه وهو ما أذن الله تعالى فيه.
الطيب: ما كان طاهرا غير نجس، ولا مستقذر تعافه النفوس.
خطوات الشيطان الخطوات جمع خطوة وهي المسافة بين قدمي الماشي والمراد بها هنا مسالك الشيطان وطرقه المفضية بالعبد إلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم.
عدو مبين: عداوته بينة وكيف وهو الذي أخرج أبوينا آدم وحواء من الجنة وأكثر الشرور والمفاسد في الدنيا إنما هي بوسواسه وإغوائه.
السوء: كل ما يسوء النفس ويصيبها بالحزن والغم ويدخل فيها سائر الذنوب.
الفحشاء: كل خصلة قبيحة كالزنا واللواط والبخل وسائر المعاصي ذات القبح الشديد.
ألفينا: وجدنا.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض لأحوال أهل الشرك والمعاصي والنهاية المرة التي انتهوا إليها وهي الخلود في عذاب النار نادى الرب ذو الرحمة الواسعة البشرية جمعاء { يأيها الناس كلوا مما في الأرض } ، وهو عطاؤه وإفضاله، حلالا طيبا حيث أذن لهم فيه، وأما ما لم يأذن لهم فيه فإنه لا خير لهم في أكله لما فيه من الأذى لأبدانهم وأرواحهم معا، ثم نهاهم عن اتباع آثار عدوه وعدوهم فإنهم إن اتبعوا خطواته قادهم إلى حيث شقاؤهم وهلاكهم، وأعلمهم وهو ربهم أن الشيطان لا يأمرهم إلا بما يضر أبدانهم وأرواحهم والسوء وهو كل ما يسوء النفس والفحشاء وهي أقبح الأفعال وأردى الأخلاق وأفظع من ذلك أن يأمرهم بأن يكذبوا على الله فيقولوا عليه مالا يعلمون فيحرمون ويحللون ويشرعون باسم الله، والله في ذلك بريء وهذه قاصمة الظهر والعياذ بالله تعالى، حتى إذا أعرضوا عن إرشاد ربهم واتبعوا خطوات الشيطان عدوهم ففعلوا السوء وارتكبوا الفواحش وحللوا وحرموا وشرعوا ما لم يأذن به الله ربهم، وقال لهم رسول الله اتبعوا ما أنزل الله قالوا لا، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، يا سبحان الله يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم ولو كان باطلا، وضلالا، أيقلدون أباءهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من أمور الشرع والدين، ولا يهتدون إلى ما فيه الصلاح والخير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب طلب الحلال والاقتصار على العيش منه ولو كان ضيقا قليلا.
2- الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله تعالى فلا يستقل العقل بشيء من ذلك.
3- حرمة اتباع مسالك الشيطان وهي كل معتقد أو قول أو عمل نهى الله تعالى عنه.
4- وجوب الابتعاد عن كل سوء وفحش لأنهما مما يأمر بهما الشيطان.
5- حرمة تقليد من لا علم له ولا بصيرة في الدين.
6- جواز اتباع أهل العلم والأخذ بأقوالهم وآرائهم المستقاة من الوحي الإلهي الكتاب والسنة.
[2.171]
شرح الكلمات:
مثل: المثل الصفة والحال.
ينعق: يصيح والاسم النعيق وهو الصياح ورفع الصوت.
الدعاء: طلب القريب كدعاء المؤمن ربه يارب. يارب.
النداء: طلب البعيد كأذان الصلاة.
الصم: جمع أصم فاقد حاسة السمع فهو لا يسمع.
البكم: جمع أبكم فاقد حاسة النطق فهو لا ينطق.
لا يعقلون: لا يدركون معنى الكلام ولا يميزون بين الأشياء لتعطل آلة الإدراك عندهم وهي العقل.
معنى الآية الكريمة:
لما نددت الآية قبل هذه [170] بالتقليد والمقلدين الذي يعطلون حواسهم ومداركهم ويفعلون ما يقول لهم رؤساؤهم ويطبقون ما يأمرونهم به مسلمين به لا يعرفون لم فعلوا ولم تركوا جاءت هذه الآية بصورة عجيبة ومثل غريب للذين يعطلون قواهم العقلية ويكتفون بالتبعية في كل شيء حتى أصبحوا كالشياه من الغنم يسوقها راعيها حيث شاء فإذا نعق بها دعيا لها أجابته ولو كان دعاؤه إياها لذبحها، وكذا إذا ناداها بأن كانت بعيدة أجابته وهي لا تدري لم نوديت إذ هي لا تسمع ولا تفهم إلا مجرد الصوت الذي ألفته بالتقليد الطويل والاتباع بدون دليل.
فقال تعالى: { ومثل الذين كفروا } في جمودهم وتقليد أبائهم في الشرك والضلال كمثل غنم ينعق بها راعيها الأمين عليها فهو إذا صاح فيها داعيا لها أو مناديا لها سمعت الصوت وأجابت ولكن لا تدري لماذا دعيت ولا لماذا نوديت لفقدها العقل. وهذا المثل صالح لكل من يدعو أهل الكفر والضلال إلى الإيمان والهداية فهو مع من يدعوهم من الكفرة والمقلدين والضلال الجامدين كمثل الذي ينعق إلخ......
هداية الآية:
من هداية الآية الكريمة :
1- تسلية الدعاة إلى الله تعالى عندما يواجهون المقلدة من أهل الشرك والضلال.
2- حرمة التقليد لأهل الأهواء والبدع.
3- وجوب طلب العلم والمعرفة حتى لا يفعل المؤمن ولا يترك إلا على علم بما فعل وبما ترك.
4- لا يتابع إلا أهل العلم والبصيرة في الدين، لأن اتباع الجهال يعتبر تقليدا.
[2.172-173]
شرح الكلمات:
الطيبات: جمع طيب وهو الحلال.
واشكروا لله: اعترفوا بنعم الله عليكم واحمدوه عليها واصرفوها في مرضاته.
إن كنتم إياه تعبدون: إن كنتم مطيعين لله منقادين لأمره ونهيه.
حرم: حظر ومنع.
الميتة: ما مات من الحيوان حتف أنفه بدون تذكية.
الدم: المسفوح السائل، لا المختلط باللحم.
الخنزير: حيوان خبيث معروف بأكل العذرة ولا يغار على أنثاه.
وما أهل به لغير الله: الإهلال: رفع الصوت باسم من تذبح له من الآلهة.
اضطر: ألجىء وأكره بحكم الضرر الذي لحقه من الجوع أو الضرب.
غير باغ ولا عاد: الباغي الظالم الطالب لما لا يحل له والعادي والمعتدي المجاوز لما له إلى ما ليس له.
الإثم: أثر المعصية على النفس بالظلمة والتدسية.
معنى الآيتين الكريمتين:
بعد أن بينت الآية السابقة [171] حال الكفرة المقلدة لآبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله من الأنعام حيث سيبوا للآلهة السوائب، وحموا لها الحامات، وبحروا لها البحائر، نادى الجبار عز وجل عباده المؤمنين: يا أيها الذين آمنوا بالله ربا وإلها وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله ربكم ما أنعم به عليكم من حلال اللحوم، ولا تحرموها كما حرمها مقلدة المشركين، فإنه تعالى لم يحرم عليكم إلا أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغيره تعالى. ومع هذا من ألجأته الضرورة فخاف على نفسه الهلاك فأكل فلا إثم عليه على شرط أن لا يكون في سفره باغيا على المسلمين ولا عاديا بقطع الطريق عليهم وذلك لأن الله غفور لأوليائه التائبين إليه رحيم بهم لا يتركهم في ضيق ولا حرج.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- الندب إلى أكل الطيبات من رزق الله تعالى في غير إسراف.
2- وجوب شكر الله تعالى بالاعتراف بالنعمة له وحمده عليها وعدم صرفها في معاصيه.
3- حرمة أكل الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى.
4- جواز الأكل من المذكورات عند الضرورة وهي خوف الهلاك مع مراعاة الاستثناء في الآية وهو { غير باغ ولا عاد }.
5- أذن النبي صلى الله عليه وسلم في أكل السمك والجراد وهما من الميتة، وحرم أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور.
[2.174-176]
شرح الكلمات:
يكتمون: يجحدون ويخفون.
ما أنزل الله من الكتاب: الكتاب التوراة وما أنزل الله فيه صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به.
لا يكلمهم الله: لسخطه عليهم ولعنه لهم.
ولا يزكيهم: لا يطهرهم من ذنوبهم لعدم رضاه عنهم.
الضلالة: العماية المانعة من الهداية إلى المطلوب.
الشقاق: التنازع والعداء حتى يكون صاحبه في شق ومنازعه في آخر
بعيد: يصعب انهاؤه والوفاق بعده.
معنى الآيات:
هذه الآيات الثلاثة نزلت قطعا في أحبار أهل الكتاب تندد بصنيعهم وتريهم جزاء كتمانهم الحق وبيعهم العلم الذي أخذ عليهم أن يبينوه بعرض خسيس من الدنيا يجحدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ودينه إرضاء للعوام حتى لا يقطعوا هداياهم ومساعدتهم المالية، وحتى يبقى لهم السلطان الروحي عليهم فهذا معنى قوله تعالى: { إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا } وأخبر تعالى أن ما يأكلونه من رشوة في بطونهم إنما هو النار إذ هو مسببها ومع النار غضب الجبار فلا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
كما أخبر تعالى عنهم في الآية [175] أنهم وهم البعداء اشتروا الضلالة بالهدى أي الكفر بالإيمان، والعذاب بالمغفرة أي النار بالجنة، فما أجرأ هؤلاء على معاصي الله، وعلى التقحم في النار فلذا قال تعالى فما أصبرهم على النار. وكل هذا الذي تم مما توعد الله به هؤلاء الكفرة، لأن الله نزل الكتاب بالحق مبينا فيه سبيل الهداية وما يحقق لسالكيه من النعيم المقيم ومبينا سبيل الغواية وما يفضي بسالكيه إلى غضب الله وأليم عذابه.
وفي الآية الآخيرة [176] أخبر تعالى أن الذين اختلفوا في الكتاب التوراة والانجيل وهم اليهود والنصارى لفي عداء واختلاف بينهم بعيد، وصدق الله فما زال اليهود والنصارى مختلفين متعادين إلى اليوم، ثمرة اختلافهم في الحق الذي أنزله الله وأمرهم بالأخذ به فتركوه وأخذوا بالباطل فأثمر لهم الشقاق البعيد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة كتمان الحق، لا سيما إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالا أو رياسة.
2- تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق وإفتاء الناس بالباطل للحصول على منافع مادية معينة.
3- التحذير من الإختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين.
[2.177]
شرح الكلمات:
البر: اسم جامع لكل خير وطاعة لله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن البر من آمن بالله: البر الحق بر من آمن بالله واليوم الآخر إلى آخر الصفات.
وأتى المال على حبه: أعطى المال حيث تعين إعطاؤه مع شدة حبه له فآثر ما يحب الله تعالى على ما يحب.
ذوي القربى: أصحاب القرابات، الأقرب فالأقرب.
اليتامى: جمع يتيم وهو من مات والده وهو لم يبلغ الحنث.
المساكين: جمع مسكين، فقير معدم أسكنته الحاجة فلم يقدر على التصرف.
ابن السبيل: المسافر البعيد الدار المنقطع عن أهله وماله.
السائلين: جمع سائل: الفقير المحتاج الذي أذن له في السؤال لدفع عائلة الحاجة عن نفسه.
في الرقاب: الرقاب جمع رقبه والإنفاق منها معناه في عتقها.
البأساء والضراء: البأساء: شدة البؤس من الفقر، والضراء: شدة الضر أو المرض.
وحين البأس: عند القتال واشتداده في سبيل الله تعالى.
أولئك الذين صدقوا: أي في دعواهم الإيمان والبر والبرور.
معنى الآية الكريمة:
في الآيات الثلاث السابقة لهذه الآية ندد الله تبارك وتعالى بأحبار أهل الكتاب وذكر ما توعدهم به من غضبه وأليم عقابه يوم القيامة كما تضمن ذلك تخويف علماء الإسلام من أن يكتمون العلم على الناس طلبا لحظوظ الدنيا الفانية، وفي هذه الآية رد الله تعالى على أهل الكتاب أيضا تبجحهم بالقبلة وادعاءهم الإيمان والكمال فيه لمجرد أنهم يصلون إلى قبلتهم بيت المقدس بالمغرب أو طلوع الشمس بالمشرق إذ الأولى قبلة اليهود والثانية قبلة النصارى فقال تعالى: ليس البر كل البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، وفي هذا تنبيه عظيم للمسلم الذي يقصر إسلامه على الصلاة ولا يبالي بعدها ما ترك من واجبات وما ارتكب من منهيات، بين تعالى لهم البار الحق في دعوى الإيمان والإسلام والإحسان فقال: { ولكن البر } أي ذا البر أو البار بحق هو { من آمن بالله } وذكر أركان الإيمان إلا السادس منها (القضاء والقدر)، { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } وهما من أعظم أركان الإسلام، وأنفق المال في سبيل الله مع حبه له وضنه به ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فهو ينفق ماله على من لا يرجو منه جزاء ولا مدحا ولا ثناء كالمساكين وأبناء السبيل والسائلين من ذوي الخصاصة والمسغبة، وفي تحرير الأرقاء وفكاك الأسرى وأقام الصلاة أدامها وعلى الوجه الأكمل في أدائها وأتى الزكاة المستحقين لها، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من أعظم قواعد الإسلام، وذكر من صفاتهم الوفاء بالعهود والصبر في أصعب الظروف وأشد الأحوال، فقال تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأسآء والضرآء وحين البأس } وهذا هو مبدأ الإحسان وهو مراقبة الله تعالى والنظر إليه وهو يزاول عبادته، ومن هنا قرر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في دعوى الإيمان والإسلام وهم المتقون بحق غضب الله وأليم عذابه، جعلنا الله منهم، فقال تعالى مشيرا لهم بلام البعد وكاف الخطاب لبعد مكانتهم وارتفاع درجاتهم { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون }.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- الاكتفاء ببعض أمور الدين دون القيام ببعض لا يعتبر صاحبه مؤمنا ولا ناجيا.
2- أركان الإيمان هي المذكورة في هذه الآية، والمراد بالكتاب في الآية الكتب.
3- بيان وجوه الإنفاق المرجو ثوابه يوم القيامة وهو ذوي القربى إلخ...
4- بيان عظم شأن الصلاة والزكاة.
5- وجوب الوفاة بالعهود.
6- وجوب الصبر وخاصة عند القتال.
7- التقوى هي ملاك الأمر، والغاية التي ما بعدها للعاملين غاية.
[2.178-179]
شرح الكلمات:
كتب عليكم القصاص: كتب فرض والقصاص: إذا لم يرض ولي الدم بالدية ولم يعف.
في القتلى: الفاء سببية أي بسبب القتل والقتلى جمع قتيل وهو الذي أزهقت روحه فمات بأي آلة.
الحر: الحر خلاف العبد والعبد هو الرقيق المملوك.
فمن عفي له من أخيه شيء: فمن تنازل له ولي الدم عن القود إلى الدية أو العفو.
فاتباع بمعروف: فالواجب أن تكون مطالبة الدية بالمعروف بالرفق واللين.
وأداء إليه بإحسان: وأن يكون أداء الدية بإحسان خاليا من المماطلة والنقص.
ذلك تخفيف من ربكم: أي ذلك الحكم العادل الرحيم وهو جواز أخذ الدية بدلا من القصاص تخفيف عنكم من ربكم إذ كان في شرع من قبلكم القصاص فقط أو الدية فقط، وأنتم مخيرون بين العفو والدية والقصاص.
فمن اعتدى بعد ذلك: يريد من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله لا غير.
القصاص: المساواة في القتل والجراحات وفي آلة القتل أيضا.
حياة: إبقاء شامل عميم، إذ من يريد أن يقتل يذكر أنه سيقتل فيترك القتل فيحيا، ويحيا من أراد قتله، ويحيا بحياتهما خلق كثير، وعدد كبير.
أولي الألباب: أصحاب العقول الراجحة، واحد الألباب: لب وهو في الإنسان العقل.
لعلكم تتقون: ليعدكم بهذا التشريع الحكيم لاتقاء ما يضر ولا يسر في الدنيا والآخرة.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية نزلت في حيين من العرب كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر فلذا يقتل الحر بالعبد، والرجل بالمرأة تطاولا وكبرياء فحدث بين الحيين قتل وهم في الإسلام فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية تبطل ذحل الجاهلية وتقرر مبدأ العدل والمساواة في الإسلام فقال تعالى: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } ، فلا يقتل بالرجل رجلان، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان ولا بالعبد حر ولا عبدان.
فمن تنازل له أخوه وهو ولي الدم عن القصاص إلى الدية أو العفو مطلقا فليتبع ذلك ولا يقل لا أقبل إلا القصاص بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه له من قصاص أو دية أو عفو، وليطلب ولي الدم الدية بالرفق والأدب، وليؤد القاتل الدية بإحسان بحيث لا يماطل ولا ينقص منها شيئا.
ثم ذكر تعالى منته على المسلمين حيث وسع عليهم في هذه المسألة فجعل ولي الدم مخيرا بين ثلاثة العفو أو الدية أو القود (القصاص) في حين أن اليهود كان مفروضا عليهم القصاص فقط، والنصارى الدية فقط وأخبر تعالى بحكم أخير في هذه القضية وهو أن من أخذ الدية وعفا عن القتل ثم تراجع وقتل فقال: { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم }.
واختلف في هذا العذاب الأليم هل هو عذاب الدنيا بالقتل، أو هو عذاب الآخرة، ومن هنا قال مالك والشافعي حكم هذا المعتدي كحكم القاتل ابتداء إن عفي عنه قبل، وإن طولب بالقود أو الدية أعطى، وقال آخرون ترد منه الدية ويترك لأمر الله، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله يرد أمره إلى الإمام يحكم فيه بما يحقق المصلحة العامة ثم أخبر تعالى: أن في القصاص الذي شرع لنا وكتبه علينا مع التخفيف حياة عظيمة لما فيه من الكف عن إزهاق الأرواح وسفك الدماء فقال تعالى: { ولكم في القصاص حيوة يأولي الألباب لعلكم تتقون }.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- حكم القصاص في الإسلام وهو المساواة والمماثلة فيقتل الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة والمرأة بالرجل والرجل بالمرأة ويقتل القاتل بما قتل به مماثلة لحديث:
" المرء مقتول بما قتل به ".
ولما كان العبد مقوما بالمال فإنه لا يقتل به الحر بل يدفع إلى سيده مال. وبهذا حكم الصحابة والتابعون وعليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وخالف أبو حنيفة فرأى القود فيقتل الحر بالعبد أخذا بظاهر هذه الآية.
2- محاسن الشرع الإسلامي وما فيه من اليسر والرحمة حيث أجاز العفو والدية بدل القصاص.
3- بلاغة القرآن الكريم، إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون: القتل أنفى للقتل، فقال: القرآن: { ولكم في القصاص حيوة }. فلم يذكر لفظ القتل بالمرة فنفاه لفظا وواقعا.
[2.180-182]
شرح الكلمات:
كتب: فرض وأثبت .
خيرا: مالا نقدا أو عرضا أو عقارا.
الوصية: الوصية ما يوصى به من مال وغيره.
المعروف: ما تعارف عليه الناس كثيرا أو قليلا بحيث لا يزيد على الثلث.
التبديل: التغيير للشيء بآخر.
جنفا أو إثما: الجنف: الميل عن الحق خطأ، والإثم تعمد الخروج عن الحق والعدل.
معنى الآيات:
بمناسبة ذكر آية القصاص وفيها أن القاتل عرضة للقتل والمفروض فيه أن يوصي في ماله قبل قتله، ذكر تعالى آية الوصية فقال تعالى: كتب عليكم أيها المسلمون إذا حضر أحدكم الموت إن ترك مالا الوصية أي الإيصاء للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية المواريث، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
" فلا وصية لوارث "
ونسخ الوجوب وبقي الاستحباب ولكن لغير الوالدين والأقربين الوارثين إلا أن يجيز ذلك الورثة وأن تكون الوصية ثلثا فأقل فإن زادت وأجازها الورثة جازت لحديث ابن عباس عند الدارقطني لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة، ودليل استحباب الوصية حديث سعد في الصحيح حيث أذن له الرسول في الوصية بالثلث، وقد تكون الوصية واجبة على المسلم وذلك إن ترك ديونا لازمة، وحقوقا واجبة في ذمته فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته لحديث ابن عمر في الصحيح " ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " ، هذا ما تضمنته الآية الأولى [180] وأما الآية الثانية [181] فيقول تعالى لعباده المؤمنين فمن بدل إيصاء مؤمن أوصى به بأن زاد فيه هذا الحكم غيره أو بدل نوعا بآخر فلا إثم على الموصي ولكن الإثم على من بدل وغير، وختم هذا الحكم بقوله أن الله سميع عليم تهديدا ووعيدا لمن يقدم على تغيير الوصايا لغرض فاسد وهوى سيء وفي الآية الأخيرة [182] أخبر تعالى أن من خاف من موص جنفا أو ميلا عن الحق والعدل بأن جار في وصيته بدون تعمد الجور ولكن خطأ أو خاف إثما على الموصى حيث جار وتعدى على علم في وصيته فأصلح بينهم أي بين الموصي والموصى لهم فلا إثم عليه في إصلاح الخطأ وتصويب الخطأ والغلط، وختم هذا الحكم بقوله: { إن الله غفور رحيم } وعدا بالمغفرة والرحمة لمن أخطأ غير عامد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- نسخ الوصية للوارثين مطلقا إلا بإجازة الورثة.
2- استحباب الوصية بالمال لمن ترك مالا كثيرا يوصي به في وجوه البر والخير.
3- تأكد الوصية حضر الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق خشية أن يموت فتضيع الحقوق فيأثم بإضاعتها.
4- حرمة تبديل الوصية وتغييرها إلى غير الصالح.
[2.183-184]
شرح الكلمات:
كتب: فرض وأثبت.
الصيام: لغة الإمساك والمراد به هنا الإمتناع عن الأكل والشرب وغشيان النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
أياما معدودات: تسعة وعشرون أو ثلاثون يوما بحسب شهر رمضان.
فعدة من أيام أخر: فعلى من أفطر لعذر المرض أو السفر فعليه صيام أيام أخر بعدد الأيام التي أفطر فيها.
يطيقونه: أي يتحملونه بمشقة لكبر سن أو مرض لا يرجى برؤه.
فدية طعام مسكين: فالواجب على من أفطر لعذر مما ذكر أن يطعم على كل يوم مسكينا، ولا قضاء عليه.
فمن تطوع خيرا: أي زاد على المدين أو أطعم أكثر من مسكين فهو خير له.
وأن تصوموا خير لكم: الصيام على من يطيقه ولو بمشقة خير من الإفطار مع الطعام.
معنى الآيتين:
لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأصبحت دار إسلام أخذ التشريع ينزل ويتوالى ففي الآيات السابقة كان حكم القصاص والوصية ومراقبة الله في ذلك، وكان من أعظم ما يكون في المؤمن من ملكة التقوى الصيام فأنزل الله تعالى فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة فناداهم بعنوان الإيمان يا آيها الذين آمنوا وأعلمهم أنه كتب عليهم الصيام كما كتبه على الذين من قبلهم من الأمم السابقة فقال: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم... } وعلل ذلك بقوله: لعلكم تتقون أي ليعدكم به للتقوى التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، لما في الصيام من مراقبة الله تعالى، وقوله: { أياما معدودات } ذكره ليهون به عليهم كلفة الصوم ومشقته، إذ لم يجعله شهورا ولا أعواما. وزاد في التخفيف أن أذن للمريض والمسافر أن يفطر ويقضي بعد الصحة أو العودة من السفر فقال لهم: { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } كما أن غير المريض والمسافر إذا كان يطيق الصيام بمشقة وكلفة شديدة له أن يفطر ويطعم على كل يوم مسكينا وأعلمهم أن الصيام في هذه الحال خير. ثم نسخ هذا الحكم الأخير بقوله في الآية الآتية: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وقوله: { إن كنتم تعلمون } يريد: تعلمون فوائد الصوم الدنيوية والأخروية وهي كثيرة أجلها مغفرة الذنوب وذهاب الأمراض.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فرضية الصيام وهو شهر رمضان.
2- الصيام يربي ملكة التقوى في المؤمن.
3- الصيام يكفر الذنوب لحديث:
" من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ".
4 - رخصة الإفطار للمريض والمسافر.
5- المرأة الحامل أو المرضع دل قوله وعلى الذين يطيقونه أنه يجوز لهما الإفطار مع القضاء وكذا الشيخ الكبير فإنه يفطر ولا يقضي والمريض مرضا لا يرجى برؤه كذلك.
إلا أن عليهما أن يطعما عن كل يوم مسكينا بإعطائه حفنتي طعام كما أن المرأة الحامل والمرضع إذا خافت على حملها أو طفلها أو على نفسها أن عليها أن تطعم مع كل صوم تصومه قضاء مسكينا.
6- في الصيام فوائد دينية واجتماعية عظيمة أشير إليها بلفظ إن كنتم تعلمون.
من هذه الفوائد:
1- يعود الصائم الخشية من الله تعالى في السر والعلن.
2- كسر حدة الشهوة ولذا أرشد العازب إلى الصوم.
3- يربي الشفقة والرحمة في النفس.
4- فيه المساواة بين الأغنياء والفقراء والأشراف والأوضاع.
5- تعويد الأمة النظام والوحدة والوئام.
6- يذهب المواد المترسبة في البدن وبذلك تتحسن صحة الصائم.
[2.185]
شرح الكلمات:
شهر رمضان: هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية، ولفظ الشهر مأخوذ من الشهرة، ورمضان مأخوذ من رمض الصائم إذا حر جوفه من العطش.
الذي أنزل فيه القرآن: هذه آية فضله على غيره من سائر الشهور حيث أنزل فيه القرآن وذلك في ليلة القدر منه لآية
إنآ أنزلناه في ليلة مباركة
[الدخان: 3] وآية
إنا أنزلناه في ليلة القدر
[القدر: 1]، أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل نجما بعد نجم، وابتدىء نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أيضا.
هدى للناس: هاديا للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدارين.
وبينات من الهدى والفرقان: البينات جمع بينة والهدى الإرشاد، والمراد أن القرآن نزل هاديا للناس ومبينا لهم سبيل الهدى موضحا طريق الفوز والنجاة فارقا لهم بين الحق والباطل في كل شؤون الحياة.
شهد الشهر: حضر الإعلان عن رؤيته.
فعدة من أيام أخر: فعليه القضاء بعدد الأيام التي أفطرها مريضا أو مسافرا.
ولتكملوا العدة: وجب القضاء من أجل إكمال عدة الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين يوما.
ولتكبروا الله على ما هداكم: وذلك عند إتمام صيام رمضان من رؤية الهلال إلى العودة من صلاة العيد والتكبير مشروع وفيه أجر كبير، وصفته المشهورة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ولعلكم تشكرون: فرض عليكم الصوم وندبكم إلى التكبير لتكونوا بذلك من الشاكرين لله تعالى على نعمه لأن الشكر هو الطاعة.
معنى الآية الكريمة:
لما ذكر تعالى أنه كتب على أمة الإسلام الصيام في الآية السابقة وأنه أيام معدودات بين في هذه الآية أن المراد من الأيام المعدودات أيام شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هاديا وموضحا طرق الهداية، وفارقا بين الحق والباطل، فقال تعالى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر } يريد شهر رمضان ومعنى شهد كان حاضرا غير مسافر لما أعلن عن رؤية هلال رمضان، فليصمه على سبيل الوجوب إن كان مكلفا. ثم ذكر عذر المرض والسفر، وأن على من أفطر بهما قضاء ما أفطر بعدده وأخبر تعالى أنه يريد بالإذن في الإفطار للمريض والمسافر اليسر بالأمة ولا يريد بها العسر فله الحمد وله المنة فقال تعالى: { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }.
ثم علل تعالى للقضاء بقوله ولتكملوا العدة أي عدة أيام رمضان هذا أولا وثانيا لتكبروا الله على ما هداكم عندما تكملون الصيام برؤية هلال شوال وأخيرا ليعدكم بالصيام والذكر للشكر وقال عز وجل { ولعلكم تشكرون }.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- فضل شهر رمضان وفضل القرآن.
2- وجوب صيام رمضان على المكلفين والمكلف هو المسلم العاقل البالغ مع سلامة المرأة من دمي الحيض والنفاس.
3- الرخصة للمريض الذي يخاف تأخر برئه أو زيادة مرضه، والمسافر مسافة قصر.
4- وجوب القضاء على من أفطر لعذر.
5- يسر الشريعة الإسلامية وخلوها من العسر والحرج.
6- مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه وهذا التكبير جزء لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام.
7- الطاعات هي الشكر فمن لم يطع الله ورسوله لم يكن شاكرا فيعد مع الشاكرين.
[2.186]
شرح الكلمات:
الداعي: السائل ربه حاجته.
فليستجيبوا لي: أي يجيبوا ندائي إذا دعوتهم لطاعتي وطاعة رسولي بفعل المأمور وترك المنهي والتقرب إلي بفعل القرب وترك ما يوجب السخط.
يرشدون: بكمال القوتين العلمية والعملية إذ الرشد هو العلم بمحاب الله ومساخطه، وفعل المحاب وترك المساخط، ومن لا علم له ولا عمل فهو السفيه الغاوي والضال الهالك.
معنى الآية الكريمة:
ورد أن جماعة من الصحابة سألوا النبي قائلين: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى قوله: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع } الآية، ومعنى المناجاة المكالمة بخفض الصوت، والمناداة برفع الصوت، وإجابة الله دعوة عبده قبول طلبه وإعطاؤه مطلوبه. وما على العباد إلا أن يستجيبوا لربهم بالإيمان به وبطاعته في أمره ونهيه وبذلك يتم رشدهم ويتأهلون للكمال والإسعاد في الدارين الدنيا والآخرة.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- قرب الله تعالى من عباده إذ العوالم كلها في قبضته وتحت سلطانه ولا يبعد عن الله شيء من خلقه إذ ما من كائن إلا والله يراه ويسمعه ويقدر عليه، وهذه حقيقة القرب.
2- كراهية رفع الصوت بالعبادات إلا ما كان في التلبية والأذان والإقامة.
3- وجوب الإستجابة لله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.
4- الرشد في طاعة الله والغي والسفه في معصيته تعالى.
[2.187]
شرح الكلمات:
ليلة الصيام: الليلة التي يصبح العبد بعدها صائما.
الرفث: الجماع.
لباس لكم: كناية عن اختلاط بعضكم ببعض كاختلاط الثوب بالبدن.
تختانون أنفسكم: بتعريضها للعقاب، ونقصان حظها من الثواب بالجماع ليلة الصيام قبل أن يحل الله لكم ذلك.
باشروهن: جامعوهن، أباح لهم ذلك ليلا.
وابتغوا ما كتب الله لكم: اطلبوا بالجماع الولد إن كان قد كتب لكم، ولا يكن الجماع لمجرد الشهوة.
الخيط الأبيض: الفجر الكاذب وهو بياض يلوح في الأفق كذنب السرحان.
الخيط الأسود: سواد يأتي بعد البياض الأول فينسخه تماما.
الفجر: انتشار الضوء أفقيا ينسخ سواد الخيط الأسود ويعم الضياء الأفق كله.
عاكفون في المساجد: منقطعون إلى العبادة في المسجد تقربا إلى الله تعالى.
حدود الله: جمع حد وهو ما شرع الله تعالى من الطاعات فعلا أو تركا.
كذلك يبين الله آياته: أي كما بين أحكام الصيام يبين أحكام سائر العبادات من أفعال وتروك ليهيئهم للتقوى التي هي السبب المورث للجنة.
معنى الآية الكريمة:
كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية. كأن الصيام يبتدىء من النوم لا من طلوع الفجر، ثم إن ناسا أتوا نساءهم وأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة تبيح لهم الأكل والشرب والجماع طوال الليل إلى طلوع الفجر، فقال تعالى: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم } أي الإختلاط بهن إذ لا غنى للرجل عن امرأته ولا للمرأة عن زوجها { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن }. يسترها وتستره كالثوب يستر الجسم، وأعلمهم أنه تعالى علم منهم ما فعلوه من إتيان نسائهم ليلا بعد النوم قبل أن ينزل حكم الله فيه بالإباحة أو المنع فكان ذلك منهم خيانة لأنفسهم فقال تعالى: { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم }. وأعلن لهم عن الإباحة بقوله : { فالآن بشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم }. يريد من الولد، لأن الجماع لا يكون لمجرد قضاء الشهوة بل للإنجاب والولد. وحدد لهم الظرف الذي يصومون فيه وهو النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فقال تعال: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } وحرم على المعتكفين في المساجد مباشرة نسائهم فلا يحل للرجل وهو معتكف أن يخرج من المسجد ويغشى امرأته وإن فعل أثم وفسد اعتكافه ووجب عليه قضاؤه قال تعالى: { ولا تبشروهن وأنتم عكفون في المسجد } وأخبرهم أن ما بينه لهم من الواجبات والمحرمات هي حدوده تعالى فلا يحل القرب منها ولا تعديها فقال عز وجل: { تلك حدود الله فلا تقربوها } ثم قال: { كذلك يبين الله ءايته للناس لعلهم يتقون } فامتن تعالى على المسلمين بهذه النعمة وهي بيان الشرائع والأحكام والحدود بما يوحيه إلى رسوله من الكتاب والسنة ليعد بذلك المؤمنين للتقوى، إذ لا يمكن أن تكون تقوى ما لم تكن شرائع تتبع وحدود تحترم.
وقد فعل فله الحمد وله المنة.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- إباحة الأكل والشرب والجماع في ليال الصيام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
2- بيان ظرف الصيام وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
3- بيان ما يمسك عنه الصائم وهو الأكل والشرب والجماع.
4- مشروعية الإعتكاف وخاصة في رمضان، وأن المعتكف لا يحل له مخالطة امرأته وهو معتكف حتى تنتهي مدة اعتكافه التي عزم أن يعتكفها.
5- استعمال الكناية بدل التصريح فيما يستحي من ذكره، حيث كنى بالمباشرة عن الوطء.
6- حرمة انتهاك حرمات الشرع وتعدي حدوده.
7- بيان الغاية من إنزال الشرائع ووضع الحدود وهي تقوى الله عز وجل.
8- ثبت بالسنة: سنة السحور واستحباب تأخيره ما لم يخش طلوع الفجر، واستحباب تعجيل الفطر.
[2.188]
شرح الكلمات:
الباطل: خلاف الحق.
تدلوا: الإدلاء بالشيء إلقاؤه، والمراد هنا إعطاء القضاة والحكام الرشوة ليحكموا لهم بالباطل حتى يتوصلوا إلى أموال غيرهم.
فريقا: أي طائفة وقطعة من المال.
بالإثم: المراد به هنا بالرشوة وشهادة الزور، واليمين الفاجرة أي الحلف بالكذب ليقضي القاضي لكم بالباطل في صورة حق.
معنى الآية الكريمة:
لما أخبر تعالى في الآية السابقة أنه يبين للناس أحكام دينه ليتقوه بفعل المأمور وترك المنهي بين في هذه الآية حكم أكل أموال المسلمين بالباطل، وأنه حرام فلا يحل لمسلم أن يأكل مال أخيه بغير طيب نفسه منه. وذكر نوعا هو شر أنواع أكل المال بالباطل، وهو دفع الرشوة إلى القضاة والحاكمين ليحكموا لهم بغير الحق فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق ويأكلوا أموال إخوانهم بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة وهي التي يحلف فيها المرء كاذبا.
وقال تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } أي وأنتم تعلمون حرمة ذلك.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- حرمة أكل مال المسلم بغير حق سواء كان بسرقة أو بغصب أو غش، أو احتيال ومغالطة.
2- حرمة الرشوة تدفع للحاكم ليحكم بغير الحق.
3- مال الكافر غير المحارب كمال المسلم في الحرمة إلا أن مال المسلم أشد حرمة لحديث
" كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه، وماله "
ولقوله تعالى في هذه الآية { ولا تأكلوا أموالكم } وهو يخاطب المسلمين.
[2.189]
شرح الكلمات:
الأهلة: جمع هلال وهو القمر في بداية ظهوره في الثلاثة الأيام الأولى من الشهر لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم الهلال الهلال.
المواقيت: جمع ميقات: الوقت المحدد المعلوم للناس.
إتيان البيوت من ظهورها: أن يتسور الجدار ويدخل البيت تحاشيا أن يدخل من الباب.
ولكن البر من اتقى: البر الموصل إلى رضوان الله بر عبد اتقى الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه فليس البر دخول البيوت من ظهورها.
الفلاح: الفوز وهو النجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآية الكريمة:
روي أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: ما بال الهلال يبدو دقيقا، ثم يزيد حتى يعظم ويصبح بدرا، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان أول بدئه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: { يسألونك عن الأهلة } وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: هي مواقيت للناس وعلة بدءها صغيرة ثم تتكامل ثم تنقص حتى المحاق هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لأعمالهم فبوجود القمر على هذه الأحوال تعرف عدة النساء ونعرف الشهور فنعرف رمضان ونعرف شهر الحج ووقته، كما نعرف آجال العقود في البيع والإيجار، وسداد الديون وما إلى ذلك. وكان الأنصار في الجاهلية إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة وخرج من بيته وأراد أن يدخل لغرض خاص لا يدخل من الباب حتى لا يظله نجف الباب فيتسور الجدار ويدخل من ظهر البيت لا من بابه وكانوا يرون هذا طاعة وبرا فأبطل الله تعالى هذا التعبد الجاهلي بقوله عز وجل: { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر }. بر أهل التقوى والصلاح. وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها فقال: { وأتوا البيوت من أبوابها } ، وأمرهم بتقواه عز وجل ليفلحوا في الدنيا والآخرة. فقال { واتقوا الله لعلكم تفلحون }.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية:
1- أن يسأل المرء عما ينفعه ويترك السؤال عما لا يعنيه.
2- فائدة الشهور القمرية عظيمة إذ بها تعرف كثير من العبادات.
3- حرمة الابتداع في الدين ولو كان برغبة في طاعة الله تعالى وحصول الأجر.
4- الأمر بالتقوى المفضية إلى فلاح العبد ونجاته في الدارين.
[2.190-193]
شرح الكلمات:
سبيل الله: الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإسلام والمراد إعلاء كلمة الله.
الذين يقاتلونكم: المشركون الذين يبدؤونكم بالقتال.
ولا تعتدوا: لا تجاوزوا الحد فتقتلوا النساء والأطفال ومن اعتزال القتال.
ثقفتموهم: تمكنتم من قتالهم.
الفتنة: الشرك.
المسجد الحرام: المراد به مكة والحرم من حولها.
ويكون الدين لله: بأن لم يبق من يعبد غير الله تعالى.
فلا عدوان: أي لا إعتداء بالقتل والمحاربة إلا على الظالمين. أما من أسلم فلا يقاتل.
معنى الآيات:
هذه الآيات الثلاث: { وقاتلوا في سبيل الله } من أوائل ما نزل في شأن قتال المشركين وهي متضمنة الأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال من يقاتلهم والكف عمن يكف عنهم، وقال تعالى، وقاتلوا في سبيل الله أي في سبيل إعلاء كلمة الله ليعبد وحده. الذين يقاتلونكم، واقتلوهم حيث تمكنتم منهم، وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم أيها المهاجرون من دياركم، ولا تتحرجوا من القتل، فإن فتنتهم للمؤمنين لحملهم على الكفر بالاضطهاد والتعذيب أشد من القتل. { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } فلا تكونوا البادئين فإن قاتلوكم فاقتلوهم. كذلك القتل والإخراج الواقع منكم لهم يكون جزاء كل كافر يعتدي ويظلم. فإن انتهوا عن الشرك والكفر وأسلموا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم لأن الله تعالى غفور رحيم.
أما الآية الرابعة [193] وهي قوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } فهي مقررة لحكم سابقاتها إذ فيها بقتال المشركين الذين قاتلوهم قتالا يستمر حتى لا يبقى في مكة من يضطهد في دينه ويفتن فيه ويكون الدين كله لله فلا يعبد غيره، وقوله فإن انتهوا من الشرك بأن أسلموا ووحدوا فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم، إذ لا عدوان إلا على الظالمين وهم بعد إسلامهم ما أصبحوا ظالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب قتال من يقاتل المسلمين، والكف عمن يكف عن قتالهم وهذا قبل نسخ هذه الآية.
2- حرمة الاعتداء في القتال بقتل الأطفال والشيوخ والنساء إلا أن يقاتلن.
3- حرمة القتال عند المسجد الحرام أي مكة والحرم إلا أن يبدأ العدو بالقتال فيه فيقاتل.
4- الإسلام يجب ما قبله لقوله تعالى: { فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم }.
5- وجوب الجهاد وهو فرض كفاية ما وجد مؤمن يضطهد لإسلامه أو يفتن في دنيه.
[2.194-195]
شرح الكلمات:
الشهر الحرام: الشهر المحرم القتال فيه والأشهر الحرم أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد فالثلاثة هي القعدة والحجة ومحرم والرابع الفرد رجب.
الحرمات: جمع حرمة كالشهر الحرام، والبلد الحرام، والإحرام.
إن الله مع المتقين: المتقون هم المؤمنون الذين يتقون معاصي الله تعالى ومخالفة سننه في الحياة وكونه تعالى معهم: يسددهم ويعينهم وينصرهم.
التهلكة: الهلكة والهلاك مثلها.
الإحسان: اتقان الطاعة وتخليصها من شوائب الشرك، وفعل الخير أيضا.
معنى الآيتين:
الآية الأولى [194] في سياق ما قبلها تشجع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم وتعلمهم أن من قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام، ومن قاتلهم في الحرم فليقاتلوه في الحرم، ومن قاتلهم وهم محرمون فليقاتلوه وهو محرم، وهكذا الحرمات قصاص بينهم ومساواة. ومن اعتدى عليهم فليعتدوا عليه بمثل اعتدائه عليهم، وأمرهم بتقواه عز وجل وأعلمهم أنه معهم ما اتقوه بالتسديد والعون والنصر.
وأما الآية [195] فقد أمرهم بإنفاق المال للجهاد لإعداد العدة وتسيير السرايا والمقاتلين ونهاهم أن يتركوا الإنفاق في سبيل الله الذي هو الجهاد فإنهم متى تركوا الإنفاق والجهاد كانوا كمن ألقى بيده في الهلاك، وذلك أن العدو المتربص بهم إذا رآهم قعدوا عن الجهاد غزاهم وقاتلهم وانتصر عليهم فهلكوا. كما أمرهم بالإحسان في أعمالهم كافة وإحسان الأعمال إتقانها وتجويدها. وتنقيتها من الخلل والفساد، وواعدهم إن هم أحسنوا أعمالهم بتأييدهم ونصرهم فقال تعالى: { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } ومن أحبه الله أكرمه ونصره وما أهانه ولا خذله.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- احترام الشهر الحرام وسائر الحرمات.
2- جواز المقاصة والمجازاة لمن اعتدى بحيث يعامل بما عامل به سواء بسواء.
3- رد الإعتداء والنيل من المعتدي الظالم البادي بالظلم والإعتداء.
4- معية الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى والإحسان.
5- فضيلة الإحسان لحب الله تعالى للمحسنين.
[2.196]
شرح الكلمات:
وأتموا الحج والعمرة لله: فإتمامهما أن يحرم بهما من الميقات وأن يأتي بأركانهما وواجباتهما على الوجه المطلوب من الشارع، وأن يخلص فيهما لله تعالى.
فإن أحصرتم: الحصر والإحصار أن يعجز الحاج أو المعتمر عن إتمام حجه أو عمرته إما بعدو يصده عن دخول مكة أو مرض شديد لا يقدر معه على مواصلة السير إلى مكة.
فما استيسر من الهدي: أي فالواجب على من أحصر ما تيسر له من الهدي شاة أو بقرة أو بعير.
ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله: لا يتحلل المحصر من إحرامه حتى يذبح ما تيسر له من الهدى فإن ذبح تحلل بحلق رأسه.
ففدية: فالواجب هو فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
فمن تمتع بالعمرة إلى الحج: فمن أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل وبقي في مكة ينتظر الحج وحج فعلا فالواجب ما استيسر من الهدي.
فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام: فمن تمتع بالعمرة ولم يجد هديا لعجزه عنه فالواجب صيام عشرة أيام ثلاثة في مكة وسبعة في بلده.
ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام: أي ما وجب من الهدي أو الصيام عند العجز وهو لغير أهل الحرم أما سكان مكة والحرم حولها وهم أهل الحرم فلا يجب عليهم شيء إن تمتعوا.
معنى الآية الكريمة:
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له سبحانه وتعالى فيأتوا بها على الوجه المطلوب وأن يريدوا بهما الله تعالى، ويخبرهم أنهم إذا أحصروا فلم يتمكنوا من إتمامهما فالواجب عليهم أن يذبحوا أو ينحروا ما تيسر لهم فإذا ذبحوا أو نحروا حلوا من إحرامهم، وذلك بحلق شعر رؤوسهم أو تقصيره، كما أعلمهم أن من كان منهم مريضا أو به أذى من رأسه واضطر إلى حلق شعر رأسه أو لبس ثوب أو تغطية رأس فالواجب بعد أن يفعل ذلك فدية وهي واحد من ثلاثة على التخيير: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين حفنتان من طعام، أو ذبح شاة. كما أعلمهم أن من تمتع بالعمرة إلى الحج ولم يكن من سكان الحرم أن عليه ما استيسر من الهدي شاة أو بقرة أو بعير فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في الحج من أول شهر الحجة إلى يوم التاسع منه وسبعة أيام إذا رجع إلى بلاده. وأمرهم بتقواه عز وجل وهي امتثال أوامره والأخذ بتشريعه وحذرهم من إهمال أمره والإستخفاف بشرعه فقال: { واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب }.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- وجوب إتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما بالإحرام من الميقات، وإن كان الحج تطوعا والعمرة غير واجبة.
2- بيان حكم الإحصار وهو ذبح شاة من مكان الإحصار ثم التحلل بالحلق أو التقصير، ثم القضاء من قابل إن تيسر ذلك للعبد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى هو وأصحابه العمرة التي صدوا فيها عن المسجد الحرام عام الحديبية.
3- بيان فدية الأذى وهي أن من ارتكب محظورا من محظورات الإحرام بأن حلق أو لبس مخيطا أو غطى رأسه لعذر وجب عليه فدية وهي صيام أو إطعام أو ذبح شاة.
4- بيان حكم التمتع مفصلا وهو أن من كان من غير سكان مكة والحرم حولها إذا أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل منها وبقي في مكة وحج من عامه أن عليه ذبح شاة فإن عجز صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة في بلاده.
5- الأمر بالتقوى وهي طاعة الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، والتحذير من (تركها لما يترتب عليه من العقاب الشديد).
[2.197-199]
شرح الكلمات:
أشهر معلومات: هي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة هذه هي الأشهر التي يحرم فيها بالحج.
فرض: نوى الحج وأحرم به.
فلا رفث: الرفث الجماع ومقدماته.
ولا فسوق: الفسق والفسوق الخروج من طاعة الله بترك واجب أو فعل حرام.
الجدال: المخاصمة والمنازعة.
الجناح: الإثم.
تبتغوا فضلا: تطلبوا ربحا في التجارة من الحج.
أفضتم من عرفات: الإفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج وذلك بعد غروب الشمس من يوم التاسع من شهر الحجة.
المشعر الحرام: مزدلفة وذكر الله تعالى عندها هو صلاة المغرب والعشاء جمعا بها وصلاة الصبح.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أحكام الحج والعمرة فأخبر تعالى أن الحج له أشهر معلومة وهي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة فلا يحرم بالحج إلا فيها. وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسق والجدال حتى لا يفسد حجه أو ينقص أجره، وانتدب الحاج إلى فعل الخير من صدقة وغيرها فقال: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } ولازمه أنه يثيب عليه ويجزي به. وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال فقال: وتزودوا، وأرشد إلى خير الزاد وهو التقوى، ومن التقوى عدم سؤال الناس أموالهم والعبد غير محتاج وأمرهم بتقواه عز وجل ، أي بالخوف منه حتى لا يعصوه في أمره ونهيه فقال: { واتقون يأولي الألباب } ، والله أحق أن يتقى لأنه الواحد القهار، ثم أباح لهم الاتجار أثناء وجودهم في مكة ومنى فقال: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } يريد رزقا حلالا بطريق التجارة المباحة، ثم أمرهم بذكر الله تعالى في مزدلفة بصلاة المغرب والعشاء والصبح فيها وذلك بعد إفاضتهم من عرفة بعد غروب الشمس فقال عز من قائل: { فإذآ أفضتم من عرفت فاذكروا الله عند المشعر الحرام } ثم ذكرهم بنعمة هدايته لهم بعد الضلال الذي كانوا فيه وانتدبهم إلى شكره وذلك بالإكثار من ذكره فقال تعالى: { واذكروه كما هدكم وإن كنتم من قبله لمن الضآلين }. ثم أمرهم بالمساواة في الوقوف بعرفة والإفاضة منها فليقفوا كلهم بعرفات. وليفيضوا جميعا منها فقال عز وجل { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } ، وذلك أن الحمس كانوا يفيضون من أدنى عرفات حتى ينجوا من الزحمة ويسلموا من الحطمة. وأخيرا أمرهم باستغفار الله أي طلب المغفرة منه ووعدهم بالمغفرة بقوله: { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة الرفث والفسوق والجدال في الإحرام.
2- استحباب فعل الخيرات للحاج أثناء حجه ليعظم أجره ويبر حجه.
3- إباحة الاتجار والعمل للحاج طلبا للرزق على أن لا يحج لأجل ذلك.
4- وجوب المبيت بمزدلفة لذكر الله تعالى.
5- وجوب شكر الله تعالى بذكره وطاعته على هدايته وإنعامه.
6- وجوب المساواة في أداء مناسك الحج بين سائر الحجاج فلا يتميز بعضهم عن بعض في أي شعيرة من شعائر الحج.
7- الترغيب في الإستغفار والإكثار منه.
[2.200-203]
شرح الكلمات:
قضيتم: أديتم وفرغتم منها.
المناسك: جمع منسك وهي عبادات الحج المختلفة.
الخلاق: الحظ والنصيب.
حسنة: حسنة الدنيا كل ما يسر ولا يضر من زوجة صالحة وولد صالح ورزق حلال وحسنة الآخرة النجاة من النار ودخول الجنان.
قنا: احفظنا ونجنا من عذاب النار.
نصيب: حظ وقسط من أعمالهم الصالحة ودعائهم الصالح.
الأيام المعدودات: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.
تعجل في يومين: رمى يوم الأول والثاني وسافر.
ومن تأخر: رمى الأيام الثلاثة كلها.
فلا إثم: أي لا ذنب في التعجل ولا في التأخر.
لمن اتقى: للذي اتقى ربه بعدم ترك واجب أوجبه أو فعل حرام حرمه.
تحشرون: تجمعون للحساب والجزاء يوم القيامة.
معنى الآيات:
بهذه الآيات الأربع انتهى الكلام على أحكام الحج ففي الآية الأولى: [200] يرشد تعالى المؤمنين إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة واستقروا بمنى للراحة والإستجمام أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمي الجمرات، وعند الخروج من الصلوات ذكرا مبالغا في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية يذكرون فيه مفاخر آبائهم وأحساب أجدادهم. وبين تعالى حالهم وهي أن منهم من همه الدنيا فهو لا يسأل الله تعالى إلا ما يهمه منها، وهذا كان عليه أكثر الحجاج في الجاهلية، وأن منهم من يسأل الله تعالى خير الدنيا والآخرة وهم المؤمنون الموحدون فيقولون: { ربنآ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } ، وهذا متضمن تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى هذا الدعاء الجامع والقصد الصالح النافع فلله الحمد والمنة وفي الآية [202] يخبر تعالى أن لأهل الدعاء الصالح وهم المؤمنون الموحدون نصيبا من الأجر على أعمالهم التي كسبوها في الدنيا، وهو تعالى سريع الحساب فيعجل لهم تقديم الثواب وهو الجنة وفي الآية [203] يأمر تعالى عباده الحجاج المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ثلاث مرات إلى عصر اليوم الثالث في أيام التشريق ثم أخبرهم الله تعالى بأنه لا حرج على من تعجل السفر إلى أهله بعد رمي اليوم الثاني، كما لا حرج على من تأخر فرمى اليوم الثالث فقال تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } فالأمر على التخيير وقيد نفي الإثم بتقواه عز وجل فمن ترك واجبا أو فعل محرما فإن عليه إثم معصيته ولا يطهره منها إلا التوبة فنفي الإثم مقيد بالتعجل وعدمه فقط. فكان قوله تعالى لمن اتقى قيدا جميلا، ولذا فليستعدوا لذلك بذكره وشكره والحرص على طاعته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الذكر بمنى عند رمي الجمرات إذ يكبر مع كل حصاة قائلا الله أكبر.
2- فضيلة الذكر والرغبة فيه لأنه من محاب الله تعالى.
3- فضيلة سؤال الله تعالى الخيرين وعدم الاقتصار على أحدهما، وشره الاقتصار على طلب الدنيا وحطامها.
4- فضيلة دعاء { ربنآ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }. فهي جامعة للخيرين معا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت يختم بها كل شوط.
5- وجوب المبيت ثلاث ليالي بمنى ووجوب رمي الجمرات إذ بها يتأتى ذكر الله في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق.
6- الرخصة في التعجل لمن رمى اليوم الثاني.
7- الأمر بتقوى الله وذكر الحشر والحساب والجزاء إذ هذا الذكر يساعد على تقوى الله عز وجل.
[2.204-207]
شرح الكلمات:
يعجبك: يروق لك وتستحسنه.
في الدنيا: إذا تحدث في أمور الدنيا.
ألد الخصام: قوي الخصومة شديدها لذلاقة لسانه.
تولى: رجع وانصرف، أو كانت له ولاية.
الحرث والنسل: الحرث: الزرع، والنسل: الحيوان.
أخذته العزة بالإثم: أخذته الحمية والأنف بذنوبه فهو لا يتقي الله.
يشري نفسه: يبيع نفسه لله تعالى بالجهاد في سبيله بنفسه وماله.
معنى الآيات:
يخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن حال المنافقين، والمؤمنين الصادقين فقال تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: ومن الناس رجل منافق يحسن القول وإذا قال يعجبك قوله لما عليه من طلاء ورونق وذلك إذا تكلم في أمور الحياة الدنيا بخلاف أمور الآخرة فإنه يجهلها وليس له دافع ليقول فيها لأنه كافر، وعندما يحدث يشهد الله أنه يعتقد ما يقول فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الله أني مؤمن وأني أحبك، ويشهد الله أني كذا... وإذا قام من مجلسك وانصرف عنك { سعى في الأرض } أي مشى فيها بالفساد ليهلك الحرث والنسل بارتكاب عظائم الجرائم فيمنع المطر وتيبس المحاصيل الزراعية وتمحل الأرض وتموت البهائم وينقطع النسل وعمله هذا مبغوض لله تعالى فلا يحبه ولا يحب فاعله. كما أخبر تعالى أن هذا المنافق إذا أمر بمعروف أو نهي عن منكر فقيل له اتق الله لا تفعل كذا او اترك كذا تأخذه الأنفة والحمية بسبب ذنوبه التي هو متلبس بها فلا يتقي الله ولا يتوب إليه فيكفيه جزاء على نفاقه وشره وفساده جهنم يمتهدها فراشا لا يبرح منها أبدا ولبئس المهاد جهنم.
كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق فيقول من الناس رجل مؤمن صادق الإيمان باع نفسه وماله لله تعالى طلبا لمرضاته والحياة في جواره في الجنة دار السلام فقال تعالى { ومن الناس من يشري نفسه ابتغآء مرضات الله والله رؤوف بالعباد } رحيم بهم.
قيل أن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاثة الأولى هو الأخنس بن شريق، وأن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية الرابعة [207] هو صهيب بن سنان الرومي أبو يحيى إذ المشركون لما علموا به أنه سيهاجر إلى المدينة ليلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قالوا لن تذهب بنفسك ومالك لمحمد فلن نسمح لك بالهجرة إلا إذا أعطيتنا مالك كله فاعطاهم كل ما يملك وهاجر فلما وصل المدينة ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
" ربح البيع أبا يحيى ربح البيع "
والآيات وإن نزلت في شأن الأخنس وصهيب فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالأخنس مثل سوء لكل من يتصف بصفاته، وصهيب مثل الخير والكمال لكل من يتصف بصفاته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من الاغترار بفصاحة وبيان الرجل إذا لم يكن من أهل الإيمان والإخلاص.
2- شر الناس من يفسد في الأرض بارتكاب الجرائم مما يسبب فسادا وهلاكا للناس والمواشي.
3- قول الرجل يعلم الله، ويشهد الله يعتبر يمينا فليحذر المؤمن أن يقول ذلك وهو يعلم من نفسه أنه كاذب.
4- إذا قيل للمؤمن اتق الله يجب عليه أن لا يغضب أو يكره من أمره بالتقوى بل عليه أن يعترف بذنبه ويستغفر الله تعالى ويقلع عن المعصية فورا.
5- الترغيب في الجهاد بالنفس والمال وجواز أن يخرج المسلم من كل ماله في سبيل الله تعالى ولا يعد ذلك إسرافا ولا تبذيرا إذ الإسراف والتبذير في الإنفاق في المعاصي والذنوب.
[2.208-210]
شرح الكلمات:
السلم: الإسلام.
كافة: جميعا لا يتخلف عن الدخول في الإسلام أحد، ولا يترك من شرائعه ولا من أحكامه شيء.
خطوات الشيطان: مسالكه في الدعوة إلى الباطل وتزيين الشر والقبيح.
فإن زللتم: وقعتم في الزلل وهو الفسق والمعاصي.
البينات: الحجج والبراهين.
هل ينظرون: ما ينظرون: الإستفهام للنفي.
الظلل: جمع ظلة ما يظلل من سحاب أو شجر ونحوهما.
الغمام: السحاب الرقيق الأبيض.
معنى الآيتين:
ينادي الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين آمرا إياهم بالدخول في الإسلام دخولا شموليا بحيث لا يتخيرون بين شرائعه وأحكامه ما وافق مصالحهم وأهواءهم قبلوه وعملوا به، وما لم يوافق ردوه أو تركوه وأهملوه، وإنما عليهم أن يقبلوا شرائع الإسلام وأحكامه كافة، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر، إذ هو الذي زين لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم السبت وتحريم أكل لحم الإبل بحجة أن هذا من دين الله الذي كان عليه صلحاء بني اسرائيل فنزلت هذه الآية فيهم تأمرهم وتأمر سائر المؤمنين بقبول كافة شرائع الإسلام وأحكامه، وتحذرهم من عاقبة اتباع الشيطان فإنها الهلاك التام وهو ما يريده الشيطان بحكم عداوته للإنسان. هذا ما تضمنته الآية [208] أما الآية الثانية [209] فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله الشيطان فقبل بعض شرائع الإسلام ولم يقبل البعض الآخر وقد عرف أن الإسلام حق، وشرائعه أحق فقال تعالى { فإن زللتم من بعد ما جآءتكم البينات } يحملها كتاب الله القرآن ويبينها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله سينتقم منكم لأنه تعالى غالب على أمره حكيم في تدبيره وإنجاز وعده ووعيده وأما الآية الثالثة [210] فقد تضمنت حث المتباطئين على الدخول في الإسلام إذ لا عذر لهم في ذلك حيث قامت الحجة وظهرت ولاحت المحجة فقال تعالى: { هل ينظرون } أي ما ينظرون { إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } وعند ذلك يؤمنون ومثل هذا الإيمان الاضطراري لا ينفع حيث يكون العذاب لزاما. بقضاء الله العادل، قال تعالى: { وقضي الأمر } أي إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء وانتهى الأمر إليه فحكم وانتهى كل شيء فعلى أولئك المتباطئين المترددين في الدخول في الإسلام المعبر عنه بالسلم لأن الدخول فيه حقا سلم، والخروج منه أو عدم الدخول فيه حقا حرب عليهم أن يدخلوا في الإسلام ألا إلى الإسلام يا عباد الله! فإن السلم خير من الحرب!
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب قبول شرائع الإسلام كافة وحرمة التخير فيها.
2- ما من مستحل حراما، أو تارك واجبا إلا وهو متبع للشيطان في ذلك.
3- وجوب توقع العقوبة عند ظهور المعاصي العظام لئلا يكون أمن من مكر الله.
4- إثبات صفة المجيء للرب تعالى: لفصل القضاء يوم القيامة.
5- حرمة التسويف والمماطلة في التوبة.
[2.211-212]
شرح الكلمات:
سل: إسأل: سقطت منه الهمزتان للتخفيف.
بني إسرائيل: ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وإسرائيل لقب يعقوب.
آية: خارقة للعادة كعصا موصى تدل على أن من أعطاه الله تلك الآيات هو رسول الله حقا. وآيات بني إسرائيل التي آتاهم الله تعالى منها فلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى في التيه عليهم.
نعمة الله: ما يهبه لعبده من خير يجلب له المسرة ويدفع عنه المضرة ونعم الله كثيرة.
يسخرون: يحتقرون ويستهزئون.
معنى الآيتين:
يأمر الله تعالى رسوله أن يسأل بني إسرائيل عن الآيات الكثيرة التي آتاهم الله، وكيف كفروا بها فلم تنفعهم شيئا، والمراد تسليته صلى الله عليه وسلم من الألم الذي يحصل له من عدم إيمان أهل الكتاب والمشركين به وبما جاء به من الهدى وضمن ذلك تقريع اليهود وتأنيبهم على كفرهم بآيات الله وإصرارهم على عدم الدخول في الإسلام. ثم أخبر تعالى أن من يبدل نعمة الله التي هي الإسلام بالكفر به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإن عقوبة الله تعالى تنزل به لا محالة في الدنيا أو في الآخرة لأن الله شديد العقاب.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [211] وأما الآية الثانية [212] فقد أخبر تعالى أن الشيطان زين للذين كفروا بالله وشرائعه الحياة الدنيا فرغبوا فيها وعملوا لها وأصبحوا لم يروا غيرها ولذلك سخروا من المؤمنين الزاهدين فيها لعلمهم بزوالها وقلة نفعها فلم يكرسوا كل جهدهم لجمعها والحصول عليها بل أقبلوا على طاعة ربهم وأنفقوا ما في أيديهم في سبيل الله طلبا لرضاه. كما أخبر أن المؤمنين المتقين سيجازيهم يوم القيامة خير الجزاء وأوفره فيسكنهم دار السلام في عليين، ويخزي أعداءهم الساخرين منهم ويهينهم فيسكنهم الدرك الأسفل من النار.
وهو تعالى المتفضل ذو الإحسان إذا رزق يرزق بغير حساب وذلك لواسع فضله وعظيم ما عنده.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- التحذير من كفر النعم لما يترتب على ذلك من أليم العذاب وشديد العقاب ومن أجل النعم نعمة الإسلام فمن كفر به وأعرض عنه فقد تعرض لأشد العقوبات وأقساها وما حل ببني إسرائيل من ألوان الهون والدون دهرا طويلا شاهد قوي وما حل بالمسلمين يوم أعرضوا عن الإسلام واستبدلوا به الخرافات ثم القوانين الوضعية شاهد أكبر أيضا.
2- التحذير من زينة الحياة الدنيا والرغبة فيها والجمع لها ونسيان الدار الآخرة وترك العمل لها. فإن أبناء الدنيا اليوم يسخرون من أبناء الآخرة، ولكن أبناء الآخرة أهل الإيمان والتقوى سيكونون يوم القيامة فوقهم درجات إذ هم في أعالي الجنان والآخرون في أسافل النيران.
[2.213]
شرح الكلمات:
كان الناس أمة واحدة: كانوا قبل وجود الشرك فيهم أمة واحدة على الإسلام والتوحيد وذلك قبل قوم نوح.
النبيون: جمع نبي والمراد بهم الرسل إذ كل نبي رسول بدليل رسالتهم القائمة على البشارة والنذارة والمستمدة من كتب الله تعالى المنزلة عليهم.
الكتاب: اسم جنس يدخل فيه كل الكتب الإلهية.
أوتوه: أعطوه.
البينات: الحجج والبراهين تحملها الرسل إليهم وتورثها فيهم شرائع وأحكاما وهدايات عامة.
بغيا: البغي الظلم والحسد.
الصراط المستقيم: الإسلام المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال في الحياتين.
معنى الآية الكريمة:
يخبر تعالى أن الناس كانوا ما بين آدم ونوح عليهما السلام في فترة طويلة أمة واحدة على دين الإسلام لم يعبد بينهم إلا الله تعالى حتى زين الشيطان لبعضهم عبادة غير الله تعالى فكان الشرك والضلال فبعث الله تعالى لهدايتهم نوحا عليه السلام فاختلفوا إلى مؤمن وكافر وموحد ومشرك، وتوالت الرسل تحمل كتب الله تعالى المتضمنة الحكم الفصل في كل ما يختلفون فيه. ثم أخبر تعالى عن سنته في الناس وهي أن الذين يختلفون في الكتاب أي فيما يحويه من الشرائع والأحكام هم الذين سبق أن أوتوه وجاءتهم البينات فهؤلاء يحملهم الحسد وحب الرئاسة، والإبقاء على مصالحهم على عدم قبول ما جاء به الكتاب، واليهود هم المثل لهذه السنة فإنهم أوتوا التوراة فيها حكم الله تعالى وجاءتهم البينات على أيدي العابدين من أنبيائهم ورسلهم واختلفوا في كثير من الشرائع والأحكام وكان الحامل له على ذلك البغي والحسد والعياذ بالله.
وهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما اختلف فيه أهل الكتابين اليهود والنصارى فقال تعالى { فهدى الله الذين آمنوا } لما اختلف فيه أولئك المختلفون من الحق هداهم بإذنه ولطفه وتوفيقه فله الحمد وله المنة. ومن ذلك الحق الذي اختلف فيه أهل الكتاب من قبلنا وهدانا الله تعالى إليه:
1- الإيمان بعيسى عبد الله ورسوله حيث كفر به اليهود وكذبوه واتهموه بالسحر وحاولوا قتله؟ وألهة النصارى، وجعلوه إلها مع الله، وقالوا فيه إنه ابن الله. تعالى الله عن الصاحبة والولد.
2- يوم الجمعة وهو أفضل الأيام أخذ اليهود السبت والنصارى الأحد وهدى الله تعالى إليه أمة الإسلام.
3- القبلة قبلة أبي الأنبياء إبراهيم استقبل اليهود بيت المقدس واستقبل النصارى مطلع الشمس وهدى الله أمة الإسلام إلى إستقبال البيت العتيق قبلة إبراهيم عليه السلام. والله يهدي من شاء إلى صراط مستقيم.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- الأصل هو التوحيد والشرك طارىء على البشرية.
2- الأصل في مهمة الرسل البشارة لمن آمن واتقى؟ والنذارة لمن كفر وفجر، وقد يشرع لهم قتال من يقاتلهم فيقاتلونه كما شرع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- من علامات خذلان الأمة وتعرضها للخسار والدمار أن تختلف في كنابها ودينها فيحرفون كلام الله ويبدلون شرائعه طلبا للرئاسة وجريا وراء الأهواء والعصبيات، وهذا الذي تعانى منه أمة الإسلام اليوم وقبل اليوم، وكان سبب دمار بني إسرائيل.
4- أمة الإسلام التي تعيش على الكتاب والسنة عقيدة وعبادة وقضاء هي المعنية بقوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه }.
5- الهداية بيد الله فليطلب العبد دائما الهداية من الله تعالى بسؤاله المتكرر أن يهديه دائما إلى الحق.
[2.214]
شرح الكلمات:
أم حسبتم: أظننتم - أم هي المنقطعة فتفسر ببل والهمزة، والإستفهام انكاري ينكر عليهم ظنهم هذا لأنه غير واقع موقعه.
لما: بمعنى لم النافية.
مثل: صفة وحال الذين من قبلكم.
البأساء والضراء: البأساء: الشدة، من الحاجة وغيرها والضراء: المرض والجراحات والقتل.
متى نصر الله: الاستفهام للإستبطاء.
معنى الآية الكريمة:
ينكر تعالى على المؤمنين وهم في أيام شدة ولأواء ظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون امتحان وابتلاء في النفس والمال بل وأن يصيبهم ما أصاب غيرهم من البأساء والضراء والزلزال وهو الاضطراب والقلق من الأهوال حتى يقول الرسول والمؤمنون معه - استبطاءا للنصر الذي وعدوا به: متى نصر الله؟ فيجيبهم ربهم تعالى بقوله: { ألا إن نصر الله قريب }.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية
1- الابتلاء بالتكاليف الشرعية، ومنه الجهاد بالنفس والمال ضروري لدخول الجنة.
2- الترغيب في الإتساء بالصالحين والاقتداء بهم في العمل والصبر.
3- جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق والاستبطاء للوعد الإلهي انتظارا له.
4- بيان ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من شدة وبلاء أيام الجهاد وحصار المشركين لهم.
[2.215]
شرح الكلمات:
من خير: من مال إذ المال يطلق عليه لفظ الخير.
الأقربين: كالأخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمات وأولادهم والأخوال والخالات وأولادهم.
وما تفعلوا من خير: ما: شرطية ومن: بيانية والخير هنا لسائر أنواع البر والإحسان.
فإن الله به عليم: الجملة علة لجواب الشرط المحذوف والمقدر يثبكم عليه.
معنى الآية الكريمة
سأل عمرو بن الجموح وكان ذا مال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينفق وعلى من ينفق فنزلت الآية جوابا لسؤاله فبينت أن ما ينفق هو المال وسائر الخيرات وأن الأحق بالإنفاق عليهم هم الوالدان والأقربون، واليتامى والمساكين وأبناء السبيل. وأعلمهم تعالى أن ما يفعله العبد من خير يعلمه الله تعالى ويجزي به فرغب بذلك في فعل الخير مطلقا.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية:
1- سؤال من لا يعلم حتى يعلم وهذا طريق العلم، ولذا قالوا: (السؤال نصف العلم).
2- أفضلية الإنفاق على المذكورين في الآية إن كان المنفق غنيا وهم فقراء محتاجون.
3- الترغيب في فعل الخير والوعد من الله تعالى بالجزاء الأوفى عليه.
[2.216]
شرح الكلمات:
كتب: فرض فرضا مؤكدا حتى لكأنه مكتوب كتابة.
القتال: قتال الكافرين بجهادهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.
كره: مكروه في نفوسكم طبعا.
عسى: هذا الفعل معناه الترجي والتوقع أعني أن ما دخلت عليه مرجو الحصول متوقع لا على سبيل الجزم، إلا أنها إن كانت من الله تعالى تفيد اليقين.
معنى الآية الكريمة:
يخبر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بأنه فرض عليهم قتال المشركين والكافرين وهو يعلم أنه مكروه لهم بطبعهم لما فيه من الآلام والأتعاب وإضاعة المال والنفس، وأخبرهم أن ما يكرهونه قد يكون خيرا، وأن ما يحبونه قد يكون شرا، ومن ذلك الجهاد فإنه مكروه لهم وهو خير لهم لما فيه من عزتهم ونصرتهم ونصره دينهم مع حسن الثواب وعظم الجزاء في الدار الآخرة كما أن ترك الجهاد محبوب لهم وهو شر لهم لأنهم يشجع عدوهم على قتالهم واستباحة بيضتهم، وانتهاك حرمات دينهم مع سوء الجزاء في الدار الآخرة. وهذا الذي أخبرهم تعالى به من حبهم لأشياء وهي شر لهم وكراهيتهم لأشياء وهي خير لهم هو كما أخبر لعلم الله به قبل خلقه، والله يعلم وهم لا يعلمون فيجب التسليم لله تعالى في أمره وشرعه مع حب ما أمر به وما شرعه واعتقاد أنه خير لا شر فيه.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
1- وجوب الجهاد على أمة الإسلام ما بقيت فتنة في الأرض وشرك فيها.
2- جهل الإنسان بالعواقب يجعله يحب المكروه، ويكره المحبوب.
3- أوامر الله كلها خير، ونواهيه كلها شر. فلذا يجب فعل أوامره واجتناب نواهيه.
[2.217-218]
شرح الكلمات
الحرام قتال فيه: أي المحرم. قتال بدل اشتمال من الحرام، إذ السؤال عن القتال في الشهر الحرام (رجب).
كبير: أي ذنب عظيم.
صد عن سبيل الله: صرف عن دين الله.
وكفر به: كفر بالله تعالى.
المسجد الحرام: مكة والمسجد الحرام فيها.
أهله: النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون.
أكبر: أعظم وزرا.
الفتنة: الشرك واضطهاد المؤمنين ليكفروا.
حبطت أعمالهم: بطل أجرها فلا يثابون عليها لردتهم.
هاجروا: تركوا ديارهم خوف الفتنة والاضطهاد في ذات الله.
معنى الآيتين:
لما أخبر تعالى أنه كتب على المؤمنين القتال أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة يتعرف على أحوال الكفار. فشاء الله تعالى أن يلقى عبد الله ورجاله عيرا لقريش فقاتلوهم فقتلوا منهم رجلا يدعى عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين وأخذوا العير وقفلوا راجعين وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الثانية وهي أول ليلة من رجب.
فثارت ثائرة قريش وقالت: محمد يحل الشهر الحرام بالقتال فيه، وردد صوتها اليهود والمنافقون بالمدينة حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف العير والأسيرين ولم يقض فيهما بشيء، وتعرض عبد الله بن جحش ورفاقه لنقد ولوم عظيمين من أكثر الناس، وما زال الأمر كذلك حتى أنزل الله تعالى هاتين الآيتين { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } أي عن القتال فيه، أجبهم يا رسولنا وقل لهم القتال فيه وزر كبير بيد أن الصد عن دين الله والكفر به تعالى وكذا الصد عن المسجد الحرام، وإخراج الرسول منه والمؤمنين وهم أهله وولاته بحق أعظم وزرا في حكم الله تعالى، كما أن شرك المشركين في الحرم وفتنة المؤمنين فيه لإرجاعهم عن دينهم الحق إلى الكفر بشتى أنواع التعذيب أعظم من القتل في الشهر الحرام. مضافا إلى كل هذا عزمهم على قتال المؤمنين إلى أن يردوهم عن دينهم إن استطاعوا. ثم أخبر تعالى المؤمنين محذرا إياهم من الارتداد مهما كان العذاب أن من يرتد عن دينه ولم يتب بأن مات كافرا فإن أعماله الصالحة كلها تبطل ويصبح من أهل النار الخالدين فيها أبدا. هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الآية الثانية [218] إن الذين آمنوا والذين هاجروا فقد نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه طمأنهم الله تعالى على أنهم غير آثمين لقتالهم في الشهر الحرام كما شنع عليهم الناس بذلك، وإنهم يرجون رحمة الله أي الجنة وأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم، وذلك لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله، وقال تعالى فيهم: { إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم }.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام.
2- نسخ القتال في الشهر الحرام بدليل قتال الرسول صلى الله عليه وسلم هوازن وثقيف في شوال وأول القعدة وهما في الأشهر الحرم.
3- الكشف عن نفسية الكافرين وهي عزمهم الدائم على قتال المسلمين إلى أن يردوهم عن الإسلام ويخرجوهم منه.
4- الردة محبطة للعمل فإن تاب المرتد يستأنف العمل من جديد، وإن مات قبل التوبة فهو من أهل النار الخالدين فيها أبدا.
5- بيان فضل الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله.
[2.219-220]
شرح الكلمات:
الخمر: كل ما خامر العقل وغطاه فأصبح شاربه لا يميز ولا يعقل، ويطلق لفظ الخمر على عصير العنب أو التمر أو الشعير وغيرها.
الميسر: القمار وسمي ميسرا لأن صاحبه ينال المال بيسر وسهولة.
الإثم: كل ضار فاسد يضر بالنفس أو العقل أو البدن أو المال أو العرض.
المنافع: جمع منفعة وهي ما يسر ولا يضر من سائر الأقوال والأفعال والمواد.
العفو: العفو هنا: ما فضل وزاد عن حاجة الإنسان من المال.
تتفكرون: فتعرفون ما ينفع في كل منهما فتعملون لدنياكم ما يصلحها، وتعملون لآخرتكم ما يسعدكم فيها، وينجيكم من عذابها.
تخالطونهم: تخلطون مالهم مع مالكم ليكون سواء.
لأعنتكم: العنت المشقة الشديدة يقال أعنته إذا كلفه مشقة شديدة.
معنى الآيتين:
كان العرب في الجاهلية يشربون الخمور ويقامرون وجاء الإسلام فبدأ دعوتهم إلى التوحيد والإيمان بالبعث الآخر إذ هما الباعث القوي على الاستقامة في الحياة، ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم والعديد من أصحابه وأصبحت المدينة تمثل مجتمعا إسلاميا وأخذت الأحكام تنزل شيئا فشيئا فحدث يوما أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملان فخلط في القراءة فنزلت آية النساء
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى
[الآية: 43] فكانوا لا يشربونها إلا في أوقات معينة وهنا كثرت التساؤلات حول شرب الخمر فنزلت هذه الآية { يسألونك عن الخمر والميسر } فأجابهم الله تعالى بقوله { قل فيهمآ إثم كبير ومنفع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما } فترك الكثير كلا من شرب الخمر ولعب القمار لهذه الآية. وبقي آخرون فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعا باتا ويقول: (اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا) فاستجاب الله تعالى له ونزلت آية المائدة:
يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر
[الآية: 90] إلى قوله
فهل أنتم منتهون
[الآية: 91] فقال عمر: (انتهينا ربنا) وبذلك حرمت الخمر وحرم الميسر تحريما قطعيا كاملا ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم حد الخمر وهو الجلد. وحذر من شربها وسماها أم الخبائث وقال:
" مدمن الخمر لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه في ثلاثة نفر وهم العاق لوالديه، ومسبل إزاره، ومدمن شرب الخمر ".
وقوله تعالى: { فيهمآ إثم كبير ومنفع للناس } فهو كما قال تعالى فقد بين في سورة المائدة منشأ الإثم وهو أنهما يسببان العداوة والبغضاء بين المسلمين ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة وأي إثم أكبر في زرع العداوة والبغضاء بين أفراد المسلمين، والإعراض عن ذكر الله وتضييع الصلاة حقا إن فيهما لإثما كبيرا، وأما المنافع فهي إلى جانب هذا الإثم قليلة ومنها الربح في تجارة الخمر وصنعها، وما تكسب شاربها من النشوة والفرح والسخاء والشجاعة، وأما الميسر فمن منافعه الحصول على المال بلا كد ولا تعب وانتفاع بعض الفقراء، به إذ كانوا يقامرون على الجزور من الإبل ثم يذبح ويعطى للفقراء والمساكين.
أما قوله تعالى في الآية { ويسألونك ماذا ينفقون } فهو سؤال نشأ عن استجابتهم لقول الله تعالى:
وأنفقوا في سبيل الله
[البقرة: 195] فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل الله فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: { قل العفو } أي ما زاد على حاجتكم وفضل عن نفقتكم على أنفسكم. ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم
" خيرالصدقة ما كان عن ظهر غنى "
رواه البخاري، وقوله { كذلك يبين الله لكم الأيت لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } أي مثل هذا البيان يبين الله لكم الشرائع والأحكام والحلال والحرام ليعدكم بذلك إلى التفكير الواعي البصير في أمر الدنيا والآخرة فتعملون لدنياكم على حسب حاجتكم إليها وتعملون لآخرتكم التي مردكم إليها وبقاؤكم فيها على حسب ذلك.
وهذا ما تضمنته الآية الأولى [219] أما الآية الثانية [220] { ويسألونك عن اليتامى } الآية فإنه لما نزل قوله تعالى من سورة النساء
إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا
[الآية: 10] خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد وفصل من كان في بيته يتيم يكفله فصل طعامه عن طعامه وشرابه عن شرابه وحصل بذلك عنت ومشقة كبيرة وتساءلوا عن المخرج فنزلت هذه الآية وبينت لهم أن المقصود هو إصلاح مال التيامى وليس هو فصله أو خلطه فقال تعالى: { قل إصلاح لهم.... } مع الخلط خير من الفصل مع عدم الإصلاح ودفع الحرج في الخلط فقال: { وإن تخالطوهم فإخوانكم } ، والأخ يخالط أخاه في ماله، وأعلمهم أنه تعالى يعلم المفسد لمال اليتيم من المصلح له ليكونوا دائما على حذر، وكل هذا حماية لمال اليتيم الذي فقد والده. ثم زاد الله في منته عليهم يرفع الحرج في المخالطة فقال تعالى { ولو شآء الله لأعنتكم } أي أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال يتاماكم وقوله إن الله عزيز أي غالب على ما يريده حكيم فيما يفعله ويقضي به.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- حرم الخمر والميسر حيث نسخت هذه الآية بآية المائدة لقوله تعالى فيها فاجتنبوه وقوله فهل أنتم منتهون.
2- بيان أفضل صدقة التطوع وهي ما كانت عن ظهر غنى وهو العفو في هذه الآية.
3- استحباب التفكر في أمر الدنيا والآخرة لإعطاء الأولى بقدر فنائها والآخرة بحسب بقائها.
4- جواز خلط مال اليتيم بمال كافله إذا كان أربح له وأوفر وهو معنى الإصلاح في الآية.
5- حرمة مال اليتيم، والتحذير من المساس به وخلطه إذا كان يسبب نقصا فيه أو إفسادا.
[2.221]
شرح الكلمات:
ولا تنكحوا: لا تتزوجوا.
الأمة: خلاف الحرة.
ولو أعجبتكم: أي أعجبكم حسنها وجمالها.
يدعون إلى النار: بحالهم ومقالهم وأفعالهم.
آياته: أحكام دينه ومسائل شرعه.
معنى الآية الكريمة:
ينهى الله تعالى المؤمنين أن يتزوجوا المشركات إلا أن يؤمن بالله ورسوله، فإن آمن جاز نكاحهن، وأعلمهم منفرا من نكاح المشركات مرغبا في نكاح المؤمنات فقال: ولأمة مؤمنة فضلا عن حرة خير من حرة مشركة، ولو أعجبتكم المشركة لحسنها وجمالها، كما نهاهم محرما عليهم أن يزوجوا المؤمنات بالمشركين حتى يؤمنوا فإن آمنوا جاز لهم أن ينكحوهم بناتهم ونساءهم فقال تعالى: { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } وقال منفرا مرغبا ولعبد مؤمن خير من حر مشرك ولو أعجبهم المشرك لشرفه أو ماله أو سلطانه، وعلل لذلك بقوله. أولئك أي المشركات والمشركون يدعون إلى النار فمخالطتهم مضرة ومفسدة لا سيما بالتزوج منهم، والله عز وجل يدعوا إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح، وإلى المغفرة بالتوبة الصادقة فاستجيبوا له وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه. كما أنه تعالى يبين آياته للناس ليعدهم للتذكر والإتعاظ فيقبلون على طاعته الموصلة إلى رضاه والجنة، ويبعدون عن معصيته المؤدية إلى سخطه والنار.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
1- حرمة نكاح المشركات، أما الكتابيات فقد أباحهن الله تعالى بآيات المائدة إذ قال:
والمحصنت من الذين أوتوا الكتب من قبلكم
[المائدة: 5].
2- حرمة نكاح المؤمنة الكافر مطلقا مشركا كان أو كتابيا.
3- شرط الولاية في نكاح المرأة لقوله تعالى ولا تنكحوا المشركين فهو هنا يخاطب أولياء النساء المؤمنات، ولذا لا يصح نكاح إلى بولي.
4- التنفير من مخالطة المشركين والترغيب في البعد عنهم لأنهم يدعون إلى الكفر بحالهم ومقالهم وأعمالهم، وبذلك هم يدعون إلى النار.
5- وجوب موالاة أهل الإيمان ومعاداة أهل الكفر والضلال لأن الأولين يدعون إلى الجنة والآخرين يدعون إلى النار.
[2.222-223]
شرح الكلمات:
المحيض: مكان الحيض وزمنه والحيض دم يخرج من رحم المرأة إذا خلا من الجنين.
أذى: ضرر يضر المجامع في أيامه.
فاعترلوا النساء في المحيض: اتركوا جماعهن أيام الحيض.
ولا تقربوهن حتى يطهرن: أي لا تجامعوهن حتى ينقطع دم الحيض.
فإذا تطهرن: أي إذا انقطع دم حيضهن واغتسلن منه.
فأتوهن من حيث أمركم الله: أي جامعوهن في قبلهن، وهن طاهرات متطهرات.
نساؤكم حرث لكم: يريد مكان إنجاب الأولاد فشبه النساء بالحرث لأن الأرض إذا حرثت أنبتت الزرع، والمرأة إذا وطئت أنبتت الولد بإذن الله تعالى.
فأتوا حرثكم أنى شئتم: إذن بجماع لمرأة مقبلة أو مدبرة إذا كان ذلك في القبل الذي هو منبت الزرع، وهي طاهرة من الحيض والنفاس.
وقدموا لأنفسكم: يريد الأعمال الصالحة ومنها إرادة تحصين النفس والزوجة بالجماع وإرادة إنجاب الأولاد الصالحين الذين يوحدون الله ويدعون لوالديهم طوال حياتهم.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى رسوله بأن بعض المؤمنين سألوه عن المحيض هل تساكن المرأة معه وتؤاكل وتشارب أو تهجر بالكلية حتى تطهر إذ كان هذا من عادة أهل الجاهلية، وأمره أن يقول لهم الحيض أذى يضر بالرجل المواقع فيه، وعليه فليعتزلوا النساء الحيض في الجماع فقط لا في المعاشرة والمآكلة والمشاربة، وإنما في الجماع فقط أيام سيلان الدم بل لا بأس بمباشرة الحائض في غير ما بين السرة والركبة للحديث الصحيح في هذا كما أكد هذا المنع بقوله لهم: ولا تقربوهن أي لا تجامعوهن حتى يطهرن بإنقطاع دمهن والاغتسال بعده لقوله فإذا تطهرن أي اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله بإتيانهن وهو القبل لا الدبر فإنه محرم وأعلمهم تعالى أنه يحب التوابين من الذنوب المتطهرين من النجاسات والأقذار فليتوبوا وليتطهروا ليفوزوا بحب مولاهم عز وجل هذا معنى الآية الأولى: [222] أما الآية الثانية [223] وهي قوله تعالى: { نسآؤكم حرث لكم } فهي تضمنت جواب سؤال وهو هل يجوز جماع المرأة مدبرة بأن يأتيها الرجل من ورائها إذ حصل هذا السؤال من بعضهم فعلا فأخبر تعالى أنه لا مانع من ذلك إذا كان في القبل وكانت المرأة طاهرة من دمي الحيض والنفاس، وسمى المرأة حرثا لأن رحمها ينبت فيه الولد كما ينبت الزرع في الأرض الطيبة وما دام الأمر كذلك فليأت الرجل امرأته كما شاء مقبلة أو مدبرة إذ المقصود حاصل وهو الإحصان وطلب الولد.
فقوله تعالى أنى شئتم يريد على أي حال من إقبال أو إدبار شئتم شرط أن يكون ذلك في القبل لا الدبر. ثم وعظ تعالى عباده بقوله: وقدموا لأنفسكم من الخير ما ينفعكم في آخرتكم واعلموا أنكم ملاقوا الله تعالى فلا تغفلوا عن ذكره وطاعته إذ هذا هو الزاد الذي ينفعكم يوم تقفون بين يدي ربكم.
وأخيرا أمر رسوله أن يبشر المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وسعادتهما من كان إيمانه صحيحا مثمرا التقوى والعمل الصالح.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- حرمة الجماع أثناء الحيض والنفاس لما فيه من الضرر، ولقوله تعالى { فاعتزلوا النسآء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن }.
2- حرم وطء المرأة إذا انقطع دم حيضها أو نفاسها ولم تغتسل، لقوله تعالى: { فإذا تطهرن فأتوهن }.
3- حرمة نكاح المرأة في دبرها لقوله تعالى: { فأتوهن من حيث أمركم الله } وهو القبل.
4- وجوب التطهير من الذنوب بالتوبة، والتطهير من الأقذار والنجاسات بالماء.
5- وجوب تقديم ما أمكن من العمل الصالح ليكون زاد المسلم إلى الدار الآخرة لقوله تعالى: { وقدموا لأنفسكم }.
6- وجوب تقوى الله تعالى بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه وزجر.
7- بشرى الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن ومؤمنة.
[2.224-227]
شرح الكلمات:
العرضة: ما يوضع مانعا من شيء، واليمين يحلفها المؤمن أن لا يفعل خيرا.
الأيمان: جمع يمين نحو والله لا أفعل كذا أو والله لأفعلن كذا.
البرور: الطاعة وفعل البر.
اللغو: الباطل، وما لا خير فيه. ولغو اليمين أن يحلف العبد على الشيء يظنه كذا فيتبين خلافه، أو ما يجري على لسانه من أيمان من غير إرادة الحلف.
كسبت قلوبكم: ما تعمد القلب وقصد اليمين لأجله لفلعه حتما أو منعه.
يؤلون: الإيلاء: الحلف على عدم وطء الزوجة.
التربص: الانتظار والتمهل.
فاءوا: رجعوا إلى وطء نسائهم بعد الامتناع عنه باليمين.
الطلاق: فك رابطة الزوجية وحلها بوقله هي طالق أو مطلقة أو طلقتك.
معنى الآيات:
يهنى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يجعلوا الحلف به مانعا من فعل الخير وذلك كأن يحلف العبد أن لا يتصدق على فلان أو أن لا يكلم فلانا أو أن لا يصلح بين اثنين فقال تعالى ولا تجعلوا الله يريد الحلف به عرضة لأيمانكم أي مانعا لكم من فعل خير أو ترك إثم أو إصلاح بين الناس. وأخبرهم أنه سميع لأقوالهم عليم بنياتهم وأفعالهم فليتقوه عز وجل.
ثم أخبرهم أنه تعالى لا يؤاخذهم باللغو في أيمانهم وهو أن يحلف الرجل على الشيء يظنه كذا فيظهر على خلاف ما ظن، أو أن يجري على لسانه ما لا يقصده من الحلف كقوله لا، والله، بلى والله فهذا مما عفا الله عنه لعباده فلا إثم فيه ولا كفارة تجب فيه. لكن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الإثم وذلك كأن يحلف المرء كاذبا ليأخذ حق أخيه المسلم بيمينه الكاذبة فهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار وهذه لا تنفع فيها الكفارة الموضوعة لمن حلف على أن لا يفعل أو يفعل ثم حنث، وإنما على صاحب اليمين الغموس التوبة بتكذيب نفسه والإعتراف بذنبه ورد الحق الذي أخذه بيمينه الفاجرة إلى صاحبه وبذلك يغفر الله تعالى له ويرحمه، والله غفور رحيم.
وبمناسبة ذكر اليمين ذكر تعالى حكم من يولي من امرأته أي يحلف أن لا يطأها فأخبر تعالى أن على المولي تربص أربعة أشهر فإن فاء إلى امرأته أي رجع إلى وطئها فبها ونعمت، وعليه أن يكفر عن يمينه، وإن لم يفىء إلى وطئها وأصر على ذلك فإن على القاضي أن يوقفه أمامه ويطالبه بالفيء فإن أبى طلقها عليه.
قال الله تعالى: { للذين يؤلون من نسآئهم تربص أربعة أشهر فإن فآءو فإن الله غفور رحيم } يغفر لهم ما ارتكبوه من الذنب في حق نسائهم ويرحمهم لتوبتهم.
وإن عزموا الطلاق بأن أبوا أن يفيئوا طلقوا، والله سميع لأقوالهم عليهم بما في قلوبهم.
فليحذروه بعدم فعل ما يكره، وترك فعل ما يحب.
هداية الآيات:
1- كراهية منع الخير بسبب اليمين وعليه فمن حلف أن لا يفعل خيرا فليكفر عن يمينه وليفعل الخير لحديث الصحيح
" من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ".
2- لغو اليمين معفو عنها ولها صورتان الأولى أن يجري على لسانه لفظ اليمين وهو لا يريد أن يحلف نحو لا والله، وبلى والله، والثانية أن يحلف على شيء يظنه كذا فيتبين خلافه، مثل أن يقول والله ما في جيبي درهم ولا دينار وهو ظان أو جازم أنه ليس في جيبه شيء من ذلك، ثم يجده فهذه صورة لغو اليمين.
3- اليمين المؤاخذ عليها العبد هي أن يحلف متعمدا الكذب قاصدا له من أجل الحصول على منفعة دنيوية وهي المقصودة بقوله تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } وتسمى باليمين الغموس، واليمين الفاجرة.
4- اليمين التي تجب فيها الكفارة هي التي يحلف فيها العبد أن يفعل كذا ويعجز فلا يفعل أو يحلف أن لا يفعل كذا ثم يضطر ويفعل، ولم يقل أثناء حلفه إن شاء الله، والكفارة مبينة في آية المائدة وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.
5- بيان حكم الإيلاء وهو أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته مدة فإن كانت أقل من أربعة أشهر فله أن لا يحنث نفسه ويستمر ممتنعا عن الوطء، إلى أن تنتهي مدة الحلف إلا أن الأفضل أن يطأ ويكفر عن يمينه، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر فإن عليه أن يفيء إلى زوجته أو تطلق عليه وإن كان ساخطا غير راض.
[2.228]
شرح الكلمات:
المطلقات: جمع مطلقة وهي المرأة تسوء عشرتها فيطلقها زوجها أو القاضي.
يتربصن: ينتظرن.
قروء: القرء إما مدة الطهر، و مدة الحيض.
ما خلق الله في أرحامهن: من الأجنة فلا يحل للمطلقة أن تكتم ذلك.
وبعولتهن: أزواجهن واحد البعولة: بعل كفحل ونخل.
بردهن في ذلك: أي في مدة التربص والإنتظار.
ولهن مثل الذي عليهن: يريد على الزوجة حقوق لزوجها، ولها حقوق على زوجها.
وللرجال عليهن درجة: هي درجة القوامة أن الرجل شرعا هو القيم على المرأة.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة طلاق المؤلى إن أصر على عدم الفيئة ذكر تعالى في هذه الآية { والمطلقات } الخ أن على المطلقة التي تحيض أن تنتظر فلا تتعرض للزواج مدة ثلاثة أقراء فإن انتهت المدة ولم يراجعها زوجها فلها أن تتزوج وهذا الإنتظار يسمى عدة وهي واجبة مفروضة عليها لحق زوجها، إذ له الحق أن يراجعها فيها وهذا معنى قوله تعالى في الآية: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا }.
كما أن على المطلقة أن لا تكتم الحيض بأن تقول: ما حضت إلا حيضة أو حيضتين وهي حاضت ثلاثة تريد بذلك الرجعة لزوجها، ولا تقول حضت ثلاثا وهي لم تحض من أجل أن لا ترجع إلى زوجها، ولا تكتم الحمل كذلك حتى إذا تزوجت من آخر تنسب إليه الولد وهو ليس بولده وهذا من كبائر الذنوب. ولذا قال تعالى ولا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، يريد من حيض وحمل إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وقوله تعالى: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } يريد والزوج أحق بزوجته المطلقة ما دامت في عدتها وعلى شرط أن لا يريد بإرجاعها المضارة بها بل لابد وأن يريد برجعتها الإصلاح وطيب العشرة بينهما وهذا ظاهر قوله تعالى: { إن أرادوا إصلاحا } ، وعلى المطلقة أن تنوي برجوعها إلى زوجها الإصلاح أيضا.
ثم أخبر تعالى أن للزوجة من الحقوق على زوجها، مثل ما للزوج عليها من حقوق فقال تعالى: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } وأخبر أن للرجل على المرأة درجة لم ترقها المرأة ولم تكن لها وهي القيومية المفهومة من قوله تعالى من سورة النساء:
الرجال قومون على النسآء بما فضل الله بعضهم على بعض وبمآ أنفقوا من أمولهم
[الآية: 34] وختمت الآية بجملة { والله عزيز حكيم } إشعارا بوجوب تنفيذ هذه التعاليم لعزة الله تعالى وحكمته فإن الغالب يجب أن يطاع والحكيم يجب أن يسلم له في شرعه لأنه صالح نافع غير ضار.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- بيان عدة المطلقة إذا كانت تحيض وهو التربص ثلاثة حيض أو أطهار.
2- حرمة كتمان المطلقة حيضا أو حملا خلقه الله تعالى في رحمها، ولأي غرض كان.
3- أحقية الزوج بالرجعة من مطلقته إذا لم تنقض عدتها، حتى قيل الرجيعة زوجة بدليل أنها لو ماتت يرثها زوجها ولو مات ترثه. وأنه لا يحل أن تخطب أو تتزوج ما دامت في عدتها.
4- إثبات حقوق كل من الزوجين على صاحبه.
5- تقرير سيادة الرجل على المرأة لما وهبه الله من ميزات الرجولة المفقودة في المرأة.
[2.229]
شرح الكلمات:
الطلاق: الإسم من طلق وهو أن يقول الرجل لزوجته أنت طالق أو طلقتك.
مرتان: يطلقها، ثم يردها، ثم يطلقها ثم يردها. أي يملك الزوج الإرجاع في طلقتين أما إن طلق الثالثة فلا يملك ذلك ولا ترجع حتى تنكح زوجا غيره.
فإن خفتم ألا يقيما حدود الله: حسن العشرة فإن خافت المرأة أو خاف الزوج أن لا يؤدي حقوق الزوجية جاز الفداء وهو دفع مال للزوج ليخلي سبيل المرأة تذهب حيث شاءت، ويسمى هذا خلعا.
حدود الله: ما يجب أن ينتهي إليه العبد من طاعة الله ولا يتجاوزه.
الظالم: المتجاوز لما حد الله تعالى، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.
معنى الآية الكريمة
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق فيقرر تعالى في هذه الآية أن الطلاق الذي يملك الزوج الرجعة فيه هو طلقتان أولى، وثانية فقط، ومن هنا فمن طلق الثانية فهو بين خيارين إما أن يمسك زوجته بمعروف، أو يطلقها بإحسان فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره هذا معنى قوله تعالى: { الطلق مرتان فإمساك بمعروف } أي بحسن العشرة وهو أداء ما للزوج من حقوق، أو تسريح أي تطليق بإحسان بأن يعطيها باقي صداقها إن كان، ويمتعها بشيء من المال ولا يذكرها بسوء.
وقوله تعالى: { ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا }: حرم تعالى على الزوج أن يأخذ من مهر زوجته شيئا بدون رضاها، إلا في حال واحدة وهي إذا كرهت المرأة الزوج ولم تطق البقاء معه وهو غير ظالم لها في هذه الحال يجوز أن تعطي الزوج مالا ويطلقها ويسمى هذا خلعا وهو حلال على الزوج غير الظالم، وهذا معنى { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله } وهي هنا المعاشرة الحسنة فلا جناح أي لا إثم فيما فدت به نفسها فلها أن تعطي المال للزوج وله أن يأخذه منها مقابل تركها وحل عصمة الزوجية بينهما.
وقوله تعالى: { تلك حدود الله } يريد أحكام شرعه فلا يحل تجاوز الحلال إلى الحرام، ولا تجاوز الإحسان إلى الإساءة، ولا المعروف إلى المنكر ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه عرضها للعذاب، وما ينبغي له ذلك.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- حرمة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، لأن الله تعالى قال الطلاق مرتان.
2- المطلقة ثلاث طلقات لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره ويطلقها أو يموت عنها.
3- مشروعية الخلع وهو أن تكره المرأة البقاء مع زوجها فتخلع نفسها منه بمال تعطيه إياه عوضا عما أنفق عليها في الزواج بها.
4- وجوب الوقوف عند حدود الله وحرمة تعديها.
5- تحريم الظلم وهو ثلاثة أنواع: ظلم الشرك وهذا لا يغفر للعبد إلا بالتوبة منه وظلم العبد لأخيه الإنسان وهذا لا بد من التحلل منه، وظلم العبد لنفسه بتعدي حد من حدود الله وهذا أمره إلى الله إن شاء غفره وإن شاء واخذ به.
[2.230]
شرح الكلمات:
فإن طلقها فلا تحل له: الطلقة الثالثة فلا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجا غيره.
فلا جناح عليهما: أي لا إثم ولا حرج عليهما في الزواج من جديد.
أن يتراجعا: أن يرجع كل منهما لصاحبه بعقد جديد وبشرط أن يظنا إقامة حدود الله فيهما، وإلا فلا يجوز نكاحهما.
معنى الآية الكريمة:
يقول تعالى مبينا حكم من طلق امرأته الطلقة الثالثة: فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، ويكون النكاح صحيحا ويبني بها الزوج الثاني لحديث
" حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك "
، فإن طلقها الثاني بعد البناء والخلوة والوطء أو مات عنها جاز لها أن تعود إلى الأول إن رغب هو في ذلك وعلما من أنفسهما أنهما يقيمان حدود الله فيهما بإعطاء كل واحد حقوق صاحبه مع حسن العشرة وإلا فلا مراجعة تحل لهما. ولذا قال تعالى إن ظنا أن يقيما حدود الله ثم نوه الله تعالى بشأن تلك الحدود فقال: { وتلك حدود الله } وهي شرائعه، يبينها سبحانه وتعالى لقوم يعلمون، إذ العالمون بها هم الذين يقفون عندها ولا يتعدونها فيسلمون من وصمة الظلم وعقوبة الظالمين.
هداية الآية
من هداية الآية
1- المطلقة ثلاثا لا تحل لمطلقها إلا بشرطين الأول أن تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويبني بها ويطأها والثاني أن يغلب على ظن كل منهما أن العشرة بينهما تطيب وأن لا يتكرر ذلك الاعتداء الذي أدى إلى الطلاق ثلاث مرات.
2- موت الزوج الثاني كطلاقه تصح معه الرجعة إلى الزوج الأول بشرطه.
3- إن تزوجت المطلقة ثلاثا بنية التمرد على الزوج حتى يطلقها لتعود إلى الأول فلا يحلها هذا النكاح لأجل التحليل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أبطله وقال:
" لعن الله المحلل والمحلل له "
ويسمى بالتيس المستعار، ذاك الذي يتزوج المطلقة ثلاثا بقصد أن يحلها للأول.
[2.231]
شرح الكلمات:
أجلهن: أجل المطلقة مقاربة انتهاء أيام عدتها.
أو سرحوهن: تسريح المطلقة تركها بلا مراجعة لها حتى تنقضي عدتها وتبين من زوجها.
ضرارا: مضارة لها وإضرارا بها.
لتعتدوا: لتتجاوزوا حد الإحسان إلى الإساءة.
هزوا: لعبا بها بعدم التزامكم بتطبيق أحكامها.
نعمة الله: هنا هي الإسلام.
الحكمة: السنة النبوية.
يعظكم به: بالذي أنزله من أحكام الحلال والحرام؛ لتشكروه تعالى بطاعته.
معنى الآية الكريمة
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق والخلع والرجعة في هذه الآية يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا طلق أحدهم امرأته وقاربت نهاية عدتها أن يراجعها فيمسكها بمعروف، والمعروف هو حسن عشرتها أو يتركها حتى تنقضي عدتها ويسرحها بمعروف فيعطيها كامل حقوقها ولا يذكرها إلا بخير ويتركها تذهب حيث شاءت. وحرم على أحدهم أن يراجع امرأته من أجل أن يضر بها فلا هو يحسن إليها ولا يطلقها فتستريح منه، فقال تعالى: { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } يريد عليهن حتى تضطر المرأة المظلومة إلى المخالعة فتفدي نفسها منه بمال وأخبر تعالى: أن من يفعل هذا الإضرار فقد عرض نفسه للعذاب الأخروي.
كما نهى تعالى المؤمنين عن التلاعب بالأحكام الشرعية، وذلك بإهمالها وعدم تنفيذها فقال تعالى: { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم حيث من عليهم بالإسلام دين الرحمة والعدالة والإحسان وذلك ليشكروه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
كما عليهم أن يذكروا نعمة الله عليهم زيادة على الإسلام وهي نعمة إنزال الكتاب. والحكمة ليعظهم بذلك فيأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم، وينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم: ثم أمرهم بتقواه عز وجل, فقال { واتقوا الله } وأعلمهم أنه أحق أن يتقى لأنه بكل شيء عليم لا يخفى عليه من أمرهم شيء فليحذروا أن يراهم على معصيته مجانبين لطاعته.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- لا يحل للمطلق أن يراجع امرأته من أجل أن يضر بها ويظلمها حتى تخالعه بمال.
2- حرمة التلاعب بالأحكام الشرعية بعدم مراعاتها، وتنفيذها.
3- وجوب ذكر نعمة الله على العبد وذلك بذكرها باللسان، والاعتراف بها في الجنان.
4- وجوب تقوى الله تعالى في السر والعلن.
5- مراقبة الله تعالى في سائر شؤون الحياة لأنه بكل شيء عليم.
[2.232]
شرح الكلمات:
بلغن أجلهن: أي انتهت عدتهن.
فلا تعضلوهن: أي لا تمنعوهن من التزوج مرة أخرى بالعودة إلى الرجل الذي طلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها.
إذا تراضوا بينهم بالمعروف: إذا رضي الزوج المطلق أن يردها إليه ورضيت هي بذلك.
ذلك يوعظ به: أي النهي عن العضل يكلف به أهل الإيمان إذ هم القادرون على الطاعة.
ذلكم أزكى لكم: أي ترك العضل خير لكم من العضل وأطهر لقلوبكم؛ إذ العضل قد يسبب ارتكاب الفاحشة.
معنى الآية الكريمة:
ينهى الله تعالى أولياء أمور النساء أن يمنعوا المطلقة طلقة أو طلقتين فقط من أن تعود إلى زوجها الذي طلقها وبانت منه بانقضاء عدتها، إذا رضيت هي بالزواج منه مرة أخرى ورضي هو به وعزما على المعاشرة الحسنة بالمعروف وكانت هذه الآية استجابة لأخت معقل بن يسار رضي الله عنه حيث أرادت أن ترجع إلى زوجها الذي طلقها وبانت منه بانقضاء العدة فمنعها أخوها معقل.
وقوله تعالى: { ذلك يوعظ به } أي هذا النهي عن العضل يوجه إلى أهل الإيمان بالله واليوم الآخر فهم الأحياء الذين يستجيبون لله ورسوله إذا أمروا أو نهوا.
وأخيرا أخبرهم تعالى أن عدم منع المطلقة من العودة إلى زوجها خير لهم، حالا ومآلا وأطهر لقلوبهم ومجتمعهم. وأعلمهم أنه يعلم عواقب الأمور وهم لا يعلمون فيجب التسليم بقبول شرعه، والانصياع لأمره ونهيه. فقال تعالى: { والله يعلم وأنتم لا تعلمون }.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- حرمة العضل أي منع المطلقة أن ترجع إلى من طلقها.
2- وجوب الولاية على المرأة، لأن الخطاب في الآية كان للأولياء " ولا تعضلوهن ".
3- المواعظ تنفع أهل الإيمان لحياة قلوبهم.
4- في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه الخير كله، والطهر جميعه.
[2.233]
شرح الكلمات:
حولين: عامين.
وعلى المولود له: أي على الأب.
بالمعروف: بحسب حاله يسارا وإعسارا.
وسعها: طاقتها وما تقدر عليه.
لا تضار والدة بولدها: أي لا يحل أن تؤذى أم الولد بمنعها من إرضاع ولدها، أو بمنعها الأجرة على إرضاعه هذا في حال طلاقها، أو موت زوجها.
ولا مولود له: أي ولا يضار الوالد كذلك بأن يجبر على إرضاع الولد من أمه المطلقة أو يطالب بأجرة لا يطيقها.
وعلى الوارث: الوارث هو الرضيع نفسه إن كان له مال وإلا فعلى من يكفله من عصبته.
فصالا: فطاما للولد قبل نهاية العامين.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة بيان أحكام الطلاق وقد تطلق المرأة أحيانا وهي حامل ذكر تعالى أحكام الرضاع وقال تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي على الأم المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إن أرادت هي وأب الرضيع إتمام الرضاعة، وأن على المولود له وهو الأب ان كان موجودا نفقة المرضعة طعاما وشرابا وكسوة بالمعروف بحسب حال الوالد من الغنى والفقر، إذ لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها من قدرة.
ثم نبه تعالى على أنه لا يجوز أن تؤذى الوالدة بسبب ولدها بأن تمنع من إرضاع ولدها أو تكره على إرضاعه وهي لا تريد ذلك، أو تحرم النفقة مقابل الإرضاع أو يضيق عليها فيها كما لا يجوز أن يضار أي يؤذى المولود له وهو الأب: بأن يجبر على إرضاع ولده من أمه وقد طلقها ولا أن يطالب بنفقة باهظة لا يقدر عليها. وعلى الوارث وهو الرضيع نفسه إن كان له مال. فإن لم يكن له مال فعلى عصبته الذكور الأقرب فالأقرب أي عليهم أجرة الإرضاع فإن لم يكن للولد مال وليس له عصبة وجب على الأم أن ترضعه مجانا لأنها أقرب الناس إليه ثم ذكر تعالى رخصتين في الإرضاع الأولى إن أراد الأبوان فطام الولد قبل عامين فإن لهما ذلك بعد التشاور في ذلك وتقدير مصلحة الولد من هذا الفطام المبكر. فقال تعالى: { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } أي لا تضييق ولا حرج. والثانية إن أراد المولود له أن يسترضع لولده من مرضعا غير أمه فله ذلك إن طابت به نفس الأم قال تعالى: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم } بشرط أن يسلم الأجرة المتفق عليها بالمعروف بلا إجحاف ولا مماطلة، وأخيرا وعظ الله كلا من المرضع والمرضع له بتقواه في هذه الحدود التي وضعها لهما، وأعلمهم أنه بما يعملون بصير فليحذروا مخالفة أمره، وارتكاب نهيه. فسبحانه من إله عظيم بر رحيم.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- وجوب إرضاع الأم ولدها الرضعة الأولى " اللبا " إن كانت مطلقة وسائر الرضاع إن كانت غير مطلقة.
2- بيان الحد الأعلى للرضاع وهو عامان تامان. ولذا فالزيادة عليهما غير معتبرة شرعا.
3- جواز أخذ الأجرة على الإرضاع.
4- وجوب نفقة الأقارب على بعضهم في حال الفقر.
5- جواز إرضاع الوالد ولده من مرضع غير والدته.
[2.234-235]
شرح الكلمات:
يتوفون: يوفيهم الله تعالى ما كتب لهم من العمر فيموتون.
ويذرون أزواجا: يتركون زوجات لهم.
يتربصن بأنفسهن: ينتظرن حتى انقضاء عدتهن وهي أربعة أشهر وعشر ليال.
بلغن أجلهن: بلغن انتهاء العدة.
لا جناح عليكم: لا حرج عليكم أيها الأولياء فيما فعلن في أنفسهن من مس الطيب والتجمل والتعرض للخطاب.
لا جناح عليكم: لا إثم عليكم في التعريض دون التصريح بالخطبة، كما لا إثم في إضمار الرغبة في النفس.
حتى يبلغ الكتاب أجله: أي حتى تنتهي العدة.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق والعدد والنفقات ففي هذه الآية [234] أن على من مات عليها زوجها أن تنتظر أربعة أشهر وعشر ليال إن كانت حرة أو نصف المدة إن كانت أمة فلا تتجمل ولا تمس طيبا ولا تتعرض للخطاب بحال تنقضي عدتها المذكورة في الآية إلا أن تكون حاملا فإن عدتها تنقضي بوضع حملها لقوله تعالى من سورة الطلاق:
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن
[الآية: 4] فإذا بلغت أجلها أي انتهت المدة التي هي محدة فيها فلا جناح على ذوي زوجها المتوفى ولا على ذويها هي فيما تفعل بنفسها من ترك الإحداد والتعرض للخطاب للتزوج هذا معنى قوله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } أي بما هو مباح لهن ووعظهم في ختام الآية بقوله { والله بما تعملون خبير } فاحذروه فلا تعملون إلا ما أذن فيه لكم.
أما الآية الثانية [235] فقد تضمنت تحريم خطبة المرأة المعتدة من طلاق أو وفاة فلا يحل خطبتها لما في ذلك من الضرر؟ إذ قد تحمل هذه الخطبة من رجل مرغوب فيه لماله أو دينه أو نسبه أن تدعى المرأة انقضاء عدتها وهي لم تنقض، وقد تفوت على زوجها المطلق لها فرصة المراجعة وهذا كله ضرر محرم. كما تضمنت الآية في صدرها رفع الحرج أي الإثم في التعريض بالخطبة دون اللفظ الصريح المحرم فقال تعالى: { ولا جناح عليكم } أيها المسلمون فيما عرضتم من خطبة النساء المعتدات نحو قوله: إني راغب في الزواج: أو إذا انقضت عدتك تشاورنيني إن أردت الزواج. كما تضمنت الكشف عن نفسية الرجل إذ قال تعالى: { علم الله أنكم ستذكرونهن } مبدين رغبتكم في الزواج منهن فرخص لكم في التعريض دون التصريح، ولكن لا تواعدوهن سرا هذا اللفظ هو الدال على تحريم خطبة المعتدة من وفاة أو من طلاق بائن، أما الطلاق الرجعي فلا يصح الخطبة فيه تعريضا ولا تصريحا لأنها في حكم الزوجة، وقوله إلا أن تقولوا قولا معروفا هو الإذن بالتعريض.
كما تضمنت هذه الآية حرمة عقد النكاح على المعتدة حتى تنتهي عدتها إذ قال تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } ، والمراد من الكتاب المدة التي كتب الله على المعتدة أن تتربص فيها. وختمت الآية بوعظ الله تعالى المؤمنين حيث أمرهم أن يعلموا أن الله يعلم ما في أنفسهم ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم وتصرفاتهم فليحذروه غاية الحذر فلا يخالفوه في أمره ولا في نهيه. كما أعلمهم أنه تعالى غفور لمن تاب منهم بعد الذنب حليم عليهم لا يعاجلهم بالعقوبة ليتمكنوا من التوبة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشر ليال، وبينت السنة أن عدة الأمة على النصف.
2- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها وهو عدم التزين ومس الطيب وعدم التعرض للخطاب وملازمة المنزل الذي توفى عنها زوجها وهي فيه فلا تخرج منه إلا لضرورة قصوى.
3- حرمة خطبة المعتدة، وجواز التعريض لها بلفظ غير صريح.
4- حرمة عقد النكاح على معتدة قبل انقضاء عدتها وهذا من باب أولى مادام الخطبة محرمة ومن عقد على امرأة قبل انقضاء عدتها يفرق بينهما ولا تحل له بعد عقوبة لهما.
5- وجوب مراقبة الله تعالى في السر والعلن واتقاء الأسباب المفضية بالعبد إلى فعل محرم.
[2.236-239]
شرح الكلمات:
الجناح: الإثم المترتب على المعصية .
ما لم تمسوهن: ما لم تجامعوهن.
أو تفرضوا: تقدروا لهن مهرا.
الموسع قدره: ذو الوسع في المال، وقدره: ما يقدر عليه ويستطيعه.
المقتر: الضيق العيش.
الذي بيده عقدة النكاح: هو الزوج.
ولاتنسوا الفضل بينكم: أي المودة والإحسان.
حافظوا على الصلوات: بأدائها في أوقاتها في جماعة مع استيفاء شروطها وأركانها وسننها.
الصلاة الوسطى: صلاة العصر، أو الصبح فتجب المحافظة على كل الصلوات وخاصة العصر والصبح لقول الرسول صلى الله عليه وسلم
" من صلى البردين - العصر والصبح - دخل الجنة ".
قانتين: خاشعين ساكنين.
فرجالا: مشاة على أرجلكم أو ركبانا على الدواب وغيرها مما يركب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان أحكام الطلاق وما يتعلق به ففي هذه الآية [236]: يخبر تعالى عباده المؤمنين أنه لا إثم ولا حرج عليهم إن هم طلقوا أزواجهم قبل البناء بهن، وقبل أن يسموا لهن مهورا أيضا وفي هذين الحالين يجب عليهم أن يمتعوهن بأن يعطوا المطلقة قبل البناء ولم تكن قد أعطيت مهرا ولا سمي لها فيعرف مقداره في هذه الحال وقد تكون نادرة يجب على الزوج المطلق جبرا لخاطرها أن يعطيها مالا على قدر غناه وفقره تتمتع به أياما عوضا عما فاتها من التمتع بالزواج، فقال تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين }.
وأما الآية الثانية [237] فإنه تعالى يخبر أن من طلق امرأته قبل البناء بها وقد سمى لها صداقا قل أو كثر فإن عليه أن يعطيها وجوبا نصفه إلا أن تعفوا عنه المطلقة فلا تأخذه تكرما، أو يعفو المطلق تكرما فلا يأخذ منه شيئا فيعطيها إياه كاملا فقال عز وجل: { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } - أي فالواجب نصف ما فرضتم - إلا أن يعفون - المطلقات - أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج. ثم بعد تقرير هذا الحكم العادل الرحيم دعا تعالى الطرفين إلى العفو، وأن من عفا منهما كان أقرب إلى التقوى فقال عز وجل: { وأن تعفوا أقرب للتقوى } ونهاهم مع هذا عن عدم نسيان المودة والإحسان بينهما فقال: { ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير }.
وأما الآية الثانية [238] فإنه تعالى يرشد عباده المؤمنين إلى ما يساعدهم على الالتزام بهذه الواجبات الشرعية والآداب الإسلامية الرفيعة وهو المحافظة على إقامة الصلوات الخمس عامة والصلاة الوسطى خاصة فقال تعالى: { حافظوا على الصلوت والصلوة الوسطى } ، وكانوا قبلها يتكلمون في الصلاة فمنعهم من ذلك بقوله: { وقوموا لله قنتين } أي ساكنين خاشعين.
وإن حصل خوف لا يتمكنون معه من أداء الصلاة على الوجه المطلوب من السكون والخشوع فليؤدوها وهم مشاة على أرجلهم أو راكبون على خيولهم، حتى إذا زال الخوف وحصل الأمن فليصلوا على الهيئة التي كانوا يصلون عليها من سكون وسكوت خشوع فقال تعالى { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذآ أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } يريد الله تعالى بالذكر هنا إقام الصلاة أولا، ثم الذكر العام مذكرا إياهم بنعمة العلم مطالبا إياهم بشكرها وهو أن يؤدوا الصلاة على أكمل وجوهها وأتمها لأنها المساعد على سائر الطاعات وحسبها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. هذا ما تضمنته الآية الرابعة [239].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم المطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر، وأن لها المتعة فقط بحسب حال المطلق من غنى وفقر.
2- بيان حكم المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداق فإن لها نصفه وجوبا إلا أن تتنازل عنه برضاها فلها ذلك كما أن الزوج المطلق إذا تنازل عن النصف وأعطاها المسمى كاملا فله ذلك.
3- الدعوة إلى إبقاء المودة والفضل والإحسان بين الأسرتين أسرة المرأة المطلقة وأسرة الزوج المطلق، حتى لا يكون الطلاق سببا في العداوات والتقاطع.
4- وجوب المحافظة على الصلوات الخمس وبخاصه صلاة العصر وصلاة الصبح " الصلاة الوسطى ".
5- منع الكلام في الصلاة لغير إصلاحها.
6- وجوب الخشوع في الصلاة.
7- بيان صلاة الخائف من عدو وغيره وأنه يجوز له أن يصلي وهو ماش أو راكب.
8- الأمر بملازمة ذكر الله، والشكر على نعمه وبخاصة نعمة العلم بالإسلام.
[2.240-242]
شرح الكلمات:
الحول: العام.
فإن خرجن: من بيت الزوج المتوفي قبل نهاية السنة.
متاع بالمعروف: أي متعة لا مبالغة فيها، ولا تقصير.
حقا: متعينا على المطلقين الأتقياء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان حقوق النساء المطلقات والمتوفى عنهن ففي هذه الآية [240] يخبر تعالى أن الذين يتوفون من المؤمنين ويتركون أزواجا فإن لهن من الله تعالى وصية على ورثة الزوج المتوفي أن ينفذوها وهي أن يسمحوا لزوجة المتوفي عنها أن تبقى معهم في البيت تأكل وتشرب إلى نهاية السنة بما فيها مدة العدة وهي أربعة أشهر وعشر ليال إلا إذا رغبت في الخروج بعد انقضاء العدة فلها ذلك، هذا معنى قوله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم } وقوله فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن تقدم معناه، وهو أن للمعتدة إذا انقضت عدتها أن تتزين وتمس الطيب وتتعرض للخطاب لتتزوج. وما ختمت به الآية والله عزيز حكيم إشارة إلى أن هذه الوصية قد شرعها عزيز حكيم فهي متعينة التحقيق والتنفيذ.
وأما الآية الثانية [241] { وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين } ففيها حكم آخر وهو أن المطلقة المبني بها على مطلقها أن يمتعها بشيء من المال كثياب أو دابة أو خادمة، وعليه فالمطلقة قبل البناء وقيل تسمية المهر لها المتعة واجبة لها إذ ليس لها سواها والمطلقة قبل البناء وقد سمى لها المهر فإن لها نصف المهر لا غير، والمطلقة بعد البناء وهي هذه المقصودة في هذه الآية لها متعة بالمعروف سواء قيل بالوجوب أو الاستحباب لأنها لها المهر كاملا.
وقوله تعالى في الآية الثالثة [242] { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون } معناه كهذا التبين لأحكام الطلاق والخلع والرضاع والعدد والمتع يبين تعالى لنا آياته المتضمنة أحكام شرعه لنعقلها ونعمل بها فنكمل عليها ونسعد في الحياتين الدنيا والآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الإبقاء على المعتدة عدة وفاة في بيت الهالك سنة إن طابت نفسها بذلك وذلك بعد انقضاء العدة الواجبة فالزائد وهو سبعة أشهر وعشرون يوما جاء في هذه الوصية إلا أن جمهور أهل العلم يقولون بنسخ هذه الوصية، وعدم القول بالنسخ أولى، لأختلافهم في الناسخ لها.
2- حق المطلقة المدخول بها في المتعة بالمعروف.
3- منة الله على هذه الأمة ببيان الأحكام لها لتسعد بها وتكمل عليها، فلله الحمد والشكر.
[2.243-245]
شرح الكلمات:
ألم تر: ألم ينته إلى علمك... فالرؤية قلبية والإستفهام للتعجيب.
ألوف: جمع ألف، وهي صيغة كثرة فهم إذا عشرات الألوف.
في سبيل الله: الطريق الموصل إلى مرضاته وهو طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه ومن ذلك جهاد الكفار والظالمين حتى لا تكون فتنة.
يقرض الله: يقتطع شيئا من ماله وينفقه في الجهاد لشراء السلاح وتسيير المجاهدين.
يقبض ويبسط: يضيق ويبسط يوسع، يقبض ابتلاء، ويبسط امتحانا.
معنى الآيات:
يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول ألم ينته إلى علمك قصة لذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت وهم ألوف وهم أهل مدينة من مدن بني إسرائيل أصابها الله تعالى بمرض الطاعون ففروا هاربين من الموت فأماتهم الله عن آخرهم ثم أحياهم بدعوة نبيهم حزقيل عليه السلام، فهل أنجاهم فرارهم من الموت، فكذلك من يفر من القتال هل ينجيه فراره من الموت؟ والجواب لا، وإذا فلم الفرار من الجهاد إذا تعين؟ وفي تأديب تلك الجماعة بإماتتها ثم بإحيائها فضل من الله عليها عظيم، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. وإذا فقاتلوا أيها المسلمون في سبيل الله ولا تتأخروا متى دعيتم إلى الجهاد بالنفس والمال، واعلموا أن الله سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وأعمالكم فاحذروه، ثم فتح تعالى باب الاكتتاب المالي للجهاد فقال { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } لا شائبة شرك فيه لأحد والنفس طيبة به فإن الله تعالى يضاعفه له أضعافا كثيرة الدرهم بسبعمائة درهم فأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل إعلاء كلمة الله، ولا تخافوا الفقر فإن ربكم يقبض ويبسط: يضيق على العبد ابتلاء ويوسع امتحانا، فمنعكم الإنفاق في سبيل الله لا يغير من تدبير الله شيئا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إذا نزل الوباء ببلد لا يجوز الخروج فرارا منه، بهذا ثبتت السنة.
2- وجوب ذكر النعم وشكرها.
3- وجوب القتال في سبيل الله إذا تعين.
4- فضل الإنفاق في سبيل الله.
5- بيان الحكمة في تضييق الله على العبد رزقه، وتوسيعه، وهو الابتلاء لأجل الصبر والامتحان لأجل الشكر، فيالخيبة من لم يصبر، عند التضييق عليه، ولم يشكر عند التوسعة له.
[2.246-247]
شرح الكلمات:
الملأ: أشراف الناس من أهل الحل والعقد بينهم إذا نظر المرء إليهم ملأوا عينه رواء وقلبه هيبة.
عسى: كلمة توقع وترج.
كتب: فرض ولزم.
ملكا: يسوسهم في السلم والحرب.
أنى يكون: الاستفهام للإنكار بمعنى كيف يكون له الملك.
اصطفاه: فضله عليكم واختاره لكم.
بسطة في الجسم: أى طولا زائدا يعلو به من عداه.
معنى الآيات:
لقد فرض الله تعالى على المؤمنين القتال، ودارت رحى المعارك بداية من معركة بدر وكان لا بد من المال والرجال الأبطال الشجعان، فاقتضى هذا الموقف شحذ الهمم وإلهاب المشاعر لتقوى الجماعة المسلمة بالمدينة على مواجهة حرب العرب والعجم معا، ومن هنا لمطاردة الجبن والبخل وهما من شر الصفات في الرجال ذكر تعالى حادثة الفارين من الموت التاركين ديارهم لغيرهم كيف أماتهم الله ولم ينجيهم فرارهم، ثم أحياهم ليكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم فالفرار من الموت لا يجدي وإنما يجدي الصبر والصمود حتى النصر، ثم أمر تعالى المؤمنين بعد أن أخذ ذلك المنظر من نفوسهم مأخذه فقال:
وقتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم
[البقرة: 190، 244] ولما كان المال المقدم في القتال فتح الله لهم اكتتابا ماليا وضاعف لهم الربح في القرض بشرط خلوصه وطيب النفس به، ثم قدم لهم هذا العرض التفصيلي لحادثة أخرى تحمل في ثناياها العظات والعبر لمن هو في موقف المسلمين الذين يحاربهم الأبيض والأحمر وبلا هوادة وعلى طول الزمن فقال تعالى: وهويخاطبهم في شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم: { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله } يريد ألم ينته إلى علمك بإخبارنا إياك قول أشراف بني إسرائيل - بعد وفاة موسى - لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله فنطرد أعداءنا من بلادنا ونسترد سيادتنا ونحكم شريعة ربنا. ونظرا إلى ضعفهم الروحي والبدني والمالي تخوف النبي أن لا يكونوا صادقين فيما طالبوه به فقال: { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال } بتعيين الملك القائد أن لا تقاتلوا؟ فدفعتهم الحمية فقالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله والحال أنا قد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، وذلك أن العدو وهم البابليون لما غزوا فلسطين بعد أن فسق بنوا إسرائيل فتبرجت نساؤهم واستباحوا الزنى والربا وعطلوا الكتاب وأعرضوا عن هدى أنبيائهم فسلط الله عليهم هذا العدو الجبار فشردهم فأصبحوا لاجئين.
وما كان من نبي الله شمويل إلا أن بعث من تلك الجماعات الميتة موتا معنويا رجلا منهم هو طالوت وقادهم فلما دنوا من المعركة جبنوا وتولى أكثرهم منهزمين قبل القتال، وصدق نبيهم في فراسته إذ قال لهم { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا }.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [246] من هذا القصص أما الآية الثانية [247] فقد تضمنت اعتراض ملإ بني إسرائيل على تعيين طالوت ملكا عليهم بحجة أنه فقير من أسرة غير شريفة، وأنهم أحق بهذا المنصب منه، ورد عليهم نبيهم حجتهم الباطلة بقوله: { إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشآء والله واسع عليم }. كان هذا رد شمويل على قول الملأ: { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال }. وكأنهم لما دمغتهم الحجة وهي أن الله تعالى قد اختار طالوت وفضله عليهم بهذا الاختيار وأهله للولاية بما أعطاه وزاده من العلم وقوة الجسم، والقيادات القتالية تعتمد على غزارة العلم وقوة البدن بسلامة الحواس وشجاعة العقل والقلب أقول كأنهم لما بطل اعتراضهم ورضوا بطالوت طالبوا على عادة بني إسرائيل في التعنت طالبوا بآية تدل على أن الله حقا اختاره لقيادتهم فقال لهم الخ وهي الآية [248] الآتية.
[2.248]
شرح الكلمات:
نبيهم: شمويل.
آية ملكه: علامة أن الله تعالى ملكه عليكم.
التابوت: صندوق خشبي فيه بقية من آثار آل موسى وآل هارون.
سكينة: طمأنينة القلب وهدوء نفسي.
بقية: بقية الشيء ما تبقى منه بعد ذهاب أكثره وهي هنا رضاض من الألواح التي تكسرت، وعصا موسى وشيء من آثار أنبيائهم.
تحمله الملائكة: من أرض العمالقة فتضعه بين يدي بني إسرائيل في مخيماتهم.
إن في ذلك لآية لكم: أي في إتيان التابوت الذي أخذه العدو بالقوة منكم في رده إليكم علامة قوية على اختيار الله تعالى لطالوت ملكا عليكم.
معنى الآية الكريمة
قد أصبح بشرح الكلمات معنى الآية واضحا وخلاصته أن شمويل النبي أعلمهم أن آية تمليك الله تعالى لطالوت عليهم أن يأتيهم التابوت المغصوب منهم وهو رمز تجمعهم واتحادهم ومصدر استمداد قوة معنوياتهم لما حواه من آثار آل موسى وآل هارون كرضاض الألواح وعصا موسى ونعله وعمامة هارون وشيء من المن الذي كان ينزل عليهم في التيه. فكان هذا التابوت بمثابة الراية يقاتلون تحتها فإنهم إذا خرجوا لقتال حملوه معهم إلى داخل المعركة ولا يزالون يقاتلون ما بقي التابوت بأيديهم لم يغلبهم عليه عدوهم، ومن هنا وهم يتحفزون للقتال جعل الله تعالى لهم إتيان التابوت آية على تمليك طالوت عليهم وفي نفس الوقت يحملونه معهم في قتالهم فتسكن به قلوبهم وتهدأ نفوسهم فيقاتلون وينتصرون بإذن الله تعالى، (أما كيفية حمل الملائكة للتابوت فإن الأخبار تقول إن العمالقة تشائموا بالتابوت عندهم إذا ابتلوا بمرض البواسير وبآفات زراعية وغيرها ففكروا في أن يردوا هذا التابوت لبني إسرائيل وساق الله أقدارا لأقدار، فجعلوه في عربة يجرها بقرتان أو فرسان ووجهوها إلى جهة منازل بني اسرائيل فمشت العربة فساقتها الملائكة حتى وصلت بها إلى منازل بني إسرائيل) فكانت آية وأعظم آية وقبل بنو إسرائيل بقيادة طالوت، وبسم الله تعالى قادهم وفي الآية التالية [249] بيان السير إلى ساحات القتال.
[2.249]
شرح الكلمات:
فصل طالوت: انفصل من الديار وخرج يريد العدو.
بالجنود: العسكر وتعداده - كما قيل: سبعون ألف مقاتل.
مبتليكم بنهر: مختبركم بنهر جار لعله هو نهر الأردن الآن.
ومن لم يطعمه: لم يشرب منه.
غرفة: الغرفة بالفتح المرة وبالضم الاسم من الإغتراف.
الذين آمنوا معه: هم الذين لم يشربوا من النهر، أما من شرب فقد كفر وأشرك.
أنهم ملاقو الله: أي يوم القيامة فهم يؤمنون بالبعث الآخر.
كم من فئة: كم للتكثير والفئة: الجماعة يفييء بعضها إلى بعض.
والله مع الصابرين: يسددهم ويعينهم وينصرهم.
معنى الآية:
إنه لما خرج طالوت بالجيش أخبرهم أن الله تعالى مختبرهم في سيرهم هذا إلى قتال عدوهم بنهر ينتهون إليه وهم في حر شديد وعطش شديد، ولم يأذن لهم في الشرب منه إلا ما كان من غرفة واحدة فمن أطاع ولم يشرب فهو المؤمن ومن عصى وشرب غير المأذون به فهو الكافر. ولما وصلوا إلى النهر شربوا منه يكرعون كالبهائم إلا قليلا منهم. وواصل طالوت السير فجاوز النهر هو ومن معه، ولما كانوا على مقربة من جيش العدو وكان قرابة مائة ألف قال الكافرون والمنافقون: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } فأعلنوا انهزامهم، وانصرفوا فارين، وقال المؤمنون الصادقون وهم الذين قال الله فيهم { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } كانت هذه الآية في بيان سير طالوت إلى العدو وفي الآيتين التاليتين [250] و [251] بيان المعركة وما انتهت إليه من نصر حاسم للمؤمنين الصادقين قال تعالى: { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنآ أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا... }.
[2.250-252]
شرح الكلمات:
برزوا لجالوت: ظهروا في ميدان المعركة وجالوت قائد قوات العمالقة.
أفرغ علينا صبرا: أصبب الصبر في قلوبنا صبا حتى تمتلىء فلم يبق للخوف والجزع موضع.
وثبت أقدامنا: في أرض المعركة حتى لا ننهزم وذلك بتقوية قلوبنا والشد من عزائمنا.
داود: هو نبي الله ورسوله داود، وكان يومئذ غير نبي ولا رسول في جيش طالوت .
وآتاه الله الملك والحكمة: كان ذلك بعد موت شمويل النبي وموت طالوت الملك.
وعلمه مما يشاء: فعلمه صنعه الدروع، وفهم منطق الطير وهو وولده سليمان عليهما السلام.
لفسدت الأرض: وذلك بغلبة أهل الشرك على أهل التوحيد، وأهل الكفر على أهل الإيمان.
معنى الآيات:
لما التقى الجيشان جيش الإيمان وجيش الكفر طالب جالوت بالمبارزة فخرج له داود من جيش طالوت فقتله والتحم الجيشان فنصر الله جيش طالوت وكان عدد أفراده ثلثمائة وأربعة عشر مقاتلا لا غير لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل بدر،
" إنكم على عدة أصحاب طالوت "
وكانوا ثلثمائة وأربعة عشر رجلا فهزم الله جيش الباطل على كثرته ونصر جيش الحق على قلته. وهنا ظهر كوكب داود في الأفق بقتله رأس الشر جالوت فمن الله عليه بالنبوة والملك بعد موت كل من النبي شمويل والملك طالوت قال تعالى: { وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشآء }.
وختم الله القصة ذات العبر والعظات العظيمة بقوله: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } بالجهاد والقتال، لاستولى أهل الكفر وأفسدوا الأرض بالظلم والشرك والمعاصي، ولكن الله تعالى بتدبيره الحكيم يسلط بعضا على بعض، ويدفع بعضا ببعض منة منه وفضلا. كما قال عز وجل { ولكن الله ذو فضل على العالمين }.
ثم التفت إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقال له: تقريرا لنبوته وعلو مكانته تلك آيات الله التي تقدمت في هذا السياق نتلوها عليك بالحق، وإنك لمن المرسلين صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الجهاد الشرعي يشترط له الإمام المبايع بيعة شرعية.
2- يشترط للولاية الكفاءة وأهم خصائصها العلم، وسلامة العقل والبدن.
3- جواز التبرك بآثار الأنبياء كعمامة النبي أو ثوبه أو نعله مثلا.
4- جواز اختبار أفراد الجيش لمعرفة مدى إستعدادهم للقتال والصبر عليه.
5- فضيلة الإيمان بلقاء الله، وفضيلة الصبر على طاعة الله خاصة في معارك الجهاد في سبيل الله.
6- بيان الحكمة في مشروعية الجهاد، وهي دفع أهل الكفر والظلم بأهل الإيمان والعدل، لتنتظيم الحياة ويعمر الكون.
[2.253-254]
شرح الكلمات:
تلك الرسل: أولئك الرسل الذين قص الله تعالى على رسوله بعضا منهم وأخبره أنه منهم في قوله
وإنك لمن المرسلين
[البقرة: 252] في الآية قبل هذه.
من كلم الله: كموسى عليه السلام.
ورفع بعضهم درجات: وهو محمد صلى الله عليه وسلم حيث فضله تفضيلا على سائر الرسل.
البينات: المعجزات الدالة على صدق عيسى في نبوته ورسالته.
روح القدس: جبريل عليه السلام كان يقف دائما إلى جانب عيسى يسدده ويقويه إلى أن رفعه الله تعالى إليه.
اقتتلوا: قتل بعضهم بعضا.
أنفقوا مما رزقناكم: النفقة الواجبة وهي الزكاة، ونفقة التطوع المستحبة.
لا بيع فيه: لا يشتري أحد نفسه بمال يدفعه فداء لنفسه من العذاب.
ولا خلة: أي صداقة تنفع صاحبها.
ولا شفاعة: تقبل إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
والكافرون: بمنع الزكاة والحقوق الواجبة لله تعالى ولعباده هم الظالمون.
معنى الآيتين:
بعد أن قص الله تبارك وتعالى على رسوله قصة ملأ بني إسرائيل في طلبهم نبيهم شمويل بأن يعين لهم ملكا يقودهم إلى الجهاد، وكانت القصة تحمل في ثناياها أحداثا من غير الممكن أن يعلمها أمي مثل محمد صلى الله عليه وسلم بدون ما يتلقاها وحيا يوحيه الله تعالى إليه وختم القصة بتقرير نبوته ورسالته بقوله:
وإنك لمن المرسلين
أخبر تعالى أن أولئك الرسل فضل بعضهم على بعض، منهم من فضله بتكليمه كموسى عليه السلام ومنهم من فضله بالخلة كإبراهيم عليه السلام ومنهم من رفعه إليه وأدناه وناجاه وهو محمد صلى الله عليه وسلم ومنهم من آتاه الملك والحكمة وعلمه صنعة الدروع كداود عليه السلام، ومنهم من أتاه الملك والحكمة وسخر له الجن وعلمه منطق الطير كسليمان عليه السلام، ومنهم من آتاه البينات وأيده بروح القدس وهو عيسى عليه السلام. فقال تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذ فضله بعموم رسالته وبختم النبوات بنبوته، وبتفضيل أمته، وبإدخاله الجنة في حياته قبل مماته وبتكليمه ومناجاته مع ما خصه من الشفاعة يوم القيامة. ثم أخبر تعالى أنه لو يشاء هداية الناس لهداهم فلم يختلفوا بعد رسلهم ولم يقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات وذلك لعظيم قدرته، وحرية إرادته فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. هذا بعض ما أفادته الآية الأولى [253] أما الآية الثانية [254] فقد نادى الله تعالى عباده المؤمنين وأمرهم بالانفاق في سبيل الله تقربا إليه وتزودا للقائه قبل يوم القيامة حيث لا فداء ببيع وشراء، ولا صداقة تجدي ولا شفاعة تنفع، والكافرون بنعم الله وشرائعه هم الظالمون المستوجبون للعذاب والحرمان والخسران.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تفاضل الرسل فيما بينهم بحسب جهادهم وصبرهم وما أهلهم الله تعالى له من الكمال.
2- صفة الكلام لله تعالى حيث كلم موسى في الطور، وكلم محمدا في الملكوت الأعلى.
3- الكفر والإيمان والهداية والضلال، والحرب والسلم كل ذلك تبع لمشيئته تعالى وحكمته.
4- ذم الإختلاف في الدين وأنه مصدر شقاء وعذاب.
5- وجوب الإنفاق في سبيل الله مما رزق الله تعالى عبده.
6- التحذير من الغفلة والأخذ بأسباب النجاة يوم القيامة حيث لا فداء ولا خلة تنفع ولا شفاعة ومن أقوى الأسباب الإيمان والعمل الصالح وإنفاق المال تقربا إلى الله تعالى في الجهاد وغيره.
[2.255]
شرح الكلمات:
الله: علم على ذات الرب تبارك وتعالى.
لا إله إلا هو: الإله، المعبود، ولا معبود بحق إلا الله، إذ هو الخالق الرزاق المدبر بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء، وما عداه من الآلهة فعبادتها بدون حق فهي باطلة.
الحي: ذو الحياة العظيمة التي لا تكون لغيره تعالى وهي مستلزمة للقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام.
القيوم: القائم بتدبير الملكوت كله علويه وسفليه، القائم على كل نفس بما كسبت.
السنة: النعاس يسبق النوم.
كرسيه: الكرسي: موضع القدمين، ولا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
يؤوده: يثقلة ويشق عليه.
معنى الآية الكريمة:
لما أخبر تعالى عن يوم القيامة وأنه يوم لا بيع فيه ولا شفاعة وأن الكافرين هم الظالمون، أخبر عن جلاله وكماله وعظيم سلطانه وأنه هو المعبود بحق وأن عبادته هي التي تنجي من أهوال يوم القيامة فقال: { الله لا إله إلا هو }: أي أنه الله المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. { الحي القيوم } الدائم الحياة التي لم تسبق بموت ولم يطرأ عليها موت. القيوم: العظيم القيومية على كل شيء. لولا قيوميته على الخلائق ما استقام من أمر العوالم شيء: { لا تأخذه سنة ولا نوم }: إذ النعاس والنوم من صفات النقص وهو تعالى ذو الكمال المطلق. وهذه الجملة برهان على الجملة قبلها، إذ من ينعس وينام لا يتأتى له القيومية على الخلائق ولا يسعها حفظا ورزقا وتدبيرا. { له ما في السموت وما في الأرض }: خلقا وملكا وتصرفا، { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }: ينفي تعالى وهو الذي له ما في السماوات وما في الأرض ينفي أن يشفع عنده في الدنيا أو في الآخرة أحد كائن من كان بدون أن يأذن له في الشفاعة. { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }: لكمال عجزهم. { وسع كرسيه السموت والأرض }: لكمال ذاته. { ولا يؤوده حفظهما }: ولا يثقله أو يشق عليه حفظ السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما. { وهو العلي العظيم }: العلي الذي ليس فوقه شيء والقاهر الذي لا يغلبه شيء، العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير.
هداية الآية الكريمة:
من هداية هذه الآية:
1- أنها أعظم آية في كتاب الله تعالى اشتملت على ثمانية عشرا إسما لله تعالى ما بين ظاهر ومضمر، وكلماتها خمسون كلمة وجملها عشر جمل كلها ناطقة بربوبيته تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.
2- تستحب قراءتها بعد الصلاة المكتوبة، وعند النوم، وفي البيوت لطرد الشيطان.
[2.256-257]
شرح الكلمات:
لا إكراه في الدين: لا يكره المرء على الدخول في الدين، وإنما يعتنقه بإرادته واختياره.
الرشد: الهدى الموصل إلى الإسعاد والإكمال.
الغي: الضلال المفضي بالعبد إلى الشقاء والخسران.
الطاغوت: كل ما صرف عن عبادة الله تعالى من إنسان أو شيطان أو غيرهما.
العروة الوثقى: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
لا انفصام لها: لا تنفك ولا تنحل بحال من الأحوال.
الله ولي الذين آمنوا: متوليهم بحفظه ونصره وتوفيقه.
الظلمات: ظلمات الجهل والكفر.
النور: نور الإيمان والعلم.
أولياؤهم الطاغوت: المتولون لهم الشياطين الذين زينوا لهم عبادة الأوثان فأخرجوهم من الإيمان إلى الكفر ومن العلم إلى الجهل.
معنى الآيتين:
يخبر الله تعالى بعد ذكر صفات جلاله وكماله في آية الكرسي أنه لا إكراه في دينه، وذلك حين أراد بعض الأنصار إكراه من تهود أو تنصر من أولادهم على الدخول في دين الإسلام، ولذا فإن أهل الكتابين ومن شابههم تؤخذ منهم الجزية ويقرون على دينهم فلا يخرجون منه إلا باختيارهم وإرادتهم الحرة، أما الوثنيون والذين لا دين لهم سوى الشرك والكفر فيقاتلون حتى يدخلوا في الإسلام إنقاذا لهم من الجهل والكفر وما لا زمهم من الضلال والشقاء.
ثم أخبر تعالى أنه بإنزال كتابه وبعثه رسوله ونصر أوليائه قد تبين الهدى من الضلال والحق من الباطل، وعليه فمن يكفر بالطاغوت وهو الشيطان الذي زين عبادة الأصنام ويؤمن بالله فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقد استمسك من الدين بأمتن عروة وأوثقها، ومن يصر على الكفر بالله والإيمان بالطاغوت فقد تمسك بأوهى من خيط العنكبوت، والله سميع لأقوال عباده عليم بنياتهم وخفيات أعمالهم وسيجزي كلا بكسبه. ثم أخبر تعالى أنه ولي عباده المؤمنين فهو يخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والإيمان فيكملون ويسعدون، وأن الكافرين أولياؤهم الطاغوت من شياطين الجن والإنس الذين حسنوا لهم الباطل والشرور، وزينوا لهم الكفر والفسوق والعصيان، فأخرجوهم بذلك من النور إلى الظلمات فأهلوهم لدخول النار فكانوا أصحابها الخالدين فيها.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لا يكره أهل الكتابين ومن في حكمهم كالمجوس والصابئة على الدخول في الإسلام إلا باختيارهم وتقبل منهم الجزية فيقرون على دينهم.
2- الإسلام كله رشد، وما عداه ضلال وباطل.
3- التخلي عن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل.
4- معنى لا إله إلا الله، وهي الإيمان بالله والكفر بالطاغوت.
5- ولاية الله تعالى تنال بالإيمان والتقوى.
6- نصرة الله تعالى ورعايته لأوليائه دون أعدائه.
[2.258]
شرح الكلمات:
ألم تر: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا، والإستفهام يفيد التعجب من الطاغية المحاج لإبراهيم.
حاج: جادل ومارى وخاصم.
في ربه: في شأن ربه من وجوده تعالى وربوبيته وألوهيته للخلق كلهم.
آتاه الله الملك: أعطاه الحكم والسيادة على أهل بلاده وديار قومه.
إبراهيم: هو أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام. وكان هذا الحجاج قبل هجرة إبراهيم إلى أرض الشام.
فبهت الذي كفر: انقطع عن الحجة متحيرا مدهوشا ذاك الطاغية الكافر وهو النمرود البابلي.
معنى الآية الكريمة:
لما ذكر الله تعالى ولايته لأوليائه وأنه مؤيدهم وناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور ذكر مثالا لذلك وهو محاجة النمرود لإبراهيم عليه السلام فقال تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أي ألم ينته إلى علمك حجاج ذاك الطاغية الذي بطرته نعمة الملك الذي آتيناه امتحانا له فكفر وادعى الربوبية وحاج خليلنا فبينا إنه لأمر عجب. إذ قال له إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، وأنت لا تحيي ولا تميت فقال أنا أحيي وأميت، فرد عليه إبراهيم حجته قائلا: ربي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب فاندهش وتحير وانقطع وأيد الله وليه إبراهيم فانتصر، فهذا مثال لإخراج الله تعالى أوليائه من ظلمة الجهل إلى نور العلم.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- النعم تبطر صاحبها إذا حرم ولاية الله تعالى.
2- نصرة الله لأوليائه وإلهامهم الحجة لخصم أعدائهم.
3- إذا ظلم العبد ووالى الظلم حتى أصبح وصفا له يحرم هداية الله تعالى فلا يهتدي أبدا.
4- جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقيدة الصحيحة السليمة.
[2.259]
شرح الكلمات:
قرية: مدينة لم يذكر الله تعالى اسمها فلا يبحث عنها لعدم جدوى معرفتها.
خاوية: فارغة من سكانها ساقطة عروشها على مبانيها وجدرانها.
أنى يحيي: كيف يحيي.
بعد موتها: بعد خوائها وسقوطها على عروشها.
لبثت: مكثت وأقمت.
لم يتسنه: لم يتغير بمر السنين عليه.
آية: علامة على قدرة الله على بعث الناس أحياء يوم القيامة.
ننشزها: في قراءة ورش ننشرها بمعنى نحييها بعد موتها. وننشزها نرفعها ونجمعها لتكون حمارا كما كانت.
معنى الآية:
هذا مثل آخر معطوف على الأول الذي تجلت فيه على حقيقتها ولاية الله لإبراهيم حيث أيده بالحجة القاطعة ونصره على عدوه النمرود قال تعالى: { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية } فارغة من سكانها ساقطة سقوفها على مبانيها فقال المار بها مستبعدا حياتها مرة ثانية: كيف يحيي الله هذه القرية بعد خرابها؟ فأماته الله مائة عام ثم أحياه، وسأله: كم لبثت؟ قال: حسب عادة من نام في يوم واستيقظ فيه فإنه يرى أنه نام يوما أو بعض يوم.
فأجابه مصوبا له فهمه: بل لبثت مائة عام، ولكي تقتنع بما أخبرت به فانظر إلى طعامك وكان سلة من تين، وشرابك وكان عصيرا من عنب فإنه لم يتغير طعمه ولا لونه وقد مر عليه قرن من الزمن، وانظر إلى حمارك فإنه هلك بمرور الزمن ولم يبق منه إلا عظامه تلوح بيضاء فهذا دليل قاطع على موته وفنائه، لمرور مائة سنة عليه، وانظر إلى العظام كيف نجمعها ونكسوها لحما فإذا هي حمارك الذي كنت تركبه من مائة سنة ونمت وتركته إلى جانبك يرتع، وتجلت قدرة الله تعالى في عدم تغير الذي جرت العادة أنه يتغير في ظرف يوم واحد وهو سلة التين وشراب العصير. وفي تغير الذي جرت العادة أنه لا يتغير إلا في عشرات الأعوام، وهو الحمار. كما هي ظاهرة في موت صاحبهما وحياته بعد لبثه على وجه الأرض ميتا لم يعثر عليه أحد طيلة مائة عام. وقال له الرب تبارك وتعالى بعد أن وقفه على مظاهر قدرته فعلنا هذا بك لنريك قدرتنا على إحياء القرية متى أردنا إحياءها ولنجعلك في قصتك هذه آية للناس، تهديهم إلى الإيمان بنا وتوحيدنا في عبادتنا وقدرتنا على البعث الآخر الذي لا ريب فيه لتجزى كل نفس بما كسبت.
وأخيرا لما لاحت أنوار ولاية الله في قلب هذا العبد المؤمن الذي أثار تعجبه خراب القرية فاستبعد حياتها قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، فهذا مصداق قوله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257].
هداية الآية
من هداية الآية:
1- جواز طروء استبعاد ما يؤمن به العبد أنه حق وكائن، كما استبعد هذا المؤمن المار بالقرية حياة القرية مرة أخرى بعد ما شاهد من خرابها وخوائها.
2- عظيم قدرة الله تعالى بحيث لا يعجزه تعالى شيء وهو على كل شيء قدير.
3- ثبوت البعث الآخر وتقريره.
4- ولاية الله تعالى للعبد المؤمن التقي تجلت في إذهاب الظلمة التي ظهرت على قلب المؤمن باستبعاده قدره الله على إحياء القرية، فأراه الله تعالى من مظاهر قدرته ما صرح به في قوله: { أعلم أن الله على كل شيء قدير }.
[2.260]
شرح الكلمات:
إبراهيم: هو خليل الرحمن أبو الأنبياء عليه السلام.
يطمئن قلبي: يسكن ويهدأ من التطلع والتشوق إلى الكيفية.
فصرهن إليك: أملهن واضممهن إليك وقطعهن أجزاء.
سعيا: مشيا سريعا وطيرانا.
عزيز: غالب لا يمتنع عنه ولا منه شيء أراده بحال من الأحوال.
حكيم: لا يخلق عبثا ولا يوجد لغير حكمه، ولا يضع شيئا في غير موضعه اللائق به.
معنى الآية الكريمة:
هذا مثل ثالث يوجه إلى الرسول والمؤمنين حيث تتجلى لهم ولايته تعالى لعباده المؤمنين بإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى مجرد ظلمة باستبعاد شيء عن قدرة الله تعالى، أو تطلع إلى كيفية إيجاد شيء ومعرفة صورته. فقال تعالى: اذكروا { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى }. سأل إبراهيم ربه أن يريه طريقة الإحياء كيف تتم هل هي جارية على نواميس معينة أم هي مجرد قدرة يقول صاحبها للشيء كن فيكون، فسأله ربه وهو عليم به أتقول الذي تقول ولم تؤمن؟ قال إبراهيم: بلى أنا مؤمن بأنك على كل شيء قدير، ولكن أريد أن أرى صورة لذلك يطمئن لها قلبي ويسكن من التطلع والتشوق إلى معرفة المجهول لدي. فأمره تعالى إجابة له لأنه وليه فلم يشأ أن يتركه يتطلع إلى كيفية إحياء ربه الموتى، أمره بأخذ أربعة طيور وذبحها وتقطيعها أجزاء وخلطها مع بعضها بعضا ثم وضعها على أربعة جبال على كل جبل ربع الأجزاء المخلوطة، ففعل، ثم أخذ برأس كل طير على حدة ودعاه فاجتمعت أجزاؤه المفرقة المختلطة بأجزاء غيره وجاءه يسعى فقدم له رأسه فالتصق به وطار في السماء وإبراهيم ينظر ويشاهد مظاهر قدرة ربه العزيز الحكيم. سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- غريزة الإنسان في حب معرفة المجهول والتطلع إليه.
2- ولاية الله تعالى لإبراهيم حيث أراه من آياته ما اطمأن به قلبه وسكنت له نفسه.
3- ثبوت عقيدة الحياة الثانية ببعث الخلائق أحياء للحساب والجزاء.
4- زيادة الإيمان واليقين كلما نظر العبد إلى آيات الله الكونية، أو قرأ وتدبر آيات الله القرآنية.
[2.261-263]
شرح الكلمات:
مثل الذين ينفقون: صفتهم المستحسنة العجيبة.
سبيل الله: كل ما يوصل إلى مرضاة الله تعالى من الإيمان وصالح الأعمال.
يضاعف: يزيد ويكثر حتى يكون الشيء أضعاف ما كان.
منا ولا أذى: المن: ذكر الصدقة وتعدادها على من تصدق بها عليه على وجه التفضل عليه. والأذى: التطاول على المتصدق عليه وإذلاله بالكلمة النابيه أو التي تمس كرامته وتحط من شرفه.
قول معروف: كلام طيب يقال للسائل المحتاج نحو: الله يرزقنا وإياكم، الله كريم. الله يفتح علينا وعليك.
ومغفرة: ستر على الفقير بعدم إظهار فقره، والعفو عن سوء خلقه إن كان كذلك.
غني: غنى ذاتي لا يفتقر معه إلى شيء أبدا.
حليم: لا يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويصفح.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مرغبا في الجهاد بالمال لتقدمه على الجهاد بالنفس لأن العدة أولا والرجال ثانيا، أن مثل ما ينفقه المؤمن في سبيل الله وهو هنا الجهاد، في نمائه وبركته وتضاعفه، كمثل حبة بر بذرت في أرض طيبة فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة فأثمرت الحبة الواحدة سبعمائة حبة، وهكذا الدرهم الواحد ينفقه المؤمن في سبيل الله يضاعف إلى سبعمائة ضعف، وقد يضاعف إلى أكثر لقوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشآء والله واسع عليم }.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [261] وأما الآية الثانية [262] فهي تحمل بشرى الله تعالى للمنفقين في سبيله الذين لا يتبعون ما أنفقوه منا به ولا أذى لمن أنفقوه عليه بأن لا خوف عليهم فيما يستقبلونه من حياتهم ولا هم يحزنون على ما يتركون وراءهم ويخلفون. وهذه هي السعادة حيث خلت حياتهم من الخوف والحزن وحل محلها الأمن والسرور. وأخيرا الآية الثالثة [263] وهي { قول معروف... } فإن الله تعالى يخبر بأن الكلمة الطيبة تقال للفقير ينشرح لها صدره وتطيب لها نفسه خير من مال يعطاه صدقة عليه يهان به ويذل فيشعر بمرارة الفقر أكثر، وألم الحاجة أشد، ومغفرة وستر لحالته وعدم فضيحته أو عفو عن سوء خلقه كإلحاحه في المسألة، خير أيضا من صدقة يفضح به ويعاتب ويشنع عليه بها. وقوله في آخر الآية: { والله غني حليم } أي مستغن عن الخلق حليم لا يعاجل بالعقوبة من يخالف أمره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل النفقة في الجهاد وأنها أفضل النفقات.
2- فضل الصدقات وعواقبها الحميدة.
3- حرمة المن بالصدقة وفي الحديث:
" ثلاثة لا يدخلون الجنة... "
وذكر من بينهم المنان.
4- الرد الجميل على الفقير إذا لم يوجد ما يعطاه، وكذا العفو عن سوء القول منه ومن غيره خير من الصدقة يتبعها أذى وفي الحديث:
" الكلمة الطيبة صدقة ".
[2.264]
شرح الكلمات:
إبطال الصدقة: الحرمان من ثوابها.
المن والأذى: تقدم معناهما.
رئاء الناس: مراءاة لهم ليكسب محمدتهم، أو يدفع مذمتهم.
صفوان: حجر أملس.
وابل: مطر شديد.
صلدا: أملس ليس عليه شيء من التراب.
لا يقدرون: يعجزون عن الانتفاع بشيء من صدقاتهم الباطلة.
معنى الآية:
بعد أن رغب تعالى في الصدقات ونبه إلى ما يبطل أجرها وهو المن والأذى نادى عباده المؤمنين فقال: { يأيها الذين آمنوا... } ناهيا عن إفساد صدقاتهم وإبطال ثوابها فقال: { لا تبطلوا صدقتكم بالمن والأذى } مشبها حال إبطال الصدقات بحال صدقات المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر في بطلانها فقال: { كالذي ينفق ماله رئآء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } وضرب مثلا لبطلان صدقات من يتبع صدقاته منا أو أذى أو يرائي بها الناس أو هو كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فقال: { فمثله كمثل صفوان عليه تراب } أي حجر أملس عليه تراب، { فأصابه وابل فتركه صلدا } أي نزل عليه مطر شديد فأزال التراب عنه فتركه أملس عاريا ليس عليه شيء، فكذلك تذهب الصدقات الباطلة ولم يبق منها لصاحبها شيء ينتفع به يوم القيامة، فقال تعالى: { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } أي مما تصدقوا به، { والله لا يهدي القوم الكافرين } إلى ما يسعدهم ويكملهم لأجل كفرانهم به تعالى.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- حرمة المن والأذى في الصدقات وفسادها بها.
2- بطلان صدقة المان والمؤذي والمرائي بهما.
3- حرمة الرياء وهي من الشرك لحديث:
" إياكم والرياء فإنه الشرك الأصغر ".
[2.265-266]
شرح الكلمات:
المثل: الصفة المستملحة المستغربة.
ابتغاء مرضاة الله: طلبا لرضا الله تعالى.
تثبيتا: تحقيقا وتيقنا بمثوبة الله تعالى لهم على إنفاقهم في سبيله.
جنة بربوة: بستان كثير الأشجار بمكان مرتفع.
ضعفين: مضاعفا مرتين، أو ضعفي ما يثمر غيرها.
الوابل: المطر الغزير الشديد.
الظل: المطر الخفيف.
إعصار: ريح عاصف فيها سموم.
معنى الآيتين:
لما ذكر الله تعالى خيبة المنفقين أموالهم رياء الناس محذرا المؤمنين من ذلك ذكر تعالى مرغبا في النفقة التي يريد بها العبد رضا الله وما عنده من الثواب الأخروي فقال ضاربا لذلك مثلا: { ومثل الذين ينفقون أمولهم ابتغآء مرضات الله } أي طلبا لمرضاته { وتثبيتا من أنفسهم } أي تحققا وتيقنا منهم بأن الله سيثيبهم عليها مثلهم في الحصول على ما أملوا من رضا الله وعظيم الأجر كمثل جنة بمكان مرتفع عال أصابها مطر غزير فأعطت ثمرها ضعفي ما يعطيه غيرها من البساتين ولما كانت هذه الجنة بمكان عال مرتفع فإنها إن لم يصبها المطر الغزير فإن الندى والمطر اللين الخفيف كاف في سقيها وريها حتى تؤتي ثمارها مضاعفا مرتين، وختم تعالى هذا الكلام الشريف بقوله: { والله بما تعملون بصير } فواعد به المنفقين ابتغاء مرضاته وتثبيتا من أنفسهم بعظم الأجر وحسن المثوبة، وأوعد به المنفقين الذين يتبعو ما أنفقوا بالمن والأذى والمنفقين رياء الناس بالخيبة والخسران .
كان هذا معنى الآية الأولى [265] وأما الآية الثانية [266] فإنه تعالى يسائل عباده تربية لهم وتهذيبا لأخلاقهم وسموا بهم إلى مدارج الكمال الروحي فيقول: { أيود أحدكم } أي أيحب أحدكم أيها المنفقون في غير مرضاة الله تعالى أن يكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات والحال أنه قد تقدمت به السن وأصبح شيخا كبيرا، ومع هذا العجز فإن له ذرية صغارا لا يقدرون على الكسب وجلب عيشهم بأنفسهم، وأصاب ذلك البستان الذي هو مصدر عيش الوالد وأولاده أصابه ريح عاتية تحمل حرارة السموم فأتت على ذلك البستان فأحرقته، كيف يكون حال الرجل الكبير وأولاده؟ هكذا الذي ينفق أمواله رئاء الناس يخسرها كلها في وقت هو أحوج إليها من الرجل العجوز وأطفاله الصغار، وذلك يوم القيامة وأخيرا يمتن تعالى على عباده بما يبين لهم من الآيات في العقائد والعبادات والمعاملات والآداب ليتفكروا فيها فيهتدوا على ضوئها إلى كمالهم وسعادتهم فقال تعالى: { كذلك } أي كذلك التبيين { يبين الله لكم الأيت لعلكم تتفكرون }.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- استحسان ضرب الأمثال تقريبا للمعاني إلى الأذهان لينتفع بها.
2- مضاعفة أجر الصدقة الخالية من المن والأذى ومراءاة الناس.
3- بطلان صدقات المان والمؤذي والمرائي وعدم الانتفاع بشيء منها.
4- وجوب التكفر في آيات الله لا سيما تلك التي تحمل بيان العقائد والأحكام والآداب والأخلاق.
[2.267-269]
شرح الكلمات:
من طيبات ما كسبتم: من جيد أموالكم وأصلحها.
ومما أخرجنا لكم من الأرض: من الحبوب وأنواع الثمار.
ولا تيمموا الخبيث: لا تقصدوا الرديء تنفقون منه.
إلا أن تغمضوا فيه: إلا أن تغضوا أبصاركم عن النظر في رداءته فتأخذونه بتساهل منكم وتسامح.
حميد: محمود في الأرض والسماء في الأولى والأخرى لما أفاض ويفيض من النعم على خلقه.
يعدكم الفقر: يخوفكم من الفقر ليمنعكم من الإنفاق في سبيل الله.
ويأمركم بالفحشاء: يدعوكم إلى ارتكاب الفواحش ومنها البخل والشح.
الحكمة: فهم أسرار الشرع، وحفظ الكتاب والسنة.
أولوا الألباب: أصحاب العقول الراجحة المفكرة فيما ينفع أصحابها.
معنى الآيات:
بعدما رغب تعالى عباده المؤمنين في الإنفاق في سبيله في الآية السابقة ناداهم هنا بعنوان الإيمان وأمرهم بإخراج زكاة أموالهم من جيد ما يكسبون فقال تعالى: { يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الأرض } يريد الحبوب والثمار كما أن ما يكسبونه يشمل النقدين والماشية من إبل وبقر وغنم، ونهاهم عن التصدق بالرديء من أموالهم فقال: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } يريد لا ينبغي لكم أن تنفقوا الرديء وأنتم لو أعطيتموه في حق لكم ما كنتم لتقبلوه لولا أنكم تغمضون وتتساهلون في قبوله، وهذا منه تعالى تأديب لهم وتربية. وأعلمهم أخيرا أنه تعالى غني عن خلقه ونفقاتهم فلم يأمرهم بالزكاة والصدقات لحاجة به، وإنما أمرهم بذلك لإكمالهم وإسعادهم، وأنه تعالى حميد محمود بماله من إنعام على سائر خلقه كان هذا معنى الآية [267] أما الآية [268] فإنه تعالى يحذر عباده من الشيطان ووساوسه فأخبرهم أن الشيطان يعدهم الفقر أي يخوفهم منه حتى لا يزكوا ولا يتصدقوا ويأمرهم بالفحشاء فينفقون أموالهم في الشر والفساد ويبخلون بها في الخير، والصالح العام أما هو تعالى فإنه بأمره إياهم بالإنفاق يعدهم مغفرة ذنوبهم لأن الصدقة تكفر الخطيئة، وفضلا منه وهو الرزق الواسع الحسن. وهو الواسع الفضل العليم بالخلق. فاستجيبوا أيها المؤمنين لنداء الله تعالى، وأعرضوا عن نداء الشيطان فإنه عدوكم لا يعدكم إلا بالشر، ولا يأمركم إلا بالسوء والباطل، كان هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (269) فإن الله تعالى يرغب في تعلم العلم النافع، العلم الذي يحمل على العمل الصالح، ولا يكون ذلك إلا علم الكتاب والسنة حفظا وفهما وفقها فيهما فقال تعالى: { يؤتي } أي هو تعالى { الحكمة من يشآء } ممن طلبها وتعرض لها راغبا فيها سائلا الله تعالى أن يعلمه، وأخبر أخيرا أن من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فليطلب العاقل الحكمة قبل طلب الدنيا هذه تذكرة { وما يذكر إلا أولوا الألباب }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الزكاة في المال الصامت من ذهب وفضة وما يقوم مقامهما من العمل وفي الناطق من الإبل والبقر والغنم إذ الكل داخل في قوله: { ما كسبتم } وهذا بشرط الحول وبلوغ النصاب.
2- وجوب الزكاة في الحرث: الحبوب والثمار وذلك فيما بلغ نصابا، وكذا في المعادن إذ يشملها لفظ الخارج من الأرض.
3- قبح الإنفاق من الرديء وترك الجيد.
4- التحذير من الشيطان ووجوب مجاهدته بالإعراض عن وساوسه ومخالفة أوامره.
5- إجابة نداء الله والعمل بإرشاده.
6- فضل العلم على المال.
[2.270-271]
شرح الكلمات:
من نفقة: يريد قليلة أو كثيرة من الجيد أو الرديء.
من نذر: النذر التزام المؤمن بما لم يلزمه به الشارع، كأن يقول: لله علي أن أتصدق بألف؛ أو أصوم شهرا أو أصلي كذا ركعة أو يقول: إن حصل لي كذا من الخير أفعل كذا من الطاعات.
إن تبدو الصدقات: أي تظهروها.
فنعما هي: فنعم تلك الصدقة التي أظهرتموها ليقتدى بكم فيها.
ويكفر عنكم من سيئاتكم: يكفر بمعنى يسترها ولا يطالب بها، ومن للتبعيض إذ حقوق العباد لا تكفرها الصدقة.
معنى الآية الكريمة:
بعدما دعا تعالى عباده إلى الإنفاق في الآية السابقة أخبر تعالى أنه يعلم ما ينفقه عباده فإن كان المنفق جيدا صالحا يعلمه ويجزي به وإن كان خبيثا رديئا يعلمه ويجزي به وقال تعالى مخاطبا عباده المؤمنين: { ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } فما كان مبتغى به وجه الله ومن جيد المال فسوف يكفر به السيئات ويرفع به الدرجات، وما كان رديئا ونذرا لغير الله تعالى فإن أهله ظالمون وسيغرمون أجر نفقاتهم ونذورهم لغير الله ولا يجدون من يثيبهم على شيء منها لأنهم ظالمون فيها حيث وضعوها في غير موضعها، { وما للظالمين من أنصار }. هذا ما تضمنته الآية الأولى [270].
أما الآية الثانية [271] فقد أعلم تعالى عباده المؤمنين أن ما ينفقونه لوجهه ومن طيب أموالهم علنا وجهرة هو مال رابح، ونفقة مقبولة، يثاب عليها صاحبها، إلا أن ما يكون من تلك النفقات سرا ويوضع في أيدي الفقراء يكون خيرا لصاحبه لبعده من شائبة الرياء ، ولإكرام الفقراء، وعدم تعريضهم لمذلة التصدق عليهم وأنه تعالى يكفر عن المنفقين سيئاتهم بصدقاتهم، وأخبر أنه عليم بأعمالهم فكان هذا تطمينا لهم على الحصول على أجور صدقاتهم، وسائر أعمالهم الصالحة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- الترغيب في الصدقات ولو قلت والتحذير من الرياء فيها وإخراجها من رديء الأموال.
2- جواز إظهار الصدقة عند سلامتها من الرياء.
3- فضل صدقة السر وعظم أجرها، وفي الحديث الصحيح:
" ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "
ذكر من السبعة الذين يظلهم الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
[2.272-274]
شرح الكلمات
هداهم: هدايتهم إلى الإيمان وصالح الأعمال.
من خير: من مال.
فأنفسكم: صوابه العاجل بالبركة وحسن الذكر والآجل يوم القيامة عائد على أنفسكم.
يوف إليكم: يرد أجره كاملا لا ينقص منه شيء.
احصروا: حبسوا ومنعوا من التصرف لأنهم هاجروا من بلادهم.
ضربا في الأرض: أي سيرا فيها لطلب الرزق بالتجارة وغيرها لحصار العدو لهم.
بسيماهم: علامات حاجتهم من رثاثة الثياب وصفرة الوجه.
من التعفف: ترك سؤال الناس، والكف عنه.
إلحافا: إلحاحا وهو ملازمة السائل من يسأله حتى يعطيه.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى بالصدقات ورغب فيها وسألها غير المؤمنين من الكفار واليهود فتحرج الرسول والمؤمنون من التصدق على الكافرين فأذهب الله تعالى عنهم هذا الحرج وأذن لهم بالتصدق على غير المؤمنين والمراد من الصدقة صدقة التطوع لا الواجبة وهي الزكاة فقال تعالى مخاطبا رسوله وأمته تابعة له: { ليس عليك هداهم } لم يوكل إليك أمر هدايتهم لعجزك عن ذلك وإنما الموكل إليك بيان الطريق لا غير وقد فعلت فلا عليك أن لا يهتدوا، ولو شاء الله هدايتهم لهداهم، وما تنفقوا من مال تثابوا عليه، سواء كان على مؤمن أو كافر إذا أردتم به وجه الله وابتغاء مرضاته، وأكد تعالى هذا الوعد الكريم بقوله: { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } والحال أنكم لا تظلمون بنقص ما أنفقتم ولو كان النقص قليلا. كان هذا معنى الآية الأولى [272] أما الآية الثانية وهي: { للفقرآء الذين أحصروا في سبيل الله... } فقد بين تعالى فيها أفضل جهة ينفق فيها المال ويتصدق به عليها وهي فقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وأحصروا في المدينة بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون ضربا في الأرض للتجارة ولا للعمل، ووصفهم تعالى بصفات يعرفهم بها رسوله والمؤمنون ولولا تلك الصفات لحسبهم لعفتهم وشرف نفوسهم الجاهل بهم أغنياء غير محتاجين فقال تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف تعرفهم بسيماهم } لا يسألون الناس مجرد سؤال فضلا عن أن يلحوا ويلحفوا. ثم في نهاية الآية أعاد تعالى وعده الكريم بالمجازاة على ما ينفق في سبيله فقال: { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } ولازمة أن يثيبكم عليه أحسن ثواب فأبشروا واطمئنوا.
وأما الآية الثالثة [274] فهي آخر آيات الدعوة إلى الإنفاق جاءت تحمل أعظم بشر للمنفقين في كل أحوالهم بالليل والنهار سرا وعلانية بأن أجر نفقاتهم مدخر لهم عند ربهم يتسلمونه يوم يلقونه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا والبرزخ والآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز التصدق على الكافر المحتاج بصدقة لا الزكاة فإنا حق المؤمنين.
2- ثواب الصدقة عائد على المتصدق لا على المتصدق عليه فلذا لا يضر إن كان كافرا.
3- وجوب الإخلاص في الصدقة أي يجب أن يراد بها وجه الله تعالى لا غير.
4- تفاضل أجر الصدقة بحسب فضل وحاجة المتصدق عليه.
5- فضيلة التعفف وهو ترك السؤال مع الاحتياج، وذم الإلحاح في الطلب من غير الله تعالى أما الله عز وجل فإنه يحب الملحين في دعائه.
6- جواز التصدق بالليل والنهار وفي السر والعلن إذ الكل يثيب الله تعالى عليه ما دام قد أريد به وجهه لا وجه سواه.
7- بشرى الله تعالى للمؤمنين المنفقين بادخار أجرهم عنده تعالى ونفي الخوف والحزن عنهم مطلقا.
[2.275-277]
شرح الكلمات:
يأكلون الربا: يأخذونه ويتصرفون فيه بالأكل في بطونهم، وبغير الأكل والربا هنا ربا النسيئة وحقيقته أن يكون لك على المرء دين فإذا حل أجله ولم يقدر على تسديده تقول له: أخر وزد فتؤخره أجلا وتزيد في رأس المال قدرا معينا، هذا هو ربا الجاهلية والعمل به اليوم في البنوك الربوية فيسلفون المرء مبلغا الى أجل ويزيدون قدرا آخر نحو العشر أو أكثر أو أقل والربا حرام بالكتاب والسنة والإجماع وسواء كان ربا فضل أو ربا نسيئة.
لا يقومون: من قبورهم يوم القيامة.
يتخبطه الشيطان: يضربه الشيطان ضربا غير منتظم.
من المس: المس الجنون، يقال: بفلان مس من جنون.
موعظة: أمر أو نهي بترك الربا.
فله ما سلف: ليس عليه أن يراد الأموال التي سبقت توبته.
يمحق الله الربا: أي يذهبه شيئا فشيئا حتى لا يبقى منه شيء كمحاق القمر آخر الشهر.
ويربي الصدقات: يبارك في المال الذي أخرجت منه، ويزيد فيه، ويضاعف أجرها أضعافا كثيرة.
كفار أثيم: الكفار: شديد الكفر، يكفر بكل حق وعدل وخير، أثيم: منغمس في الذنوب لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ارتكابها.
معنى الآيتين:
لما حث الله على الصدقات وواعد عليها بعظيم الأجر ومضاعفة الثواب ذكر المرابين الذين يضاعفون مكاسبهم المالية بالربا وهم بذلك يسدون طرق البر، ويصدون عن سبيل المعروف فبدل أن ينموا أموالهم بالصدقات نموها بالربويات، فذكر تعالى حالهم عند القيام من قبورهم وهم يقومون، ويقعدون، ويغفون ويصرعون، حالهم حال من يصرع في الدنيا بمس الجنون، علامة يعرفون بها يوم القيامة كما يعرفون بانتفاخ بطونهم وكأنها خيمة مضروبة بين أيديهم قال تعالى: { الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } ، وذكر تعالى سبب هذه النقمة عليهم فقال { ذلك } أي أصابهم ذلك الخزي والعذاب بأنهم ردوا علينا حكمنا بتحريم الربا وقالوا إنما البيع مثل الربا، إذ الربا الزيادة في نهاية الأجل، والبيع في أوله، ورد تعالى عليهم فقال: { وأحل الله البيع وحرم الربوا } فما دام قد حرم الربا فلا معنى للاعتراض، ونسوا أن الزيادة في البيع هي في قيمة سلعة تغلوا وترخص، وهي جارية على قانون الإذن في التجارة، وأما الزيادة في آخر البيع فهي زيادة في الوقت فقط. ثم قال تعالى مبينا لعباده سبيل النجاة محذرا من طريق الهلاك: { فمن جآءه موعظة من ربه } وهي تحريمه تعالى للربا ونهيه عنه فانتهى عنه فله ما سلف قبل معرفته للتحريم، أو قبل توبته منه، وأمره بعد ذلك إلى الله إن شاء ثبته على التوبة فنجاه، وإن شاء خذله لسوء عمله، وفساد نيته فأهلكه وأرداه وهذا معنى قوله تعالى: { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.
أخبر تعالى أنه بعدله يمحق الربا، وبفضله يربي الصدقات، وأنه لا يحب كل كفار لشرع الله وحدوده، أثيم بغشيانه الذنوب وارتكابه المعاصي. كان هذا معنى الآية الأولى [275] أما الآية الثانية [276] فهي وعد رباني صادق وبشرى إلهية سارة لكل من آمن وعمل صالحا وأقام الصلاة على الوجه الذي تقام به وآتى الزكاة بأن له أجره واف عند ربه يتسلمه يوم الحاجة إليه في عرصات القيامة وأنه لا يخاف مما يستقبله في الحياة الدنيا والآخرة ولا يحزن أيضا في الدنيا ولا في الآخرة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان عقوبة آكل الربا يوم القيامة لاستباحتهم الربا وأكلهم له وعدم التوبة منه.
2- تحريم الربا وكل مال حرام لما جاء في الآية من الوعيد الشديد.
3- صفة الحب لله تعالى وأنه تعالى يحب أولياءه وهم أهل الإيمان به وطاعته ويكره أعداءه وهم أهل الكفر به ومعاصيه من أكل الربا وغيره من كبائر الذنوب.
4- حلية البيع إن تم على شروطه المبينة في كتب الفقه.
5- من تاب من الربا تقبل توبته، ويحل له ما أفاده منه قبل التوبة بشرط سيأتي في الآيات بعد هذه.
6- وعيد الله تعالى بمحق الربا ووعده بإرباء الصدقة.
7- بشرى الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح مع إقامتهم للصلاة وإيتائهم الزكاة.
[2.278-281]
شرح الكلمات:
اتقوا الله: خافوا عقابه بطاعته بأن تجعلوا طاعته وقاية تقيكم غضبه وعقابه.
وذروا ما بقي من الربا: اتركوا ما بقي عندكم من المعاملات الربوية.
فأذنوا بحرب: اعلموا بحرب من الله ورسوله واحملوا سلاحكم ولا ينفعكم سلاح فإنكم المهزومون الهالكون.
فلكم رؤوس أموالكم: بعد التوبة مالكم إلا رأس المال الذي عند المدين لكم فخذوه واتركوا زيادة الربا.
العسرة: الشدة والضائقة المالية.
فنظرة إلى ميسرة: أي انتظار للمدين إلى أن ييسر الله عليكم فيعطيكم رأس مالكم الذي أخذه منكم.
وأن تصدقوا: وأن تتصدقوا على المعسر بترك ما لكم عليه فذلك خير لكم.
معنى الآيات:
بمناسبة ذكر عقوبة آكلي الربا في الآيات السابقة نادى الله تعالى عباده المؤمنين آمرا إياهم بتقواه تعالى، وذلك بطاعته وترك معصيته، وبالتخلي عما بقي عند بعضهم من المعاملات الربوية مذكرا إياهم بإيمانهم إذ من شأن المؤمن الاستجابة لنداء ربه وفعل ما يأمره به وترك ما ينهاه عنه فقال تعالى: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين } ، ثم هدد المتباطئين بقوله: فإن لم تفعلوا فاعلموا بحرب قاسية ضروس من الله ورسوله، ثم بين لهم طريق التوبة وسبيل الخلاص من محنة الربا وفتنته بقوله: وإن تبتم بترك الربا فلكم رؤوس أموالكم لا غير لا تظلمون بأخذ زيادة، ولا تظلمون بنقص من رأس مالكم. وإن وجد مدين لكم في حالة إعسار فالواجب انتظاره إلى ميسرته، وشيء آخر وهو خير لكم أن تتصدقوا بالتنازل عن ديونكم كلها تطهيرا لأموالكم التي لامسها الربا وتزكية لأنفسكم من آثاره السيئة. ثم ذكر تعالى سائر عباده بيوم القيامة وما فيه من أهوال ومواقف صعبة حيث يتم الحساب الدقيق وتجزى فيه كل نفس مؤمنة أو كافرة بارة أو فاجرة ما كسبته من خير وشر وهم لا يظلمون بنقص حسناتهم أو زيادة سيئاتهم فقال تعالى: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وهذا التوجيه الذي حملته هذه الآية ذات الرقم [280] آخر توجيه تلقته البشرية من ربها تعالى إذ هذه آخر ما نزل من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب التوبة من الربا ومن كل المعاصي.
2- المصر على المعاملات الربوية يجب على الحاكم أن يحاربه بالضرب على يديه حتى يترك الربا.
3- من تاب من الربا لا يظلم بالأخذ من رأس ماله بل يعطاه وافيا كاملا إلا أن يتصدق بالتنازل عن ديونه الربوية فذل خير له حالا ومآلا.
4- وجوب ذكر الدار الآخرة والاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح وترك الربا والمعاصي.
[2.282]
شرح الكلمات:
تداينتم: داين بعضكم بعضا في شراء أو بيع أو سلم أو قرض.
إلى أجل مسمى: وقت محدد بالأيام أو الشهور أو الأعوام.
بالعدل: بلا زيادة ولا نقصان ولا غش أو احتيال بل بالحق والإنصاف.
ولا يأب: لا يمتنع الذي يحسن الكتابة أن يكتب.
وليملل الذي عليه الحق: لأن إملاءه اعتراف منه وإقرار بالذي عليه من الحق.
ولا يبخس منه شيئا: لا ينقص من الدين الذي عليه شيء ولو قل كفلس وليذكره كله.
سفيها أو ضعيفا: السفيه: الذي لا يحسن التصرفات المالية، والضعيف: العاجز عن الإملاء كالأخرس، أو الشيخ الهرم.
وليه: من يلي أمره ويتولى شؤونه لعجزه وقصوره.
من رجالكم: أي المسلمين الأحرار دون العبيد والكفار.
أن تضل إحداهما: تنسى أو تخطىء لقصر إدراكها.
ولا تسأموا: لا تضجروا أو تملوا من الكتابة ولو كان الدين صغيرا مبلغه.
أقسط عند الله: أعدل في حكم الله وشرعه.
وأقوم للشهادة: أثبت لها وأكثر تقريرا لأن الكتابة لا تنسى والشهادة تنسى أو يموت الشاهد أو يغيب.
وأدنى أن لا ترتابوا: أقرب أن لا تشكوا بخلاف الشهادة بدون كتابة.
تديرونها بينكم: أي تتعاطونها، البائع يعطي البضاعة والمشتري يعطي النقود فلا حاجة إلى كتابتها ولا حرج أو إثم يترتب عليها.
وأشهدوا إذا تبايعتم: إذا باع أحد أحدا دارا أو بستانا أو حيوانا يشهد على ذلك البيع.
ولا يضار كاتب ولا شهيد: بأن يكلف مالا يقدر عليه بأن يدعى ليشهد في مكان بعيد يشق عليه أو يطلب إليه أن يكتب زورا أو يشهد به.
فسوق بكم: أي خروج عن طاعة ربكم لاحق بكم إثمه وعليكم تبعته يوم القيامة.
اتقوا الله: في أوامره فافعلوها، وفي نواهيه فاتركوها، وكما علمكم هذا يعلمكم كل ما تحتاجون فاحمدوه بألسنتكم واشكروه بأعمالكم، وسيجزيكم بها وهو بكل شيء عليم.
معنى الآية الكريمة:
لما حث تعالى على الصدقات، وحرم الربا، ودعا إلى العفو على المعسر، والتصدق عليه بإسقاط الدين الأمر الذي قد يتبادر الى الذهن أن المال لا شأن له ولا قيمة في الحياة فجاءت هذه الآية، آية الدين الكريمة لتعطي للمال حقه، وترفع من شأنه فإنه قوام الحياة فقررت واجب الحفاظ عليه، وذلك بكتابة الديون، والإشهاد عليها بمن ترضى عدالتهم، وكون الشهود رجلين مسلمين حرين، فإن انعدم رجل من الاثنين قامت إمرأتان مقامه، واستحث الله تعالى من يحسن الكتابة أن يكتب إذا كان في سعة من أمره، وحرم على الشهود إذا ما دعوا لأداء الشهادة أن يتخلوا عنها، وحرم على المتداينين أن لا يكتبوا ديونهم ولو كانت صغيرة قليلة فقال تعالى: { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله } ورخص تعالى رحمة منه في عدم كتابة التجارة الحاضرة التي يدفع فيها السلعة في المجلس، ويقبض الثمن فيه فقال: { إلا أن تكون تجرة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها.
. } وأمر بالإشهاد عل البيع فقال: { وأشهدوا إذا تبايعتم.. } ونهى عن الإضرار بالكاتب، أو الشهيد، بأن يلزم الكاتب أن يكتب إذا كان في شغله، أو الشاهد بأن يطلب منه أن يشهد وهو كذلك في شغله، أو أن يدعى إلى مسافات بعيدة تشق عليه إذ أمره تطوع، وفعل خير لا غير فليطلب كاتب وشاهد غيرهما إذا تعذر ذلك منهما لانشغالهما. وحذر من كتمان الشهادة أو الحيف والجور في الكتابة، والإضرار بالكاتب والشهيد فقال: { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم.. } وأكد ذلك بأمره بتقواه فقال: { واتقوا الله.. } بامتثال أمره، ونهيه لتكملوا وتسعدوا وكما علمكم هذا العلم النافع ما زال يعلمكم وهو بكل شيء عليم. هذا معنى الآية الكريمة: { يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه.. }.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- وجوب كتابة الديون سواء كانت بيعا، أو شراء، أو سلفا، أو قرضا هذا ما قرره ابن جرير، ورد القول بالإرشاد والندب.
2- رعاية النعمة بشكرها لقوله تعالى للكاتب: كما علمه الله فليكتب إذ علمه الكتابة وحرم غيره منها.
3- جواز النيابة في الإملاء لعجز عنه، وعدم قدرته عليه.
4- وجوب العدل والإنصاف في كل شيء لا سيما في كتابة الديون المستحقة المؤجلة.
5-وجوب الإشهاد على الكتابة لتأكدها به، وعدم نسيان قدر الدين وأجله.
6- شهود المال لا يقلون عن رجلين عدلين من الأحرار المسلمين لا غير، والمرأتان المسلمتان اللتان فرض شهادتهما تقومان مقام الرجل الواحد.
7- الحرص على كتابة الديون والعزم على ذلك ولو كان الدين صغيرا تافها.
8- الرخصة في عدم كتابة التجارة الحاضرة السلعة والثمن المدارة بين البائع والمشتري.
9- وجوب الإشهاد على بيع العقارات والمزارع والمصانع مما هو ذو بال.
10- حرمة الإضرار بالكاتب والشهيد.
11- تقوى الله تعالى تسبب العلم، وتكسب المعرفة بإذن الله تعالى.
[2.283-284]
شرح الكلمات:
السفر: الخروج من الدار والبلد ظاهرا بعيدا بمسافة أربعة برد فأكثر.
ولم تجدوا كاتبا: من يكتب لكم، أو لم تجدوا أدوات الكتابة من دواة وقلم.
فرهان مقبوضة: فاعتاضوا عن الكتابة الرهن فليضع المدين رهنا لدى الدائن.
فإن أمن بعضكم بعضا: فلا حاجة الى الرهن.
فليؤد المؤتمن أمانته: أي فليعط الدين الذي أوتمن عليه حيث تعذرت الكتابة ولم يأخذ دائنه منه رهنا على دينه.
آثم قلبه: لأن الكتمان من عمل القلب فنسب الإثم إلى القلب.
وإن تبدوا: تظهروا.
معنى الآيتين:
لما أمر تعالى بالإشهاد والكتابة في البيوع والسلم والقروض في الآيات السابقة أمر هنا - عند تعذر الكتابة لعدم وجود كاتب أو أدوات الكتابة وذلك في السفر - أمر بالاستعاضة عن الكتابة بالرهن وذلك بأن يضع المدين رهنا لدى دائنه عوضا عن الكتابة يستوثق به دينه هذا في حال عدم ائتمانه، والخوف منه، وأما إن أمن بعضهم بعضا فلا بأس بعدم الارتهان فقال تعالى: { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة.. } والرهان جمع رهن. وقال { فإن أمن بعضكم بعضا } (فلم تأخذوا رهانا) { فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه } في ذلك. ثم نهى تعالى نهيا جازما الشهود عن كتمان شهادتهم فقال: { ولا تكتموا الشهدة.. } وبين تعالى عظم هذا الذنب فقال : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه... } وأعلم أنه عليم بما يعملونه فيجازيهم بعلمه، وهو تهديد ووعيد منه سبحانه وتعالى لكاتمي الشهادة والقائلين بالزور فيها. هذا معنى الآية الأولى [283] أما الآية الثانية [284] فإنه تعالى قد أخبر بأن له جميع ما في السماوات وجميع ما في الأرض خلقا وملكا وتصرفا، وبناء على ذلك فإن من يبدي ما في نفسه من خير أو شر أو يخفه يحاسب به، ثم هو تعالى بعد الحساب يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان والتقوى، ويعذب من يشاء من أهل الشرك والمعاصي، له كامل التصرف، لأن الجميع خلقه وملكه وعبيده.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- جواز أخذ الرهن في السفر والحضر توثيقا من الدائن لدينه.
2- جواز ترك أخذ الرهن إن حصل الأمن من سداد الدين وعدم الخوف منه.
3- حرمة كتمان الشهادة والقول بالزور فيها وأن ذلك من أكبر الكبائر كما في الصحيح.
4- محاسبة العبد بما يخفي في نفسه من الشك والشرك والنفاق وغير ذلك من بغض أولياء الله وحب لأعدائه، ومؤاخذته بذلك، والعفو عن الهم بالخطيئة والذنب دون الشك والشرك والحب والبغض من المؤمن الصادق الإيمان للحديث الصحيح الذي أخرجه الستة:
" إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل ".
[2.285-286]
شرح الكلمات:
آمن: صدق جازما بصحة الخبر ولم يتردد أو يشك فيه قط.
الرسول: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
كل: كل من الرسول والمؤمنين.
لا نفرق بين أحد من رسله: نؤمن بهم جميعا ولا نكون كاليهود والنصارى نؤمن ببعض، ونكفر ببعض.
سمعنا: سماع فهم واستجابة وطاعة.
المصير: المرجع أي رجوعنا إليك يا ربنا فاغفر لنا.
لا يكلف الله نفسا: التكليف الإلزام مما فيه كلفة ومشقة تحتمل.
إلا وسعها: إلا ما تتسع لها طاقتها ويكون في قدرتها.
لها ما كسبت: من الخير.
وعليها ما اكتسبت: من الشر.
لا تؤاخذنا: لا تعاقبنا.
إن نسينا: فتركنا ما أمرتنا به أو فعلنا ما نهيتنا عنه نسيانا منا غير عمد.
أو أخطأنا: فعلنا غير ما أمرتنا خطأ منا بدون إرادة فعل منا له ولا عزيمة.
إصرا: تكليفا شاقا يثقل علينا ويأسرنا فيحبسنا عن العمل.
مولانا: مالكنا وسيدنا ومتولي أمرنا لا مولى لنا سواك.
معنى الآيتين:
ورد أنه لما نزلت الآية [284] { لله ما في السموت } وفيها {... وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله.. } اضطربت لها نفوس المؤمنين، وقالوا من ينجوا منا إذا كنا نؤاخذ بما يخفى في أنفسنا من الهم والوسواس وحديث النفس فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرضا بحكم الله تعالى والتسليم به فقال لهم: قولوا سمعنا وأطعنا ولا تكونوا كاليهود:
قالوا سمعنا وعصينا...
[البقرة: 93] فلما قالوها صادقين أنزل الله تعالى هاتين الآيتين: { ءامن الرسول... } فأخبر عن إيمانهم مقرونا بإيمان نبيهم تكريما لهم وتطمينا فقال: { ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله.. } وأخبر عنهم بقولهم الذي كان سبب استجابة الله تعالى لهم فقال عنهم: {... وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } وأخبرهم تعالى أنه لرحمته بهم وحكمته في تصرفه في خلقه لا يكلف نفسا إلا ما تتسع له طاقتها وتقدر على فعله، وإن لها ما كسبت من الخير فتجزى به خيرا وعليها ما اكتسبت من الشر فتجزى به شرا إلا أن يعفوا عنها ويغفر لها فقال: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.. } وعلمهم كيف يدعونه ليقول لهم قد فعلت، كما صح به الخبر فقال قولوا: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنآ أنت مولنا فانصرنا على القوم الكافرين } وفعلا قد عفا عنهم في النسيان والخطأ وخفف عنهم في التشريع فما جعل عليهم في الدين من حرج، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم ونصرهم على الكافرين بالحجة والبيان وفي المعارك بالسيف والسنان فله الحمد والمنة وهو الكبير المتعال.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير أركان الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكة وكتبه ورسله.
2- وجوب الإيمان بكافة الرسل وحرمة الإيمان ببعض وترك البعض وهو كفر والعياذ بالله تعالى.
3- وجوب طاعة الله ورسوله والتسليم والرضا بما شرع الله ورسوله وحرمة رد شيء من ذلك.
4- رفع الحرج عن هذه الأمة رحمة بها.
5- عدم المؤاخذه بالنسيان أو الخطأ فمن نسي وأكل أو شرب وهو صائم فلا إثم عليه أو أخطأ فقتل فلا إثم عليه.
6- العفو عن حديث النفس لنزول الآية فيه ما لم يتكلم المؤمن أو يعمل.
7- تعليم هذا الدعاء واستحباب الدعاء به إئتساء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد ورد من قرأ هاتين الآيتين عند النوم كفتاه { ءامن الرسول... } السورة.
[3 - سورة آل عمران]
[3.1-6]
شرح الكلمات:
الم: تقدم الكلام على مثله من سورة البقرة فليرجع إليه هناك.
الله: المعبود بحق.
لا إله إلا هو: لا معبود بحق سواه.
الحي: ذو الحياة المستلزمة للإرادة والعلم والسمع والبصر والقدرة.
القيوم: القيم على كل مخلوقاته بالتربية والرعاية والحفظ.
الكتاب: القرآن.
بالحق: متلبسا به إذا كل ما فيه حق وصدق لا باطل فيه بأي وجه من الوجوه.
مصدقا لما بين يديه: من الكتب السابقة لا يخالفها ولا يبطلها لأن مصدر الجميع واحد هو الله تعالى.
التوراة: كتاب موسى عليه السلام ومعناه بالعبرية الشريعة.
الإنجيل: كتاب عيسى عليه السلام ومعناه باليونانية: التعليم الجديد.
الفرقان: ما فرق الله بين الحق والباطل من الحجج القرآنية والمعجزات الإلهية والعقول النيرة البشرية التي لم يغلب عليها التقليد والجمود والهوى.
يصوركم في الأرحام: التصوير إيجاد الصورة للشيء لم تكن له من قبل، والأرحام جمع رحم: مستودع الجنين.
معنى الآيات:
أخرج ابن جرير الطبري بأسانيد صحيحة أن وفد نجران والمكون من ستين راكبا فيهم أشرافهم وأهل الحل والعقد منهم، وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاجونه في أمر المسيح عليه السلام ويريدون أن يثبتوا الهيته بالادعاء الباطل فأنزل الله تعالى نيفا وثمانين آية من فاتحة السورة الم إلى ما يقارب الثمانين. وذلك ردا لباطلهم، وإقامة للحجة عليهم، وسيلاحظ هذا المتدبر للآيات ويراه واضحا جليا في السياق القرآني في هذه الآيات.
فقد قال تعالى الم، الله لا إله إلا هو فأخبر أنه تعالى لا معبود بحق إلا هو، فأبطل عبادة المسيح عليه السلام وعبادة كل معبود سوى الله تعالى من سائر المعبودات، وقال الحي القيوم فذكر برهان استحقاقه للعبادة دون غيره وهو كونه تعالى حيا أزلا وأبدا وكل حي غيره مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء، فلذا لا يستحق الألوهية إلا هو عز وجل والمسيح عليه السلام مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء فكيف يكون إلها؟ وقال تعالى القيوم أي القائم على كل الخلق بالتربية والرعاية والحفظ والتدبير والرزق، وما عداه فليس له ذلك بل هو مربوب مرزوق فكيف يكون إلها مع الله؟ ودليل ذلك أنه نزل عليك الكتاب: القرآن بالحق مصحوبا به ليس فيه من الباطل شيء فآياته كلها مثبتة للألوهية لله نافية لها عما سواه، فكيف يكون المسيح إلها مع الله أو يكون هو الله، أو ابن الله كما يزعم نصارى نجران وغيرهم من نصارى اليونان والرومان وغيرهم نزله مصدقا لما بين يديه من الكتب التي سبقته لا يخالفها ولا يتناقض معها فدل ذلك أنه وحي الله، وأنزل من قبله التوراة والإنجيل هدى للناس وأنزل الفرقان ففرق به بين الحق والباطل في كل ما يلبس أمره على الناس فتبين أن الرب الخالق الرازق المدبر للحياة المحيي المميت الحي الذي لا يموت هو الإله الحق وما عداه مربوب مخلوق لا حق له في الألوهية والعبادة وإن شفى مريضا أو أنطق أبكم أو أحيا ميتا بإذن الله تعالى فإن ذلك لا يؤهله لأن يكون إلها مع الله كعيسى بن مريم عليه السلام فإن ما فعله من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء بعض الموتى كان بقدرة الله وإذنه بذلك لعيسى وإلا لما قدر على شيء من ذلك شأنه شأن كل عباد الله تعالى، ولما رد الوفد ما حاجهم به الرسول وأقام به الحجة عليهم تأكذ بذلك كفرهم فتوعدهم الرب تعالى بقوله: { إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام } وهذا وعيد شديد لكل من كذب بآيات الله وجحد بالحق الذي تحمله من توحيد الله تعالى ووجوب طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السمآء } فلو كان هناك من يستحق الألوهية معه لعلمه وأخبر عنه، كما قرر بهذه الجملة أن عزته تعالى لا ترام وأنه على الانتقام من أهل الكفر به لقدير.
وذكر دليلا آخر على بطلان ألوهية المسيح فقال: { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشآء } وعيسى عليه السلام قد صور في رحم مريم فهو قطعا ممن صور الله تعالى فكيف يكون إذا إلها مع الله أو إبنا لله كما يزعم النصارى؟ وهنا قرر الحقيقة فقال: { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } فالعزة التي لا ترام والحكمة التي لا تخطىء هما مقتضيات ألوهيته الحقة التي لا يجادل فيها إلا مكابر ولا يجاحد فيها إلا معاند كوفد نصارى نجران ومن على شاكلتهم من أهل الكفر والعناد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير ألوهية الله تعالى بالبراهين ونفي الألوهية عن غيره من سائر خلقه.
2- ثبوت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بإنزال الله تعالى الكتاب عليه.
3- إقامة الله تعالى الحجة على عباده بإنزال كتبه والفرقان فيها ببيان الحق والباطل في كل شؤون الحياة.
4- بطلان ألوهية المسيح لأنه مخلوق مصور في الأرحام كغيره صوره الله تعالى ما شاء فكيف يكون بعد ذلك إلها مع الله أو ابنا له تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
[3.7-9]
شرح الكلمات:
محكمات: الظاهر الدلالة البينة المعنى التي لا تحتمل إلا معنى واحدا، وذلك كآيات الأحكام من حلال وحرام وحدود، وعبادات، وعبر وعظات.
متشابهات: غير ظاهرة الدلالة محتملة لمعان يصعب على غير الراسخين في العلم القول فيها وهي كفواتح السور، وكأمور الغيب. ومثل قول الله تعالى في عيسى عليه السلام:
.... وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه..
[النساء: 171] وكقوله تعالى:
..إن الحكم إلا لله..
[الأنعام : 57].
في قلوبهم زيغ: الزيغ: الميل عن الحق بسبب شبهة أو شهوة أو فتنة.
ابتغاء الفتنة: أي طلبا لفتنة المؤمنين في دينهم ومعتقداتهم.
ابتغاء تأويله: طلبا لتأويله ليوافق معتقداتهم الفاسدة.
وما يعلم تأوليه إلا الله: وما يعلم ما يؤول إليه أمر المتشابه إلا الله منزله.
الراسخون في العلم: هم أهل العلم اليقيني في نفوسهم الذين رسخت أقدامهم في معرفة الحق فلا يزلون ولا يشتطون في شبهة أو باطل.
كل من عند ربنا: أي المحكم والمتشابه فنؤمن به جميعا.
أولوا الألباب: أصحاب العقول الراجحة والفهوم السليمة.
ربنا لا تزغ قلوبنا: أي لا تمل قلوبنا عن الحق بعدما هديتنا إليه وعرفتنا به فعرفناه.
هب لنا من لدنك: أعطنا من عندك رحمة.
معنى الآيات:
ما زال تعالى يقرر ربوبيته وألوهيته ونبوة رسوله ويبطل دعوى نصارى نجران في ألوهية المسيح عليه السلام فيقول: هو أي الله الحي القيوم الذي أنزل عليك الكتاب، أي القرآن، منه آيات محكمات، لا نسخ فيها ولا خفاء في معناها ولا غموض في دلالتها على ما نزلت فيه وهذه معظم آي الكتاب وهي أمه وأصله، ومنه آيات أخر متشابهات وهي قليلة والحكمة من إنزالها كذلك الإمتحان والإختبار كالإمتحان بالحلال والحرام، وبأمور الغيب ليثبت على الهداية والإيمان من شاء الله هدايته، ويزيغ في إيمانه ويضل عن سبيله من شاء الله تعالى ضلاله وعدم هدايته. فقال تعالى: { فأما الذين في قلوبهم زيغ.. } أي ميل عن الحق { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } للخروج به عن طريق الحق وهداية الخلق كما فعل النصارى حيث ادعوا أن الله ثالث ثلاثة لأنه يقول نخلق ونحيي، ونميت وهذا كلام جماعة فأكثر، وكما قالوا في قوله تعالى في شأن عيسى:
.. وروح منه..
[النساء: 171] أنه جزء منه متحد به وكما قال الخوارج في قوله تعالى
..إن الحكم إلا لله..
[الأنعام: 57] فلا يجوز لأحد أن يحكم في شيء وكفروا عليا وخرجوا عنه لتحكيمه أبا موسى الأشعري في حقيقة الخلاف بين علي ومعاوية وهكذا يقع أهل الزيغ في الضلال حيث يتبعون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم فيظهر لهم معناه ويفهمون مراد الله تعالى منه. وأخبر تعالى أنه لا يعلم تأويله إلا هو سبحانه وتعالى.
وأن الراسخين في العلم يفوضون أمره إلى الله منزله فيقولون: {.. آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } ، ويسألون ربهم الثبات على الحق فيقولون: {..ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة.. } ترحمنا بها في دنيانا وأخرانا إنك أنت وحدك الوهاب، لا إله غيرك ولا رب سواك، ويقررون مبدأ المعاد والدار الآخرة فيقولون سائلين ضارعين { ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } لمحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم فاغفر لنا وارحمنا يومئذ حيث آمنا بك وبرسولك وبكتابك محكم آيه ومتشابهه، إنك لا تخلف الميعاد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- في كتاب الله المحكم والمتشابه، فالمحكم يجب الإيمان به والعمل بمقتضاه، والمتشابه يجب الإيمان به ويفوض أمر تأويله إلى الله منزله ويقال: {..آمنا به كل من عند ربنا.. }.
2- أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه يجب هجرانهم والإعراض عنهم لأنهم مبتدعة وأهل أهواء.
3- استحباب الدعاء بطلب النجاة عند ظهور الزيغ ورؤية الفتن والضلال.
4- تقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة.
[3.10-13]
شرح الكلمات:
إن الذين كفروا: هم وفد نجران ويهود المدينة والمشركون والمنافقون.
لن تغني عنهم: لن تجزي عنهم ولن تقيهم عذاب الله إذا حل بهم.
وقود النار: الوقود ما توقد به النار من حطب أو فحم حجري أو غاز.
كدأب آل فرعون: كعادتهم وسنتهم في كفرهم وتكذيبهم وما حل بهم من عذاب في الدنيا والآخرة.
قل للذين كفروا: هم يهود المدينة بنو قينقاع.
آية في فئتين: علامة واضحة والفئتان: المسلمون وقريش إلتقتا في بدر.
يؤيد بنصره: يقوي.
عبرة لأولي الأبصار: العبرة العظة وما يعبر به ذو البصيرة مواضع الخطر فينجو.
معنى الآيات:
لما أصر وفد نجران على الكفر والتكذيب واتباع المتشابه من آي الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل من الحق والخروج عنه. توعد الرب تعالى جنس الكافرين من نصارى ويهود وعرب وعجم فقال { إن الذين كفروا... } بالحق لما جاءهم وعرفوه معرفة لا لبس فيها ولا غموض ولكن منعهم من قبوله الحفاظ على المناصب والمنافع هؤلاء جميعهم سيعذبهم الله تعالى في نار جهنم ولن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا، واعلم أنهم وقود النار، التي مهدوا لها بكفرهم وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم. ثم أخبر تعالى أنهم في كفرهم وعنادهم حتى يأتيهم العذاب كدأب وعادة آل فرعون والذين من قبلهم من الأمم التي كذبت رسلها كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح حتى أخذهم الله بالعذاب في الدنيا بالهلاك والدمار، وفي الآخرة بعذاب النار وبئس المهاد، وكان ذلك بذنوبهم لا بظلم الله تعالى ثم أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول ليهود المدينة الذين قالوا للرسول لا يغرنك أنك قاتلت من لا يحسن الحرب فانتصرت عليهم يريدون قريشا في موقعة بدر، إنك إن قابلتنا ستعلم أنا نحن الناس، لما قالوا قولتهم هذه يهددون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أمره أن يقول لهم { ستغلبون } يريد في المعركة وتنهزمون وتموتون، وبعد موتكم تحشرون إلى جهنم وبئس المهاد جهنم مهدتموها لأنفسكم بكفركم وعنادكم وجحودكم للحق بعد معرفته. وفتح أعينهم على حقيقة لو تأملوها لما تورطوا في حرب الرسول حت هزمهم وقتل من قتل منهم وأجلى من أجلاهم. وهي أن المسلمين الذين قاتلوا المشركين في بدر وانتصروا عليهم كانوا أقل عدد وأنقص عدة، ومع ذلك انتصروا لأنهم يقاتلون في سبيل الله والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت والشرك والظلم والطغيان ونصر الله الفئة القليلة المسلمة وهزم الفئة الكافرة الكثيرة فلو اعتبر اليهود بهذه الحقيقة لما تورطوا في حرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أبدا. ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وهي البصائر.
فقال تعالى لهم: { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } - في بدر - فئة - جماعة - تقاتل في سبيل الله -إعلاء لكلمته - وأخرى فئة كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت { يرونهم مثليهم رأي العين } لقربهم منهم. ومع هذا نصر الله الأقلية المسلمة وهزم الأكثرية الكافرة، وذلك لأن الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء، فأيد أولياءه وهزم أعداءه، وإن في هذه الحادثة لعبرة وعظة ومتفكر ولكن لمن كان ذا بصيرة، أما من لا بصيرة له فإنه لا يرى شيئا حتى يقع في الهاوية قال تعالى: { إن في ذلك } المذكور لهم: {..لعبرة لأولي الأبصار }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكفر مورث لعذاب يوم القيامة والكافر معذب قطعا.
2- الأموال والأولاد والرجال والعتاد مهما كثروا لن يغنوا من بأس الله شيئا إذا أراده بالكافرين في الدنيا والآخرة.
3- الذنوب بريد العذاب العاجل والآجل.
4- ذم الفخر والتعالي وسوء عاقبتهما.
5- العاقل من اعتبر بغيره، ولا عبرة لغير أولي الأبصار أي البصائر.
6- صدق خبر القرآن في ما أخبر به اليهود من هزيمتهم، فكان هذا دليل صدق على أن القرآن وحي الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الإسلام دين الله الحق.
[3.14]
شرح الكلمات:
زين للناس حب الشهوات: جعل حبها مستحسنا في نفوسهم لا يرون فيه قبحا ولا دمامة.
الشهوات: جمع شهوة بمعنى المشتهى طبعا وغريزة كالطعام والشراب اللذيذين.
القناطير المقنطرة: القنطار ألف ومائة أوقية فضة والمقنطرة الكثيرة بعضها فوق بعض.
الخيل المسومة: ذات السمات الحسان والمعدة للركوب عليها للغزو والجهاد.
الأنعام: الإبل والبقر والغنم وهي الماشية.
الحرث: الزروع والحقول وسائر النباتات النافعة.
ذلك متاع الحياة الدنيا: أي ذلك المذكور من النساء والبنين الخ متاع الحياة الدنيا يريد يستمتع به فيها ويموت صاحبها ويتركها.
معنى الآية الكريمة:
لما ذكر تعالى عناد من كفر من النصارى، واليهود، والمشركين، وجحودهم، وكفرهم، ذكر علة الكفر وبين سببه ألا وهو ما زينه تعالى لبني البشر عامة ليفتنهم فيه ويمتحنهم به وهو حب الشهوات أي المشتهيات بالطبع البشرى من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وهو كل ما يحرث من سائر الحبوب والنباتات الغذائية والعطرية وغيرها. هذا الذي جعل تلك الجماعات ترفض الحق وتدفعه لأنه يحول بينهم وبين هذه المشتهيات غالبا فلا يحصلون عليها، ولم يعلموا أنها مجرد متاع زائل فلا يبيعوا بها الجنة دار الخلد والسلام ولذا قال تعالى ذلك أي ما ذكر من أصناف المحبوبات متاع الحياة الدنيا لا غير أما الآخرة فلا ينفع فيها شيء من ذلك بل لا ينفع فيها إلا الزهد فيه والإعراض عنه إلا ما لا بد منه للبلغة به إلى عمل الدار الآخرة وهو الإيمان وصالح الأعمال، والتخلي عن الكفر والشرك وسائر الذنوب والمعاصي.
وختم تعالى الآية بقوله مرغبا في العمل للدار الآخرة داعيا عباده إلى الزهد في المتاع الفاني لتتعلق قلوبهم بالنعيم الباقي فقال: { والله عنده حسن المآب } ، أي المرجع الحسن، والنزل الكريم والجوار الطيب السعيد.
هداية الآية:
1- يزين الله تعالى بمعنى يجعل الشيء زينا محبوبا للناس للإبتلاء والإختبار قال تعالى:
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا
[الكهف: 7] ويزين الشيطان للإضلال والإغواء، فالله يزين الزين ويقبح القبيح، والشيطان يزين القبيح، ويقبح الزين. فانظر الفرق وتأمل.
2- المزينات في هذه الآية من تزيين الله تعالى للإبتلاء، وكلها زينة في الواقع وليس فيها قبيح إلا إذا طلبت من غير حلها وأخذت بشره ونهم فأفسدت أخلاق آخذها أو طغت عليه محبتها فأنسته لقاء الله وما عنده فهلك بها كاليهود والنصارى والمشركين.
3- كل ما في الدنيا مجرد متاع والمتاع دائما قليل وزائل فعلى العاقل أن ينظر إليه كما هو فلا يطلبه بما يحرمه حسن المآب عند الله. اللهم لا تحرمنا حسن مآبك يا الله يا رحمن يا رحيم.
[3.15-17]
شرح الكلمات:
أؤنبئكم: أخبركم بنبأ عظيم لأن النبأ لا يكون إلا بالأمر العظيم.
بخير من ذلكم: أي المذكور في الآية السابقة من النساء والبنين الخ.
اتقوا: خافوا ربهم فتركوا الشرك به ومعصيته ومعصية رسوله.
من تحتها الأنهار: من خلال قصورها وأشجارها أنهار الماء، وأنهار اللبن وأنهار العسل وأنهار الخمر.
خالدين فيها أبدا: مقيمين فيها إقامة لا يرحلون بعدها أبدا.
أزواج مطهرة: زوجات هي الحور العين نقيات من دم الحيض والبول وكل أذى وقدر.
الصابرين: على الطاعات لا يفارقونها وعلى المكروه لا يتسخطون، وعن المعاصي لا يقارفونها.
الصادقين: في إيمانهم وأقوالهم وأعمالهم.
القانتين: العابدين المحسنين الداعين الضارعين.
والمنفقين: المؤدين الزكاة والمتصدقين بفضول أموالهم.
المستغفرين بالأسحار: السائلين ربهم المغفرة في آخر الليل وقت السحور.
معنى الآيات:
لما بين تعالى ما زينه للناس من حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلى آخر ما ذكر تعالى، وبين أن حسن المآب عنده سبحانه وتعالى فليطلب منه بالإيمان والصالحات أمر رسوله أن يقول للناس كافة أؤنبئكم بخير من ذلكم المذكور لكم. وبينه بقوله: { للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله... } وهو رضاه عز وجل عنهم وهو أكبر من النعيم المذكور قبله قال تعالى في آية أخرى:
ورضوان من الله أكبر..
[التوبة: 72].
ثم أخبر تعالى أنه بصير بعباده يعلم المؤمن الصادق والمنافق الكاذب، والعامل المحسن والعامل المسيىء وسيجزى كلا بعدله وفضله، ثم ذكر صفات المتقين التي ورثوا بها ما وصف من النعيم فقال: { الذين يقولون ربنآ إننآ آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } فذكر صفة الإيمان والخشية والضراعة والدعاء لهم ثم ذكر باقي الصفات الكمالية فقال: { الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } ، يهجدون آخر الليل وقبيل طلوع الفجر يكثرون من الإستغفار وهو طلب المغفرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا مهما كان.
2- نعيم الآخرة خاص بالمتقين الأبرار، ونعيم الدنيا غالبا ما يكون للفجار.
3- التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي هي العالم الوراثي لدار السلام.
4- استحباب الضراعة والدعاء والإستغفار في آخر الليل.
5- الصفات المذكورة لأهل التقوى هنا كلها واجبة في الجملة لا يحل أن لا يتصف بها مؤمن ولا مؤمنة في الحياة.
[3.18-20]
شرح الكلمات:
شهد: أخبر عن علم بحضوره الأمر المشهود به.
لا إله إلا هو: لا معبود بحق في الأرض ولا في السماء إلا الله تبارك وتعالى.
أولو العلم: أصحاب العلم الصحيح المطابق للواقع وهم الأنبياء والعلماء.
القسط: العدل في الحكم والقول والعمل.
العزيز الحكيم: الغالب ذو العزة التي لا تغلب، الحكيم في كل خلقه وفعله وسائر تصرفاته.
الدين: ما يدان لله تعالى به أي يطاع فيه ويخضع له به من الشرائع والعبادات.
الإسلام: الإنقياد لله بالطاعة والخلوص من الشرك والمراد به هنا ملة الإسلام.
بغيا: ظلما وحسدا.
حاجوك: جادلوك وخاصموك بحجج باطلة واهية.
أسلمت وجهي لله: أخلصت كل أعمالي القلبية والبدنية لله وحده لا شريك له.
ومن اتبعن: كذلك أخلصوا لله كل أعمالهم له وحده لا شريك له.
أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى.
الأميين: العرب المشركين سموا بالأميين لقلة من يقرأ ويكتب فيهم.
أأسلمتم: الهمزة الأولى للإستفهام والمراد به الأمر أي أسلموا خيرا لكم لظهور الحق وانبلاج نوره بينكم بواسطة كتب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن أسلموا: فإن أجابوك وأسلموا فقد اهتدوا إلى سبيل النجاة.
وإن تولوا: أدبروا عن الحق بعد رؤيته وأعرضوا عنه بعد معرفته فلا يضرك أمرهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت.
معنى الآيات:
يخبر الجبار عز وجل أنه شهد أنه لا إله إلا هو وأن الملائكة وأولي العلم يشهدون كذلك شهادة علم وحق قامت على مبدأ الحضور الذاتي والفعلي وأنه تعالى قائم في الملكوت كله، علويه وسفليه، بالعدل، فلا رب غيره ولا إله سواه، العزيز في ملكه وخلقه الحكيم في تدبيره وتصريفه فلا يضع شيئا في غير موضعه اللائق به. فرد بهذه الشهادة على باطل نصارى نجران، ومكر اليهود، وشرك العرب، وأبطل كل باطلهم سبحانه وتعالى، ثم أخبر أيضا أن الدين الحق الذي لا يقبل تعالى دينا سواه، هو الإسلام، القائم على مبدأ الإنقياد الكامل لله تعالى بالطاعة، والخلوص التام من سائر أنواع الشرك فقال: { إن الدين عند الله } في حكمه وقضائه الإسلام، وما عداه فلا يقبله ولا يرضاه. ثم أخبر تعالى عن حال نصارى نجران، المجادلين لرسوله، في شأن تأليه عيسى بالباطل فقال { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم } يريد أن خلاف أهل الكتاب لم يكن عن جهل منهم بالحق ومعرفته ولكن كان عن علم حقيقي وإنما حملهم على الخلاف المسبب للفتن. والحروب وضياع الدين البغي والحسد إذ كل فرقة تريد الرئاسة والسلطة الدينية والدنيوية لها دون غيرها، وبذلك يفسد أمر الدين والدنيا، وهذه سنة بشرية تورط فيها المسلمون بعد القرون المفضلة أيضا، والتاريخ شاهد.
ثم قال تعال { ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } يتوعد تعالى ويهدد كل من يكفر بآياته الحاملة لشرائعه فيجحدها ويعرض عنها فإنه تعالى يحصي عليه ذنوب كفره وسيآت عصيانه ويحاسبه ويجزيه وإنه لسريع الحساب لأنه لا يشغله شيء عن آخر ولا يعييه إحصاء ولا عدد ثم يلتفت بالخطاب إلى رسوله قائلا له فإن حاجوك يريد وفد نجران النصراني فاختصر الحجاج معهم بإظهار موقفك المؤيس لهم داعيا إياهم إلى الإسلام الذي عرفوه وأنكروه حفاظا على الرئاسة والمنافع بينهم فقل لهم: { أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } أيضا أسلم وجهه لله فليس فينا شيء لغير الله وقلوبنا وأعمالنا وحياتنا كلها لله فأسلموا أنتم يا أهل الكتاب ويا أميون { فإن أسلموا فقد اهتدوا } وإن تولوا وأعرضوا فلا يضرك إعراضهم، إذ ما كلفت إلا البلاغ وقد بلغت، أما الحساب والجزاء فهو إلى الله تعالى البصير بأعمال عباده العليم بنياتهم وسوف يجزيهم بعلمه ويقضي بينهم بحكمه وهو العزيز الحكيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- اعتبار الشهادة والأخذ بها إن كانت قائمة على العلم وكان الشاهد أهلا لذلك بأن كان مسلما عدلا.
2- شهادة الله أعظم شهادة تثبت بها الشرائع والأحكام وتليها شهادة الملائكة وأولي العلم.
3- بطلان كل دين بعد الإسلام وكل ملة غير ملته لشهادة الله تعالى بذلك وقوله:
... ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
الآية [85] من هذه السورة والآتي تفسيرها إن شاء الله تعالى.
4- الخلاف بين أهل العلم والدين يتم عندما يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة فيتورطون في المطاعم والمشارب، ويتشوقون إلى الكراسي والمناصب، ويرغبون في الشرف يومئذ يختلفون بغيا بينهم وحسدا لبعضهم بعضا.
5- من أسلم قلبه لله وجوارحه وأصبح وقفا في حياته على الله فقد اهتدى إلى سبيل النجاة والسلام.
6- من علق قلبه بالحياة الدنيا وأعرض عما يصرفه عنها من العبادات ضل في حياته وسعيه وحسابه على الله وسيلقى جزاءه.
[3.21-22]
شرح الكلمات:
يكفرون: يجحدون ويكذبون.
النبيين: جمع نبي وهو ذكر من بني آدم أوحي إليه الله تعالى.
القسط: العدل والحق والخير والمعروف.
بشرهم بعذاب أليم: أخبرهم إخبارا يظهر أثره على بشرة وجوههم ألما وحسرة.
حبطت أعمالهم: بطلت وذهبت لم يجنوا منها شيئا ينفعهم، ويهلكون بذلك ويعدمون الناصر لهم لأن الله خذلهم وأراد إهلاكهم وعذابهم في جهنم.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في هتك أستار الكفرة من أهل الكتابين اليهود والنصارى فذكر تعالى هنا أن الذين يكفرون بآيات الله وهي حججه وأعلام دينه، وما بعث بها رسله، ويقتلون مع ذلك النبيين بغير حق ولا موجب للقتل، ويقتلون الذين يأمرونهم بالعدل من أتباع الأنبياء المؤمنين الصالحين، هذه جرائم بعض أهل الكتاب فبشرهم بعذاب أليم، ثم أخبر أن أولئك البعداء في مهاوي الشر والفساد والظلم والعناد حبطت أعمالهم في الدنيا فلا يجنون منها عاقبة حسنة ولا مدحا ولا ثناء بل سجلت لهم بها عليهم لعنات في الحياة والممات، والآخرة كذلك وليس لهم فيها من ناصرين ينصرونهم فيخلصونهم من عذاب الله وهيهات هيهات أن يوجد من دون الله ولي أو نصير.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- الكفر والظلم من موجبات هلاك الدنيا ولزوم عذاب الآخرة.
2- قتل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر كقتل الأنبياء في عظم الجرم.
3- الشرك محبط للأعمال مفسد لها في الدنيا والآخرة.
4- من خذله الله تعالى لا ينصره أحد، ومن ينصره الله لا يغلبه أحد.
[3.23-25]
شرح الكلمات:
أوتوا نصيبا من الكتاب: اعطوا حظا وقسطا من التوراة.
يدعون: يطلب إليهم أن يتحاكموا فيما اختلفوا فيه من الحق إلى كتابهم الذي يؤمنون به وهو التوراة فيأبون ويعرضون.
يتولى: يرجع وهو مصمم على عدم العودة إلى الحق.
أياما معدودات: هذا قول اليهود ويعنون بالأيام الأربعين يوما تلك التي عبدوا فيها العجل بعد غياب موسى عليه السلام عنه.
يفترون: يكذبون.
ليوم لا ريب فيه: هو يوم القيامة.
ما كسبت: ما عملت من خير أو شر.
لا يظلمون: بأن يعذبوا بدون المقتضي لعذابهم من الشرك والكفر والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في فضح أهل الكتاب بذكر ذنوبهم وجرائمهم فيقول تعالى لرسوله حاملا له على التعجب من حال اليهود ألم تر يا رسولنا إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أي ألم ينته إلى علمك أمرهم حيث يدعون إلى التحاكم إلى كتاب الله تعالى فيما أنكروه واختلفوا فيه من صفاتك وشأن نبوتك ورسالتك، ثم يتولى عدد منهم وهم مصممون على عدم العودة وطلب الحق والإقرار به. إنها حال تدعو إلى التعجب حقا، وصارفهم عن قبول الحق. ومراجعته هو إعتقادهم الفاسد بأن النار لا تمسهم إذا ألقوا فيها إلا مدة أربعين يوما وهي المدة التي عبد فيها أسلافهم العجل يوم غاب موسى عنهم لمناجاته ربه تعالى في جبل الطور. وهذه الدعوى باطلة لا أساس لها من الصحة بل يخلدون في النار لا بعبادة أسلافهم العجل أربعين يوما بل بكفرهم وظلمهم وجحودهم وعنادهم. ويبين تعالى الحقيقة لرسوله والمؤمنين وهي أن هذه الدعوى اليهودية ما هي إلا فرية افتراها علماؤهم ليهونوا عليهم ارتكاب الجرائم وغشيان عظائم الذنوب، كما حصل للمسلمين في القرون المظلمة من تاريخ الإسلام حيث أصبح مشايخ التصوف يدجلون على المريدين بأنهم سيستغفرون لهم ويغفر لهم. ثم قال تعالى مستعظما حالهم مهولا موقفهم: فكيف أي حالهم. إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم القيامة كيف تكون حالهم أنها حال يعجز الوصف عنها، { ووفيت كل نفس ما كسبت } من خير أو شر وهم لا يظلمون بنقص حسناتهم إن كانت لهم حسنات، ولا بالزيادة في سيئآتهم وما لهم إلا السيئات.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من الإعراض عن الدين والكفر به رفض التحاكم إليه قال تعالى:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
[ النساء: 65].
2- أفسد شيء للأديان بعقائدها وشرائعها وعباداتها الافتراء فيها والإبتداع عليها والقول فيها بغير علم.
3- مضرة الإغترار بما يقوله بعض المفسرين والمحشين على الكتب الدينية من الحكايات والأباطيل بحجة الترغيب أو الترهيب فيغتر بها الناس فيضلوا ويهلكوا.
4- فضيلة ذكر أهوال يوم القيامة وما يلاقي فيها أهل الظلم والشر والفساد وفي القرآن
إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار
[ص: 46].
[3.26-27]
شرح الكلمات:
اللهم: يا الله حذف حرف النداء " يا " وعوض عنه الميم المشددة وهو خاص بنداء الله تعالى.
مالك: المالك: الحاكم المتصرف يفعل في الملك ما يشاء ويحكم ما يريد لعظم سلطانه وقوة إرادته.
الملك: المملوك: والمقصود به ما سوى المالك عز وجل، من سائر الكائنات.
تؤتي الملك: السلطان والتصرف في بعض الملكوت.
تولج الليل في النهار: تدخل الليل في النهار فلا يبقى ليل، وتولج النهار في الليل فلا يبقى نهار.
تخرج الحي من الميت: أي تخرج جسما حيا من جسم ميت في المحسوسات كالدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، ومن المعنويات تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
بغير حساب: بغير عدد ولا حد لواسع فضله وغناه عما سواه.
معنى الآيتين:
من المناسبات التي قيلت في نزول هاتين الآيتين: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر أصحابه أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا في أحايث صحاح سخر اليهود والمنافقون من إخبار الرسول بذلك مستبعدين له غاية البعد لجهلهم وكفرهم فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين ضمن الرد على نصارى نجران فأمره أن يقول: { اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشآء.. } الخ.. أمره أن يقول ذلك ليعطيه ما وعده به من إتساع ملك أمته حتى يشمل ملك فارس والروم، وليرد على ضلال النصارى في تأليه عيسى عليه السلام، إذ المعبود بحق المستحق للعبادة والتأليه دون سواه من هو مالك الملك كله، ويتصرف فيه وحده يؤتي منه ما يشاء لمن يشاء، ينزع ممن أعطاهم ما شاء ومتى شاء لا يحول دون تصرفه حائل، ولا يقف دون إعطائه أو نزعه واقف. يعز الذليل متى شاء ويذل العزيز متى شاء. بيده الخير لا بيد غيره يفيضه على من يشاء، ويمنعه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير. يولج النهار في الليل فلا يبقى نهار، ويولج الليل في النهار فلا يبقى ليل، مظهر من مظاهر القدرة الموجبة لألوهيته وطاعته ومحبته، ويدخل ساعات من الليل في النهار فيقصر الليل ويطول النهار، ويدخل ساعات من النهار في الليل فيطول، مظهر من مظاهر الحكمة والقدرة والرحمة، يخرج الحي من الميت الإنسان من النطفة والنبتة من الحبة ويخرج الميت من الحي النطفة من الإنسان الحي، والبيضة من الدجاجة، والكافر الميت من المؤمن الحي، والعكس كذلك، هذه مظاهر ربوبيته المستلزمة لألوهيته فتقرر أنه الإله الحق، لا رب غيره ولا إله سواه، وبذلك تأكد أمران: الأول: أن الله قادر على إعطاء رسوله ما وعده لأمته، وقد فعل، والثاني: أن عيسى لم يكن إلا عبدا مربوبا لله بالعبودية وشرفه بالرسالة وأيده بالمعجزات.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- فضل الدعاء بهاتين الآيتين بأن يقرأهما العبد ثم يقول: (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها تعطي منهما من تشاء، وتمنع من تشاء اقض عني ديني)، فإنه يقضى بإذن الله تعالى ويعطى إن سأل حاجة له من حوائج الدنيا والآخرة.
2- استجابة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنجازه ما وعده في أمته.
3- بطلان ألوهية عيسى عليه السلام وثبوت عبوديته ورسالته وكرامته.
[3.28-30]
شرح الكلمات:
لا يتخذ: لا يجعل.
أولياء: جمع ولي يتولونهم بالنصر والمحبة والتأييد.
فليس من الله في شيء: أي بريء الله تعالى منه، ومن برىء الله منه هلك.
تقاة: وقاية باللسان وهي الكلمة الملينة للجانب، المبعدة للبغضاء.
محضرا: حاضرا يوم القيامة.
أمدا بعيدا: مدى وغاية بعيدة.
ويحذركم الله نفسه: أي يخوفكم عقابه إن عصيتموه.
معنى الآيات:
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين أي أعوانا وأنصارا يبادلونهم المحبة والمناصرة على إخوانهم المؤمنين، وأعلمهم تعالى أن من يفعل ذلك فقد برىء الله تعالى منه وذلك لكفره وردته حيث والى أعداء الله وعادى أولياءه، فقال تعالى { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي برىء الله تعالى منه وانقطعت صلته وانبت حبل الولاية بينه وبين الله تعالى، ويا هلاكه ثم رخص تعالى للمؤمنين المستضعفين الذين يعيشون تحت سلطان الكافرين في أن يعطوهم حلاوة لسانهم دون قلوبهم وأعمالهم فيتقون بذلك شرهم وأذاهم، وذلك بكلمة المصانعة والمجاملة قال تعالى: { إلا أن تتقوا منهم تقة... } ولما كان أمر البراء والولاء ذا خطر عظيم قال تعالى: { ويحذركم الله نفسه } أي في أن تتخذوا أعداءه أولياء ضد أوليائه وأخبرهم أن المصير إليه لا إلى غيره فليحذر العصاة من وقوفهم بين يدي الله فقال: { وإلى الله المصير }.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [28] وأما الآية الثانية [29] فقد أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس مؤمنهم وكافرهم {.. إن تخفوا ما في صدوركم.. } من حب أو بغض، من رضى أو سخط فلا تنطقوا به ولا تظهروه بحال من الأحوال، أو أن تظهروه بقول أو عمل أو حال فإنه تعالى يعلمه ويعلم ما في السماوات وما في الأرض، ويحاسب به ويجزي عليه وهو على كل شيء قدير. ألا فليراقب الله العاقل وليتقه، فلا يقدم على معاصيه، وخاصة موالاة أعدائه على أوليائه. وأما الآية الثالثة [30] { يوم تجد كل نفس.. } ففيها يذكر تعالى عباده بيوم القيامة ليقصروا عن الشر ويرعووا من الظلم والفساد فيقول أذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا أي حاضرا تجزى به، وما عملت من سوء وشر حاضرا أيضا ويسوءها مرآه فتود بكل قلبها لو أن بينها وبينه غاية من المسافة لا تدرك وينهي تعالى تذكيره وإرشاده سبحانه وتعالى قوله { ويحذركم الله نفسه } مؤكدا التحذير الأول به، ويختم الآية بقوله والله رؤوف بالعباد، ونعم ما ختم به إذ لولاه لطارت قلوب العالمين فزعا وخوفا فذو الرأفة بعباده لا يوأس من رحمته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة موالاة الكافرين مطلقا.
2- مولاة الكافرين على المؤمنين ردة وكفر وبراءة من الله تعالى.
3- جواز التقية في حال ضعف المؤمنين وقوة الكافرين.
4- وجوب الحذر من عذاب الله تعالى وذلك بطاعته تعالى.
5- خطورة الموقف يوم القيامة ووجوب الاستعداد له بالإيمان والتقوى.
[3.31-32]
شرح الكلمات:
تحبون الله: لكمال ذاته وإنعامه عليكم.
يحببكم الله: لطاعتكم إياه وطهارة أرواحكم بتقواه.
يغفر لكم ذنوبكم: يسترها عليكم ولا يؤاخذكم بها.
فإن تولوا: أعرضوا عن الإيمان والطاعة.
معنى الآيتين:
لما ادعى وفد نصارى نجران أن تعظيمهم المسيح وتقديسهم له ولأمه إنما هو من باب طلب حب الله تعالى بحب ما يحب وتعظيم ما يعظم أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يقول لهم: إن كنتم تحبون الله تعالى ليحبكم فاتبعوني على ما جئت به من التوحيد والعبادة يحببكم الله تعالى، ويغفر لكم ذنوبكم أيضا وهو الغفور الرحيم. وبهذا أبطل دعواهم في أنهم ما ألهوا المسيح عليه السلام الا طلبا لحب الله تعالى والحصول عليه. وأرشدهم إلى أمثل طريق للحصول على حب الله تعالى وهو متابعة الرسول على ما جاء به من الإيمان والتوحيد والعبادة المزكية للروح المورثة لحب الله تعالى وهذا ما تضمنته الآية الأولى [31]. وأما الآية الثانية [32] فقد أمر تعالى رسوله أن يأمر وفد نصارى نجران وغيرهم من أهل الكتاب والمشركين بطاعته وطاعة رسوله إذ هما طريق الكمال والإسعاد في الدنيا والآخرة. فإن أبوا وأعرضوا أو تولوا فقد باءوا بغضب الله وسخطه عليهم لأنهم كافرون والله لا يحب الكافرين هذا معنى قوله تعالى { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين }.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- محبة العبد للرب تعالى واجب وإيمان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
" أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من النعم وأحبوني بحب الله تعالى "
وقوله صلى الله عليه وسلم
" لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ".
2- محبة الله تعالى للعبد هي غاية ما يسعى إليه أولوا العلم في الحياة.
3- طريق الحصول على محبة الله تعالى للعبد هو اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان بما جاء به واتباع شرعه وطاعته في المنشط والمكره، للآية { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } إذ ليس الشأن أن يحب العبد، وإنما الشأن أن يحب!
4- دعوى محبة الله ورسوله مع مخالفة أمرهما ونهيهما دعوى باطلة وصاحبها خاسر لا محالة.
[3.33-37]
شرح الكلمات:
اصطفى آدم: اختار، وآدم هو أبو البشر عليه السلام.
آل إبراهيم: آل الرجل أهله وأتباعه على دينه الحق.
عمران: رجل صالح من صلحاء بني إسرائيل في عهدهم الأخير هو زوج حنة وأبو مريم عليهم السلام.
العالمين: هم الناس المعاصرون لهم.
إمرأة عمران: حنة.
نذرت لك ما في بطني: ألزمت نفسها أن تجعله لله يعبده ويخدم بيته الذي هو بيت المقدس.
محررا: خالصا لا شركة فيه لأحد غير الله بحيث لا تنتفع به أبدا.
مريم: خادمة الرب تعالى.
أعيذها بك: أحصنها وأحفظها بجنابك من الشيطان.
وكفلها زكريا: زكريا أبو يحيى عليهما السلام وكانت امرأته أختا لحنة.
المحراب: مقصورة ملاصقة للمسجد.
أنى لك هذا؟: من أين لك هذا، أي من أين جاءك.
معنى الآيات:
لما ادعى نصارى وفد نجران ما ادعوه في المسيح عليه السلام من تأليهه وتأليه أمه أنزل الله تعالى هذه الآيات يبين فيها مبدأ أمر عيسى وأمه وحقيقة أمرهما فأخبر تعالى أنه اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران اصطفاهم لدينه واختارهم لعبادته ففضلهم بذلك على الناس وأخبر أنهم ذرية بعضهم من بعض لم تختلف عقائدهم، ولم تتباين فضائلهم وكمالاتهم الروحية وذلك لحفظ الله تعالى لهم وعنايته بهم. وأخبر تعالى أنه سميع عليم أي سميع لقول إمرأة عمران عليم بحالها لما قالت: {.. رب إني نذرت لك ما في بطني محررا.. } ، وذلك أنها كانت لا تلد فرأت في حديقة منزلها طائرا يطعم أفراخه فحنت إلى الولد وسألت ربها أن يرزقها ولدا وتجعله له يعبده ويخدم بيته فاستجاب الله تعالى لها فحملت ومات زوجها وهي حبلى وقالت ما قص الله تعالى عنها في قولها: { إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } وحان وقت الولاد فولدت ولكن أنثى لا ذكرا فتحسرت لذلك، وقالت: { رب إني وضعتهآ أنثى والله أعلم بما وضعت } وكيف لا يعلم وهو الخلاق العليم. وقالت: {.. وليس الذكر كالأنثى.. } في باب الخدمة في بيت المقدس فلذا هي آسفة جدا، وأسمت مولودتها مريم أي خادمة الله، وسألت ربها أن يحفظها وذريتها من الشيطان الرجيم واستجاب الله تعالى لها فحفظها وحفظ ولدها عيسى عليه السلام فلم يقربه شيطان قط. وتقبل الله تعالى ما نذرته له وهو مريم فأنبتها نباتا حسنا فكانت تنموا نماء عجيبا على خلاف المواليد، وكفلها زكريا فتربت في بيت خالتها وذلك أن حنة لما وضعتها أرضعتها ولفتها في قماطها وبعثت بها إلى صلحاء بني إسرائيل يسندونها إلى من يرون تربيتها في بيته، لأن أمها نذرتها لله تعالى فلا يصح منها أن تبقيها في بيتها ووالدها مات أيضا، فأحب كل واحد أن يكفلها فكفلها زكريا وأصبحت في بيت خالتها بتدبير الله تعالى لها، ولما كبرت أدخلها المحراب لتتعبد فيه، وكان يأتيها بطعامها، فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف فيعجب لذلك ويسألها قائلا: { يمريم أنى لك هذا }؟ فتجيبه قائلة { هو من عند الله } وتعلل لذلك فتقول: { إن الله يرزق من يشآء بغير حساب }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إفضال الله تعالى وإنعامه على من يشاء.
2- بيان أن عيسى عليه السلام ليس بابن الله ولا هو الله، ولا ثالث ثلاثة بل هو عبد الله ورسوله أمه مريم، وجدته حنة، وجده عمران من بيت شرف وصلاح في بني إسرائيل.
3- استجابة الله تعالى لدعاء أوليائه كما استجاب لحنة ورزقها الولد وأعاذ بنتها وولدها من الشيطان الرجيم.
4- مشروعية النذر لله تعالى وهو التزام المؤمن الطاعة تقربا إلى الله تعالى.
5- بيان فضل الذكر على الأنثى في باب النهوض بالأعمال والواجبات.
6- جواز التحسر والتأسف لما يفوت العبد من الخير الذي كان يأمله.
7- ثبوت كرامات الأولياء كما تم لمريم في محرابها.
8- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذه القصص لا يتأتى لأمي أن يقصه إلا أن يكون رسولا يوحى إليه. ولهذا ختمه بقوله
ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك
[آل عمران: 44].
[3.38-41]
شرح الكلمات:
هنالك: ثم عندما رأى كرامة الله لمريم عليها السلام.
زكريا: أحد أنبياء بني إسرائيل ورسلهم.
هب لي: أعطني.
من لدنك: من عندك.
ذرية طيبة: أولادا أطهارا صالحين.
بكلمة من الله: هي عيسى عليه السلام، لأنه كان بكلمة الله تعالى " كن ".
وسيدا وحصورا: شريفا ذا علم وحلم، ولا رغبة له في النساء لقلة مائه.
غلام: ولد ذكر.
عاقر: عقيم لا تلد لعقمها وعقرها.
آية: علامة استدل بها على بداية الحمل لأشكر نعمتك.
إلا رمزا: إلا إشارة بالرأس أو باليد يفهم منها ما يفهم من الكلام.
الإبكار: أول النهار، والعشي آخره.
معنى الآيات:
لما شاهد زكريا من كرامات الله لمريم أنها تؤتى بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ذكر أن الله تعالى قد يعطي ما شاء لمن يشاء على غير نظام السنن الكونية فكبر سنه وعقم امرأته لا يمنعان أن يعطيه الله تعالى ولدا، فسأل ربه الولد فاستجاب له ربه فبشرته الملائكة بالولد وهو قائم يصلي في محرابه قائلة إن الله يبشرك بولد اسمه يحيى مصدقا بكلمة من الله يريد أن يصدق بعيسى بن مريم ويكون على نهجه، لأن عيسى هو الكلمة إذ كان بقول الله تعالى له " كن " فكان، ووصفه بأنه سيد ذو علم وحلم وتقى وحصور لا يأتي النساء، ونبي من الصالحين. فلما سمع البشارة من الملائكة جاءه الشيطان وقال له: إن الذي سمعته من البشرى هو من الشيطان ولو كان من الرحمن لأوحاه إليك وحيا، وهنا أراد زكريا أن يتثبت من الخبر فقال: { رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر }؟ فأوحى إليه: أن هذا فعل الله والله يفعل ما يشاء. وهنا قال زكريا رب اجعل لي آية يريد علامة يستدل بها على وجود الحمل ليستقبل النعمة بالشكر فأجابه ربه قائلا: { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام } يريد أنك تصبح وأنت عاجز عن الكلام لمدة ثلاثة أيام، فلا تقدر أن تخاطب أحدا إلا بالإشارة وهي الرمز فيفهم عنك، وأمره تعالى أن يقابل هذا الإنعام بالشكر التام فقال له { واذكر ربك كثيرا وسبح } يريد صل بالعشي آخر النهار والإبكار أوله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الاعتبار بالغير، إذ زكريا دعا بالولد لما رأى كرامة الله تعالى لمريم.
2- مشروعية الدعاء وكونه سرا أقرب إلى الإجابة، وكونه في الصلاة كذلك.
3- جواز تلبيس إبليس على المؤمن، ولكن الله تعالى يذهب كيده ووسوسته.
4- جواز سؤال الولد الصالح.
5- كرامات الله تعالى لأوليائه - باستجابة دعاءهم.
6- فضل الإكثار من الذكر، وفضيلة صلاتي الصبح والعصر وفي الحديث:
" من صلى البردين دخل الجنة ".
[3.42-44]
شرح الكلمات:
وإذ قالت الملائكة: أذكر لوفد نصارى نجران ما قالت الملائكة فإن ذلك دليل على صحة نبوتك، وصدقك في أمر التوحيد، وعدم ألوهية عيسى.
اصطفاك: اختارك لعبادته وحسن طاعته.
وطهرك: من الذنوب وسائر النقائص المخلة بالولاية لله تعالى.
واصطفاك على نساء العالمين: أي فضلك على نساء العالمين بما أهلك له من كرامة ولادة عيسى من غير أب.
اقنتي: أطيعي ربك واقنتي له واخشعي.
واركعي مع الراكعين: اشهدي صلاة الجماعة في بيت المقدس.
ذلك من أنباء الغيب: أي ما ذكرت من قصة مريم وزكريا من أخبار الغيب.
لديهم: عندهم وبينهم.
إذ يلقون أقلامهم: جمع قلم وهو ما يكتب به وإلقاؤها لأجل الإقتراع بها على كفالة مريم.
يختصمون: في شأن كفالة مريم عليها وعليهم السلام.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه اذكر لوفد نجران الذين يحاجونك في ألوهية المسيح إذ قالت الملائكة مخاطبة مريم أم المسيح بما أهلها الله تعالى له وأكرمها به من اصطفاء الله تعالى لها لتكون من صالحي عباده، وتطهيره إياها من سائر الذنوب والنقائص والعيوب مفضلا لها على نساء عالمها حيث برأها وأكرمها وأظهر آية قدرته فيها فولدت عيسى بكلمة الله وليس على سنته تعالى في تناسل البشر من ذكر وأنثى، وأمرها بمواصلة الطاعة والإخبات والخشوع لله تعالى فقال: { يمريم إن الله اصطفك وطهرك واصطفك على نسآء العلمين * يمريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } ، وخص الصلاة بالذكر لأهميتها وذكرها بأعظم أركانها وهو السجود والركوع وفي بيت المقدس مع الراكعين.
هذا معنى الآيتين الأولى [42] والثانية [43] أما الآية الثالثة [44] فقد خاطب الرب تبارك وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى ما سبق في هذا القصص المتعلق بآل عمران حنة ومريم وزكريا ويحيى ومريم أخيرا بأنه كله من أنباء الغيب وأخباره يوحيه تعالى إليه فهو بذلك نبيه ورسوله، وما جاء به من الدين هو الحق، وما عداه فهو باطل، وبذلك تقرر مبدأ التوحيد، وأنه لا إله إلا الله، وبطل باطل أهل الكتاب فلا عزير ابن الله، ولا المسيح بن الله، ولا هو إله مع الله، وإنما هو عبد الله ورسول الله. ثم تقريرا لمبدأ الوحي وتأكيدا له قال تعالى لرسوله أيضا، وما كنت لديهم أي عند علماء بني إسرائيل وصلحائهم وفي حضرتهم، وهم يقترعون على النذيرة " مريم " من يكفلها فرموا بأقلامهم في النهر فمن وقف قلمه في الماء كان كافلها بإذن الله فألقوا أقلامهم تلك الأقلام التي كانت تكتب الحق والهدى لا الباطل والضلال كما هي أغلب أقلام أرباب الصحف والمجلات اليوم فوقف قلم زكريا ففاز بكفالتها بإذن الله تعالى وقد تقدم قول الله تعالى فكفلها زكريا، بهذا قامت الحجة على أهل الكتاب وغيرهم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الدين الحق هو الإسلام.
وما عداه فباطل وضلال!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فلض مريم عليها السلام وأنها ولية صديقة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من كمل النساء ففي الصحيحح
" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية إمرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
2- أهل القرب من الله هم أهل طاعته القانتون له.
3- الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى.
4- ثبوت الوحي المحمدي وتقريره.
5- مشروعية الاقتراع عند الاختلاف وهذه وإن كانت في شرع من قبلنا إلا أنها مقررة في شرعنا والحمد الله.
[3.45-47]
شرح الكلمات:
يبشرك: يخبرك بخبر سار مفرح لك.
بكلمة منه: هو المسيح عليه السلام وسمي كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى { كن }.
المسيح: لقب عيسى عليه السلام ومن معانيه الصديق.
الوجيه: ذو الجاه والقدر والشرف بين الناس.
في المهد: المهد مضجع الصبي وهو رضيع.
وكهلا: الكهولة سن ما بين الشباب والشيخوخة.
ولم يمسسني بشر: تريد لم يقربها ذكر لا للوقاع ولا لغيره، وذلك لعقمها وبعدها عن الرجال الأجانب.
قضى أمرا: أراده وحكم بوجوده.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في حجاج وفد نصارى نجران إذ قال الله تعالى لرسوله واذكر لهم إذ قالت الملائكة يا مريم { إن الله يبشرك بكلمة منه } الآية، حيث أخبرتها الملائكة أي جبريل عليه السلام بأن الله تعالى يبشرها بولد يكون بكلمة الله تعالى اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وأنه ذو جاه وشرف في الدنيا وفي الآخرة ومن المقربين، وأنه يكلم الناس وهو في مهده وقت رضاعه، كما يكلمهم في شبابه وكهولته، وأنه من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله تعالى وحقوق عباده وافية غير منقوصة فردت مريم قائلة: { رب أنى يكون لي ولد } أي كيف يكون لي ولد ولم يغشني بشر بجماع وسنة الله في خلق الولد الغشيان فأجابها جبريل قائلا: الأمرهكذا سيخلق الله تعالى منك ولدا من غير أب، وهو سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء وإذا حكم بوجود شيء من غير ذوات الأسباب فإنما يقول له كن فهو يكون كما قضى الله تعالى وأراد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان شرف مريم وكرامتها على ربها إذ كلمها جبريل وبشرها بعد أن تمثل لها بشرا.
2- بيان شرف عيسى عليه السلام ووجاهته في الدنيا والآخرة وأنه من المقربين والصالحين.
3- تكلم عيسى في المهد آية من آيات الله تعالى حيث لم تجر العادة أن الرضيع يتكلم في زمان رضاعه.
4- جواز طلب الإستفسار عما يكون مخالفا للعادة لمعرفة سر ذلك أو علته أو حكمته.
[3.48-51]
شرح الكلمات:
الكتاب: الخط والكتابة.
الحكمة: العلم الصحيح والإصابة في الأمور وفهم أسرار التشريع الإلهي.
ورسولا : أي وابعثه رسولا.
آية: علامة دالة على رسالته وصدق نبوته.
أخلق لكم: أي أصور لكم، لا الخلق الذي هو الإنشاء والاختراع إذ ذاك لله تعالى.
كهيئة الطير: كصورة الطير.
الأكمه: الذي ولد أعمى.
الأبرص: ذو البرص وهو مرض عياء عجز عنه الطب القديم والحديث، والبرص بياض يصيب الجلد البشري.
تدخرون: تحبسونه وتخفونه عن أطفالكم من الطعام وغيره.
لما بين يدي: من قبلي.
إن الله ربي وربكم: إلهي وإلهكم فاعبدوه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان حقيقة عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله وليس بابن الله ولا بإله مع الله فأخبر تعالى أنه يخلقه بكلمة كن ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وقد فعل، وأنه يبعثه رسولا إلى بني إسرائيل وقد فعل فأخبرهم عيسى أنه قد جاءهم بآية من ربهم تدل على صدق رسالته وهذه الآية هي أنه يخلق لهم من الطين على صورة الطير وينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله، وأنه يبرىء الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله وفعلا كان يمسح على ذي العاهة المستعصاة كالبرص فيبرأ صاحبها فورا، وطلبوا منه أن يحي لهم سام بن نوح فأحياه بإذن الله، وأنه يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم، وما يدخرون فما يخطىء أبدا، ثم قال لهم: إن في ذلك المذكور لآية لكم دالة على صدقي إن كنتم مؤمنين فآمنوا بي ولا تكذبوني وقد جئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وفي ذلكم خير لكم ورحمة فآمنوا بي، فكذبوه فقال لهم: اتقوا الله وأطيعوني تنجوا وتسعدوا وأعلمهم أخيرا أن الله تعالى هو ربه وربهم وأن عليهم أن يعبدوه ليكملوا ويسعدوا وأن عبادة الله تعالى وحده وبما شرع هي الصراط المستقيم المفضي بالسالكين إلى الكمال والإسعاد في الحياتين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شرف الكتابة وفضلها.
2- فضل الحكمة وهي الفقه في أسرار الشرع والإصابة في الأمور.
3- الغيب لله، ويعلم أنبياءه منه ما يشاء.
4- ثبوت معجزات عيسى عليه السلام.
5- لا إله إلا الله، ومحمد رسول الله، وعيسى كلمة الله وروح منه ورسول إلى بني إسرائيل.
6- الأمر بالتقوى وطاعة الرسول لتوقف السعادة والكمال عليهما.
[3.52-58]
شرح الكلمات:
أحس منهم الكفر: علم منهم الكفر وبما جاء به، وهمهم بأذيته.
الحواريون: جمع حواري، والمراد بهم أصفياؤه وأصحابه.
مسلمون: منقادون لأمر الله ورسوله مطيعون.
الشاهدين: الذين يشهدون أن لا إله إلا الله، ويعبدونه بما يجب أن يعبد به.
مكروا: دبروا القتل للمسيح عليه السلام.
ومكر الله: دبر تعالى لإنجائه وخيبهم فيما عزموا عليه.
خير الماكرين: أحسن المدبرين لإنقاذ أوليائه وإهلاك أعدائه.
متوفيك: متمم لك ما كتبت لك من أيام بقائك مع قومك.
ورافعك إلي: إلى جواري في الملكوت الأعلى.
ومطهرك: منزهك ومبعدك من رجسهم وكفرهم.
ذلك نتلوه عليك: ذلك المذكور من أمر عيسى نقرؤه عليك من جملة آيات القرآن الحكيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحجاج مع وفد نصارى نجران فذكر تعالى من شأنه أنه لما علم عيسى بكفر قومه وهمهم بقتله غيلة استصرخ المؤمنين قائلا: { من أنصاري إلى الله } فأجابه الحواريون وهم أصفياؤه وأحباؤه قائلين: { نحن أنصار الله } آمنا بالله واشهد يا روح الله بأنا مسلمون { ربنآ آمنا بمآ أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشهدين } لك بالوحدانية ولرسلك بالرسالة. قال تعالى ونفذ اليهود مكرهم في محاصرتهم منزل عيسى ليأخذوه ويصلبوه، ومكر الله تعالى وهو خير الماكرين إذ قال لعبده ورسوله عيسى إني متوفيك أي قابضك ورافعك إلى جواري فقبضه تعالى فأخرجه من روزنة المنزل ورفعه إليه وألقى الشبه على رئيس شرطة المهاجمين فظنوه هو المسيح فقتلوه وصلبوه فسبحان المدبر الحكيم، وهكذا { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } وقوله له ومطهرك من الذين كفروا يريد منزهه من تهم اليهود الباطلة إذ قالوا ساحر وابن زنى، ومبعده من ساحة مجتمعهم الذي تعفن بكفرهم والخبث والشر والفساد وواعده بأنه سيجعل الذين اتبعوه فيما جاء به من الإيمان والإسلام والإحسان فوق الذين كفروا بذلك إلى يوم القيامة وقد أنجز الله تعالى وعده فأعز أهل الإسلام ونصرهم، وأذل اليهود والكفار وأخزاهم. كما واعده أيضا أن يرد الجميع إليه يوم القيامة ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه في الدنيا من الإيمان والكفر، والصلاح والفساد ويجزي كل فريق بما كسب من خير أو شر فقال: { ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا } في الدنيا بالقتل والسباء والذلة والمسكنة، وفي الآخرة بعذاب النار، وما لهم من ناصرين يخلصونهم من عذابنا، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجور إيمانهم وصالح أعمالهم في الدنيا نصرا وتمكينا وفي الآخرة جنات ونعيما، والله عز وجل لا يحب الظالمين فكيف يظلم عباده إذ جازاهم بأعمالهم؟ إنه لا يظلم أحدا من عباده مؤمنهم وكافرهم مثقال ذرة بل يجزي بعدله ويرحم بفضله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- قيام الحجة على نصارى نجران إذ أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي فقرر به بطلان ألوهية عيسى عليه السلام بذكر أوصافه وأحواله مع قومه، وكرامة الله تعالى له، ولأتباعه معه ومن بعده في الدنيا والآخرة.
2-الإسلام دين الأنبياء وسائر الأمم البشرية ولا دين حق غيره فكل دين غيره باطل.
3- تقرير حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لكل نبي حواريين وأنصارا.
4- فضل أهل لا إله إلا الله إذ هم الشاهدون بالحق والناطقون به.
5- تقرير قبض الله تعالى لعيسى ورفعه إليه حيا. ونزوله في آخر الدنيا ليحكم زمنا ثم يموت الموتة التي كتب الله على كل إنسان، فلم يجمع الله تعالى له بين موتتين. هذا دليل أنه رفع إلى السماء حيا لا ميتا.
6- صادق وعد الله تعالى بعزة أهل الإسلام، وذلة اليهود على مدى الحياة.
[3.59-63]
شرح الكلمات:
المثل: الصفة المستغربة البديعة.
الحق من ربك: أي ما قصصناه عليك في شأن عيسى هو الحق الثابت من ربك.
الممترين: الشاكين، إذ الامتراء: الشك.
حاجك: جادلك بالحجج.
نبتهل: نلتعن أي نلعن الكاذب منا.
القصص الحق: ما قصه الله تعالى هو القصص الحق الثابت الذي لا شك فيه.
المفسدون: الذين يعملون بمعاصي الله تعالى في الأرض من الشرك وكبائر الذنوب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عبودية عيسى ورسالته دون ربوبيته وألوهيته، فقد روي أن وفد نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما قالوا: كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله تعالى على رسوله: { إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن } فإذا هو كائن فأي داع لاتخاد عيسى إلها، ألكونه خلقه الله من غير أب فآدم كذلك خلق بدون أب ولا أم، وإنما كان بكلمة الله، فكذلك عيسى خلق بكلمة الله التي هي " كن " فكان، هذا هو الحق الثابت من الله تعالى في شأن عيسى عليه السلام فلا تكونن من الشاكين فيه، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يشك. ولما أكثروا عليه صلى الله عليه وسلم من التردد والمجادلة أرشده ربه تعالى إلى طريق التخلص منهم وهو المباهلة بأن يجتمعوا ويقول كل فريق: اللهم العن الكاذب منا، ومن كان كاذبا منهم يهلك على الفور فقال له ربه تعالى: { فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا.. } (هلموا) ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين وخرج في الغد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين إلا أن النصارى عرفوا الحق وخافوا إن لاعنوا هلكوا فهربوا من الملاعنة، ودعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأبوا ورضوا بالكفر إبقاء على زعامتهم ودنياهم ورضوا بالمصالحة فالتزموا بأداء الجزية للمسلمين والبقاء على دينهم الباطل، ثم قال تعالى { إن هذا لهو القصص الحق } بالذي قصصناه عليك في شأن عيسى عليه السلام، وإنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا هو تعالى، وإن الله لهو العزيز الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده، الحكيم في خلقه وتدبيره ثم توعد نصارى نجران وغيرهم من أهل الفساد في الأرض بأنه عليم بهم وسوف يحل نقمته بهم، وينزل لعنته عليهم وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ولاية الله تعالى لرسوله بإرشاده إلى الطريقة التي أنهى بها جدال النصارى الذي آلمه وأتعبه.
2- مشروعية المباهلة غير أنها تكون في الصالحين الذين يستجاب لهم.
3- تقرير ألوهية الله تعالى دون سواه وبطلان دعوى النصارى في تأليه عيسى عليه السلام.
4- تهديد الله تعالى لأهل الفساد في الأرض وهم الذين يعملون بالشرك والمعاصي.
[3.64-68]
شرح الكلمات:
أهل الكتاب: اليهود والنصارى لأن اليهود عندهم التوراة والنصارى عندهم الإنجيل.
إلى كلمة سواء: الكلمة السواء هي العادلة وهي أن نعبد الله وحده لا شريك له ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.
أربابا: الأرباب جمع رب وهو المألوه المطاع بغير طاعة الله تعالى.
فإن تولوا: أعرضوا عن التوحيد.
اشهدوا: اعلموا علم رؤية ومشاهدة بأنا مسلمون.
تحاجون: تجادلون بحجج باطلة.
يهوديا ولا نصرانيا: لم يكن إبراهيم على ملة اليهود، ولا على ملة النصارى.
كان حنيفا مسلما: مائلا عن الملل الباطلة إلى ملة الحق وهي الإسلام.
أولى الناس بإبراهيم: أحق بالنسبة إلى إبراهيم وموالاته الذين اتبعوه على التوحيد.
والله ولي المؤمنين: متولي أمرهم وناصرهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إبطال باطل أهل الكتابين إذ قال تعالى لرسوله قل لهم يا أهل الكتاب من يهود ونصارى تعالوا ارتفعوا من وهدة الباطل التي أنتم واقعون فيها الى كلمة سواء كلمة عدل نصف بيننا وهي أن نعبد الله وحده لا نشرك به سواه وأن لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فيفرض طاعته على غيره ويلزمه بالسجود تعظيما وتقديسا فإن أبوا عليك ذلك وتولوا عنه فقولوا أيها المؤمنون: اشهدوا أيها المتولون عن الحق بأنا مسلمون. وفي هذا تعريض بل تصريح بأن غيرهم ليسوا مسلمين.
هذا معنى الآية الأولى [64] أما الآية الثانية [65] فيأمر تعالى رسوله أيضا أن يقول للمتولين عن الحق يا أهل الكتاب لم تحاجون في شأن إبراهيم وتدعي كل طائفة منكم أن إبراهيم كان على دينها مع أن اليهودية ما كانت إلا بعد نزول التوراة ، والنصرانية ما كانت إلا بعد نزول الإنجيل، وإبراهيم كان قبل نزول الكتابين بمئات السنين، ما لكم تقولون بما لا يقبل ولا يعقل أفلا تعقلون؟ ثم وبخهم بما هم أهله قائلا لهم: اسمعوا يا هؤلاء أنتم جادلتم فيما لكم به علم في شأن دينكم وكتابكم فلم تجادلوا فيما ليس لكم به علم في شأن إبراهيم وملته الحنيفية التي قامت على مبدء التوحيد وإخلاص العبادة لله وحد، والله يعلم من شأن إبراهيم ودينه مالا تعلمون أنتم فليس من حقكم القول فيما لا تعلمونه. ثم أكذبهم بعد أن وبخهم فقال ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا موحدا مطيعا لربه مسلما له ولم يكن من المشركين. وبعد أن وبخ تعالى المجادلين لرسوله وكذبهم في دعواهم أن إبراهيم على دينهم قرر حقيقة كبرى ينبغي أن يعلموها ويقروا بها وهي أن أحق الناس بالنسبة إلى إبراهيم والانتماء إليه هم الذين اتبعوه على ملة التوحيد وعبادة الله تعالى بما شرع وهذا النبي الكريم العظيم محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه واتبعوا الهدى الذي جاء به، والله تعالى ولي المؤمنين، وعدو الكافرين المشركين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يصلح حال البشرية ولا يستقيم أمرها إلا إذا أخذت بمبدأ: الكلمة السواء وهي أن تعبد ربها وحده لا تشرك به سواه، وأن لا يعلو بعضها على بعض تحت أي قانون أو شعار.
2- حجية التاريخ وبيان الحاجة إليه، إذ رد الله تعالى على أهل الكتاب في دعواهم أن إبراهيم كان على دينهم بأن التوراة والإنجيل لم ينزلا إلا بعد وفاته فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا.
3- ذم من يجادل فيما لا علم له به، ولا شأن له فيه.
4- اليهودية كالنصرانية لم تكن دين الله تعالى، وإنما هما بدعتان لا غير.
5- المؤمنون بعضهم أولياء بعض وإن تناءت ديارهم وتباعدت أقطارهم والله ولي المؤمنين.
[3.69-71]
شرح الكلمات:
ودت طائفة: أحبت فرقة وهم الأحبار والرؤساء فيهم.
لو يضلونكم: أي تمنوا إيقاعكم في الضلال لتشقوا وتهلكوا مثلهم.
وما يشعرون: أي وما يدرون ولا يعلمون بأنهم بمحاولة إضلال المؤمنين إنما هم يضلون أنفسهم حيث يتوغلون في الشر فيضاعف لهم العذاب.
لبس الحق بالباطل: خلطه به كأنما كسا الباطل ثوب الحق وكسا الحق ثوب الباطل حتى لا يعرف فيؤخذ به، ويهتدى عليه.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عباده المؤمنين أن فرقة من أهل الكتاب تمنت لو توقعكم في الضلال لتهلكوا والغالب أن هذه الطائفة تكون في رؤسائهم من أحبار وقسس وإن كان أغلب اليهود والنصارى يودون إضلال المسلمين حسدا لهم على الحق الذي هم عليه، وأخبر تعالى أنهم بتمنيهم هلاك المسلمين إنما يهلكون أنفسهم وما يدرون ذلك ولا يعلمون به وقال عز وجل: { وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون }.
هذا معنى الآية [69] أما الآية [70] فقد نادى الرب تعالى أهل الكتاب ليوبخهم وينعي عليهم ضلالهم فقال: { يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } أي لم تجحدون الآيات التي بها نعت الرسول وصفته لله في التوراة والإنجيل والحال أنكم تشهدون أنها صفات الرسول ونعوته وأنها منطبقة عليه؟ أليس هذا قبحا منكم وشرا تعود عاقبته عليكم؟ وفي الآية [71] وبخهم أيضا على خلطهم الحق بالباطل حتى لا يعرف ويؤخذ به ويهتدى عليه فقال تعالى: { يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل } وشنع عليهم بكتمانهم الحق الذي هو نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم المبينة في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم فقال: { وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } أنه الحق من الله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم.
2- عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر.
3- قبح من يكتم الحق وهو يعرفه.
4- حرمة التدليس والتلبيس في كل شيء لا سيما في دين الله تعالى لإبعاد الناس عنه.
5- حرمة كتمان الحق في الشهادة وغيرها.
[3.72-74]
شرح الكلمات:
وجه النهار وآخره: أوله وهو الصباح وآخره وهو المساء.
ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم: أي لا تصدقوا إلا من كان على ملتكم.
الهدى هدى الله: البيان الحق والتوفيق الكامل بيان الله وهداه لا ما يخلط اليهود ويلبسون تضليلا للناس.
أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم: أن يعطى أحد نبوة ودينا وفضلا.
أو يحاجوكم عند ربكم: يخاصموكم يوم القيامة عند ربكم.
قل إن الفضل بيد الله: قل إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام بيد الله لا بيد غيره.
والله واسع عليم: ذو سعة بفضله، عليم بمن يستحق فضله فيمن عليه.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن كيد اليهود ومكرهم بالمسلمين فيقول: { وقالت طآئفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } وذلك أن كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف عليهما لعائن الله قالا لبعض إخوانهم صلوا مع المسلمين صلاة الصبح إلى الكعبة، وصلوا العصر الى الصخرة بيت المقدس فإن قيل لكم لم عدلتم عن الكعبة بعد ما صليتم إليها؟ قولوا لهم قد تبين لنا أن الحق هو استقبال الصخرة لا الكعبة. هذا معنى قوله تعالى فيهم { وقالت طآئفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } يعني في شأن القبلة، { وجه النهار } أي صباحا، { واكفروا آخره } أي واجحدوا به مساء، { لعلهم يرجعون } أي إلى استقبال الصخرة بدلا عن الكعبة، والغرض هو بلبلة أفكار المسلمين وإدخال الشك عليهم وقوله تعالى عنهم { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } يريد أنهم قالوا لبعضهم بعضا لا تصدقوا أحدا إلا من تبع دينكم من أهل ملتكم وهذا صرف من رؤسائهم لليهود عن الإسلام وقبوله، أي لا تصدقوا المسلمين فيما يقولون لكم، وهنا رد تعالى عليهم بقوله قل يا رسولنا إن الهدى هدى الله، لا ما يحتكره اليهود من الضلال ويزعمون أنه الحق والهدى وهو البدعة اليهودية وقوله تعالى: { أن يؤتى أحد مثل مآ أوتيتم أو يحآجوكم عند ربكم }. هو قول اليهود معطوف على قولهم: { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } أما قوله تعالى { قل إن الهدى... } فهو كلام معترض بين كلام اليهود الذي قدم تعجيلا للرد عليهم، ومعنى قولهم: { أن يؤتى أحد } الخ. أي كراهة أن يعترف من قبلكم بأن محمدا نبي حق وأن دينه حق فيتابعه اليهود والمشركون عليه فيسلمون، أو على الأقل يثبت المسلمون عليه، ونحن نريد زلزلتهم وتشكيكهم حتى يعودوا إلى دين آبائهم، أو يحاجوكم عند ربكم يوم القيامة وتكون لهم الحجة عليكم إن أنتم اعترفتم لهم اليوم بأن نبيهم حق ودينهم حق، فلذا واصلوا الإصرار أنه لا دين حق إلا اليهودية وأن ما عداها باطل.
وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم مبكتا لهم: { إن الفضل بيد الله } ، لا بيد اليهود { يؤتيه } أي الفضل الذي هو النبوة والهدى والتوفيق وما يتبع ذلك من خير الدنيا والأخرة، { من يشآء } من عباده ويحرمه من يشاء، وهو الواسع الفضل العليم بمن يستأهله ويحق له { يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسجيل المكر والخداع على اليهود وأنه صفة من صفاتهم اللازمة لهم إلى يوم القيامة.
2- الكشف عن التعصب اليهودي وأساليب التمويه والتضليل، والإعلام العالمي اليوم مظهر من مظاهر التضليل اليهودي.
3- سذاجة اليهود المتناهية في فهم مسائل الدين والاعتقاد توارثوها إلى اليوم، وإلا فأي مؤمن بالله واليوم الآخر يقول: لا تعترفوا للمسلمين بأنهم على حق حتى لا يحتجوا عليكم باعترافكم يوم القيامة؟.
إن الله تعالى يعلم أن اليهود يجحدون الإسلام وهو الحق ويكفرون به وهو الحق من ربهم وسيعذبهم في نار جهنم يخلدون فيها، فكونهم لا يصرحون للمسلمين بأنهم على حق وهم يعلمون أنهم على الحق في دنيهم ينجيهم هذا من عذاب الله على كفرهم بالإسلام؟ اللهم لا. فما معنى قولهم لا تعترفوا بالإسلام حتى لا يحتج عليكم المسلمون باعترافكم يوم القيامة؟؟ إنه الجهل والسذاجة في الفهم. وسبحان الله ماذا في الخلق من عجائب!!
[3.75-77]
شرح الكلمات:
إن تأمنه: ائتمنه على كذا وضعه عنده أمانة وأمنه عليه فلم يخفه.
قنطار: وزن معروف والمراد هنا أنه من ذهب بدليل الدينار.
إلا ما دمت عليه قائما: أي ملازما له تطالبه به ليل نهار.
الأميين: العرب المشركين.
سبيل: أي لا يؤاخذنا الله إن نحن أكلنا أموالهم لأنهم مشركون.
بلى: أي ليس الأمر كما يقول يهود من أنه ليس عليهم حرج ولا إثم في أكل أموال العرب المشركين بل عليهم الإثم والمؤاخذة.
لا خلاق لهم: أي لاحظ ولا نصيب لهم في خيرات الآخرة ونعيم الجنان.
لا يزكيهم: لا يطهرهم من ذنوبهم ولا يكفرها عنهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار أهل الكتاب وبيان نفسياتهم المريضة وصفاتهم الذميمة ففي هذه الآية [75] يخبر تعالى أن في اليهود من إن أمنته على أكبر مال أداه إليك وافيا كاملا، ومنهم من إذا أمنته على دينار فأقل خانك فيه وأنكره عليك فلا يؤديه إليك إلا بمقاضاتك له وملازمتك إياه.. فقال تعالى في خطاب رسوله: { ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما } ويعلل الرب تعالى سلوكهم هذا بأنهم يقولون { ليس علينا في الأميين سبيل } أي لا حرج علينا ولا إثم في أكل أموال العرب لأنهم مشركون فلا نؤاخذ بأكل أموالهم وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوة الباطلة فقال تعالى: { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } أي أنه كذب على الله ولكن يكذبون ليسوغوا كذبهم وخيانتهم.
وفي الآية الثانية [76] يقول تعتالى: { بلى } أي ليس الأمر كما يدعون بل عليهم الإثم والحرج والمؤاخذة، وإنما لا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة على من أوفى بعهد الله تعالى فآمن برسوله وبما جاء به، واتقى الشرك والمعاصي فهذا الذي يحبه الله فلا يعذبه لأنه عز وجل يحب المتقين. وأما الآية الأخيرة [77] فيتوعد الرب تعالى بأشد أنواع العقوبات أولئك الذين يعاهدون ويخونون ويحلفون ويكذبون من أجل حطام الدنيا ومتاعها القليل فيقول { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } أي لا حظ ولا نصيب لهم في نعيم الدار الآخرة ولا يكلمهم تشريفا لهم وإكراما، ولا يزكيهم بالثناء عليهم ولا بتطهيرهم من ذنوبهم، ولهم عذاب مؤلم في دار الشقاء وهو عذاب دائم مقيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- يجب أن لا يغتر باليهود ولا يوثق فيهم لما عرفوا به من الخيانة.
2- من كذب على الله أحرى به أن يكذب على الناس.
3- بيان اعتقاد اليهود في أن البشرية غير اليهود نجس وأن أموالهم وأعراضهم مباحة لليهود حلال لهم؛ لأنهم المؤمنون في نظرهم وغيرهم الكفار.
4- عظم ذنب من يخون عهده من أجل المال، وكذا من يحلف كاذبا لأجل المال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من حلف على يمين يستحق بها مالا وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ".
[3.78]
شرح الكلمات:
وإن منهم لفريقا: طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية.
يلوون ألسنتهم: يحرفون ألسنتهم بالكلام كأنهم يقرأون الكتاب.
وما هو من الكتاب: وليس هو من الكتاب.
ويقولون على الله الكذب: أي يكذبون على الله لأغراض مادية.
معنى الآية:
ما زال السياق في اليهود وبيان فضائحهم فأخبر تعالى أن طائفة منهم يلوون ألسنتهم بمعنى يحرفون نطقهم بالكلام تمويها على السامعين كأنهم يقرأون التوراة وما أنزل الله فيها، وليس هو من الكتاب المنزل في شيء بل هو الكذب البحت، ويقولون لكم إنه من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب لأجل الحفاظ على الحطام الخسيس والرئاسة الكاذبة.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- بيان مكر اليهود وتضليلهم للناس وخداعهم لهم باسم الدين والعلم.
2- جرأة اليهود على الكذب على الناس وعلى الله مع علمهم بأنهم يكذبون وهو قبح أشد وظلم أعظم.
3- التحذير للمسلم من سلوك اليهود في التضليل والقول على الله والرسول لأجل الأغراض الدنيوية الفاسدة.
[3.79-80]
شرح الكلمات:
ما كان لبشر: لم يكن من شأن الإنسان الذي يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة.
الكتاب والحكم والنبوة: الكتاب: وحي الله المكتوب والحكم: بمعنى الحكمة وهي الفقه في أسرار الشرع، والنبوة: ما يشرف الله تعالى به عبده من إنبائه بالغيب وتكليمه بالوحي.
ربانيين: جمع رباني: من ينسب إلى الرب لكثرة عبادته وغزارة علمه، أو إلى الربان وهو الذي يرب الناس فيصلح أمورهم ويقوم عليها.
أربابا: جمع رب بمعنى السيد المعبود.
أيأمركم بالكفر: الإستفهام للإنكار، والكفر هنا الردة عن الإسلام.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في الرد على أهل الكتاب وفي هذه الآية [79] الرد على وفد نصارى نجران خاصة وهم الذين يؤلهون المسيح عليه السلام. قال تعالى: ليس من شأن أي إنسان يعطيه الله الكتاب أي ينزل عليه كتابا ويعطيه الحكم فيه وهو الفهم والفقه في أسراره ويشرفه بالنبوة فيوحي إليه، ويجعله في زمرة أنبيائه، ثم هو يدعو الناس إلى عبادة نفسه فيقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله. إن هذا ما كان ولن يكون أبدا. ولا مما هو متصور الوقوع أيضا فما لكم أنتم يا معشر النصارى تعتقدون هذا في المسيح عليه السلام؟ إن من أوتي مثل هذا الكمال لا يقول للناس كونوا عبادا لي ولكن يقول لهم كونوا ربانيين تصلحون الناس وتهدونهم إلى ربهم ليكملوا بطاعته ويسعدوا عليها، وذلك بتعليمهم الكتاب وتدريسه ودراسته.
هذا معنى الآية [79] أما الآية [80] فإن الله تعالى يخبر عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا يأمر الناس بعبادة غير ربه تعالى سواء كان ذلك الغير ملكا مكرما أو نبيا مرسلا، وينكر على من نسبوا ذلك إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } فهذا لا يصح منه ولا يصدر عنه بحال.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لم يكن من الممكن لمن آتاه الله الكتاب والحكمة وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه فضلا عن عبادة غيره.
2- سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهدونهم.
3- عظماء الناس من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه.
4- السجود لغير الله تعالى كفر لما ورد أن الآية نزلت ردا على من أرادوا أن يسجدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }؟!
[3.81-83]
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
لما آتيتكم: مهما آتيتكم.
لتؤمنن: لتصدقن برسالته.
أأقررتم: الهمزة الأولى للإستفهام التقريري وأقررتم بمعنى اعترفتم.
إصري: عهدي وميثاقي.
فمن تولى: رجع عما اعترف به وأقر.
الفاسقون: الخارجون عن طاعة الله ورسوله.
أفغير دين الله يبغون: الاستفهام للإنكار، ويبغون بمعنى يطلبون.
وله أسلم: انقاد وخضع لمجاري أقدار الله وأحكامه عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الرد على نصارى نجران فيقول تعالى لرسوله أذكر لهم ما أخذ الله على النبيين وأممهم من ميثاق أنه مهما آتاهم من كتاب وحكمة ثم جاءهم رسول مصدق لما معهم من النور والهدى ليؤمنن به ولينصرنه على أعدائه ومناوئيه من أهل الكفر وأنه تعالى قررهم فأقروا واعترفوا ثم استشهدهم على ذلك فشهدوا وشهد تعالى فقال: { وأنا معكم من الشاهدين } ثم أكد تعالى ذلك مرة أخرى بأن من يعرض عن هذا الميثاق ولم يف به يعتبر فاسقا ويلقى جزاء الفاسقين فقال تعالى: { فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }.
وقد نقض هذا الميثاق كل من اليهود والنصارى، إذ لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وقد أخذ عليهم الميثاق بالإيمان به، وبنصره، فكفروا به، وخذلوه، فكانوا بذلك الفاسقين المستوجبين لعذاب الله.
ثم وبخ تعالى أهل الكتاب قائلا: { أفغير دين الله } - يريد الاسلام - { يبغون } أي يطلبون، ولله أسلم أي انقاد وخضع من في السماوات من الملائكة والأرض من سائر المخلوقات الأرضية طوعا أو كرها: طائعين أو مكرهين وفوق هذا أنكم ترجعون إليه فيحاسبكم، ويجزيكم بأعمالكم.
هذا ما تضمنته الآية الأخيرة [83] إذ قال تعالى { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموت والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضا.
2- كفر أهل الكتاب وفسقهم بنقضهم الميثاق وتوليهم عن الإسلام وإعراضهم عنه بعد كفرهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد أخذ عليهم الميثاق بأن يؤمنوا به ويتبعوه.
3- بيان عظم شأن العهود والمواثيق عند الله تعالى.
4- الإنكار على من يعرض عن دين الله الإسلام. مع أن الكون كله خاضع منقاد لأمر الله ومجاري أقداره مسلم له.
[3.84-85]
شرح الكلمات:
الأسباط: جمع سبط والسبط الحفيد، والمراد بالأسباط هنا أولاد يعقوب الإثنا عشر والأسباط في اليهود كالقبائل في العرب.
يبتغ: يطلب ويريد دينا غير الدين الإسلامي.
الخاسرين: الهالكين بالخلد في نار جهنم والذين خسروا كل شيء حتى أنفسهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب فبعد أن وبخهم تعالى بقوله في الآيات السابقة أفغير دين الله تبتغون يا معشر اليهود والنصارى؟ فإن قالوا: نعم فقل أنت يا رسولنا آمنا بالله وما أنزل علينا من وحي وشرع وآمنا بما أنزل على إبراهيم خليل الرحمن وما أنزل على ولديه إسماعيل وإسحاق، وما أنزل على يعقوب وأولاده الأسباط، وآمنا بما أوتي موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد من أنبيائه بل نؤمن بهم وبما جاءوا به فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما هي حالكم يا معشر اليهود والنصارى. ونحن لله تعالى مسلمون أي منقادون مطيعون لا نعبده بغير ما شرع ولا نعبد معه سواه. هذا معنى الآية الأولى [84]. أما الآية الثانية [85] فإن الله تعالى يقرر أن كل دين غير الإسلام باطل، وإن من يطلب دينا غير الإسلام لن يقبل منه بحال ويخسر في الآخرة خسرانا كبيرا فقال تعالى: { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وذلك هو الخسران المبين.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض، كما لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض ما أنزل الله تعالى على رسله ويكفر ببعض.
2- الإسلام: هو الإنقياد والخضوع لله تعالى وهو يتنافى مع التخيير بين رسل الله ووحيه إليهم.
3- بطلان سائر الأديان والملل سوى الدين الإسلامي وملة محمد صلى الله عليه وسلم.
[3.86-89]
شرح الكلمات:
كيف يهدي الله قوما: الإستفهام هنا للإستبعاد، والهداية الخروج من الضلال.
البينات: الحجج من معجزات الرسل وآيات القرآن المبينة للحق في المعتقد والعمل.
الظالمين: المتجاوزين الحد في الظلم المسرفين فيه حتى أصبح الظلم وصفا لازما لهم.
لعنة الله: طرد الله لهم من كل خير، ولعنة الملائكة والناس دعاؤهم عليهم بذلك.
ولا هم ينظرون: ولا هم يمهلون من أنظره إذا أمهله ولم يعجل بعذابه.
أصلحوا: أصلحوا ما أفسدوه من أنفسهم ومن غيرهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أهل الكتاب وإن تناولت غيرهم ممن ارتد عن الإسلام من بعض الأنصار ثم عاد إلى الإسلام فأسلم وحسن إسلامه ففي كل هؤلاء يقول تعالى: { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم } فقد كفر اليهود بعيسى عليه السلام، وشهدوا أن الرسول محمدا حق وجاءتهم الحجج والبراهين على صدق نبوته وصحة ما جاء به من الدين الحق، والله حسب سنته في خلقه لا يهدي من أسرف في الظلم وتجاوز الحد فيه فأصبح الظلم طبعا من طباعه فلهذا كانت هداية من هذه حاله مستبعدة للغاية، وإن لم تكن مستحيلة ثم أخبر تعالى عنهم متوعدا لهم فقال: { أولئك جزآؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } { خالدين فيها } أي في تلك اللعنة الموجبة لهم عذاب النار { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } أي ولا يمهلون ليعتذروا، أولا يخفف عنهم العذاب. ثم لما لم تكن توبتهم مستحيلة ولأن الله تعالى يحب توبة عباده ويقبلها منهم قال تعالى فاتحا باب رحمته لعباده مهما كانت ذنوبهم { إلا الذين تابوا من بعد ذلك } الكفر والظلم، { وأصلحوا } نفوسهم بالإيمان وصالح الأعمال { فإن الله غفور رحيم } فكان هذا كالوعد منه سبحانه وتعالى بأن يغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم بدخول الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التوغل في الشر والفساد أو الظلم والكفر قد يمنع العبد من التوبة. ولذا وجب على العبد إذا أذنب ذنبا أن يتوب منه فورا، ولا يواصله مصرا عليه خشية أن يحال بينه وبين التوبة.
2- التوبة مقبولة متى قامت على أسسها واستوفت شروطها ومن ذلك الإقلاع عن الذنب فورا، والندم على ارتكابه، والاستغفار والعزم على العودة إلى الذنب الذي تاب منه، وإصلاح ما أفسده مما يمكن إصلاحه.
[3.90-91]
شرح الكلمات:
الكفر: الجحود لله تعالى والتكذيب لرسوله وما جاء به من الدين والشرع.
بعد إيمانهم: أي ارتدوا عن الإسلام إلى الكفر.
الضالون: المخطئون طريق الهدى.
ملء الأرض: ما يملأها من الذهب.
ولو افتدى به: ولو قدمه فداء لنفسه من النار ما قبل منه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في أهل الكتاب وهو هنا في اليهود خاصة إذ أخبر تعالى عنهم أنهم كفروا بعد إيمانهم كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة. ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن فلن تقبل توبتهم إلا إذا تابوا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن لكنهم مصرون على الكفر بهما فكيف تقبل توبتهم إذا مع إصرارهم على الكفر، ولذا أخبر تعالى أنهم هم الضالون البالغون أبعد الحدود في الضلال ومن كانت هذه حاله فلا يتوب ولا تقبل توبته، ثم قرر مصيرهم بقوله عز وجل: { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا } يريد يوم القيامة مع أنه لا مال يومئذ ولكن من باب الفرض والتقدير لا غير. فلو أن لأحدهم ملء الأرض ذهبا وقبل منه فداء لنفسه من عذاب الله لافتدى، ولكن هيهات هيهات إنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولكن من جاء ربه بقلب سليم من الشرك والشك وسائر أمراض القلوب نجا من النار ودخل الجنة بإذن الله تعالى.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- سنة الله فيمن توغل في الكفر أو الظلم أو الفسق وبلغ حدا بعيدا أنه لا يتوب.
2- اليأس من نجاة من مات كافرا يوم القيامة.
3- لا فدية تقبل يوم القيامة من أحد ولا فداء لأحد فيه.
[3.92]
شرح الكلمات:
لن تنالوا: لن تحصلوا عليه وتظفروا به.
البر: كلمة جامعة لكل خير، والمراد به هنا ثوابه وهو الجنة.
تنفقوا: تتصدقوا.
مما تحبون: من المال الذي تحبونه لأنفسكم وهو أفضل أموالكم عندكم.
من شيء: يريد قل أو كثر.
فإن الله به عليم: لازمه أن يجزيكم به بحسب كثرته أو قلته.
معنى الآية الكريمة:
يخبر تعالى عباده المؤمنين الراغبين في بره تعالى وإفضاله بأن ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة بأنهم لن يظفروا بمطلوبهم من بر ربهم حتى ينفقوا من أطيب أموالهم وأنفسها عندهم وأحبها إليهم. ثم أخبرهم مطمئنا لهم على أنفاقهم أفضل أموالهم بأن ما ينفقونه من قليل أو كثير نفيس أو خسيس هو به عليم وسيجزيهم به، وبهذا حبب إليهم الإنفاق ورغبهم فيه فجاء أبو طلحة رضي الله عنه يقول يا رسول الله إن الله تعالى يقول: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، وإن من أحب أموالي إلي بيرحا (حديقة) فاجعلها حيث أراك الله يا رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم مال رابح أو رائج اجعلها في أقربائك فجعلها في أقربائه حسان بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- البر وهو فعل الخير يهدي إلى الجنة.
2- لن يبلغ العبد بر الله وما عنده من نعيم الآخرة حتى ينفق من أحب أمواله إليه.
3- لا يضيع المعروف عند الله تعالى قل أو كثر طالما أريد به وجهه تعالى.
[3.93-97]
شرح الكلمات:
الطعام: اسم لكل ما يطعم من أنواع المأكولات.
حل: الحل: الحلال، وسمي حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه.
بني إسرائيل: أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل المنحدرون من أبنائه الأثني عشر إلى يومنا هذا.
حرم: حظر ومنع.
التوراة: كتاب أنزل على موسى عليه السلام وهو من ذرية إسرائيل.
فاتلوها: اقرأوها على رؤوس الملأ لنتبين صحة دعواكم من بطلانها.
افترى الكذب: اختلقه وزوره وقاله.
ملة إبراهيم: دينه وهي عبادة الله تعالى بما شرع، ونبذ الشرك والبدع.
حنيفا: مائلا عن الشرك إلى التوحيد.
ببكة: مكة.
للعالمين: للناس أجمعين.
مقام إبراهيم: آية من الآيات وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء البيت فارتسمت قدماه وهو صخر فكان هذا آية.
من دخله: الحرم الذي حول البيت بحدوده المعروفة.
آمنا: لا يخاف على نفس ولا مال ولا عرض.
الحج: قصد البيت للطواف به وأداء بقية المناسك.
سبيلا: طريقا والمراد القدرة على السير إلى البيت والقيام بالمناسك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحجاج مع أهل الكتاب فقد قال يهود للنبي صلى الله عليه وسلم كيف تدعي أنك على دين إبراهيم، وتأكل ما هو محرم في دينه من لحوم الإبل وألبانها فرد الله تعالى على هذا الزعم الكاذب بقوله: كل الطعام كان حلا أي حلالا لبني إسرائيل وهم ذرية يعقوب الملقب بإسرائيل، ولم يكن هناك شيء محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إلا ما حرم إسرائيل " يعقوب " على نفسه خاصة وهو لحوم الإبل وألبانها لنذر نذره وهو أنه مرض مرضا آلمه فنذر لله تعالى إن شفاه ترك أحب الطعام والشراب إليه، وكانت لحوم الإبل وألبانها من أحب الأطعمة والأشربة إليه فتركها لله تعالى، هذا معنى قوله تعالى: { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } من قبل أن تنزل التوراة، إذ التوراة نزلت على موسى بعد إبراهيم ويعقوب بقرون عدة، فكيف تدعون أن إبراهيم كان لا يأكل لحوم الإبل ولا يشرب ألبانها فأتوا بالتوراة فاقرؤوها فسوف تجدون أن ما حرم الله تعالى على اليهود إنما كان لظلمهم واعتدائهم فحرم عليهم أنواعا من الأطعمة، وذلك بعد إبراهيم ويعقوب بقرون طويلة. قال تعالى في سورة النساء:
فبظلم من الذين هادوا
[الآية: 160] (اليهود)
حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم
[الآية: 160] وقال في سورة الأنعام:
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ
[الآية: 146].
ولما طولبوا بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا فقامت الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم. وقوله تعالى: فمن افترى على الله الكذب بعد قيام الحجة بأن الله تعالى لم يحرم على إبراهيم ولا على بني إسرائيل شيئا من الطعام والشراب إلا بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل على نفسه من لحمان الإبل وألبانها، فأولئك هم الظالمون بكذبهم على الله تعالى وعلى الناس.
ومن هنا أمر الله تعالى رسوله أن يقول: صدق الله فيما أخبر به رسوله ويخبره به وهو الحق من الله، إذا فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبدا من المشركين.
هذ ما تضمنته الآيات الثلاث: 93- 94- 95 وأما قوله تعالى: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين } فإنه متضمن الرد على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هي أول قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ وهي متأخرة الوجود فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس وأنه جعله مباركا يدوم بدوام الدنيا والبركة لا تفارقه فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى بها، كما جعله هدى للعالمين فالمؤمنون يأتون حجاجا وعمارا فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية وقوله تعالى فيه آيات بينات يريد: في المسجد الحرام دلائل واضحات منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقي أثر قدميه عليه مع أنه صخرة من الصخور ومنها زمزم والحجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ومنها الأمن التام لمن دخله فلا يخاف غير الله تعالى. قال تعالى: { ومن دخله كان آمنا } ثم هذا الأمن له والعرب يعيشون في جاهلية جهلاء وفوضى لا حد لها، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن كل من يدخله ليحجه أو يعتمره، وقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ، لما ذكر تعالى البيت الحرام وما فيه من بركات وهدايات وآيات ألزم عباده المؤمنين به وبرسوله بحجه ليحصل لهم الخير والبركة والهداية، ففرضه بصيغة ولله على الناس وهي أبلغ صيغ الإيجاب، واستثنى العاجزين عن حجه واعتماره بسبب مرض أو خوف أو قلة نفقة للركوب والإنفاق على النفس والأهل أيام السفر.
وقوله تعالى في آخر الآية: { ومن كفر فإن الله غني عن العلمين } فإنه خبر منه تعالى بأن من كفر بالله ورسوله وحج بيته بعد ما ذكر من الآيات والدلائل الواضحات فإنه لا يضر إلا نفسه أما الله تعالى فلا يضره شيء وكيف وهو القاهر فوق عباده والغني عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ثبوت النسخ في الشرائع الإلهية، إذ حرم الله تعالى على اليهود بعض ما كان حلا لهم.
2- إبطال دعوى اليهود أن إبراهيم كان محرما عليه لحوم الإبل وألبانها.
3- تقرير النبوة المحمدية بتحدي اليهود وعجزهم عن دفع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
4- البيت الحرام كان قبل بيت المقدس وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به.
5- مشروعية طلب البركة بزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد حوله.
6- وجوب الحج على الفور لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك.
7- الإشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه، ولا مانع يمنعه منه غير عدم المبالاة.
[3.98-99]
شرح الكلمات:
الكفر: الجحود.
آيات الله: ما أنزل تعالى من الحجج والبينات في القرآن المقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزله تعالى في التوراة والإنجيل من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته الموجبة للإيمان به واتباعه على دين الحق الذي جاء به وهو الإسلام.
شهيد على ما تعملون: عليم به مطلع عليه، وما يعملونه وهو الكفر والشر والفساد.
تصدون عن سبيل الله: تصرفون الناس ممن آمن منكم ومن العرب عن الإسلام الذي هو سبيل الله تعالى المفضي بأهله إلى سعادة الدارين.
تبغونها عوجا: تطلبون لها العوج حتى تخرجوا بها عن الحق والهدى فيضل سالكها وذلك بالتحريف والتضليل.
وأنتم شهداء: بعلمكم بأن الإسلام حق، وأن ما تبغونه له من الإضلال لأهله والتضليل هو كفر وباطل.
معنى الآيتين:
بعد أن دحض الله تعالى شبه أهل الكتاب وأبطلها في الآيات السابقة أمر تعالى رسوله أن يقول لهم موبخا مسجلا عليهم الكفر يا أهل الكتاب لم تكفرون بحجج الله تعالى وبراهينه المثبتة لنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الإسلام تلك الحجج والبراهين التي جاء بها القرآن والتوراة والإنجيل معا؟ والله جل جلاله مطلع على كفركم عليم به، أما تخافون عقابه أما تخشون عذابه؟.
كما أمر تعالى رسوله أيضا أن يقول لهم مؤنبا موبخا لهم على صرفهم المؤمنين عن الإسلام بأنواع الحيل والتضليل: يا أهل الكتاب أي يا أهل العلم الأول لم تصرفون المؤمنين عن الإسلام الذي هو سبيل الله بما تثيرونه بينهم من الشكوك والأوهام تطلبون للإسلام العوج لينصرف المؤمنون عنه، مع علمكم التام بصحة الإسلام وصدق نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أما تخافون الله، أما تخشونه تعالى وهو مطلع على سوء تدبيركم غير غافل عن مكركم وغشكم وخداعكم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- شدة قبح كفر وظلم من كان عالما من أهل الكتاب بالحق ثم كفره وجحده بغيا وحسدا.
2- حرمة صرف الناس عن الحق والمعروف بأنواع الحيل وضروب الكذب والخداع.
3- علم الله تعالى بكل أعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم بها فضلا منه وعدلا.
[3.100-103]
شرح الكلمات:
فريقا: طائفة من الحاقدين على الإسلام العاملين على الكيد له والمكر به وبأهله.
يردوكم: يرجعوكم إلى الكفر بعد إيمانكم.
وكيف تكفرون: الاستفهام للإنكار والتعجب من كفرهم بعد إيمانهم.
آيات الله: آيات القرآن الكريم.
يعتصم: يتمسك بشدة.
حق تقاته: باستفراغ الوسع في إمتثال أمره، واجتناب نهيه، وتقاته هي تقواه.
حبل الله: كتابه القرآن ودينه الإسلام، لأن الكتاب والدين هما الصلة التي تربط المسلم بربه، وكل ما يربط ويشد شيئا بآخر هو سبب وحبل.
ألف بين قلوبكم: جمعها على أخوة الإيمان ووحد بينها بعد الاختلاف والنفرة.
شفا حفرة: شفا الحفرة حافتها وطرفها بحيث لو غفل الواقف عليها وقع فيها.
أنقذكم منها: بهدايتكم إلى الإسلام وبذلك أنجاكم من النار.
معنى الآيات:
بعد أن وبخ تعالى اليهود على خداعهم ومكرهم وتضليلهم للمؤمنين وتوعدهم على ذلك، نادى المؤمنين محذرا إياهم من الوقوع في شباك المضللين من اليهود فقال: { يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } وذلك أن نفرا من الأوس والخزرج كانوا جالسين في مجلس يسودهم الود والتصافي ببركة الإسلام الذي هداهم الله تعالى إليه فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فآلمه ذلك التصافي والتحابب وأحزنه بعد أن كان اليهود يعيشون في منجاة من الخوف من جيرانهم الأوس والخزرج لما كان بينهم من الدمار والخراب فأمر شاس شابا أن يذكرهم بيوم بعاث فذكروه وتناشدوا الشعر فثارت الحمية القبلية بينهم فتسابوا وتشاتموا حتى هموا بالقتال فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرهم بالله تعالى وبمقامه بينهم فهدأوا، وذهب الشر ونزلت هذه الآيات: { يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } فحذرهم من مكر أهل المكر من اليهود والنصارى، وأنكر عليهم ما حدث منهم حاملا لهم على التعجب من حالهم لو كفروا بعد إيمانهم فقال عز وجل: وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله صباح مساء في الصلوات وغيرها، وفيكم رسوله هاديا ومبشرا ونذيرا وأرشدهم إلى الاعتصام بدين الله وبشر المعتصمين بالهداية إلى طريق السعادة والكمال فقال: ومن يعتصم بالله أي بكتابه وسنة نبيه فقد هدي إلى صراط مستقيم ثم كرر تعالى نداءه لهم بعنوان الإيمان تذكيرا لهم به وأمرهم بأن يبذلوا وسعهم في تقوى الله عز وجل وذلك بطاعته كامل الطاعة بامتثال أمره واجتناب نهيه حاضا لهم على الثبات على دين الله حتى يموتوا عليه فلا يبدلوا ولا يغيروا فقال: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وأمرهم بالتمسك بالإسلام عقيدة وشريعة ونهاهم عن التفرق والاختلاف وأرشدهم إلى ذكر نعمته تعالى عليهم بالألفة والمحبة التي كانت ثمرة هدايتهم للإيمان والإسلام، وبعد أن كانوا أعداء متناحرين مختلفين فألف بين قلوبهم فأصبحوا به إخوانا متحابين متعاونين، كما كانوا نعمة الهداية إلى الإيمان على شفا جهنم لو مات أحدهم يومئذ لوقع فيها خالدا أبدا، وكما أنعم عليهم وأنقذهم من النار ما زال يبين لهم الآيات الدالة على طريق الهداية الداعية إليه ليثبتهم على الهداية ويكملهم فيها فقال تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر شعر بذلك أم لم يشعر فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم.
2- العصمة في التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بهما لم يضل.
3- الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال وأخيرا من الهلاك والخسران.
4- وجوب التمسك بشدة بالدين الإسلامي وحرمة الفرقة والاختلاف فيه.
5- وجوب ذكر النعم لأجل شكر الله تعالى عليها بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
6- القيام على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم فمن مات على ذلك وقع في جهنم حتما بقضاء الله وحكمه.
[3.104-109]
شرح الكلمات:
الأمة: أفراد من البشر أو غيرهم تربطهم رابطة جنس أو لغة أو دين ويكون أمرهم واحدا والمراد بالأمة هنا المجاهدون وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخير: الإسلام وكل ما ينفع الإنسان في حياته الأولى والآخرة من الإيمان والعمل الصالح.
المعروف: المعروف كل ما عرفه الشرع فأمر به لنفعه وصلاحه للفرد أو الجماعة.
المنكر: ضد المعروف، وهو ما نهى عنه الشرع لضرر وإفساد، للفرد أو الجماعة.
الذين تفرقوا: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
يوم تبيض وجوه: هذا يوم القيامة.
ففي رحمة الله: رحمة الله هنا: الجنة جعلنا الله تعالى من أهلها، آمين.
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق: هذه آياتنا نقرأها عليك متلبسة بالحق، لا باطل أبدا.
وإلى الله ترجع الأمور: إلى الله تصير الأمور فيقضي فيها بما يشاء ويحكم ما يريد فضلا وعدلا.
معنى الآيات:
بعدما أمر الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بتقواه والتمسك بدينه ونهاهم عن الفرقة والاختلاف وحضهم على ذكر نعمه ليشكروها بطاعته أمرهم في هذه الآية [104] بأن يوجدوا من أنفسهم جماعة تدعو إلى الإسلام وذلك بعرضه على الأمم والشعوب ودعوتهم إلى الدخول فيه، كما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديار الإسلام وبين أهله فقال تعالى مخاطبا إياهم، ولتكن منكم أي يجب أن تكون منكم طائفة يدعون إلى الخير أي الإسلام ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبشرهم بأن الأمة التي تنهض بهذا الواجب هي الفائزة بسعادة الدنيا والآخرة فقال: فأولئك هم المفلحون الفائزون بالنجاة من العار والنار، وبدخول الجنة مع الأبرار.
وفي الآيات [105] [106] [107] نهاهم أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في التفرق في السياسة والاختلاف في الدين فيهلكوا هلاكهم فقال تعالى: مخاطبا إياهم: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جآءهم البينات } فلا ينبغي أن يكون العلم والمعرفة بشرائع الله سببا في الفرقة والخلاف، وهما أداة الواحدة والائتلاف، وأعلمهم بجزاء المختلفين من أهل الكتاب ليعتبروا فلا يختلفوا ولا يتفرقوا فقال تعالى: وأولئك لهم عذاب عظيم لا يقادر قدره ولا يعرف مداه، وأخبرهم عن موعد حلول هذا العذاب العظيم بهم وأنه يوم القيامة حينما تبيض وجوه المؤمنين المؤتلفين القائمين على الكتاب والسنة، وتسود وجوه الكافرين المختلفين القائمين على البدع والأهواء، فقال تعالى: { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وبين جزاء الفريقين فقال: فأما الذين اسودت وجوههم من سوء ما عاينوه من أهوال الموقف وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار فيقال لهم تقريعا وتوبيخا: أكفرتم بعد إيمانكم؟ إذ هذه وجوه من تلك حالهم، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون بالله وشرائعه.
وأما الذين ابيضت وجوههم فلم يطل في الهول موقفهم حتى يدخلوا جنة ربهم قال تعالى: { ففي رحمة الله هم فيها خالدون }.
وفي الآية [108] شرف الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بخطابه والوحي إليه فقال: { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق } أي هذه الآيات المتضمنة للهدى والخير نقرأها عليك بالحق الثابت الذي لا مرية فيه، ولا شك يعترية فبلغها عنا وادع بها إلينا فمن استجاب لك نجا ومن أعرض هلك، وما الله يريد ظلما للعالمين. فلا يعذب إلا بعد الإعلام والإنذار.
وفي الآية الأخيرة [109] يخبر تعالى أنه له ملك السماوات والأرض خلقا وتصرفا وتدبيرا، وأن مصير الأمور إليه وسيجزي المحسن بالحسنى والمسيء بالسوأى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب وجود طائفة من أمة الإسلام تدعو الأمم والشعوب إلى الإسلام وتعرضه عليهم وتقاتلهم إن قاتلوها عليه، ووجوب وجود هيآت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى المسلمين.
2- حرمة الفرقة بين المسلمين والاختلاف في دين الله.
3- أهل البدع والأهواء يعرفون في عرصات القيامة باسوداد وجوههم.
4- أهل السنة والجماعة وهم الذين يعيشون عقيدة وعبادة على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعرفون يوم العرض بابيضاض وجوههم.
5- كرامة الرسول على ربه وتقرير نبوته. وشرف من آمن به واتبع ما جاء به.
6- مرد الأمور إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة فيجب على عقلاء العباد أن يتخذوا لهم عند الله عهدا بالإيمان به وتوحيده في عبادته بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[3.110-112]
شرح الكلمات:
كنتم خير أمة: وجدتم أفضل وأبرك أمة وجدت على الأرض.
أخرجت للناس: أظهرت وأبرزت لهداية الناس ونفعهم.
أذى: الأذى الضرر اليسير.
يولوكم الأدبار: ينهزمون فيفرون من المعركة مولينكم أدبارهم أي ظهورهم.
ضربت عليهم الذلة: أحاطت بهم المذلة ولصقت بهم حتى لا تفارقهم.
وباءوا بغضب: رجعوا من رحلتهم الطويلة في الكفر وعمل الشر بغضب الله.
ذلك بأنهم.. الخ: ذلك: إشارة إلى ما لصق بهم من الذلة والمسكنة وما عادوا به من غضب الله تعالى وما تبعه من عذاب. (فالباء) في بأنهم سببيه أي بسبب فعلهم كذا وكذا والمسكنة هي ذلة الفاقة والفقر.
يعتدون: الاعتداء مجاوزة الحد في الظلم والشر والفساد.
معنى الآيات:
لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا ذكرهم بخير عظيم فقال لهم: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كنتم خير الناس للناس.. "
ووصفهم بما كانوا به خير أمة فقال تأمرون بالمعروف وهو الإسلام وشرائع الهدى التي جاء بها نبيه صلى الله عليه وسلم وتنهون عن المنكر وهو الكفر والشرك وكبائر الإثم والفواحش، وتؤمنون بالله. وبما يتضمنه الإيمان بالله من الإيمان بكل ما أمر تعالى بالإيمان به من الملائكة والكتب والرسل والبعث الآخر والقدر. ثم دعا تعالى أهل الكتاب إلى الإيمان الصحيح المنجي من عذاب الله فقال عز وجل، ولو آمن أهل الكتاب بالنبي محمد وما جاء به من الإسلام لكان خيرا لهم من دعوى الإيمان الكاذبة التي يدعونها. وأخبر تعالى عنه بأن منهم المؤمنين الصادقين في إيمانهم كعبد الله بن سلام وأخيه، وثعلبة بن سعيد وأخيه، وأكثرهم الفاسقون الذين لم يعملوا بما جاء في كتابهم من العقائد والشرائع من ذلك أمر الله تعالى بالإيمان بالنبي الأمي واتباعه على ما يجيء به من الإسلام ثم أخبر المسلمين أن فساق أهل الكتاب لن يضروهم إلا أذى يسيرا كإسماعهم الباطل وقولهم الكذب. وأنهم لو قاتلوهم ينهزمون أمامهم مولينهم ظهورهم فارين من القتال ثم لا ينصرون على المسلمين في أي قتال يقع بين الجانبين.
كما أخبر تعالى في الآية [112] أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي أي البلاد وجدوا لن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الأحوال إلا في حال دخولهم في الإسلام وهو حبل الله، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك هو حبل الناس. كما أخبر تعالى عنهم أنهم رجعوا من عنادهم وكفرهم بغضب من الله، وما يستتبعه من عذاب في الدنيا بحالة الفاقة والفقر المعبر عنها بالمسكنة، وفي الآخرة بعذاب جهنم كما ذكر تعالى علة عقوبتهم وأنها الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم المستمر واعتداؤهم الذي لا ينقطع فقال تعالى { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات خيرية أمة الإسلام وفي الحديث:
" أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ".
2- بيان علة خيرية أمة الإسلام وهي الإيمان بالله والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- وعد الله تعالى لأمة الإسلام - ما تمسكت به - بالنصر على اليهود في أي قتال يقع بينهم.
4- صدق القرآن في إخباره عن اليهود بلزوم الذلة والمسكنة لهم أينما كانوا.
5- بيان جرائم اليهود التي كانت سببا في ذلتهم ومسكنتهم وهي الكفر المستمر، وقتل الأنبياء بغير حق والعصيان والاعتداء على حدود الشرع.
[3.113-115]
شرح الكلمات:
ليسوا سواء: غير متساوين.
أمة قائمة: جماعة قائمة ثابتة على الإيمان والعمل الصالح.
يتلون آيات الله: يقرأون القرآن.
آناء الليل: ساعات الليل جمع إني وإني.
وهم يسجدون: يصلون
يسارعون في الخيرات: يبتدرونها خشية الفوات.
فلن يكفروه: فلن يجحدوه بل يعترف لهم به ويجزون به وافيا.
معنى اللآيات:
بعد أن ذكر تعالى حال أهل الكتاب وأنهم فريقان مؤمن صالح، وكافر فاسد، ذكر هنا في هذه الآيات الثلاث: [113، 114، 115] أن أهل الكتاب ليسوا سواء أي غير متساوين في الحال، وأثنى على أهل الصلاح منهم فقال جل ذكره { ليسوا سوآء من أهل الكتاب أمة قآئمة } أي على الإيمان الحق والدين الصحيح وهم الذين أسلموا. يتلون آيات الله يقرأونها في صلاتهم آناء الليل أي ساعات الليل في صلاة العشاء وقيام الليل وهم يسجدون وهذا ثناء عليهم بالسجود إذ هو أعظم مظاهر الخضوع لله تعالى كما أثنى تعالى عليهم بالإيمان الصادق والأمر بالمعروف وهو الدعوة إلى عبادة الله تعالى بعد الإيمان به، والإسلام الظاهر والباطن له. وينهون عن المنكر وهو الشرك بعبادة الله تعالى والكفر به وبرسوله فقال عز وجل: { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات } أي يبادرون إليها قبل فواتها والخيرات هي كل قول وعمل صالح من سائر القربات. وشهد تعالى لهم بالصلاح فقال: { وأولئك من الصالحين }.
وأخيرا في الآية الأخيرة [115] أن ما يفعلونه من الصالحات وما يأتونه من الخيرات لن يجحدوه بل يعترف لهم به ويجزون عليه أتم الجزاء، لأنهم متقون والله عليم بالمتقين فلن يضيع أجرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الثبات على الحق والقيام على الطاعات.
2- فضل تلاوة القرآن الكريم في صلاة الليل.
3- فضل الإيمان والدعوة إلى الإسلام.
4- فضل المسابقة في الخيرات والمبادرة إلى الصالحات.
5- فضيلة الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه، وفي الصحيحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم
" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران "
الحديث..
[3.116-117]
شرح الكلمات :
كفروا: كذبوا بالله ورسوله وشرعه ودينه.
لن تغني عنهم: لن تجزي عنهم يوم القيامة أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا، إذ لا مال يومئذ ينفع، ولا بنون.
مثل: أي صفة وحال ما ينفقونه لإبطال دعوة الإسلام، أو للتصدق به.
الصر: الريح الباردة الشديدة البرد التي تقتل الزرع وتفسده.
الحرث: ما تحرث له الأرض وهو الزرع.
ظلموا أنفسهم: حيث دنسوها بالشرك والمعاصي فعرضوها للهلاك والخسار.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى حال مؤمني أهل الكتاب وأثنى عليهم بما وهبهم من صفات الكمال ذكر هنا في هاتين الآيتين ما توعد به أهل الكفر من الكتابين وغيرهم من المشركين على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب ليهتدي من هيأه الله تعالى للهداية فقال: إن الذين كفروا أي كذبوا الله ورسوله فلم يؤمنوا ولم يوحدوا لن تغني عنه أموالهم ولا أولادهم أي في الدنيا والآخرة مما أراد الله تعالى بهم شيئا من الإغناء، لأن الله تعالى غالب على أمره عزيز ذو انتقام، وقوله تعالى: { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }. فيه بيان حكم الله تعالى فيهم وهو أن أولئك البعداء في الكفر والضلال المتوغلين في الشر والفساد هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها لا يفارقونها أبدا ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرون بها، ولا أولادهم الذين كانوا يعتزون بهم ويستنصرون، إذ يوم القيامة لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: سليم من الشك والشرك والكبر العجب والنفاق.
هذا ما تضمنته الآية: [116] أما الآية [117] فقد ضرب تعالى فيها مثلا لبطلان نفقات الكفار والمشركين وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والآخرة ضرب لها مثلا: ريحا باردة شديدة البرودة أصابت زرع أناس كاد يحصد وهم به فرحون وفيه مؤملون فأفسدته تلك الريح وقضت عليه نهائيا فلم ينتفعوا بشيء منه، قال تعالى في هذا المثل: مثل ما ينفقون - أي أولئك الكفار في هذه الحياة الدنيا أي مما يرونه نافعا لهم من بعض أنواع البر. كمثل ريح فيها صر أي برد شديد أصابت - أي تلك الريح الباردة حرث قوم أي زرعهم النابت فأهلكته أي أفسدته. فحرموا من حرثهم ما كانوا يؤملون، وما ظلمهم حيث أرسل عليهم الريح فأهلكت زرعهم، إذ لم يفعل الله تعالى هذا بهم إلا لأنهم ظلموا بالكفر والشرك والفساد فجزاهم الله بالحرمان وبذلك كانوا هم الظالمين لأنفسم. قال تعالى: { وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون }.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لن يغني عن المرء مال ولا ولد متى ظلم وتعرض لنقمة الله تعالى.
2- أهل الكفر هم أهل النار وخلودهم فيها محكوم به مقدر عليهم لا نجاة منه.
3- بطلان العمل الصالح بالشرك والموت على الكفر.
4- استحسان ضرب الأمثال في الكلام لتقريب المعاني إلى الأذهان.
[3.118-120]
شرح الكلمات:
بطانة: بطانة الرجل الذي يطلعهم على باطن أمره الذي يخفيه على الناس للمصلحة.
من دونكم: من غيركم أي من غير المسلمين كالكفار وأهل الكتاب.
لا يألونكم: لا يقصرون في إفساد الأمور عليكم.
خبالا: فسادا في أمور دينكم وديناكم.
ودوا ما عنتم: أحبوا عنتكم أي مشقتكم.
بدت البغضاء: ظهرت شدة بغضهم لكم.
أولاء: هؤلاء حذفت منه هاء التنبيه لوجودها في ها أنتم قبلها.
بالكتاب كله: أي بالكتب الإلهية كلها.
عضوا عليكم الانامل من الغيظ: من شدة الغيظ عليكم، لأن المغتاظ إذا اشتد به الغيظ يعض أصبعه على عادة البشر، والغيظ: شدة الغضب.
حسنة: ما يحسن من أنواع الخير كالنصر والتأييد والقوة والخير.
سيئة: ما يسوءكم كالهزيمة أو الموت أو المجاعة.
كيدهم: مكرهم بكم وتبييت الشر لكم.
بما يعملون محيط: علما وقدرة عليه، إذ هم واقعون تحت قهره وعظيم سلطانه.
معنى الآيات:
لما أخبر تعالى عن مصير الكافرين في الآخرة، وأن ذلك المصير المظلم كان نتيجة كفرهم وظلمهم حذر المؤمنين من موالاتهم دون المؤمنين وخاصة أولئك الذين يحملون في صدورهم الغيظ والبغضاء للمسلمين الذين لا يقصرون في العمل على إفساد أحوال المسلمين والذين يسوءهم أن يروا المسلمين متآلفين متحابين أقوياء ظاهرين منصورين على أهل الشرك والكفر، ويسرهم أيضا أن يروا المسلمين مختلفين أو ضعفاء منكسرين مغلوبين . فقال تعالى - وقوله الحق - { يأيها الذين آمنوا } أي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
{ لا تتخذوا بطانة } أي أفرادا من دونكم أي من غير أهل دينكم، كاليهود والنصارى والمنافقين والمشركين تستشيرونهم وتطلعونهم على أسراركم وبواطن أموركم. ووصفهم تعالى تعريفا. بهم فقال: { لا يألونكم خبالا } يعني لا يقصرون في إفساد أموركم الدينية والدنيوية.
{ ودوا ما عنتم } أي أحبوا عنتكم ومشقتكم، فلذا هم لا يشيرون عليكم إلا بما يفسد عليكم أموركم ويسبب لكم الكوارث والمصائب في حياتكم وقوله تعالى { قد بدت البغضآء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر } وصف آخر مشخص لهؤلاء الأعداء المحرم اتخاذهم بطانة، ألا وهو ظهور البغضاء من أفواههم بما تنطق به ألسنتهم من كلمات الكفر والعداء للإسلام وأهله، وما يخفونه من ذلك في صدورهم وهو أكبر مما يتفلت من ألسنتهم. ويؤكد عز وجل تحذيره للمؤمنين فيقول: { قد بينا لكم الآيات } المتضمنة لبيان أعدائكم وأحوالهم وصفاتهم لتعتبروا { إن كنتم تعقلون } أي الخطاب وما يتلى عليكم ويقال لكم. ثم يقول تعالى معلما محذرا ها أنتم أيها المسلمون تحبونهم ولا يحبونكم. قد علم الله أن من بين المؤمنين من يحب بعض الكافرين لعلاقة الإحسان الظاهرة بينهم فأخبر تعالى عن هؤلاء كما أن رحمة المؤمن وشفقته قد تتعدى حتى لأعدائه فلذا ذكر تعالى هذا وأخبر به وهو الحق، وقال: { وتؤمنون بالكتاب كله } أي وهم لا يؤمنون بكتابكم فانظروا إلى الفرق بينكم وبينهم فكيف إذا تتخذونهم بطانة تفضون إليهم بأسراركم.
وأخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا لقوا المؤمنين قالوا إنا مؤمنون وإذا انفردوا عنهم وخلوا بأنفسهم ذكروهم وتغيظوا عليهم حتى يعضوا أطراف أصابعهم من شدة الغيظ. فقال تعالى { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } وهنا أمر رسوله أن يدعوا عليهم بالهلاك فقال له: قل يا رسولنا لهم { موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور } فلذا أخبر عنهم كاشفا الغطاء عما تكنه نفوسهم ويخفونه في صدورهم.
هذا ما تضمنته الآيتان الأولى [118] والثانية [119] وأما الآية الثالثة [120] فقد تضمنت أيضا بيان صفة نفسية للكافرين المنهي عن اتخاذهم بطانة وهو استياؤهم وتألمهم لما يرونه من حسن حال المسلمين كإتلافهم واجتماع كلمتهم ونصرهم وعزتهم وقوتهم وسعة رزقهم، كما هو أيضا فرحهم وسرورهم بما قد يشاهدونه من خلاف بين المسلمين أو وقوع هزيمة لجيش من جيوشهم، أو تغير حال عليهم بما يضر ولا يسر وهذه نهاية العداوة وشدة البغضاء فهل مثل هؤلاء يتخذون أولياء؟ اللهم لا. فقال تعالى: { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها }. ولما وصف تعالى هؤلاء الكفرة بصفات مهيلة مخيفة قال لعبادة المؤمنين مبعدا الخوف عنهم: وإن تصبروا على ما يصيبكم وتتقوا الله تعالى في أمره ونهيه وفي سننه في خلقه لا يضركم كيدهم شيئا، لأن الله تعالى وليكم مطلع على تحركاتهم وسائر تصرفاتهم وسيحبطها كلها، دل على هذا المعنى قوله في الجملة التذيلية { إن الله بما يعملون محيط }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية، والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم لما في ذلك من الضرر الكبير.
2- بيان رحمة المؤمنين وفضلهم على الكافرين.
3- بيان نفسيات الكافرين وما يحملونه من إرادة الشر الفساد للمسلمين.
4- الوقاية من كيد الكفار ومكرهم تكمن في الصبر والتجلد وعدم إظهار الخوف للكافرين ثم تقوى الله تعالى بإقامة دينه ولزوم شرعه والتوكل عليه، والأخذ بسننه في القوة والنصر.
[3.121-123]
شرح الكلمات:
وإذ غدوت: أي واذكر إذ غدوت، والغدو: الذهاب أول النهار.
من أهلك: أهل الرجل زوجه وأولاده. ومن لابتدء الغاية إذ خرج صلى الله عليه وسلم صباح السبت من بيته إلى أحد حيث نزل المشركون به يوم الأربعاء.
تبوىء المؤمنين: تنزل المجاهدين الأماكن التي رأيتها صالحة للنزول فيها من ساحة المعركة.
همت: حدثت نفسها بالرجوع إلى المدينة وتوجهت إرادتها إلى ذلك.
طائفتان: هما بنو سلمة، وبنو حارثة من الأنصار.
تفشلا: تضعفا وتعودا إلى ديارهما تاركين الرسول ومن معه يخوضون المعركة وحدهم.
والله وليهما: متولي أمرهما وناصرهما ولذا عصمهما من ترك السير إلى المعركة.
ببدر: بدر اسم رجل وسمي المكان به لأنه كان له فيه ماء وهو الآن قرية تبعد عن المدينة النبوية بنحو من مائة وخمسين ميلا " كيلو متر ".
وأنتم أذلة: لقلة عددكم وعددكم وتفوق العدو عليكم.
معنى الآيات:
لما حذر الله تعالى المؤمنين من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق، وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئا ذكرهم بموقفين أحدهما لم يصبروا فيه ولم يتقوا فأصابتهم الهزيمة وهو غزوة أحد، والثاني صبروا فيه واتقوا فانتصروا وهزموا عدوهم وهو غزوة بدر، فقال تعالى: { وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال } أي اذكر يا رسولنا لهم غدوك صباحا من بيتك الى ساحة المعركة بأحد، تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال أي تنزلهم الأماكن الصالحة للقتال الملائمة لخوض المعركة، والله سميع لكل الأقوال التي دارت بينكم في شأن الخروج إلى العدو، أو عدمه وقتاله داخل المدينة عليم بنياتكم وأعمالكم ومن ذلك هم بني سلمة وبين حارثة بالرجوع من الطريق لولا أن الله سلم فعصمهما من الرجوع لأنه وليهما. هذا معنى قوله تعالى: { إذ همت طآئفتان منكم أن تفشلا } أي تجبنا وتحجما عن ملاقاة العدو، والله وليهما فعصمهما من ذنب الرجوع وترك الرسول صلى الله عليه وسلم يخوض المعركة بدون جناحيها وهما بنو حارثة وبنوا سلمة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فتوكلت الطائفتان على الله وواصلتا سيرهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمهما الله من شر ذنب وأقبحه. والحمد الله.
هذا موقف والمقصود منه التذكير بعدم الصبر وترك التقوى فيه حيث أصاب المؤمنين فيه شر هزيمة واستشهد من الأنصار سبعون ومن المهاجرين أربعة وشج رأس النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته واستشهد عمه حمزة رضي الله عنه.
والموقف الثاني هو غزوة بدر حيث صبر فيها المؤمنون واتقوا أسباب الهزيمة فنصرهم الله وأنجز لهم ما وعدهم لأنهم صبروا واتقوا، فقتلوا سبعين رجلا وأسروا سبعين وغنموا غنائم طائلة قال تعالى: { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } فاتقوا الله بالعمل بطاعته ، ومن ذلك ترك اتخاذ بطانة من أعدائكم لتكونوا بذلك شاكرين نعم الله عليكم فيزيدكم، فذكر تعالى في هذا الموقف النصر لأنه خير، فقال { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } ولم يقل في الموقف الأول ولقد هزمكم الله بأحد وأنتم أعزة، لأنه تعالى حيي كريم فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط وهم يذكرون هزيمتهم فيها ويعلمون أسبابها وهي عدم الطاعة وقلة الصبر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الصبر والتقوى وأنهما عدة الجهاد في الحياة.
2- استحسان التذكير بالنعم والنقم للعبرة والإتعاظ.
3- ولاية الله تعالى للعبد تقيه مصارع السوء، وتجنبه الأخطار.
4- تقوى الله تعالى بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه هي الشكر الواجب على العبد.
[3.124-127]
شرح الكلمات:
ألن يكفيكم: الاستفهام إنكاري أي ينكرعدم الكفاية. ومعنى يكفيكم يسد حاجتكم.
أن يمدكم: أي بالملائكة عونا لكم على قتال أعدائكم المتفوقين عليكم بالعدد والعتاد.
الملائكة: واحدهم ملاك وهم عباد الله مكرمون مخلقون من نور لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
بلى: حرف إجابة أي يكفيكم.
من فورهم هذا: أي من وجههم في وقتهم هذا.
مسومين: معلمين بعلامات تعرفونهم بها.
إلا بشرى لكم: البشرى: الخبر السار الذي يتهلل له الوجه بالبشر والطلاقة.
ولتطمئن به قلوبكم: اطمئنان القلوب سكونها وذهاب الخوف والقلق عنها.
ليقطع طرفا: الطرف الطائفة، يريد ليهلك من جيش العدو طائفة.
أو يكبتهم: أي يخزيهم ويذلهم.
فينقلبوا خائبين: يرجعوا إلى ديارهم خائبين لم يحرزوا النصر الذي أملوه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تذكير الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما تم لهم من النصر في موقف الصبر والتقوى في بدر فقال: { إذ تقول للمؤمنين } عندما بلغهم وهم حول المعركة أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين برجاله يقاتلون معهم فشق ذلك على أصحابك فقلت: { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالف من الملائكة منزلين } بلى: أي يكفيكم. { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا } أي من وجههم ووقتهم هذا { يمددكم ربكم بخمسة ءالف من الملائكة مسومين } بعلامات وإشارات خاصة بهم، ولما انهزم كرز قبل تحركه وقعد عن إمداد قريش بالمقاتلين لم يمد الله تعالى رسوله والمؤمنين بما ذكر من الملائكة فلم يزدهم على الألف الأولى التي أمدهم بها لما استغاثوه في أول المعركة جاء ذلك في سورة الأنفال في قوله تعالى:
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة
[الأنفال: 9] فهذه الألف هي التي نزلت فعلا وقاتلت مع المؤمنين وشوهد ذلك وعلم به يقينا، أما الوعد بالإمداد الأخير فلم يتم لأنه كان مشروطا بإمداد كرز لقريش فلما لم يمدهم، لم يمد الله تعالى المؤمنين، فقال تعالى: { وما جعله الله } أي الإمداد المذكور { إلا بشرى لكم } تطمئن به قلوبهم وتسكن له نفوسهم فيزول القلق والاضطراب الناتج عن الخوف من إمداد كرز المشركين بالمقاتلين، ولذا قال تعالى { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } العزيز أي الغالب، الحكيم الذي يضع النصر في موضعه فيعطيه مستحقه من أهل الصبر والتقوى { ليقطع طرفا من الذين كفروا } وقد فعل فأهلك من المشركين سبعين، أو يكبتهم أي يخزيهم ويذلهم إذ أسر منهم سبعون { فينقلبوا خآئبين } لم يحققوا النصر الذي أرادوه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد وهو عدم صبرهم وإخلالهم بمبدأ التقوى إذ عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا من الجبل يجرون وراء الغنيمة هذا على تفسير أن الوعد بالثلاثة آلاف وبالخمسة كان بأحد، وكان الوعد مشروطا بالصبر والتقوى فلما لم يصبروا ولم يتقوا لم يمدهم بالملائكة الذين ذكر لهم.
2- النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد وقوة العدة فإنه بيد الله تعالى فقد ينصر الضعيف ويخذل القوي، فلذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولا قبل إعداد العدد. وتحقيق الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله ثم التوكل على الله عز وجل.
3- ثبوت قتال الملائكة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر قتالا حقيقيا، لأنهم نزلوا في صورة بشر يقاتلون على خيول، وعليهم شاراتهم وعلاماتهم، ولا يقولن قائل: الملك الواحد يقدر على أن يهزم ملايين البشر، فكيف يعقل اشتراك ألف ملك في قتال المشركين وهم لا يزيدون عن الألف رجل، وذلك أن الله تعالى أنزلهم في صورة بشر فأصبحت صورتهم وقوتهم قوة البشر، ويدل على ذلك ويشهد له أن ملك الموت لما جاء موسى في صورة رجل يريد أن يقبض روحه ضربه موسى عليه السلام ففقأ عينه، وعاد إلى ربه تعالى ولم يقبض روح موسى عليهما معا السلام. من رواية البخارى.
[3.128-132]
شرح الكلمات:
الأمر: الشأن والمراد هنا توبة الله على الكافرين أو تعذيبهم.
شيء: شيء نكرة متوغلة في الإبهام. وأصل الشيء: ما يعلم ويخبر به.
أو: هنا بمعنى حتى أي فاصبر حتى يتوب عليهم أو يعذبهم.
لله ما في السماوات...: أي ملكا وخلقا وعبيدا يتصرف كيف يشاء ويحكم كما يريد.
لا تأكلون الربا: لا مفهوم للأكل بل كل تصرف بالربا حرام سواء كان أكلا أو شربا أو لباسا.
الربا: لغة: الزيادة، وفي الشرع نوعان: ربا فضل وربا نسيئة ربا الفضل: يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل أي الزيادة ويحرم التأخير، وربا النسيئة: هو أن يكون على المرء دين الى أجل فيحل الأجل ولم يجد سدادا لدينه فيقول له أخرني وزد في الدين.
أضعافا مضاعفة: لا مفهوم لهذا لأنه خرج مخرج الغالب، إذ الدرهم الواحد حرام كالألف، وإنما كانوا في الجاهلية يؤخرون الدين ويزيدون مقابل التأخير حتى يتضاعف الدين فيصبح أضعافا كثيرة.
تفلحون: تنجون من العذاب وتظفرون بالنعيم المقيم في الجنة.
أعدت للكافرين: هيئت وأحضرت للمكذبين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
لعلكم ترحمون: لترحموا فلا تعذبوا بما صدر منكم من ذنب المعصية.
معنى الآيات:
صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد دعا على أفراد من المشركين بالعذاب، وقال يوم أحد لما شج رأسه وكسرت رباعيته:
" كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ "
فأنزل الله تعالى عليه قوله: { ليس لك من الأمر شيء } أي فاصبر حتى يتوب الله تعالى عليهم أو يعذبهم بظلمهم فإنهم ظالمون ولله ما في السماوات وما في الأرض ملكا وخلقا يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد فإن عذب فبعدله وإن رحم فبفضله، وهو الغفور لمن تاب الرحيم بمن أناب.
هذا ما تضمنته الآيتان الأولى [128] والثانية [129] وأما الآية الثالثة [130] فإن الله تعالى نادى عباده المؤمنين بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام بأن يتركوا أكل الربا وكل تعامل به فقال { يأيها الذين آمنوا } أي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا { لا تأكلوا الربوا أضعفا مضعفة } إذ كان الرجل يكون عليه دين ويحل أجله ولم يجد ما يسدد به فيأتي إلى دائنه ويقول أخر ديني وزد علي وهكذا للمرة الثانية والثالثة حتى يصبح الدين بعدما كان عشرا عشرين وثلاثين. وهذا معنى قوله أضعافا مضاعفة، ثم أمرهم بتقواه عز وجل وواعدهم بالفلاح فقال عز وجل { واتقوا الله لعلكم تفلحون } أي كي تفلحوا بالنجاة من العذاب والحصول على الثواب وهو الجنة.
وفي الآية الرابعة [131] أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدها للكافرين فهي مهيئة محضرة لهم، واتقاؤها يكون بطاعته تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل: { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } ، أي المكذبين بالله ورسوله فلذا لم يعملوا بطاعتهما لأن التكذيب مانع من الطاعة، وفي الآية الأخيرة [132] أمرهم تعالى بطاعته وطاعة رسوله ووعدهم على ذلك بالرحمة في الدنيا والآخرة وكأنه يشير إلى الذين عصوا رسول الله في أحد وهم الرماة الذين تخلوا عن مراكزهم الدفاعية فتسبب عن ذلك هزيمة المؤمنين أسوأ هزيمة فقال تعالى: { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } أي كي يرحمكم فيتوب عليكم ويغفر لكم ويدخلكم دار السلام والنعيم المقيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استقلال الرب تعالى بالأمر كله فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد.
2- الظلم مستوجب للعذاب ما لم يتدارك الرب العبد بتوبة فيتوب ويغفر له ويعفو عنه.
3- حرمة أكل الربا مطلقا مضاعفا كان أو غير مضاعف.
4- بيان ربا الجاهلية إذ هو هذا الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: { لا تأكلوا الربوا }.
5- وجوب التقوى لمن أراد الفلاح في الدنيا والآخرة.
6- وجوب اتقاء النار ولو بشق تمرة.
7- وجوب طاعة الله ورسوله للحصول على الرحمة الإلهية وهي العفو والمغفرة ودخول الجنة.
[3.133-136]
شرح الكلمات:
وسارعوا: المسارعة إلى الشيء المبادرة إليه بدون توان ولا تراخ.
إلى مغفرة: المغفرة: ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها. والمراد هنا: المسارعة إلى التوبة بترك الذنوب، وكثرة الاستغفار وفي الحديث:
" ما من رجل يذنب ذنبا ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر الله إلى غفر له ".
وجنة: الجنة دار النعيم فوق السماوات، والمسارعة إليها تكون بالإكثار من الصالحات.
أعدت: هيئت وأحضرت فهي موجودة الآن مهيأة.
للمتقين: المتقون هم الذين اتقوا الله تعالى فلم يعصوه بترك واجب ولا بفعل محرم، وإن حدث منهم ذنب تابوا منه فورا.
في السراء والضراء: السراء الحال المسرة وهي اليسر والغنى والضراء الحال المضرة وهي الفقر.
والكاظمين الغيظ: كظم الغيظ: حبسه، والغيظ ألم نفسي يحدث إذا أوذي المرء في بدنه أو عرضه أو ماله، وحبس الغيظ: عدم إظهاره على الجوارح بسب أو ضرب ونحوهما للتشفي والانتقام.
والعافين عن الناس: العفو عدم المؤاخذة للمسيء مع القدرة على ذلك.
يحب المحسنين: المحسنون هم الذين يبرون ولا يسيئون في قول أو عمل.
فاحشة: الفاحشة: الفعلة القبيحة الشديدة القبح كالزنى وكبائر الذنوب.
أو ظلموا أنفسهم: بترك واجب أو فعل محرم فدنسوها بذلك فكان هذا ظلما لها.
ولم يصروا: أي يسارعون إلى التوبة، لأن الإصرار هو الشد على الشيء والربط عليه مأخوذ من الصر، والصرة معروفة.
وهم يعلمون: أي أنهم مخالفون للشرع بتركهم ما أوجب، او بفعلهم ما حرم.
ونعم أجر العاملين: الذي هو الجنة.
معنى الآيات:
لما نادى الله تعالى المؤمنين ناهيا لهم أكل الربا آمرا لهم بتقواه عز وجل، وباتقاء النار وذلك بترك الربا وترك سائر المعاصي الموجبة لعذاب الله تعالى ودعاهم إلى طاعته وطاعة رسوله كي يرحموا في دنياهم وأخراهم. أمرهم في الآية الأولى [133] بالمسارعة إلى شيئين الأول مغفرة ذنوبهم وذلك بالتوبة النصوح، والثاني دخول الجنة التي وصفها لهم، وقال تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموت والأرض أعدت للمتقين } أي أحضرت وهيئت للمتقين والمسارعة إلى الجنة هي المسارعة إلى موجبات دخولها وهي الإيمان والعمل الصالح إذ بهما تزكوا الروح وتطيب فتكون أهلا لدخول الجنة.
هذا ما تضمنته الآية الأولى وأما الآيتان الثانية [134] والثالثة [135] فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام فقوله تعالى: { الذين ينفقون في السرآء والضرآء } هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله، وفي كل أحايينهم من غنى وفقر وعسر ويسر وقوله: { والكاظمين الغيظ } وصف لهم بالحلم والكرم النفسي وقوله: { والعافين عن الناس } وصف لهم بالصفح والتجاوز عن زلات الآخرين تكرما، وفعلهم هذا إحسان ظاهر ومن هنا بشروا بحب الله تعالى لهم فقال تعالى { والله يحب المحسنين } كما هو تشجيع على الإحسان وملازمته في القول والعمل وقوله: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } وصف لهم بملازمة ذكر الله وعدم الغفلة، ولذا إذا فعلوا فاحشة ذنبا كبيرا أو ظلموا أنفسهم بذنب دون الفاحش ذكروا وعيد الله تعالى ونهيه عما فعلوا فبادروا الى التوبة وهي الإقلاع عن الذنب والندم عن الفعل والعزم على عدم العودة إليه، واستغفار الله تعالى منه.
وقوله تعالى: { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } وصف لهم بعدم الإصرار أي المواظبة على الذنب وعدم تركه وهم يعلمون أنه ذنب ناتج عن تركهم لواجب، أو فعلهم لحرام، وأما الآية الرابعة [136] فقد تضمنت بيان جزائهم على إيمانهم وتقواهم وما اتصفوا به من كمالات نفسية، وطهارة روحية إلا وهو مغفرة ذنوبهم كل ذنوبهم. وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. ومدح المنان عز وجل ما جازاهم به من المغفرة والخلود في الجنة ذات النعيم المقيم فقال: { ونعم أجر العاملين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها لقوله تعالى: { وسارعوا }.
2- سعة الجنة، وإنها مخلوقة الآن لقوله تعالى: { أعدت }.
3- المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق.
4- فضل استمرار الإنفاق في سبيل الله، ولو بالقليل.
5- فضيلة خلة كظم الغيظ بترك المبادرة إلى التشفي والإنتقام.
6- فضل العفو عن الناس مطلقا مؤمنهم وكافرهم بارهم وفاجرهم.
7- فضيلة الاستغفار وترك الإصرار على المعصية للآية ولحديث:
" ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ".
رواه الترمذي وأبو داود. وحسنه ابن كثير.
[3.137-141]
شرح الكلمات:
قد خلت: خلت: مضت.
سنن: جمع سنة وهي السيرة والطريقة التي يكون عليها الفرد أو الجماعة، وسنن الله تعالى في خلقه قانونه الماضي في الخلق.
فسيروا في الأرض: الأمر للإرشاد، للوقوف على ديار الهالكين الغابرين لتعتبروا.
عاقبة المكذبين: عاقبة أمرهم وهي ما حل بهم من الدمار والخسار كعاد وثمود.
هذا بيان للناس: أي ما ذكر في الآيات بيان للناس به يتبينون الهدى من الضلال وما لازمهما من الفلاح، والخسران.
موعظة: الموعظة الحال التي يتعظ بها المؤمن فيسلك سبيل النجاة.
ولا تهنوا: لا تضعفوا.
قرح: القرح: أثر السلاح في الجسم كالجرح، وتضم القاف فيكون بمعنى الألم.
الأيام: جمع يوم والليالي معها والمراد بها ما يجريه الله من تصاريف الحياة من خير وغيره وإعزاز وإذلال.
شهداء: جمع شهيد وهو المقتول في سبيل الله وشاهد وهو من يشهد على غيره.
ليمحص: ليخلص المؤمنين من أدران المخالفات وأوضار الذنوب.
ويمحق: يمحو ويذهب آثار الكفر والكافرين.
معنى الآيات:
لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين بسبب عدم الصبر، والطاعة اللازمة للقيادة ذكر تعالى تلك الأحداث مقرونة بفقهها لتبقى هدى وموعظة للمتقين من المؤمنين وبدأها بقوله: { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } فأخبر تعالى المؤمنين بأن سننه قد مضت فيمن قبلهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم فقد أرسل الله تعالى إليهم رسله فكذبوهم فأمضى تعالى سننه فيهم فأهلك المكذبين وأنجى المؤمنين بعد ما نالهم من أذى أقوامهم المكذبين، وستمضي سنته اليوم كذلك، فينجيكم وينصركم ويهلك المكذبين أعداءكم. وإن ارتبتم فسيروا في الأرض وقفوا على آثار الهالكين، وانظرو كيف كانت عاقبتهم،ثم قال تعالى: هذا الذي ذكرت في هذه الآيات بيان للناس يتبينون به الحق من الباطل والهدى من الضلال، وهدى يهتدون به إلى سبيل السلام وموعظة يتعظ بها المتقون لاستعدادهم بإيمانهم وتقواهم للإتعاظ فيطيعون الله ورسوله فينجون ويفلحون هذا ما تضمنته الآيتان الأولى [137] والثانية [138] وأما الآيتان الثالثة [139] والرابعة [140] فقد تضمنتا تعزية الرب تعالى للمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد إذ قال تعالى مخاطبا لهم { ولا تهنوا } أي لا تضعفوا فتقعدوا عن الجهاد والعمل، ولا تحزنوا على ما فاتكم من رجالكم، وأنتم الأعلون أي الغالبون لأعدائكم المنتصرون عليهم، وذلك فيما مضى وفيما هو آت مستقبلا بشرط إيمانكم وتقواكم واعلموا أنه إن يمسسكم قرح بموت أو جراحات لا ينبغي أن يكون ذلك موهنا لكم قاعدا بكم عن مواصلة الجهاد فإن عدوكم قد مسه قرح مثله وذلك في معركة بدر، والحرب سجال يوم لكم ويوم عليكم وهي سنة من سنن ربكم في الحياة هذا معنى قوله تعالى: { وتلك الأيام نداولها بين الناس } ثم بعد هذا العزاء الكريم الحكيم ذكر تعالى لهم علة هذا الحدث الجلل، والسر فيه وقال: { وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهدآء } أي ليظهر بهذا الحادث المؤلم إيمان المؤمنين وفعلا فالمنافقون رجعوا من الطريق بزعامة رئيسهم المنافق الأكبر عبد الله بن أبي بن سلول، والمؤمنون واصلوا سيرهم وخاضوا معركتهم فظهر إيمانهم واتخذ الله منهم شهداء وكانوا نحوا من سبعين شهيدا منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومصعب بن عمير، والباقون من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله تعالى: { وليمحص الله الذين آمنوا } أي أوجد هذا الذي أوجده في أحد من جهاد وانكسار تخليصا للمؤمنين من ذنوبهم وتطهيرا لهم ليصفوا الصفاء الكامل، ويمحق الكافرين بإذهابهم وإنهاء وجودهم.
إن هذا الدرس نفع المؤمنين فيما بعد فلم يخرجوا عن طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض الجزيرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسار والوبال.
2- في آي القرآن الهدي والبيان والمواعظ لمن كان من أهل الإيمان والتقوى.
3- أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة.
4- الحياة دول وتارات فليقابلها المؤمن بالكر والصبر.
5- الفتن تمحص الرجال، وتودي بحياة العاجزين الجزعين.
[3.142-145]
شرح الكلمات:
أم حسبتم: بل أظننتم فلا ينبغي أن تظنوا هذا الظن فالإستفهام إنكاري.
ولما يعلم: ولم يبتلكم بالجهاد حتى يعلم علم ظهور من يجاهد منكم ممن لا يجاهد كما هو عالم به في باطن الأمر وخفيه.
خلت من قبله: أي مضت من قبله الرسل بلغوا رسالتهم وماتوا.
إفإن مات أو قتل: ينكر تعالى على من قال عندما أشيع أن النبي قتل (هيا بنا نرجع الى دين قومنا، فالإستفهام منصب على قوله { انقلبتم على أعقابكم.. } لا على فإن مات أو قتل، وإن دخل عليها.
انقلبتم على أعقابكم: رجعتم عن الإسلام إلى الكفر.
كتابا مؤجلا: كتب تعالى آجال الناس مؤقتة بمواقيتها فلا تتقدم ولا تتأخر.
ثواب الدنيا: الثواب: الجزاء على النية والعمل معا، وثواب الدنيا الرزق وثواب الآخرة الجنة.
الشاكرين: الذين ثبتوا على إسلامهم فاعتبر ثباتهم شكرا لله، وما يجزيهم به هو الجنة ذات النعيم المقيم، وذلك بعد موتهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق متعلقا بغزوة أحد فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد إيمانهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد تمحيصا لهم وإظهارا للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكاذبين فيها، كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين فقال تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } ثم عابهم تعالى على قلة صبرهم وانهزامهم في المعركة مذكرا إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر، وفاتهم فيها ما حازه من حضرها من الأجر والغنيمة بأنهم إذا قدر لهم قتال في يوم ما من الأيام يبلون فيه البلاء الحسن فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا وما صبروا وفروا منهزمين فقال تعالى: { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } أي فلم انهزمتم وما وفيتم ما واعدتم أنفسكم به؟ هذا ما تضمنته الآيتان الأولى [142]، والثانية [143] وأما الآية الثالثة [144] فقد تضمنت عتابا شديدا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اشتدت المعركة وحمي وطيسها واستحر القتل في المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من ورائهم وضرب ابن قميئة - أقمأة الله - رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في وجهه فشجه وكسر رباعيته، وأعلن أنه قتل محمدا فانكشف المسلمون وانهزموا، وقال من قال منهم لم نقاتل وقد مات رسول الله، وقال بعض المنافقين نبعث إلى ابن أبي رئيس المنافقين يأتي يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان، ونعود إلى دين قومنا!! فقال تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } وما دام رسولا كغيره من الرسل، وقد مات الرسل قبله فلم ينكر موته، أو يندهش له إذا؟ بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في المعركة (قتل محمد) ففروا هاربين إلى المدينة، ومنهم من أعلن ردته في صراحة وهم المنافقون فقال تعالى: { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } فعاتبهم منكرا على المنهزمين والمرتدين من المنافقين ردتهم، وأعلمهم أن ارتداد من ارتد أو يرتد لن يضر الله تعالى شيئا فالله غني عن إيمانهم ونصرهم، وأنه تعالى سيجزي الثابتين على إيمانهم وطاعة ربهم ورسوله صلى الله عليه وسلم وسيجزيهم دنيا وآخرة بأعظم الأجور وأحسن المثوبات.
هذه ما تضمنته الآية الثالثة أما الآية الرابعة [145] فقد تضمنت حقيقتين علميتين: الأولى: أن موت الإنسان متوقف حصوله على إذن الله خالقه ومالكه فلا يموت أحد بدون علم الله تعالى بذلك فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن الله تعالى له بذلك، وشيء آخر وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلا عن اليوم والساعة، وذلك في كتاب خاص فليس من الممكن أن يتقدم أجل إنسان أو يتأخر بحال من الأحوال، هذه حقيقة يجب أن تعلم، من قول الله تعالى: { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتبا مؤجلا }.
والثانية: أن من دخل المعركة يقاتل باسم الله فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فلله عز وجل يؤتيه من الدنيا ما قدره له، وليس له من ثواب الآخرة شيء، وإن كان يريد ثواب الآخرة لا غير فالله عز وجل يعطيه في الدنيا ما كتب له ويعطيه ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم وأن الله تعالى سيجزي الشاكرين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هذه الحقيقة التي تضمنها قوله تعالى: { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشكرين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الابتلاء بالتكاليف الشرعية الصعبة منها والسهلة من ضروريات الإيمان.
2- تقرير رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبشريته المفضلة، وموتته المؤلمة لكل مؤمن.
3- الجهاد وخوض المعارك لا يقدم أجل العبد، والفرار من الجهاد لا يؤخره أيضا.
4- ثواب الأعمال موقوف على نية العاملين وحسن قصدهم.
5- فضيلة الشكر بالثبات على الإيمان والطاعة لله ورسوله في الأمر والنهي.
[3.146-148]
شرح الكلمات:
وكأين من نبي: كثير من الأنبياء. وتفسر كأين بكم وتكون حينئذ للتكثير.
ربيون: ربانيون علماء وصلحاء وأتقياء عابدون.
فما وهنوا لما أصابهم: ما ضعفوا عن القتال ولا انهزموا لأجل ما أصابهم من قتل وجراحات.
وما استكانوا: ما خضعوا ولا ذلوا لعدوهم.
الإسراف: مجاوزة الحد في الأمور ذات الحدود التي ينبغي أن يوقف عندها.
فآتاهم الله ثواب الدنيا: أعطاهم الله تعالى ثواب الدنيا النصر والغنيمة.
المحسنين: الذين يحسنون نياتهم فيخلصون أعمالهم لله، ويحسنون أعمالهم فيأتون بها موافقة لما شرعت عليه في كيفياتها وأعدادها وأوقاتها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد فذكر تعالى هنا ما هو في تمام عتابه للمؤمنين في الآيات السابقة عن عدم صبرهم وانهزامهم وتخليهم عن نبيهم في وسط المعركة وحده حتى ناداهم: إلي عباد الله إلي عباد الله فثاب إليه رجال. فقال تعالى مخبرا بما يكون عظة للمؤمنين وعبرة لهم: { وكأين من نبي } أي وكم من نبي من الأنبياء السابقين قاتل معه جموع كثيرة من العلماء والأتقياء والصالحين فما وهنوا أي ما ضعفوا ولا ذلوا لعدوهم ولا خضعوا له كما هم بعضكم أن يفعل أيها المؤمنون، فصبروا على القتال مع أنبيائهم متحملين آلام القتل والجرح فأحبهم ربهم تعالى لذلك أنه يحب الصابرين.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [146] ونصها: { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لمآ أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين } وأما الآية الثانية فأخبر تعالى فيها عن موقف أولئك الربيين وحالهم أثناء الجهاد في سبيله تعالى فقال: { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين }. ولازم هذا كأنه تعالى يقول للمؤمنين لم لا تكون أنتم مثلهم وتقولوا قولتهم الحسنة الكريمة وهي الضراعة لله تعالى بدعائه واستغفاره لذنوبهم الصغيرة والكبيرة والتي كثيرا ما تكون سببا للهزائم والانتكاسات كما حصل لكم أيها المؤمنون فلم يكن لأولئك الربانيين من قول سوى قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، فسألوا لله مغفرة ذنوبه وتثبيت أقدامهم فى أرض المعركة حتى لا يتزلزلوا فينهزموا والنصرة على القوم الكافرين أعداء الله وأعدائهم فاستجاب لهم ربهم فأعطاهم ما سألوا وهو ثواب الدنيا بالنصر والتمكين وحسن ثواب الآخرة وهي رضوانه الذي أحله عليهم وهم في الجنة دار المتقين والأبرار هذا ما دلت عليه الآية الأخيرة [148] { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الترغيب في الائتساء بالصالحين في إيمانهم وجهادهم وصبرهم وحسن أقوالهم.
2- فضيلة الصبر والإحسان، لحب الله تعالى الصابرين والمحسنين.
3- فضيلة الاشتغال بالذكر والدعاء عند المصائب والشدائد بدل التأوهات وإبداء التحسرات والتمنيات، وشر من ذلك التسخط والتضجر والبكاء والعويل.
4- كرم الله تعالى المتجلي في استجابة دعاء عباده الصابرين المحسنين.
[3.149-151]
شرح الكلمات:
إن تطيعوا الذين كفروا: المراد من طاعة الكافرين قبول قولهم والأخذ بإرشاداتهم.
يردوكم على أعقابكم: يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان.
خاسرين: فاقدين لكل خير في الدنيا، ولأنفسكم وأهليكم يوم القيامة.
بل الله مولاكم: بل أطيعوا الله ربكم ووليكم ومولاكم فإنه خير من يطاع وأحق من يطاع.
الرعب: شدة الخوف من توقع الهزيمة والمكروه.
مأواهم: مقر إيوائهم ونزولهم.
مثوى: المثوى مكان الثوى وهو الإقامة والاستقرار.
الظالمين: المشركين الذين أطاعوا غير الله تعالى وعبدوا سواه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد فقد روى أن بعض المنافقين لما رأى هزيمة المؤمنين في أحد قال في المؤمنين ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان محمد نبيا لما قتل إلى آخر ما من شأنه أن يقال في تلك الساعة الصعبة من الإقتراحات التي قد كشف عنها هذا النداء الإلهي للمؤمنين وهو يحذرهم من طاعة الكافرين بقوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } فلا شك أن الكافرين قد طالبوا المؤمنين بطاعتهم بتنفيذ بعض الإقتراحات التي ظاهرها النصح وباطنها الغش والخديعة، فنهاهم الله تعالى عن طاعتهم في ذلك وهذا النهي وإن نزل في حالة خاصة فإنه عام في المسلمين على مدى الحياة فلا يحل طاعة الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم وفي كل ما يأمرون به أو يقترحونه، ومن أطاعهم ردوه عن دينه إلى دينهم فينقلب: يرجع خاسرا في دنياه وآخرته، والعياذ بالله هذا ما تضمنته الآية الأولى [149] وأما الآية الثانية [150] فقد تضمنت الأمر بطاعته تعالى، إذ هو أولى بذلك لأنه ربهم ووليهم ومولاهم فهو أحق بطاعتهم من الكافرين فقال تعالى: { بل الله مولاكم } فأطيعوه، ولا تطيعوا أعداءه وإن أردتم أن تطلبوا النصر بطاعة الكافرين فإن الله تعالى خير الناصرين فاطلبوا النصر منه بطاعته فإنه ينصركم وفي الآية الثالثة [151] لما امتثل المؤمنون أمر ربهم فلم يطيعوا الكافرين وعدهم ربهم سبحانه وتعالى بأنه سيلقي في قلوب الكافرين الرعب وهو الخوف والفزع والهلع حتى تتمكنوا من قتالهم والتغلب عليهم وذلك هو النصر المنشود منكم، وعلل تعالى فعله ذلك بالكافرين بأنهم اشركوا به تعالى آلهة عبدوها معه لم ينزل بعبادتها حجة ولا سلطانا وقال تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بمآ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } وأخيرا مأواهم النار أي محل إقامتهم النار، وذم تعالى الإقامة في النار فقال ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين، يريد النار بئس المقام للظالمين وهم المشركون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تحرم طاعة الكافرين في حال الإختيار.
2- بيان السر في تحريم طاعة الكافرين وهو أنه يترتب عليها الردة والعياذ بالله.
3- بيان قاعدة من طلب النصر من غير الله أذلة الله.
4- وعد الله المؤمنين بنصرهم بعد إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، إذ هم أبو سفيان بالعودة إلى المدينة بعد إنصرافه من أحد ليقضي عمن بقي في المدينة من الرجال كذا سولت له نفسه، ثم ألقى الله تعالى في قلبه الرعب فعدل عن الموضوع بتدبير الله تعالى.
5- بطلان كل دعوى ما لم يكن لأصحابها حجة وهي المعبر عنها بالسلطان في الآية إذ الحجة يثبت بها الحق ويناله صاحبه بواسطتها.
[3.152-153]
شرح الكلمات:
صدقكم الله وعده: أنجزكم ما وعدكم على لسان رسوله بقوله للرماة اثبتوا أماكنكم فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم.
تحسونهم: تقتلونهم إذ الحس القتل يقال حسه إذا قتله فابطل حسه.
بإذنه: بإذنه لكم في قتالهم وبإعانته لكم على ذلك.
فشلتم: ضعفتم وجبنتم عن القتال.
تصعدون: تذهبون في الأرض فارين من المعركة يقال أصعد إذا ذهب في صعيد الأرض.
ولا تلوون على أحد: لا تلوون رؤوسكم على أحد تلتفتون إليه.
والرسول يدعوكم في أخراكم: أي يناديكم من خلفكم إلي عباد الله ارجعوا إلي عباد الله ارجعوا.
فأثابكم غما بغم: جزاكم على معصيتكم وفراركم غما على غم. والغم ألم النفس وضيق الصدر.
ما فاتكم: من الغنائم.
ولا ما أصابكم: من الموت والجراحات والآلام والأتعاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث أحد فقد تقدم في السياق قريبا نهى الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون، ويشيرون به عليهم. ووعدهم بأنه سليقي الرعب في قلوب الكافرين وقد فعل فله الحمد حيث عزم أبو سفيان على أن يرجع إلى المدينة ليقتل من بها ويستأصل شأفتهم فأنزل الله تعالى في قلبه وقلوب أتباعه الرعب فعدلوا عن غزو المدينة مرة ثانية وذهبوا إلى مكة. ورجع الرسول والمؤمنون من حمراء الأسد ولم يلقوا أبا سفيان وجيشه. وفي هاتين الآيتين يخبرهم تعالى بمنته عليهم حيث أنجزهم ما وعدهم من النصر فقال تعالى: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بوأ الرماة مقاعدهم. وكانوا ثلاثين راميا وجعل عليهم عبد الله بن جبير أمرهم بأن لا يبرحوا أماكنهم كيفما كانت الحال وقال لهم:
" إنا لا نزال غالبين ما بقيتم في أماكنكم ترمون العدو فتحمون ظهورنا بذلك "
، وفعلا دارت المعركة وأنجز الله تعالى لهم وعده ففر المشركون أمامهم تاركين كل شيء هاربين بأنفسهم والمؤمنون يحسونهم حسا أي يقتلونهم قتلا بإذن الله وتأييده لهم ولما رأى الرماة هزيمة المشركين والمؤمنون يجمعون الغنائم قالوا: ما قيمة بقائنا هنا والناس يغنمون فهيا بنا ننزل إلى ساحة المعركة لنغنم، فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأولوه ونزلوا إلى ساحة المعركة يطلبون الغنائم، وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد فلما رأى الرماة أخلوا مراكزهم إلا قليلا منهم كر بخيله عليهم فاحتل أماكنهم وقتل من بقي فيها، ورمى المسلمين من ظهورهم فتضعضوا لذلك فعاد المشركون إليهم ووقعوا بين الرماة الناقمين والمقاتلين الهائجين فوقعت الكارثة فقتل سبعون من المؤمنين ومن بينهم حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته وصاح الشيطان قائلا أن محمدا قد مات وفر المؤمنون من ميدان المعركة إلا قليلا منهم وفي هذا يقول تعالى: { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر } ، يريد تنازع الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير حيث نهاهم عن ترك مقاعدهم وذكرهم بأمر رسول الله فنازعوه في فهمه وخالفوا الأمر ونزلوا، وكان ذلك بعد أن رأوا إخوانهم قد انتصروا وأعداءهم قد انهزموا، وهو معنى قوله تعالى: { وعصيتم من بعد مآ أراكم ما تحبون } أي من النصر { منكم من يريد الدنيا } وهم الذين نزلوا إلى الميدان يجمعون الغنائم، { ومنكم من يريد الآخرة } وهم عبد الله بن جبير والذين صبروا معه في مراكزهم حتى استشهدوا فيها وقوله تعالى { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } وذلك إخبار عن ترك القتال لما أصابهم من الضعف حينما رأوا أنفسهم محصورين بين رماة المشركين ومقاتليهم فأصعدوا في الوادي هاربين بأنفسهم، وحصل هذا بعلم الله تعالى وتدبيره، والحكمة فيه أشار إليها تعالى بقوله: { ليبتليكم } أي يختبركم فيرى المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، والصابر من الجزع، وقوله تعالى { ولقد عفا عنكم } يريد أنه لو شاء يؤاخذهم بمعصيتهم أمر رسولهم فسلط عليهم المشركين فقتلوهم أجمعين ولم يبقوا منهم أحدا إذ تمكنوا منهم تماما ولكن الله سلم.
هذا معنى { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } هذا ما تضمنته الآية الأولى [152] أما الآية الثانية [153] فهي تصور الحال التي كان عليها المؤمنون بعد حصول الانكسار والهزيمة فيقول تعالى { إذ تصعدون } أى عفا عنكم في الوقت الذي فررتم مصعدين في الأودية هاربين من المعركة والرسول يدعوكم من ورائكم إلي عباد الله ارجعوا، وأنتم فارون لا تلوون على أحد، أي لا تلتفتوا إليه. وقوله تعالى: { فأثبكم غما بغم } يريد جزاكم على معصيتكم غما والغم ألم النفس لضيق الصدر وصعوبة الحال. وقوله بغم أي على غم، وسبب الغم الأول فوات النصر والغنيمة والثاني القتل والجراحات وخاصة جراحات نبيهم، وإذاعة قتله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا مآ أصبكم } أي ما أصابكم بالغم الثاني الذي هو خبر قتل الرسول صلى الله عليه وسلم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحات فأنساكم الغم الثاني ما غمكم به الغم الأول الذي هو فوات النصر والغنيمة. وقوله { والله خبير بما تعملون } يخبرهم تعالى أنه بكل ما حصل منهم من معصية وتنازع وفرار، وترك للنبي صلى الله عليه وسلم في المعركة وحده وانهزامهم وحزنهم خبير مطلع عليه عليم به وسيجزي به المحسن بإحسانه والمسيىء بإساءته أو يعفو عنه، والله عفو كريم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- مخالفة القيادة الرشيدة والتنازع في حال الحرب يسبب الهزيمة المنكرة.
2- معصية الله ورسوله والإختلافات بين أفراد الأمة تعقب آثارا سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب الدولة والسلطان.
3- ما من مصيبة تصيب العبد إلا وعند الله ما هو أعظم منها فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم.
4- ظاهر هزيمة أحد النقمة وباطنها النعمة، وبيان ذلك أن علم المؤمنون أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها.
5- بيان حقيقة كبرى وهي أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وفي شيء واحد ترتب عليها آلام وجراحات وقتل وهزائم وفوات خير كبير وكثير فكيف بالذين يعصون رسول الله طوال حياتهم وفي كل أوامره ونواهيه وهم يضحكون ولا يبكون، وآمنون غير خائفين.
[3.154-155]
شرح الكلمات:
أمنة نعاسا: الأمنة: الأمن، والنعاس: استرخاء يصيب الجسم قبل النوم.
يغشى طائفة منكم: يصيب المؤمنين ليستريحوا ولا يصيب المنافقين.
أهمتهم أنفسهم: أي لا يفكرون إلا في نجاة أنفسهم غير مكترثين بما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ظن الجاهلية: هو اعتقادهم أن النبي قتل أو أنه لا ينصر.
هل لنا من الأمر: أي ما لنا من الأمر من شيء.
ما لا يبدون لك: أي مالا يظهرون لك.
لبرز الذين: لخرجوا من المدينة ظاهرين ليلقوا مصارعهم هناك.
كتب عليهم القتل: يريد كتب في كتاب المقادير أي اللوح المحفوظ.
مضاجعهم: جمع مضجع وهو مكان النوم والاضطجاع والمراد المكان الذي صرعوا فيه قتلى.
ليبتلي: ليختبر.
وليمحص: التمحيص: التمييز وهو إظهار شيء من شيء كإظهار الإيمان من النفاق، والحب من الكره.
استزلهم الشيطان: أوقعهم في الزلل وهو الخطيئة والتي كانت الفرار من الجهاد.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة أحد فأخبر تعالى في الآية الأولى [154] عن أمور عظام الأول أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين أنزل على أهل اليقين خاصة أمنا كاملا فذهب الخوف عنهم حتى أن أحدهم لينام والسيف في يده فيسقط من يده ثم يتناوله قال تعالى: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طآئفة منكم } والثاني أن أهل الشك والنفاق حرمهم الله تعالى من تلك الأمنة فما زال الخوف يقطع قلوبهم والغم يسيطر على نفوسهم وهم لا يفكرون إلا في أنفسهم كيف ينجون من الموت وهم المعنيون بقوله تعالى { وطآئفة قد أهمتهم أنفسهم } والثالث أن الله تعالى قد كشف عن سرائرهم فقال يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، والمراد من ظنهم بالله غير الحق ظن المشركين أنهم يعتقدون أن الإسلام باطل وأن محمدا ليس رسولا، وأن المؤمنين سينهزمون ويموتون وينتهي الإسلام ومن يدعوا إليه. والرابع أن الله تعالى قد كشف سرهم فقال عنهم: { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } هذا القول قالوه سرا فيما بينهم، ومعناه ليس لنا من الأمر من شيء ولو كان لنا ما خرجنا ولا قاتلنا ولا أصابنا الذي أصابنا فأطلعه الله تعالى سرهم وقال له: رد عليهم بقولك: إن الأمر كله لله. ثم هتك تعالى مرة أخرى سترهم وكشف سرهم فقال: يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك أي يخفون في أنفسهم من الكفر والبغض والعداء لك ولأصحابك ما لا يظهرونه لك. والرابع لما تحدث المنافقون في سرهم وقالوا لو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا ها هنا: يريدون لو كان الأمر بأيديهم ما خرجوا لقتال المشركين لأنهم إخوانهم في الشرك والكفر، ولا قتلوا مع من قتل في أحد فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قل لو كنتم في بيوتكم بالمدينة لبرز أي ظهر الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وصرعوا فيها وماتوا، لأن ما قدره الله نافذ على كل حال، ولا حذر مع القدر.
ولا بد أن يتم خروجكم إلى أحد بتدبير الله تعالى لبتلي الله أي يمتحن ما في صدوركم ويميز ما في قلوبكم فيظهر ما كان غيبا لا يعلمه إلا هو إلى عالم المشاهدة ليعلمه ويراه على حقيقته رسوله والمؤمنون، وهذا لعلم الله تعالى بذات الصدور. هذا معنى قوله تعالى: { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور }.
هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الآية الثانية [155] فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن حقيقة واحدة ينبغي أن تعلم وهي أن الذين فروا من المعركة لما اشتد القتال وعظم الكرب الشطيان هو الذي أوقعهم في هذه الزلة وهي توليهم عن القتال بسبب بعض الذنوب كانت لهم، ولذا عفا الله عنهم ولم يؤاخذهم بهذه الزلة، وذلك لأن الله غفور حليم فلذا يمهل عبده حتى يتوب فيتوب عليه ويغفر له ولو لم يكن حليما لكان يؤاخذ لأول الذنب والزلة فلا يمكن أحدا من التوبة والنجاة. هذا معنى قوله تعالى: { إن الذين تولوا منكم } أي عن القتال، يوم التقى الجمعان أي جمع المؤمنين وجمع الكافرين بأحد. إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ولقد عفا الله عنهم فلم يؤاخذهم إن الله غفور حليم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- إكرام الله تعالى لأوليائه بالأمان الذي أنزله في قلوبهم.
2- إهانة الله تعالى لأعدائه بحرمانهم مما أكرم به أولياءه وهم في مكان واحد.
3- تقرير مبدأ القضاء والقدر، وأن من كتب موته في مكان لا بد وأن يموت فيه.
4- أفعال الله تعالى لا تخلو أبدا من حكم عالية فيجب التسليم لله تعالى والرضا بأفعاله في خلقه.
5- الذنب يولد الذنب، والسيئة تتولد عنها سيئة أخرى فلذا وجبت التوبة من الذنب فورا.
[3.156-158]
شرح الكلمات:
آمنوا: صدقوا الله ورسوله فيما أخبرا به من وعد ووعيد.
إخوانهم: هذه أخوة العقيدة لا أخوة النسب وهي هنا أخوة النفاق.
ضربوا في الأرض: ضربوا في الأرض بأقدامهم مسافرين للتجارة غالبا.
غزى: جمع غاز وهو من يخرج لقتال ونحوه من شؤون الحرب.
الحسرة: ألم يأخذ بخناق النفس بسب فوت مرغوب أو فقد محبوب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ونتائجها المختلفة ففي هذه الآية [156] ينادي الله المؤمنين الصادقين في إيمانهم بالله ورسوله ووعد الله تعالى ووعيده يناديهم لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية ومن ذلك قول الكافرين لإخوانهم في الكفر إذا هم ضربوا في الأرض لتجارة أو لغزو فمات من مات منهم أو قتل من قتل بقضاء الله وقدره، لو كانوا عندنا أي ما فارقونا وبقوا في ديارنا وماتوا وما قتلوا وهذا دال على نفسية الجهل ومرض الكفر، وحسب سنة الله تعالى فإن هذا القول منهم يتولد، لهم عنه بإذنه تعالى غم نفسي وحسرات قلبية تمزقهم وقد تودي بحياتهم، وما درى أولئك الكفرة الجهال أن الله يحيي ويميت، فلا السفر ولا القتال يميتان، ولا القعود في البيت جبنا وخورا يحيي هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية { يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت } وقوله تعالى في ختام هذه الآية: { والله بما تعملون بصير } فيه وعد للمؤمنين إن انتهوا عما نهاهم عنه في الآية ووعيد إن لم ينتهوا فيجزيهم بالخير خيرا، وبالشر إن لم يعف شرا. أما الآية الثانية [157] فإن الله تعالى يبشر عباده المؤمنين مخبرا إياهم بأنهم إن قتلوا في سبيل الله أو ماتوا فيه يغفر لهم ويرحمهم وذلك خير مما يجمع الكفار من حطام الدنيا ذلك الجمع للحطام الذي جعلهم يجبنون عن القتال والخروج فى سبيل الله فقال تعالى: { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } وفي الآية الثالثة [158] يؤكد تلك الخيرية التي تضمنتها الآية السابقة فيقول: { ولئن متم أو قتلتم } في سبيلنا { لإلى الله تحشرون } حتما، وثم يتم لكم جزاؤنا على استشهادكم وموتكم في سبيلنا، ولنعم ما تجزون به في جوارنا الكريم.
هداية الآيات:
1- حرمة التشبه بالكفار ظاهرا وباطنا.
2- الندم يولد الحسرات والحسرة غم وكرب عظيمان، والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه من حطام الدنيا.
3- موتة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها.
[3.159-160]
شرح الآيتين:
لنت لهم: كنت رفيقا بهم تعاملهم بالرفق واللطف.
فظا: خشنا في معاملتك شرسا في أخلاقك وحاشاه صلى الله عليه وسلم.
انفضوا: تفرقوا وذهبوا تاركينك وشأنك.
فاعف عنهم: يريد إن زلوا أو أساءوا.
وشاورهم في الأمر: اطلب مشورتهم في الأمر ذي الأهمية كمسائل الحرب والسلم.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في الآداب والنتائج المترتبة على غزوة أحد ففي هذه الآية [159] يخبر تعالى عما وهب رسوله من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر فيقول: { فبما رحمة من الله } أي فبرحمة من عندنا رحمناهم بها لنت لهم، { ولو كنت فظا } أي قاسيا جافا جافيا قاسي القلب غليظه { لانفضوا من حولك } أي تفرقوا عنك، وحرموا بذلك سعادة الدارين. وبناء على هذا فاعف عن مسيئهم، واستغفر لمذنبهم، وشاور ذوي الرأي منهم، وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة فاعزم على تنفيذه متوكلا على ربك فإنه يحب المتوكلين، والتوكل الإقدام على فعل ما أمر الله تعالى به أو أذن فيه بعد إحضار الأسباب الضرورية له. وعدم التفكير فيما يترتب عليه بل يفوض أمر النتائج إليه تعالى.
هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الآية الثانية [160] فقد تضمنت حقيقة كبرى يجب العلم بها والعمل دائما بمقتضاها وهي أن النصر بيد الله، والخذلان كذلك فلا يطلب نصر إلا منه تعالى، ولا يرهب خذلان إلا منه عز وجل، وطلب نصره هو إنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له، وتحاشي خذلانه تعالى يكون بطاعته والتوكل عليه هذا ما دل عليه قوله تعالى في هذه الآية { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون }.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلقي.
2- فضل الصحابة رضوان الله عليهم وكرامتهم على ربهم سبحانه وتعالى.
3- تقرير مبدأ المشورة بين الحاكم وأهل الحل والعقد في الأمة.
4- فضل العزيمة الصادقة مقرونة بالتوكل على الله تعالى.
5- طلب النصر من غير الله خذلان، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله عز وجل.
[3.161-164]
شرح الكلمات:
أن يغل: أي يأخذ من الغنيمة خفية، إذ الغل والغلول بمعنى السرقة من الغنائم قبل قسمتها.
توفى: تجزى ما كسبته في الدنيا وافيا تاما يوم القيامة.
رضوان الله: المراد به ما يوجب رضوانه من الإيمان والصدق والجهاد.
وسخط الله: غضبه الشديد على الفاسقين عن أمره المؤذين لرسوله صلى الله عليه وسلم.
من: أنعم وتفضل.
رسولا من أنفسهم: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
يزكيهم: بما يرشدهم إليه من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والآداب العالية.
الحكمة: كل قول صالح نافع أبدا ومنه السنة النبوية.
معنى الآيات:
الغل والغلول والأغلال بمعنى واحد وهو أخذ المرء شيئا من الغنائم قبل قسمتها وما دام السياق في غزوة أحد فالمناسبة قائمة بين الآيات السابقة وهذه، ففي الآية الأولى [161] ينفي تعالى أن يكون من شأن الأنبياء أو مما يتأتى صدوره عنهم الإغلال وضمن تلك أن أتباع الأنبياء يحرم عليهم أن يغلوا، ولذا قرىء في السبع أن يغل بضم الياء وفتح الغين أي يفعله اتباعه بأخذهم من الغنائم بدون إذنه. هذا معنى قوله تعالى: { وما كان لنبي أن يغل } ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل وقال: { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئا يأت به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة كما يبين ذلك في الحديث، ثم يحاسب عليه كغيره ويجزى به، كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ولا تظلم نفس شيئا لغنى الرب تعالى عن الظلم وعدله. هذا مضمون الآية الأولى أما الثانية [162] ينفي تعالى أن تكون حال المتبع لرضوان الله تعالى بالإيمان به ورسوله وطاعتهما بفعل الأمر واجتناب النهي، كحال المتبع لسخط الله تعالى بتكذيبه تعالى وتكذيب رسوله ومعصيتهما بترك الواجبات وفعل المحرمات فكانت جهنم مأواه، وبئس المصير جهنم. هذا معنى قوله تعالى: { أفمن اتبع رضوان الله كمن بآء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } ثم ذكر تعالى أن كلا من أهل الرضوان، وأصحاب السخط متفاوتون في درجاتهم عند الله، بحسب أثر أعمالهم في نفوسهم قوة وضعفا فقال: { هم درجت عند الله والله بصير بما يعملون } ، فدل ذلك على عدالة العليم الحكيم. هذا ما دلت عليه الآية [163] أما الآية الآخيرة [164] فقد تضمنت امتنان الله تعالى على المؤمنين من العرب ببعثه رسوله فيهم، يتلو عليهم آيات الله فيؤمنون ويكملون في إيمانهم ويزكيهم من أوضار الشرك وظلمة الكفر بما يهديهم به، ويدعوهم إليه من الإيمان وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق وسامي الآداب، ويعلمهم الكتاب المتضمن للشرائع والهدايات والحكمة التي هي فهم أسرار الكتاب، والسنة، وتتجلى هذه النعمة أكثر لمن يذكر حال العرب في جاهليتهم قبل هذه النعمة العظيمة عليهم هذا معنى قوله تعالى في الآية الأخيرة: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تحريم الغلول وأنه من كبائر الذنوب.
2- طلب رضوان الله واجب، وتجنب سخطه واجب كذلك، والأول يكون بالإيمان وصالح الأعمال والثاني يكون بترك الشرك والمعاصي.
3- الإسلام أكبر نعمة وأجلها على المسلمين فيجب شكرها بالعمل به والتقيد بشرائعه وأحكامه.
4- فضل العلم بالكتاب والسنة.
[3.165-168]
شرح الكلمات:
المصيبة: إحدى المصائب: ما يصيب الإنسان من سوء وأسوأها مصيبة الموت.
مثليها: ضعفيها إذ قتلوا في بدر سبعين من المشركين وأسروا سبعين.
أنى هذا؟: أي من أين أتانا هذا الذي أتانا من القتل والهزيمة.
فبإذن الله: أي بإرادته تعالى وتقديره بربط المسببات بأسبابها.
نافقوا: أظهروا من الإيمان ما لا يبطنون من الكفر.
أو ادفعوا: أي ادفعوا العدوعن دياركم وأهليكم وأولادكم، إن لم تريدوا ثواب الآخرة.
ادرأوا: أي ادفعوا.
إن كنتم صادقين: في دفع المكروه بالحذر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة أحد ففي الآية الأولى: ينكر الله تعالى على المؤمنين قولهم بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة: { أنى هذا } أي من أي وجه جاءت هذه المصيبة ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل الله ومع رسوله؟ فقال تعالى: { أو لمآ أصبتكم مصيبة } بأحد قد أصبتم مثليها ببدر لأن ما قتل من المؤمنين بأحد كان سبعين، وما قتل من المشركين ببدر كان سبعين قتيلا وسبعين أسيرا، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم: قل هو من عند أنفسكم، وذلك بمعصيتكم لرسول الله حيث خالف الرماة أمره، وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة تاركين القتال. وقوله { إن الله على كل شيء قدير } إشعار بأن الله تعالى أصابهم بما أصابهم به عقوبة لهم حيث لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه. هذا ما تضمنته الآية الأولى [165] أما الآيات الثلاث بعدها فقوله تعالى: { ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين } يخبر تعالى المؤمنين أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع المؤمنين وجمع المشركين في ساحة المعركة كان بقضاء الله وتدبيره، وعلته إظهار المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة وإنهم صادقون في إيمانهم، ولذا قال تعالى وليعلم المؤمنين علم انكشاف وظهور كما هو معلوم له في الغيب وباطن الأمور هذا أولا وثانيا ليعلم الذين نافقوا فأظهروا الإيمان والولاء لله ولرسوله والمؤمنين ثم أبطنوا الكفر العداء لله ورسوله والمؤمنين فقال عنهم في الآيتين الثالثة [167] والرابعة [168] { وليعلم الذين نافقوا } وهم عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين وعصابته الذين رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة، وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد جابر تعالوا قاتلوا في سبيل الله رجاء ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غاز يريد قتلكم إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم فأجابوا قائلين: لو نعلم قتالا سيتم لاتبعناكم، فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } إذ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، { والله أعلم بما يكتمون } حتى من أنفسهم يعلم أنهم يكتمون عداوة الله ورسوله والمؤمنين وإرادة السوء بالمؤمنين، وأن قلوبهم مع الكافرين الغازين.
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قعدوا عن الجهاد في أحد وقالوا لإخوانهم في النفاق - وهم في مجالسهم الخاصة -: - لو أنهم قعدوا فلم يخرجوا كما لم نخرج نحن ما قتلوا. فأمر الله رسوله أن يرد عليهم قائلا: { فادرءوا } أي ادفعوا عن أنفسكم الموت إذا حضر أجلكم إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم لو قعدوا ما قتلوا.
من هداية الآيات:
1- المصائب ثمرة الذنوب.
2- كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه.
3- قد يقول المرء قولا أو يظن ظنا يصبح به على حافة هاوية الكفر.
4- الحذر لا يدفع القدر.
[3.169-171]
شرح الكلمات:
ولا تحسبن: ولا تظنن.
قتلوا: استشهدوا.
أحياء: يحسون ويتنعمون في نعيم الجنة بالطعام والشراب.
فرحين: مسرورين.
لا خوف عليهم: لما وجدوا من الأمن التام عن ربهم.
ولا هم يحزنون: على ما خلفوا وراءهم في الدنيا لما نالهم من كرامة في الجنة.
يستبشرون: يفرحون
وفضل: وزيادة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة أحد فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: { ولا تحسبن } أي لا تظنن الذين استشهدوا من المؤمنين في أحد وغيرها أمواتا لا يحسون ولا يتنعمون بطيب الرزق ولذيذ العيش بل هم أحياء عند ربهم يرزقون أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش. إنهم فرحون بما أكرمهم الله تعالى به، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين خلفوهم في الدنيا على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم لم يخافوا ولم يحزنوا لأجل ما يصيرون إليه من نعيم الجنة وكرامة الله تعالى لهم فيها. إن الشهداء جميعا مستبشرون فرحون بما ينعم الله عليهم ويزيدهم وبأنه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين شهداء وغير شهداء بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الشهداء أحياء والمؤمنون أحياء في الجنة غير أن حياة الشهداء أكمل.
2- الشهداء يستبشرون بالمؤمنين الذين خلفوهم على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم نالهم من الكرامة والنعيم ما نالهم هم قبلهم.
3- لا خوف ينال المؤمن الصالح إذا مات ولا حزن يصيبه.
[3.172-175]
شرح الكلمات:
استجابوا: أجابوا الدعوة وقبلوا الأمر.
القرح: ألم الجراحات.
أحسنوا: أعمالهم وأقوالهم أتوا بها وفق الشرع وأحسنوا إلى غيرهم.
اتقوا: ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه فيما أمرهم به أو نهاهم عنه.
جمعوا لكم: جمعوا الجيوش لقتالكم.
حسبنا الله: يكفينا الله ما أرادونا به من الأذى.
ونعم الوكيل: نعم الوكيل الله نوكل إليه أمورنا ونفوضها إليه.
انقلبوا: رجعوا من حمراء الأسد إلى المدينة.
أولياء الشيطان: أهل طاعته والاستجابة إليه فيما يدعوهم إليه من الشر والفساد.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد وما لا بسها من أمور وأحوال والآيات الأربع كلها في المؤمنين الذين حضروا غزوة أحد يوم السبت وخرجوا في طلب أبي سفيان يوم الأحد وعلى رأسهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، رأى أن يرفع معنويات أصحابه الذين كلموا وهزموا يوم السبت بأحد، وأن يرهب أعداءه فأمر مؤذنا يؤذن بالخروج في طلب أبي سفيان وجيشه، فاستجاب المؤمنون وخرجوا وإن منهم للمكلوم المجروح، وإن أخوين جريحين كان أحدهما يحمل أخاه على ظهره فإذا تعب وضعه فمشى قليل، ثم حمله حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد، وألقى الله تعالى الرعب في قلب أبي سفيان فارتحل هاربا إلى مكة، وقد حدث هنا أن معبدا الخزاعي مر بمعسكر أبي سفيان فسأله عن الرسول فأخبره أنه خرج في طلبكم وخرج معه جيش كبير وكلهم تغيظ عليكم، أنصح لك أن ترحل فهرب برجاله خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد برجاله كذا ليلة ثم عادوا لم يمسسهم سوء وفيهم نزلت هذه الآيات الأربع وهذا نصها:
الآية [172] { الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح } يريد في أحد واستجابوا: لبوا نداء الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا معه في ملاحقة أبي سفيان، { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم، ألا وهو الجنة الآية الثانية [173] { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } المراد من الناس القائلين هم نفر من عبد القيس مروا بأبي سفيان وهو عازم على العودة إلى المدينة لتصفية المؤمنين بها في نظره فقال له أبو سفيان أخبر محمدا وأصحابه أني ندمت على تركهم أحياء بعدما انتصرت عليه وإني جامع جيوشي وقادم عليهم، والمراد من الناس الذين جمعوا هم أبو سفيان فلما بلغ هذا الخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه زادهم إيمانا فوق إيمانهم بنصر الله تعالى وولايته لهم، وقالوا: حسبنا الله أي يكفينا الله شرهم، ونعم الوكيل الذي يكفينا ما أهمنا ونفوض أمرنا إلى الله.
الآية الثالثة [174] { فانقلبوا } أي رجعوا من حمراء الأسد لأن أبا سفيان ألقى الله الرعب في قلبه فانهزم وهرب، رجعوا مع نبيهم سالمين في نعمة الإيمان والإسلام والنصر، { وفضل } حيث أصابوا تجارة في طريق عودتهم { لم يمسسهم سوء } أي أذى، { واتبعوا رضوان الله } بالاستجابة لما دعاهم الله ورسوله وهو الخروج في سبيل الله لملاحقة أبي سفيان وجيشه. وقوله تعالى: { والله ذو فضل عظيم } وما أفاضه على رسوله كاف في التدليل عليه الآية الرابعة [175] { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } ، وذلك أن وفد عبد القيس آجره أبو سفيان بكذا حمل من زبيب إن هو خوف المؤمنين منه فبعثه كأنه (طابور) يخذل له المؤمنين إلا أن المؤمنين عرفوا أنها مكيدة وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فنزلت الآية: { إنما ذلكم الشيطان } الناطق على لسان النفر من عبد القيس يخوف المؤمنين من أوليائه أبي سفيان وجمعه، فلا تخافوهم فنهاهم عن الخوف منهم وأمرهم أن يخافوه تعالى فلا يجبنوا ويخرجوا إلى قتال أبي سفيان وكذلك فعلوا لأنهم المؤمنون بحق رضى الله عنهم أجمعين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل الإحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير.
2- فضل أصحاب رسول الله على غيرهم، وكرامتهم على ربهم.
3- فضل كلمة " حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها رسول الله وقالها إبراهيم من قبل فصلى الله عليهما وسلم.
4- بيان أن الشيطان يخوف المؤمنين من أوليائه، فعلى المؤمنين أن لا يخافوا غير ربهم تعالى في الحياة، فيطيعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه، وهو حسبهم ونعم الوكيل لهم.
[3.176-178]
شرح الكلمات:
الحزن: غم يصيب النفس لرؤية أو سماع ما يسوءه ويكرهه.
الكفر: الكفر تكذيب الله تعالى ورسوله فيما جاء به الرسول وأخبر به.
يسارعون: يبادرون.
حظا: نصيبا.
اشتروا الكفر: اعتاضوا الكفر عن الإيمان.
نملي لهم: الإملاء: الإمهال والإرخاء بعدم البطش بهم وترك الضرب على أيديهم بكفرهم.
إثما: الإثم: كل ضار قبيح ورأسه: الكفر والشرك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ففي هذه الآيات الثلاث - وقد كشفت الأحداث عن أمور خطيرة حيث ظهر النفاق مكشوفا لا ستار عليه، وحصل من ذلك ألم شديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين -يخاطب الله تعالى رسوله قائلا له: لا يحزنك مسارعة هؤلاء المنافقين في الكفر، وقال في الكفر ولم يقل إلى الكفر إشارة إلى أنهم ما خرجوا منه لأن إسلامهم كان نفاقا فقط، { إنهم لن يضروا الله شيئا } ، والله يريد أن لا يجعل لهم نصيبا من نعيم الآخرة فلذا تركهم في كفرهم كلما خرجوا منه عادوا إليه، وحكم عليهم بالعذاب العظيم فقال: { ولهم عذاب عظيم } هذا ما تضمنته الآية الأولى [176]. أما الآية الثانية [177] فقد تضمنت حكم الله تعالى على الذين يرتدون بعد إيمانهم فيبيعون الإيمان بالكفر، ويشترون الضلالة بالهدى حكم عليهم بأنهم لن يضروا الله شيئا من الضرر، ولهم عذاب أليم فقال تعالى: { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم } والعذاب الأليم هو عذاب النار إذ لا آلم ولا أشد إيجاعا منه.
وأما الآية الثانية [178] فقد تضمنت بطلان حسبان الكافرين أن الله تعالى عندما يمهلهم ويمد في أعمارهم ولم يعاجلهم بالعذاب أن ذلك خير لهم، لا، بل هو شر لهم، إذ كلما تأخروا يوما اكتسبوا فيه إثما فبقدر ما تطول حياتهم يعظم ذنبهم وتكثر آثامهم، وحينئذ يوبقون ويهلكون هلاكا لا نظير له قال تعالى: { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } أي ذو إهانة، لأنهم كانوا ذوي كبر وعلو في الأرض وفساد، فلذا ناسب أن يكون في عذابهم إهانات لهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا ينبغي للمؤمن أن يحزنه كفر كافر ولا فسق فاسق، لأن ذلك لا يضر الله تعالى شيئا، وسيجزي الله الكافر والفاسق بعدله.
2- لا ينبغي للعبد أن يغره إمهال الله له، وعليه أن يبادر بالتوبة من كل ذنب إذ ليس هناك إهمال وإنما هو إمهال.
3- الموت للعبد خير من الحياة، لأنه إذا كان صالحا فالآخرة خير له من الدنيا وإن كان غير ذلك حتى لا يزداد إثما فيوبق بكثرة ذنوبه.
[3.179-180]
شرح الكلمات:
ليذر: ليترك.
يمييز: يميز ويبين.
الخبيث: من خبثت نفسه بالشرك والمعاصي.
الطيب: من طهرت نفسه بالإيمان والعمل الصالح.
الغيب: ما غاب فلم يدرك بالحواس.
يجتبي: يختار ويصطفي.
يبخلون: يمنعون ويضنون.
يطوقون به: يجعل طوقا في عنق أحدهم.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في أحداث وقعة أحد، وما لازمها من ظروف وأحوال فأخبر تعالى في هذه الآية [179] إنه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه فيهم المؤمن الصادق في إيمانه، والكاذب فيه وهو المنافق. بل لا بد من الابتلاء بالتكاليف الشاقة منها كالجهاد والهجرة والصلاة والزكاة، وغير الشاقة من سائر العبادات حتى يميز المؤمن الصادق وهو الطيب الروح، من المؤمن الكاذب وهو المنافق الخبيث الروح، قال تعالى: { ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } وذلك أن الله لم يكن من سنته في خلقه أن يطلعهم على الغيب فيميز المؤمن من المنافق، والبار من الفاجر، وإنما يبتلى بالتكاليف ويظهر بها المؤمن من الكافر والصالح من الفاسد. إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء فيطلعه على الغيب، ويظهره على مواطن الأمور وبناء على هذا فآمنوا بالله ورسوله حق الإيمان، فإنكم إن آمنتم صادق الإيمان واتقيتم معاصي الرحمان كان لكم بذلك أعظم الأجور وهو الجنة دار الحبور والسرور هذا ما دلت عليه الآية [179] أما الآية الثانية [180] فإن الله تعالى يخبر عن خطا البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به فيقول: ولا يحسبن أي ولا يظنن الذين يبخلون بما آتاهم الله من المال الذي تفضل الله به عليهم أن بخلهم به خير لأنفسهم كما يظنون بل هو أي البخل شر لهم، وذلك لسببين الأولى ما يلحقهم في الدنيا من معرة البخل وآثاره السيئة على النفس، والثاني أن الله تعالى سيعذبهم به بحيث يجعله طوقا من نار في أعناقهم، أوبصورة ثعبان فيطوقهم، ويقول لصاحبه: " أنا مالك أنا كنزك " كما جاء في الحديث. فعلى من يظن هذا الظن الباطل أن يعدل عنه، ويعلم أن الخير في الإنفاق لا في البخل. وأن ما يبخل به هو مال الله، وسيرثه، ولم يجن البخلاء إلا المعرة في الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى: { ولله ميراث السموت والأرض والله بما تعملون خبير } ، فاتقوه فيما آتاكم فآتوا زكاته وتطوعوا بالفضل فإن ذلك خير لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- من حكم التكليف إظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب.
2- استئثار الرب تعالى بعلم الغيب دون خلقه إلا ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك.
3- ثمن الجنة الإيمان والتقوى.
4- البخل بالمال شر لصاحبه، وليس بخير له كما يظن البخلاء.
5- من أوتي مالا ومنع حق الله فيه عذب به يوم القيامة دلت على ذلك هذه الآية وآية التوبة وحديث البخاري:
" من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه - أي شدقيه - يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا الآية { ولا يحسبن الذين... } الآية ".
[3.181-184]
شرح الكلمات:
عذاب الحريق: هو عذاب النار المحرقة تحرق أجسادهم.
ذلك بما قدمت أيديهم: أي ذلك العذاب بسبب ما قدمته أيديكم من الجرائم.
عهد إلينا: أمرنا ووصانا في كتابنا (التوراة).
أن لا نؤمن لرسول: أي لا نتابعه، على ما جاء به ولا نصدقه في نبوته.
بقربان تأكله النار: القربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى من حيوان وغيره يوضع في مكان فتنزل عليه نار بيضاء من السماء فتحرقه.
البينات: الآيات والمعجزات.
وبالذي قلتم: أي من القربان.
فلم قتلتموهم: الاستفهام للتوبيخ، وممن قتلوا من الأنبياء زكريا ويحيى عليهما السلام.
الزبر: جمع زبور وهو الكتاب كصحف إبراهيم.
الكتاب المنير: الواضح البين كالتوراة والزبور والإنجيل.
معنى الآيات:
لما نزل قول الله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون
[البقرة: 245، الحديد: 11] ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت (المدراس) واليهود به وهم يستمعون لأكبر علمائهم وأجل أحبارهم فنحاص فدعاه أبو بكر إلى الإسلام. فقال فنحاص: إن ربا يستقرض نحن أغنى منه! ينهانا صاحبك عن الربا ويقبله فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب اليهودي فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا أبا بكر فسأل الرسول أبا بكر قائلا: " ما حملك على ما صنعت "؟ فقال إنه قال: إن الله فقير ونحن أغنياء فأنكر اليهودي فأنزل الله تعالى الآية { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق } ، أي نكتبه أيضا، ونقول لهم: { ذوقوا عذاب الحريق } ، وقولنا ذلك بسبب ما قدمته أيديكم من الشر والفساد، وأن الله ليس بظلام للعبيد، فلم يكن جزاؤكم مجافيا للعدل ولا مباعدا له أبدا لتنزه الرب تعالى عن الظلم لعباده هذا ما تضمنته الآية الأولى [181] { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق } والآية الثانية [182] { ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد } وأما الآية الثالثة [183] وهي قوله تعالى: { الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جآءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين }؟ فقد تضمنت دعوى يهودية كاذبة باطلة لا صحة لها البتة، والرد عليها فالدعوى هي قولهم إن الله قد أمرنا موصيا لنا أن لا نؤمن لرسول فنصدقه ونتابعه على ما جاء به، حتى يأتينا بقربان تأكله النار، يريدون صدقة من حيوان أو غيره توضع أمامهم فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها فذلك آية نبوته، وأنت يا محمد ما اتيتنا بذلك فلا نؤمن بك ولا نتابعك على دينك، وأما الرد فهو قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا رسولنا: { قد جآءكم رسل من قبلي بالبينات } وهي المعجزات، { وبالذي قلتم } وهو قربان تأكله النار فلم قتلتموهم، إذ قتلوا زكريا ويحيى وحاولوا قتل عيسى، إن كنتم صادقين في دعواكم؟ وأما الآية الرابعة [184] فإنها تحمل العزاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول له ربه تعالى: { فإن كذبوك } فلم يؤمنوا بك، فلا تحزن ولا تأسى لأنك لست وحدك الذي كذبت، فقد كذبت رسل كثر كرام، جاءوا أقوامهم بالبينات أي المعجزات، وبالزبر، والكتاب المنير كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وكذبتهم أممهم كما كذبك هؤلاء اليهود والمشركون معهم فاصبر ولا تحزن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كفر اليهود وسوء أدبهم مع الله تعالى ومع أنبيائهم ومع الناس أجمعين.
2- تقرير جريمة قتل اليهود للأنبياء وهي من أبشع الجرائم.
3- بيان كذب اليهود في دعواهم أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا بالرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار.
4- تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات أمام ترهات اليهود وأباطيلهم.
[3.185-186]
شرح الكلمات:
ذائقة الموت: أي ذائقة موت جسدها أما هي فإنها لا تموت.
توفون: تعطون جزاء أعمالكم خيرا أو شرا وافية لا نقص فيها.
زحزح: نجي وأبعد.
فاز: نجا من مرهوبه وهو النار، وظفر بمرغوبه وهو الجنة.
متاع الغرور: المتاع كل ما يستمتع به، والغرور: الخداع، فشبهت الدنيا بمتاع خادع غار صاحبه، لا يلبث أن يضمحل ويذهب.
لتبلون في أموالكم وأنفسكم: لتختبرن في أموالكم بأداء الحقوق الواجبة فيها، أو بذهابها وأنفسكم بالتكاليف الشاقة كالجهاد والحج، أو المرض والموت .
أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى.
الذين أشركوا: العرب.
فإن ذلك من عزم الأمور: يريد أن الصبر والتقوى من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليس فيها رخص ولا ترخيص بحال من الأحوال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لقد جاء في الآية السابقة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له، وفي هذه الآية أعظم تسلية وعزاء، إذا أخبر تعالى فيها بأن كل نفس مهما علت أو سفلت ذائقة الموت لا محالة، وإن الدنيا ليست دار جزاء وإنما هي دار كسب وعمل، ولذا قد يجرم فيها المجرمون ويظلم الظالمون، ولا ينالهم مكروه، وقد يحسن فيها المحسنون ويصلح المصلحون ولا ينالهم محبوب، وفي هذا تسلية عظيمة وأخرى: العلم بأن الحياة الدنيا بكل ما فيها لا تعدو كونها متاع الغرور، أي متاع زائل غار ببهرجه، وجمال منظره، ثم لا يلبث أن يذهب ويزول. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [185] أما الآية الثانية [186] ففيها يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم لا محالة مختبرون في أموالهم وفي أنفسهم في أموالهم بالحوائج، وبالواجبات، وفي أنفسهم بالمرض والموت والتكاليف الشاقة كالجهاد والحج والصيام، وأنهم لا بد وأن يسمعوا من أهل الكتاب والمشركين أذى كبيرا كما قال فنحاص: الله فقير ونحن أغنياء أو كما قال النصارى: المسيح ابن الله، وكما قال المشركون: اللات والعزى ومناة آلهة مع الله ثم حثهم تعالى على الصبر والتقوى فقال وإن تصبروا وتتقوا فإن صبركم وتقواكم مما أوجب الله تعالى عليكم وليس هو من باب الندب والاستحباب بل هو من باب الفرض والوجوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ليست الدار الدنيا بدار جزاء وإنما هي دار عمل.
2- تعريف الفوز الحق وهو الزحزحة عن النار ودخول الجنة.
3- بيان حقيقة هذه الحياة وأنها كمتاع خادع لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل.
4- الابتلاء ضروري فيجب الصبر والتقوى فإنها من عزائم الأمور لا من رخصها.
[3.187-189]
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى.
الكتمان: إخفاء الشيء وجحوده حتى لا يرى ولا يعلم.
فنبذوه وراء ظهورهم: ألقوه وطرحوه ولم يلتفتوا إليه وهو ما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الإسلام.
واشتروا به ثمنا قليلا: اعتاضوا عنه حطام الدنيا ومتاعها الزائل إذ كتموه، ابقاء على منافعهم الدنيوية.
ان يحمدوا بما لم يفعلوا: أي يثنى عليه ويذكروا بخير وهم لم يفعلوا ما يوجب لهم ذلك.
بمفازة من العذاب: بمنجاة من العذاب في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في اليهود فيقول تعالى لنبيه، واذكر لهم إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى أخذ على علمائهم العهد المؤكد بأن يبينوا للناس نعوت النبي صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وأن يؤمنوا به ويتابعوه على ما جاء به من الهدى ودين الحق وهو الإسلام، ولكنهم كتموه ونبذوه وراء ظهورهم فلم يلتفتوا إليه واستبدلوا بذلك ثمنا قليلا وهو الجاه والمنصب والمال قال تعالى: { واشتروا به ثمنا قليلا } وذم الله تعالى ذلك الثمن القليل فقال فبئس ما يشترون هذا ما تضمنته الآية الأولى [187] وأما الآية الثانية [188] { لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم } فإن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم لا تحسبن يا رسولنا الذين يفرحون بما أتوا من الشر والفساد بتحريف كلامنا وتبديل أوامرنا وتغيير شرائعنا وهم مع ذلك يحبون أن يحمدهم الناس أي يشكروهم ويثنوا عليهم، ما لم يفعلوا من الخير والإصلاح إذ عملهم كان العكس وهو الشر والفساد فهؤلاء من اليهود ولا تحسبنهم بمفازة أي بمنجاة من العذاب، ولهم عذاب أليم يوم القيامة. وأما الآية الثالثة [189] فقد أخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض، وأنه على كل شيء قدير فدلل بذلك على قدرته على البطش بالقوم والانتقام منهم، وإنه منجز وعيده لهم وهو عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة فقال: { ولله ملك السموت والأرض والله على كل شيء قدير }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أخذ الله الميثاق على علماء أهل الكتاب ببيان الحق يتناول علماء الإسلام فإن عليهم أن يبثوا الحق ويجهروا به، ويحرم عليهم كتمانه أو تأويله إرضاء للناس ليحوزوا على مكسب دنيوي مالا أو جاها أو سلطانا.
2- لا يجوز للمسلم أن يحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والمعروف، بل من الكمال أن لا يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن يحمد. بل بمن يفعل الشر والفساد ويحب أن يحمد عليه بالتصفيق له وكلمة يحيى فلان....
3- ملك الله تعالى لكل شيء وقدرته على كل شيء توجب الخوف منه والرغبة إليه وأكثر الناس عن هذا غافلون، وبه جاهلون.
[3.190-195]
شرح الكلمات:
في خلق السماوات والأرض: أي في وجودهما من العدم.
واختلاف الليل والنهار: تعاقبهما هذا يجيء وذاك يذهب، هذا مظلم وذاك مضيء.
لآيات: دلائل واضحة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
لأولي الألباب: أصحاب العقول التي تدرك بها الأشياء وتفهم بها الأدلة.
ربنا: يقولون: ربنا الخ..
باطلا: لا لشيء مقصود منه، وإنما هو من باب اللعب.
سبحانك: تنزيها لك عن العبث واللعب، وعن الشريك والولد.
فقنا عذاب النار: أجرنا واحفظنا من عذاب النار بتوفيقك لنا للأعمال الصالحة وتجنيبنا الأعمال الفاسدة الموجبة لعذاب النار.
أخزيته: أذللته وأشقيته.
كفر عنا: استر وامح.
الأبرار: جمع بر أو بار وهم المتمسكون بالشريعة.
على رسلك: على ألسنة رسلك من النصر والتأييد.
الميعاد: الوعد.
هاجروا: تركوا بلادهم وديارهم وأموالهم وأهليهم فرارا بدينهم.
أوذوا في سبيلي: آذاهم المشركون من أجل الإيمان بي ورسولي وطاعتنا.
ثوابا من عند الله: أي أجرا جزاء كائنا من عند الله، وهو الجنات بعد تكفير السيئات.
معنى الآيات:
لما قال اليهود تلك المقالة السيئة: إن الله تعالى فقير ونحن أغنياء، وحرفوا الكتاب وبدلوا وغيروا ويحبون أن يحمدوا على باطلهم كانت مواقفهم هذه دالة على عمى في بصائرهم، وضلال في عقولهم، فذكر تعالى من الآيات الكونية ما يدل على غناه، وافتقار عباده إليه، كما يدل على ربوبيته على خلقه، وتدبيره لحياتهم وتصرفه في أمورهم، وإنه ربهم لا رب لهم غيره وإلههم الذي لا إله لهم سواه إلا أن هذا لا يدركه إلا أرباب العقول الحصيفة والبصائر النيرة فقال تعالى: { إن في خلق السموت والأرض واختلاف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب } نعم إن في إيجاد السماوات والأرض من العدم وفي اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر والظلام والضياء، والتعاقب بذهاب هذا ومجيء ذاك دلائل واضحات على غنى الله وافتقار عباده وبراهين ساطعة على ربوبيته لخلقه. وألوهيته لهم. هذا ما تضمنته الآية الأولى [190] وأما الآيات الأربع بعدها فقد تضمنت وصفا لأولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض فيهتدون إلى معرفة الرب تعالى فيذكرونه ويشكرونه. فقال تعالى عنهم: { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } وهذا شامل لحالهم فى الصلاة وخارج الصلاة. وقال عنهم: { ويتفكرون في خلق السموت والأرض } ، أي في إيجادهما وتكوينهما وإبداعهما، وعظيم خلقهما، وما أودع فيهما من مخلوقات. فلا يلبثون أن يقولوا: { ربنآ ما خلقت هذا باطلا } أي لا لحكمة مقصودة ولا لهدف مطلوب، بل خلقته بالحق وحاشاك أن تكون من اللاعبين العابثين سبحانك تنزيها لك عن العبث واللعب بل خلقت ما خلقت لحكم عالية خلقته لأجل أن تذكر وتشكر، فتكرم الشاكرين الذاكرين، في دار كرامتك وتهين الكافرين في دار عذابك، ولذا قالوا: في الآية [192] { ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار }.
والظالمون هم الكافرون. ولذا يعدمون النصير ويخزون بالعذاب المهين، وقال عنهم في الآية [193] { ربنآ إننآ سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا } ، والمنادى هو القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم وتوسلوا بإيمانهم لربهم طالبين أشرف المطالب وأسماها مغفرة ذنوبهم ووفاتهم مع الأبرار فقالوا { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار } وهو ما جاء في الآية [193] وأما الآية الخامسة [194] فقد سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على ألسنة رسله من النصر والتمكين في الأرض، هذا في الدنيا، وأن لا يخزيهم يوم القيامة بتعذيبهم في النار، فقالوا: { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } ، أي وعدك الحق وفي الآية السادسة [195] ذكر تعالى استجابته لهم فقال لهم: { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } بل أجازي الكل بعمله لا أنقصه له ذكرا كان أو أنثى لأن بعضكم من بعض الذكر من الأنثى والأنثى من الذ1كر فلا معنى للتفرقة بينكم، وذكر تعالى بعض أعمالهم الصالحة التي استوجبوا بها هذا الإنعام فقال: { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديرهم وأوذوا في سبيلي وقتلوا وقتلوا } ، وواعدهم قائلا: { لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنت تجري من تحتها الأنهر } ، وكان ذلك ثوابا منه تعالى على أعمالهم الصالحة، والله عنده حسن الثواب، فليرغب إليه، وليطمع فيه، فإنه البر الرحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب التفكر في خلق السماوات والأرض للحصول على المزيد من الإيمان والإيقان.
2- استحباب تلاوة هذه الآيات: إن في خلق السماوات الى آخر السورة وذلك عند القيام للتهجد آخر الليل لثبوت ذلك في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم.
3- استحباب ذكر الله في كل حال من قيام أو قعود أو اضطجاع.
4- استحباب التعوذ من النار بل وجوبه ولو مرة فى العمر.
5- مشروعية التوسل الى الله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.
6- فضل الهجرة والجهاد في سبيل الله.
7- المساواة بين المؤمنين والمؤمنات في العمل والجزاء.
8- استحباب الوفاة بين الأبرار وهم أهل الطاعة لله ولرسوله والصدق فيها وذلك بالحياة معهم والعيش بينهم لتكون الوفاة بإذن الله معهم.
[3.196-200]
شرح الكلمات:
لا يغرنك: لا يكن منك اغترار، المخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أصحابه وأتباعه.
تقلب الذين كفروا في البلاد: تصرفهم فيها بالتجارة والزراعة والأموال والمآكل والمشارب.
متاع قليل: تصرفهم ذلك هو متاع قليل يتمتعون به أعواما وينتهي.
مأواهم جهنم: مآلهم بعد التمتع القليل إلى جهنم يأوون إليها فيخلدون فيها أبدا.
نزلا من عند الله: النزل: ما يعد للضيف من قرى: طعام وشراب وفراش.
الأبرار: جمع بار وهو المطيع لله ولرسوله الصادق في طاعته.
وما أنزل إليكم: القرآن والسنة، وما أنزل إليهم التوراة والإنجيل.
خاشعين لله: مطيعين مخبتين له عز وجل.
لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا: لا يجحدون أحكام الله وما أمر ببيانه للناس مقابل منافع تحصل لهم.
اصبروا وصابروا: الصبر حبس النفس على طاعة الله ورسوله، والمصابرة: الثبات والصمود أمام العدو.
ورابطوا: المرابطة: لزوم الثغور منعا للعدو من التسرب إلى ديار المسلمين.
تفلحون: تفوزون بالظفر المرغوب، والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة.
معنى الآيات:
ينهى الله تبارك وتعالى دعاة الحق من هذه الأمة في شخصية نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يغرهم أي يخدعهم ما يتصرف فيه أهل الكفر والشرك والفساد من مكاسب وأرباح وما يتمعون به من مطاعم ومشارب ومراكب، فيظنون أنهم على هدى أو أن الله تعالى راض عنهم وغير ساخط عليهم، لا، لا، إنما هو متاع في الدنيا قليل، ثم يردون إلى أسوأ مأوى وشر قرار إنه جهنم التي طالما مهدوا لدخولها بالشرك والمعاصي، وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم الخلود في جهنم. هذا معنى الآيتين الأولى والثانية وهما قوله تعالى: { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } ، أما الآية الثالثة [198]، وهي قوله تعالى: { لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار } فإنها قد تضمنت استدراكا حسنا وهو لما ذكر في الآية قبلها مآل الكافرين وهو شر مآل جهنم وبئس المهاد، ذكر في هذه الآية مآل المؤمنين وهو خير مآل: { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله } ، وما عند الله تعالى من النعيم المقيم في دار السلام خير لأهل الإيمان والتقوى من الدنيا وما فيها فلا يضرهم أن يكونوا فقراء، معسرين، وأهل الكفر أغنياء موسرين أما الآية الرابعة [199] وهي قوله تعالى: { وإن من أهل الكتب لمن يؤمن بالله } الآية فإنها تضمنت الرد الإلهي على بعض المنافقين الذين أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين صلاتهم على النجاشي بعد موته، إذ قال بعضهم انظروا الى محمد وأصحابه يصلون على علج مات في غير ديارهم وعلى غير ملتهم، وهم يريدون بهذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فرد الله تعالى عليهم بقوله: وإن من أهل الكتاب أي اليهود والنصارى لمن يؤمن بالله، وما أنزل إليكم أيها المؤمنون، وما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل خاشعين لله، أي خاضعين له عابدين، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا كسائر اليهود والنصارى حيث يحرفون كلام الله ويبدلونه ويخفون منه ما يجب أن يظهروه ويبينوه حفاظا على منصب أو سمعة أو منفعة مادية، أما هؤلاء وهم عبد الله بن سلام من اليهود وأصحمة النجاشي من النصارى، وكل من أسلم من أهل الكتاب فإنهم المؤمنون حقا المستحقون للتكريم والإنعام قال تعالى فيهم أولئك لهم أجرهم عند ربهم يوفيهم إياه يوم القيامة إن الله سريع الحساب، إذ يتم حساب الخلائق كلهم في مثل نصف يوم من أيام الدنيا.
هذا ما تضمنته الآية الرابعة [199] أما الآية الخامسة والأخيرة [200] وهي قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } فإنها تضمنت دعوة كريمة ونصيحة غالية ثمينة للأمة الرحيمة بأن تصبر على الطاعات وعلى الشدائد والملمات فتصابر اعداءها حتى يستلموا أو يسلموا القياد لها. وترابط بخيولها وآلات حربها في حدودها وثغورها مرهبة عدوها حتى لا يطمع في غزوها ودخول ديارها. ولتتق الله تقوى تكون سببا في فوزها وفلاحها بهذه الرحمة الربانية ختمت سورة آل عمران المباركة ذات الحكم والأحكام وتليها سورة النساء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تنبيه المؤمنين وتحذيرهم من الاغترار بما يكون عليه الكافرون من سعة الرزق وهناءة العيش فإن ذلك لم يكن عن رضى الله تعالى عنهم، وإنما هو متاع في الدنيا حصل لهم بحسب سنة الله تعالى في الكسب والعمل ينتج لصاحبه بحسب كده وحسن تصرفه.
2- ما أعد لأهل الإيمان والتقوى وهم الأبرار من نعيم مقيم في جوار ربهم خير من الدنيا وما فيها .
3- شرف مؤمني أهل الكتاب وبشارة القرآن لهم بالجنة وعلى رأسهم عبد الله بن سلام وأصحمة النجاشي.
4- وجوب الصبر والمصابرة والتقوى والمرابطة للحصول على الفلاح الذي هو الفوز المرغوب والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة.
[4 - سورة النساء]
[4.1]
شرح الكلمات:
الناس: البشر، واحد الناس من غير لفظه وهو إنسان.
اتقوا ربكم: خافوه أن يعذبكم فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه.
من نفس واحدة: هي آدم عليه السلام.
وخلق منها زوجها: خلق حواء من آدم من ضلعه.
وبث: نشر وفرق في الأرض من آدم وزوجه رجالا ونساء كثرا.
تساءلون به: كقول الرجل لأخيه أسألك بالله أن تفعل لي كذا.
والأرحام: الأرحام جمع رحم، والمراد من اتقاء الأرحام صلتها وعدم قطعها.
رقيبا: الرقيب: الحفيظ العليم.
معنى الآية الكريمة:
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده بلفظ عام يشمل مؤمنهم وكافرهم: يا أيها الناس ويأمرهم بتقواه عز وجل وهي اتقاء عذابه في الدنيا والآخرة بالإسلام التام إليه ظاهرا وباطنا. واصفا نفسه تعالى بأنه ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة وهي آدم الذي خلقه من طين، وخلق من تلك النفس زوجها وهي حواء، وأنه تعالى بث منهما أي نشر منهما في الأرض رجالا كثيرا ونساء كذلك ثم كرر الأمر بالتقوى إذ هي ملاك الأمر فلا كمال ولا سعادة بدون الالتزام بها قائلا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، أي اتقوا الله ربكم الذي آمنت به قلوبكم فكنتم إذا أراد أحدكم من أخيه شيئا قال له أسألك بالله إلا أعطيتنى كذا.. واتقوا الأرحام أن تقطعوها فإن في قطعها فسادا كبيرا وخللا عظيما يصيب حياتكم فيفسدها عليكم، وتوعدهم تعالى إن لم يمتثلوا أمره بتقواه ولم يصلوا أرحامهم بقوله إن الله كان عليكم رقيبا مراعيا لأعمالكم محصيا لها حافظا يجزيكم بها ألا أيها الناس فاتقوه.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- فضل هذه الآية إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ خطب في حاجة تلا آية آل عمران
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
[الآية : 102]. وتلا هذه الآية، ثم آية الأحزاب
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما
[الآية: 70-71] ثم يقول أما بعد ويذكر حاجته.
2- أهمية الأمر بتقوى الله تعالى اذ كررت في آية واحدة مرتين في أولها وفي آخرها.
3- وجوب صلة الأرحام وحرمة قطعها.
4- مراعاة الأخوة البشرية بين الناس واعتبارها في المعاملات.
[4.2-4]
شرح الكلمات:
اليتامى: جمع يتيم ذكرا كان أو أنثى وهو من مات والده وهو غير بالغ الحلم.
ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب: الخبيث الحرام والطيب الحلال والمراد بها هنا الرديء والجيد.
حوبا كبيرا: الحوب الإثم الكبير العظيم.
أن لا تقسطوا: أن لا تعدلوا.
مثنى وثلاث ورباع: أي اثنتين أو ثلاث، أو أربع إذا لا تحل الزيادة على الأربع.
أدنى أن لا تعولوا: أقرب أن لا تجوروا بترك العدل بين الزوجات.
صدقاتهن نحلة: جمع صدقة وهي الصداق والمهر، ونحلة بمعنى فريضة واجبة.
هنيئا: الهنيء: ما يستلذ به عند أكله.
مريئا: المريء: ما تحسن عاقبته بأن لا يعقب آثارا سيئة.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى بصلة الأرحام وحرم قطعها في الآية السابقة أمر في هذه الآية أوصياء اليتامى أن يعطوا اليتامى أموالهم إذا هم بلغوا سن الرشد وآنسوا منهم الرشد فقال تعالى وآتوا اليتامى أموالهم. ونهاهم محرما عليهم أن يستبدلوا أموال اليتامى الجيدة بأموالهم الرديئة فقال تعالى: ولا تتبدلوا الخبيث أي الرديء من أموالكم بالطيب من أموالهم، لما في ذلك من أذية اليتيم في ماله، ونهاهم أيضا أن يأكلوا أمول يتاماهم مخلوطة مع أموالهم لما في ذلك من أكل مال اليتيم بغير حق فقال تعالى: ولا تأكلوا أمولهم إلى أموالكم، وعلل ذلك بأنه إثم عظيم فقال عز وجل: إنه - أي الأكل - كان حوبا كبيرا. والحوب الإثم. هذا معنى الآية الأولى [2] { وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا } وأما الآية الثانية [3] فقد أرشد الله تعالى أولياء اليتيمات إن هم خافوا أن لا يعدلوا معهن إذا تزوج أحدهم وليته أرشدهم إلى أن يتزوجوا ما طالب لهم من النساء غير ولياتهم مثنى، وثلاث ورباع، يريد اثنتين اثنتين أو ثلاث ثلاث أو أربع أربع كل بحسب قدرته، فهذا خير من الزواج بالولية فيهضم حقها وحقها آكد لقرابتها. هذا معنى قوله تعالى: { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النسآء مثنى وثلث وربع }. وقوله { فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة أو ما ملكت أيمنكم } يريد تعالى وإن خاف المؤمن ألا يعدل بين زوجاته لضعفه فليكتف بواحدة ولا يزد عليها غيرها أو يتسرى بمملوكته إن كان له مملوكة فإن هذا أقرب إلى أن لا يجوز المؤمن ويظلم نساءه. هذا معنى قوله تعالى { فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة أو ما ملكت أيمنكم ذلك أدنى ألا تعولوا }. وفي الآية الثالثة والأخيرة يأمر تعالى المؤمنين بأن يعطوا النساء مهورهن فريضة منه تعالى فرضها على الرجل لامرأته، فلا يحل له ولا لغيره أن يأخذ منها شيئا إلا برضى الزوجة فإن هي رضيت فلا حرج في الأكل من الصداق لقوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كل مال حرام فهو خبيث وكل حلال فهو طيب.
2- لا يحل للرجل أن يستبدل جيدا من مال يتيمه بمال رديء من ماله كأن يأخذ شاة سمينة ويعطيه هزيلة أو يأخذ تمرا جيدا ويعطيه رديئا خسيسا.
3- لا يحل خلط مال اليتيم مع مال الوصي ويؤكلان جميعا لما في ذلك من أكل مال اليتيم ظلما.
4- جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع مع الأمن من الحيف والجور.
5- وجوب مهور النساء وحرمة الأكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر وسواء في ذلك الزوج وهو المقصود في الآية أو الأب والأقارب.
[4.5-6]
شرح الكلمات:
لا تؤتوا: لا تعطوا.
السفهاء: جمع سفيه وهو من لا يحسن التصرف في المال.
قياما: القيام: ما يقوم به الشيء فالأموال جعلها الله تعالى قياما أي تقوم عليها معايش الناس ومصالحهم الدنيوية والدينية أيضا .
قولا معروفا: أي قولا تطيب به نفسه فلا يغضب ولا يحزن.
وابتلوا اليتامى: أي اختبروهم كي تعرفوا هل أصبحوا يحسنون التصرف في المال.
بلغوا النكاح: أي سن الزواج وهي البلوغ.
آنستم: أبصرتم الرشد في تصرفاتهم.
إسرافا وبدارا: الإسراف الإنفاق في غير الحاجة الضرورية، والبدار: المبادرة والمسارعة إلى الأكل منه قبل أن ينقل إلى اليتيم بعد رشده.
فليستعفف: أي يعف بمعنى يكف عن الأكل من مال يتيمه.
فليأكل بالمعروف: أي بقدر الحاجة الضرورية.
وكفى بالله حسيبا: شاهدا لقرينه فأشهدوا عليهم.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في إرشاد الله تعالى عباده المؤمنين إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا، ونجاتهم وفلاحهم في الآخرة فقال تعالى في الآية الأولى [5]، ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها وأكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا، فنهاهم تعالى أن يعطوا أموالهم التي هي قوام معاشهم السفهاء من امرأة وولد أو رجل قام به وصف السفه وهو قلة البصيرة بالأمور المالية، والجهل بطرق التصرف الناجحة مخافة أن ينفقوها في غير وجوهها أو يفسدوها بأي نوع من الإفساد، كالإسراف ونحوه، وأمرهم أن يرزقوهم فيها ويكسوهم، وقال فيها ولم يقل منها إشارة إلى أن المال ينبغي أن ينمى في تجارة أو صناعة أو زراعة فيبقى رأس المال والأكل يكون من الربح فقط كما أمرهم أن يقولوا لسفائهم الذين منعوهم المال أن يقولوا لهم قولا معروفا كالعدة الحسنة والكلمة الطيبة، هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الثانية [6] فقد أمرهم تعالى باختبار اليتامى إذا بلغوا سن الرشد أو ناهزوا البلوغ بأن يعطوهم شيئا من المال ويطلبوا منهم أن يبيعوا أو يشتروا فإذا وجدوا منهم حسن تصرف دفعوا إليهم أموالهم وأشهدوا عليهم، حتى لا يقول أحدهم في يوم من الأيام ما أعطيتني مالي، وكفى بالله حسيبا أي شاهدا ورقيبا حفيظا. ونهاهم عز وجل أن يأكلوا أموال اليتامى إسرافا وبدارا أن يكبروا ويريد لا تأكلوا أموال يتاماكم أيها الولاة والأوصياء بطريق الإسراف وهو الإنفاق الزائد على قدر الحاجة، والمبادرة هي المسارعة قبل أن يرشد السفية وينقل إليه المال. ثم أرشدهم إلى أقوم الطرق وأسدها في ذلك فقال ومن كان منكم غنيا فليكف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئا، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وذلك بأن يستقرض منه ثم يرده إليه بعد الميسرة، وإن كان الولي فقيرا جاز له أن يعمل بأجر كسائر العمال، وإن كان غنيا فليعمل مجانا احتسابا وأجره على الله والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- مشروعية الحجر على السفيه لمصلحته.
2- استحباب تنمية الأموال في الأوجة الحلال لقرينة { وارزقوهم فيها }.
3- وجوب اختبار السفيه قبل دفع ماله إليه، إذ لا يدفع إليه المال إلا بعد وجود الرشد.
4- وجوب الإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه ورشده.
5- حرمة أكل مال اليتيم والسفية مطلقا.
6- الوالي على اليتيم إن كان غنيا فلا يأكل من مال اليتيم شيئا، وإن كان فقيرا استقرض ورد عند الوجد واليسار، وإن كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للولي أن يعمل بأجرة المثل.
[4.7-10]
شرح الكلمات:
نصيب: الحظ المقدر في كتاب الله.
الوالدان: الأب والأم.
الأقربون: جمع قريب وهو هنا الوارث بسب أو مصاهرة أو ولاء.
نصيبا مفروضا: قدرا واجبا لازما.
أولوا القربى: أصحاب القرابات الذين لا يرثون لبعدهم عن عمودي النسب.
فارزقوهم منه: أعطوهم شيئا يرزقونه.
قولا معروفا: لا إهانة فيه ولا عتاب، ولا تأفيف.
الخشية: الخوف في موضع الأمن.
قولا سديدا: عدلا صائبا.
ظلما: بغير حق يخول له أكل مال اليتيم.
وسيصلون سعيرا: سيدخلون سعيرا نارا مستعرة يشوون فيها ويحرقون بها.
معنى الآيات:
لقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال بحجة أن الطفل كالمرأة لا تركب فرسا ولا تحمل كلا ولا تنكى عدوا، يكسب ولا تكسب، وحدث أن امرأة يقال لها أم كحة مات زوجها وترك لها بنتين فمنعهما أخو الهالك من الإرث فشكت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية الكريمة: { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } ومن ثم أصبحت المرأة كالطفل الصغير يرثان كالرجال، وقوله تعالى: ما قل منه أي من المال المتروك أو كثر حال كون ذلك نصيبا مفروضا لا بد من إعطائه الوارث ذكرا كان أو أنثى صغيرا أو كبيرا. والمراد من الوالدين الأب والأم، والأقربون كالأبناء والإخوان والبنات والأخوات، والزوج والزوجات هذا ما تضمنته الآية الأولى [7] وأما الآية الثانية [8] فقد تضمنت فضيلة جميلة غفل عنها المؤمنون وهي أن من البر والصلة والمعروف إذا هلك هالك، وقدمت تركته للقسمة بين الورثة، وحضر قريب غير وارث لحجبه أو بعده أو حضر يتيم أو مسكين من المعروف أن يعطوا شيئا من تلك التركة قبل قسمتها وإن تعذر العطاء لأن الورثة يتامى أو غير عقلاء يصرف أولئك الراغبون من قريب ويتيم ومسكين بكلمة طيبة كإعتذار جميل تطيب به نفوسهم هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى: { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } - أي من المال - المتروك وقولوا لهم قولا معروفا إن تعذر إعطاؤهم لمانع يتم أو عقل. أما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا } فقد تضمنت إرشاد الله تعالى للمؤمن الذي يحضر مريضا على فراش الموت بأن لا يسمح له أن يحيف في الوصية بأن يوصي لوارث أو يوصي بأكثر من الثلث أو يذكر دينا ليس عليه وإنما يريد حرمان الورثة. فقال تعالى آمرا عباده المؤمنين وليخش الذين لو تركوا من خلفهم أي من بعد موتهم، ذرية ضعافا خافوا عليهم. أي فليخشوا هذه الحال على أولاد غيرهم ممن حضروا وفاته.
كما يخشونها على أولادهم. إذا فعليهم أن يتقوا الله في أولاد غيرهم. وليقولوا لمن حضروا وفاته ووصيته قولا سديدا: صائبا لا حيف فيه ولا جور معه. هذا ما تضمنته الآية الثالثة [9] أما الآية الرابعة [10] فقد تضمنت وعيدا شديدا لمن يأكل مال اليتيم ظلما إذ قال تعالى فيها: { إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } والمراد من الظلم أنهم أكلوها بغير حق أباح لهم ذلك كأجرة عمل ونحوه، ومعنى يأكلون في بطونهم نارا أنهم يأكلون النار يوم القيامة فقوله إنما يأكلون في بطونهم نارا هو باعتبار ما يؤول إليه أمر أكلهم اليوم، والعياذ بالله من نار السعير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ التوارث في الإسلام.
2- استحباب إعطاء من حضر قسمة التركة من قريب أو يتيم ومسكين وإن تعذر إعطاؤهم صرفوا بالكلمة الطيبة، وفي الحديث الكلمة الطيبة صدقة.
3- وجوب النصح والإرشاد للمحتضر حتى لا يجور في وصيته عند موته.
4-على من يخاف على أطفاله بعد موته أن يحسن إلى أطفال غيره فإن الله تعالى يكفيه فيهم.
5- حرمة أكل مال اليتامى ظلما، والوعيد الشديد فيه.
[4.11]
شرح الكلمات:
يوصيكم: يعهد إليكم.
في أولادكم: في شأن أولادكم والولد يطلق على الذكر والأنثى.
حظ: الحظ الحصة أو النصيب.
نساء: بنات كبيرات أو صغيرات.
ثلثا ما ترك: الثلث واحد من ثلاثة، والثلثان اثنان من ثلاثة.
السدس: واحد من ستة.
إن كان له ولد: ذكرا كان أو أنثى، أو كان له ولد ولد أيضا ذكرا أو أنثى فالحكم واحد.
فإن كان له إخوة: اثنان فأكثر.
من بعد وصية: أي يخرج الدين ثم الوصية ويقسم الباقي على الورثة.
لا تدرون: لا تعملون.
فريضة: فرض الله ذلك عليكم فريضة.
عليما حكيما: عليما بخلقه وما يصلح لهم، حكيما في تصرفه في شؤون خلقه وتدبيره لهم.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية الكريمة [11] { يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين } الخ والتي بعدها [12] وهي قوله تعالى { ولكم نصف ما ترك أزوجكم } إلخ نزلت لتفصيل حكم الآية [7] والتي تضمنت شرعية التوارث بين الأقارب المسلمين، فالآية الأولى [11] يسن تعالى فيها توارث الأبناء مع الآباء فقال تعالى { يوصيكم الله في أولدكم } أي في شأن أولادكم { للذكر مثل حظ الأنثيين } يريد إذا مات الرجل وترك أولادا ذكورا وإناثا فإن التركة تقسم على أساس أن للذكر مثل نصيب الأنثيين فلو ترك ولدا وبنتا وثلاثة دنانير فإن الولد يأخذ دينارين والبنت تأخذ دينارا وإن ترك بنات اثنتين أو أكثر ولم يترك معهن ذكرا فإن للبنتين فأكثر الثلثين والباقي للعصبة إذ قال تعالى { فإن كن نسآء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك }. وإن ترك بنتا واحدة فإن لها النصف والباقي للعصبة وهو معنى قوله تعالى { وإن كانت واحدة فلها النصف } ، وإن كان الميت قد ترك أبويه أي أمه وأباه وترك أولادا ذكورا أو إناثا فإن لكل واحد من أبويه السدس والباقي للأولاد، وهو معنى قوله تعالى: { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } ، يريد ذكرا كان أو أنثى. فإن لم يكن للهالك ولد ولا ولد ولد فلأمه الثلث وإن كان له أخوة اثنان فأكثر فلأمه السدس، هذا معنى قوله تعالى { فإن كان له إخوة فلأمه السدس }.أي تسقط من الثلث إلى السدس وهذا يسمى بالحجب فحجبها إخوة ابنها الميت من الثلث إلى السدس. وقوله تعالى { من بعد وصية يوصي بهآ أو دين } يريد أن قسمة التركة على النحو الذي بين تعالى يكون بعد قضاء دين الميت وإخراج ما أوصى به إن كان الثلث فأقل وهو معنى قوله تعالى { من بعد وصية يوصي بهآ أو دين }. وقوله تعالى { آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } معناه نفذوا هذه الوصية المفروضة كما علمكم الله ولا تحاولوا أن تفضلوا أحدا على أحد فإن هؤلاء الوارثين آباؤكم وأبناؤكم ولا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا في الدنيا والآخرة.
ولذا فاقسموا التركة كما علمكم بلا محاباة فإن الله تعالى هو القاسم والمعطي عليم بخلقه وبما ينفعهم أو يضرهم حكيم في تدبيره لشؤونهم فليفوض الأمر إليه، وليرض بقسمته فإنها قسمة عليم حكيم.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- إن الله تعالى تولى قسمة التركات بنفسه فلا يحل لأحد أن يغير منها شيئا.
2- الإثنان يعتبران جمعا.
3- ولد الولد حكمه حكم الولد نفسه في الحجب.
4- الأب عاصب فقد يأخذ فرضه مع أصحاب الفرائض وما بقى يرثه بالتعصيب لقوله صلى الله عليه وسلم
" ألحفوا الفرائض بأهلها فما ابقت الفرائض فالأولى رجل ذكر ".
[4.12]
شرح الكلمات:
أزواجكم: الأزواج هنا الزوجات.
ولد: المراد هنا بالولد ابن الصلب ذكرا كان أو أنثى وولد الولد مثله.
الربع: واحد من أربعة.
كلالة: الكلالة أن يهلك هالك ولا يترك ولدا ولا والدا ويرثه إخوته لأمه.
له أخ أو أخت: أي من الأم.
غير مضار: بهما - أي الوصية والدين - أحدا من الورثة.
حليم: لا يعاجل بالعقوبة على المعصية.
معنى الآية الكريمة:
كانت الآية قبل هذه في بيان الوراثة بالنسب وجاءت هذه في بيان الوراثة بالمصاهرة والوارثون بالمصاهرة الزوج والزوجات قال تعالى: ولكم نصف ما ترك أزواجكم فمن ماتت وتركت مالا ولم تترك ولدا ولا ولد ولد ذكرا كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها النصف، وإن تركت ولدا أو ولد ولد ذكرا كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها الربع لا غير لقول الله تعالى { فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن }. وهذا من بعد سداد الدين إن كان على الهالكة دين، وبعد إخراج الوصية إن أوصت الهالكة بشيء، لقوله تعالى { من بعد وصية يوصين بهآ أو دين }.هذا ميراث الزوج أما ميراث الزوجة من زوجها فهو الربع إن لم يترك الزوج ولدا ولا ولد ولد ذكرا كان أو أنثى فإن ترك ولدا أو ولد ولد فللزوجة الثمن، وهذا معنى قوله تعالى { ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بهآ أو دين }. هذا وإن كان للزوج الهالك زوجتان أو أكثر فإنهن يشتركن في الربع بالتساوي إن لم يكن للهالك ولد، وإن كان له ولد فلهن الثمن يشتركن فيه بالتساوي وقوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة أي تورث كلالة أيضا، والموروث كلالة وهو من ليس له والد ولا ولد، وإنما يرثة إخوته لأمه كما في هذه الآية أو إخوته لأبيه وأمه كم في آية الكلالة في آخر هذه السورة، فإن كان له أخ من أمه فله السدس وكذا إن كانت له أخت فلها السدس، وإن كانوا اثنين فأكثر فلهم الثلث لقوله تعالى: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة، وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار، بأن يوصى بأكثر من الثلث، أو يقر بدين وليس عليه دين وإنما حسدا للورثة أو بغضا لهم لا غير، فإن تبين ذلك فلا تنفذ الوصية ولا يسدد الدين وتقسم التركة كلها على الورثة، وقوله تعالى: وصية من الله أي وصاكم أيها المؤمنون بهذا وصية فهي جديرة بالاحترام والامتثال. والله عليم بنياتكم وأحوالكم وما يضركم وما ينفعكم فسلموا له قسمته وأطيعوه فيها وهو حليم لا يعاجل بالعقوبة فلا يغركم حلمه إن بطشه شديد وعذابه أليم.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- بيان ميراث الزوج من زوجته، والزوجة والزوجات من زوجهن.
2- بيان ميراث الكلالة وهو من لا يترك والدا ولا ولدا فيرثه إخوته فقط يحوطون به إحاطة الإكليل بالرأس فلذا سميت الكلالة.
3- إهمال الوصية أو الدين إن علم إن الغرض منها الإضرار بالورثة فقط.
4- عظم شأن المواريث فيجب معرفة ذلك وتنفيذه كما وصى الله تعالى.
[4.13-14]
شرح الكلمات:
تلك حدود الله: تلك إسم إشارة أشير به إلى سائر ما تقدم من أحكام النكاح وكفالة اليتامى وتحريم أكل مال اليتيم، وقسمة التركات. وحدود الله هي ما حده لنا وبينه من طاعته وحرم علينا الخروج عنه والتعدي له.
الفوز العظيم: هو النجاة من النار ودخول الجنة.
العذاب المهين: ما كان فيه إهانة للمعذب بالتقريع والتوبيخ ونحو ذلك.
معنى الآيتين:
لما بين تعالى ما شاء من أحكام الشرع وحدود الدين أشار إلى ذلك بقوله: تلك حدود الله قد بينتها لكم وأمرتكم بالتزامها، ومن يطع الله ورسوله فيها وفي غيرها من الشرائع والأحكام فجزاؤه أنه يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، أنهار العسل واللبن والخمر والماء، وهذا هو الفوز العظيم حيث نجاه من النار وأدخله الجنة يخلد فيها أبدا . ومن يعص الله تعالى ورسوله بتعد تلك الحدود وغيرها من الشرائع والأحكام ومات على ذلك فجزاؤه أن يدخله نارا يخلد فيها وله عذاب مهين. والعياذ بالله من عذابه وشر عقابه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حرمة تعدي حدود الله تعالى.
2- بيان ثواب طاعة الله ورسوله وهو الخلود في الجنة.
3- بيان جزاء معصية الله ورسوله وهو الخلود في النار والعذاب المهين فيها.
[4.15-18]
شرح الكلمات:
اللاتي: جمع التي إسم موصول للمؤنث المفرد واللاتي للجمع المؤنث.
الفاحشة: المراد بها هنا الزنى.
من نسائكم: المحصنات.
سبيلا: طريقا للخروج من سجن البيوت.
يأتيانها: الضمير عائد إلى الفاحشة المتقدم ذكرها.
فأعرضوا عنهما: اتركوا أذيتهما بعد أن ظهرت توبتهما.
التوبة: أصل التوبة الرجوع وحقيقتها الندم على فعل القبيح مع تركه والعزم على عدم العودة إليه.
السوء: كل ما أساء إلى النفس والمراد به هنا السيئات.
بجهالة: لا مع العمد والإصرار وعدم المبالاة.
اعتدنا: أعددنا وهيأنا.
أليما: موجعا شديد الإيجاع.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى بحدوده وذكر جزاء متعديها، ذكر هنا معصية من معاصيه وهي فاحشة الزنى، ووضع لها حدا وهي الحبس في البيوت حتى الموت أو إلى أن ينزل حكما آخر يخرجهن من الحبس وهذا بالنسبة إلى المحصنات. فقال تعالى { واللاتي يأتين الفحشة من نسآئكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } أي من المسلمين يشهدون بأن فلانة زنت بفلان فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. أما غير المحصنات وهن الأبكار فقد قال تعالى فى شأنهن. واللذان يأتيانها منك فآذوها أي بالضرب الخفيف والتقريع والعتاب، مع الحبس للنساء أما الرجال فلا يحبسون وإنما يكتفى بأذاهم إلى أن يتوبوا ويصلحوا فحينئذ يعفى عنهم ويكف عن أذيتهم هذا معنى قوله تعالى { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهمآ إن الله كان توابا رحيما }.
ولم يمض على هذين الحدين إلا القليل من الزمن حتى أنجز الرحمن ما وعد وجعل لهن سبيلا فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان جالسا بين أصحابه حتى أنزل الله تعالى عليه الحكم النهائي في جريمة الزنى فقال صلى الله عليه وسلم: خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والمراد من الثيب بالثيب أي إذا زنى نثيب بثيب وكذا البكر بالبكر. وبهذا أوقف الحد الأول في النساء والرجال معا ومضى الثاني أما جلد البكرين فقد نزل فيه آية النور:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة
[الآية: 2]، وأما رجم المحصنين فقد مضت فيه السنة فقد رجم ماعز، والغامدية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حد قائم إلى يوم القيامة. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى [15] والثانية [16] وأما الآيتان بعدهما وهما [17] [18] فقد أخبر تعالى أن الذين يستحقون التوبة وثبتت لهم من الله تعالى هم المذنبون الذين يرتكبون المعصية بسبب جهالة منهم، ثم يتوبون من قريب لا يسوفون التوبة ولا يؤخرونها أما الذين يجترحون السيآت مع علم منهم وإصرار، ولا يتوبون إثر غشيان الذنب فلا توبة تضمن لهم فقد يموتون بلا توبة شأنهم شأن الذين يعملون السيئآت ولا يتوبون حتى إذا مرض أحدهم وظهرت عليه علامات الموت وأيقن أنه ميت لا محالة قال إنه تائب كشأن الكافرين إذا تابوا عند معاينة الموت فلا تقبل منهم توبة أبدا.
هذا معنى الآيتين الكريمتين الأولى { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم } أي يقبل توبتهم لأنه عليم بضعف عباده حكيم يضع كل شيء في موضعه اللائق به ومن ذلك قبول توبة من عصوه بجهالة لا بعناد ومكابرة وتحد، ثم تابوا من قريب لم يطيلوا مدة المعاصي والثانية { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } ، كما هي ليست للذين يعيشون على الكفر فإذا جاء أحدهم الموت قال تبت كفرعون فإنه لما عاين الموت بالغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين فرد الله تعالى عليه:
آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين
[يونس: 91] وقوله تعالى { أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما } إشارة إلى كل من مات على غير توبة بارتكابه كبائر الذنوب، أو بكفر وشرك، إلا أن المؤمن الموحد يخرج من النار بإيمانه، والكافر يخلد فيها. نعوذ بالله من النار وحال أهلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم قبح فاحشة الزنى.
2- بيان حد الزنى قبل نسخه بآية سورة النور، وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في رجم المحصن والمحصنة.
3- التوبة التي تفضل الله بها هي ما كان صاحبها أتى ما أتى من الذنوب بجهالة لا بعلم وإصرار ثم تاب من قريب زمن.
4- الذين يسوفون التوبة ويؤخرونها يخشى عليهم أن لا يتوبوا حتى يدركهم الموت وهم على ذلك فيكونون من أهل النار، وقد يتوب أحدهم، لكن بندرة وقلة وتقبل توبته إذا لم يعاين إمارات الموت لقول الرسول صلى الله عليه وسلم
" ان الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر "
رواه الترمذي وأحمد وغيرهما وإسناده حسن.
5- لا تقبل توبة من حشرجت نفسه وظهرت عليه علامات الموت، وكذا الكافر من باب أولى لا تقبل له توبة بالإيمان إذا عاين علامات الموت كما لم تقبل توبة فرعون.
[4.19-21]
شرح الكلمات:
كرها: بدون رضاهن.
العضل: المنع بشدة كأنه إمساك بالعضلات أو من العضلات.
ببعض ما آتيتموهن: أي من المهور.
الفاحشة: الخصلة القبيحة الشديدة القبح كالزنى.
مبينة: ظاهرة واضحة ليست مجرد تهمة أو مقالة سوء.
المعروف: ما عرفه الشرع واجبا أو مندوبا أو مباحا.
قنطارا: أي من الذهب أو الفضة مهرا وصداقا.
بهتانا وإثما: أي كذبا وافتراء، وإثما حراما لا شك في حرمته لأنه ظلم.
أفضى بعضكم إلى بعض: أي خلص الزوج إلى عورة زوجته والزوجة كذلك.
ميثاقا غليظ: هو العقد وقول الزوج: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
معنى الآيات:
تضمنت هذه الآية: { يأيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها } إبطال ما كان شائعا بين الناس قبل الإسلام من الظلم اللاحق بالنساء فقد كان الرجل إذا مات والده على زوجته ورثها أكبر أولاده من غيرها فإن شاء زوجها وأخذ مهرها وإن شاء استبقاها حتى تعطيه ما يطلب منها من مال فأنزل الله تعالى قوله: { يأيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها } ، فبطل ذلك الحكم الجاهلي بهذه الآية الكريمة وأصبحت المرأة إذا مات زوجها اعتدت في بيت زوجها فإذا انقضت عدتها ذهبت حيث شاءت ولها مالها وما ورثته من زوجها أيضا وقوله تعالى: { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ ءاتيتموهن إلا أن يأتين بفحشة مبينة } فهذا حكم آخر وهو أنه يحرم على الزوج إذا كره زوجته أن يضايقها ويضارها حتى تفتدى منه ببعض مهرها، إذ من معاني العضل المضايقة والمضارة، هذا ما لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنى، أو تترفع عن الزوج وتتمرد عليه وتبخسه حقه في الطاعة والمعاشرة بالمعروف أما إن أتت بفاحشة مبينة لا شك فيها أو نشزت نشوزا بينا فحينئذ للزوج أن يضايقها حتى تفتدي منه بمهرها أو بأكثر حتى يطلقها. وذلك لقوله تعالى: { إلا أن يأتين بفحشة مبينة } ، ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بمعاشرة الزوجات بالمعروف وهو العدل والإحسان، فقال: { وعاشروهن بالمعروف } ، وإن فرض أن أحدا منكم كره زوجته وهي لم تأت بفاحشة مبينة فليصبر عليها ولا يطلقها فلعل الله تعالى يجعل في بقائها في عصمته خيرا كثيرا له نتيجة الصبر عليها وتقوى الله تعالى فيها وفي غيرها، فقد يرزق منها ولدا ينفعه، وقد يذهب من نفسه ذلك الكره ويحل محله الحب والمودة. والمراد أن الله تعالى أرشد المؤمن. إن كره زوجته أن يصبر ولا يطلق لما في ذلك من العاقبة الحسنة، لأن الطلاق بغير موجب غير صالح ولا مرغوب للشارع وكم من أمر يكرهه العبد ويصبر عليه فيجعل الله تعالى فيه الخير الكثير. هذا ما تضمنته الآية الأولى [19] أما الآيتان بعدها فقد تضمنتا: تحريم أخذ شيء من مهر المرأة إذا طلقها الزوج لا لإتيانها بفاحشة ولا لنشوزها، ولكن لرغبة منه في طلاقها ليتزوج غيرها في هذه الحال لا يحل له أن يضارها لتفتدي منه بشيء ولو قل، ولو كان قد أمهرها قنطارا فلا يحل أن يأخذ منه فلسا فضلا عن دينار أو درهم هذا معنى قوله تعالى: { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } ، أتأخذونه بهتانا أي ظلما بغير حق وكذبا وافتراء وإثما مبينا أي ذنبا عظيما، ثم قال تعالى منكرا على من يفعل ذلك: وكيف تأخذونه أي بأي وجه يحل لكم ذلك، والحال أنه قد أفضى بعضهم إلى بعض أي بالجماع، إذ ما استحل الزوج فرجها إلا بذلك المهر فكيف إذا يسترده أو شيئا منه بهتانا وإثما مبينا، فقال تعالى: { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض }؟ وقوله تعالى وأخذن منكم ميثاقا غليظا يعني عقد النكاح فهو عهد مؤكد يقول الزوج نكحتها على مبدأ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فأين التسريح بإحسان إذا كان يضايقها حتى تتنازل له عن مهرها أو عن شيء منه، هذا ما أنكره تعالى بقوله وكيف تأخذونه إذ هو استفهام إنكاري.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال قانون الجاهلية القائم على أن ابن الزوج يرث امرأة أبيه.
2- حرمة العضل من أجل الافتداء بالمهر وغيره.
3- الترغيب في الصبر.
4- جواز أخذ الفدية من الزوجة بالمهر أو أكثر أو أقل إن هي أتت بفاحشة ظاهرة لا شك فيها كالزنى أو النشوز.
5- جواز غلاء المهر فقد يبلغ القنطار غير أن التيسير فيه أكثر بركة.
6- وجوب مراعاة العهود والوفاء بها.
[4.22-23]
شرح الكلمات:
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم: لا تتزوجوا امرأة الأب أو الجد.
إلا ما قد سلف: إلا ما قد مضى قبل هذا التحريم.
إنه كان فاحشة: أي زواج نساء الآباء فاحشة شديدة القبح.
مقتا: ممقوتا مبغوضا للشارع ولكل ذي فطرة سليمة.
وساء سبيلا: أي قبح نكاح أزواج الآباء طريقا يسلك.
أمهاتكم: جمع أم فالأم محرمة ومثلها الجدة وإن علت.
وربائبكم: الربائب جمع ربيبة هي بنت الزوجة.
وحلائل أبنائكم: الحلائل جمع حليلة وهي امرأة الابن من الصلب.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالإرث والنكاح وعشرة النساء. وفي هاتين الآيتين ذكر تعالى محرمات النكاح من النسب، والرضاع والمصاهرة فبدأ بتحريم امرأة الأب وإن علا فقال: { ولا تنكحوا ما نكح ءابآؤكم } ، ولم يقل من ليشمل التحريم منكوحة الأب والطريقة التي كانت متبعة عندهم في الجاهلية. ولذا قال إلا ما قد سلف في الجاهلية فإنه معفو عنه بالإسلام بعد التخلي عنه وعدم المقام عليه، وبهذه اللفظ حرمت امرأة الأب والجد على الإبن وابن الإبن ولو لم يدخل بها الأب ثم ذكر محرمات النسب فذكر الأمهات والبنات والأخوت والعمات والخالات وبنات الأخ، وبنات الأخت فهؤلاء سبع محرمات من النسب قال تعالى: { حرمت عليكم أمهتكم وبنتكم وأخوتكم وعمتكم وخالتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } ثم ذكر المحرمات بالرضاع فقال { وأمهتكم التي أرضعنكم وأخوتكم من الرضعة } فمن رضع من امرأة خمس رضعات وهو في سن الحولين تحرم عليه ويحرم عليه أمهاتها وبناتها وأخواتها وكذا بنات زوجها وأخواته وأمهاته حتى قيل يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، ثم ذكر تعالى المحرمات بالمصاهرة فقال: وأمهات نسائكم فأم امرأة الرجل محرمة عليه بمجرد أن يعقد على بنتها تصبح أمها حراما وقال وربائبكم التي في حجوركم فالربيبة هي بنت الزوجة إذا نكح الرجل امرأة وبنى بها لا يحل له الزواج من ابنتها أما إذا عقد فقط ولم يبن فإن البنت تحل له لقوله: من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم أي لا إثم ولا حرج.
ومن المحرمات بالمصاهرة امرأة الإبن بنى بها أم لم يبن لقوله تعالى: وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم أي ليس ابنا بالتبني، أما الإبن من الرضاع فزوجته كزوجة الابن من الصلب، لأن اللبن الذي تغذى به هو السبب فكان إذا كالولد للصلب، ومن المحرمات بالمصاهرة أيضا أخت الزوجة فمن تزوج امرأة لا يحل له أن يتزوج أختها حتى تموت أو يفارقها وتنتهي عدتها لقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف في الجاهلية فإنه عفو بشرط عدم الإقامة عليه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تحريم مناكح الجاهلية إلا ما وافق الإسلام منها، وخاصة أزواج الآباء فزوجة الأب محرمة على الإبن ولو لم يدخل بها الأب وطلقها أو مات عنها.
2- بيان المحرمات من النسب وهن سبع الأمهات والبنات والأخوات، والعمات والخالات وبنات الأخ وبنت الأخت.
3- بيان المحرمات من الرضاع وهن المحرمات من النسب فالرضيع يحرم عليه أمه المرضع له وبناتها وأخواتها وعماته وخالاته، وبنات أخيه وبنات أخته.
4- بيان المحرمات من المصاهرة وهن سبع أيضا: زوجة الأب بنى بها أو لم يبن، أم امرأته بنى بإبنتها أو لم يبن، وبنت امرأته وهي الربيبة اذا دخل بأمها، وأمرأة الولد من الصلب بنى بها الولد أو لم يبن، وكذا ابنه من الرضاع، وأخت امرأته ما دامت أختها تحته لم يفارقها بطلاق أو وفاة. والمحصنات من النساء أي المتزوجات قبل طلاقهن أو وفاة أزواجهن وانقضاء عددهن.
[4.24-25]
شرح الكلمات:
المحصنات: جمع محصنة والمراد بها هنا المتزوجة.
إلا ما ملكت إيمانكم: المملوكة بالسبي والشراء ونحوهما.
ما وراء ذلكم: أي ما عداه أي ما عدا ما حرم عليكم.
غير مسافحين: المسافح: الزاني، لأن السفاح هو الزنى.
أجورهن فريضة: مهورهن نحلة.
طولا: سعة وقدرة على المهر.
المحصنات: العفيفات.
أجورهن: مهورهن.
ولا متخذات أخدان: الخدين الخليل الذي يفجر بالمرأة سرا تحت شعار الصداقة.
فإذا أحصن: بأن أسلمن أو تزوجن إذ الإحصان يكون بهما.
العنت: العنت الضرر في الدين والبدن.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في بيان ما يحرم من النكاح وما يجوز ففي الآية الأولى [24] عطف تعالى على المحرمات في المصاهرة المرأة المتزوجة فقال { والمحصنت } أي ذوات الأزواج فلا يحل نكاحهن إلا بعد مفارقة الزوج بطلاق أو وفاة، وبعد انقضاء العدة أيضا واستثنى تعالى من المتزوجات المملوكة باليمين وهي المرأة تسبى في الحرب الشرعية وهي الجهاد في سبيل الله فهذه من الجائز أن يكون زوجها لم يمت في الحرب وبما أن صلتها قد انقطعت بدار الحرب وبزوجها وأهلها وأصبحت مملوكة أذن الله تعالى رحمة بها في نكاحها ممن ملكها من المؤمنين. ولذا ورد أن الآية نزلت في سبايا أوطاس وهي وقعة كانت بعد موقعة حنين فسبي فيها المسلمون النساء والذراري، فتحرج المؤمنون في غشيان أولئك النسوة ومنهن المتزوجات فأذن لهم في غشيانهن بعد أن تسلم إحداهن وتستبرأ بحيضة، أما قبل إسلامها فلا تحل لأنها مشركة، هذا معنى قوله تعالى: { والمحصنت من النسآء إلا ما ملكت أيمنكم } وقوله: { كتب الله عليكم } يريد ما حرمه تعالى من المناكح قد كتبه على المسلمين كتابا وفرضه فرضا لا يجوز إهماله أو التهاون به. فكتاب الله منصوب على المصدرية.
وقوله تعالى: { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أي ما بعد الذي حرمه من المحرمات بالنسب وبالرضاع وبالمصاهرة على شرط أن لا يزيد المرء على أربع كما هو ظاهر قوله تعالى في أول السورة
مثنى وثلث وربع
[النساء: 3] وقوله تعالى { أن تبتغوا بأمولكم محصنين غير مسفحين } أي لا حرج عليكم أن تطلبوا بأموالكم من النساء غير ما حرم عليكم فتتزوجوا ما طاب لكم حال كونكم محصنين غير مسافحين، وذلك بأن يتم النكاح بشروطه من الولي والصداق والصيغة والشهود، إذ أن نكاحا يتم بغير هذه الشروط فهو السفاح أي الزنى وقوله تعالى { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } يريد تعالى: أيما رجل تزوج امرأة فأفضى إليها أي وطئها إلا وجب لها المهر كاملا، أما التي لم يتم الاستمتاع بها بأن طلقها قبل البناء فليس لها إلا نصف المهر المسمى، وإن لم يكن قد سمى لها فليس لها إلا المتعة، فالمراد من قوله { فما استمتعتم به منهن } أي بنيتم بهن ودخلتم عليهن.
وقوله تعالى: { ولا جناح عليكم فيما ترضيتم به من بعد الفريضة } يريد إذا أعطى الرجل زوجته ما استحل به فرجها وهو المهر كاملا فليس عليهما بعد ذلك من حرج في أن تسقط المرأة من مهرها لزوجها، أو تؤجله أو تهبه كله له أو بعضه إذ ذاك لها وهي صاحبته كما تقدم
فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا
[النساء: 4].
وقوله تعالى: { إن الله كان عليما حكيما } المراد منه إفهام المؤمنين بأن الله تعالى عليم بأحوالهم حكيم في تشريعه لهم فليأخذوا بشرعه ورخصه وعزائمه فإنه مراعى فيه الرحمة والعدل، ولنعم تشريع يقوم على أساس الرحمة والعدل.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [24] أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: { ومن لم يستطع منكم طولا... } فقد تضمنت بيان رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين إذ رخص لمن لم يستطع نكاح الحرائر لقلة ذات يده، مع خوفه العنت الذي هو الضرر في دينه بالزنى، أو في بدنه بإقامة الحد عليه رخص له أن يتزوج المملوكة بشرط أن تكون مؤمنة، وأن يتزوجها بإذن مالكها وأن يؤتيها صداقها وأن يتم ذلك على مبدأ الإحصان الذي هو الزواج بشروطه لا السفاح، الذي هو الزنى العلني المشار إليه بكلمة { غير مسفحت } ، ولا الخفي المشار إليه بكلمة { ولا متخذت أخدان } أي أخلاء هذا معنى قوله تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا } أي قدرة مالية أن ينكح المحصنات أي العفائف من { فتيتكم المؤمنت } أي من إمائكم المؤمنات لا الكافرات بحسب الظاهر أما الباطن فعلمه إلى الله ولذا قال: { والله أعلم بإيمنكم } وقوله { بعضكم من بعض } فيه تطييب لنفس المؤمن إذا تزوج للضرورة الأمة فإن الإيمان أذهب الفوارق بين المؤمنين وقوله: { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنت غير مسفحت } فيه بيان للشروط التي لا بد منها وقد ذكرناها آنفا.
وقوله تعالى: { فإذآ أحصن } - أي الإماء - بالزواج وبالإسلام { فإن أتين بفحشة } أي زنين فعليهن حد هو نصف ما على المحصنات من العذاب وهو جلد خمسين جلدة وتغريب ستة أشهر، لأن الحرة إن زنت وهي بكر تجلد مائة وتغرب سنة. أما الرجم والذي هو الموت فإنه لا ينصف فلذا فهم المؤمنون في تنصيف العذاب أنه الجلد لا الرجم وهو إجماع لا خلاف فيه وقوله: { ذلك لمن خشي العنت منكم } يريد أبحت لكم ذلك لمن خاف على نفسه الزنى إذا لم يقدر على الزواج من الحرة لفقره واحتياجه وقوله تعالى: { وأن تصبروا... } أي على العزوبية خير لكم من نكاح الإماء . وقوله { والله غفور رحيم } أي غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين ولذا رخص لهم في نكاح الإماء عند خوف العنت، وأرشدهم إلى ما هو خير منه وهو الصبر فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- تحريم المرأة المتزوجة حتى يفارقها زوجها بطلاق أو موت وحتى تنقضي عدتها.
2- جواز نكاح المملوكة باليمين وإن كان زوجها حيا في دار الحرب إذا أسلمت، لأن الإسلام فصل بينهما.
3- وجوب المهور، وجواز إعطاء المرأة من مهرها لزوجها شيئا.
4- جواز التزوج من المملوكات لمن خاف العنت وهو عادم للقدرة على الزواج من الحرائر.
5- وجوب إقامة الحد على من زنت من الإماء إن أحصن بالزواج والإسلام.
6- الصبر على العزوبة خير من الزواج بالإماء لإرشاد الله تعالى إلى ذلك.
[4.26-28]
شرح الكلمات:
يريد الله ليبين لكم: يريد الله أن يبين لكم بما حرم عليكم وأحل لكم ما يكملكم ويسعدكم في دنياكم وأخراكم.
سنن الذين من قبلكم: طرائق الذين من قبلكم من الأنبياء والصالحين لتنهجوا نهجهم فتطهروا وتكملوا وتفلحوا مثلهم.
ويتوب عليكم: يرجع بكم عما كنتم عليه من ضلال الجاهلية إلى هداية الإسلام.
الذين يتبعون الشهوات: من اليهود والنصارى والمجوس والزناة.
أن تميلوا ميلا عظيما: تحيدوا عن طريق الطهر والصفاء إلى طريق الخبث والكدر بارتكاب المحرمات من المناكح وغيرها فتبتعدوا عن الرشد بعدا عظيما.
وخلق الإنسان ضعيفا: لا يصبر عن النساء، فلذا رخص تعالى لهم في الزواج من الفتيات المؤمنات.
معنى الآيات:
لما حرم تعالى ما حرم من المناكح وأباح ما أباح منها علل لذلك بقوله { يريد الله } أي بما شرع ليبين ما هو نافع لكم مما هو ضار بكم فتأخذوا النافع وتتركوا الضار، كما يريد أن يهديكم طرائق الصالحين من قبلكم من أنبياء ومؤمنين صالحين لتسلكوها فتكلموا وتسعدوا في الحياتين، كما يريد بما بين لكم أن { ويتوب عليكم } أي يرجع بكم من ضلال الجاهلية إلى هداية الإسلام فتعيشوا على الطهر والصلاح، وهو تعالى عليم بما ينفعكم ويضركم حكيم في تدبيره لكم فاشكروه بلزوم طاعته، والبعد عن معصيته.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [26] أما الآية الثانية [27] فقد تضمنت الإخبار بأن الله تعالى يريد بما بينه من الحلال والحرام في المناكح وغيرها أن يرجع بالمؤمنين من حياة الخبث والفساد التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام إلى حياة الطهر والصلاح في ظل تشريع عادل رحيم. وأن الذين يتبعون الشهوات من الزناة واليهود والنصارى وسائر المنحرفين عن سنن الهدى فإنهم يريدون من المؤمنين أن ينحرفوا مثلهم فينغمسوا في الملاذ والشهوات البهيمية حتى يصبحوا مثلهم لا فضل لهم عليهم، وحينئذ لا حق لهم في قيادتهم أو هدايتهم.
هذا معنى الآية الثانية أما الثالثة [28] فقد أخبر تعالى أنه بإباحته للمؤمنين العاجزين عن نكاح الحرائر نكاح الفتيات المؤمنات يريد بذلك التخفيف والتيسير عن المؤمنين رحمة بهم وشفقة عليهم لما يعلم تعالى من ضعف الإنسان وعدم صبره عن النساء بما غرز فيه من غريزة الميل إلى أنثاه لحفظ النوع ولحكم عالية وقال تعالى: { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- منة الله تعالى علينا في تعليله الأحكام لنا لتطمئن نفوسنا ويأتي العمل بانشراح صدر وطيب خاطر.
2- منة الله تعالى على المؤمنين بهدايتهم إلى طرق الصالحين وسبيل المفلحين ممن كانوا قبلهم.
3- منتة تعالى في تطهير المؤمنين من الأخباث وضلال الجاهليات.
4- الكشف عن نفسية الإنسان، إذ الزناة يرغبون في كون الناس كلهم زناه والمنحرفون يودون أن ينحرف الناس مثلهم، وهكذا كل منغمس في خبث أو شر أو فساد يود أن يكون كل الناس مثله، كما أن الطاهر الصالح يود أن يطهر ويصلح كل الناس.
5- ضعف الإنسان أمام غرائزه لا سيما غريزة الجنس.
[4.29-30]
شرح الكلمات:
آمنوا: صدقوا الله والرسول.
بالباطل: بغير حق يبيح أكلها.
تجارة: بيعا وشراء فيحل لصاحب البضاعة أن يأخذ النقود ويحل لصاحب النقود أخذ البضاعة، إذا لا باطل.
تقتلوا أنفسكم: أي تزهقوا أرواح بعضكم بعضا.
عدوانا وظلما: اعتداء يكون فيه ظالما.
نصليه نارا: ندخله نار جهنم يحترق فيها.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في بيان ما يحل وما يحرم من الأموال والأعراض والأنفس ففي هذه الآية [29] ينادي الله تعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول: { يأيها الذين آمنوا } وينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل بالسرقة أو الغش أو القمار أو الربا وما إلى ذلك من وجوه التحريم العديدة فيقول: { لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل } ، أي بغير عوض مباح، أو طيب نفس، ثم يستثنى ما كان حاصلا عن تجارة قائمة على مبدأ التراضي بين البيعين لحديث
" إنما البيع عن تراض "
و
" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "
فقال تعالى: { إلا أن تكون تجرة عن تراض منكم } فلا بأس بأكله فإنه حلال لكم. هذا ما تضمنته هذه الآية كما قد تضمنت حرمة قتل المؤمنين لبعضهم بعضا فقال تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم } والنهي شامل لقتل الإنسان نفسه وقتله أخاه المسلم لأن المسلمين كجسم واحد فالذي يقتل مسلما منهم كأنما قتل نفسه. وعلل تعالى هذا التحريم لنا فقال إن الله كان بكم رحيما، فلذا حرم عليكم قتل بعضكم بعضا.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [29] أما الآية الثانية [30] فقد تضمنت وعيدا شديدا بالإصلاء بالنار والإحراق فيها كل من يقتل مؤمنا عدوانا وظلما أي بالعمد والإصرار والظلم المحض، فقال تعالى: { ومن يفعل ذلك } أي القتل { عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك } أي الإصلاء والإحراق في النار { على الله يسيرا } لكمال قدرته تعالى فالمتوعد بهذا العذاب إذا لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه بحال من الأحوال.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- حرمة مال المسلم، وكل مال حرام وسواء حازه بسرقة أو غش أو قمار أو ربا.
2- إباحة التجارة والترغيب فيها والرد على جهلة المتصوفة الذين يمنعون الكسب بحجة التوكل.
3- تقرير مبدأ " إنما البيع عن تراض، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا ".
4- حرمة قتل المسلم نفسه أو غيره من المسلمين لأنهم أمة واحدة.
5- الوعيد الشديد لقاتل النفس عدوانا وظلما بالإصلاء بالنار.
6- إن كان القتل غير عدوان بأن كان خطأ، أو كان غير ظلم بأن كان عمدا ولكن بحق كقتل من قتل والده أو ابنه أو أخاه فلا يستوجب هذا الوعيد الشديد .
[4.31]
شرح الكلمات:
أن تجتنبوا: تبتعدوا لأن الاجتناب ترك الشيء عن جنب بعيدا عنه لا يقبل عليه ولا يقربه.
كبائر ما تنهون عنه: الكبائر: ضد الصغائر، والكبيرة تعرف بالحد لا بالعد فالكبيرة ما توعد الله ورسوله عليها، أو لعن الله ورسوله فاعلها أو شرع لها حد يقام على صاحبها، وقد جاء في الحديث الصحيح بيان العديد من الكبائر، وعلى المؤمن أن يعلم ذلك ليجتنبه.
نكفر: نغطي ونستر فلا نطالب بها ولا نؤاخذ عليها.
مدخلا كريما: المدخل الكريم هنا: الجنة دار المتقين.
معنى الآية الكريمة:
يتفضل الجبار جل جلاله وعظم إنعامه وسلطانه فيمن على المؤمنين من هذه الأمة المسلمة بأن وعدها وعد الصدق بأن من اجتنب منها كبائر الذنوب كفر عنه صغائرها وأدخله الجنة دار السلام وخلع عليها حلل الرضوان فقال تعالى { إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه } ما أنهاكم عنه أنا ورسولي { نكفر عنكم سيئتكم } التي هي دون الكبائر وهي الصغائر، { وندخلكم مدخلا كريما } الذي هو الجنة ولله الحمد والمنة. لهذا كانت هذه الآية من مبشرات القرآن لهذه الأمة.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- وجوب الإبتعاد عن سائر الكبائر، والصبر على ذلك حتى الموت.
2- الذنوب قسمان كبائر وصغائر ولذا وجب العلم بها لاجتناب كبائرها وصغائرها ما أمكن ذلك، ومن زل فليتب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
3- الجنة لا يدخلها إلا ذوو النفوس الزكية الطاهرة باجتنابهم المدنسات لها من كبائر الذنوب والآثام والفواحش.
[4.32-33]
شرح الكلمات:
ولا تتمنوا: التمني: التشهي والرغبة في حصول الشيء، وأداته، ليت، ولو، فإن كان مع زوال المرغوب فيه عن شخص ليحصل للمتمني فهو الحسد.
ما فضل الله بعضكم: أي ما فضل الله به أحدا منكم فأعطاه علما أو مالا أو جاها أو سلطانا.
نصيب مما اكتسبوا: أي حصة وحظ من الثواب والعقاب بحسب الطاعة والمعصية.
موالي: الموالي من يلون التركة ويرثون الميت من أقارب.
عقدت إيمانكم: أي حالفتموهم وتآخيتم معهم مؤكدين ذلك بالمصافحة واليمين.
فآتوهم نصيبهم: من الرفادة والوصية والنصرة لأنهم ليسوا ورثة.
معنى الآيتين :
صح أو لم يصح أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ليتنا كنا رجالا فجاهدنا وكان لنا مثل أجر الرجال فإن الله سميع عليم، والذين يتمنون حسدا وغير حسد ما أكثرهم ومن هنا نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة [32] عباده المؤمنين عن تمني ما فضل الله تعالى به بعضهم على بعض فأعطى هذا وحرم ذاك لحكم اقتضت ذلك، ومن أظهرها الابتلاء بالشكر والصبر، فقال تعالى: { ولا تتمنوا ما فضل الله به } - من علم أو مال. أو صحة أو جاه أو سلطان - { بعضكم على بعض } وأخبر تعالى أن سنته في الثواب والعقاب الكسب والعمل فليعمل من أراد الأجر والمثوبة بموجبات ذلك من الإيمان والعمل الصالح، ولا يتمنى ذلك تمنيا، وليكف عن الشرك والمعاصي من خاف العذاب والحرمان ولا يتمنى النجاة تمنيا كما على من أراد المال والجاه فليعمل له بسننه المنوطة به ولا يتمنى فقط فإن التمني كما قيل بضائع النوكى أي الحمقى، فلذا قال تعالى { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنسآء نصيب مما اكتسبن } ، فرد القضية إلى سنته فيها وهي كسب الإنسان. كقوله تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
[الزلزلة: 7-8] ثم بين تعالى سنة أخرى في الحصول على المرغوب وهي دعاء الله تعالى فقال { واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما } فمن سأل ربه وألح عليه موقنا بالإجابة أعطاه فيوفقه للإتيان بالأسباب، ويصرف عنه الموانع، ويعطيه بغير سبب إن شاء، وهو على كل شيء قدير، بل ومن الأسباب المشروعة الدعاء والإخلاص فيه.
هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الآية الثانية [33] فإن الله تعالى يخبر مقررا حكما شرعيا قد تقدم في السياق وهو أن لكل من الرجال والنساء ورثة يرثونه إذا مات فقال { ولكل جعلنا مولي } أي أقارب يرثونه إذا مات، وذلك من النساء والرجال أما الذين هم موالي بالحلف أو الإخاء فقط أي ليسوا من أولي الأرحام فالواجب إعطاؤهم نصيبهم من النصرة والرفادة.
والوصية لهم بشيء إذ لا حظ لهم في الإرث لقوله تعالى:
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
[الأنفال: 75]، ولما كان توزيع المال وقسمته تتشوق له النفوس وقد يقع فيه حيف أو ظلم أخبر تعالى أن على كل شيء شهيد فلا يخفى عليه من أمر الناس شيء فليتق ولا يعص.
فقال: { إن الله كان على كل شيء شهيدا } لا يخفى عليه من أمركم شيء فاتقوه وأطيعوه ولا تعصوه.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- قبح التمني وترك العمل.
2- حرمة الحسد.
3- فضل الدعاء وأنه من الأسباب التي يحصل بها المراد.
4- تقرير مبدأ التوارث في الإسلام.
5- من عاقد أحدا على حلف أو آخى أحدا وجب عليه أن يعطيه حق النصرة والمساعدة وله أن يوصي له بما دون الثلث، أما الإرث فلا حق له لنسخ ذلك.
6- وجوب مراقبة الله تعالى، لأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء شهيد.
[4.34-35]
شرح الكلمات:
قوامون: جمع قوام: وهو من يقوم على الشيء رعاية وحماية وإصلاحا.
بما فضل الله بعضهم: بأن جعل الرجل أكمل في عقله ودينه وبدنه فصلح للقوامة.
وبما أنفقوا من أموالهم: وهذا عامل آخر مما ثبتت به القوامة للرجال على النساء فإن الرجل بدفعه المهر وبقيامه بالنفقة على المرأة كان أحق بالقوامة التي هي الرئاسة.
الصالحات: جمع صالحة: وهي المؤدية لحقوق الله تعالى وحقوق زوجها.
قانتات: مطيعات لله ولأزواجهن.
حافظات للغيب: حافظات لفروجهن وأموال أزواجهن.
نشوزهن: النشوز: الترفع عن الزوج وعدم طاعته.
فعظوهن: بالترغيب في الطاعة والتنفير من المعصية.
فلا تبغوا عليهن سبيلا: أي لا تطلبوا لهن طريقا تتوصلون به إلى ضربهن بعد أن أطعنكم.
شقاق بينهما: الشقاق: المنازعة والخصومة حتى يصبح كل واحد في شق مقابل.
حكما: الحكم: الحاكم، والمحكم في القضايا للنظر والحكم فيها.
معنى الآيتين:
يروى في سبب نزول هذه الآية أن سعد بن الربيع رضي الله عنه أغضبته امرأته فلطمها فشكاه وليها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يريد القصاص فأنزل الله تعالى هذه الآية { الرجال قومون على النسآء بما فضل الله بعضهم على بعض وبمآ أنفقوا من أمولهم } فقال ولي المرأة أردنا أمرا وأراد الله غيره، وما أراده الله خير. ورضي بحكم الله تعالى وهو أن الرجل ما دام قواما على المرأة يرعاها ويربيها ويصلحها بما أوتي من عقل أكمل من عقلها، وعلم أغزر من علمها غالبا ويعد نظر في مبادىء الأمور ونهاياتها أبعد من نظرها يضاف إلى ذلك أنه دفع مهرا لم تدفعه، والتزم بنفقات لم تلتزم هي بشيء منها فلما وجبت له الرئاسة عليها وهي رئاسة شرعية كان له الحق أن يضربها بما لا يشين جارحة أو يكسر عضوا فيكون ضربه لها كضرب المؤدب لمن يؤدبه ويربيه وبعد تقرير هذا السلطان للزوج على زوجته أمر الله تعالى بإكرام المرأة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها وأثنى عليها فقال: { فالصلحت } ، وهن: الائي يؤدين حقوق الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقوق أزواجهن من الطاعة والتقدير والاحترام { قنتت }: أي مطيعات لله تعالى، وللزوج، { حفظت للغيب } أي حافظات مال الزوج وعرضه لحديث:
" وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله "
، { بما حفظ الله } أي بحفظ الله تعالى لها وإعانته لها إذ لو وكلت إلى نفسها لا تستطيع حفظ شيء وإن قل. وفي سياق الكلام ما يشير إلى محذوف يفهم ضمنا وذلك أن الثناء عليهن من قبل الله تعالى يستوجب من الرجل إكرام المرأة الصالحة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها، وهذا ما ذكرته أولا نبهت عليه هنا ليعلم أنه من دلالة الآية الكريمة، وقد ذكره غير واحد من السلف.
وقوله تعالى: { والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا }. فإنه تعالى يرشد الأزواج إلى كيفية علاج الزوجة إذا نشزت أي ترفعت على زوجها ولم تؤدي إليه حقوقه الواجبة له بمقتضى العقد بينهما، فيقول { والتي تخافون نشوزهن } أي ترفعهن بما ظهر لكم من علامات ودلائل كأن يأمرها فلا تطيع ويدعوها فلا تجيب وينهاها فلا تنتهي، فاسلكوا معهن السبيل الآتي: { فعظوهن } أولا، والوعظ تذكيرها بما للزوج عليها من حق يجب أداؤه، وما يترتب على إضاعته من سخط الله تعالى وعذابه، وبما قد ينجم من إهمالها في ضربها أو طلاقها فالوعظ ترغيب بأجر الصالحات القانتات، وترهيب من عقوبة المفسدات العاصيات فإن نفع الوعظ فيها وإلا فالثانية وهي أن يهجرها الزوج في الفراش فلا يكلمها وهو نائم معها على فراش واحد وقد أعطاها ظهره فلا يكلمها ولا يجامعها وليصبر على ذلك حتى تؤوب إلى طاعته وطاعة الله ربهما معا وإن أصرت ولم يجد معها الهجران في الفراش، فالثالثة وهي أن يضربها ضربا غير مبرح لا يشين جارحة ولا يكسر عضوا. وأخيرا فإن هي أطاعت زوجها فلا يحل بعد ذلك أن يطلب الزوج طريقا إلى أذيتها لا بضرب ولا بهجران لقوله تعالى: { فإن أطعنكم } أي الأزواج { فلا تبغوا } أي تطلبوا { عليهن سبيلا } لأذيتهن باختلاق الأسباب وإيجاد العلل والمبررات لأذيتهن. وقوله تعالى: { إن الله كان عليا كبيرا } تذييل للكلام بما يشعر من أراد أن يعلو على غيره بما أوتي من قدرة بأن الله أعلى منه وأكبر فليخش الله وليترك من علوه وكبريائه.
هذا ما تضمنته هذه الآية العظيمة [34] أما الآية الثانية [35] فقد تضمنت حكما اجتماعيا آخر وهو إن حصل شقاق بين زوج وامرأته فأصبح الرجل في شق والمرأة في شق آخر فلا تلاقي بينهما ولا وفاق ولا وئام وذلك لصعوبة الحال فالطريق إلى حل هذا المشكل ما أرشد الله تعالى إليه، وهو أن يبعث ولي الزوجة حكما من قبله، ويبعث ولي الزوج حكما من قبله، أو يبعث الزوج نفسه حكما وتبعث الزوجة أيضا حكما من قبلها، أو يبعث القاضي كذلك الكل جائز لقوله تعالى: { فابعثوا } وهو يخاطب المسلمين على شرط أن يكون الحكم عدلا عالما بصيرا حتى يمكنه الحكم والقضاء. بالعدل. فيدرس الحكمان القضية أولا مع طرفي النزاع ويتعرفان إلى أسباب الشقاق وبما في نفس الزوجين من رضى وحب، وكراهية وسخط ثم يجتمعان على إصلاح ذات البين فإن أمكن ذلك فيها وإلا فرقا بينهما برضا الزوجين. مع العلم أنهما إذا ثبت لهما ظلم أحدهما فإن عليهما أن يطالبا برفع الظلم فإن كان الزوج هو الظالم فليرفع ظلمه وليؤد ما وجب عليه، وإن كانت المرأة هي الظالمة فإنها ترفع ظلمها أو تفدي نفسها بمال فيخالعها به زوجها هذا معنى قوله تعالى: { وإن خفتم شقاق بينهما } ، والخوف هنا بمعنى التوقع الأكيد بما ظهر من علامات ولاح من دلائل فيعالج الموقف قبل التأزم الشديد { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلهآ } ، لأنهما أعرف بحال الزوجين من غيرهما وقوله تعالى { إن يريدآ إصلحا } فإنه يعني الحكمين، { يوفق الله بينهمآ } أي إن كان قصدهما الإصلاح والجمع بين الزوجين وإزالة الشقاق والخلاف بينهما فإن الله تعالى يعينهما على مهمتها ويبارك في مسعاهما ويكلله بالنجاح.
وقوله تعالى: { إن الله كان عليما خبيرا }. ذكر تعليلا لما واعد به تعالى من التوفيق بين الحكمين، إذ لو لم يكن عليما خبيرا ما عرف نيات الحكمين وما يجري في صدورهما من إرادة الإصلاح أو الإفساد.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير مبدأ القيومية للرجال على النساء وبخاصة الزوج على زوجته.
2- وجوب إكرام الصالحات والإحسان إليهن.
3- بيان علاج مشكلة نشوز الزوجة وذلك بوعظها أولا ثم هجرانها في الفراش ثانيا، ثم بضربها ثالثا.
4- لا يحل اختلاق الأسباب وإيجاد مبررات لأذية المرأة بضرب وبغيره.
5- مشروعية التحكيم في الشقاق بين الزوجين وبيان ذلك.
[4.36-39]
شرح الكلمات
اعبدوا الله: الخطاب للمؤمنين ومعنى اعبدوا: أطيعوه في أمره ونهيه مع غاية الذل والحب والتعظيم له عز وجل.
لا تشركوا به شيئا: أي لا تعبدوا معه غيره بأي نوع من أنواع العبادات التي تعبد الله تعالى بها عباده من دعاء وخشية وذبح ونذر وركوع وسجود وغيرها.
ذوي القربى: أصحاب القرابات.
وابن السبيل: المسافر استضاف أو لم يستضف.
والجار ذي القربى: أي القريب لنسب أو مصاهرة.
الجار الجنب: أي الأجنبي مؤمنا كان أو كافرا.
الصاحب بالجنب: الزوجة، والصديق الملازم كالتلميذ والرفيق في السفر.
وما ملكت أيمانكم: من الأرقاء العبيد فتيان وفتيات.
مختال فخور: الاختيال: الزهو في المشي، والفخر والافتخار بالحسب والنسب والمال بتعداد ذلك وذكره.
يبخلون: يمنعون الواجب بذله من المعروف مطلقا.
ويكتمون: يجحدون ما أعطاهم الله من علم ومال تفضلا منه عليهم.
قرينا: القرين: الملازم الذي لا يفارق صاحبه كأنه مشدود معه بقرن أي بحبل.
وماذا عليهم: أي أي شيء يضرهم أو ينالهم بمكروه إذا هم آمنوا؟
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هداية المؤمنين، وبيان الأحكام الشرعية لهم ليعملوا بها فيكملوا ويسعدوا ففي الآية الأولى [36] يأمر تعالى المؤمنين بعبادته وتوحيده فيها وبالإحسان إلى الوالدين وذلك بطاعتهم في المعروف وإسداء الجميل لهم، ودفع الأذى عنهم، وكذا الأقرباء، واليتامى، والمساكين، والجيران مطلقا أقرباء أو أجانب، والصاحب الملازم الذي لا يفارق كالزوجة والمرافق في السفر والعمل والتلمذة والطلب ونحو ذلك من الملازمة التي لا تفارق إلا نادرا إذ الكل يصدق عليه لفظ الصاحب بالجنب. وكذا ابن السبيل وما ملكت اليمين من أمة أو عبد والمذكورون الإحسان إليهم آكد وإلا فالإحسان معروف يبذل لكل الناس كما قال تعالى:
وقولوا للناس حسنا
[البقرة: 83]، وقال
وأحسنوا إن الله يحب المحسنين
[البقرة: 195] وقوله تعالى: { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } دال على أن منع الإحسان الذي هو كف الأذى وبذل المعروف ناتج عن خلق البخل والكبر وهما من شر الأخلاق هذا ما دلت عليه الآية الأولى [36].
وأما الآية الثانية [37] وقد تضمنت بمناسبة ذم البخل والكبر التنديد ببخل بعض أهل الكتاب وكتمانهم الحق وهو ناتج عن بخلهم أيضا قال تعالى: { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون مآ آتاهم الله من فضله } أي من مال وعلم وقد كتموا نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته الدالة عليه في التوراة والإنجيل، وبخلوا بأموالهم وأمروا بالبخل بها، إذ كانوا يقولون للأنصار لا تنفقوا أموالكم على محمد فإنا نخشى عليكم الفقر، وخبر الموصول الذين محذوف تقديره هم الكافرون حقا دل عليه قوله: { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا }. هذا ما جاء في هذه الآية الثانية.
أما الآيتان الثالثة [38] والرابعة [39] فإن الأولى منهما قد تضمنت بيان حال أناس آخرين غير اليهود وهم المنافقون فقال تعالى: { والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس } أي مراءاة لهم ليتقوا بذلك المذمة ويحصلوا على المحمدة. { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } لأنهم كفار مشركون وإنما أظهروا الإسلام تقية فقط ولذا كان إنفاقهم رياء لا غير. وقوله: { ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا } أي بئس القرين له الشيطان وهذه الجملة: { ومن يكن الشيطان... } دالة على خبر الموصول المحذوف اكتفى بها عن ذكره كما في الموصول الأول وقد يقدر بمثل: الشيطان قرينهم هو الذي زين لهم الكفر بالله واليوم الآخر.
هذا ما تضمنته الآية الرابعة [39] وهي قوله تعالى { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله؟؟ } فقد تضمنت الإنكار والتوبيخ لأولئك المنافقين الذين ينفقون رياء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر بسبب فتنة الشيطان لهم وملازمته إياهم، فقال تعالى { وماذا عليهم } أي أي شيء يضرهم أو أي أذى يلحقهم في العاجل أو الآجل، لو صدقوا الله ورسوله وأنفقوا في سبيل الله مما رزقهم الله، وفي الخطاب دعوة ربانية لهم لتصحيح إيمانهم واستقامتهم بالخروج من دائرة النفاق التي أوقعهم فيها القرين عليه لعائن الله، فلذا لم يذكر تعالى وعيدا لهم، وإنما قال { وكان الله بهم عليما } وفي هذه تخويف لهم من سوء حالهم إذا استمروا على نفاقهم فإن علم الله بهم يستوجب الضرب على أيديهم إن لم يتوبوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- تقرير عشرة حقوق والأمر بأدائها فورا وهي عبادة الله وحده والإحسان بالوالدين، وإلى كل المذكورين في الآية الأولى.
2- ذم الاختيال الناجم عن الكبر وذم الفخر وبيان كره الله تعالى لهما.
3- حرمة البخل والأمر به وحرمة كتمان العلم وخاصة الشرعي منه.
4- حرمة الرياء وذم صاحبها.
5- ذم قرناء السوء لما يأمرون به ويدعون إليه قرناءهم حتى قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينة
فكل قريب بالمقارن يقتدي
[4.40-42]
شرح الكلمات:
الظلم: وضع شيء في غير موضعه.
مثقال ذرة: المثقال: الوزن مأخوذ من الثقل فكل ما يوزن فيه ثقل، والذرة أصغر حجم في الكون حتى قيل إنه الهباء أو رأس النملة.
الحسنة: الفعلة الجميلة من المعروف.
يضاعفها: يريد فيها ضعفها.
من لدنه: من عنده.
أجرا عظيما: جزاء كبيرا وثوابا عظيما.
الشهيد: الشاهد على الشيء لعلمه به.
يود: يحب.
تسوى بهم الأرض: يكونون ترابا مثلها.
ولا يكتمون الله حديثا: أي لا يخفون كلاما.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى في الآيات السابقة بعبادته والإحسان إلى من ذكر من عباده. وأمر بالإنفاق في سبيله، وندد بالبخل والكبر والفخر، وكتمان العلم، وكان هذا يتطلب الجزاء بحسبه خيرا أو شرا ذكر في هذه الآية [40] { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } ، ذكر عدله في المجازاة ورحمته، فأخبر أنه عند الحساب لا يظلم عبده وزن ذرة أصغر شيء وذلك بأن لا ينقص من حسناته حسنة، ولا يزيد في سيئاته سيئة، وان توجد لدى مؤمن حسنة واحدة يضاعفها بأضعاف يعلمها هو ويعط من عنده بدون مقابل أجرا عظيما لا يقادر قدره فلله الحمد والمنة هذا ما تضمنته الآية الأولى [40] أما الآية الثانية [41] فإنه تعالى لما ذكر الجزاء والحساب الدالة عليه السياق ذكر ما يدل على هول يوم الحساب وفظاعة الأمر فيه، فخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم قائلا: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }؟ ومعنى الآية الكريمة فكيف تكون حال أهل الكفر والشر والفساد إذا جاء الله تعالى بشهيد من كل أمة ليشهد عليها فيما أطاعت وفيما عصت ليتم الحساب بحسب البينات والشهود والجزاء بحسب الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات، وجئنا بك أيها الرسول الخليل صلى الله عليه وسلم شهيدا على هؤلاء أي على أمته صلى الله عليه وسلم من آمن به ومن كفر إذ يشهد أنه بلغ رسالته وأدى أمانته صلى الله عليه وسلم. هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة [42] فإنه تعالى لما ذكر ما يدل على هول يوم القيامة في الآية [41] ذكر مثلا لذلك الهول وهو أن الذين كفروا يودون وقد عصوا الرسول لو يسوون بالأرض فيكونون ترابا حتى لا يحاسبوا ولا يجزوا بجهنم . وأنهم في ذلك اليوم لا يكتمون الله كلاما؛ إذ جوارحهم تنطق فتشهد عليهم. قال تعالى { يومئذ } أي يوم يؤتى من كل أمة بشهيد { يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } فيكونون ترابا مثلها. مرادهم أن يسووا هم بالأرض فيكونون ترابا وخرج الكلام على معنى أدخلت رأسي في القلنسوة والأصل أدخلت القلنسوة في رأسي وقوله { ولا يكتمون الله حديثا } أخبار عن عجزهم عن كتمان شيء عن الله تعالى لأن جوارحهم تشهد عليهم بعد أن يختم على أفواههم، كما قال تعالى من سورة يس
اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون
[الآية: 65].
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عدالة الله تعالى ورحمته ومزيد فضله.
2- بيان هول يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن لو سويت به الأرض فكان ترابا.
3- معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بآثار الشهادة على العبد يوم القيامة إذا أخبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما
" إقرأ علي القرآن فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: أحب أن أسمعه من غيري قال: فقرأت { يأيها الناس اتقوا ربكم } حتى وصلت هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } الآية وإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان الدموع وهو يقول: حسبك أي كفاك ما قرأت علي ".
[4.43]
شرح الكلمات:
لا تقربوا: لا تدنوا كناية عن الدخول فيها، أو لا تدنوا من مساجدها.
سكارى: جمع كسران وهو من شرب مسكرا فستر عقله وغطاه.
تعلموا ما تقولون: لزوال السكر عنكم ببعد شربه عن وقت الصلاة وهذا كان قبل تحريم الخمر وسائر المسكرات.
ولا جنبا: الجنب: من به جنابة وللجنابة سببان جماع، أو احتلام.
عابري سبيل: مارين بالمسجد مرورا بدون جلوس فيه.
الغائط: المكان المنخفض للتغوط: أي التبرز فيه.
لامستم النساء: جامعتموهن.
فتيمموا صعيدا طيبا: اقصدوا ترابا طاهرا.
عفوا غفورا: عفوا: لا يؤاخذ على كل ذنب، غفورا: كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه.
معنى الآية الكريمة:
لا شك أن لهذه الآية سببا نزلت بمقتضاه وهو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حسب رواية الترمذي أقام مأدبة لبعض الأصحاب فأكلوا وشربوا وحضرت الصلاة فقاموا لها وتقدم أحدهم يصلي بهم فقرأ بسورة الكافرون وكان ثملان فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، وهذا باطل وواصل قراءته بحذف حروف النفي فنزلت { يا أيها الذين آمنوا....... } أي يامن صدقتم بالله ورسوله، { لا تقربوا الصلوة } أي لا تدخلوا فيها، والحال أنكم سكارى من الخمر إذ كانت يومئذ حلالا غير حرام، حتى تكون عقولكم تامة تميزون بها الخطأ من الصواب فتعلموا ما تقولون في صلاتكم ولا تقربوا مساجد الصلاة للجلوس فيها وأنتم جنب حتى تغتسلوا اللهم إلا من كان منكم عابر سبيل، إذ كانت طرق بعضهم إلى منازلهم على المسجد النبوي. { وإن كنتم مرضى } بجراحات يضرها الماء أو مرضى مرضا لا تقدرون معه على استعمال الماء للوضوء أو الغسل، أو كنتم { على سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط أو لمستم النسآء } بمضاجعتهن أو مسستموهن بقصد الشهوة { فلم تجدوا مآء } تغتسلون به إن كنتم جنبا أو تتوضأون به إن كنتم محدثين حدثا أصغر { فتيمموا صعيدا طيبا } أي اقصدوا ترابا طاهرا { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } مرة واحدة فإن ذلك مجزيء لكم عن الغسل والوضوء فإن صح المريض أو وجد الماء فاغتسلوا أو توضأوا ولا تيمموا لانتفاء الرخصة بزوال المرض أو وجود الماء. وقوله تعالى في ختام الآية { إن الله كان عفوا غفورا } يخبر تعالى عن كماله المطلق فيصف نفسه بالعفو عن عباده المؤمنين إذا خالفوا أمره، وبالمغفرة لذنوبهم إذا هم تابوا إليه، ولذا هو عز وجل لم يؤاخذهم لما صلوا وهم سكارى لم يعرفوا ما يقولون، وغفر لهم وأنزل هذا القرآن تعليما لهم وهداية لهم.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- تقرير مبدأ النسخ للأحكام الشرعية في القرآن والسنة.
2- حرمة مكث الجنب في المسجد، وجواز العبور والاجتياز بدون مكث.
3- وجوب الغسل على الجنب وهو من قامت به جنابة بأن احتلم فرأى الماء أو جامع أهله فأولج ذكره في فرج امرأته ولو لم ينزل ماء.
وكيفية الغسل: أن يغسل كفيه قائلا: بسم الله ناويا رفع الحدث الأكبر ثم يستنجي فيغسل فرجيه وما حولهما، ثم يتوطأ فيغسل كفيه ثلاثا، ثم يتمضمض ويستنشق الماء، ويستثره ثلاثا، ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثم يغمس كفيه في الماء ثم يخلل أصول شعر رأسه، ثم يحثو الماء على رأسه يغسله بكل حثوة، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن يغسله، ثم على شقه الأيسر يغسله. من أعلاه إلى أسفله، ويتعهد بالماء إبطيه وكل مكان من جسمه ينبو عنه الماء كالسرة وتحت الركبتين.
4- إذا لم يجد المرء التراب لمطر ونحوه تيمم بكل أجزاء الأرض من رمل وسبخة وحجارة والتيمم هو أن يضرب بكفه الأرض ثم يمسح وجهه وكفيه بهما لحديث عمار رضي الله عنه في الصحيح.
5- بيان عفو الله وغفرانه لعدم مؤاخذة من صلوا وهم سكارى.
[4.44-46]
شرح الكلمات:
ألم تر: ألم تبصر أي بقلبك أي تعلم.
نصيبا: حظا وقسطا.
يشترون الضلالة: أي الكفر بالإيمان.
الأعداء: جمع عدو وهو من يقف بعيدا عنك يود ضرك ويكره نفعك.
هادوا: أي اليهود قيل لهم ذلك لقولهم:
إنا هدنآ إليك
[الأعراف: 156] أي تبنا ورجعنا.
يحرفون: التحريف: الميل بالكلام عن معناه إلى معنى باطل للتضليل.
الكلم: الكلام وهو كلام الله تعالى في التوراة.
واسمع غير مسمع: أي اسمع ما تقول لا أسمعك الله. وهذا كفر منهم صريح.
وطعنا في الدين: سبهم للرسول صلى الله عليه وسلم هو الطعن الأعظم في الدين.
وانظرنا: وأمهلنا حتى نسمع فنفهم.
أقوم: أعدل وأصوب.
لعنهم الله بكفرهم: طردهم من رحمته وأبعدهم من هداه بسبب كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
معنى الآيات:
روي أن هذه الآيات نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت أحد عظماء اليهود بالمدينة، كان إذا كلم رسول صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال راعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله تعالى هذه الآيات الثلاث إلى قوله { فلا يؤمنون إلا قليلا } وهذا شرحها: قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يشترون الضللة ويريدون أن تضلوا السبيل } أي ألم ينته إلى علمك وإلى علم أصحابك ما يحملكم على التعجب: العلم بالدين أتوا نصيبا من الكتاب وهم رفاعة بن زيد وإخوانه من اليهود، أعطوا حظا من التوراة فعرفوا صحة الدين الإسلامي، وصدق نبيه صلى الله عليه وسلم { يشترون الضللة } وهو الكفر يشترونها بالإيمان، حيث جحدوا نعوت النبي وصفاته في التوراة للإبقاء على مركزهم بين قومهم يسودون ويتفضلون، ويريدون مع ذلك أن تضلوا أيها المؤمنون السبيل سبيل الحق والرشد وهو الإيمان بالله ورسوله والعمل بطاعتهما للإسعاد والإكمال. { والله أعلم بأعدائكم } الذين يودون ضركم ولا يودون نفعكم، ولذا أخبركم بهم لتعرفوهم وتجتنبوهم فتنجوا من مكرهم وتضليلهم. { وكفى بالله وليا } لكم تعتمدون عليه وتفوضون أموركم إليه { وكفى بالله نصيرا } ينصركم عليهم وعلى غيرهم فاعبدوه وتوكلوا عليه. { من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه } أي هم من اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، والكلام هو كلام الله تعالى في التوراة وتحريفه بالميل به عن القصد، أو بتبديله وتغييره تضليلا للناس وإبعادا لهم عن الحق المطلوب منهم الإيمان به والنطق والعمل به. ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كفرا وعنادا { سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع } أي لا أسمعك الله { ورعنا } وهي كلمة ظاهرها أنها من المراعاة وباطنها الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اليهود يعدونها من الرعونة يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبا وشتما له قبحهم الله ولعنهم وقطع دابرهم وقوله تعالى: { ليا بألسنتهم وطعنا في الدين } أي يلوون ألسنتهم بالكلمة التي يسبون بها حتى لا تظهر عليهم، ويطعنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا } أي انتظرنا بدل راعنا لكان خيرا لهم وأقوم أي أعدل وأكثر لياقة وأدبا ولكن لا يقولون هذا لأن الله تعالى لعنهم وحرمهم من كل توفيق بسبب كفرهم ومكرهم فهم لا يؤمنون إلا قليلا. اي إيمانا لا ينفعهم لقلته فهو لا يصلح أخلاقهم ولا يطهر نفوسهم ولا يهيئهم للكمال في الدنيا ولا في الآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مكر اليهود بالمؤمنين بالعمل على إضلالهم في عهد النبوة وإلى اليوم.
2- في كفاية الله للمؤمنين ونصرته ما يغنيهم أن يطلبوا ذلك من أحد غير ربهم عز وجل.
3- الكشف عن سوء نيات وأعمال اليهود إزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- الإيمان القليل لا يجدي صاحبه ولا ينفعه بحال.
[4.47]
شرح الكلمات:
أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، والمراد بهم هنا اليهود لا غير.
بما نزلنا مصدقا: القرآن.
نطمس وجوها: نذهب آثارها بطمس الأعين وإذهاب أحداقها.
فنردها على أدبارها: نجعل الوجه قفا، والقفا وجها.
كما لعنا أصحاب السبت: لعنهم مسخهم قردة خزيا لهم وعذابا مهينا.
وكان أمر الله مفعولا: أمر الله: مأموره كائن لا محالة لأنه تعالى لا يعجزه شيء.
معنى الآية الكريمة:
ما زال السياق في اليهود المجاورين للرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ففي هذه الآية ناداهم الله تبارك وتعالى بعنوان العلم والمعرفة وهو نسبتهم إلى الكتاب الذي هو التوراة آمرا إياهم بالإيمان بكتابه أي بالقرآن الكريم وبمن أنزله عليه محمد صلى الله عليه وسلم إذا الإيمان بالمنزل إيمان بالمنزل عليه ضمنا. فقال: { ءامنوا } بالفرقان المصدق لما معكم من أصول الدين ونعوت الرسول والأمر بالإيمان به ونصرته خفوا إلى الإيمان واتركوا التردد من قبل أن يحل بكم ما حل ببعض أسلافكم حيث مسخوا قردة وخنازير { من قبل أن نطمس وجوها } فنذهب حدقة أعينها وشاخص أنوفها ونغلق أفواهها فتصبح الوجوه أقفاء، والأقفاء وجوها يمشون القهقراء وهو معنى قوله: { فنردها على أدبارهآ أو نلعنهم كما لعنآ أصحب السبت } أي الذين اعتدوا منكم في السبت حيث صادوا فيه وهو محرم عليهم فمسخهم قردة خاسئين. { وكان أمر الله } أي مأموره { مفعولا } ناجزا، لا يتخلف ولا يتأخر لأن الله تعالى لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- المفروض أن ذا العلم يكون أقرب إلى الهداية، ولكن من سبقت شقوته لما يعلم الله تعالى من اختياره الشر والإصرار عليه لا ينفعه العلم، ولا يهتدي به هؤلاء اليهود الذين دعاهم الله تعالى إلى الإيمان فلم يؤمنوا.
2- وجوب تعجيل التوبة قبل نزول العذاب وحلول ما لا يحب الإنسان من عذاب ونكال.
3- قد يكون المسخ في الوجوه بمسخ الأفكار والعقول فتفسد حياة المرء وتسوء وهذا الذي حصل ليهود المدينة. فنقضوا عهودهم فهلك من هلك منهم وأجلى من أجلى نتيجة إصرارهم على الكفر وعداء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
[4.48]
شرح الكلمات:
لا يغفر: لا يمحو ولا يترك المؤاخذة.
أن يشرك به: أي يعبد معه غيره تأليها له بحبه وتعظيمه وتقديم القرابين له، وصرف العبادات له كدعائه والاستعانة به والذبح والنذر له.
ويغفر ما دون ذلك: أي ما دون الشرك والكفر من سائر الذنوب والمعاصي التي ليست شركا ولا كفرا.
لمن يشاء: أي لمن يشاء المغفرة له من سائر المذنبين بغير الشرك والكفر.
افترى إثما عظيما: افترى: اختلق وكذب كذبا بنسبته العبادة إلى غير الرب تعالى، والإثم: الذنب العظيم الكبير.
معنى الآية الكريمة:
يروى أنه لما نزل قول الله تعالى من سورة الزمر
قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
[الآية: 53] قام رجل فقال والشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء } فأخبر تعالى عن نفسه بأنه لا يغفر الذنب المعروف بالشرك والكفر، وأما سائر الذنوب كبيرها وصغيرها فتحت المشيئة إن شاء غفرها لمرتكبها فلم يعذبه بها، وإن شاء آخذه بها وعذبه، وأن من يشرك به تعالى فقد اختلق الكذب العظيم إذ عبد من لا يستحق العبادة وأله من لا حق له في التأليه فلذا هو قائل بالزور وعامل بالباطل، ومن هنا كان ذنبه عظيما.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية:
1- عظم ذنب الشرك والكفر وأن كل الذنوب دونهما.
2- الشرك ذنب لا يغفر لمن مات بدون توبة منه.
3- سائر الذنوب دون الشرك والكفر لا ييأس فاعلها من مغفرة الله تعالى له وإنما يخاف.
4- الشرك زور وفاعله قائل بالزور فاعل به.
[4.49-50]
شرح الكلمات:
تزكية النفس: تبرئتها من الذنوب والآثام.
يزكي من يشاء: يطهر من الذنوب من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل بما يزكي النفس، وإعانته عليه.
الفتيل: الخيط الأبيض يكون في وسط النواة، أو ما يفتله المرء بأصبعيه من الوسخ في كفه أو جسمه وهو أقل الأشياء وأتفهها.
الكذب: عدم مطابقة الخبر للواقع.
معنى الآيتين:
عاد السياق إلى الحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى لرسوله والمؤمنين: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } وهو أمر يحمل على العجب والاستغراب إذ المفروض أن المرء لا يزكي نفسه حتى يزكيه غيره فاليهود والنصارى قالوا
نحن أبنؤا الله وأحبؤه
[المائدة: 18] وقالوا:
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى
[البقرة: 111]
قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات
[آل عمران: 24] إلى غير ذلك من الدعاوي الباطلة ولما أنكر تعالى عليهم هذا الباطل الذي يعيشون عليه فعاقهم عن الإيمان والدخول في الإسلام وأخبر تعالى أنه عز وجل هو الذي يزكي من يشاء من عباده وذلك بتوفيقه إلى الإيمان وصالح الأعمال التي تزكو عليها النفس البشرية فقال تعالى: { بل الله يزكي من يشآء ولا يظلمون فتيلا } أي أقل قليل فلا يزاد في ذنوب العبد ولا ينقص من حسناته. ثم أمر الله تعالى رسوله أن يتعجب من حال هؤلاء اليهود والنصارى وهم يكذبون على الله تعالى، ويختلقون الكذب بتلك الدعاوي التي تقدمت آنفا. وكفى بالكذب إثما مبينا. يغمس صاحبه في النار.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- حرم تزكية المرء نفسه بلسانه والتفاخر بذلك إما طلبا للرئاسة، وإما تخليا عن العبادة والطاعة بحجة أنه في غير حاجة إلى ذلك لطهارته ورضي الله تعالى عنه.
2- الله يزكي عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى، ويزكيه بتوفيقه وإيمانه للعمل بما يزكي من صلاة وصدقات وسائر الطاعات المشروعة لتزكية لنفس البشرية وتطهيرها.
3- عدالة الحساب والجزاء يوم القيامة لقوله تعالى: { ولا يظلمون فتيلا }.
[4.51-55]
شرح الكلمات:
الجبت والطاغوت: الجبت: اسم لكل ما عبد من دون الله وكذا الطاغوت سواء كانا صنمين أو رجلين.
أهدى سبيلا: أكثر هداية في حياتهما وسلوكهما.
نقيرا: النقير: نقرة في ظهر النواة يضرب بها المثل في صغرها.
الحسد: تمني زوال النعمة عن الغير والحرص على ذلك.
الحكمة: السداد في القول والعمل مع الفقه في أسرار التشريع الإلهي.
معنى الآيات:
روي أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ذهبوا إلى مكة يحزبون الأحزاب لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نزلوا مكة قالت قريش: نسألهم فإنهم أهل كتاب عن ديننا ودين محمد أيهما خير؟ فسألوهم فقالوا لهم دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى منه وممن اتبعه فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله { عظيما }. وهذا شرحها: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يؤمنون بالجبت والطغوت } الم ينته إلى علمك أيها الرسول أن الذين أوتوا حظا من العلم بالتوراة يصدقون بصحة عبادة الجبت والطاغوت ويقرون عليها ويحكمون بأفضلية عبادتها على عبادة الله تعالى { ويقولون للذين كفروا } وهم مشركوا قريش: دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى طريقا في حياتكم الدينية والاجتماعية ألم يك موقف هؤلاء اليهود مثار الدهشة والاستغراب والتعجب لأهل العلم والمعرفة بالدين الحق إذ يقرون الباطل ويصدقون به؟ { أولئك الذين لعنهم الله } أولئك الهابطون في حمأة الرذيلة البعيدون في أغوار الكفر والشر والفساد لعنهم الله فأبعدهم عن ساحة الخير والهدى، { ومن يلعن الله فلن تجد له } يا رسولنا { نصيرا } ينصره من الخذلان الذي وقع فيه والهزيمة الروحية التي حلت به فأصبح وهو العالم يبارك الشرك ويفضله على التوحيد.
ثم قال تعالى في الآية [53] { أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا }. أي ليس لهم نصيب من الملك كما يدعون فالاستفهام للإنكار عليهم دعوة أن الملك يؤول إليهم، وهم لشدة بخلهم لو آل الملك لهم لما أعطوا أحدا أحقر الأشياء وأتفهها ولو مقدار نقرة نواة وهذا ذم لهم بالبخل بعد ذمهم بلازم الجهل وهو تفضيلهم الشرك على التوحيد. وقوله تعالى: { أم يحسدون الناس على مآ آتهم الله من فضله فقد آتينآ آل إبرهيم الكتب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } أم بمعنى بل كسابقتها بل للاضراب - الانتقالي من حال سيئة إلى أخرى، والهمزة للإنكار ينكر تعالى عليهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على النبوة والدولة، وهو المراد من الناس وقوله تعالى { فقد آتينآ آل إبرهيم الكتب } كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل { والحكمة } التي هي السنة التي كانت لأولئك الأنبياء يتلقونها وحيا من الله تعالى وكلها علم نافع وحكم صائب سديد والملك العظيم هو ما كان لدواد وسليمان عليهما السلام كل هذا يعرفه اليهود فلم لا يحسدون من كان لهم ويحسدون محمدا والمسلمين والمراد من السياق ذم اليهود بالحسد كما سبق ذمهم بالبخل والجهل مع العلم.
وقوله تعالى في الآية [55] { فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه } يريد أن من اليهود المعاهدين للنبي صلى الله عليه وسلم من آمن بالنبي محمد ورسالته، وهم القليل، { ومنهم من صد عنه } أي انصرف وصرف الناس عنه وهم الأكثرون { وكفى بجهنم سعيرا } لمن كفر حسدا وصد عن سبيل الله بخلا ومكرا، أي حسبه جهنم ذات السعير جزاء له على الكفر والحسد والبخل. والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الكفر بالجبت والطاغوت.
2- بيان مكر اليهود وغشهم وأنهم لا يتورعون عن الغش والكذب والتضليل.
3- ذم الحسد والبخل.
4- إيمان بعض اليهود بالإسلام، وكفر أكثرهم مع علمهم بصحة الإسلام ووجوب الإيمان به والدخول فيه.
[4.56-57]
شرح الكلمات:
نصليهم نارا: ندخلهم نارا يحترقون بها.
نضجت جلودهم: اشتوت فتهرت وتساقطت.
ليذوقوا العذاب: ليستمر لهم العذاب مؤلما.
عزيزا حكيما: غالبا، يعذب من يستحق العذاب.
تجري من تحتها الأنهار: تجري من خلال أشجارها وقصورها الأنهار.
مطهرة: من الأذى والقذى مطلقا.
ظلا ظليلا: الظل الظليل، الوارف الدائم لا حر فيه ولا برد فيه.
معنى الآيتين:
على ذكر الإيمان والكفر في الآية السابقة ذكر تعالى في هاتين الآيتين الوعيد والوعد الوعيد لأهل الكفر والوعد لأهل الإيمان فقال تعالى: { إن الذين كفروا بآيتنا سوف نصليهم نارا } يريد يدخلهم نار جهنم يحترقون فيها ويصطلون بها { كلما نضجت جلودهم } تهرت وسقطت بدلهم الله تعالى فورا جلودا غيرها ليتجدد ذوقهم للعذاب وإحساسهم به، وقوله تعالى { إن الله كان عزيزا حكيما } تذييل المقصود منه إنفاذ الوعيد فيهم، لأن العزيز الغالب لا يعجز عن إنفاذ ما توعد به أعداءه، كما أن الحكيم في تدبيره يعذب أهل الكفر به والخروج عن طاعته هذا ما تضمنته الآية الأولى [56] من وعيد لأهل الكفر.
وأما الآية الثانية [57] فقد تضمنت البشرى السارة لأهل الإيمان وصالح الأعمال، مع اجتناب الشرك والمعاصي فقال تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي بعد تركهم الشرك والمعاصي { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا لهم فيهآ أزواج مطهرة } يريد نساء من الحور العين مطهرات من كل ما يؤذي أو يخل بحسنهن وجمالهن نقيات من البول والغائط ودم الحيض. وقوله تعالى: { وندخلهم ظلا ظليلا } وارفا كنينا يقيهم الحر والبرد وحدث يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة فقال:
" في الجنة شجرة تسمى شجرة الخلد يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطع ظلها ".
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- الكفر والمعاصي موجبات للعذاب الأخروي.
2- بيان الحكمة في تبديل الجلود لأهل النار وهي أن يدوم إحساسهم بالعذاب.
3- الإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي موجبات للنعيم الأخروي.
4- الجنة دار النعيم خالية من كدرات الصفو والسعادة فيها.
[4.58-59]
شرح الكلمات:
أن تؤدوا الأمانات: أداء الأمانة: تسليمها إلى المؤتمن، والأمانات جمع أمانة وهي ما يؤتمن عليه المرء من قول أو عمل أو متاع.
العدل: ضد الجور والانحراف بنقص أو زيادة.
نعما يعظكم: نعم شيء يعظكم أي يأمركم به أداء الأمانات والحكم بالعدل.
وأولي الأمر منكم: أولوا الأمر: هم الأمراء والعلماء من المسلمين.
تنازعتم في شيء: اختلفتم فيه كل فريق يريد أن ينتزع الشيء من يد الفريق الآخر.
ردوه إلى الله والرسول: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأحسن تأويلا: أحسن عاقبة، لأن تأول الشيء ما يؤول إليه في آخر الأمر.
معنى الآيتين:
روي أن الآية الأولى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات } نزلت في شأن عثمان بن طلحة الحجبي حيث كان مفتاح الكعبة عنده بوصفه سادنا فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه صبيحة يوم الفتح فصلى في البيت ركعتين وخرج فقال العباس رضي الله عنه اعطينيه يا رسول الله ليجمع بين السقاية والسدانة فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية على الناس ودعا عثمان بن طلحة وأعطاه المفتاح. غير أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولذا فالآية في كل أمانة فعلى كل مؤتمن على شيء أن يحفظه ويرعاه حتى يؤديه إلى صاحبه والآية تتناول حكام المسلمين أولا بقرينة { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } الذي هو القسط وضد الجور ومعناه إيصال الحقوق إلى مستحقيها من أفراد الرعايا. وقوله تعالى: { إن الله نعما يعظكم به } يريد أن أمره تعالى أمة الإسلام حكاما ومحكومين بأداء الأمانات والحكم بالعدل هو شيء حسن، وهو كذلك إذ قوام الحياة الكريمة هو النهوض بأداء الأمانات والحكم بالعدل وقوله تعالى: { إن الله كان سميعا بصيرا } فيه الحث على المأمور به بإيجاد ملكة مراقبة الله تعالى في النفس، فإن من ذكر أن الله تعالى يسمع أقواله ويبصر أعماله استقام في قوله فلم يكذب وفي عمله فلم يفرط. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [58].
أما الثانية [59]، فإن الله تعالى لما أمر ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانات التي هي حقوق الرعية، وبالحكم بينهم بالعدل أمر المؤمنين المولي عليهم بطاعته وطاعة رسوله أولا ثم بطاعة ولاة الأمور ثانيا فقال: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ، والطاعة لأولي الأمر مقيدة بما كان معروفا للشرع أما في غير المعروف فلا طاعة في الاختيار لحديث:
" إنما الطاعة في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".
وقوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } فهو خطاب عام للولاة، والرعية فمتى حصل خلاف في أمر من أمور الدين والدنيا وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبما حكما فيه وجب قبوله حلوا كان أو مرا، وقوله تعالى: { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فيه أن الإيمان يستلزم الإذعان لقضاء الله ورسوله، وهو يفيد أن رد الأمور المتنازع فيها إلى غير الشرع قادح في إيمان المؤمن وقوله: { ذلك خير وأحسن تأويلا } ، يريد ذلك الرد والرجوع بالمسائل والقضايا المختلف فيها إلى الكتاب والسنة هو خير حالا ومآلا، لما فيه من قطع النزاع والسير بالأمة متحدة متحابة متعاونة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- وجوب رد الأمانات بعد المحافظة عليها.
2- وجوب العدل في الحكم وحرمة الحيف والجور فيه.
3- وجوب طاعة الله وطاعة الرسول وولاة المسلمين من حكام وعلماء فقهاء، لأن طاعة الرسول من طاعة الله، وطاعة الوالي من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث:
" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقط أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أمري فقد عصاني ".
4- وجوب رد المتنازع فيه عقيدة أو عبادة أو قضاء إلى الكتاب والسنة ووجوب الرضا بقضائهما.
5- العاقبة الحميدة والحال الحسنة السعيدة في رد أمة الإسلام ما تتنازع فيه إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
[4.60-63]
شرح الكلمات:
يزعمون: يقولون كاذبين.
بما أنزل إليك: القرآن، وما أنزل من قبلك: التوراة.
الطاغوت: كل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة والمراد به هنا كعب بن الأشرف اليهودي أو كاهن من كهان العرب.
المنافقين: جمع منافق: وهو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان خوفا من المسلمين.
يصدون: يعرضون عنك ويصرفون غيرهم كذلك.
مصيبة: عقوبة بسبب كفرهم ونفاقهم.
إن يريدون: أي ما يريدون.
إلا إحسانا: أي صلحا بين المتخاصمين.
وتوفيقا: جمعا وتأليفا بين المختلفين.
فأعرض عنهم: أي اصفح عنهم فلا تؤاخذهم.
وعظهم: مرهم بما ينبغي لهم ويجب عليهم.
قولا بليغا: كلاما قويا يبلغ شغاف قلوبهم لبلاغته وفصاحته.
معنى الآيات:
روي أن منافقا ويهوديا اختلفا في شيء فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه يحكم بالعدل ولا يأخذ رشوة، وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي فتحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فنزلت فيهما هذه الآية: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بمآ أنزل إليك } والمراد بهذا المنافق، { ومآ أنزل من قبلك } والمراد به اليهودي والاستفهام للتعجب ألم ينته إلى علمك موقف هذين الرجلين { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } " كعب بن الأشرف " ، أو الكاهن الجهني، وقد أمرهم الله أن يكفروا به { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } حيث زين له التحاكم عند الكاهن أو كعب اليهودي.
{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول } ليحكم بينكم رأيت ياللعجب المنافقين يعرضون عنك إعراضا هاربين من حكمك غير راضين بالتحاكم إليك لكفرهم بك وتكذيبهم لك { فكيف إذآ أصبتهم مصيبة } وحلت بهم قارعة بسبب ذنوبهم أيبقون معرضين عنك؟ أم ماذا؟ { ثم جآءوك يحلفون بالله } قائلين، ما أردنا إلا الإحسان في عملنا ذلك والتوفيق بين المتخاصمين. هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث، وأما الرابعة وهي قوله تعالى: { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } فإن الله تعالى يشير إليهم بأولئك لبعدهم في الخسة والانحطاط فيقول { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } أي من النفاق والزيغ فهم عرضة للنقمة وسوء العذاب، { فأعرض عنهم } فلا تؤاخذهم، { وعظهم } آمرا إياهم بتقوى الله والإسلام له ظاهرا وباطنا مخوفا إياهم من عاقبة سوء أفعالهم بترك التحاكم إليك وتحاكمهم إلى الطاغوت، وقل لهم في خاصة أنفسهم قولا بليغا ينفذ إلى قلوبهم فيحركها ويذهب عنها غفلتها علهم يرجعون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا وجد عالم بهما.
2- وجوب الكفر بالطاغوت أيا كان نوعه.
3- وجوب الدعوة إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ووجوب قبولها.
4- استحباب الإعراض عن ذوي الجهالات، ووعظهم بالقول البليغ الذي يصل إلى قلوبهم فيهزها.
[4.64-65]
شرح الكلمات:
بإذن الله: إذن الله: إعلامه بالشيء وأمره به.
ظلموا أنفسهم: بالتحاكم إلى الطاغوت وتركهم التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
استغفروا الله: طلبوا منه أن يغفر لهم بلفظ اللهم اغفر لنا، أو استغفروا الله.
يحكموك: يجعلونك حكما بينهم ويفوضون الأمر إليك.
فيما شجر بينهم: أي اختلفوا فيه لاختلاط وجه الحق والصواب فيه بالخطأ والباطل.
حرجا: ضيقا وتحرجا.
مما قضيت: حكمت فيه.
ويسلموا: أي يذعنوا لقبول حكمك ويسلمون به تسليما تاما.
معنى الآيتين:
بعد تقرير خطأ وضلال من أرادا أن يتحاكما إلى الطاغوت كعب بن الأشرف اليهودي وهما اليهودي والمنافق في الآيات السابقة أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسل رسولا من رسله المئات إلا وأمر المرسل إليهم بطاعته واتباعه والتحاكم إليه وتحكيمه في كل ما يختلفون فيه وذلك أمره وقضاؤه وتقديره فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن كما أخبر تعالى أن أولئك الظالمين لأنفسهم بتحاكمهم إلى الطاغوت وصدودهم عن التحاكم إليك أيها الرسول لو جاءوك متنصلين من خطيئتهم مستغفرين الله من ذنوبهم واستغفرت لهم أنت أيها الرسول أي سألت الله تعالى لهم المغفرة لو حصل منهم هذا لدل ذلك على توبتهم وتاب الله تعالى عليهم فوجدوه عز وجل { توابا رحيما }. هذا معنى الآية [64] { ومآ أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما }.
وأما الآية الثانية [65] { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } فإن الله تعالى يقول { فلا } أي ليس الأمر كما يزعمون، ثم يقسم تعالى فيقول { وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } أيها الرسول أي يطلبون حكمك فيما اختلفوا فيه واختلط عليهم من أمورهم ثم بعد حكمك لا يجدون في صدروهم أدنى شك في صحة حكمك وعدالته، وفي التسليم له والرضا به وهو معنى الحرج المتبقي في قوله، { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وينهى عنه.
2- بطلان من يزعم أن في الآية دليلا على جواز طلب الاستغفار من الرسول صلى الله عليه وسلم لأن قوله تعالى { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك } الآية نزلت في الرجلين اللذين أرادا التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول الله صل الله عليه وسلم فاشترط توبتهما إتيانهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفارهما الله تعالى، واستغفار الرسول لهما، وبذلك تقبل توبتهما، وإلا فلا توبة لهما أما من عداهما فتوبته لا تتوقف على إتيانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لاستغفاره له وهذا محل إجماع بين المسلمين.
3- كل ذنب كبر أو صغر يعتبر ظلما للنفس وتجب التوبة منه بالاستغفار والندم والعزم على عدم مراجعته بحال من الأحوال.
4- وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة وحرمة التحاكم إلى غيرهما.
5- وجوب الرضا بحكم الله ورسوله والتسليم به.
[4.66-70]
شرح الكلمات:
كتبنا عليهم: فرضنا عليهم وأوجبنا.
أن اقتلوا أنفسكم: أي قتل أنفسهم.
ما فعلوه إلا قليل منهم: أي ما فعل القتل إلا قليل منهم.
ما يوعظون به: أي ما يؤمرون به وينهون عنه.
وأشد تثبيتا: أي للإيمان في قلوبهم.
الصديقين: جمع صديق: وهو من غلب عليه الصدق في أقواله وأحواله لكثرة ما يصدق ويتحرى الصدق.
والشهداء: جمع شهيد: من مات في المعركة ومثله من شهد بصحة الإسلام بالحجة والبرهان.
والصالحون: جمع صالح: من أدى حقوق الله تعالى وأدى حقوق العباد، وصلحت نفسه وصلح عمله وغلب صلاحه على فساده.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أولئك النفر الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به فقال تعالى: { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } أي بقتل بعضكم بعضا كما حصل ذلك لبني إسرائيل لما فعلوا كما أنا لو كتبنا عليهم أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين في سبيلنا { ما فعلوه إلا قليل } منهم. ثم قال تعالى داعيا لهم مرغبا لهم في الهداية: { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } أي ما يذكرون به ترغيبا وترهيبا من أوامر الله تعالى لهم بالطاعة والتسليم لكان ذلك خيرا في الحال والمآل، { وأشد تثبيتا } للإيمان في قلوبهم وللطاعة على جوارحهم، لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والحسنة تنتج حسنة، والسيئة تتولد عنها سيئة، ويقول تعالى: { وإذا لأتينهم من لدنآ أجرا عظيما } يريد لو أنهم استجابوا لنا وفعلوا ما أمرناهم به من الطاعات، وتركوا ما نهيناهم عنه من المعاصي لأعطيناهم من لدنا أجرا عظيما يوم يلقوننا ولهديناهم في الدنيا { صراطا مستقيما } ألا وهو الإسلام الذي هو طريق الكمال والإسعاد في الحياتين وهدايتهم إليه هي توفيقهم للسير فيه وعدم الخروج عنه. هذا ما دلت عليه الآيات [66 - 67 - 68].
أما الآية [69] وهي قوله تعالى: { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } فقد روى ابن جرير في تفسيره أنها نزلت حين قال بعض الصحابة يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل الله تعالى: { من يطع الله والرسول فأولئك } الآية. وما أنعم الله تعالى عليه هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته عز وجل ومعرفة محابه ومساخطه والتوفيق لفعل المحاب وترك المساخط هذا في الدنيا، وأما ما أنعم به عليهم في الآخرة فهو الجوار الكريم في دار النعيم. والصديقين هم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به والشهداء جمع شهيد وهو من قتل في سبيل الله والصالحون جمع صالح وهو من أدى حقوق الله تعالى وحقوق عباده كاملة غير منقوصة وقوله تعالى: { وحسن أولئك رفيقا } يريد وحسن أولئك رفقاء في الجنة يستمتعون برؤيتهم والحضور في مجالسهم، لأنهم ينزلون إليهم، ثم يعودون إلى منازلهم العالية ودرجاتهم الرفيعة.
وقوله تعالى: { ذلك الفضل من الله } يريد أن ذلك الالتقاء مع من ذكر تم لهم بفضل الله تعالى، لا بطاعتهم. وقوله { وكفى بالله عليما } أي بأهل طاعته وأهل معصيته وبطاعة المطيعين ومعصية العاصين، ولذلك يتم الجزاء عادلا رحيما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قد يكلف الله تعالى بالشاق للامتحان والابتلاء كقتل النفس والهجرة من البلد ولكن لا يكلف بما لا يطاق.
2- الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعصيات.
3- الطاعات تثمر قوة الإيمان وتؤهل لدخول الجنان.
4- مواكبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة ثمرة من ثمار طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
[4.71-73]
شرح الكلمات:
خذوا حذركم: الحذر والحذر: الاحتراس والاستعداد لدفع المكروه بحسبه.
فانفروا ثبات: النفور: الخروج في اندفاع وانزعاج، والثبات: جمع ثبة وهي الجماعة.
ليبطئن: أي يتباطأ في الخروج فلا يخرج.
مصيبة: قتل أو جراحات وهزيمة.
شهيدا: أي حاضرا الغزوة معهم.
فضل: نصر وغنيمة.
مودة: صحبة ومعرفة مستلزمة للمودة.
فوزا عظيما: نجاة من معرة التخلف عن الجهاد، والظفر بالسلامة والغنيمة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا } ينادي الله تعالى عباده المؤمنين وهم في فترة يستعدون فيها لفتح مكة وإدخالها في حضيرة الإسلام خذوا الأهبة والاستعداد حتى لا تلاقوا عدوكم وأنتم ضعفاء، قوته أشد من قوتكم { فانفروا ثبات } عصابة بعد عصابة وجماعة بعد أخرى { أو انفروا جميعا } بقيادتكم المحمدية وذلك بحسب ما يتطلبه الموقف وتراه القيادة ثم أخبرهم وهو العليم أن منهم أي من عدادهم وأفراد مواطينهم لمن والله ليبطئن عن الخروج إلى الجهاد نفسه وغيره معا لأنه لا يريد لكم نصرا لأنه منافق كافر الباطن وإن كان مسلم الظاهر ويكشف عن حال هذا النوع من الرجال الرخيص فيقول: { فإن أصبتكم } أيها المؤمنون الصادقون { مصيبة } قتل أو جراح أو هزيمة قال في فرح بما أصابكم وما نجا منه: لقد أنعم الله علي إذا لم أكن معهم حاضرا فيصبني ما أصابهم، { ولئن أصبكم فضل من الله } أي نصر وغنيمة { ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } أي معرفة ولا صلة يا ليتني متمنيا حاسدا - كنت معهم في الغزاة { فأفوز فوزا عظيما } بالنجاة من معرة التخلف والظفر بالغنائم والعودة سالما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب أخذ الأهبة والاستعداد التام على أمة الإسلام في السلم والحرب سواء.
2- وجوب وجود خبرة عسكرية كاملة وقيادة رشيدة مؤمنة حكيمة عليمة.
3- وجود منهزمين روحيا مبطئين حسدة بين المسلمين وهم ضعاف الإيمان فلا يؤبه لهم ولا يلتفت إليهم.
[4.74-76]
شرح الكلمات:
سبيل الله: الطريق الموصلة إلى إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد وحده، ولا يضطهد مسلم في دينه، ولا من أجل دينه.
يشرون: يبيعون، إذ يطلق الشراء على البيع أيضا.
المستضعفين: المستضعف الذي قام به عجز فاستضعفه غيره فآذاه لضعفه.
القرية: القرية في عرف القرآن المدينة الكبيرة والجامعة والمرد بها هنا مكة المكرمة.
في سبيل الطاغوت: أي في نصرة الشرك ومساندة الظلم والعدوان، ونشر الفساد.
معنى الآيتين:
بعد ما أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم وهو الأهبة للقتال أمرهم أن يقاتلوا فقال: { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } أي يبيعون الدنيا ليفوزوا بالآخرة وهم المؤمنون حقا فيقدمون أموالهم وأرواحهم طلبا للفوز بالدار الآخرة تقاتلون من لا يؤمن بالله ولا بلقائه بعد أن يدعوه إلى الإيمان بربه والتوبة إليه، ثم أخبرهم أن من يقاتل استجابة لأمره تعالى فيقتل أي يستشهد أو يغلب العدو وينتصر على كلا الحالين فسوف يؤتيه الله تعالى أجرا عظيما وهو النجاة من النار ودخول الجنة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [74].
أما الآية الثانية [75] فإن الله تعالى بعدما أمر عباده بالجهاد استحثهم على المبادرة وخوض المعركة بقوله: { وما لكم لا تقتلون في سبيل الله } ليعبد وحده ويعز أولياؤه { والمستضعفين من الرجال والنسآء والولدن } الذين يضطهدون من قبل المشركين ويعذبون من أجل دينهم حتى صرخوا وجأروا بالدعاء إلى ربهم قائلين: { ربنآ أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا } يلي أمرنا ويكفينا ما أهمنا، { واجعل لنا من لدنك نصيرا } ينصرنا على أعدائنا أي شيء يمنعكم أيها المؤمنون من قتال في سبيل الله، ليعبد وحده، وليتخلص المستضعفون من فتنة المشركين لهم من أجل دينهم؟.
ثم في الآية الثالثة [76] أخبر تعالى عبده المؤمنين حاضا لهم على جهاد أعدائه وأعدائهم بقوله: { الذين آمنوا يقتلون في سبيل الله } لأنهم يؤمنون به وبوعده ووعيده { والذين كفروا يقتلون في سبيل الطغوت } وهو الكفر والظلم لأنهم لا يؤمنون بالله تعالى ولا بما عنده من نعيم، ولا بما لديه من عذاب ونكال { فقتلوا أولياء الشيطن } وهم الكفار، ولا ترهبوهم { إن كيد الشيطن كان } وما زال { ضعيفا } ، فلا يثبت هو وأولياؤه من الكفرة، أمام جيش الإيمان أولياء الرحمن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فرضية القتال في سبيل الله ولأجل إنقاذ المستضعفين من المؤمنين نصرة للحق وإبطالا للباطل.
2- المقاتل في سبيل الله باع دنياه واعتاض عنها الآخرة، ولنعم البيع.
3- المجاهد يؤوب بأعظم صفقة سواء قتل، أو انتصر وغلب وهي الجنة.
4- لا يمنع المؤمنين من الجهاد خوف أعدائهم، لأن قوتهم من قوة الشيطان وكيد الشيطان ضعيف.
[4.77-79]
شرح الكلمات:
كفوا أيديكم: أي عن القتال وذلك قبل أن يفرض.
كتب عليهم القتال: فرض عليهم.
يخشون: يخافون
لولا أخرتنا: هلا أخرتنا.
فتيلا: الفتيل خيط يكون في وسط النواة.
بروج مشيدة: حصون مشيدة بالشيد وهو الجص.
من حسنة: الحسنة ما سر، والسيئة ما ضر.
معنى الآيات:
روي أن بعضا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم طالبوا بالإذن لهم بالقتال ولم يؤذن لهم لعدم توفر أسباب القتال فكانوا يؤمرون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ريثما يأذن الله تعالى لرسوله بقتال المشركين ولما شرع القتال جبن فريق منهم عن القتال وقالوا { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } متعللين بعلل واهية فأنزل الله تعالى فيهم هاتين الآيتين [77] و [78] { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } أي عن القتال { وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } ريثما يأذن الله بالقتال عندما تتوفر إمكانياته، فلما فرض القتال ونزل قوله تعالى:
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا
[الحج: 39] جبنوا ولم يخرجوا للقتال، وقالوا { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } يريدون أن يدافعوا الأيام حتى يموتوا ولم يلقوا عدوا خورا وجبنا فأمر تعالى الرسول أن يقول لهم: { متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } فعيشكم في الدنيا مهما طابت لكم الحياة هو قليل { والآخرة خير لمن اتقى } الله بفعل أمره وترك نهيه بعد الإيمان به وبرسوله، وسوف تحاسبون على أعمالكم وتجزون بها { ولا تظلمون فتيلا } لا بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة هذا ما تضمنته الآية الأولى.
أما الثانية فقد قال تعالى لهم ولغيرهم مما يخشون القتال ويجبنون عن الخروج للجهاد: { أينما تكونوا يدرككم الموت } إذ الموت طالبكم ولا بد أن يدرككم كما قال تعالى لأمثالهم
قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم
[الجمعة: 8]، ولو دخلتم حصونا ما فيها كوة ولا نافذة فإن الموت يدخلها عليكم ويقبض أرواحكم ولما ذكر تعالى جبنهم وخوفهم ذكر تعالى سوء فهمهم وفساد ذوقهم فقال: { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } يعني أنه إذا أصابهم خير من غنيمة أو خصب ورخاء قالوا { هذه من عند الله } لا شكرا لله وإنما لا يريدون أن ينسبوا إلى رسول الله شيئا من خير كان ببركته وحسن قيادته، وإن تصبهم سيئة فقر أو مرض أو هزيمة يقولون هذه من عندك أي أنت السبب فيها. قال تعالى لرسوله قل لهم { كل من عند الله } الحسنة والسيئة هو الخالق والواضع السنن لوجودها وحصولها. ثم عابهم في نفسياتهم الهابطة فقال: { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } هذا ما دلت عليه الآية الثانية.
أما الثالثة والأخيرة في هذا السياق وهي قوله تعالى: { مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك } الآية فإن الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيخبره بأن الحسنة من الله تعالى إذ هو الآمر بقولها أو فعلها وموجد أسبابها والموفق للحصول عليها، أما السيئة فمن النفس إذ هي التي تأمر بها، وتباشرها مخالفة فيها أمر الله أو نهيه، فلذا لا يصح نسبتها إلى الله تعالى .
وقوله تعالى: { وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا } يسلى به رسوله عما يلاقيه من أذى الناس وما يصادفه من سوء أخلاق بعضهم كالذين ينسبون إليه السيئة تطيرا به فيخبره بأن مهمته أداء الرسالة وقد أداها والله شاهد على ذلك ويجزيك عليه بما أنت أهله وسيجزي من رد رسالتك وخرج عن طاعتك وكفى بالله شهيدا.
{ هداية الآية }:
من هداية الآيات:
1- قبح الاستعجال والجبن وسوء عاقبتهما.
2- الآخرة خير لمن اتقى من الدنيا.
3- لا مفر من الموت ولا مهرب منه بحال من الأحوال.
4- الخير والشر كلاهما بتقدير الله تعالى.
5- الحسنة من الله والسيئة من النفس إذ الحسنة أمر الله بأسبابها بعد أن أوجدها وأعان عليها، وأبعد الموانع عنها والسيئة من النفس لأن الله نهى عنها وتوعد على فعلها، ولم يوفق إليها ولم يعن عليها فهي من النفس لا من الله تعالى.
[4.80-83]
شرح الكلمات:
حفيظا: تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها.
طاعة: أي أمرنا طاعة لك.
برزوا: خرجوا.
أفلا يتدبرون: تدبر القرآن قراءة الآية أو الآيات وإعادتها المرة بعد المرة ليفقه مراد الله تعالى منها.
أذاعوا به: أفشوه معلنينه للناس.
يستنبطونه: يستخرجون معناه الصحيح.
معنى الآيات:
في قوله تعالى: { من يطع الرسول } إنذار إلى الناس كافة في أن من لم يطع الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما أطاع الله تعالى، إن أمر الرسول من أمر الله ونهيه من نهي الله تعالى فلا عذر لأحد في عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: { ومن تولى } أي عن طاعتك فيما تأمر به وتنهى عنه فدعه ولا تلتفت إليه إذ لم ترسلك لتحصي عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتجزيهم بها إن عليك إلا البلاغ وقد بلغت فأعذرت. وقوله تعالى { ويقولون طاعة } أي ويقول أولئك المنافقون المتطيرون بك السيئو الفهم لما تقول: طاعة أي أمرنا طاعة لك أي ليس لنا ما نقول إذا قلت ولا ما نأمر به إذا أمرت فنحن مطيعون لك { فإذا برزوا } أي خرجوا من مجلسك بدل طائفة منهم غير الذي تقول واعتزموه دون الذي وافقوا عليه أمامك وفي مجلسك والله تعالى يكتب بواسطة ملائكته الكرام الكاتبين ما يبيتونه من الشر والباطل وعليه { فأعرض عنهم وتوكل على الله } ولا تبال بهم { وكفى بالله وكيلا } فهو حسبك وكافيك ما يبيتونه من الشر لك.
وقوله تعالى في الآية الثالثة [82] { أفلا يتدبرون القرآن } يؤنبهم بإعراضهم وجهلهم وسوء فهمهم إذ لو تدبروا القرآن وهو يتلى عليهم وسمعوه صباح مساء لعرفوا أن الرسول حق وأن ما جاء به حق فآمنوا وأسلموا وحسن إسلامهم، وانتهى نفاقهم الذي أفسد قلوبهم وعفن آراءهم، إن تدبر القرآن بالتأمل فيه وتكرار آياته مرة بعد أخرى يهدي إلى معرفة الحق من الباطل وأقرب ما يفهمونه لو تدبروا أن القرآن كلام الله تعالى وليس كلام بشر، إذ لو كان كلام بشر لوجد فيه التناقض والإختلاف والتضاد، ولكنه كلام خالق البشر، فلذا هو متسق الكلم متآلف الألفاظ والمعاني محكم الآي هاد إلى الإسعاد والكمال، فهو بذلك كلام الله حقا ومن شرف بإنزاله عليه رسول حق ولا معنى أبدا للكفر بعد هذا والإصرار عليه، ومنافقة المسلمين فيه. هذا معنى قوله تعالى: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }.
وقوله: { وإذا جآءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } وهي الآية الرابعة [83] فإن الله تعالى يخبر عن أولئك المرضى بمرض النفاق ناعيا عليهم ارجافهم وهزائمهم المعنوية فيقول { وإذا جآءهم أمر من الأمن أو الخوف } أي إذا وصل من سرايا الجهاد خبر بنصر أو هزيمة سارعوا فإفشائه وإذاعته، وذلك عائد إلى مرض قلوبهم لأن الخبر وأطلق عليه لفظ الأمر لأن حالة الحرب غير حالة السلم إذا كان بالنصر المعبر عنه بالأمن فهم يعلنونه حسدا أو طمعا، وإذا كان بالهزيمة المعبر عنها بالخوف يعلنونه فزعا وخوفا لأنهم جبناء كما تقدم وصفهم، قال تعالى في تعليمهم وتعليم غيرهم ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون في حال الحرب، { ولو ردوه إلى الرسول } القائد الأعلى، { وإلى أولي الأمر منهم } وهم أمراء السرايا المجاهدة { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } أي لاستخرجوا سر الخبر وعرفوا ما يترتب عليه فإن كان نافعا أذاعوه، وإن كان ضارا أخوفه.
ثم قال تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } أيها المؤمنون { لاتبعتم الشيطان } في قبول تلك الإشاعات المغرضة والإذاعات المثبطة { إلا قليلا } منكم من ذوي الآراء الصائبة والحصافة العقلية إذ مثلهم لا تثيرهم الدعاوي، ولا تغيرهم الأراجيف، ككبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يطاع لذاته وإنما يطاع لذات الله عز وجل.
2- وجوب تدبر القرآن لتقوية الإيمان.
3- آية أن القرآن وحي الله وكلامه سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني.
4- تقرير مبدأ أن أخبار الحرب لا تذاع إلا من قبل القيادة العليا حتى لا يقع الاضطراب في صفوف المجاهدين والأمة كذلك.
5- أكثر الناس يتأثرون بما يسمعون إلا القليل من ذوي الحصافة العقلية والوعي الساسي.
[4.84-86]
شرح الكلمات:
حرض المؤمنين: حثهم على الجهاد وحرضهم على القتال.
بأس الذين كفروا: قوتهم الحربية.
وأشد تنكيلا: أقوى تنكيلا والتنكيل: ضرب الظالم بقوة حتى يكون عبرة لمثله فينكل عن الظلم.
الشفاعة: الوساطة في الخير أو في الشر فإن كانت في الخير فهي الحسنة وإن كانت في الشر فهي السيئة.
كفل منها: نصيب منها.
مقيتا: مقتدرا عليه وشاهدا عليه حافظا له.
بتحية: تحية الإسلام هي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أو ردوها: أي يقول وعليكم السلام.
حسيبا: محاسبا على العمل مجازيا به خيرا كان أو شرا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في السياسة الحربية ففي هذه الآية { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين } يأمر تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين لأجل إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد وحده وينتهي إضطهاد المشركين للمؤمنين وهو المراد من قوله { في سبيل الله } وقوله { لا تكلف إلا نفسك } أي لا يكلفك ربك إلا نفسك وحدها، أما من عداك فليس عليك تكليفه بالقتال، ولكن حرض المؤمنين على القتال معك فحثهم على ذلك ورغبهم فيه. وقوله: { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } وهذا وعد من الله تعالى بأن يكف بأس الذين كفروا فيسلط عليهم رسوله والمؤمنين فيبددوا قوتهم ويهزموهم فلا يبقى لهم بأس ولا قوة وقد فعل وله الحمد والمنة وهو تعالى { أشد بأسا } من كل ذي بأس { وأشد تنكيلا } من غيره بالظالمين من أعدائه.
هذا ما دلت عليه الآية [84] أما الآية [85] وهي قوله تعالى { من يشفع شفعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا } فهو إخبار منه تعالى بأن من يشفع شفاعة حسنة بأن يضم صوته مع مطالب بحق أو يضم نفسه إلى سرية تقاتل في سبيل الله، أو يتوسط لأحد في قضاء حاجته فإن للشافع قسطا من الأجر والمثوبة كما أن { ومن يشفع شفعة سيئة } بأن يؤيد باطلا أو يتوسط في فعل شر أو ترك معروف يكون عليه نصيب من الوزر، لأن الله تعالى على كل شيء مقتدر وحفيظ عليم. هذا ما دلت عليه الآية المذكورة.
أما الآية الأخيرة [86] فإن الله تعالى يأمر عباده المؤمنين بأن يردوا تحية من يحييهم بأحسن منها فإن لم يكن بأحسن فبالمثل، فمن قال: السلام عليكم فليقل الراد وعليكم السلام ورحمة الله، ومن قال السلام عليكم ورحمة الله فليرد عليه وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وقوله تعالى: { إن الله كان على كل شيء حسيبا } فيه تطمين للمؤمنين على أن الله تعالى يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أنه كلف بالقتال وحده وفعل.
2- ليس من حق الحاكم أن يجند المواطنين تجنيدا إجباريا، وإنما عليه أن يحضهم على التجنيد ويرغبهم فيه بوسائل الترغيب.
3- فضل الشفاعة في الخير، وقبح الشفاعة في الشر.
4- تأكيد سنة التحية، ووجوب ردها بأحسن أو بمثل.
5- تقرير ما جاء في السنة بأن السلام عليكم: يعطى عليها المسلم عشر حسنات ورحمة الله: عشر حسنات. وبركاته: عشر كذلك.
[4.87-91]
شرح الكلمات:
لا إله إلا هو: لا معبود بحق إلا هو.
فئتين: جماعتين الواحدة فئة أي جماعة.
أركسهم: الارتكاس: التحول من حال حسنة إلى حال سيئة كالكفر بعد الإيمان أو الغدر بعد الأمان وهو المراد هنا.
سبيلا: أي طريقا إلى هدايتهم.
وليا ولا نصيرا: الولي: من يلي أمرك، والنصير: من ينصرك على عدوك.
يصلون: أي يتصلون بهم بموجب عقد معاهدة بينهم.
ميثاق: عهد.
حصرت صدورهم: ضاقت.
السلم: الاستسلام والانقياد.
الفتنة: الشرك.
ثقفتموهم: وجدتموهم متمكنين منهم.
سلطانا مبينا: حجة بينة على جواز قتالهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى الآيات قبل هذه أنه تعالى المقيت والحسيب أي القادر على الحساب والجزاء أخبر عز وجل أنه الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود دون سواه لربوبيته على خلقه إذ الإله الحق ما كان ربا خالقا رازقا مدبرا بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء وأنه جامع الناس ليوم لا ريب في إتيانه وهو يوم القيامة.
هذا ما دلت عليه الآية الكريمة { الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } ولما كان هذا خبرا يتضمن وعدا ووعيدا أكد تعالى إنجازه فقال: { ومن أصدق من الله حديثا } اللهم إنه لا أحد أصدق منك.
أما الآيات الأربع الباقية وهي [88] و [89] و [90] و [91] فقد نزلت لسبب معين وتعالج مسائل حربية معنية أما السبب الذي نزلت فيه فهو اختلاف المؤمنين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في طائفة من المنافقين أظهروا الإسلام وهم ضليعون في موالاة الكافرين، وقد يكونوا في مكة، وقد يكونون في المدينة فرأى بعض الأصحاب أن من الحزم الضرب على أيديهم وإنهاء نفاقهم، ورأى آخرون تركهم والصبر عليهم ما داموا يدعون الإيمان لعلهم بمرور الأيام يتوبون، فلما اختلفوا واشتد الخلاف في شأنهم أنزل الله تعالى هذه الآيات فقال: { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } ومعنى الآية أي شيء صيركم في شأن المنافقين فئتين؟ والله تعالى قد أركسهم في الكفر بسبب ما كسبوه من الذنوب العظام. أتريدون أيها المسلمون أن تهدوا من أضل الله، وهل يقدر أحد على هداية من أضله الله؟ وكيف، ومن يضلل الله حسب سنته في إضلال البشر لا يوجد له هاد، ولا سبيل لهدايته بحال من الأحوال.
ثم أخبر تعالى عن نفسية أولئك المنافقين المختلف فيهم فقال وهي الآية الثالثة [89] { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء } أي أحبوا من قلوبهم كفركم لتكونوا مثلهم وفيه لازم وهو انتهاء الإسلام، وظهور الكفر وانتصاره.
ومن هنا قال تعالى محرما موالاتهم إلى أن يهاجروا فقال: { فلا تتخذوا منهم أوليآء } تعولون عليهم في نصرتكم على إخوانهم في الكفر. وظاهر هذا السياق أن هؤلاء المنافقين هم بمكة وهو كذلك. وقوله تعالى { حتى يهاجروا في سبيل الله } ، لأن الهجرة إلى المدينة تقطع صلاتهم بدار الكفر فيفتر عزمهم ويراجعوا الصدق في إيمانهم فيؤمنوا فإن هاجروا ثم تولوا عن الإيمان الصحيح إلى النفاق والكفر فأعلنوا الحرب عليهم { فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا } لأنه بارتكاسهم لا خير فيهم ولا يعول عليهم.
ثم في الآية [90] استثنى لهم الرب تعالى صنفين من المنافقين المذكورين فلا يأخذونهم أسرى ولا يقاتلونهم، الصنف الأول الذين ذكرهم تعالى قوله { إلا الذين يصلون } أي يلجأون { إلى قوم بينكم وبينهم ميثق } فبحكم استجارتهم بهم طالبين الأمان منهم فأمنوهم أنتم حتى لا تنقضوا عهدكم. والصنف الثاني قوم ضاقت صدورهم بقتالكم، وقتال قومهم فهؤلاء الذين لم يستسيغوا قتالكم ولا قتال قومهم إن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم واصبروا عليهم، إذ لو شاء الله تعالى لسلطهم عليكم فلقاتلوكم هذا الصنف هو المعني بقوله تعالى: { أو جآءوكم حصرت صدورهم أن يقتلوكم أو يقتلوا قومهم ولو شآء الله لسلطهم عليكم فلقتلوكم } فما دام الله تعالى قد كفهم عنكم فكفوا أنتم عنهم. هذا معنى قوله تعالى: { فإن اعتزلوكم فلم يقتلوكم وألقوا إليكم السلم }. أي المسالمة والمهادنة { فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } لأخذهم وقتالهم. هذا وهناك صنف آخر ذكر تعالى حكم معاملته في الآية الخامسة والأخيرة وهي قوله تعالى: [91] { ستجدون آخرين } غير الصنفين السابقين { يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } فهم إذا يلعبون على الحبلين كما يقال { كل ما ردوا إلى الفتنة } أي إلى الشرك { أركسوا فيها } أي وقعوا فيها منتكسين إذ هم منافقون إذا كانوا معكم عبدوا الله وحده وإذا كانوا مع قومهم عبدوا الأوثان لمجرد دعوة يدعونها يلبون فيرتدون إلى الشرك، وهو معنى قوله تعالى: { كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها } وقوله تعالى: { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم } أي إن لم يعتزلوا قتالكم ويلقوا إليكم السلام وهو الإذعان والإنقياد لكم، ويكفوا أيديهم فعلا عن قتالكم { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } أي حجة واضحة على جواز أخذهم وقتلهم حيثما تمكنتم منهم وعلى أي حال. هذا ما دلت عليه الآيات الخمس مع العلم أن الكف عن قتال المشركين قد نسخ بآيات براءة إلا أن لإمام المسلمين أن يأخذ بهذا النظام عند الحاجة إليه فإنه نظام رباني ما أخذ به أحد وخاب أو خسر، ولكن خارج جزيرة العرب إذ لا ينبغي أن يجتمع فيها دينان.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- وجوب توحيد الله تعالى في عبادته.
2- الإيمان بالبعث والجزاء.
3- خطة حكيمة لمعاملة المنافقين بحسب الظروف والأحول.
4- تقرير النسخ في القرآن.
[4.92-93]
شرح الكلمات:
إلا خطأ: أي إلا قتلا خطأ وهو أن لا يتعمد قتله كأن يرمي صيدا فيصيب إنسانا.
رقبة: أي مملوك عبدا كان أو أمة.
مسلمة: مؤداة وافية.
إلا أن يصدقوا: أي يتصدقوا بها على القاتل فلا يطالبوا بها ولا يأخذوها منه.
ميثاق: عهد مؤكد بالأيمان.
متعمدا: مريدا قتله وهو ظالم له.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة قتال المنافقين متى يجوز ومتى لا يجوز ناسب ذكر قتل المؤمن الصادق في إيمانه خطأ وعمدا وبيان حكم ذلك فذكر تعالى في الآية الأولى [92] أنه لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا في حال الخطأ أما في حال العمد فلا يكون ذلك منه ولا يتأتى له وهو مؤمن لأن الإيمان نور يكشف عن مدى قبح جريمة قتل المؤمن وما وراءها من غضب الله تعالى وعذابه فلا يقدم على ذلك اللهم إلا في حال الخطأ فهذا وارد وواقع، وحكم من قتل خطأ أن يعتق رقبة ذكرا كانت أو أنثى مؤمنة وأن يدفع الدية لأولياء القتيل إلا أن يتصدقوا بها فلا يطالبوا بها ولا يقبلونها والدية مائة من الإبل، أو ألف دينار ذهب، أو إثنا عشر ألف درهم فضة. هذا معنى قوله تعالى: { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } فإن كان القتيل مؤمنا ولكن من قوم هم عدو للمسلمين محاربين فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير، إذ لا تعطى الدية لعدو يستعين بها على حرب المسلمين وإن كان القتيل من قوم كافرين وهو مؤمن أو كافر ولكن بيننا وبين قومه معاهدة، على القاتل تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله، فمن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين فذلك توبته لقوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما } عليما بما يحقق المصلحة لعباده حكيما في تشريعه فلا يشرع إلا ما كان نافعا غير ضار، ومحققا للخير في الحال والمآل.
هذا ما دلت عيله الآية الأولى أما الثانية [93] فإنها بنيت حكم من قتل مؤمنا عمدا عدوانا، وهو أن الكفارة لا تغني عنه شيئا لما قضى الله تعالى له باللعن والخلود في جهنم إذ قال تعالى: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خلدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما لم يعف أولياء الدم فإن عفو عن القصاص ورضوا بالدية أعطوها وإن طالبوا بالقصاص اقتصوا إذ هذا حقهم وأما حق الله تعالى فإن القتيل عبده خلقه ليعبده فمن قتله فالله تعالى رب العبد خصمه وقد توعده بأشد العقوبات وأفظعها، والعياذ بالله تعالى وذلك حقه قال تعالى: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خلدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما }.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان أن المؤمن الحق لا يقع منه القتل العمد للمؤمن.
2- بيان جزاء القتل الخطأ وهو تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله.
3- إذا كان القتيل مؤمنا وكان من قوم كافرين محاربين فالجزاء تحرير رقبة ولا دية.
4- إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين وبينهم ميثاق فالواجب الدية وتحرير رقبة.
5- من لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين.
6- القتل العمد العدوان يجب له أحد شيئين القصاص أو الدية حسب رغبة أولياء الدم وإن عفوا فلهم ذلك وأجرهم على الله تعالى، وعذاب الآخرة وعيد إن شاء الله أنجزه وإن شاء عفا عنه.
[4.94]
شرح الكلمات:
إذا ضربتم: خرجتم تضربون الأرض بأرجلكم غزاة ومسافرين.
فتبينوا: فتثبتوا حتى لا تقتلوا مسلما تحسبونه كافرا.
السلم: الإستسلام والانقياد.
تبتغون: تطلبون.
من الله عليكم: بالهداية فاهتديتم وأصبحتم مسلمين.
معنى الآية الكريمة:
روي أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا فلقوا رجلا يسوق غنما من بني سليم فلما رآهم سلم عليهم قائلا السلام عليكم فقالوا له ما قلتها إلا تقية لتحفظ نفسك ومالك وقتلوه فنزلت هذه الآية { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } يريد خرجتم مسافرين للغزو والجهاد { فتبينوا } ممن تلقونهم في طريقكم هل هم مسلمون فتكفوا عنهم أو كافرين فتقاتلوهم، { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } أعلن إسلامه لكم بالشهادة أو بالسلام { لست مؤمنا } فتكذبونه في دعواه الإسلام لتنالوا منه: { تبتغون } بذلك { عرض الحيوة الدنيا } أي متاعها الزائل فإن كان قصدكم الغنيمة فإن عند الله مغانم كثيرة فأطيعوه وأخلصوا له النية والعمل يرزقكم ويغنمكم خير ما تأملون وترجون وقوله { كذلك كنتم من قبل } أي مثل هذا الرجل الذي قتلتموه رغبة في غنمه كنتم تستخفون بإيمانكم خوفا من قومكم { فمن الله عليكم } بأن أظهر دينه ونصركم فلم تعودوا تخفون دينكم. وعليه فتبينوا مستقبلا، ولا تقتلوا أحدا حتى تتأكدوا من كفره وقوله: { إن الله كان بما تعملون خبيرا } تذييل يحمل الوعد والوعيد، الوعد لمن أطاع والوعيد لمن عصى إذ لازم كونه تعالى خبيرا بالأعمال أنه يحاسب عليه ويجزي بها، وهو على كل شيء قدير.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- مشروعية السير في سبيل الله غزوا وجهادا.
2- وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ.
3- ذم الرغبة في الدنيا لا سيما إذا كانت تتعارض مع التقوى.
4- الاتعاظ بحال الغير والاعتبار بالأحداث المماثلة.
[4.95-96]
شرح الكلمات:
أولوا الضرر: هم العميان والعرج والمرضى.
درجة: منزلة عالية في الجنة.
الحسنى: الجنة.
معنى الآيتين:
روي أن ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة { لا يستوي القعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجهدون في سبيل الله بأمولهم وأنفسهم... } الآية. أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وأنا أعمى يا رسول الله فما برح حتى نزلت { غير أولي الضرر } فأدخلت بين جملتي { لا يستوي القعدون من المؤمنين } { والمجهدون في سبيل الله بأمولهم وأنفسهم } ومعنى الآية: إن الله تعالى ينفي أن يستوي في الأجر والمنزلة عنده تعالى من يجاهد بماله ونفسه ومن لا يجاهد بخلا بماله. وضنا بنفسه، واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه فإن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا لحسن نياتهم، وعدم استطاعتهم فلذا قال { وكلا وعد الله الحسنى } التي هي الجنة، وقوله: { فضل الله المجهدين بأمولهم وأنفسهم على القعدين } أي فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين لعذر درجة، وإن كان الجميع لهم الجنة وهي الحسنى، وقوله تعالى: { فضل الله المجهدين بأمولهم وأنفسهم على القعدين } لغير عذر { أجرا عظيما } وهو الدرجات العالية مع المغفرة والرحمة، وذلك لأن الله تعالى كان أزلا وأبدا غفورا رحيما، ولذا غفر لهم ورحمهم، اللهم اغفر لنا وارحمنا معهم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان فضل المجاهدين على غيرهم من المؤمنين الذين لا يجاهدون.
2- أصحاب الأعذار الشرعية ينالون أجر المجاهدين إن كانت لهم رغبة في الجهاد ولم يقدروا عليه لما قام بهم من أعذار وللمجاهدين فعلا درجة تخصهم دون ذوي الأعذار .
[4.97-100]
شرح الكلمات:
توفاهم: تقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم.
ظالمي أنفسهم: بتركهم الهجرة وقد وجبت عليهم.
فيم كنتم: في أي شيء كنتم من دينكم؟
مصيرا: مأوى ومسكنا.
حيلة: قدرة على التحول.
مراغما: مكانا ودارا لهجرته يرغم ويذل به من كان يؤذيه في داره.
وسعة: في رزقه.
وقع أجره على الله: وجب أجره في هجرته على الله تعالى.
معنى الآيات:
لما كانت الهجرة من آثار الجهاد ناسب ذكر القاعدين عنها لضرورة ولغير ضرورة فذكر تعالى في هذه الآيات الهجرة وأحكامها فقال تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } حيث تركوا الهجرة ومكثوا في دار الهوان يضطهدهم العدو ويمنعهم من دينهم ويحول بينهم وبين عبادة ربهم. هؤلاء الظالمون لأنفسهم تقول لهم الملائكة عند قبض أرواحهم { فيم كنتم }؟ تسألهم هذا السؤال لأن أرواحهم مدساة مظلمة لأنها لم تزك على الصالحات، فيقولون معتذرين: { كنا مستضعفين في الأرض } فلم نتمكن من تطهير أرواحنا بالإيمان وصالح الأعمال، فترد عليهم الملائكة قولهم: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } وتعبدوا ربكم؟ ثم يعلن الله تعالى عن الحكم فيهم بقوله: فأولئك البعداء { مأواهم جهنم } وساءت جهنم مصيرا يصيرون إليه ومأوى ينزلون فيه. ثم استثنى تعالى أصحاب الأعذار كما استثناهم في القعود عن الجهاد في الآيات قبل هذه فقال عز من قائل: { إلا المستضعفين من الرجال والنسآء والولدان } ، واستضعاف الرجال يكون بالعلل والنساء والولدان بالضعف الملازم لهم، هؤلاء الذين لا يستطيعون حيلة أي لا قدرة لهم على التحول والإنتقال لضعفهم، { ولا يهتدون سبيلا } إلى دار الهجرة لعدم خبرتهم بالدروب والمسالك فطمعهم تعالى ورجاهم بقوله: { فأولئك } المذكورون { عسى الله أن يعفو عنهم } فلا يؤاخذهم ويغفر لهم بعض ما قصروا فيه ويرحمهم لضعفهم وكان الله غفورا رحيما.
هذ ما دلت عليه الآيات الثلاث.
أما الآية الرابعة [100] فقد أخبر تعالى فيها أن من يهاجر في سبيله تعالى لا في سبيل دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها يجد بإذن الله تعالى في الأرض مذهبا يذهب إليه ودارا ينزل بها ورزقا واسعا يراغم به عدوه الذي اضطهده حتى هاجر من بلاده، فقال تعالى: { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مرغما كثيرا وسعة } ثم أخبر تعالى أن من خرج مهاجرا في سبيل الله أي لأجل عبادته ونصرة دينه ثم مات في طريق هجرته وإن لم يصل إلى دار الهجرة فقد وجب أجره على الله تعالى وسيوفاه كاملا غير منقوص، ويغفر الله تعالى له ما كان من تقصير سابق ويرحمه فيدخله جنته. إذ قال تعالى: { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الهجرة عندما يحال بين المؤمنين وعبادة ربه تعالى إذ لم يخلق إلا لها.
2- ترك الهجرة كبيرة من كبائر الذنوب يستوجب صاحبها دخول النار.
3- أصحاب الأعذار كما سقط عنهم واجب الجهاد يسقط عنهم واجب الهجرة.
4- فضل الهجرة في سبيل الله تعالى.
5- من مات في طريق هجرته أعطى أجر المهاجر كاملا غير منقوص وهو الجنة.
[4.101-104]
شرح الكلمات:
ضربتم في الأرض: أي مسافرين مسافة قصر وهي أربعة برد أي ثمانية وأربعون ميلا.
إن تقصروا من الصلاة: بأن تصلوا الظهرين ركعتين ركعتين، والعشاء ركعتين لطولها.
إن خفتم أن يفتنكم: هذا خرج مخرج الغالب، فليس الخوف بشرط في القصر وإنما الشرط السفر.
حذرهم: الحيطة والأهبة لما عسى أن يحدث من العدو.
وأسلحتكم: جمع سلاح ما يقاتل به من أنواع الأسلحة.
لا جناح عليكم: أي لا تضييق عليكم ولا حرج في وضع الأسلحة للضرورة.
قضيتم الصلاة: أديتموها وفرغتم منها.
فإذا اطمأننتم: أي ذهب الخوف فحصلت الطمأنينة بالأمن.
كتابا موقوتا: فرضا ذات وقت معين تؤدى فيه لا تتقدمه ولا تتأخر عنه.
ولا تهنوا: أي لا تضعفوا.
تألمون: تتألمون.
معنى الآيات:
بمناسبة الهجرة والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلاة في السفر وذلك بتقصير الرباعية إلى ركعتين فقال تعالى: { وإذا ضربتم في الأرض } أي سرتم فيها مسافرين { فليس عليكم جناح } أي حرج وإثم في { أن تقصروا من الصلوة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن فهذا القيد غالبي فقط، وقال تعالى: { إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين فلذا شرع لهم هذه الرخصة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [101] أما الآيتان بعدها فقد بينت صلاة الخوف وصورتها: أن ينقسم الجيش قسمين قسم يقف تجاه العدو وقسم يصلي مع القائد ركعة، ويقف الإمام مكانه فيتمون لأنفسهم ركعة، ويسلمون ويقفون وجاه العدو، ويأتي القسم الذي كان واقفا تجاه العدو فيصلي بهم الإمام القائد ركعة ويسلم ويتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون، وفي كلا الحالين هم آخذون أسلحتهم لا يضعونها على الأرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم عزل فيكبدهم خسائر فادحة هذا معنى قوله تعالى: { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم } يريد الطائفة الواقعة تجاه العدو لتحميهم منه { ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } وقوله تعالى: { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } سيق هذا الكلام لبيان علة الصلاة طائفة بعد أخرى والأمر بالأخذ بالحذر وحمل الأسلحة في الصلاة، ومن هنا رخص تعالى لهم إن كانوا مرضى وبهم جراحات أو كان هناك مطر فيشق عليهم حمل السلام أن يضعوا أسلحتهم فقال عز وجل: { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } وقوله تعالى: { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } تذييل لكلام محذوف دل عليه السياق قد يكون تقديره فإن الكفار فجرة لا يؤمن جانبهم ولذا أعد الله لهم عذابا مهينا، وإنما وضع الظاهر مكان المضمر إشارة إلى علة الشر والفساد التي هي الكفر.
وقوله تعالى في آية [103] { فإذا قضيتم الصلوة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } فإنه تعالى يأمر المؤمنين بذكره في كل الأحيان لا سيما في وقت لقاء العدو لما في ذلك من القوة الروحية التي تقهر القوى المادية وتهزمها فلا يكتفي المجاهدون بذكر الله في الصلاة فقط بل إذا قضوا الصلاة لا يتركون ذكر الله في كل حال وقوله تعالى: { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلوة } يريد إذا ذهب الخوف وحل الأمن واطمأنت النفوس أقيموا الصلاة بحدودها وشرائطها وأركانها تامة كاملة، لا تخفيف فيها كما كانت في حال الخوف إذ قد تصلي ركعة واحدة وقد تصلي إيماء وإشارة فقط وذلك إذا التحم المجاهدون بأعدائهم. وقوله: { إن الصلوة كانت على المؤمنين كتبا موقوتا } تعليل للأمر بإقام الصلاة فأخبر أن الصلاة مفروضة على المؤمنين وأنها موقوته بأوقات لا تؤدى إلا فيها.
وقوله تعالى في آية [104] { ولا تهنوا في ابتغآء القوم } أي لا تضعفوا في طلب العدو لإنزال الهزيمة به. ولا تتعللوا في عدم طلبهم بأنكم تألمون لجراحاتكم { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله } من النصر والمثوبة العظيمة { ما لا يرجون } فأنتم أحق بالصبر والجلد والمطالبة بقتالهم حتى النصر عليهم وقوله تعالى { وكان الله عليما حكيما } فيه تشجيع للمؤمنين على مواصلة الجهاد، لأن علمهم بأن الله تعالى عليم بأحوالهم والظروف الملابسة لهم وحكيم في شرعه بالأمر والنهي لهم يطمئنهم على حسن العافية لهم بالنصر على أعدائهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية صلاة القصر وهي رخصة أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وعمله فأصبحت سنة مؤكدة لا ينبغي تركها.
2- مشروعية صلاة الخوف وبيان كيفيتها.
3- تأكد صلاة الجماعة بحيث لا تترك حتى في ساعة الخوف والقتال.
4- استحباب ذكر الله تعالى بعد الصلاة وعلى كل حال من قيام وقعود واضطجاع.
5- تقرير فرضية الصلاة ووجوب أدائها في أوقاتها الموقوتة لها.
6- حرمة الوهن والضعف إزاء حرب العدو الاستعانة على قتاله بذكر الله ورجائه.
[4.105-109]
شرح الكلمات:
بما أراك الله: أي بما علمكه بواسطة الوحي.
خصيما: أي مخاصما بالغا في الخصومة مبلغا عظيما.
تجادل: تخاصم.
يختانون أنفسهم: يحاولون خيانة أنفسهم.
يستخفون: يطلبون إخفاء أنفسهم عن الناس.
وهو معهم: بعلمه تعالى وقدرته.
يبيتون: يدبرون الأمر في خفاء ومكر وخديعة.
وكيلا: الوكيل من ينوب عن آخر في تحقيق غرض من الأغراض.
معنى الآيات:
روي أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق وإخوته وكان قد سرق درعا من دار جار له يقال له قتادة وودعها عند يهودي يقال له يزيد بن السمين، ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته المعرة رموا بها اليهودي وقالوا هو السارق، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفوا على براءة أخيهم فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بقطع يد اليهودي لشهادة بني أبيرق عليه وإذا بالآيات تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة، ولما افتضح طعمة وكان منافقا أعلن عن ردته وهرب إلى مكة المكرمة ونقب جدار منزل ليسرق فسقط عليه الجدار فمات تحته كافرا.. وهذا تفسير لآيات قوله تعالى: { إنآ أنزلنا إليك الكتاب } أي القرآن، أيها الرسول { لتحكم بين الناس بمآ أراك الله } أي بما أعلمك وعرفك به لا بمجرد رأي رآه غيرك من الخائنين وعاتبه ربه تعالى بقوله { ولا تكن للخآئنين خصيما } أي مجادلا عنهم، فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة، لأنهم خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة عنهم بأيمانهم الكاذبة. { واستغفر الله } من أجل ما هممت به من عقوبة اليهودي، { إن الله كان غفورا رحيما } فيغفر لك ما هممت به ويرحمك { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } حيث اتهموا اليهودي كذبا وزورا، { إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما } كطعمة بن أبيرق { يستخفون من الناس } حياء منهم، { ولا يستخفون من الله } ولا يستحيون منه، وهو تعالى معهم في الوقت الذي كانوا يدبرون كيف يخرجون من التهمة بإلصاقها باليهودي البريء، وعزموا أن يحلفون على براءة أخيهم وإتهام اليهودي هذا القول مما لا يرضاه الله تعالى.. وقوله عز وجل: { وكان الله بما يعملون محيطا } فما قام به طعمة من سرقة الدرع ووضعها لدى اليهودي ثم اتهامهم اليهودي، وحلفهم على براءة أخيهم كل ذلك جرى تحت علم الله تعالى والله به محيط، فسبحانه من إله عليم عظيم. وقوله تعالى: { هأنتم هؤلاء } أي يا هؤلاء { جدلتم عنهم في الحيوة الدنيا فمن يجدل الله عنهم يوم القيمة أم من يكون عليهم وكيلا } هذا الخطاب موجه إلى الذين وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون عنهم التهمة فعاتبهم الله تعالى بقوله: { هأنتم هؤلاء جدلتم عنهم } ، اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا عنهم تهمة السرقة { فمن يجدل الله عنهم يوم القيمة أم من يكون عليهم وكيلا } يتولى الدفاع عنهم في يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئا والأمر كله لله فتضمنت الآية تقريعا شديدا حتى لا يقف أحد بعد موقفا مخزيا كهذا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- لا يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم.
3- وجوب الاستغفار من الذنب كبيرا كان أو صغيرا.
4- وجوب بغض الخوان الأثيم أيا كان.
5- استحباب الوعظ والتذكير بأحوال يوم القيامة.
[4.110-113]
شرح الكلمات:
سوءا: السوء: ما يسيء إلى النفس أو إلى الغير.
أو يظلم نفسه: ظلم النفس: بغشيان الذنوب وارتكاب الخطايا.
إثما: الإثم: ما كان ضارا بالنفس فاسدا.
بريئا: البريء: من لم يجن جناية قد اتهم بها.
احتمل بهتانا: تحمل بهتانا: وهو الكذب المحير لمن رمي به.
الكتاب والحكمة: الكتاب: القرآن والحكمة السنة.
معنى الآيات:
هذا السياق معطوف على سابقه في حادثة طعمة بن أبيرق وهو يحمل الرحمة الإلهية لأولئك الذين تورطوا في الوقوف إلى جنب الخائن ابن أبيرق فأخبرهم تعالى أن من يعمل سوءا يؤذي به غيره أو يظلم نفسه بارتكاب ذنب من الذنوب ثم يتوب إلى الله تعالى باستغفاره والإنابة إليه يتب الله تعالى عليه ويقبل توبته وهو معنى قوله تعالى في الآية [110] { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } يغفر له ويرحمه.
قوله تعالى { ومن يكسب إثما } أي ذنبا من الذنوب صغيرها وكبيرها { فإنما يكسبه على نفسه } إذ هي التي تتدسى به وتؤاخذ بمقتضاه إن لم يغفر لها. ولا يؤاخذ به غيرها وكان الله عليما أي بذنوب عباده حكيما أي في مجازاتهم بذنوبهم فلا يؤاخذ نفسا بغير ما اكتسبت ويترك نفسا قد اكتسبت [112] يخبر تعالى أن من يرتكب خطيئة ضد أحد، أو يكسب إثما ويرمي به أحدا بريئا منه قد تحمل تبعة عظيمة قد تصليه نار جهنم وهو معنى قوله: { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا }.
وفي الآية [113] يواجه الله تعالى رسوله بالخطاب ممتنا عليه بما حباه به من الفضل والرحمة فيقول: { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طآئفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء } ، والمراد بالطائفة التي ذكر الله تعالى هم بنو أبيرق أخوة طعمة وقوله { وما يضلون إلا أنفسهم } ، فهو كما قال عز وجل ضلالهم عائد عليهم أما الرسول فلن يضره ذلك وقوله تعالى: { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } امتنان من الله تعالى على رسوله بأنه أنزل عليه القرآن أعظم الكتب وأهداها وعلمه الحكمة وهي ما كشف له من أسرار الكتاب الكريم، وما أوحي إليه من العلوم والمعارف التي كلها نور وهدى مبين، وعلمه من المعارف الربانية ما لم يكن يعلم قبل ذلك وبهذا كان فضله على رسوله عظيما فلله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ التوبة تجب ما قبلها، ومن تاب تاب الله عليه.
2- عظم ذنب من يكذب على البرءاء، ويتهم الأمناء بالخيانة.
3- تأثير الكلام على النفوس حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاد يضلله بنو أبيرق فيبرىء الخائن ويدين البريء إلا أن الله عصمه.
4- عاقبة الظلم عائدة على الظالم.
[4.114-115]
شرح الكلمات:
نجواهم: النجوى: المسارة بالكلام، ونجواهم: أحاديثهم التي يسرها بعضهم إلى بعض.
أو بمعروف: المعروف: ما عرفه الشرع فأباحه، أو استحبه أو أوجبه.
ابتغاء مرضاة الله: أي طلبا لمرضاة الله أي للحصول على رضا الله عز وجل.
نؤتيه: نعطيه والأجر العظيم: الجنة وما فيها من نعيم مقيم.
يشاقق الرسول: يحاده ويقاطعه ويعاديه. كمن يقف في شق، والآخر في شق.
ويتبع غير سبيل المؤمنين: أي يخرج عن إجماع المسلمين.
نوله ما تولى: نخذله فنتركه وما تولاه من الباطل والشر والضلال حتى يهلك فيه.
ونصله نار جهنم: أي ندخله النار ونحرقه فيها.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في بني أبيرق ففي الآية الأولى [114] يخبر تعالى أنه لا خير في كثير من أولئك المتناجين ولا في نجواهم لنفاقهم وسوء طواياهم اللهم إلا في نجوى أمر أصحابها بصدقة تعطى لمحتاج إليها من المسلمين، أو معروف استحبه الشارع أو أوجبه من البر والإحسان أو إصلاح بين الناس للإبقاء على الألفة والمودة بين المسلمين. ثم أخبر تعالى أن من يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس طلبا لمرضاة الله تعالى فسوف يثيبه بأحسن الثواب ألا وهو الجنة دار السلام إذ لا أجر أعظم من أجر يكون الجنة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية [115] فإن الله تعالى يتوعد أمثال طعمة بن أبيرق فيقول جل ذكره. { ومن يشاقق الرسول } أي يخالفه ويعاديه { من بعد ما تبين له الهدى } أي من بعد ما عرف أنه رسول الله حقا جاء بالهدى ودين الحق، ثم هو مع معاداته للرسول يخرج من جماعة المسلمين ويتبع غير سبيلهم هذا الشقي الخاسر { نوله ما تولى } أي نتركه لكفره وضلاله خذلانا له في الدنيا ثم نصله نار جهنم يحترق فيها، وبئس المصير جهنم يصير إليها المرء ويخلد فيها.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة تناجي إثنين دون الثالث لثبوت ذلك في السنة.
2- الاجتماعات السرية لا خير فيها إلا اجتماعا كان لجمع صدقة، أو لأمر بمعروف أو إصلاح بين متنازعين من المسلمين مختلفين.
3- حرمة الخروج عن أهل السنة والجماعة، واتباع الفرق الضالة التي لا تمثل الإسلام إلا في دوائر ضيقة كالروافض ونحوهم.
[4.116-121]
شرح الكلمات:
أن يشرك به: أن يعبد معه غيره من مخلوقاته بأي عبادة كانت.
إن يدعون: أي ما يدعون.
إلا إناثا: جمع أنثى لأن الآلهة مؤنثة، أو أمواتا لأن الميت يطلق عليه لفظ أنثى بجامع عدم النفع.
مريدا: بمعنى مارد على الشر والإغواء للفساد.
نصيبا مفروضا: حظا معينا. أو حصة معلومة.
فليبتكن: فليقطعن.
خلق الله: مخلوق الله أي ما خلقه الله تعالى.
الشيطان: الخبيث الماكر الداعي إلى الشر سواء كان جنيا أو إنسيا.
يمنيهم: يجعلهم يتمنون كذا وكذا ليلهيهم عن العمل الصالح.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء } إخبار منه تعالى عن طعمة بن أبيرق بأنه لا يغفر له وذلك لموته على الشرك، أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء غفر لهم وإن شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك والكفر. وقوله تعالى { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } أي ضل عن طريق النجاة والسعادة ببعده عن الحق بعدا كبيرا وذلك بإشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته.
وقوله تعالى { إن يدعون من دونه إلا إنثا } هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله فأخبر تعالى أن المشركين ما يعبدون إلا أمواتا لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ولا يعقلون. إذ أوثانهم ميتة وكل ميت فهو مؤنث زيادة على أن أسماءها مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونائلة، كما هم في واقع الأمر يدعون شيطانا مريدا إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها فهم إذا عابدون للشيطان في باطن الأمر لا الأوثان، ولذا قال تعالى: { وإن يدعون إلا شيطنا مريدا } لعنه الله وأبلسه عند إبائه السجود لآدم، { وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } أي عددا كبيرا منهم يعبدونني ولا يعبدونك وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك، وطاعتهم لي. وواصل العدو تبجحة قائلا: { ولأضلنهم } يريد عن طريق الهدى { ولأمنينهم } يريد أعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لا يلقون عذابا أو أنه سيغفر لهم. { ولأمرنهم } فيطيعوني { فليبتكن ءاذان الأنعم } أي ليجعلون لآلهتهم نصيبا مما رزقتهم ويعلمونها بقطع آذانها لتعرف أنها للآلهة كالبحائر والسوائب التي يجعلونها للآلهة. { ولأمرنهم } أيضا فيطيعونني فيغيرون خلق الله بالبدع والشرك، والمعاصي كالوشم والخصي. هذا ما قاله الشيطان ذكره تعالى لنا فله الحمد. ثم قال تعالى { ومن يتخذ الشيطن وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا } لأن من والى الشيطان عادى الرحمن ومن عادى الرحمن تم له والله أعظم الخسران يدل على ذلك قوله تعالى { يعدهم ويمنيهم } فيعوقهم عن طلب النجاة والسعادة { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } إذ هو لا يملك من الأمر شيئا فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة إذا؟
وهذا حكم الله تعالى يعلن في صراحة ووضوح فليسمعوه: { أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا } أي معدلا أو مهربا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- سائر الذنوب كابئرها وصغائرها قد يغفرها الله تعالى لمن شاء إلا الشرك فلا يغفر لصاحبه.
2- عبدة الأصنام والأوهام والشهوات والأهواء هم في الباطن عبدة الشيطان إذ هو الذي أمرهم فأطاعوه.
3- من مظاهر طاعة الشيطان المعاصي كبيرها وصغيرها إذ هو الذي أمر بها وأطيع فيها.
4- حرمة الوشم والوسم والخصاء إلا ما أذن فيه الشارع.
5- سلاح الشيطان العدة الكاذبة والأمنية الباطلة، والزينة الخادعة.
[4.122]
شرح الكلمات:
آمنوا: صدقوا بالله ورسوله.
وعملوا الصالحات: الطاعات إذ كل طاعة لله ورسوله هي عمل صالح.
قيلا: أي قولا.
معنى الآية الكريمة:
لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار وأن خلودهم مقدر فيها بإذن الله ربهم فلا يخرجون منها أبدا وعدهم ربهم بهذا وعد الصدق، وليس هناك من هو أصدق وعدا ولا قولا من الله تعالى.
هداية الآية
من هداية الآية
1- الإيمان الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب دخولها.
2- صدق وعد الله تعالى، وصدق قوله عز وجل.
3- وجوب صدق الوعد من العبد لأن خلف الوعد من النفاق لحديث
" وإذا واعد أخلف ".
4- وجوب صدق القول والحديث لأن الكذب من النفاق لحديث وإذا حدث كذب.
[4.123-126]
شرح الكلمات:
أمانيكم: جمع أمنية: وهي ما يقدره المرء في نفسه ويشتهيه مما يتعذر غالبا تحقيقه.
أهل الكتاب: اليهود والنصارى.
سوءا: كل ما يسيء من الذنوب والخطايا.
وليا: يتولى أمره فيدفع عنه المكروه.
نقيرا: النقير: نقرة في ظهر النواة.
ملة إبراهيم: عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه الله تعالى.
خليلا: الخليل: المحب الذي تخلل حبه مسالك النفس فهو أكبر من الحبيب.
محيطا: علما وقدرة إذ الكون كله تحت قهره ومدار بقدرته وعلمه.
معنى الآيات:
روي أن هذه الآية نزلت لما تلاحى مسلم ويهودي وتفاخرا فزعم اليهودي أن نبيهم وكتابهم ودينهم وجد قبل كتاب ونبي المسلمين ودينهم فهم أفضل، ورد عليه المسلم بما هو الحق فحكم الله تعالى بينهما بقوله: { ليس بأمنيكم } أيها المسلمون { ولا أماني أهل الكتاب } من يهود ونصارى أي ليس الأمر والشأن بالأماني العذاب، وإنما الأمر والشأن في هذه القضية أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي على النفس بالتزكية أو التدسية فمن عمل سوءا من الشرك والمعاصي، كمن عمل صالحا من التوحيد والطاعات يجز بحسبه فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها لمجاورة الأبرار، ويبعدها عن مجاورة الفجار. وقوله تعالى: { ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } لأن سنن الله كأحكامه لا يقدر أحد على تغييرها أو تبديلها بل تمضي كما هي فلا ينفع صاحب السوء أحد، ولا يضر صاحب الحسنات آخر. وقوله تعالى: { ومن يعمل من الصلحت من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا } فإنه تقرير لسنته تعالى في تأثير الكسب على النفس والجزاء بحسب حال النفس زكاة وطهرا وتدسيه وخبثا، فإنه من يعمل الصالحات وهو مؤمن تطهر نفسه ذكرا كان أو أنثى ويتأهل بذلك لدخول الجنة، ولا يظلم مقدار نقير فضلا عما هو أكثر وأكبر وقوله تعالى: { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبرهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا } إشادة منه تعالى وتفضيل للدين الإسلامي على سائر الأديان إذ هو قائم على أساس إسلام الوجه لله وكل الجوارح تابعة له تدور في فلك طاعة الله تعالى مع الإحسان الكامل وهو إتقان العبادة وأداؤها على نحو ما شرعها الله تعالى واتباع ملة إبراهيم بعبادة الله تعالى وحده والكفر بما سواه من سائر الآلهة. وقوله { واتخذ الله إبراهيم خليلا } فيه زيادة تقرير فضل الإسلام الذي هو دين إبراهيم الذي اتخذه ربه خليلا وقوله تعالى: { ولله ما في السموت وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا } زيادة على أنه إخبار بسعة ملك الله تعالى وسعة علمه وقدرته وفضله فإنه رفع لما قد يتوهم من خلة إبراهيم أن الله تعالى مفتقر إلى إبراهيم أو له حاجة إليه، فأخبر تعالى أن له ما في السماوات والأرض خلقا وملكا وإبراهيم في جملة ذلك فكيف يفتقر إليه أو يحتاج إلى مثله وهو رب كل شيء وملكه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ما عند الله لا ينال بالتمني ولكن بالإيمان والعمل الصالح أو التقوى والصبر والإحسان.
2- الجزاء أثر طبيعي للعمل وهو معنى { من يعمل سوءا يجز به } { ومن يعمل من الصلحت من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة }.
3- فضل الإسلام على سائر الأديان.
4- شرف إبراهيم عليه السلام باتخاذه ربه خليلا.
5- غنى الله تعالى عن سائر مخلوقاته، وافتقار سائر مخلوقاته إليه عز وجل.
[4.127-130]
شرح الكلمات:
يستفتونك: يطلبون منك الفتيا في شأن النساء وميراثهن.
وما يتلى عليكم: يقرأ عليكم في القرآن.
ما كتب لهن: ما فرض لهن من المهور والميراث.
بالقسط: بالعدل.
نشوزا: ترفعا وعدم طاعة.
وأحضرت الأنفس الشح: جبلت النفوس على الشح فلا يفارقها أبدا.
فتذروها كالمعلقة: فتتركوها كالمعلقة ما هي بالمزوجة ولا المطلقة.
من سعته: من رزقه الواسع.
وكان الله واسعا حكيما: واسع الفضل حكيما يعطي فضله حسب علمه وحكمته.
معنى الآيات:
هذه الآيات الأربع كل آية منها تحمل حكما شرعيا خاصا فالأولى [127] نزلت إجابة لتساؤلات من بعض الأصحاب حول حقوق النساء ما لهن وما عليهن لأن العرف الذي كان سائدا في الجاهلية كان يمنع النساء والأطفال من الميراث بالمرة وكان اليتامى لا يراعى لهم جانب ولا يحفظ لهم حق كامل فلذا نزلت الآيات الأولى من هذه السورة وقررت حق المرأة والطفل في الإرث وحضت على المحافظة على مال اليتامى وكثرت التساؤلات لعل قرآنا ينزل إجابة لهم حيث اضطربت نفوسهم لما نزل فنزلت هذه الآية الكريمة تردهم إلى ما في أول السورة وأنه الحكم النهائي في القضية فلا مراجعة بعد هذه، فقال تعالى وهو يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم { ويستفتونك في النسآء } أي وما زالوا يستفتونك في النساء، أي في شأن ما لهن وما عليهن من حقوق كالإرث والمهر وما إلى ذلك. قل لهم أيها الرسول { الله يفتيكم فيهن } وقد أفتاكم فيهن وبين لكم ما لهن ما عليهن. وقوله تعالى: { وما يتلى عليكم في الكتب في يتمى النسآء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } أي وما يتلى عليكم في يتامى النساء في أول السورة كاف لكم لا تحتاجون معه إلى من يفتيكم أيضا إذ بين لكم أن من كانت تحته يتيمة دميمة لا يرغب في نكاحها فليعطها مالها وليزوجها غيره وليتزوج هو من شاء، ولا يحل له أن يحبسها في بيته لأجل مالها، وإن كانت جميلة وأراد أن يتزوجها فليعطها مهر مثيلاتها ولا يبخسها من مهرها شيئا. وقوله { والمستضعفين من الولدن } أي وقد أفتاكم بما يتلى عليكم من الآيات في أول السورة في المستضعفين من الولدان حيث قد أعطاهم حقهم وافيا في آية
يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين
[النساء: 11] الآية.
فلم هذه المراجعات والاستفتاءات؟؟ وقوله تعالى { وأن تقوموا لليتمى بالقسط } أي وما تلى عليكم في أول السورة كان آمرا إياكم بالقسط لليتامى والعدل في أموالهم فارجعوا إليه في قوله:
وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا
[النساء: 2] وقوله تعالى في ختام الآية { وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما } حث لهم على فعل الخير بالإحسان إلى الضعيفين المرأة واليتيم زيادة عل توفيتهما حقوقهما وعدم المساس بها.
هذا ما دلت عليه الآية الكريمة { ويستفتونك..... } إلخ.
أما الآية الثانية [128] { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحا } فقد تضمنت حكما عادلا رحيما وإرشادا ربانيا سديدا وهو أن الزوجة إذا توقعت من زوجها نشوزا أي ترفعا عليها أو إعراضا عنها، وذلك لكبر سنها أو لقلة جمالها وقد تزوج عليها غيرها في هذا الحال في الإمكان أن تجري مع زوجها صلحا يحفظ لها بقاءها في بيتها عزيزة محترمة فتتنازل له عن بعض حقها في الفراش وعن بعض ما كان واجبا لها وهذا خير لها من الفراق. ولذا قال تعالى { والصلح خير } وقوله تعالى { وأحضرت الأنفس الشح } يريد أن الشح ملازم للنفس البشرية لا يفارقها والمرأة كالرجل في هذا إلا أن المرأة أضن وأشح بنصيبها في الفراش وبباقي حقوقها من زوجها. إذا فليراع الزوج هذا ولذا قال تعالى { وإن تحسنوا } أيها الأزواج إلى نسائكم { وتتقوا } الله تعالى فيهن فلا تحرموهن ما لهن من حق في الفراش وغيره فإن الله تعالى يجزيكم بالإحسان إحسانا وبالخير خيرا فإنه تعالى { بما تعملون خبيرا }.
هذا ما دلت عليه الآية [128] وأما الآية الثالثة [129] وهي قوله تعالى: { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النسآء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما } فقد تضمنت حقيقة كبرى وهي عجز الزوج عن العدل بين زوجاته اللائي في عصمته فمهما حرص على العدل وتوخاه فإنه لن يصل إلى منتهاه أبدا والمراد بالعدل هنا في الحب والجماع. أما في القسمة والكساء والغذاء والعشرة بالمعروف فهذا مستطاع له، ولما علم تعالى هذا من عبده رخص له في ذلك ولم يؤاخذه بميله النفس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك "
والمحرم على الزوج هو الميل الكامل إلى إحدى زوجاته عن باقيهن، لأن لك يؤدي أن تبقى المؤمنة في وضع لا هي متزوجة تتمتع بالحقوق الزوجية ولا هي مطلقة يمكنها أن تتزوج من رجل آخر تسعد بحقوقها معه وهذا معنى قوله تعالى { فتذروها كالمعلقة } وقوله تعالى: { وإن تصلحوا } أي أيها الأزواج في أعمالكم وفي القسم بين زوجاتكم وتتقوا الله تعالى في ذلك فلا تميلوا كل الميل، ولا تجوروا فيما تطيقون العدل فيه فإنه تعالى يغفر لكم ما عجزتم عن القيام به لضعفكم ويرحمكم في دنياكم وأخراكم لأن الله تعالى كان وما زال غفورا للتائبين رحيما بالمؤمنين.
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية الرابعة [130] وهي قوله تعالى: { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما } فإن الله تعالى يعد الزوجين الذين لم يوفقا للإصلاح بينهما لشح كل منهما بماله وعدم التنازل عن شيء من ذلك يعدهما ربهما إن هم تفرقا بالمعروف أن يغني كلا منهما من سعته وهو الواسع الحكيم فالمرأة يرزقها زوجا خيرا من زوجها الذي فارقته، والرجل يرزقه كذلك امرأة خيرا ممن فارقها لتعذر الصلح بينهما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ إرث النساء والأطفال، والمحافظة على مال اليتامى وحرمة أكلها.
2- استحباب الصلح بين الزوجين عند تعذر البقاء مع بعضهما إلا به.
3- تعذر العدل بين الزوجين في الحب والوطء استلزم عدم المؤاخذة به واكتفى الشارع بالعدل في الفراش والطعام والشراب والكسوة والمعاشرة بالمعروف.
4- الترغيب في الإصلاح والتقوى وفعل الخيرات.
5- الفرقة بين الزوجين إن كانت على مبدأ الإصلاح والتقوى أعقبت خيرا عاجلا أو آجلا.
[4.131-134]
شرح الكلمات:
ولله ما في السماوات وما في الأرض: أي خلقا وملكا وتصرفا وتدبيرا.
وصينا: عهدنا إليهم بذلك أي بالتقوى.
أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى.
الوكيل: من يفوض إليه الأمر كله ويقوم بتدبيره على أحسن الوجوه.
ثواب الدنيا: جزاء العمل لها.
ثواب الآخرة: جزاء العمل لها وهو الجنة.
سمعيا بصيرا: سميعا: لأقوال العباد بصيرا: بأعمالهم وسيجزيهم بها خيرا أو شرا.
معنى الآيتين:
لما وعد تبارك وتعالى كلا من الزوجين المتفرقين بالإغناء عن صاحبه ذكر أنه يملك ما في السماوات وما في الأرض ولذا فهو قادر على إغنائهما لسعة ملكه وعظيم فضله، ثم واجه بالخطاب الكريم الأمة جمعاء ومن بينها بني أبيرق فقال { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } يريد من اليهود والنصارى وغيرهم أوصاهم بتقواه عز وجل فلا يقدموا على مشاقته ولا يخرجوا عن طاعته بترك ما أوجب أو بفعل ما حرم، ثم أعلمهم أنهم وإن كفروا كما كفر طعمة وارتد فإن ذلك غير ضائره شيئا، لأنه ذو الغنى والحمد، وكيف وله جميع ما في السماوات وما في الأرض من كائنات ومخلوقات وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [131] أما الآية الثانية [132] فقد كرر تعالى فيها الإعلان عن استحقاقه الحمد والغنى وذلك لملكه جميع ما في السماوات وما في الأرض ولقيوميته عليهما وكفى به تعالى حافظا ووكيلا. وفي الآية الثالثة [133] يخبر تعالى أنه قادر على إذهاب كافة الجنس البشري واستبداله بغيره وهو على كل ذلك قدير، فقال تعالى: { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين } وذلك لعظيم قدرته وكفاية وكالته. وفي الآية الرابعة والأخيرة في هذا السياق [134] يقول تعالى مرغبا عباده فيما عنده من خير الدنيا والآخرة من كان يريد بعمله ثواب الدنيا { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } فلم يقصر العبد عمله على ثواب الدنيا، وهو يعلم أن ثواب الآخرة عند الله أيضا فليطلب الثوابين معا من الله تعالى، وذلك بالإيمان والتقوى والإحسان، وسيجزيه تعالى بعمله ولا ينقصه له وذلك لعلمه تعالى وقدرته، { وكان الله سميعا بصيرا } ، ومن كان كذلك فلا يخاف معه ضياع الأعمال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الوصية بالتقوى، وذلك بترك الشرك والمعاصي بعد الإيمان وعمل الصالحات.
2- غنى الله تعالى عن سائر خلقه.
3- قدرة الله تعالى على إذهاب الناس كلهم والإتيان بغيرهم.
4- وجوب الإخلاص في العمل لله تعالى وحرمة طلب الآخرة بطلب الدنيا.
[4.135-137]
شرح الكلمات:
قوامين: جمع قوام: وهو كثير القيام بالعدل.
بالقسط: بالعدل وهو الاستقامة والتسوية بين الخصوم.
شهداء: جمع شهيد: بمعنى شاهد.
الهوى: ميل النفس إلى الشيء ورغبتها فيه.
تلووا: أي ألسنتكم باللفظ تحريفا له حتى لا تتم الشهادة على وجهها.
تعرضوا: تتركوا الشهادة أو بعض كلماتها ليبطل الحكم.
معنى الآيات:
قوله تعالى في هذه الآية [135] { يأيها الذين آمنوا كونوا قومين بالقسط } أي بالعدل { شهدآء لله } إذ بشهادتكم ينتقل الحق من شخص إلى آخر حيث أقامكم الله ربكم شهداء له في الأرض تؤدى بواسطتكم الحقوق إلى أهلها، وبناء على هذا فأقيموا الشهادة لله ولو شهادتكم على أنفسكم أو والديكم أو أقرب الناس إليكم وسواء كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا يحملنكم غنى الغنى ولا فقر الفقير على تحريف الشهادة أو كتمانها، فالله تعالى ربهما أولى بهما وهو يعطي ويمنع بشهادتكم فأقيموها وحسبكم ذلك واعلموا أنكم إن تلووا ألسنتكم بالشهادة تحريفا لها وخروجا بها عن أداء ما يترتب عليها أو تعرضوا عنها فتتركوها أو تتركوا بعض كلماتها فيفسد معناها ويبطل مفعولها فإن الله بعملكم ذلك وبغيره خبير وسوف يجزيكم به فيعاقبكم في الدنيا أو في الآخرة ألا فاحذروا.
هذه الآية الكريمة يدخل فيها دخولا أوليا من شهدوا لأبناء أبيرق بالإسلام والصلاح كما هي خطاب للمؤمنين إلى يوم القيامة وهي أعظم آية في هذا الباب فليتق الله المؤمنون في شهادتهم.
أما الآية الثانية [136] { يأيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله } فهي في خطاب أهل الكتاب خاصة وفي سائر المؤمنين عامة فالمؤمنون تدعوهم إلى تقوية إيمانهم ليبلغوا فيه مستوى اليقين، أما أهل الكتاب فهي دعوة لهم للإيمان الصحيح، لأن إيمانهم الذي هم عليه غير سليم فلذا دعوا إلى الإيمان الصحيح فقيل لهم { ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله } محمد { والكتب الذي نزل على رسوله } وهو القرآن الكريم، { والكتب الذي أنزل من قبل } وهو التوراة والإنجيل، لأن اليهود لا يؤمنون بالإنجيل، ثم أخبرهم محذرا لهم أن { ومن يكفر بالله وملآئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل } طريق الهدى والسعادة { ضلالا بعيدا } لا ترجى هدايته، وعليه فسوف يهلك ويخسر خسرانا أبديا.
ثم أخبرهم تعالى في الآية بعد هذه [137] مقررا الحكم بالخسران الذي تضمنته الآية قبلها فقال عز وجل: { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه وبما جاء به { لم يكن الله } أي لم يكن في سنة الله أن يغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ينجون به ويسعدون فيه ألا فليحذر اليهود والنصارى هذا وليذكروه، وإلا فالخلود في نار جهنم لازم لهم ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب العدل في القضاء والشهادة.
2- حرمة شهادة الزور وحرمة التخلي عن الشهادة لمن تعينت عليه.
3- وجوب الاستمرار على الإيمان وتقويته حتى الموت عليه.
4- بيان أركان الإيمان وهي الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر.
5- المرتد يستتاب ثلاثة أيام وإلا قتل كفرا أخذا من قوله: { ثم آمنوا ثم كفروا }.
[4.138-141]
شرح الكلمات:
بشر المنافقين: البشارة: الخبر الذي تتأثر به بشرة من يلقى عليه خيرا كان أو شرا. والمنافق: من يبطن الكفر ويظهر الإيمان تقية ليحفظ دمه وماله.
أولياء: يوالونهم محبة ونصرة لهم على المؤمنين.
العزة: الغلبة والمنعة.
يستهزأ بها: يذكونها استخفافا بها وإنكارا وجحودا لها.
يخوضوا: يتكلموا في موضوع آخر من موضوعات الكلام.
مثلهم: أي في الكفر والإثم.
يتربصون بكم: ينتظرون متى يحصل لكم إنهزام أو إنكسار: فيعلنون عن كفرهم.
نصيب: أي من النصر وعبر عنه بالنصيب القليل لأن انتصارهم على المؤمنين نادر.
نستحوذ عليكم: أي نستول عليكم ونمنعكم من المؤمنين إن قاتلوكم.
سبيلا: أي طريقا إلى إذلالهم واستعبادهم والتسلط عليهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما } يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر المنافقين بلفظ البشارة لأن المخبر به يسوء وجوههم وهو العذاب الأليم وقد يكون في الدنيا بالذل والمهانة والقتل، وأما في الآخرة فهو أسوأ العذاب وأشده وهو لازم لهم لخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم، ثم وصفهم تعالى بأخس صفاتهم وشرها فقال: { الذين يتخذون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين } فيعطون محبتهم ونصرتهم وولاءهم للكافرين، ويمنعون ذلك المؤمنين وذلك لأن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم ينرها عمل الإسلام، ثم وبخهم تعالى ناعيا عليهم جهلهم فقال: { أيبتغون عندهم العزة } أي يطلبون العزة أي المنعة والغلبة من الكافرين أجهلوا أم عموا فلم يعرفوا { فإن العزة لله جميعا } فمن أعزه الله عز ومن أذله ذل والعزة تطلب بالإيمان وصالح الأعمال لا بالكفر والشر والفساد. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى [138] والثانية [139].
أما الآية الرابعه [140] فإن الله تعالى يؤدب المؤمنين فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة الأنعام حيث نهاهم عن مجالسة أهل الباطل إذا خاضوا في الطعن في آيات الله ودينه فقال تعالى:
وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطن فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظلمين
[الأنعام: 68] هذا الأدب أخذ الله تعالى به رسوله والمؤمنين، وهم في مكة قبل الهجرة، لأن سورة الأنعام مكية ولما هاجروا إلى المدينة، وبدأ النفاق وأصبح للمنافقين مجالس خاصة ينتقدون فيها المؤمنين ويخوضون فيها في آيات الله تعالى استهزاء وسخرية ذكر الله تعالى المؤمنين بما أنزل عليهم في مكة فقال: { وقد نزل عليكم في الكتب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا } أي إذا رضيتم بالجلوس معهم وهم يخوضون في آيات الله { مثلهم } في الإثم والجريمة والجزاء أيضا، { إن الله جامع المنفقين والكفرين في جهنم جميعا } فهل ترضون أن تكونوا معهم في جهنم، وإن قلتم لا إذا فلا تجالسوهم.
ثم ذكر تعالى وصفا آخر للمنافقين يحمل التنفير منهم والكراهية والبغض لهم فقال: { الذين يتربصون بكم } أي ينتظرون بكم الدوائر ويتحينون الفرص { فإن كان لكم فتح من الله } أي نصر وغنيمة قالو: { ألم نكن معكم } فأشركونا في الغنيمة، { وإن كان للكافرين نصيب } في النصر قالوا لهم { ألم نستحوذ عليكم } أي نستول عليكم { ونمنعكم من المؤمنين } أن يقاتلوكم، فأعطونا مما غنمتم، وهكذا المنافقون يمسكون العصا من الوسط فأي جانب غلب كانوا معه. ألا لعنة الله على المنافقين وما على المؤمنين إلا الصبر لأن مشكلة المنافقين عويصة الحل فالله يحكم بينهم يوم القيامة. أما الكافرون الظاهرون فلن يجعل الله تعالى لهم على المؤمنين سبيلا لا لاستئصالهم وإبادتهم، ولا لإذلالهم والتسلط عليهم ماداموا مؤمنين صادقين في إيمانهم وهذا ما ختم الله تعالى به الآية الكريمة إذ قال: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
2- الباعث للناس على اتخاذ الكافرين أولياء هو الرغبة في العزة ورفع المذلة وهذا باطل فالعزة لله ولا تطلب إلا منه تعالى بالإيمان واتباع منهجه.
3- حرمة مجالسة أهل الباطل إذا كانوا يخوضون في آيات الله نقدا واستهزاء وسخرية.
4- الرضا بالكفر كفر، والرضا بالإثم إثم.
5- تكفل الله تعالى بعزة المؤمنين الصادقين ومنعتهم فلا يسلط عليهم أعداءه فيستأصلونهم، أو يذلونهم ويتحكمون فيهم.
[4.142-143]
شرح الكلمات:
يخادعون الله: بإظهارهم ما يحب وهو الإيمان والطاعات، وإخفائهم الكفر والمعاصي.
وهو خادعهم: بالستر عليهم وعدم فضيحتهم، وبعدم إنزال العقوبة بهم.
يراءون: أي يظهرون الطاعات للمؤمنين كأنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين.
مذبذبين: أي يترددون بين المؤمنين والكافرين فأي جانب عز وكانوا معه.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى أن المنافقين في سلوكهم الخاص يخادعون الله تعالى بإظهارهم الإيمان به وبرسوله وهم غير مؤمنين إذ الخداع أن تري من تخادعه ما يحبه منك وتستر عليه ما يكرهه والله تعالى عاملهم بالمثل فهو تعالى أراهم ما يحبونه وستر عليهم ما يكرهونه منه وهو العذاب المعد لهم عاجلا أو آجلا، كما أخبر عنهم أنهم إذا قاموا إلى أداء الصلاة قاموا كسالى متباطئين لأنهم لا يؤمنون بالثواب الأخروي فلذا هم يراءون بالأعمال الصالحة المؤمنين حتى لا يتهمونهم بالكفر، كما أنهم لا يذكرون الله تعالى إلا ذكرا قليلا في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك لعدم إيمانهم بالله تعالى وعدم حبهم له كما أخبر عنهم بأنهم مذبذبون بين الكفر والإيمان والمؤمنين والكافرين فلا إلى الإيمان والمؤمنين يسكنون، ولا إلى الكفر والمنافقين يسكنون فهم في تردد وحسرة دائمون، وهذه حال من يضله الله فإن من يضلل الله لا يوجد لهدايته سبيل.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان صفات المنافقين.
2- قبح الرياء وذم المرائين.
3- ذم ترك الذكر والتقليل منه لأمر الله تعالى بالإكثار منه في قوله
يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا
[الأحزاب: 41].
4- ذم الحيرة والتردد في الأمور كلها .
[4.144-147]
شرح الكلمات:
سلطانا مبينا: حجة واضحة لتعذيبكم.
الدرك الأسفل: الدرك: كالطابق، والدركة كالدرجة.
وأصلحوا: ما كانوا قد أفسدوه من العقائد والأعمال.
واعتصموا بالله: تمسكوا بدينه وتوكلوا عليه.
وأخلصوا دينهم لله: تخلوا عن النفاق والشرك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إرشاد الله تعالى المؤمنين إلى ما يعزهم ويكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية [144] يناديهم تعالى بعنوان الإيمان وهو الروح الذي به الحياة وينهاهم عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيقول: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أوليآء من دون المؤمنين } ومعنى اتخاذهم أولياء موادتهم ومناصرتهم والثقة فيهم والركون إليهم والتعاون معهم، ولما كان الأمر ذا خطورة كاملة عليهم هددهم تعالى بقوله: { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } فيتخلى عنكم ويسلط عليكم أعداءه الكافرين فيستأصلوكم، أو يقهروكم ويستذلوكم ويتحكموا فيكم. ثم حذرهم من النفاق أن يتسرب إلى قلوبهم فأسمعهم حكمه العادل في المنافقين الذين هم رؤوس الفتنة بينهم فقال: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } ، فأسفل طبقة في جهنم هي مأوى المنافقين يوم القيامة، ولن يوجد لهم ولي ولا نصير أبدا ثم رحمة بعباده تبارك وتعالى يفتح باب التوبة للمنافقين على مصراعيه ويقول لهم { إلا الذين تابوا } إلى ربهم فآمنوا به وبرسوله حق الإيمان { وأصلحوا } أعمالهم { واعتصموا بالله } ونفضوا أيديهم من أيدي الكافرين، { وأخلصوا دينهم لله } فلم يبقوا يراءون أحدا بأعمالهم. فأولئك الذين ارتفعوا إلى هذا المستوى من الكمال هم مع المؤمنين جزاؤهم واحد، وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما وهو كرامة الدنيا وسعادة الآخرة.
وأخيرا في الآية [147] يقرر تعالى غناه عن خلقه وتنزهه عن الرغبة في حب الإنتقام فإن عبده مهما جنى وأساء، وكفر وظلم إذا تاب وأصلح فآمن وشكر. لا يعذبه أدنى عذاب إذ لا حاجة إلى تعذيب عباده فقال عز وجل وهو يخاطب عباده { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما } لا يضيع المعروف عنده. لقد شكر لبغي سقيها كلبا عطشان فغفر لها وأدخلها الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
2- إذا عصى المؤمنون ربهم فاتخذوا الكافرين أولياء سلط الله عليهم أعداءهم فساموهم الخسف.
3- التوبة تجب ما قبلها حتى إن التائب من ذبنه كمن لا ذنب له ومهما كان الذنب الذي غشيه.
4- لا يعذب الله تعالى المؤمن الشاكر لا في الدنيا ولا في الآخرة فالإيمان والشكر أمان الإنسان.
[4.148-149]
شرح الكلمات:
السوء: ما يسوء إلى من قيل فيه أو فعل به.
سميعا عليما: سميعا للأقوال عليما بالأعمال.
إن تبدوا: تظهروا ولا تخفوا.
تعفوا عن سوء: أي لا تؤاخذوا به.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء، ولازم هذا أن عباده المؤمنين يجب أن يكرهوا ما يكره ربهم ويحبوا ما يحب وهذا شرط الولاية وهي الموافقة وعدم المخالفة. ولما حرم تعالى على عباده الجهر بالسوء بأبلغ عبارة وأجمل أسلوب، استثنى المظلوم فإن له أن يجهر بمظلمته لدى الحاكم ليرفع عنه الظلم فقال تعالى: { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله } - (وما زال) - { سميعا عليما } ألا فليتق فلا يعصي بفعل السوء ولا بقوله. ثم انتدب عباده المؤمنين إلى فعل الخير في السر أو العلن، وإلى العفو عن صاحب السوء فقال: { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا } فسيكسب فاعل الخير خيرا أبداه أو أخفاه وسيعفو عن صاحب العفو حينما تزل قدمه فيجني بيده أو بلسانه ما يستوجب به المؤاخذة فيشكر الله تعالى له عفوه السابق فيعفو عنه { فإن الله كان عفوا قديرا }.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة الجهر بالسوء والسر به كذلك فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينطق بما يسوء إلى القلوب والنفوس إلا في حالة الشكوى وإظهار الظلم لا غير.
2- استحباب فعل الخير وسره كجهره لا ينقص أجره بالجهر ولا يزيد بالسر.
3- استحباب العفو عن المؤمن إذا بدا منه سوء، ومن يعف يعف الله عنه.
[4.150-152]
شرح الكلمات:
ورسله: الرسل جمع رسول وهم جم غفير قيل عددهم ثلثمائة وأربعة عشر رسولا
سبيلا : أي طريقا بين الكفر والإيمان، وليس ثم إلا طريق واحد وهو الإيمان أو الكفر فمن آمن بكل الرسل فهو المؤمن، ومن آمن بالبعض وكفر بالبعض فهو الكافر كمن لم يؤمن بأحد منهم.
ولم يفرقوا: كما فرق اليهود فآمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وكما فرق النصارى آمنوا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهم لذلك كفار.
أجورهم: أجر إيمانهم برسل الله وعملهم الصالح وهو الجنة دار النعيم.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مقررا حكمه على اليهود والنصارى بالكفر الحق الذي لا مرية فيه فيقول إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك أي بين الكفر بالبعض والإيمان بالبعض سبيلا أي طريقا يتوصلون به إلى مذهب باطل فاسد وهو التخير بين رسل الله فمن شاءوا الإيمان به آمنوا، ومن لم يشاءوا الإيمان به كفروا به ولم يؤمنوا وبهذا كفروا كفرا لا ريب فيه، ولهم بذلك العذاب المهين الذي يهانون به ويذلون جزاء كبريائهم وسوء فعالهم قال تعالى { أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } فسجل عليهم الكفر ثلاث مرات فالمرة الأولى بقوله { إن الذين يكفرون بالله ورسله } والثانية بقوله { أولئك هم الكافرون حقا } والثالثة بقوله { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } حيث لم يقل واعتدنا لهم فأظهر في موضع الإضمار لتسجيل الكفر عليهم وللإشارة إلى علة الحكم وهي الكفر.
هذا ما تضمنته الآية الثانية [151] أما الآية الثالثة وهي قوله تعالى { والذين آمنوا بالله ورسله } فإنها مقابلة في ألفاظها ومدلولها للآية قبلها فالأولى تضمنت الحكم بالكفر على اليهود والنصارى، وبالعذاب المهين لهم والثانية تضمنت الحكم بإيمان المسلمين وبالنعيم المقيم لهم وهو ما وعدهم به ربهم بقوله { أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما }. فغفر لهم ذنوبهم ورحمهم بأن أدخلهم دار كرامته في جملة أوليائه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير كفر اليهود والنصارى لفساد عقائدهم وبطلان أعمالهم.
2- كفر من كذب بالله ورسوله ولو في شيء واحد مما وجب الإيمان به.
3- بطلان إيمان من يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض.
4- صحة الدين الإسلامي وبطلان اليهودية والنصرانية حيث أوعد تعالى اليهود والنصارى بالعذاب المهين، ووعد المؤمنين بتوفية أجورهم والمغفرة والرحمة لهم.
[4.153-154]
شرح الكلمات:
جهرة: عيانا نشاهده ونراه بأبصارنا.
الصاعقة: صوت حاد ورجفة عنيفة صعقوا بها.
بظلمهم: بسبب ظلمهم بطلبهم ما لا ينبغي.
اتخذوا العجل: أي إلها فعبدوه.
فعفونا عن ذلك: أي لم يؤاخذهم به.
سلطانا مبينا: حجة واضحة وقدرة كاملة قهر بها أعداءه.
ورفعنا فوقهم الطور: أي جبل الطور بسيناء.
ادخلوا الباب سجدا: أي راكعين متواضعين خاشعين لله شكرا لنعمه عليهم.
لا تعدوا: لا تعتدوا أي لا تتجاوزوا ما حد لكم فيه من ترك العمل إلى العمل فيه.
ميثاقا غليظا: عهدا مؤكدا بالأيمان.
معنى الآيتين:
لما نعى الرب تعالى عن أهل الكتاب قولهم نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض حيث آمن اليهود بموسى وكفروا بعيسى وآمن النصارى بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كما كفر به اليهود أيضا ذكر تعالى لرسوله أن اليهود إذا سألوك أن تنزل عليهم كتابا من السماء فلا تعجب من قولهم ولا تحفل به إذ هذه سنتهم وهذا دأبهم، فإنهم قد سألوا موسى قبلك أعظم من هذا فقالوا له أرنا الله جهرة فأغضبوا الله تعالى فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون واتخذوا العجل إلها يعبدونه في غياب موسى عليهم، وكان ذلك منهم بعد مشاهداتهم البينات حيث فلق الله لهم البحر وأنجاهم وأغرق عدوهم ومع هذا فقد عفا الله عنهم، وآتى نبيهم سلطانا مبينا، ولم يؤثر ذلك في طباعهم هذا ما تضمنته الآية الأولى [153] وهي قوله تعالى { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السمآء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جآءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا }. أما الآية الثانية [154] فقد أخبر تعالى أنه رفع فوقهم الطور تهديدا لهم ووعيدا وذلك لما امتنعوا ان يتعهدوا بالعمل بما في التوراة، فلما رفع الجبل فوقهم خافوا فتعهدوا معطين بذلك ميثاقا غير أنهم نقضوه كما سيأتي الإخبار بذلك. هذا معنى قوله تعالى { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم } ، وقوله تعالى { وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا.. } كان هذا عندما دخل يوشع بن نون فتى موسى مدينة القدس فاتحا أوحى الله تعالى إليه أن يأمر بني إسرائيل أن يدخلوا باب المدينة خاضعين متطامنين شكرا لله تعالى على نعمة الفتح فبدل أن يطيعوا ويدخلوا الباب راكعين متطامنين دخلوه زحفا على استاههم مكرا وعنادا والعياذ بالله. وقوله: {.. وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } أي ونهيناهم عن الصيد في السبت فتعدوا نهينا وصادوا عصيانا وتمردا، وقوله تعالى {.. وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } أي على أن يعملوا بما شرعنا لهم تحليلا وتحريما في التوراة، ومع هذا فقد عصوا وتمردوا وفسقوا، إذا فلا غرابة في سؤالهم إياك على رسالتك وليؤمنوا بك أن تنزل عليهم كتابا من السماء.
هذا معنى قوله تعالى في الآية [154] { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت.. } أي لا تتجاوزوا ما أحللنا لكم إلى ما حرمنا عليكم {... وأخذنا منهم ميثاقا غليظا... }.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- تعنت أهل الكتاب ازاء الدعوة الإسلامية وكفرهم بها على علم أنها دعوة حق.
2- بيان قبائح اليهود وخبثهم الملازم لهم طوال حياتهم.
3- نقض اليهود للعهود والمواثيق أصبح طبعا لهم لا يفارقهم أبدا ولذا وجب عدم الثقة في عهودهم ومواثيقهم.
[4.155-159]
شرح الكلمات:
فبما نقضهم: الباء سببية أي فبسبب نقضهم ميثاقهم، والنقض: الحل بعد الإبرام
بغير حق: أي بدون موجب لقتلهم، ولا موجب لقتل الأنبياء قط.
غلف: جمع اغلف وهو ما عليه غلاف يمنعه من وصول المعرفة والعلم إليه.
بهتانا عظيما: البهتان الكذب الذي يحير من قيل فيه والمراد هنا رميهم لها بالزنى.
وما صلبوه: أي لم يصلبوه، والصلب شدة على خشبة وقتله عليها.
وإن من أهل الكتاب: أي وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن عند حضور الموت أن عيسى عبد الله ورسوله فما هو ابن زنى ولا ساحر كما يقول اليهود، ولا هو الله ولا ابن الله كما يقول النصارى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن اليهود وبيان الجرائم التي كانت سببا في لعنهم وذلهم، وغضب الله تعالى عليهم، وهذا تعداد تلك الجرائم الواردة في الآيات الثلاث الأولى في هذا السياق وهي [155- 156- 157].
1- نقضهم العهود والمواثيق وخاصة عهدهم بالعمل بما في التوراة.
2- كفرهم بآيات الله والمنزلة على عبد الله عيسى ورسوله والمنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم.
3- قتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى وغيرهم وهو كثير في عهود متباينة.
4- قولهم قلوبنا غلف حتى لا يقبلوا دعوة الإسلام، وما أراد الرسول إعلامهم به وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوى، وأخبر أن لا أغطية على قلوبهم، ولكن طبع الله تعالى عليها بسبب ذنوبهم فران عليها الران فمنعها من قبول الحق اعتقادا وقولا وعملا هذا ما تضمنته الآية الأولى وهي قوله تعالى: { فبما نقضهم ميثاقهم.. } (والباء سببية والميم صلة والأصل فبنقضهم أي بسبب نقضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم، { فلا يؤمنون إلا قليلا } أي إيمانا قليلا كإيمانهم بموسى وهارون والتوراة والزبور مثلا.
5- كفرهم أي بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أيضا.
6- قولهم على مريم بهتانا عظيما حيث رموها بالفاحشة وقالوا عيسى ابن زنى لعنهم الله.
7- قولهم متبجحين متفاخرين أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وهو رسول الله، وأكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله {.. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.. } أي برجل آخر ظنوه أنه هو فصلبوه وقتلوه، وأما المسيح فقد رفعه الله تعالى إليه وهو عنده في السماء كما قال تعالى في الآية [158] { بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما } أي غالبا على أمره حكيما في فعله وتدبيره.
وأما قوله تعالى: { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا } ، هذا إخبار من الله تعالى بحقيقة أخرى وهي أن الذين طوقوا منزل المسيح وهجموا عليه ليلقوا عليه القبض من أجل أن يقتلوه هؤلاء اختلفوا في هل الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى هو عيسى أو غيره إنهم لم يجزموا أبدا بأن من ألقوا عليه القبض وأخرجوه فصلبوه وقتلوه هو المسيح عليه السلام، ولذا قال تعالى { وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.
. }.
أما الآية الأخيرة في هذا السياق [159] فإن الله تعالى أخبر أنه مامن يهودي ولا نصراني يحضره الموت ويكون في انقطاع عن الدنيا إلا آمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وليس هو ابن زنى ولا ساحر كما يعتقد اليهود، ولا هو الله ولا ابن الله كما يعتقد النصارى، ولكن هذا الإيمان لا ينفع صاحبه لأنه حصل عند معاينة الموت قال تعالى
.. وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن..
[النساء: 18] هذا ما دلت عليه الآية الكريمة: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } أي يشهد على كفرهم به وبما جاءهم به، ووصاهم عليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ودين الحق الذي جاء به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان جرائم اليهود.
2- بطلان اعتقاد النصارى في أن عيسى صلب وقتل، أما اليهود فإنهم وإن لم يقتلوا عيسى فهم مؤاخذون على قصدهم حيث صلبوا وقتلوا من ظنوه أنه عيسى عليه السلام.
3- تقرير رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ونزوله في آخر أيام الدنيا.
4- الإيمان كالتوبة عند معاينة ملك الموت لا تنفع ولا تقبل وجودها كعدمها.
[4.160-162]
شرح الكلمات:
فبظلم: الباء سببية أي فبسبب ظلمهم.
هادوا: اليهود إذ قالوا: إنا هدنا إليك.
طيبات أحلت لهم: هي كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم.
أخذهم الربا: قبوله والتعامل به وأكله.
الراسخون في العلم: أصحاب القدم الثابتة في معرفة الله وشرائعه ممن علومهم راسخة في نفوسهم ليست ظنيات بل هي يقيينات.
معنى الآيات:
ما زال السياق في اليهود من أهل الكتاب يبين جرائمهم ويكشف الستار عن عظائم ذنوبهم ففي الآية الأولى [160] سجل عليهم الظلم العظيم والذي به استوجبوا عقاب الله تعالى حيث حرم عليهم طيبات كثيرة كانت حلالا لهم، كما سجل عليهم أقبح الجرائم وهي صدهم أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله تعالى، وذلك بجحودهم الحق وتحريفهم كلام الله، وقبولهم الرشوة في إبطال الأحكام الشرعية. هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الثانية [161] فقد تضمنت تسجيل جرائم أخرى على اليهود وهي أولا استباحتهم للربا وهو حرام وقد نهوا عنه وثانيا أكلهم أموال الناس بالباطل كالرشوة والفتاوى الباطلة التي كانوا يأكلون بها. وأما قوله تعالى في ختام الآية {... وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } فهو زيادة على ما عاقبهم به في الدنيا أعد لمن كفر منهم ومات على كفره عذابا أليما موجعا يعذبون به يوم القيامة. وأما الآية الثالثة [162] فقد نزلت في عبد الله بن سلام وبعض العلماء من يهود المدينة فذكر تعالى كالاستثناء من أولئك الموصوفين بأقبح الصفات وهي صفات جرائم اكتسبوها، وعظائم من الذنوب اقترفوها لجهلهم وعمى بصائرهم. إن الراسخين في العلم الثابتين فيه الذين علومهم الشرعية يقينية لا ظنية هؤلاء شأنهم في النجاة من العذاب والفوز بالنعيم في دار السلام شأن المؤمنين من هذه الأمة يؤمنون بما أنزل إليك أيها الرسول وما أنزل من قبلك وخاصة المقيمين الصلاة وكذا المؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر هؤلاء جميعا وعدهم الله تعالى بالأجر العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه فقال تعالى: { أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المعاصي تورث الحرمان من خير الدنيا والآخرة.
2- حرمة الصد عن الإسلام ولو بالسلوك الشائن والمعاملة الباطلة.
3- حرمة الربا وإنه موجب للعقوبة في الدنيا والآخرة.
4- حرمة أكل أموال الناس بالباطل كالسرقة والغش والرشوة.
5- من أهل الكتاب صلحاء ربانيون وذلك كعبد الله بن سلام وآخرين.
6- الرسوخ في العلم يأمن صاحبه الزلات والوقوع في المهلكات.
7- فضل إقام الصلاة لنصب والمقيمي الصلاة في الآية على المدح والتخصيص.
[4.163-166]
شرح الكلمات:
إنا أوحينا اليك: الوحي: الإعلام السريع الخفي، ووحي الله تعالى إلى أنبيائه إعلامهم بما يريد أن يعلمهم به من أمور الدين وغيره.
الأسباط: أولاد يعقوب عليهم السلام.
زبورا: الزبور أحد الكتب الإلهية أنزله على نبيه داود عليه السلام.
قد قصصناهم عليك: ورد منهم في سورة الأنعام ثمانية عشر رسولا وسبعة ذكروا في سور أخرى وهم محمد صلى الله عليه وسلم وهود وشعيب وصالح وذو الكفل وإدريس وآدم.
حجة: عذر يعتذرون به إلى ربهم عز وجل.
معنى الآيات:
روي أن اليهود لما سمعوا ما أنزل الله تعالى فيهم في الآية السابقة أنكروا أن يكون هذا وحيا وقالوا لم يوح الله تعالى إلى غير موسى فرد الله تعالى قولهم بقوله: { إنآ أوحينآ إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده.. } فذكر عددا من الأنبياء، ثم قال ورسلا: أي وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل أي قص عليه أسماءهم وبعض ما جرى لهم مع أممهم وهم يبلغون دعوة ربهم، وأرسل رسلا لم يقصصهم عليه، وفوق ذلك أنه كلم موسى تكليما فأسمعه كلاما بلا واسطة، فكيف ينكر اليهود ذلك ويزعمون أنه ما أنزل الله على بشر من شيء وقد أرسلهم تعالى رسلا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالجنة، ومنذرين من كفر وأشرك وعمل سوء بالنار وما فعل ذلك إلا لقطع حجة الناس يوم القيامة حتى لا يقولوا ربنا ما أرسلت إلينا رسولا هذا معنى قوله تعالى { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.. } أي بعد إرسالهم، { وكان الله عزيزا } غالبا لا يمانع في شىء أراده { حكيما } في أفعاله وتدبيره، هذا بعض ما تضمنته الآيات الثلاث [163 - 164 - 165] أما الآية الرابعة [166] وهي قوله تعالى: { لكن الله يشهد بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا }.
فقد روي أن يهودا جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغهم أنه رسول الله صدقا وحقا ودعاهم إلى الإيمان به وبما جاء به من الدين الحق فقالوا: من يشهد لك بالرسالة إذ كانت الأنبياء توجد في وقت واحد فيشهد بعضهم لبعض، وأنت من يشهد لك فأنزل الله تعالى قوله: { لكن الله يشهد بمآ أنزل إليك... } يريد إنزال كتاب إليك شهادة منه لك بالنبوة والرسالة، أنزله بعلمه بأنك أهل للاصطفاء والإرسال، وبكل ما تحتاج إليه البشرية في إكمالها وإسعادها إذ حوى أعظم تشريع تعجز البشرية لو اجتمعت أن تأتي بمثله، أليس هذا كافيا في الشهادة لك بالنبوة والرسالة، بلى، والملائكة أيضا يشهدون {.. وكفى بالله شهيدا } فلا تطلب شهادة بعد شهادته تعالى لو كانوا يعقلون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ الوحي الإلهي.
2- أول الرسل نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
3- إثبات صفة الكلام لله تعالى.
4- بيان الحكمة في إرسال الرسل وهي قطع الحجة على الناس يوم القيامة.
5- شهادة الرب تبارك وتعالى والملائكة بنبوة خاتم الأنبياء ورسالته صلى الله عليه وسلم.
6- ما حواه القرآن من تشريع وما ضمه بين دفتيه من معارف وعلوم أكبر شهادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة.
[4.167-170]
شرح الكلمات:
كفروا وصدوا: كفروا: جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدوا: صرفوا الناس عن الإيمان به صلى الله عليه وسلم بما يبذرون من بذور الشك.
كفروا وظلموا: جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وظلموا ببقائهم على جحودهم بغيا منهم وحسدا للعرب أن يكون فيهم رسول يخرجهم من الظلمات إلى النور.
الرسول: هو محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته الصادق في دعوته.
فآمنوا خيرا لكم: أي يكون إيمانكم خيرا لكم.
معنى الآيات:
بعد أن أقام الله تعالى الحجة على رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته له بالرسالة وشهادة ملائكته، وشهادة القرآن لما فيه من العلوم والمعارف الإلهية بعد هذا أخبر تعالى أن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وهم اليهود قد ضلوا ضلالا بعيدا قد يتعذر معه الرجوع إلى الحق، وهذا ما تضمنته الآية الأولى [167] كما أخبر في الآية الثانية [168] أن الذين كفروا وظلموا وهم أيضا اليهود لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا اللهم إلا طريق جهنم وهذا قائم على سنته في خلقه وهي أن المرء إذا كفر كفر عناد وجحود وأضاف إلى الكفر الظلم لم يبق له أي استعداد لقبول الهداية الإلهية، لم يبق له من طريق يرجى له سلوكه إلا طريق جهنم يخلد فيها خلودا أبديا، وقوله تعالى: { وكان ذلك على الله يسيرا } في ختام الآية يقرر فيه أن دخول أصحاب هذه الصفات من اليهود جهنم وخلودهم فيها ليس بالأمر الصعب على الله المتعذر عليه فعله بل هو من السهل اليسير أما الآية الأخيرة [170] فهي تتضمن إعلانا إلهيا موجها إلى الناس كافة مشركين وأهل كتاب {... يأيها الناس قد جآءكم الرسول... } الكامل الخاتم جاءكم بالدين الحق من ربكم فآمنوا به خيرا لكم، وإن أبيتم وأعرضتم إيثارا للشر على الخير والضلال على الهدى فاعلموا أن لله ما في السماوات والأرض خلقا وملكا وتصرفا وسيجزيكم بما اخترتم من الكفر والضلال جهنم وساءت مصيرا فإنه عليم بمن استجاب لندائه فآمن وأطاع، وبمن أعرض فكفر وعصى حكيم في وضع الجزاء في موضعه اللائق به. فلا يجزي المحسن بالسوء، ولا المسيء بالإحسان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شر الكفر ما كان مع الصد عن سبيل الله والظلم وهذا كفر اليهود والعياذ بالله تعالى.
2- سنة الله تعالى في أن العبد إذا أبعد في الضلال، وتوغل في الشر والفساد يتعذر عليه التوبة فيموت على ذلك فيهلك.
3- الرسالة المحمدية عامة لسائر الناس أبيضهم وأصفرهم.
4- إثبات صفتي العلم والحكمة لله تعالى. وبموجبهما يتم الجزاء العادل الرحيم.
[4.171-173]
شرح الكلمات:
يا أهل الكتاب: المراد بهم هنا النصارى.
لا تغلوا في دينكم: الغلو: تجاوز الحد للشيء فعيسى عليه السلام عبد الله ورسوله فغلوا فيه فقالوا هو الله.
المسيح: هو عيسى عليه السلام ولقب بالمسيح لأنه ممسوح من الذنوب أي لا ذنب له قط.
كلمته ألقاها: أي قول الله تعالى له { كن } فكان - ألقاها إلى مريم: أوصلها لها وأبلغها إياها وهي قول الملائكة لها إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم.
وروح منه: أي عيسى كان بنفخة جبريل روح الله في كم درعها.
وكيلا: حفيظا وشاهدا عليما.
لن يستنكف: لا يرفض عبوديته لله تعالى أنفة وكبرا.
ويستكبر: يرى نفسه كبيرة فوق ما طلب منه أن يقوله أو يفعله إعجابا وغرورا.
وليا ولا نصيرا: أي لا يجدون يوم القيامة وليا يتولى الدفاع عنهم ولا نصيرا ينصرهم حتى لا يدخلوا النار ويعذبوا فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع أهل الكتاب ففي الآية الأولى [171] نادى الرب تبارك وتعالى النصارى بلقب الكتاب الذي هو الإنجيل ونهاهم عن الغلو في دينهم من التنطع والتكلف كالترهب واعتزال النساء وما إلى ذلك من البدع التي حمل عليها الغلو، كما نهاهم عن قولهم على الله تبارك وتعالى غير الحق، وذلك بنسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وأخبرهم بأن عيسى لم يكن أبدا غير رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم حيث بعث إليها جبريل فبشرها بأن الله تعالى قد يهبها غلاما زكيا، ونفخ وهو روح الله في كم درعها فكان عيسى بكلمة التكوين وهي { كن } وبسبب تلك النفخة من روح الله جبريل عليه السلام فلم يكن عيسى الله ولا ابن الله فارجعوا إلى الحق وآمنوا بالله ورسله جبريل وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، ولا تقولوا زورا وباطلا: الله ثالث ثلاثة آلهة. انتهوا عن هذا القول الكذب يكن انتهاؤكم خيرا لكم حالا ومآلا، إنما الله سبحانه وتعالى إله واحد لا شريك له ولا ند ولا ولد. سبحانه تنزه وعلا وجل وعظم أن يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة، ولم يكن ذا حاجة وله ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا وحكما وتدبيرا، وكفى به سبحانه وتعالى وكيلا شاهدا عليما فحسبكم الله تعالى ربا وإلها فإنه يكفيكم كل ما يهمكم فلا تلتفتون إلى غيره ولا تطلبون سواه.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [171] وأما الآيتان الثانية [172] والثالثة [173] فقد أخبر تعالى أن عبده ورسوله المسيح عليه السلام لن يستنكف أبدا أن يعبد الله وينسب إليه بعنوان العبودية فيقال عبد الله ورسوله، حتى الملائكة المقربون منهم فضلا عن غيرهم لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى وعن لقب العبودية فهم عباد الله وملائكته، ثم توعد تعالى كل من يستنكف عن عبادته ويستكبر عنها من سائر الناس بأنه سيحشرهم جميعا ويحاسبهم على أعمالهم فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات آمنوا بألوهيته تعالى وحده وعبدوه وحده بما شرع لهم من أنواع العبادات وهي الأعمال الصالحة فهؤلاء يوفيهم أجورهم كاملة ويزيدهم من فضله الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعف إلى سبعمائة ضعف.
وأما الذين استنكفوا واستكبروا أي حملتهم الأنفة والكبر على عدم قبول الحق والرجوع إليه فأصروا على الاعتقاد الباطل والعمل الفاسد فيعذبهم تعالى عذابا أليما أي موجعا ولا يجدون لهم من دونه وليا ولا ناصرا فينتهي أمرهم إلى عذاب الخلد جزاء بما كانوا يعملون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الغلو في الدين إذ هي من الأسباب الموجبة للابتداع والضلال.
2- حرمة القول على الله تعالى بدون علم مطلقا والقول عليه بغير الحق بصورة خاصة.
3- بيان المعتقد الحق في عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله كان بكلمة الله ونفخة جبريل عليه السلام.
4- حرمة الاستنكاف عن الحق والاستكبار عن قبوله.
5- بيان الجزاء الأخروي وهو إما نعيم وإما جحيم.
[4.174-175]
شرح الكلمات:
برهان: البرهان: الحجة والمراد به هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
نورا مبينا: هو القرآن الكريم.
واعتصموا: أي تمسكوا بالقرآن وبما يحمله من الشرائع.
في رحمة منه: الجنة.
صراطا: طريقا يفضي بهم إلى جوار ربهم في دار الكرامة.
معنى الآيتين:
ينادي الرب تبارك وتعالى سائر الناس مشركين ويهود ونصارى مخبرا إياهم قاطعا للحجة عليهم بأنه أرسل إليهم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو البرهان الساطع والدليل القاطع على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته ووجوب الإيمان به وبرسله ولزوم عبادته بطاعته وطاعة رسوله وأنه أنزل عليه كتابه شافيا كافيا هاديا نورا مبينا يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجه من الظلمات إلى النور. بهذا قد أعذر الله تعالى إلى الناس كافة وقطع عليهم كل معذرة وحجة ثم هم صنفان مؤمن وكافر فالذين آمنوا بالله ربا وإلها وبرسوله نبيا ورسولا واعتصموا بالقرآن فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وصدقوا أنباءه والتزموا آدابه فهؤلاء سيدخلهم في رحمة منه وفضل ذلك بأن ينجيهم من النار ويدخلهم الجنان وذلك هو الفوز العظيم كما قال تعالى فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وأما الذين كفروا به وبرسوله وكتابه فمصيرهم معروف وجزاءهم معلوم فلا حاجة الى ذكره: إنه الحرمان والخسران.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الدعوة الإسلامية دعوة عامة فهي للأبيض والأصفر على حد سواء.
2- إطلاق لفظ البرهان على النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بأميته وكماله الذي لا مطمع لبشري أن يساميه فيه برهان على وجود الله وعلمه ورحمته.
3- القرآن نور لما يحصل به من الإهتداء إلى سبيل النجاة وطرق السعادة والكمال.
4- ثمن السعادة ودخول الجنة الإيمان بالله ورسوله ولقائه والعمل الصالح وهو التمسك بالكتاب والسنة المعبر عنه بالإعتصام.
[4.176]
شرح الكلمات:
يستفتونك: يطلبون فتياك في كذا.
يفتيكم: يبين لكم ما أشكل عليكم من أمر الكلالة.
الكلالة: أن يهلك الرجل ولا يترك ولدا ولا ولد ولد وإنما يترك أخا أو أختا.
الحظ: النصيب.
أن تضلوا: كيلا تضلوا أي تخطئوا في قسمة التركة.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية تسمى آية الكلالة، وآيات المواريث أربع الأولى في شأن الولد والوالد
يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين
[النساء: 11] والثانية في شأن الزوج والزوجة
ولكم نصف ما ترك أزوجكم
[النساء: 12] الخ.. وفي شأن الإخوة لأم
وإن كان رجل يورث كللة أو امرأة وله أخ أو أخت
[النساء: 12] الخ.. وهاتان الآيتان تقدمتا في أول سورة النساء، والثالثة هي هذه { يستفتونك } الخ. وهي في شأن ميراث الأخوة والأخوات عند موت أحدهم ولم يترك ولدا ولا ولد ولد.. وهو معنى الكلالة والرابعة في آخر سورة الأنفال وهي في شأن ذوي الأرحام وهي قوله تعالى:
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله
[الأنفال: 75].
وهذه الآية نزلت عند سؤال بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الكلالة فقال تعالى يسألونك أيها الرسول عن الكلالة قل للسائلين الله يفتيكم في الكلالة وهذه فتواه : إن هلك امرؤ ذكرا كان أو أنثى وليس له ولد ولا ولد ولد وله أخت شقيقة أو لأب فلها نصف ما ترك، وهو يرثها أيضا إن لم يكن لا ولد ولا ولد ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء أي ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثتين وبعد أن بين تعالى كيف يورث من مات كلالة قال مبينا حكمة هذا البيان: { يبين الله لكم أن تضلوا } أي كيلا تضلوا في قسمة التركات فتخطئوا الحق وتجوروا في قسمة أموالكم. { والله بكل شيء عليم } فلا يجهل شيئا ولا يخفى عليه آخر وكيف وقد أحاط بكل شيء علما سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- جواز سؤال من لا يعلم من يعلم للحصول على العلم المطلوب له.
2- إثبات وجود الله تعالى عليما قديرا سميعا بصيرا وتقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ سؤال الأصحاب وإجابة الرب تعالى بواسطة وحيه المنزل على رسوله يقرر ذلك ويثبته.
3- بيان قسمة تركة من يورث كلالة من رجل أو امرأة فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك، والأختان لهما لهما الثلثان، والأخوة مع الأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين والأخ يرث أخته إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد، والأخوة والأخوات يرثون أختهم للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم تترك ولدا ولا ولد ولد.
[5 - سورة المائدة]
[5.1-2]
شرح الكلمات:
أوفوا بالعقود العقود: هي العهود التي بين العبد والرب تعالى وبين العبد وأخيه والوفاء بها: عدم نكثها والإخلال بمقتضاها.
بهيمة الأنعام: هي الإبل والبقر والغنم.
وأنتم حرم: أي محرمون بحج أو عمرة.
شعائر الله: جمع شعيرة وهي هنا مناسك الحج والعمرة، وسائر اعلام دين الله تعالى.
الشهر الحرام: رجب وهو شهر مضر الذي كانت تعظمه.
الهدى: ما يهدى للبيت والحرم من بهيمة الأنعام.
القلائد: جمع قلادة ما يقلد الهدى، وما يتقلده الرجل من لحاء شجر الحرم ليأمن.
آمين البيت الحرام: قاصديه يطلبون ربح تجارة أو رضوان الله تعالى.
وإذا حللتم: أي من إحرامكم.
ولا يجرمنكم شنآن قوم: أي لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا عليهم.
أن صدوكم: أي لأجل أن صدوكم.
البر والتقوى: البر: كل طاعة لله ورسوله والتقوى: فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
الإثم والعدوان: الإثم: سائر الذنوب، والعدوان: الظلم وتجاوز الحدود.
شديد العقاب: أي عقابه شديد لا يطاق ولا يحتمل.
معنى الآيتين:
ينادي الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول يا أيها الذين آمنوا أي يا من آمنتم بي وبرسولي ووعدي ووعيدى أوفوا بالعقود فلا تحلوها وبالعهود فلا تنكثوها، فلا تتركوا واجبا ولا ترتكبوا منهيا، ولا تحرموا حلالا ولا تحلو حراما أحللت لكم بهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم إلا ما يتلى عليكم وهي الآتية في آية
حرمت عليكم الميتة والدم...
[المائدة: 3] فلا تحرموها وحرمت عليكم الصيد وأنتم حرم فلا تحلوه. وسلموا الأمر لي فلا تنازعوا فيما أحل وأحرم فإني أحكم ما أريد. هذا ما تضمنته الآية الأولى { يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد }.
أما الآية الثانية فقد تضمنت أحكاما بعضها نسخ العمل به وبعضها محكم يعمل به إلى يوم الدين المحكم والواجب العمل به تحريم شعائر الله وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب، ونهى وحرم. فلا تستحل بترك واجب، ولا بفعل محرم، ومن ذلك مناسك الحج والعمرة. ومن المنسوخ الشهر الحرام فإن القتال كان محرما في الأشهر الحرم ثم نسخ بقول الله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية، ومن المنسوخ أيضا هدي المشركين وقلائدهم والمشركون أنفسهم فلا يسمح لهم بدخول الحرم ولا يقبل منهم هدى، ولا يجيرهم من القتل تقليد أنفسهم بلحاء شجر الحرم ولو تقلدوا شجر الحرم كله. هذا معنى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } والمراد بالفضل الرزق بالتجارة في الحج، والمراد بالرضوان ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضى الله ليبارك لهم في أرزاقهم ويحفظهم في حياتهم.
وقوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا.. } خطاب للمؤمنين أذن لهم في الاصطياد الذي كان محرما وهم محرمون إذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم. وقوله تعالى {.. ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا } ينهى عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدوهم يوم الحديبية عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن الله تعالى لهم فيه وهو قتالهم إن قاتلوا وتركهم إن تركوا. ثم أمرهم تعالى بالتعاون على البر والتقوى، أي على أداء الواجبات والفضائل، وترك المحرمات والرذائل، ونهاهم عن التعاون عن ضدها فقال عز وجل: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }. ولما كانت التقوى تعم الدين كله فعلا وتركا أمرهم بها، فقال واتقوا الله بالإيمان به ورسوله وبطاعتهما في الفعل والترك، وحذرهم من إهمال أمره بقوله { إن الله شديد العقاب } فاحذروه بلزوم التقوى.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- وجوب الوفاء بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد والمحافظة على العقود التي بين العبد وأخيه العبد لشمول الآية ذلك.
2- إباحة أكل لحوم الإبل والبقر والغنم إلا الميتة منها.
3- تحريم الصيد في حال الإحرام وحليته بعد التحلل من الإحرام وهو صيد البر لا البحر.
4- وجوب إحترام شعائر الدين كلها أداء لما وجب أداؤه، وتركا لما وجب تركه.
5- حرمة الإعتداء مطلقا حتى على الكافر.
6- وجوب التعاون بين المؤمنين على إقامة الدين، وحرمة تعاونهم على المساس به.
[5.3]
شرح الكلمات:
الميتة: ما مات من بهيمة الأنعام حتف أنفه أي بدون تذكية.
وما أهل لغير الله به: أي ما ذكر عليه إسم غير إسم الله تعالى مثل المسيح، أو الولي، أو صنم.
المنخنقة: أي بحبل ونحوه فماتت.
الموقوذة: أي المضروبة بعصا أو حجر فماتت به.
المتردية: الساقطة من عال إلى أسفل مثل السطح والجدار والجبل فماتت.
النطيحة: ما ماتت بسبب نطح أختها لها بقرونها أو رأسها.
وما أكل السبع: أي ما أكلها الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة.
إلا ما ذكيتم: أي أدركتم فيه الروح مستقرة فذكيتموه بذبحة أو نحره.
وما ذبح على النصب: أي ما ذبح على الأصنام التي تمثل إلها أو زعيما أو عظيما، ومثلها ما ذبح على أضرحة الأولياء وقبورهم وعلى الجان.
وأن تستقسموا: أي وحرم عليكم ما تحصلون عليه بالاستقسام بالأزلام ومثله ما يأخذه صاحب الكهانة والشواقة وقرعة الأنياء. والحروز الباطلة التي فيها طلاسم وأسماء الجن والعفاريت.
ذلكم فسق: أي ما ذكر من أكل الميتة إلى الاستقسام بالأزلام خروج عن طاعة الله تعالى ومعصية له سبحانه وتعالى.
فمن اضطر: أي من ألجأته ضرورة الجوع فخاف على نفسه الموت فلا بأس أن يأكل مما ذكر.
في مخمصة: المخمصة شدة الجوع حتى يضمر البطن لقلة الغذاء به.
غير متجانف: غير مائل لإثم يريد غير راغب في المعصية بأكل ما أكل من الميتة وذلك بأن يأكل أكثر مما يسد به رمقه ويدفع به غائلة الجوع المهلك.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية الكريمة هي تفسير وتفصيل لقوله تعالى في الآية الأولى من هذه السورة وهو قوله: { إلا ما يتلى عليكم } حيث ذكر في هذه الآية سائر المحرمات من اللحوم وهي عشر كما يلي:
الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب.
وقوله تعالى: { إلا ما ذكيتم } يريد ما أدركتم فيه الروح مستقرة. بحيث إذا ذبحتموه اضطرب للذبح وركض برجليه فإن هذا علامة أنه كان حيا وأنه مات بالذبح.
وقوله { وأن تستقسموا بالأزلام } يريد ولا يحل لكم الاستسقام بالأزلام، ولا أكل ما يعطى عليها وحقيقتها أنهم كانوا في الجاهلية يضعون القداح المعبر عنها بالأزلام جمع زلم وهو رمح صغير لا زج له ولا ريش فيه، يضعونها في خريطة كالكيس، وقد كتب على واحد أمرني ربي وآخر نهاني ثم يجيلها المستقسم بها في الخريطة ويخرج زلما منها فإن وجده مكتوبا عليه أمرني ربي مضى في عمله سفرا أو زواجا، أو بيعا أو شراء، وإن وجده مكتوبا عليه نهاني ربي ترك ما عزم على فعله فجاء الإسلام فحرم الاستسقام بالأزلام، وسن الاستخارة وهي أن يصلي المؤمن ركعتين من غير الفريضة ويقول: اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به، ويسمي حاجته.
ويفعل أو يترك ما عزم عليه، والذي يأتيه هو الخير بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى: { ذلكم فسق } يريد ما ذكرت لكم مما حرمت عليكم إتيانه هو الفسق فاتركوه.
وقوله تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون } يخبر تعالى عباده المؤمنين أن الكافرين من المشركين وغيرهم قد يئسوا من أن يردوكم عن دينكم كما كان ذلك قبل فتح مكة ودخول ثقيف وهوازن في الإسلام، وظهوركم عليهم في كل معركة دارت بينكم وبينهم إذا فلا تخشوهم بعد الآن أن يتمكنوا من قهركم وردكم إلى الكفر واخشوني أنا بدلهم وذلك بطاعتي وطاعة رسولي ولزوم حدودي والأخذ بسنتي في كوني حتى لا تتعرضوا لنقمتي بسلب عطائي فإن نصرتي لأهل طاعتي وإذلالي لأهل معصيتي.
وقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلم دينا } فهو إخبار منه تعالى لعباده المؤمنين بما هو إنعام عليهم منه وامتنان فأولا: إكمال الدين بجميع عقائده وعباداته وأحكامه وآدابه حتى قيل أن هذه الآية نزلت عشية يوم عرفة عام حجة الوداع، ولم يعش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا احدى وثمانين ليلة ثم توفاه الله تعالى وثانيا: إتمام نعمته تعالى عليهم فآمنهم بعد الخوف وقواهم بعد ضعف، ونصرهم وأعزهم بعد قهر وذل وسودهم وفتح البلاد لهم وأظهر دينهم وأبعد الكفر والكفار عنهم، فعلمهم بعد جهل وهداهم بعد ضلال فهذه من النعمة التي أتمها عليهم وثالثا رضاه بالإسلام دينا لهم حيث بعث رسوله به وأنزل كتابه فيه فبين عقائده وشرائعه فأبعدهم عن الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وأغناهم عنها بما رضيه لهم ألا وهو الإسلام القائم على الاستسلام لله تعالى ظاهرا وباطنا وذلك سلم العروج إلى الكمالات ومرقى كل الفواضل والفضائل والسعادات فلله الحمد وله المنة.
وقوله تعالى: { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } يريد تعالى من اضطر أي ألجأته الضرورة وهي شدة الجوع وهي المخمصة والمسبغة إلى أكل ما حرمت عليكم من الميتة وأنواعها فأكل فلا إثم عليه فإني غفور لعبادي المؤمنين رحيم بهم إلا أن يكون قد أكل من الميتة وأنواعها متعمدا المعصية مائلا إليها غير مبال بتحريمي لها فذاك الذي عصاني وتعرض لنقمتي وعذابي فإن تاب فإني غفور رحيم، وإن أصر فإن عذابي أليم شديد.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- حرمة الميتة وما ذكر معها وهي عشر من المحرمات.
2- حرمة الاستقسام بالأزلام ومثلها قرعة الأنبياء وخط الرمل والكهانة وما أشبه ذلك.
3- حرمة ا لذبح على القبور والقباب والنصب التذكارية وهي من الشرك.
4- جواز أكل ما أدركه المسلم حيا من الحيوان المأكول فذكاه وإن كان قد جرح أو كسر أو أشرف على الموت بأي سبب مميت.
5- وجوب خشية الله تعالى وحرمة خشية الكفار.
6- حرمة الابتداع في الدين وحرمة التشريع المنافي للشرع الإسلامي.
7- جواز أكل الميتة للمضطر وهو من لحقه ضرر من شدة الجوع فخاف على نفسه الهلاك على شرط أن لا يكون قاصدا المعصية مائلا إلى الإثم.
[5.4-5]
شرح الكلمات:
الطيبات: ما أذن الله تعالى في أكله وأباحه لعباده المؤمنين.
الجوارح: جمع جارحة بمعنى كاسبة تجرح بمعنى تكسب.
مكلبين: أي مرسلين الجارحة على الصيد السواء كانت الجارحة كلبا أو طيرا.
طعام الذين أوتوا الكتاب: ذبائح اليهود والنصارى.
المحصنات: جمع محصنة وهي العفيفة الحرة من النساء.
أجورهن: مهورهن وصدقاتهن.
غير مسافحين: غير مجاهرين بالزنى.
أخدان: جمع خدن وهو الخليل والصاحب السري.
ومن يكفر بالإيمان: أي يرتد عن الإيمان فالباء بمعنى عن إذ يقال ارتد عن كذا...
حبط عمله: بطل كل ما قدمه من الصالحات فلا يثاب عليه.
معنى الآيتين:
ورد أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يدخل لوجود كلب صغير في البيت فقال: (إنا لا ندخل بيتا فيه كلب) فأمر النبي بعدها بقتل الكلاب فقتلت ثم جاء بعضهم يسأل عما يحل لهم من أمة الكلاب فأنزل الله تعالى هذه الآية: { يسألونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } وهي كل ما لذ وطاب مما أباحه الله تعالى ولم ينه عنه، وأحل لكم كذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب الخاصة بالاصطياد والفهود والنمور والطيور كالصقور ونحوها. مكلبين أي مرسلين لها على الصيد لتمسكه لكم، { تعلمونهن مما علمكم الله }. أي تؤدبون تلك الجوارح بالأدب الذي أدبكم الله تعالى به، وحد الجارحة المؤدبة أنها إذا اشليت أي أرسلت على الصيد ذهبت إليه وإذا زجرت انزجرت وإذا دعيت أجابت. وقوله تعالى: { فكلوا ممآ أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } يفيد شرطين لحلية الصيد زيادة على كون الجارحة معلمة وهما أولا أن يذكر اسم الله عند إرساله الجارحة بأن يقول: بسم الله هاته مثلا، والثاني أن لا تأكل الجارحة منه فإن أكلت منه فقد أمسكت لنفسها ولم تمسك لمن أرسلها، اللهم إلا إذا أدركت حية لم تمت ثم ذكيت فعند ذلك تحل بالتذكية لا بالإصطياد، وقوله تعالى: { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } وعيد لمن لم يتق الله في أكل ما حرم أكله من الميتة وأنواعها، ومن صيد صاده غير معلم من الجوارح، أو صاده معلم ولكنه أكل منه فمات قبل التذكية. فلتتق عقوبة الله في ذلك فإن الله سريع الحساب.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [4] أما الآية الثانية [5] وهي قوله تعالى: { اليوم أحل لكم الطيبت } أي في هذا اليوم الذي أكمل الله تعالى لكم فيه الدين أحل لكم ما سألتم عنه وهو سائر الطيبات وكذا طعام الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى خاصة فطعامهم أي ذبائحهم حل لكم، وطعامكم حل لهم أي لا بأس أن تطعموهم من طعامكم فإن ذلك جائز لكم ولهم.
وأحل لكم أيضا نكاح المحصنات أي العفائف من المؤمنات، والمحصنات من نساء الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهن العفائف من اليهوديات والنصرانيات، على شرط إتيانهن أجورهن أي مهورهن حال كونكم محصنين أي عاقدين عليهن عقدة النكاح المتوقفة على المهر والولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول، لا مسافحين بإعطاء المرأة أجرة وطئها فقط بدون عقد مستوف لشروطه، ولا متخذي أخدان أيضا بأن تنكحوهن سرا بحكم الصحبة والصداقة والمحبة إذ ذاك هو الزنى فلا يحل بأجرة ولا بغير بأجرة وقوله تعالى: { ومن يكفر بالإيمن فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخسرين } فيه إشارة إلى أن استباحة المحرمات والجرأة على ذلك قد تؤدي إلى الكفر، ومن يكفر بعد إيمانه فقد حبط عمله أي بطل ثواب ما عمله في إسلامه، حتى ولو راجع الإسلام فليس له إلا ما عمله بعد رجوعه إلى الإسلام، وإن مات قبل العودة إلى الإسلام فهو قطعا في الآخرة من الخاسرين بإلقائهم في نار جهنم خالدين فيا أبدا.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- مشروعية سؤال من لا يعلم عما ينبغي له أن يعلمه.
2- حلية الصيد إن توفرت شروطه وهي أن يكون الجارح معلما وأن يذكر اسم الله تعالى عند إرساله وأن لا يأكل منه الجارح، ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة بشرط ذكر اسم الله عند رميه ولو وجد ميتا فلم يذك.
3- إباحة طعام وذبائح أهل الكتاب.
4- إباحة نكاح الكتابيات بشرط أن تكون حرة عفيفة وأن يعقد عليها العقد الشرعي وهو القائم على الولي والشهود والمهر والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي ووكيل زوجني فلانه فيقول له قد زوجتكها.
5- حرمة نكاح المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة .
6- المعاصي قد تقود إلى الكفر.
7- المرتد عن الإسلام يحبط عمله فلو راجع الإسلام لا يثاب على ما فعله قبل الردة وإن مات قبل العودة إلى الإسلام خسر نفسه وأهله يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين.
[5.6-7]
شرح الكلمات:
إذا قمتم إلى الصلاة: أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون أي على غير وضوء.
فاغسلوا وجوهكم: أي بعد غسل الكفين ثلاثا والمضمضة والاستنشاق والاستنثار ثلاثا ثلاثا لبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
وأرجلكم إلى الكعبين: أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين إلا أن يكون عليها خف ساتر فإنه يجوز المسح عليه دون حاجة إلى نزعه وغسل الرجلين، وذلك إن لبسه بعد وضوء ولم يمض على لبسه أكثر من يوم وليلة إن كان مقيما، أو ثلاثة أيام إن كان مسافرا بهذا جاءت السنة.
وإن كنتم جنبا: الجنب من قامت به جنابة وهي شيئآن: غياب رأس الذكر في الفرج، وخروج المنى بلذة في نوم أو يقظة.
فاطهروا: يعني فاغتسلوا، والغسل هو غسل سائر الجسد بالماء.
الغائط: كناية عن الخارج من أحد السبيلين من عذرة أو فساء أو ضراط، أو بول أو مذي.
أو لامستم النساء: ملامسة النساء كناية عن الجماع، كما أن من لامس امرأة ليتلذذ بها أو لامسها لغير قصد اللذة ووجد اللذة فقد انتقض وضوءه ومن هذا مس الفرج باليد لأنه مظنة اللذة لذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم
" من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ ".
فتيمموا صعيدا: اقصدوا ترابا أو حجرا أو رملا أو سبخة مما صعد على وجه الأرض.
الحرج: المشقة والعسر والضيق.
ميثاقه: أي ميثاق الله تعالى وهو عهده المؤكد والمراد به هنا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إذ بها وجب الالتزام بسائر التكاليف الشرعية.
معنى الآيتين:
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليأمرهم بالطهارة إذا هم أرادوا الصلاة وهي مناجاة العبد لربه لحديث المصلي يناجي ربه، وبين لهم الطهارة الصغرى منها وهي الوضوء، والكبرى وهي الغسل، وبين لهم ما ينوب عنهما إذا تعذر وجود الماء الذي به الطهارة أو عجزوا استعماله وهو التيمم فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } وحد الوجه طولا من منبت الشعر أعلى الجبهة إلى منتهى الذقن أسفل الوجه وحده عرضا من وتد الأذن اليمنى إلى وتد الأذن اليسرى { وأيديكم إلى المرافق } فيشمل الغسل الكفين والذراعين إلى بداية العضدين فيدخل في الغسل المرفقان { وامسحوا برؤوسكم } واللفظ محتمل للكل والبعض والسنة بينت أن الماسح يقبل بيديه ويدبر بهما فيمسح جميع رأسه وهو أكمل وذلك ببلل يكون في كفيه، كما بينت السنة مسح الأذنين ظاهرا وباطنا بعد مسح الرأس { وأرجلكم إلى الكعبين } أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين وهما العظمان الناتئان عند بداية الساق، وبينت السنة رخصة المسح على الخفين بدلا من غسل الرجلين، كما بينت غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار، وكون الغسل ثلاثا ثلاثا على وجه الاستحباب، وقول بسم الله عند الشروع أي البدء في الوضوء.
كما بينت السنة وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأول فالأول، ووجوب الفور بحيث لا يفصل بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك وأكدت وجوب النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء.
وقال تعالى: { وإن كنتم جنبا فاطهروا } أي وإن أصابت أحدكم جنابة وهي الجماع والاحتلام فمن جامع زوجته فأولج ذكره في فرجها ولو لم ينزل أي لم يخرج منه المني فقد أجنب كما أن من احتلم فخرج منه مني فقد أجنب بل كل من خرج منه مني بلذة في نوم أو يقظة فقد أجنب وانقطاع دم حيض المرأة ودم نفاسها كالجنابة يجب منه الغسل، وقوله { فاطهروا } يريد فاغتسلوا وقد بينت السنة كيفية الغسل وهي أن ينوي المرء رفع الحدث الأكبر بقلبه ويغسل كفيه قائلا بسم الله ويغسل فرجيه وما حولهما، ثم يتوضأ الوضوء الأصغر المعروف، ثم يخلل أصول شعر رأسه ببلل يديه، ثم يغسل رأسه ثلاث مرات، ثم يقبض الماء على شق جسده الأيمن كله من أعلاه إلى أسفله، ثم الأيسر، ويتعاهد الأماكن التي قد ينبوا عنها الماء فلا يمسها كالسرة وتحت الإبطين، والرفقين وهما أصل الفخذين، وقوله تعالى: { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغائط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء } ذكر تعالى في هذه الجملة الكريمة نواقض الوضوء وموجب الانتقال منه إلى التيمم فقال: { وإن كنتم مرضى } فالمريض قد يعجز عن الوضوء لضعف جسمه بعدم القدرة على التحرك، وقد تكون به جراحات أو دماميل يتعذر معها استعمال الماء حيث يزداد المرض بمس الماء، وقوله { أو على سفر } إذ السفر مظنة عدم وجود الماء هذه موجبات الانتقال من الوضوء إلى التيمم، وقوله عز وجل: { أو جآء أحد منكم من الغائط أو لامستم النسآء }.
ذكر في الجملة الأولى نواقض الوضوء إجمالا وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي كنى عنه بقوله: { أو جآء أحد منكم من الغائط } وهو مكان التغوط والتبول وذكر موجب الغسل وهو الجماع وكنى عنه بالملامسة تعليما لعباده المؤمنين الآداب الرفيعة في مخاطباتهم، وقوله: { فلم تجدوا مآء } للوضوء أو الغسل بعد أن طلبتموه فلم تجدوه فتيمموا، اقصدوا من أم الشيء إذا قصده صعيدا طيبا يريد ما صعد على وجه الأرض من أجزائها كالتراب والرمل والسبخة والحجارة وقوله: { طيبا } يريد به طاهرا من النجاسة والقذر، وقوله: { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } بين فيه كيفية التيمم، وهي أن يقصد المرء التراب الطاهر وإن تعذر ذلك فما تيسر له من أجزاء الأرض فيضرب بكفيه الأرض فيمسح بهما وجهه وكفيه ظاهرا وباطنا مرة واحدة وقوله تعالى: { منه } أي من ذلك الصعيد وبهذا بين تعالى كيفية التيمم وهي التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله عنه وقوله تعالى: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها الصغرى وهي الوضوء والكبرى وهي الغسل، وما ينوب عنهما عند العجز وهو التيمم، ما يريد بذلك إيقاعنا في الضيق والعنت، ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الأحداث والذنوب، لأن الوضوء كفارة لذنب المتوضىء كما جاء بيانه في السنة وهو قوله تعالى: { ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } أي بهدايتكم إلى الإسلام وتعليمكم شرائعه فيعدكم بذلك لشكره وهو طاعته بالعمل بما جاء به الإسلام من الأعمال الباطنة والظاهرة وهو معنى قوله { لعلكم تشكرون }.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [6] أما الآية الأخيرة [7] وهي قوله تعالى: { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور } فإنه تعالى يأمر عباده المؤمنين أن يذكروا نعمته عليهم بهدايتهم إلى الإيمان ليشكروه بالإسلام، كما يذكروا ميثاقه الذي واثقهم به وهو العهد الذي قطعه المؤمن على نفسه لربه تعالى بالتزامه بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عندما تعهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأما قوله: { إذ قلتم سمعنا وأطعنا } قد قالها الصحابة بلسان القال عندما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وقد قالها كل مسلم بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة، وقوله تعالى: { واتقوا الله } أمر بالتقوى التي هي لزوم الشريعة والقيام بها عقيدة وعبادة وقضاء وأدبا وقوله: { إن الله عليم بذات الصدور } يذكرهم بعلم الله تعالى بخفايا أمورهم حتى يراقبوه ويخشوه في السر والعلن وهذا من باب تربية الله تعالى لعباده المؤمنين لإكمالهم وإسعادهم فله الحمد وله المنة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- الأمر بالطهارة وبيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل، وكيفية التيمم.
2- بيان الأعذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم.
3- بيان موجبات الوضوء والغسل.
4- الشكر هو علة الإنعام.
5- ذكر العهود يساعد على التزامها والمحافظة عليها.
[5.8-11]
شرح الكلمات:
قوامين لله: جمع قوام وهو كثير القيام لله تعالى بحقوقه وما وجب له تعالى، وبحقوق الغير أيضا لا يفرط في شيء من ذلك.
شهداء بالقسط: جمع شهيد بمعنى شاهد والقسط العدل.
ولا يجرمنكم: أي لا يحملنكم.
شنآن: بغض وعداوة.
العدل: خلاف الجور، وهو المساواة بلا حيف ولا جور.
هو أقرب للتقوى: أي العدل أقرب للتقوى من الجور.
هم قوم: أرادوا وعزموا على إنفاذ إرادتهم والقوم هم يهود بني النضير.
يبسطوا إليكم إيديهم: أي ليقتلوا نبيكم صلى الله عليه وسلم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ففي الآية [8] أمر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا قوامين لله تعالى بسائر حقوقه عليهم من الطاعات، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا يحيفون ولا يجورون في شيء سواء كان المشهود عليه وليا أو عدوا، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم أو عداوتهم على ترك العدل وقد أمروا به، ثم أمرهم بالعدل وأعلمهم أن أهل العدل هم أقرب الناس إلى التقوى، لأن من كانت ملكة العدل صفة له كان أقدر على أداء الحقوق والواجبات، وعلى ترك الظلم واجتناب المنهيات ثم أمرهم بالتقوى مؤكدا شأنها لأنها ملاك الأمر، وأعلمهم بأنه خبير بما يعملون لتزداد ملكة مراقبة الله تعالى في نفوسهم فيفوزون بالعدل والتقوى معا هذا ما دلت عليه الآية الأولى [8] أما الآية [9] فقد تضمنت بشرى سارة لهم وهي أن ربهم قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة لذنوبهم والأجر العظيم لهم وهو الجنة، وقلت بشرى سارة لهم، لأنهم هم أهل الإيمان وصالح الأعمال رضي الله عنهم وأرضاهم، أما الآية الثالثة [10] فقد تضمنت وعيدا شديدا للكافرين المكذبين بآيات الله وحججه التي أرسل بها رسله وأيدهم بها، ولازم لكذبهم وكفرهم خبث أرواحهم ولذا فهم لا يلائمهم إلا عذاب النار فكانوا بذلك أصحاب الجحيم الذين لا يفارقونها أبدا، وأما الآية الرابعة [11] فقد ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه، هي نجاة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود إذ ورد في سبب نزول هذه الآية ما خلاصته:
أن أولياء العامريين الذين قتلا خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما جاءوا يطالبون بدية قتيليهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين خرجوا إلى بني النظير يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب عقد المعاهدة إذ من جملة موادها تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الآخر في مثل هذه الحالة المالية فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفاوة والتكريم وأجلسوه مكانا لائقا تحت جدار منزل من منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود، وقد خلوا ببعضهم وتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم وقالوا فرصة متاحة فلا نفوتها أبدا وأمروا أحدهم أن يطلق من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم فتقتله، وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى الله إلى رسوله بالموآمرة الدنيئة فقام صلى الله عليه وسلم وتبعه أصحابه ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء المعاهدة وإجلاءهم من المدينة، وقصتهم في سورة الحشر، والمقصود من هذا بيان المراد من قوله تعالى: { يا أيهآ الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } أي بالقتل للنبي صلى الله عليه وسلم { فكف أيديهم عنكم } حيث أوحى إلى رسوله ما دبره اليهود فانصرف وتركهم لم يظفروا بما أرادوا وهو معنى { فكف أيديهم عنكم }.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه إذ هي سلم كمالهم وسبيل نجاحهم وهي عبارة عن امتثال أمره وأمر رسوله واجتناب نهيهما وأرشدهم إلى التوكل عليه تعالى في جميع أمورهم بقوله { وعلى الله فليتوكل المؤمنون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب القيام بحق الله تعالى على العبد وهو ذكره وشكره بطاعته.
2- وجوب العدل في الحكم والقول والشهادة والفعل ومع الولي والعدو سواء.
3- تأكيد الأمر بتقوى الله عز وجل.
4- الترغيب والترهيب بذكر الوعد والوعيد كما في الآيتين [9] و [10].
5- وجوب ذكر النعمة حتى يؤدى شكرها.
6- وجوب التوكل على الله تعالى والمضي في أداء ما أوجب الله تعالى.
[5.12]
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد بالأيمان.
بنو إسرائيل: اليهود.
نقيبا: نقيب القوم: من ينقب عنهم ويبحث عن شؤونهم ويتولى أمورهم.
وعزرتموهم: أي نصرتموهم ودافعتم عنهم معظمين لهم.
وأقرضتم الله: أي أنفقتم في سبيله ترجون الجزاء منه تعالى على نفقاتكم في سبيله.
لأكفرن عنكم سيئآتكم: أسترها ولم أوآخذكم بها.
لقد ضل سواء السبيل: أخطأ طريق الهدى الذي يفلح سالكه بالفوز بالمحبوب والنجاة من المرهوب.
معنى الآية الكريمة:
لما طالب تعالى المؤمنين بالوفاء بعهودهم والالتزام بمواثيقهم ذكرهم في هذه الآية بما أخذ على بني إسرائيل من ميثاق فنقضوه فاستوجبوا خزي الدنيا وعذاب الآخرة ليكون هذا عبرة للمؤمنين حتى لا ينكثوا عهدهم ولا ينقضوا ميثاقهم كما هو إبطال لاستعظام من استعظم غدر اليهود وهمهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآئيل } وهو قوله إني معكم الأتي، { وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا.. } أي من كل قبيلة من قبائلهم الاثني عشرة قبيلة نقيبا يرعاهم ويفتش على أحوالهم كرئيس فيهم، وهم الذين بعثهم موسى عليه السلام إلى فلسطين ليتعرفوا على أحوال الكنعانين قبل قتالهم. وقال الله تعالى { إني معكم } وهذا بند الميثاق { لئن أقمتم الصلاة } أي وعزتي وجلالي { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي } صدقتموهم فيما جاءوكم به { وعزرتموهم } بنصرتهم وتعظيمهم، { وأقرضتم الله قرضا حسنا } أي زيادة على الزكاة الواجبة والعامة في الإنفاق وفي تزكية النفس بالإيمان وصالح الأعمال { لأكفرن عنكم سيئاتكم } بإذهاب آثارها من نفوسكم حتى تطيب وتطهر { ولأدخلنكم } بعد ذلك التطهير { جنات تجري من تحتها } أي من تحت أشجارها وقصورها { الأنهار } هذا جزاء الوفاء بالميثاق { فمن كفر } فنقض وأهمل ما فيه فكفر بعده { فقد ضل سوآء السبيل } أي أخطأ طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، أي خرج عن الطريق المفضي بسالكه إلى النجاة والسعادة.
هداية الآية
من هداية الآية
1- الحث على الوفاء بالالتزامات الشرعية.
2- إبطال استغراب واستعظام من يستغرب من اليهود مكرهم ونقضهم وخبثهم ويستعظم ذلك منهم.
3- إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله تعبد الله بها من قبل هذه الأمة.
4- وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته في أمته ودينه.
[5.13-14]
شرح الكلمات:
نقض الميثاق: حله بعدم الالتزام بما تضمنه من أمر ونهي.
لعناهم: طردناهم من موجبات الرحمة ومقتضيات العز والكمال.
يحرفون الكلم: يبدلون الكلام ويؤولون معانيه لأغراض فاسدة، والكلم من الكلام.
ونسوا حظا مما ذكروا: تركوا قسطا كبيرا مما ذكرهم الله تعالى به أي أمرهم به في كتابهم.
خائنة: خيانة أو طائفة خائنة منهم.
فاعف عنهم واصفح: أي لا تؤاخذهم واصرف وجهك عنهم محسنا إليهم بذلك.
إنا نصارى: أي ابتدعوا بدعة النصرانية فقالوا إنا نصارى.
أغرينا بينهم العداوة: الإغراء: التحريش والمراد أوجدنا لهم أسباب الفرقة والخلاف إلى يوم القيامة بتدبيرنا الخاص فهم أعداء لبعضهم البعض أبدا.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان خبث اليهود وغدرهم فقد أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة [13] أن اليهود الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليه السلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقابلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس وبعث منهم أثني عشر نقيبا قد نكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم، وإنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية فهم يحرفون الكلم عن مواضعه فقال تعالى: { فبما نقضهم } أي فبنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة ويطيعوا رسولهم { لعناهم } أي أبعدناهم من دائرة الرحمة وأفناء الخير والسلام { وجعلنا قلوبهم قاسية } شديدة غليظة لا ترق لموعظة، ولا تلين لقبول هدى { يحرفون الكلم عن مواضعه } فيقدمون ويأخرون ويحذفون بعض الكلام ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم في التوراة { ونسوا حظا مما ذكروا به } وتركوا كثيرا مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين عنها متناسين لها كأنهم لم يؤمرو بها، فهل يستغرب ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة، ولا تزال يا رسولنا { تطلع على خآئنة منهم } أي على طائفة خائنة منهم كخيانة بني النضير { إلا قليلا منهم } فإنهم لا يخونون كعبد الله بن سلام وغيره، وبناء على هذا { فاعف عنهم } فلا تؤاخذهم بالقتل، { واصفح } عنهم فلا تتعرض لمكروههم فأحسن إليهم بذلك { إن الله يحب المحسنين }.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [13] أما الآية الثانية [14] في هذا السياق فقد أخبر تعالى عن النصارى وأن حالهم كحال اليهود لا تختلف كثيرا عنهم فقد أخذنا ميثاقهم على الإيمان بي وبرسلي وبالعمل بشرعي فتركوا متناسين كثيرا مما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه، فكان أن أغرينا بينهم العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق فتعصبت كل طائفة لرأيها فثارت بينهم الخصومات وكثر الجدل فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء وستستمر إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد ويجازيهم به الجزاء الموافق لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم فإن ربك عزيز حكيم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة نقض المواثيق ونكث العهود ولا سيما كان بين العبد وربه.
2- الخيانة وصف لازم لأكثر اليهود فقل من سلم منهم من هذا الوصف.
3- استحباب العفو عند القدرة، وهو من خلال الصالحين.
4- حال النصارى لا تختلف كثيرا عن حال اليهود كأنهم شربوا من ماء واحد. وعليه فلا يستغرب منهم الشر ولا يؤمنون على سر فهم في عداوة الإسلام والحرب عليه متعاونون متواصون.
[5.15-16]
شرح الكلمات:
أهل الكتاب: هنا هم اليهود والنصارى معا.
قد جاءكم رسولنا: محمد صلى الله عليه وسلم.
تخفون من الكتاب: الكتاب التوراة والإنجيل، وما يخفونه صفات النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الأحكام، المخالفين لها يجحدونها خوف المعرة كالرجم مثلا.
ويعفو عن كثير: لا يذكرها لكم لعدم الفائدة من ذكرها.
نور وكتاب مبين: النور محمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب القرآن الكريم.
إلى صراط مستقيم: الإسلام وهو الدين الحق الذي لا نجاة إلا به. والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في أهل الكتاب فبعد أن بين تعالى باطلهم وما هم عليه من شر وسوء دعاهم وهو ربهم وأرحم بهم من أنفسهم إلى سبيل نجاتهم وكمالهم دعاهم إلى الإيمان برسوله وكتابه ذلك الرسول الذي ما اتبعه أحد وندم وخزي والكتاب الذي ما ائتم به أحد وضل أو شقي، فقال: { يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا } أي محمد صلى الله عليه وسلم { يبين لكم } بوحينا { كثيرا } من مسائل الشرع والدين التي تخفونها خشية الفضيحة لأنها حق جحدتموه وذلك كنعوت النبي الأمي وصفاته حتى لا يؤمن به الناس، وكحكم الرجم في التوراة وما إلى ذلك. { ويعفوا } يترك كثيرا لم يذكر لعدم الداعي إلى ذكره يا أهل الكتاب { قد جآءكم من الله } ربكم { نور } هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم { وكتاب مبين } وهو القرآن إذ بين كل شيء من أمور الدين والدنيا وكل ما تتوقف سعادة الإنسان وكماله عليه دنيا وأخرى { يهدي به الله } تعالى { من اتبع رضوانه } وذلك بالرغبة الصادقة في الحصول على رضا الله عز وجل بواسطة فعل محابه وترك مساخطه عن كل معتقد وقول وعمل يهديه به { سبل السلام } أي طرق السعادة والكمال، { ويخرجهم } أي المتبعين رضوان الله { من الظلمات } وهي ظلمات الكفر والشرك والشك، إلى نور الإيمان الصحيح والعبادة الصحيحة المزكية للنفس المهذبة للشعور بتوفيقه وعونه تعالى ويهديهم أي أولئك الراغبين حقا في رضا الله { ويهديهم إلى صراط مستقيم } لا يضلون معه ولا يشقون أبدا وهو دينه الحق الإسلام الذي لا يقبل دينا غيره، والذي ما اهتدى من جانبه ولا سعد ولا كمل من تركه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- نصح الله تعالى لأهل الكتاب بدعوتهم إلى سبل السلام بالدخول في الإسلام.
2- بيان جحود اليهود والنصارى لكثير من الأحكام الشرعية ودلائل النبوة المحمدية مكرا وحسدا حتى لا يؤمن الناس بالإسلام ويدخلوا فيه.
3- اتباع السنة المحمدية يهدي صاحبه إلى سعادته وكماله.
4- القرآن حجة على الناس كافة لبيانه الحق في كل شيء.
5- طالب رضا الله بصدق يفوز بكل خير وينجوا من كل ضير.
[5.17-19]
شرح الكلمات:
لقد كفر الذين: لأنهم جحدوا الحق وقالوا كذبا الله هو المسيح بن مريم.
المسيح: لقب لعيسى بن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام.
مريم: بنت عمران من صلحاء بني إسرائيل والدة عيسى عليه السلام.
يهلك: يميت ويبيد.
قدير: قادر على إيجاد وإعدام كل شيء أراد إيجاده أو إعدامه.
الأحباء: واحده حبيب كما أن الأبناء واحده ابن.
على فترة: الفترة زمن انقطاع الوحي لعدم إرسال الله تعالى رسولا.
بشير ونذير : البشير: المبشر بالخير، والنذير: المنذر من الشر وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر المؤمنين وينذر الكافرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب ففي الآية الأولى [17] أخبر تعالى مؤكدا الخبر بالقسم المحذوف الدالة عليه اللام الواقعة في جواب القسم فقال: { لقد كفر الذين قآلوا إن الله هو المسيح ابن مريم } ووجه كفرهم أنهم جعلوا المخلوق المربوب هو الله الخالق الرب لكل شيء وهو كفر من أقبح أنواع الكفر، وهذا وإن لم يكن قول أكثر النصارى فإنهم بانتمائهم إلى النصرانية وقولهم بها وانخراطهم في سلك مبادئها وتعاليمها يؤاخذون به، لأن الرضا بالكفر كفر.
وقوله تعالى: { قل فمن يملك من الله شيئا } يعلم رسوله كيف يحتج على أهل هذا الباطل فيقول له: قل لهم فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه عليهما السلام { ومن في الأرض جميعا } والجواب قطعا لا أحد، إذا فكيف يكون عبد الله هو الله أو إلها مع الله؟ أليس هذا هو الضلال بعينه وذهاب العقول لكماله؟ ثم أخبر تعالى أنه له { ولله ملك السموت والأرض وما بينهما } خلقا وتصرفا، وأنه { يخلق ما يشآء } خلقه بلا حجر عليه ولا حظر وهو على كل شيء قدير خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق حواء من آدم، وخلق عيسى من مريم بلا أب، ويخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير فكون المسيح عليه السلام خلقه بكلمة كن بلا أب لا تستلزم عقلا ولا شرعا أن يكون هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة مع الله كما هي عقيدة أكثر النصارى، والعجب من إصرارهم على هذا الباطل، هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية [18] فقد تضمنت بيان ضلال اليهود والنصارى معا وهو دعواهم أنهم { أبنؤا الله وأحبؤه } إذ قال تعالى عنهم { وقالت اليهود والنصرى نحن أبنؤا الله وأحبؤه } وهو تبجح وسفه وضلال فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قل لهم يا رسولنا { فلم يعذبكم بذنوبكم } فهل الأب يعذب أبناءه والحبيب يعذب محبيه، وأنتم تقولون نعذب في النار أربعين يوما بسبب خطيئة عبادة أسلافهم العجل أربعين يوما كما جاء ذلك في قوله تعالى حكاية عنهم:
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[البقرة: 80] والحقيقة أن هذا القول منكم من حملة الترهات والأباطيل التي تعيشون عليها، وأما أنتم فإنكم بشر ممن خلق الله فنسبتكم إليه تعالى نسبة مخلوق إلى خالق وعبد إلى مالك من آمن منكم وعمل صالحا غفر له وأكرمه، ومن كفر منكم وعمل سوء عذبه كما هو سنته في سائر عباده، ولا اعتراض عليه فإن له ملك السماوات والأرض وما بينهما وأنتم من جملة مملوكيه، وإليه المصير فسوف ترجعون إليه ويجزيكم بوصفكم إنه حكيم عليم.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة [19] فقد تضمنت إقامة الحجة على أهل الكتاب فقد ناداهم الرب تبارك وتعالى بقوله يا أهل الكتاب وأعلمهم أنه قد جاءهم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يبين لهم الطريق المنجي والمسعد في وقت واحد على حين فترة من الرسل إذ انقطع الوحي منذ رفع عيسى إلى السماء وقد مضى على ذلك قرابة خمسمائة وسبعين سنة أرسلنا رسولنا إليكم حتى لا تقولوا معتذرين عن شرككم وكفركم وشركم وفسادكم: { ما جآءنا من بشير ولا نذير } فها هو ذا البشير محمد صلى الله عليه وسلم فآمنوا به واتبعوه تنجوا وتسعدوا، وإلا فالعذاب لازم لكم والله على تعذيبكم قدير كما هو على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كفر من ينسب إلى الله تعالى ما هو منزه عنه من سائر النقائص.
2- بطلان دعوى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه بالدليل العقلي.
3- نسبة المخلوقات لله تعالى لا تتجاوز كونها مخلوقة له مملوكة يتصرف فيها كما شاء ويحكم فيها بما يريد.
4- قطع عذر أهل الكتاب بإرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل.
[5.20-23]
شرح الكلمات:
نعمة الله عليكم: منها نجاتهم من فرعون وملائه.
إذ جعل فيكم أنبياء: منهم موسى وهارون عليهما السلام.
وجعلكم ملوكا: أي مالكين أمر أنفسكم بعد الاستعباد الفرعوني لكم.
العالمين: المعاصرين لهم والسابقين لهم.
المقدسة التي كتب: المطهرة التي فرض الله عليكم دخولها والسكن فيها بعد طرد الكفار منها.
ولا ترتدوا على أدباركم: أي ترجعوا منهزمين إلى الوراء.
قوما جبارين: عظام الأجسام أقوياء الأبدان يجبرون على طاعتهم من شاءوا.
يخافون: مخالفة أمر الله تعالى ومعصية رسوله.
أنعم الله عليهما: أي بنعمة العصمة حيث لم يفشوا سر ما شاهدوه لما دخلوا أرض الجبارين لكشف أحوال العدو بها، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثني عشر.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع أهل الكتب وهو هنا في اليهود خاصة إذ قال الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم واذكر { وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء } كموسى وهارون عليهما السلام { وجعلكم ملوكا } تملكون أنفسكم لا سلطان لأمة عليكم إلا سلطان ربكم عز وجل { يقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } للسكن فيها والاستقرار بها فافتحوا باب المدينة وباغتوا العدو فإنكم تغلبون { ولا ترتدوا على أدباركم } أي ولا ترجعوا إلى الوراء منهزمين فتنقلبوا بذلك خاسرين، لا أمر الله بالجهاد أطعتم، ولا المدينة المقدسة دخلتم وسكنتم، واسمع يا رسولنا جواب القوم ليزول استعظامك بكفرهم بك وهمهم بقتلك، ولتعلم أنهم قوم بهت سفلة لا خير فيهم، إذ قالوا في جوابهم لنبيهم موسى عليه السلام: { ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون }!! وكان سبب هذه الهزيمة الروحية ما أذاعه النقباء من أخبار مهيلة مخيفة تصف العمالقة الكنعانيين بصفات لا تكاد تتصور في العقول اللهم إلا اثنين منهم وهما يوشع بن نون، وكالب بن يوحنا وهما اللذان قال تعالى عنهما: { قال رجلان من الذين يخافون } أي أمر الله تعالى { أنعم الله عليهما } فعصمهما من إفشاء سر ما رأو من قوة الكنعانيين إلا لموسى عليه السلام قالا للقوم { ادخلوا عليهم الباب } أي باب المدينة { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } وذلك لعنصر المباغتة وهو عنصر مهم في الحروب، { وعلى الله فتوكلوا } وهاجموا القوم واقتحموا عليهم المدينة { إن كنتم مؤمنين } بما أوجب الله عليكم من جهاد وكتب لكم من الاستقرار بهذه البلاد والعيش بها، لأنها أرض القدس والطهر. هذا ما تضمنته الآيات الأربع، وسنسمع رد اليهود على الرجلين في الآيات التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلامه تعالى بخبث اليهود وشدة ضعفهم ومرض قلوبهم.
2- فضح اليهود بكشف الآيات عن مخازيهم مع أنبيائهم.
3- بيان الأثر السيء الذي تركه إذاعة النقباء للأخبار الكاذبة المهولة، وقد استعملت ألمانيا النازية هذا الأسلوب ونجحت نجاحا كبيرا حيث اجتاحت نصف أوربا في مدة قصيرة جدا.
4- بيان سنة الله تعالى من أنه لا يخلو زمان ولا مكان من عبد صالح تقوم به الحجة على الناس.
5- فائدة عنصر المباغتة في الحرب وأنه عنصر فعال في كسب الانتصار.
[5.24-26]
شرح الكلمات:
لن ندخلها: أي المدينة التي أمروا بمهاجمة أهلها والدخول عليهم فيها.
الفاسقين: أي عن أمر الله ورسوله بتركهم الجهاد جبنا وخوفا.
محرمة عليهم: أي تحريما كونيا قضائيا لا شرعيا تعبديا.
يتيهون في الأرض: أي في أرض سينا متحيرين فيها لا يدرون أين يذهبون مدة أربعين سنة.
فلا تأس: أي لا تحزن ولا تأسف.
معنى الآيات:
هذا هو جواب القوم على طلب الرجلين الصالحين باقتحام المدينة على العدو، إذ قالوا بكل وقاحة ودناء وخسة: { قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ.. } أي المدينة {... أبدا ما داموا فيها.. } أي ما دام أهلها فيها يدافعون عنها ولو لم يدافعوا، {.. فاذهب أنت وربك فقاتلا.. } أهل المدينة أما نحن فها هنا قاعدون. أي تمرد وعصيان أكثر من هذا؟ وأي جبن وخور أعظم من هذا؟ وأي سوء أدب أحط من هذا؟ وهنا قال موسى متبرئا من القوم الفاسقين: رب أي يا رب { إني لا أملك إلا نفسي وأخي.. } يريد هارون {.. فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } فطلب بهذا البراءة منهم ومن صنيعهم، إذ قد استوجبوا العذاب قطعا، فأجابه ربه تعالى بقوله في الآية الثالثة [26] { فإنها محرمة عليهم.. } أي الأرض المقدسة أربعين سنة لا يدخلونها وفعلا ما دخلوها إلا بعد مضي الفترة المذكورة { أربعين سنة } وكيف كانوا فيها؟ يتيهون في أرض سينا متحيرين في سيرهم لا يدرون أين يذهبون ولا من أين يأتون، وعليه فلا تحزن يا رسولنا ولا تأسف على القوم الفاسقين إذ هذا جزاؤهم من العذاب عجل لهم فليذوقوه!!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان جبن اليهود، وسوء أدبهم مع ربهم وأنبيائهم.
2- وجوب البراءة من أهل الفسق ببغض عملهم وتركهم لنقمة الله تعالى تنزل بهم.
3- حرمة الحزن والتأسف على الفاسقين والظالمين إذا حلت بهم العقوبة الإلهية جزاء فسقهم.
[5.27-31]
شرح الكلمات:
واتل عليهم: وأقرأ على اليهود الذين هموا بقتلك وقتل أصحابك.
نبأ ابني آدم: خبر ابني آدم هابيل وقابيل.
قربانا: القربان ما يتقرب به إلى الله تعالى كالصلاة والصدقات.
بسطت إلي يدك: مددت إلي يدك.
أن تبوء بإثمي وإثمك: ترجع إلى الله يوم القيامة بإثم قتلك إياي، وإثمك في معاصيك.
فطوعت له نفسه: شجعته على القتل وزينته له حتى فعله.
غرابا: طائرا أسود معروف يضرب به المثل في السواد.
يواري سوءة أخيه: يستر بالتراب جسد أخيه، وقيل فيه سوءة، لأن النظر إلى الميت تكرهه النفوس، والسوءة: ما يكره النظر إليها.
معنى الآيات:
ما زال السياق القرآني الكريم في الحديث عن يهود بني النضير الذين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فالله تعالى يقول لرسوله واقرأ عليهم قصة ابني آدم هابيل وقابيل ليعلموا بذلك عاقبة جريمة القتل الذي هموا به، توبيخا لهم، وإظهارا لموقفك الشريف منهم حيث عفوت عنهم فلم تقتلهم بعد تمكنك منهم، وكنت معهم كخير ابني آدم، {.. إذ قربا قربانا.. } ، أي قرب كل منهما قربانا لله تعالى فتقبل الله قربان أحدهما لأنه كان من أحسن ماله وكانت نفسه به طيبة، { ولم يتقبل من الآخر } وهو قابيل لأنه كان من أردأ ماله، ونفسه به متعلقة، فقال لأخيه هابيل لأقتلنك حسدا له - كما حسدتك اليهود وحسدوا قومك في نبوتك ورسالتك - فقال له أخوه إن عدم قبول قربانك عائد إلى نفسك لا إلى غيرك إنما يتقبل الله من المتقين للشرك فلو اتقيت الشرك لتقبل منك قربانك لأن الله تعالى لا يتقبل إلا ما كان خالصا له، وأنت أشركت نفسك وهواك في قربانك، فلم يتقبل منك. ووالله قسما به { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لأقتلك } ، وعلل ذلك بقوله: {.. إني أخاف الله رب العالمين } ، أي أن ألقاه بدم أرقته ظلما. وإن أبيت إلا قتلي فإني لا أقتلك لأني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أي ترجع إلى ربنا يوم القيامة بإثم قتلك إياي، وإثمك الذي قارفته في حياتك كلها، فتكون بسبب ذلك من أصحاب النار الخالدين فيها الذين لا يفارقونها أبدا قال تعالى { وذلك جزآء الظالمين } ، { فطوعت له نفسه قتل أخيه } أي شجعته عليه وزينته له فقتله { فأصبح من الخاسرين } النادمين لأنه لم يدر ما يصنع به فكان يحمله على عاتقه ويمشي به حتى عفن، وعندئذ بعث الله غرابا يبحث في الأرض أي ينبش الأرض برجليه ومنقاره وينشر التراب على ميت معه حتى واراه: أي بعث الله الغراب ليريه كيف يواري أي يستر سوءة أخيه أي جيفته، فلما رأى قابيل ما صنع الغراب بأخيه الغراب الميت قال متندما متحسرا يا ويلتا أي يا ويلتي احضري فهذا أوان حضورك، ثم وبخ نفسه قائلا: { أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي } ، كما وارى الغراب سوءة أخيه، وأصبح من النادمين على حمله أو على قتله وعدم دفنه ومجرد الندم لا يكون توبة مع أن توبة القاتل عمدا لا تنجيه من النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية التقرب إلى الله تعالى بما يحب أن يتقرب به إليه تعالى.
2- عظم جريمة الحسد وما يترتب عليها من الآثار السيئة.
3- قبول الأعمال الصالحة يتوقف على الإخلاص فيها لله تعالى.
4- بيان أول من سن جريمة القتل وهو قابيل ولذا ورد: ما من نفس تقتل نفسا ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل " نصيب " ذلك بأنه أول من سن القتل.
5- مشروعية الدفن وبيان زمنه.
6- خير ابني آدم المقتول ظلما وشرهما القاتل ظلما.
[5.32]
شرح الكلمات:
من أجل ذلك: أي بسبب ذلك القتل.
كتبنا: أوحينا.
أو فساد في الأرض: بحربه لله ورسوله والمؤمنين.
ومن أحياها: قدر على قتلها وهي مستوجبة له فتركها.
بالبينات: الآيات الواضحات حاملة للشرائع والدلائل.
لمسرفون: مكثرون من المعاصي والذنوب.
معنى الآية الكريمة:
يقول تعالى: إنه من أجل قبح جريمة القتل وما يترتب عليها من مفاسد ومضار لا يقادر قدرها أوجبنا على بني إسرائيل لكثرة ما شاع بينهم من القتل وسفك الدماء فقد قتلوا الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس لأجل هذه الضراوة على القتل فقد قتلوا رسولين زكريا ويحيى وهموا بقتل كل من المرسلين العظيمين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك شددنا عليهم في العقوبة إذ من قتل منهم نفسا بغير نفس أي ظلما وعدوانا. أو قتلها بغير فساد قامت به في الأرض وهو حرب الله ورسوله والمؤمنين فكأنما قتل الناس جميعا بمعنى يعذب عذاب قتل الناس جميعا يوم القيامة ومن أحياها بأن استوجبت القتل فعفا عنها وتركها لله إبقاء عليها فكأنما أحيا الناس جميعا يعني يعطى أجر من أحيا الناس جميعا كل هذا شرعه الله تعالى لهم تنفيرا لهم من القتل الذي أصروا عليه، وترغيبا لهم في العفو الذي جافوه وبعدوا عنه فلم يعرفوه وقوله تعالى: { ولقد جآءتهم رسلنا بالبينت } يخبر تعالى عن حالهم مسليا رسوله محمدا عما يحمله من هم منهم وهم الذين تآمروا على قتله أن الشر الذي لازم اليهود والفساد الذي أصبح وصفا لازما لهم وخاصة المؤامرات بالقتل وإيقاد نار الحروب لم يكن عن جهل وعدم معرفة منهم لا أبدا بل جاءتهم رسلهم بالآيات البينات والشرائع القويمة والآدب الرفيعة ولكنهم قوم بهت متمردون على الشرائع مسرفون في الشر والفساد ولذا فإن كثيرا منهم والله لمسرفون في الشر والفساد، وبنهاية هذه الآية ومن قوله تعالى
يا أيهآ الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم..
وهي الآية [11] انتهى الحديث عن اليهود المتعلق بحادثة همهم بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد ذكر تسلية لرسول الله وأصحابه، كما هو تسلية لكل مؤمن يتعرض لمكر اليهود عليهم لعائن الله.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- تأديب الرب تعالى لبني إسرائيل ومع الأسف لم ينتفعوا به.
2- فساد بني إسرائيل لم ينشأ عن الجهل وقلة العلم بل كان اتباعا للأهواء وجريا وراء عارض الدنيا. فلذا غضب الله عليهم ولعنهم لأنهم عالمون.
3- بالرغم من تضعيف جزاء الجريمة على اليهود، ومضاعفة أجر الحسنة لهم فإنهم أكثر الناس إسرافا في الشر والفساد في الأرض.
[5.33-34]
شرح الكلمات:
يحاربون الله ورسوله: بالخروج عن طاعتهما وحمل السلاح على المؤمنين وقتلهم وسلب أموالهم والاعتداء على حرماتهم.
ويسعون في الأرض فسادا: بإخافة الناس وقطع طرقهم وسلب أموالهم والاعتداء على أعراضهم.
أو يصلبوا: يشدون على أعواد الخشب ويقتلون، أو بعد أن يقتلوا.
من خلاف: بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس.
أو ينفوا من الأرض: أي من أرض الإسلام.
خزي في الدنيا: ذل ومهانة.
عذاب عظيم: عذاب جهنم.
أن تقدروا عليهم: أي تتمكنوا منهم بأن فروا بعيدا ثم جاءوا مسلمين.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى ما أوجبه على اليهود من شدة العقوبة وعلى جريمة القتل والفساد في الأرض كسرا لحدة جرءتهم على القتل والفساد ذكر هنا حكم وجزاء من يحارب المسلمين ويسعى بالفساد في ديارهم فقال تعالى: { إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله } بالكفر بعد الإيمان والقتل والسلب بعد الأمان، { ويسعون في الأرض فسادا } بتخويف المسلمين، وقطع طرقهم وأخذ أموالهم، والاعتداء على حرماتهم وأعراضهم، هو ما أذكره لكم لا غيره فاعلموه أنه { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } ومعنى يقتلوا: يقتلون واحدا بعد واحد نكاية لهم وإرهابا وتعزيرا لغيرهم، ومعنى يصلبوا بعد ما يقتل الواحد منهم يشد على خشبة مدة ثلاثة أيام ومعنى ينفوا من الأرض يخرجوا من دار الإسلام، أو إلى مكان ناء كجزيرة في بحر أو يحبسوا حتى ينجو المسلمون من شرهم وأذاهم، ويكون ذلك الجزاء المذكور خزيا وذلا لهم في الدنيا { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهو عذاب النار، وقوله تعالى: { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } فهذا استثناء متصل من أولئك المحاربين بأن من عجزنا عنه فلم نتمكن من من القبض عليه، وبعد فترة جاءنا تائبا فإن حكمه يختلف عمن قبله، وقوله تعالى: { فاعلموا أن الله غفور رحيم } يحمل إشارة واضحة إلى تخفيف الحكم عليه، وذلك فإن كان كافرا وأسلم فإن الإسلام يجب ما قبله فيسقط عنه كل ما ذكر في الآية من عقوبات.. وإن كان مسلما فيسقط الصلب ويجب عليه، رد المال الذي أخذه إن بقي في يده، وإن قتل أو فجر وطالب بإقامة الحد عليه أقيم عليه الحد، وإلا ترك لله والله غفور رحيم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حكم الحرابة وحقيقتها: خروج جماعة اثنان فأكثر ويكون بأيديها سلاح ولهم شوكة، خروجهم إلى الصحراء بعيدا عن المدن والقرى، يشنون هجمات على المسلمين فيقتلون ويسلبون ويعتدون على الأعراض. هذه هي الحرابة وأهلها يقال لهم المحاربون وحكمهم ما ذكر تعالى في الآية الأولى [33].
2- الإمام مخير في إنزال التي يرى أنها مناسبة لاستتباب الأمن، إن قلنا أو في الآية للتخيير، وإلا فمن قتل وأخذ المال وأخاف الناس قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالا قتل، ومن قتل وأخذ مالا قطعت يده ورجله من خلاف فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن لم يقتل ولم يأخذ مالا ينفى.
3- من تاب من المحاربين قبل التمكن منه يعفا عنه إلا أن يكون بيده مال سلبه فإنه يرده على ذويه أو يطلب بنفسه إقامة الحد عليه فيجاب لذلك.
4- عظم عفو الله ورحمته بعباده لمغفرته لمن تاب ورحمته له.
[5.35-37]
شرح الكلمات:
اتقوا الله: خافوا عذابه فامتثلوا أمره وأمر رسوله واجتنبوا نهيهما.
وابتغوا: إطلبوا.
الوسيلة: تقربوا إليه بفعل محابه وترك مساخطه تظفروا بالقرب منه.
وجاهدوا في سبيله: أنفسكم بحملها على أن تتعلم وتعمل وتعلم، وأعداءه بدعوتهم إلى الإسلام وقتالهم على ذلك.
تفلحون: تنجون من النار وتدخلون الجنة.
عذاب مقيم: دائم لا يبرح ولا يزول.
معنى الآيتين:
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليرشدهم إلى ما ينجيهم من العذاب فيجتنبوه، وإلى ما يدنيهم من الرحمة فيعملوه فيقول: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون } ومعنى اتقوا الله خافوا عذابه فأطيعوه بفعل أوامره وأوامر رسوله واجتناب نواهيهما فإن عذاب الله لا يتقى إلا بالتقوى. ومعنى { وابتغوا إليه الوسيلة } اطلبوا إليه القربة، أي تقربوا إليه بفعل ما يحب وترك ما يكره تفوزوا بالقرب منه. ومعنى { وجاهدوا في سبيله } جاهدوا أنفسكم في طاعته والشيطان في معصيته، والكفار في الإسلام إليه والدخول في دينه باذلين كل ما في وسعكم من جهد وطاقة، هذا ما دلت عليه الآية الأولى [35] أما الآية الثانية [36] وهي قوله تعالى: { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه.. } الخ فإنها علة لما دعت إليه الآية الأولى من الأمر بالتقوى وطلب القرب من الله تعالى وذلك بالإيمان وصالح الأعمال، لأن العذاب الذي أمروا باتقائه بالتقوى عذاب لا يطاق أبدا ناهيكم أن الذين كفروا { لو أن لهم ما في الأرض جميعا } من مال صامت وناطق { ومثله معه } وقبل منهم فداء لأنفسهم من ذلك العذاب لقدموه سخية به نفوسهم، إنه عذاب أليم موجع أشد الوجع ومؤلم أشد الألم إنهم يتمنون بكل قلوبهم أن يخرجوا من النار { وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم } دائم لا يبرح ولا يزول.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تقوى الله عز وجل وطلب القربة إليه والجهاد في سبيله.
2- مشروعية التوسل إلى الله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.
3- عظم عذاب يوم القيامة وشدته غير المتناهية.
4- لا فدية يوم القيامة ولا شفاعة تنفع الكافر فيخرج بها من النار.
5- حسن التعليل للأمر والنهي بما يشجع على الامتثال والترك.
[5.38-40]
شرح الكلمات:
السارق: الذي أخذ مالا من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر.
السارقة: التي أخذت مالا من حرز خفية يقدر بربع دينا فأكثر.
فاقطعوا أيديهما: أي اقطعوا من سرق منهما يده من الكوع.
نكالا: عقوبة من الله تجعل غيره ينكل أن يسرق.
عزيز حكيم: عزيز: غالب لا يحال بينه وبين مراده، حكيم: في تدبيره وقضائه.
بعد ظلمه: بعد ظلمه لنفسه بمعصية الله تعالى بأخذ أموال الناس.
وأصلح: أي نفسه بتزكيتها بالتوبة والعمل الصالح.
فإن الله يتوب عليه: أي يقبل توبته، ويغفر له ويرحمه إن شاء.
له ملك السماوات والأرض: خلقا وملكا وتدبيرا.
يعذب من يشاء: أي تعذيبه لأنه مات عاصيا لأمره كافرا بحقه.
ويغفر لمن يشاء: ممن تاب من ذنبه وأناب إليه سبحانه تعالى.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مقررا حكما من أحكام شرعه وهو أن الذي يسرق مالا يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله خفية وهو عاقل بالغ، ورفع إلى الحاكم، والسارقة كذلك فالحكم أن تقطع يد السارق اليمنى من الكوع وكذا يد السارقة مجازاة لهما على ظلمهما بالاعتداء على أموال غيرهما، { نكالا من الله } أي عقوبة من الله تعالى لهما تجعل غيرهما لا يقدم على أخذ أموال الناس بطريق السرقة المحرمة، { والله عزيز حكيم } غالب على أمره حكيم في قضائه وحكمه. هذا معنى قوله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا } من الإثم { نكالا من الله والله عزيز حكيم }.
وقوله تعالى في الآية الثانية [39] { فمن تاب من بعد ظلمه } أي تاب من السرقة بعد أن ظلم نفسه بذلك { وأصلح } نفسه بالتوبة ومن ذلك رد المال المسروق { فإن الله يتوب عليه } لأنه تعالى غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين، وقوله تعالى في الآية الثالثة [40] { ألم تعلم أن الله له ملك السموت والأرض } يخاطب تعالى رسوله وكل من هو أهل للتلقي والفهم من الله تعالى فيقول مقررا المخاطب { ألم تعلم أن الله له ملك السموت والأرض } والجواب بلى، وإذا فالحكم له تعالى لا ينازع فيه فلذا هو يعذب ويقطع يد السارق والسارقة ويغفر لمن تاب من السرقة وأصلح. وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- بيان حكم حد السرقة وهو قطع يد السارق والسارقة.
2- بيان أن التائب من السراق إذا أصلح يتوب الله عليه أن يقبل توبته.
3- إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده، وإن رفع فلا توبة له إلا بالقطع فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب.
4- وجوب التسليم لقضاء الله تعالى والرضا بحكمه لأنه عزيز حكيم.
[5.41-43]
شرح الكلمات:
لا يحزنك: الحزن ألم نفس يسببه خوف فوات محبوب.
يسارعون في الكفر: بمعنى يسرعون فيه إذ ما خرجوا منه كلما سنحت فرصة للكفر أظهروه.
قالوا آمنا بأفواههم: هؤلاء هم المنافقون.
ومن الذين هادوا: أي اليهود.
سماعون للكذب: أي كثيروا الاستماع للكذب.
يحرفون الكلم: يبدلون الكلام ويغيرونه ليوافق أهواءهم.
إذا أوتيتم هذا: أي أعطيتم.
فتنته: أي ضلاله لما سبق له من موجبات الضلال.
أن يطهر قلوبهم: من الكفر والنفاق.
خزي: ذل.
أكالون للسحت: كثيروا الأكل للحرام كالرشوة والربا.
أو أعرض عنهم: أي لا تحكم بينهم.
بالقسط: أي بالعدل.
وما أولئك بالمؤمنين: أي صدقا وحقا وإن ادعوه نطقا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر.. } إلى قوله {.. عذاب عظيم } في نهاية الآية نزل تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيفا مما كان يجده صلى الله عليه وسلم من ألم نفسي من جراء ما يسمع ويرى من المنافقين واليهود فناداه ربه تعالى بعنوان الرسالة التي كذب بها المنافقون واليهود معا: { يأيها الرسول } الحق، لينهاه عن الحزن الذي يضاعف ألمه: { لا يحزنك } حال الذين { يسارعون في الكفر } بتكذيبك فإنه ما خرجوا من الكفر بل هم فيه منغمسون فإذا سمعت منهم قول الكفر لا تحفل به حتى لا يسبب لك حزنا في نفسك. { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا } أي لا يحزنك كذلك حال اليهود الذين يكذبون بنبؤتك ويجحدون رسالتك، { سماعون للكذب } سماعون ليهود آخرين لم يأتوك كيهود خيبر وفدك أي كثيروا السمع للكذب الذي يقوله أحبارهم لما فيه من الإساءة إليك سماعون لأهل قوم آخرين ينقلوبن إليهم أخبارك كوسائط وهم لم يأتوك وهم يهود خيبر إذ أوعزوا إليهم أن يسألوا لهم النبي صلى الله عليه وسلم عن حد الزنى { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } ، أي يغيرون حكم الله الذي تضمنه الكلام، يقولون لهم إن أفتاكم في الزانين المحصنين بالجلد والتحميم بالفحم فاقبلوا ذلك وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك. هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية { يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } وقال تعالى لرسوله، { ومن يرد الله فتنته } إي إضلاله عن الحق لما اقترف من عظائم الذنوب وكبائر الآثام { فلن تملك له من الله شيئا } إذا أراد الله إضلاله إذا فلا يحزنك مسارعتهم في الكفر، { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } من الحسد والشرك والنفاق لسوابق الشر التي كانت لهم فحالت دون قبول الإيمان والحق، { لهم في الدنيا خزي } أي ذل وعار، { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } جزاء كفرهم وبغيهم.
هذا ما دلت عليه الآية [41] أما الآية الثانية [42] فقد تضمنت وصف أولئك اليهود بصفة كثرة استماع الكذب مضافا إليه كثرة أكلهم للسحت وهو المال الحرام أشد حرمة كالرشوة والربا، فقال تعالى عنهم { سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جآءوك.. } أي للتحاكم عندك فأنت مخير بين أن تحكم بينهم بحكم الله. أو تعرض عنهم وتتركهم لأحبارهم يحكمون بينهم كما شاءوا وإن تعرض عنهم فلم تحكم بينهم لن يضروك شيئا أي من الضرر ولو قل، لأن الله تعالى وليك وناصرك، وإن حكمت بينهم فاحكم بينهم بالقسط أي بالعدل، لأن الله تبارك وتعالى يحب ذلك فافعله لأجله إنه يحب القسط والمقسطين، وقوله تعالى في الآية الثالثة [43] { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله }. أي إنه مما يتعجب منه أن يحكموك فتحكم بينهم برجم الزناة. وعندهم التوراة فيها نفس الحكم فرفضوه معرضين عنه اتباعا لأهوائهم، { ومآ أولئك بالمؤمنين } لا بك ولا بحكمك ولا بحكم التوراة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته.
2- حرمة سماع الكذب لغير حاجة تدعو إلى ذلك.
3- حرمة تحريف الكلام وتشويهه للإفساد.
4- الحاكم المسلم مخير في الحكم بين أهل الكتاب إن شاء حكم بينهم وإن شاء أحالهم على علمائهم.
5- وجوب العدل في الحكم ولو كان المحكوم عليه غير مسلم.
6- تقرير كفر اليهود وعدم إيمانهم.
[5.44-47]
شرح الكلمات:
التوراة: كتاب موسى عليه السلام.
هدى ونور: الهدى: ما يوصل إلى المقصود والنور: ما يهدي السائر إلى غرضه.
هادوا: اليهود.
الربانيون: جمع رباني: العالم المربي الحكيم.
الأحبار: جمع حبر: العالم من أهل الكتاب.
وكتبنا: فرضنا عليهم وأوجبنا.
قصاص: مساواة.
وقفينا: أتبعناهم بعيسى بن مريم.
الفاسقون: الخارجون عن طاعة الله ورسله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث على بني إسرائيل إذ قال تعالى مخبرا عما آتى بني إسرائيل { إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } هدى من كل ضلالة ونور مبين للأحكام مخرج من ظلمات الجهل { يحكم بها النبيون } من بني إسرائيل { النبيون الذين أسلموا } لله قلوبهم ووجوهم فانقادوا لله ظاهرا وباطنا، { للذين هادوا } ، ويحكم بها الربانيون من أهل العلم والحكمة من بني إسرائيل { بما استحفظوا } بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم كتابه التوراة فلا يبدلونه ولا يغيرون فيها، { وكانوا عليه شهدآء } بأحقيته وسلامته من النقص والزيادة بخلافكم أيها اليهود فقد حرفتم الكلم عن مواضعه وتركتم الحكم به فما لكم؟ فأظهروا الحق من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به، ومن ثبوت الرجم وإنفاذه في الزناة ولا تخشوا الناس في ذلك واخشوا الله تعالى فهو أحق أن يخشى، ولا تشتروا بآيات الله التي هي أحكامه فتعطلوها مقابل ثمن قليل تأخذونه ممن تجاملونهم وتداهنونهم على حساب دين الله وكتابه. { ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فكيف ترضون بالكفر بدل الأيمان.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [44] أما الآية الثانية [45] { وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس.. } فقد أخبر تعالى أنه فرض على بني إسرائيل في التوراة القود في النفس والقصاص في الجراحات فالنفس تقتل بالنفس، العين تفقأ بالعين والأنف يجدع بالأنف، والأذن تقطع بالأذن والسن تكسر إن كسرت بالسن، وتقلع به إن قلع، والجروح بمثلها قصاص ومساواة وأخبر تعالى أن من تصدق على الجاني بالعفو عنه وعدم المؤاخذة فإن ذلك يكون كفارة لذنوبه، وإن لم يتصدق عليه واقتص منه يكون ذلك كفارة لجنايته بشرط وذلك بأن يقدم نفسه للقصاص تائبا أي نادما على فعله مستغفرا ربه. وقوله تعالى في ختام الآية: { ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ، وذلك بأن قتل غير القاتل أو قتل بالواحد اثنين أو فقأ بالعين عينين كما كان بنو النضير يعاملون به قريظة بدعوى الشرف عليهم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة [46] وهي قوله تعالى: { وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم } فقد أخبر تعالى أنه أتبع أولئك الأنبياء السابقين من بني إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام أي أرسله بعدهم مباشرة { مصدقا لما بين يديه من التوراة } لم ينكرها أو يتجاهلها، { وآتيناه الإنجيل } ، أي وأعطيناه الإنجيل وحيا أوحيناه إليه وهو كتاب مقدس أنزله الله تعالى عليه فيه أي في الإنجيل هدى من الضلال ونور لبيان الأحكام من الحلال والحرام، { ومصدقا } أي الإنجيل لما قبله من التوراة أي مقررا أحكامها مثبتا لها إلا ما نسخه الله تعالى منها بالإنجيل، { وهدى وموعظة للمتقين } أي يجد فيه أهل التقوى الهداية الكافية للسير في طريقهم إلى الله تعالى والموعظة التامة للاتعاظ بها في الحياة.
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية [47] وهي قوله تعالى: { وليحكم أهل الإنجيل بمآ أنزل الله فيه } أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل يريد وأمرنا أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام، وأخبرناهم أن من { لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } عن أمره الخارجون عن طاعته وقد يكون الفسق ظلما وكفرا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب خشية الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم.
2- كفر من جحد أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض.
3- وجوب القود في النفس والقصاص في الجراحات لأن ما كتب على بني إسرائيل كتب على هذه الأمة.
4- من الظلم أن يعتدى في القصاص بأن يقتل بالواحد اثنان أو يقتل غير القاتل أو يفقأ بالعين الواحدة عينان مثلا وهو كفر مع الاستحلال وظلم في نفس الوقت.
5- مشروعية القصاص في الإنجيل وإلزام أهله بتطبيقه وتقرير فسقهم إن عطلوا تلك الأحكام وهم مؤمنون بها.
[5.48-50]
شرح الكلمات:
الكتاب: القرآن الكريم.
من الكتاب: اسم جنس بمعنى الكتب السابقة قبله كالتوراة والإنجيل.
مهيمنا عليه: حاكما عليه أي محققا للحق الذي فيه، مبطلا للباطل الذي التصق به.
شرعة ومنهاجا: شريعة تعملون بها وسبيلا تسلكونه لسعادتكم وكمالكم من سنن الهدى.
أمة واحدة: لا اختلاف بينكم في عقيدة ولا في عبادة ولا قضاء.
فاستبقوا: أي بادروا فعل الخيرات ليفوز السابقون.
أن يفتنوك: يضلوك عن الحق.
فإن تولوا: أعرضوا عن قبول الحق الذي دعوتهم إليه وأردت حكمهم به.
حكم الجاهلية: هو ما عليه أهل الجاهلية من الأحكام القبلية التي لا تقوم على وحي الله تعالى وإنما على الآراء والأهواء.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى إنزاله التوراة وأن فيها الهدى والنور وذكر الإنجيل وأنه أيضا فيه الهدى والنور ناسب ذكر القرآن الكريم فقال: { وأنزلنآ إليك الكتاب } أي القرآن { بالحق } متلبسا به لا يفارقه الحق والصدق لخلوه من الزيادة والنقصان حال كونه { مصدقا لما بين يديه } من الكتب السابقة، ومهيمنا عليها حفيظا حاكما فالحق ما أحقه منها والباطل ما أبطله منها. وعليه { فاحكم } يا رسولنا بين اليهود والمتحاكمين إليك { بمآ أنزل الله } إليك بقتل القاتل ورجم الزاني لا كما يريد اليهود { ولا تتبع أهوآءهم } في ذلك وترك ما جاءك من الحق، واعلم أنا جعلنا لكل أمة شرعة ومنهاجا أي شرعا وسبيلا خاصا يسلكونه في إسعادهم وإكمالهم، { ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة } على شريعة واحدة لا تختلف في قضاياها وأحكامها لفعل، ولكن نوع الشرائع فأوجب وأحل ونهى وحرم في شريعة ولم يفعل ذلك في شريعة أخرى من أجل أن يبتليكم فيما أعطاكم وأنزل عليكم ليتبين المطيع من المعاصي والمهتدي من الضال، وعليه فهلم { فاستبقوا الخيرات } أي بادروا الأعمال الصالحة وليجتهد كل واحد أن يكون سابقا، فإن مرجعكم إليه تعالى { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } ، ثم يجزيكم الخير بمثله والشر إن شاء كذلك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية [49] فقد أمر الله تعالى فيها رسوله ونهاه وحذره وأعلمه وندد بأعدائه أمره أن يحكم بين من يتحاكمون إليه بما أنزل عليه من القرآن فقال: { وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله } ونهاه أن يتبع أهواء اليهود فقال: { ولا تتبع أهوآءهم } وحذره من أن يتبع بعض آرائهم فيترك بعض ما أنزل عليه ولا يعمل به ويعمل بما اقترحوه عليه فقال: { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل الله إليك } وأعلمه أن اليهود إن تولوا أي أعرضوا عن قبول حكمه وهو الحكم الحق العادل فإنما يريد الله تعالى أن ينزل بهم عقوبة نتيجة ما قارفوا من الذنوب وما ارتكبوا من الخطايا فقال: { فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم }.
وندد بأعدائه حيث أخبر أن أكثرهم فاسقون أي عصاة خارجون عن طاعة الله تعالى ورسله فقال: { وإن كثيرا من الناس لفاسقون }. فسلاه بذلك وهون عليه ما قد يجده من ألم تمرد اليهود والمنافقين وإعراضهم عن الحق الذي جاءهم به ودعاهم إليه. هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة [50] فقد أنكر تعالى فيها على اليهود طلبهم حكم أهل الجاهلية حيث لا وحي ولا تشريع إلهي وإنما العادات والأهواء والشهوات معرضين عن حكم الكتاب والسنة حيث العدل والرحمة فقال تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون }. ثم أخبر تعالى نافيا أن يكون هناك حكم أعدل أو أرحم من حكم الله تعالى للمؤمنين به الموقنين بعدله تعالى ورحمته فقال: { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون }؟.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الحكم وفي كل القضايا بالكتاب والسنة.
2- لا يجوز تحكيم أية شريعة أو قانون غير الوحي الإلهي الكتاب والسنة.
3- التحذير من اتباع أهواء الناس خشية الإضلال عن الحق.
4- بيان الحكمة من اختلاف الشرائع وهو الابتلاء.
5- أكثر المصائب في الدنيا ناتجة بعض الذنوب.
6- حكم الشريعة الإسلامية أحسن الأحكام عدلا ورحمة.
[5.51-53]
شرح الكلمات:
آمنوا: صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
أولياء: لكم توالونهم بالنصرة والمحبة.
بعضهم أولياء بعض: أي اليهود ولي أخيه اليهودي، والنصراني ولي أخيه النصراني.
الظالمين: الذين يوالون أعداء الله ورسوله ويتركون موالاة الله ورسوله والمؤمنين.
مرض: نفاق وشك وشرك.
يسارعون فيهم: أي في البقاء على موالاتهم أي موالاة اليهود والنصارى.
دائرة: تدور علينا من جدب، أو انتهاء أمر الإسلام.
بالفتح: نصر المؤمنين على الكافرين والقضاء لهم بذلك كفتح مكة.
جهد أيمانهم: أقصاها وأبلغها.
حبطت أعمالهم: بطلت وفسدت فلم ينتفعوا منها بشيء لأنها ما كانت لله تعالى.
معنى الآيات:
ورد في سبب نزول هذه الآية أن عبادة بن الصامت الأنصاري، وعبد الله بن أبي كان لكل منهما حلفاء من يهود المدينة، ولما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في بدر اغتاظ اليهود وأعلنوا سوء نياتهم فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفائه ورضي بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وأبى ابن أبي ذلك وقال بعض ما جاء في هذه الآيات فأنزل الله تعالى قوله: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء } أي لكم من دون المؤمنين وقوله تعالى { بعضهم أوليآء بعض } تعليل لتحريم موالاتهم، لأن اليهودي ولي لليهودي والنصراني ولي للنصراني على المسلمين فكيف تجوز إذا موالاتهم، وكيف يصدقون أيضا فيها فهل من المعقول أن يحبك النصراني ويكره أخاه، وهل ينصرك على أخيه؟ وقوله تعالى: { ومن يتولهم منكم } أي أيها المؤمنين { فإنه منهم } ، لأنه بحكم موالاتهم سيكون حربا على الله ورسوله والمؤمنين وبذلك يصبح منهم قطعا وقوله: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } جملة تعليلية تفيد أن من والى اليهود والنصارى من المؤمنين أصبح مثلهم فيحرم هداية الله تعالى لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، والظلم وضع الشيء في غير محله وهذا الموالي لليهود والنصارى قد ظلم بوضع الموالاة في غير محلها حيث عادى لله ورسوله والمؤمنين ووالى اليهود والنصارى أعداء الله ورسوله والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية [52] فقد تضمنت بعض ما قال ابن أبي مبررا به موقفه المخزي وهو الإبقاء على موالاته لليهود إذ قال تعالى لرسوله وهو يخبره بحالهم: { فترى الذين في قلوبهم مرض } كابن أبي والمرض مرض النفاق { يسارعون فيهم } أي في موالاتهم ولم يقل يسارعون إليهم لأنهم ما خرجوا من دائرة موالاتهم حتى يعودوا إليها بل هم في داخلها يسارعون، يقولون كالمعتذرين { نخشى أن تصيبنا دآئرة } من تقلب الأحوال فنجد أنفسنا مع أحلافنا ننتفع بهم. وقوله تعالى: { فعسى الله أن يأتي بالفتح } وعسى من الله تفيد تحقيق الوقوع فهي بشرى لرسول الله والمؤمنين بقرب النصرب والفتح { أو أمر من عنده فيصبحوا } أي أولئك الموالون لليهود { على مآ أسروا في أنفسهم } من النفاق وبغض المؤمنين وحب الكافرين { نادمين } حيث لا ينفعهم ندم.
هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة [53] وهي قوله تعالى: { ويقول الذين آمنوا } عندما يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيه نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين، ويصبح المنافقون نادمين يقول المؤمنون مشيرين إلى المنافقين: { أهؤلاء الذين أقسموا بالله } أغلظ الأيمان { إنهم لمعكم حبطت أعمالهم } لأنها لم تكن لله { فأصبحوا خاسرين }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة موالاة اليهود والنصارى وسائر الكافرين.
2- موالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإسلام.
3- موالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان فلذا تؤدي إلى الكفر.
4- عاقبة النفاق سيئة ونهاية الكفر مريرة.
[5.54-56]
شرح الكلمات:
من يرتد: أي يرجع إلى الكفر بعد إيمانه.
أذلة على المؤمنين: أرقاء عليهم رحماء بهم.
أعزة على الكافرين: أشداء غلاظ عليهم.
لومة لائم: عذل عاذل.
حزب الله: أنصار الله تعالى.
معنى الآيات:
هذه الآية الكريمة [54] { يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } تضمنت خبرا من أخبار الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق ما أخبر به فتكون آية أنه كلام الله حقا وأن المنزل على رسوله صدقا فقد أخبر تعالى أن من يرتد من المؤمنين سوف يأتي الله عز وجل بخير منه ممن يحبون الله ويحبهم الله تعالى رحماء بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لوم من يلوم، ولا عتاب من يعتب عليهم. وما إن مات الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ارتد فئات من أجلاف الأعراب ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر الصديق مع الصحابة رضوان الله عليهم حتى أخضعوهم للإسلام وحسن إسلامهم فكان أبو بكر وأصحابه ممن وصف الله تعالى يحبون الله ويحبهم الله يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم، وقد روي بل وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية وتلاها صلى الله عليه وسلم وأبو موسى الأشعري أمامة فأشار إليه وقال قوم هذا، وفعلا بعد وفاة الرسول جاء الأشعريون وظهرت الآية وتمت المعجزة وصدق الله العظيم، وقوله تعالى: { ذلك فضل الله } الإشارة إلى ما أولى أولئك المؤمنين من أبي بكر الصديق والصحابة والأشعريين من تلك الصفات الجليلة من حب الله والرقة على المؤمنين والشدة على الكافرين، والجهاد في سبيل الله، وقوله تعالى: { والله واسع عليم } أي واسع الفضل عليم بمن يستحقه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية [55] فقد تضمنت طمأنة الرب تعالى لعبادة بن صامت وعبد الله بن سلام ومن تبرأ من حلف اليهود ووالى الله ورسوله فأخبرهم تعالى أنه هو وليهم ورسوله والذين آمنوا { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } أي خاشعون متطامنون وأما ولاية اليهود والنصارى فلا خير لهم فيها وهم منها براء فقصرهم تعالى على ولايته وولاية رسوله والمؤمنين الصادقين وفي الآية الثالثة أخبرهم تعالى أن من يتول الله ورسوله والذين آمنوا ينصره الله ويكفه من يهمه، لأنه أصبح من حزب الله، وحزب الله أي أولياؤه وأنصاره هم الغالبون هذا ما دلت عليه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إخبار القرآن الكريم بالغيب وصدقه في ذلك فكان آية أنه كلام الله.
2- فضيلة أبي بكر والصحابة والأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم من أهل اليمن.
3- فضل حب الله والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين، وفضل الجهاد في سبيل الله وقول الحق والثبات عليه وعدم المبالاة بمن يلوم ويعذل في ذلك.
4- فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع.
5- ولاية الله ورسوله والمؤمنين الصادقين توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه.
[5.57-60]
شرح الكلمات:
هزوا ولعبا: الهزء: ما يهزأ به ويسخر منه. واللعب: ما يلعب به.
أوتوا الكتاب: هم اليهود في هذا السياق.
الكفار: المشركون.
إذا ناديتم إلى الصلاة: أذنتم لها.
هل تنقمون منا: أي ما تنقمون منا، ومعنى تنقمون هنا تنكرون منا وتعيبون علينا.
مثوبة: جزاء.
فاسقون: خارجون عن طاعة الله تعالى بالكفر والمعاصي.
القردة: جمع قرد حيوان معروف مجبول على التقليد والمحاكاة.
والخنازير: جمع خنزير حيوان خبيث معروف محرم الأكل.
شر مكانا: أي منزلة يوم القيامة في نار جهنم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تحذير المؤمنين من موالاة وأعداء الله ورسوله فقال تعالى: { يأيها الذين آمنوا } بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا { لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم } الإسلامي { هزوا } شيئا يهزءون به، ولعبا أي شيئا يلعبون به { من الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود، والكفار وهم المنافقون والمشركون (أولياء) أنصارا وأحباء وأحلافا واتقوا الله في ذلك أي في اتخاذهم أولياء إن كنتم مؤمنين صادقين في إيمانكم فإن حب الله ورسوله والمؤمنين يتنافى معه حب أعداء الله ورسوله والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [57] أما الآية الثانية [58] فقد تضمنت إخبار الله تعالى بما يؤكد وجوب معاداة من يتخذ دين المؤمنين هزوا ولعبا وهم أولئك الذين إذا سمعوا الأذان ينادي للصلاة اتخذوه هزوا ولعبا فهذا يقول ما هذا الصوت وآخر يقول هذا نهيق حمار قبح الله قولهم وأقمأهم. فقال تعالى عنهم: { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون }. حقا إنهم لا يعقلون فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء إلى الصلاة من أطيب ما يسمع العقلاء لأنه نداء إلى الطهر والصفاء وإلى الخير والمحبة والألفة نداء إلى ذكر الله وعبادته، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم: { لا يعقلون } شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة [59] فقد تضمنت تعليم الله تعالى لرسوله أن يقول لأولئك اليهود والكفرة الفجرة يا أهل الكتاب إنكم بمعاداتكم لنا وحربكم علينا ما تنقمون منا أي ما تكرهون منا ولا تعيبون علينا إلا إيماننا بالله وما أنزل علينا من هذا القرآن الكريم وما أنزل من قبل من التوراة والإنجيل، وكون أكثركم فاسقين فهل مثل هذا ينكر من صاحبه ويعاب عليه؟ اللهم لا، ولكنكم قوم لا تعقلون هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: { قل يأهل الكتاب هل تنقمون منآ إلا أن آمنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } أما الآية الرابعة في هذا السياق [60] فقد تضمنت تعليم الله لرسوله كيف يرد على أولئك اليهود إخوان القردة والخنازير قولهم: لا نعلم دينا شرا من دينكم، وذلك أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: بمن تؤمن؟ فقال أؤمن بالله وبما أنزل إلينا وما أنزل على موسى وما أنزل على عيسى فلما قال هذا، قالوا: لا نعلم دينا شرا من دينكم بغضا لعيسى عليه السلام وكرها له، فأنزل الله تعالى: { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة } أي ثوابا وجزاء { عند الله }؟ أنه { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } إذ مسخ طائفة منهم قردة، وأخرى خنازير على عهد داود عليه السلام، وقوله { وعبد الطاغوت } أي وجعل منهم من عبد الطاغوت وهو الشيطان وذلك بطاعته والانقياد لما يجلبه عليه ويزينه له من الشر والفساد، إنه أنتم يا معشر يهود، إنكم لشر مكانا يوم القيامة وأضل سبيلا اليوم في هذه الحياة الدنيا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء لا سيما أهل الظلم منهم.
2- سوء أخلاق اليهود وفساد عقولهم.
3- شعور اليهود بفسقهم وبعد ضلالهم جعلهم يعملون على إضلال المسلمين.
4- تقرير وجود مسخ في اليهود قردة وخنازير.
5- اليهود شر الناس مكانا يوم القيامة، وأضل الناس في هذه الدنيا.
[5.61-63]
شرح الكلمات:
يكتمون: أي يضمرون في نفوسهم ويخفونه فيها.
في الإثم والعدوان: الإثم كل ضار وفاسد وهو ما حرمه الله تعالى من اعتقاد أو قول أو عمل، والعدوان: الظلم.
السحت: المال الحرام كالرشوة والربا، وما يأخذونه من مال مقابل تحريف الكلم وتأويله.
الربانيون والأحبار: الربانيون هنا العباد المربون كمشايخ التصوف عندنا. والأحبار: العلماء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في فضح وبيان خبثهم زيادة في التنفير من موالاتهم فأخبر تعالى في الآية الأولى عن منافقيهم فقال: { وإذا جآءوكم } يريد: غشوكم في مجالسكم، { قالوا آمنا } وما آمنوا ولكنهم ينافقون لا غير فقد دخلوا بالكفر في قلوبهم وخرجوا به، { والله أعلم بما كانوا يكتمون } من الكفر والكيد لكم. هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى [61] { وإذا جآءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون } وأما الآية الثانية [62] فقد أخبر تعالى رسوله أنهم لكثرة ما يرتكبون من الذنوب ويغشون من المعاصي ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت علنا لا يستترون به ولا يخفونه ثم ذمهم الله تعالى على ذلك وقبح فعلهم فقال { لبئس ما كانوا يعملون }. وفي الآية الأخيرة: أنكر على عبادهم وعلمائهم سكوتهم عن جرائم عوامهم ورضاهم بها مصانعة لهم ومداهنة فقال تعالى: { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } أي لم لا ينهونهم عن قولهم الإثم أي الكذب وأكلهم السحت الرشوة والربا، ثم ذم تعالى سكوت العلماء عنهم بقوله { لبئس ما كانوا يصنعون } أي وعزتي وجلالي لبئس صنيع هؤلاء من صنيع حيث أصبح السكوت المتعمد لمنافع خاصة يحصلون عليها صنعة لهم أتقنوها وحذقوها. والعياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجود منافقين من اليهود على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
2- بيان استهتار اليهود وعدم مبالاتهم بارتكابهم الجرائم علانية.
3- قبح سكوت العلماء على المنكر وإغضائهم على فاعليه، ولذا قال كثير من السلف في هذه الآية أشد آية وأخطرها على العلماء.
[5.64-66]
شرح الكلمات:
يد الله مغلولة: يريدون أنه تعالى ضيق عليهم الرزق ولم يوسع عليهم.
غلت أيديهم: دعاء عليهم بأن يحرموا الإنفاق في الخير وفيما ينفعهم.
لعنوا بما قالوا: طردوا من رحمة الله بسبب وصفهم الرب تعالى بالبخل.
بل يداه مبسوطتان: لا كما قالوا لعنهم الله: يد الله مغلولة أي ممسكة عن الإنفاق.
طغيانا: تجاوزا لحد الإعتدال في قولهم الكاذب وعملهم الفاسد.
وألقينا بينهم: أي بين اليهود والنصارى.
أوقدوا نارا: أي نار الفتنة والتحريش والإغراء والعداوات للحرب.
ولو أن أهل الكتاب: اليهود والنصارى.
من فوقهم ومن تحت أرجلهم: كناية عن بسط الرزق عليهم.
أمة مقتصدة: معتدلة لا غالية مفرطة، ولا جافية مفرطة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن كفر اليهود وجرأتهم على الله تعالى بباطل القول وسيء العمل فيقول: { وقالت اليهود يد الله مغلولة } يريدون أنه تعالى أمسك عنهم الرزق وضيقه عليهم، فرد الله تعالى عليهم بقوله: { غلت أيديهم } وهو دعاء عليهم بأن لا يوفقوا للإنفاق فيما ينفعهم { ولعنوا بما قالوا }. ولعنهم تعالى ولعنهم كل صالح في الأرض والسماء بسبب قولهم الخبيث الفاسد. وأكذبهم تعالى في قولهم { يد الله مغلولة } فقال: { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء } كما قال عنه رسوله في الصحيح
" يمين الله سحاء تنفق الليل والنهار "
ثم أخبر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليسليه ويخفف عنه ما يجد في نفسه من جراء كفر اليهود وخبثهم فقال: { وليزيدن كثيرا منهم } أي من اليهود { مآ أنزل إليك } من الآيات التي تبين خبثهم وتكشف النقاب عن سوء أفعالهم المخزية لهم. { طغيانا وكفرا } أي إبعادا في الظلم والشر وكفرا بتكذيبك وتكذيب ما أنزل إليك وذلك دفعا للحق ليبرروا باطلهم وما هم عليه من الاعتقاد الفاسد والعمل السيء، ثم أخبر تعالى رسوله بتدبيره فيهم انتقاما منهم فقال عز من قائل: { وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة } أي أن العداوة بين اليهود والنصارى لا تنتهي إلى يوم القيامة، ثم أخبر عن اليهود أنهم { كلمآ أوقدوا نارا للحرب } وذلك بالتحريش بين الأفراد والجماعات وحتى الشعوب والأمم، وبالإغراء، وقالة السوء، { أطفأها الله } تعالى فلم يفلحوا فيما أرادوه وقد أذلهم الله على يد رسوله والمؤمنين وأخزاهم وعن دار الإيمان أجلاهم وأخبر تعالى أنهم يسعون دائما وأبدا في الأرض بالفساد فلذا أبغضهم الله وغضب عليهم، لأنه تعالى لا يحب المفسدين، هذا ما دلت عليه الآية الأولى [64] أما الآية الثانية [65] وهي قوله تعالى { ولو أن أهل الكتب } من يهود ونصارى { ءامنوا } بالله ورسوله وبما جاء من الدين الحق وعملوا به، { واتقوا } الكفر والشرك وكبائر الذنوب الفواحش، لكفر الله عنهم سيئآتهم فلم يؤاخذهم ولم يفضحهم بها ولأدخلهم جنات النعيم.
وهذا وعد الله تعالى لليهود والنصارى فلو أنهم آمنوا واتقوا لأنجزه لهم قطعا. وهو لا يخلف الميعاد.
أما الآية الأخيرة [66] في هذا السياق فهي تتضمن وعدا إلهيا آخر وهو أن اليهود والنصارى لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ومن ذلك القرآن الكريم، ومعنى أقاموا ذلك آمنوا بالعقائد الصحيحة الواردة في تلك الكتب وعملوا بالشرائع السليمة والآداب الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تضمنتها تلك الكتب لو فعلوا ذلك لبسط الله تعالى عليه الرزق وأسبغ عليهم النعم ولأصبحوا في خيرات وبركات تحوطهم من كل جانب هذا ما وعدهم الله به. ثم أخبر تعالى عن واقعهم المرير فقال: { منهم أمة مقتصدة } لم تغل ولم تحف فلم تقل في عيسى أنه ابن الله ولا هو ابن زنى، ولكن قالت عبد الله ورسوله ولذا لما جاء النبي الأمي بشارة عيسى عليه السلام آمنوا به وصدقوا بما جاء به من الهدى والدين الحق وهم عبد الله بن سلام وبعض اليهود، والنجاشي من النصارى وخلق كثير لا يحصون عدا. وكثير من أهل الكتاب ساء أي قبح ما يعملون من أعمال الكفر والشرك والشر والفساد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قبح وصف الله تعالى بما لا يليق بجلاله وكماله.
2- ثبوت صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإيمان بها على مراد الله تعالى، وعلى ما يليق بجلاله وكماله.
3- تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء وهو من تدبير الله تعالى.
4- سعي اليهود الدائم في الفساد في الأرض فقد ضربوا البشرية بالمذهب المادي الإلحادي الشيوعي، وضربوها أيضا بالإباحية ومكائد الماسونية.
5- وعد الله لأهل الكتاب على ما كانوا عليه لو آمنوا واتقوا لأدخلهم الجنة.
6- وعده تعالى لأهل الكتاب ببسط الرزق وسعته لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم أي لو أنهم أخذوا بما في التوراة والإنجيل من دعوتهم إلى الإيمان بالنبي الأمي والدخول في الإسلام لحصل لهم ذلك كما حصل للمسلمين طيلة ثلاثة قرون وزيادة. وما زال العرض كما هو لكل الأمم والشعوب أيضا.
[5.67-69]
شرح الكلمات:
الرسول: ذكر من بني آدم أوحي إليه شرع وأمر بتبليغه وهو هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
بلغ ما أنزل إليك: من التوحيد والشرائع والأحكام.
يعصمك: يحفظك حفظا لا يصل إليك معه أحد بسوء.
فلا تأس: لا تأسف ولا تحزن.
هادوا: اليهود.
الصابئون: جمع صابىء وهم فرقة من أهل الكتاب.
معنى الآيات:
في الآية الأولى [67] ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله معظما له بقوله: { يأيها الرسول } المبجل ليأمره بإبلاغ ما أوحاه إليه من العقائد والشرائع والأحكام فيقول { يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك }. ويقول له: { وإن لم تفعل } أي إن قصرت في شيء لم تبلغه لأي اعتبار من الاعتبارات { فما بلغت رسالته } أي فكأنك لم تبلغ شيئا، وقوله تعالى: { والله يعصمك من الناس } أي يمنعك من أن يمسوك بشيء من الأذى، ولذا فلا عذر لك في ترك إبلاغ أي شيء سواء كان مما يتعلق بأهل الكتاب أو بغيرهم ولذا فلم يكتم رسول الله شيئا مما أمر بإبلاغه البتة. وقوله تعالى: { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } تقرير لوعده تعالى بعصمة رسوله صلى الله عليه وسلم إذ هو تعالى لا يوفق الكافرين لما يريدون ويرغبون فيه من أذية رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم
" لاتحرسوني فإن الله قد عصمني "
هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية [68] وهي قوله تعالى: { قل يأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم من ربكم } لقد تقدم هذا السياق وأعيد هنا تقريرا له وتأكيدا وهو إعلام من الله تعالى أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء من الدين الحق ولا من ولاية الله تعالى حتى يقيموا ما أمروا به وما نهوا عنه وما انتدبوا إليه من الخيرات والصالحات مما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن أيضا. وقوله تعالى: { وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } هذا إخبار من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن كثيرا من اليهود والنصارى يزيدهم ما يوحي الله تعالى إلى رسوله وما ينزله عليه في كتابه من أخبار أهل الكتاب مما هو بيان لذنوبهم وضلالهم. ومما هو أمر لهم بالإيمان بالنبي الأمي واتباعه على الدين الحق الذي أرسل به يزيدهم ذلك طغيانا أي علوا وعتوا وكفرا فوق كفرهم. ولذا فلا تأس أي لا تحزن على عدم إيمانهم بك وبما جئت به لأنهم قوم كافرون. أما الآية الثالثة [69] وهي قوله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى } فالذين آمنوا هم المسلمون واليهود والنصارى والصابئون وهم فرقة منهم هم أهل الكتاب فجميع هذه الطوائف من آمن منهم الإيمان الحق بالله وباليوم الآخر وأتى بلازم الإيمان وهو التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي أفعالا وتروكا فلا خوف عليه في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة ولا حزن يلحقه في الحيوات الثلاث وعد الله حقا ومن أصدق من الله حديثا!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب البلاغ على الرسل ونهوض رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الواجب على أكمل وجه وأتمه.
2- عصمة الرسول المطلقة.
3- كفر أهل الكتاب إلا من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به من الدين الحق.
4- أهل العناد والمكابرة لا تزيدهم الأدلة والبراهين إلا عتوا ونفورا وطغيانا وكفرا.
5- العبرة بالإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي لا بالانتساب إلى دين من الأديان.
[5.70-72]
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
بما لا تهوى أنفسهم: بما لا يحبونه ولا تميل إليه أنفسهم المريضة.
فريقا كذبوا: أي كذبوا طائفة من الرسل وقتلوا طائفة أخرى.
أن لا تكون فتنة: أي أن لا يبتلوا بذنوبهم بالشدائد والمحن.
فعموا وصموا: عموا عن العبر وصموا عن سماع المواعظ.
من يشرك بالله: أي يشرك بالله غيره تعالى من سائر الكائنات فيعبده مع الله بأي نوع من أنواع العبادات.
حرم الله عليه الجنة: حكم بمنعه من دخولها أبدا إلا أن يتوب من الشرك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب فقد أقسم تعالى على أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل وذلك في التوراة بأن يعبدوا الله وحده بما شرع لهم فيطيعوه في أمره ونهيه وأرسل إليهم رسله تترا كلما جاءهم رسول بما لا يوافق أهواءهم كذبوه فيما جاءهم به ودعاهم إليه. أو قتلوه. وحسبوا أن لا يؤاخذوا بذنوبهم فعموا عن الحق وصموا عن سماع المواعظ فابتلاهم ربهم وسلط عليهم من سامهم سوء العذاب، ثم تاب الله عليهم فتابوا واستقام أمرهم وصلحت أحوالهم ثم عموا وصموا مرة أخرى إلا قليلا منهم فسلط عليهم من سامهم سوء العذاب أيضا وها هم أولاء في عمى وصمم والله بصير بما يعملون وسوف ينزل بهم بأساءه، إن لم يتوبوا فيؤمنوا بالله ورسوله ويدينوا بالدين الحق الذي هو الإسلام.
هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية [70 - 71] أما الآية الثالثة [72] وهي قوله تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } فقد أخبر تعالى مقررا حكمه بالكفر على من افترى عليه وعلى رسوله فادعى أن الله جل جلاله وعظم سلطانه هو المسيح بن مريم تعالى الله ان يكون عبدا من عباده، وحاشا عيسى عبد الله ورسوله أن يرضى أن يقال له أنت الله. وكيف وهو القائل: { يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } فهل مثل هذا القول يصدر عمن يدعي أنه الله أو ابن الله؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان تاريخ بني إسرائيل، والكشف عن مختبئات جرائمهم من الكفر والقتل.
2- إكرام الله تعالى لبني إسرائيل ولطفه بهم مع تمردهم عليه ورفض ميثاقه وقتل أنبيائه وتكذيبهم، والمكر بهم.
3- تقرير كفر النصارى بقولهم المسيح هو الله.
4- تقرير عبودية عيسى عليه السلام لربه تعالى.
5- تحريم الجنة على من لقي ربه وهو يشرك به سواه.
[5.73-76]
شرح الكلمات:
ثالث ثلاثة: الثلاثة هي الأب والإبن وروح القدس: وكلها إله واحد.
خلت من قبله الرسل: مضت قبله رسل كثيرون.
وأمه صديقة: أي مريم كانت صديقة كثيرة الصدق في قولها وعملها.
أنى يؤفكون: أي كيف يصرفون عن الحق وقد ظهر واضحا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان كفر النصارى ففي السياق الأول ورد كفر من قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، وفي هذا السياق كفر من قالوا إن الله ثالث ثلاثة إذ قال تعالى في هذه الآية [73] لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة يعنون الأب والإبن وروح القدس، وبعضهم يقول الأب والإبن والأم، والثلاثة إله واحد فأكذبهم تعالى في قيلهم هذا فقال رادا باطلهم، { وما من إله إلا إله واحد } أي وليس الأمر كما يكذبون، وإنما الله إله واحد، وأما جبريل فأحد ملائكته وعيسى عبده ورسوله ومريم أمته فالكل عبد الله وحده الذي لا إله غيره ولا رب سواه. ثم قال تعالى متوعدا هؤلاء الكفرة الكذبة: { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم }. فأقسم تعالى أنهم إن لم ينتهوا عن قولهم الباطل وهو كفر ليمسنهم عذاب أليم موجع غاية الإيجاع. ثم لكمال رحمته عز وجل دعاهم في الآية الثانية [74] إلى التوبة ليتوب عليهم ويغفر لهم وهو الغفور الرحيم فقال عز وجل: { أفلا يتوبون إلى الله } بترك هذا الكفر والباطل ويستغفرون الله منه والله غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين، وفي الآية الثالثة [75] أخبر تعالى معلما رسوله الاحتجاج على باطل النصارى فقال: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول } ، فلم يكن ربا ولا إلها وإنما هو رسول مفضل قد خلت من قبله رسل مفضلون كثيرون وأمه مريم لم تكن أيضا إلها كما يزعمون، وإنما هي امرأة من نساء بني إسرائيل صديقة كثيرة الصدق في حياتها لا تعرف الكذب ولا الباطل وأنها وولدها عيسى عليهما السلام بشران كسائر البشر يدل على ذلك أنهما يأكلان الطعام احتياجا إليه لأن بنيتهما لا تقوم إلا عليه فهل آكل الطعام افتقارا إليه، ثم يفرز فضلاته يصلح أن يكون إلها. اللهم لا. وهنا قال لرسوله صلى الله عليه وسلم أنظر يا رسولنا كيف نبين لهم الآيات الدالة بوضوح على بطلان كفرهم، ثم انظر كيف يؤفكون عن الحق أي كيف يصرفون عنه وهو واضح بين. وفي الآية الأخيرة [76] أمر رسوله أن يقول لأولئك المأفوكين عن الحق المصروفين عن دلائله لا ينظرون فيها أمره أن يقول لهم موبخا لهم: { أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا } وهو عيسى وأمه، وتتركون عبادة من يملك ذلك، وهو الله السميع العليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال التثليث في عقيدة النصارى وتقرير التوحيد.
2- إبراء عيسى ووالدته عليهما السلام من دعوى الألوهية للناس.
3- فتح باب التوبة في وجه النصارى لو أنهم يتوبون.
4- تقرير بشرية عيسى ومريم عليهما السلام بدليل احتياجهما إلى الطعام لقوام بنيتهما، ومن كان مفتقرا لا تصح ألوهيته عقلا وشرعا.
5- ذم كل من يعبد غير الله إذ كل الخلائق مفتقرة لا تملك لنفسها ولا لعابدها ضرا ولا نفعا، ولا تسمع دعاء من يدعوها، ولا تعلم عن حاله شيئا، والله وحده السميع لأقوال كل عباده العليم بسائر أحوالهم وأعمالهم، فهو المعبود بحق وما عداه باطل.
[5.77-81]
شرح الكلمات:
لا تغلوا في دينكم: الغلو: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه فمثلا أمرنا بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين فغسلهما إلى الكتفين غلو أمرنا بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم فدعاؤه غلو في الدين.
أهواء قوم قد ضلوا: جمع هوى، وصاحب الهوى هو الذي يعتقد ويقول ويعمل بما يهواه لا بما قامت به الحجة وأقره الدليل من دين الله تعالى.
وأضلوا كثيرا: أي أضلوا عددا كثيرا من الناس بأهوائهم وأباطيلهم.
عن سواء السبيل: سواء السبيل: وسط الطريق العدل لا ميل فيه إلى اليمين ولا إلى اليسار.
لعن: دعى عليهم باللعنة التي هي الإبعاد من الخير والرحمة وموجباتها.
بما عصوا وكانوا يعتدون: أي بسبب عصيانهم لرسلهم، واعتدائهم في دينهم.
لا يتناهون: أي لا ينهي بعضهم بعضا عن ترك المنكر.
لبئس ما كانوا يعملون: قبح عملهم من عمل وهو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يتولون الذين كفروا: يوادونهم ويتعاونون معهم دون المؤمنين.
ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي: أي لو كانوا صادقين في إيمانهم بالله والنبي محمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذوا المشركين في مكة والمدينة من المنافقين أولياء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهودا ونصارى فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { قل } يا رسولنا: { يأهل الكتاب } والمراد بهم هنا النصارى { لا تغلوا في دينكم غير الحق } ، أي لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم، فتبتدعون البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها، التشدد محمود في الحق الذي أمر الله به اعتقادا وقولا وعملا لا في المحدثات الباطلة، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وهم اليهود إذ قالوا في عيسى وأمه بأهوائهم فقالوا في عيسى ساحر، وقالوا في أمه بغي وأضلوا كثيرا من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم، وضلوا أي وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم. هذا ما تضمنته الآية الأولى [77] أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية أن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور، وعلى لسان عيسى بن مريم في الإنجيل وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن فقال تعالى: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود }. فقد مسخ منهم طائفة قردة، { وعيسى ابن مريم } حيث مسخ منهم نفر خنازير كما لعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في غير آية من القرآن الكريم، وهذا اللعن الذي هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة سببه ما ذكر تعالى بقوله: { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }.
أي بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل المحرمات، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم: وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال: { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } أي كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
" " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده " فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم ببعض ثم قال صلى الله عليه وسلم: { لعن الذين كفروا } - إلى قوله { فاسقون } ثم قال " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على الحق أطرا ولتقسرنه على الحق قسرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض بعضكم ثم يلعنكم كما لعنهم " "
وفي آخر الآية قبح الله تعالى عملهم فقال: { لبئس ما كانوا يفعلون } ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم { ترى كثيرا منهم } أي من اليهود في المدينة يتولون الذين كفروا يعني من المشركين والمنافقين في مكة والمدينة يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم، ثم قبح تعالى عملهم فقال: { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى مالا نهاية له فقال تعالى: { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } لا يخرجون منه أبدا. ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال: { ولو كانوا يؤمنون بالله } كما يجب الإيمان به وبالنبي محمد وبما جاء به من الهدى ودين الحق وما أنزل إليه من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار المشركين والمنافقين أولياء، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلا منهم، والفاسق عن أمر الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبدا، هذا معنى قوله تعالى: { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أوليآء ولكن كثيرا منهم فاسقون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الغلو والابتداع في الدين، واتباع أهل الأهواء.
2- العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران.
3- حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع.
4- حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد.
5- موالاة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه.
[5.82-86]
شرح الكلمات:
عداوة: العداوة: بغض نفسي تجعل صاحبها بعيدا ممن يعاديه فلا يصله بخير، ولا يقربه بمودة، وقد تحمله على إرادة الشر بالعدو.
مودة: المودة: حب نفسي يجعل صاحبه يتقرب إلى من يوده بالخير ودفع الشر.
قسيسين: جمع قسيس: وهو الرئيس الديني لعلمه عند النصارى.
ورهبانا: الرهبان: جمع راهب: مشتق من الرهبة وهو الرجل في النصارى يتبتل وينقطع للعبادة في دير أو صومعة.
ما أنزل إلى رسول: الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه آيات القرآن الكريم الدالة على تشريف عيسى ووالدته مريم عليهما السلام، وأن عيسى عبد الله.
الشاهدين: جمع شاهد: من شهد لله بالوحدانية وللنبي محمد بالرسالة واستقام على ذلك.
الصالحين: جمع صالح: وهو من أدى حقوق الله تعالى كاملة من الإيمان به وشكره على نعمه بطاعته، وأدى حقوق الناس كاملة من الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم.
فأثابهم الله بما قالوا: جزاهم بما قالوا من الإيمان ووفقوا له من العمل جنات تجري من تحتها الأنهار.
معنى الآيات:
يخبر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بعداوة كل من اليهود والمشركين للمؤمنين وأنهم أشد عداوة من غيرهم، فيقول { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } أما اليهود فلما توارثوه خلفا عن سلف من إنكار الحق. والوقوف في وجه دعاته، إضافة إلى أن أملهم في إعادة مجدهم ودولتهم يتعارض مع الدعوة الإسلامية وأما المشركون فلجهلهم وإسرافهم في المحرمات وما ألفوه لطول العهد من الخرافات والشرك والضلالات. كما أخبر تعالى أن النصارى هم أقرب مودة للذين آمنوا فقال: { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } وعلل تعالى لهذا القرب من المودة بقوله: { ذلك... } أي كان ذلك بسبب أن منهم قسيسين ورهبانا فالقسيسون علماء بالكتاب رؤساء دينيون غالبا ما يؤثرون العدل والرحمة والخير على الظلم والقسوة والشر والرهبان لانقطاعهم عن الدنيا وعدم رغبتهم فيها ويدل عليه قوله: { وأنهم لا يستكبرون } عن الحق وقبوله والقول به ولذا لما عمت المادية المجتمعات النصرانية، وانتشر فيها الإلحاد والإباحية قلت تلك المودة للمؤمنين إن لم تكن قد انقطعت. أما قوله تعالى: { وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنآ آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } فالمعني بها من أسلم من النصارى بمجرد أن تلي عليهم القرآن وسمعوه كأصحمة النجاشي وجماعة كثيرة ومعنى قولهم { فاكتبنا مع الشاهدين } أنهم بعد ما سمعوا القرآن تأثروا به فبكوا من أجل ما عرفوا من الحق وسألوا الله تعالى أن يكتبهم مع الشاهدين ليكونوا معهم في الجنة، والشاهدون هم الذين شهدوا لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وأطاعوا الله ورسوله من هذه الأمة وقولهم: { وما لنا لا نؤمن بالله وما جآءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } فإن معناه: أي شيء يمنعنا من الإيمان بالله ربا وإلها واحدا لا شريك له ولا ولد ولا والد.
وبما جاء من الحق في توحيده تعالى ونبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الطمع في أن يدخلنا ربنا الجنة مع الصالحين من هذه الأمة. ولما قالوا هذا أخبرهم تعالى أنه أثابهم به { جنات تجري من تحتها الأنهار } ، وأخبر تعالى أن ذلك الجزاء الذي جزاهم به هو { جزآء المحسنين } وهم الذين أحسنوا القول والعمل مع سلامة عقائدهم، وطهارة أرواحهم حيث لم يتلوثوا بالشرك والمعاصي ثم أخبر تعالى بأن الذين كفروا بالله إلها واحدا وبرسوله نبيا ورسولا، وكذبوا بآياته القرآنية أولئك البعداء هم أصحاب الجحيم الذين لا يفارقونها أبدا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم عداوة اليهود والمشركين للإسلام والمسلمين.
2- قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين.
3- فضيلة التواضع، وقبح الكبر.
4- فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها.
5- فضل الكتابي إذا أسلم. وحسن إسلامه.
6- بيان مصير الكافرين والمكذبين وهو خلودهم في نار جهنم.
7- استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد.
[5.87-89]
شرح الكلمات:
لا تحرموا: التحريم: المنع أي لا تمتنعوا.
ما أحل الله لكم: أي ما أباحه لكم وأذن لكم فيه من نكاح وطعام وشراب.
حلالا طيبا: مباحا غير مستقذر ولا مستخبث.
لا يؤاخذكم الله باللغو: لا يعاقبكم الله باللغو الذي هو ما كان بغير قصد اليمين.
عقدتم الأيمان: عزمتم عليها بقلوبكم بأن تفعلوا أو لا تفعلوا.
من أوسط: أغلبه ولا هو من أعلاه، ولا هو من أدناه.
أهليكم: من زوجة وولد.
تحرير رقبة: عتقها من الرق القائم بها.
يبين الله لكم آياته: المتضمنة لأحكام دينه من واجب وحلال وحرام.
معنى الآيات:
الآيتان الأولى [87] والثانية [88] نزلتا في بعض الصحابة منهم عبد الله بن مسعود وعثمان بن مظعون وغيرهما كانوا قد حضروا موعظة وعظهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة. وعزموا على التبتل والانقطاع عن الدنيا فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسألوها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامه فكأنهم تقالوه ذلك فقال أحدهم: أنا لا آتي النساء، وقال آخر: أنا أصوم لا أفطر الدهر كله وقال آخر: أنا أقوم فلا أنام، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس، وقال:
" ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وإني وأنا رسول الله لآكل اللحم، وأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني "
ونزلت هذه الآية، { يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم } من طعام وشراب ونساء، { ولا تعتدوا } بمجاوزة ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم فإن الله تعالى ربكم { لا يحب المعتدين } { وكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا } أما الحرام فلا يكون رزقا لكم، { واتقوا الله } أي خافوه بترك الغلو والتنطع المفضي بكم إلى الترهب ولا رهبانية في الإسلام. { الذي أنتم به مؤمنون } أي ربا يشرع فيحلل ويحرم، وإلها يطاع ويعبد، هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } فقد نزلت لما قال أولئك الرهط من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم (لقد حلفنا على ما عزمنا عليه من التبتل فماذا نصنع بأيماننا) فبين لهم تعالى ما يجب عليهم في أيمانهم لما حنثوا فيها بعدولهم عما حلفوا عليه فقال: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وهو ما لا قصد للحلف فيه وإنما جرى لفظ اليمين على اللسان فقط نحو: لا والله أو بلى والله، ومثله أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر على خلاف ما ظن، { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } أي قصدتموها عازمين عليها، فمن حنث بعد الحلف فالواجب في حقه خروجا من الإثم كفارة وهي { إطعام عشرة مساكين } لكل مسكين نصف صاع أي مدان من أعدل { ما تطعمون أهليكم } ما هو بالأجود الغالي، ولا بالأردأ الرخيص، { أو كسوتهم } كقميص وعمامة، أو إزار ورداء، { أو تحرير رقبة } أي عتق رقبة مؤمنة ذكرا كان أو أنثى صغيرة أو كبيرة فهذه الثلاثة المؤمن مخير في التكفير بأيها شاء، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام مفرقة أو متتابعة كما شاء هذا معنى قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ، وقوله { ذلك كفارة أيمانكم } أي هذا الذي بين لكم هو ما تكفرون به ما علق بنفوسكم من إثم الحنث.
وقوله { واحفظوا أيمانكم } أي لا تكثروا الحلف فتحنثوا فتأثموا فتجب عليكم الكفارة لذلك. وقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } معناه مثل هذا التبيين الذي بينه لكم في مسألة الحنث في اليمين والكفارة له يبين لكم آياته المتضمنة لشرائعه وأعلام دينه ليعدكم بذلك لشكره بطاعته بفعل ما يأمركم به وترك ما ينهاكم عنه، فله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة تحريم ما أباح الله، كحرمة تحليل ما حرم الله عز وجل.
2- بيان مدى حرص الصحابة على طاعة الله خوفا من عقابه وطمعا في إنعامه.
3- حرمة الغلو في الدين والتنطع فيه.
4- بيان كفارة اليمين بالتفصيل.
5- كراهة الإكثار من الحلف. وحرمة الحلف بغير الله تعالى مطلقا.
6- استحباب حنث من حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه، وتكفيره على ذلك أما إذا. حلف أن يترك واجبا أو يأتي محرما فإن حنثه واجب وعليه الكفارة.
7- الأيمان ثلاثة: لغو: يمين لا كفارة لها إذا لا إثم فيها، الغموس: وهي أن يحلف متعمدا الكذب ولا كفارة لها إلا التوبة، اليمين المكفرة: وهي التي يتعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده ليفعل أو لا يفعل ثم يحنث فهذه التي ذكر تعالى كفارتها وبينها.
[5.90-93]
شرح الكلمات:
الخمر والميسر: الخمر: كل مسكر كيفما كانت مادته وقلت أو كثرت، والميسر: القمار.
والأنصاب: الأنصاب: جمع نصب. ما ينصب للتقرب به إلى الله أو التبرك به، أو لتعظيمة كتماثيل الرؤساء والزعماء في العهد الحديث.
الأزلام: جمع زلم: وهي عيدان يستقسمون بها في الجاهلية لمعرفة الخير من الشر والربح من الخسارة، ومثلها قرعة الأنبياء، وخط الرمل، والحساب بالمسبحة.
رجس: الرجس: المستقذر حسا كان أو معنى، إذ لمحرمات كلها خبيثة وإن لم تكن مستقذرة.
من عمل الشيطان: أي مما يزينة للناس ويحببه إليهم ويرغبهم فيه ليضلهم.
فاجتنبوه: اتركوه جانبا فلا تقبلوا عليه بقلوبكم وابتعدوا عنه بأبدانكم.
تفلحون: تكملون وتسعدون في دنياكم وآخرتكم.
ويصدكم: أي يصرفكم.
فهل أنتم منتهون: أي انتهوا فالإستفهام للأمر لا للإستخبار.
جناح فيما طعموا: أي إثم فيما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر قبل تحريم ذلك.
معنى الآيات:
لما نهى الله تعالى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله تعالى لهم بين لهم ما حرمه عليهم ودعاهم إلى تركه واجتنابه لضرره بهم، وإفساده لقلوبهم وأرواحهم فقال تعالى: { يأيها الذين آمنوا } أي يا من صدقتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا اعلموا { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس } أي سخط وقذر مما يدعوا إليه الشيطان ويزينه للنفوس ويحسنه لها لترغب فيه، وهو يهدف من وراء ذلك إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين الذين هم كالجسم الواحد. وإلى صدهم عن ذكر الله الذي هو عصمتهم وعن الصلاة التي هي معراجهم إلى الله ربهم، وآمرتهم بالمعروف وناهيتهم عن المنكر، ثم أمرهم بأبلغ أمر وأنفذه إلى قلوبهم لخطورة هذه المحرمات الأربع وعظيم أثرها في الفرد والمجتمع بالشر والفساد فقال: { فهل أنتم منتهون }؟! وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله وحذرهم من مغبة المعصية وآثارها السيئة فقال { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا } مغبة ذلك ثم أعلمهم أنهم إن تولوا عن الحق بعدما عرفوه فالرسول لا يضيره توليهم إذ ما عليه إلا البلاغ المبين وقد بلغ وأما هم فإن جزاءهم على توليهم سيكون جزاء الكافرين وهو الخلود في العذاب المهين. هذا معنى قوله: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } وقوله تعالى في الآية الأخيرة [93] { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين } فقد نزلت لقول بعض الأصحاب لرسول الله صلى عليه وسلم (يا رسول الله ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر؟) أي كيف حالهم فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعلم أنهم ليس عليهم جناح أي إثم أو مؤاخذة فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم بشرط أن يكونوا قد اتقوا الله في محارمه وآمنوا به وبشرائعه، وعملوا الصالحات استجابة لأمره وتقربا إليه.
فكان رفع الحرج عليهم مقيدا بما ذكر. وقوله: { ثم اتقوا... } كما لا جناح على الأحياء فيما طعموا وشربوا قبل التحريم وبشرط الإيمان، والعمل الصالح والتقوى لسائر المحارم، ودوام الإيمان والتقوى والإحسان في ذلك بالإخلاص فيه لله تعالى.
هداية الآيات
من هداية آلايات:
1- حرم الخمر والقمار، وتعظيم الأنصاب والاستقسام بالأزلام.
2- وجوب الانتهاء من تعاطي هذه المحرمات فورا وقول انتهينا يا ربنا كما قال عمر رضي الله عنه.
3- بيان علة تحريم شرب الخمر ولعب الميسر وهي إثارة العداوة والبغضاء بين الشاربين واللاعبين والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما قوام حياة المسلم الروحية.
4- وجوب طاعة الله والرسول والحذر من معصيتهما.
5- وجوب التقوى حتى الموت ووجوب الإحسان في المعتقد والقول والعمل.
[5.94-96]
شرح الكلمات:
ليبلونكم: ليختبرنكم.
الصيد: ما يصاد.
تناله أيديكم: كبيض الطير وفراخه.
ورماحكم: جمع رمح، وما ينال به هو الحيوان على اختلافه.
ليعلم الله من يخافه بالغيب: ليظهر الله تعالى بذلك الاختبار من يخافه بالغيب فلا يصيد.
فمن اعتدى (بعد التحريم): بأن صاد بعد ما بلغه التحريم.
وأنتم حرم: جمع حرام والحرام: المحرم لحج أو عمرة ويقال رجل حرام وامرأة حرام.
من النعم: النعم: الإبل والبقر والغنم.
ذوا عدل منكم: أي صاحبا عدالة من أهل العلم.
وبال أمره: ثقل جزاء ذنبه حيث صاد والصيد حرام.
وللسيارة: المسافرين يتزودون به في سفرهم. وطعام البحر ما يقذف به إلى الساحل.
معنى الآيات:
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ليعلمهم مؤكدا خبره بأنه يبلوهم اختبارا لهم ليظهر المطيع من العاصي فقال: { يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب } فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا يأتيهم كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون بيد أن المسلمين استجابوا لربهم وامتثلوا أمره، على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين. وقوله تعالى { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } ، أي فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم هذا ما دلت عليه الآية الأولى [94]. أما الآية الثانية [95] وهي قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } فأكد لهم تحريم الصيد وبين لهم ما يترتب على ذلك من جزاء فقال { ومن قتله منكم متعمدا } فالحكم الواجب على من قتله جزاء { مثل ما قتل من النعم } وهي الإبل والبقر والغنم { يحكم به ذوا عدل منكم } فالعدلان ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم فالنعامة تشبه الجمل وبقرة الوحش تشبه البقرة، والغزال يشبه التيس وهكذا فإن شاء من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أو يسوقه إلى مكة الفقراء الحرم فليفعل وإن شاء اشترى بثمه طعاما وتصدق به، وإن شاء صام بدل كل نصف صاع يوما لقوله تعالى: { هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } وقوله تعالى: { ليذوق وبال أمره } أي ثقل جزاء مخالفته وقوله تعالى: { عفا الله عما سلف } أي ترك مؤاخذتكم على ما مضى، وأما مستقبلا فإنه تعالى يقول { ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } ومعناه أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم، هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة [96] فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم وواجب الجزاء على من صاد.
أخبر أنه امتنانا منه عليهم أحل لهم صيد البحر أي ما يصيدونه من البحر وهم حرم كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات ميتة على ساحله { متاعا لكم وللسيارة } وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرما، وأمرهم بتقواه أي بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم، وذكرهم بحشرهم جميعا إليه يوم القيامة للحساب والجزاب فقال: { واتقوا الله الذي إليه تحشرون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ابتلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم. وحرم عليهم صيده فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيرا من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد أنبيائهم.
2- تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر فإنه مباح له.
3- بيان جزاء من صاد وهو محرم وإنه جزاء مثل ما قتل من النعم.
4- وجوب التحكيم فيما صاده المحرم، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه.
5- صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلال.
[5.97-100]
شرح الكلمات:
الكعبة: الكعبة كل بناء مربع والمراد بها هنا بيت الله الحرام.
قياما للناس: يقوم به أمر دينهم بالحج إليه والاعتمار ودنياهم بأمن داخله وجبي ثمرات كل شيء إليه.
الشهر الحرام: أي المحرم والمراد به الأشهر الحرم الأربعة رجب والقعدة والحجة ومحرم.
الهدي: ما يهدى إلى البيت من أنواع الهدايا.
والقلائد: جمع قلادة ما يقلده البعير أو البقرة المهدى إلى الحرم.
البلاغ: بلاغ ما أمره بإبلاغه.
ما تبدون وما تكتمون: أي ما تظهرون وما تخفون.
الخبيث: مقابل الطيب وهو الحرام وهو عام في المحسوسات والمعقولات.
أولي الألباب: أصحاب العقول.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قيما للناس } المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام ومعنى قياما: أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه، وكذا الشهر الحرام وهي أربعة أشهر القعدة والحجة ومحرم ورجب، وكذا الهدي وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، وكذا القلائد جمع قلادة وهي ما يقلده الهدي إشعارا بأنه مهدى إلى الحرم، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لحاء شجر الحرم إعلاما بأنه آت من الحرم أو ذاهب إليه فهذه الأربعة البيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد كانت تقوم مقام السلطان بين العرب فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش فهذا من تدبير الله تعالى لعباده وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته ولذا قال تعالى: { ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموت وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم } أي حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام ليعلمكم أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء، وأنه بكل شيء عليم فهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه، وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى [97] والثانية [98] أما الآية الثالثة [99] فقد أكدت مضمون قوله تعالى في الآية الثانية { اعلموا أن الله شديد العقاب } وهو وعيد شديد فقال تعالى { ما على الرسول إلا البلاغ } وفد بلغ، فأنذر وأعذر، وبقي الأمر إليكم إن أنبتم إلى ربكم وأطعتموه فإنه يغفر لكم ويرحمكم لأنه غفور رحيم، وإن أعرضتم وعصيتم فإنه يعلم ذلك منكم ويؤاخذكم به ويعاقبكم عليه وهو شديد العقاب وقوله { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } وعد ووعيد لأن علمه تعالى بالظواهر والبواطن يترتب عليه الجزاء فإن كان العمل خيرا كان الجزاء خيرا وإن كان العمل شرا كان الجزاء كذلك.
هذا مضمون الآية الثالثة أما الرابعة [100] فإنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم قل للناس أيها الناس أنه { لا يستوي الخبيث } من المعتقدات والأقوال والأعمال والرجال والأموال، { والطيب } منها، ولو أعجبتكم أي سرتكم كثرة الخبيث فإن العبرة ليست بالكثرة والقلة وإنما هي بالطيب النافع غير الضار ولو كان قليلا، وعليه { فاتقوا الله يأولي الألباب } أي خافوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه رجاء حصول الفلاح لكم بالنجاة من المرهوب والحصول على المرغوب المحبوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عظيم تدبير الله تعالى لخلقه، إذ أمن مصالح قريش والعرب فاوجد لهم أمنا واستقرارا وتبع ذلك هناءة عيش وطيب حياة بما ألقى عباده من احترام وتعظيم للبيت الحرام والشهر الحرام، والهدي والقلائد، الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله.
2- بيان مسئولية الرسول أزاء الناس وأنها البلاغ لا غير وقد بلغ صلى الله عليه وسلم.
3- تقرير الحكمة القائلة العبرة بالكيف لا بالكم فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة ودرهم حلال خير من عشرة حرام وركعتان متقبلتان خير من عشرة لا تقبل.
4- الأمر بالتقوى رجاء فلاح المتقين.
[5.101-104]
شرح الكلمات:
إن تبد لكم: تظهر لكم تضركم.
عفا الله عنها: سكت عنها فلم يذكرها أو لم يؤاخذكم بها.
سألها قوم: طلبها غيركم من الأمم السابقة.
ما جعل الله: أي ما شرع.
بحيرة ولا سائبة: البحيرة: الناقة تبحر أذنها أي تشق، والسائبة: الناقة تسيب.
ولا وصيلة ولا حام: الوصيلة: الناقة يكون أول إنتاجها أنثى، والحام: الجمل يحمى ظهره للآلهة.
ما أنزل الله: من الحق والخير.
ما وجدنا عليه آباءنا: من الباطل والضلال.
معنى الآيات:
لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تضايق منهم فقام خطيبا فيهم وقال:
" " لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم ".. فقام رجل يدعى عبد الله بن حذافة كان إذا تلامى مع رجل دعاه إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة "
، وقال أبو هريرة: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ولو قلت نعم، لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم "
فنزلت: { يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم } أي تظهر لكم جوابا لسؤالكم يحصل لكم بها ما يسؤكم ويضركم، { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } أي يبينها رسولنا لكم. أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك مالا ينبغي لكم لأنه من باب إحفاء رسول الله وأذيته ثم قال تعالى لهم: { عفا الله عنها } أي لم يؤاخذكم بما سألتم { والله غفور حليم } ، فتوبوا إليه يتب عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم. وقوله تعالى: { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } أي قد سأل أسئلتكم التنطعية المحرجة هذه قوم من قبلكم { ثم أصبحوا بها كافرين } ، لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم فتركوا العمل بها فكفروا. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى [101] والثانية [102] وأما الثالثة [103] فقد قال تعالى: { ما جعل الله من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام } ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها فأنزل الله تعالى قوله: { ما جعل الله من بحيرة } أي ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حمى حامية، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على اله وكذبا عليه { وأكثرهم لا يعقلون } ، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى، وأول من سيب السوائب وغير دين إسماعيل عليه السلام عمرو بن لحي الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار أي أمعاءه في جهنم.
هذا ما تضمنته الآية الثالثة أما الرابعة [104] فقد أخبر تعالى أن المشركين المفترين على الله الكذب بما ابتدعوه من الشرك إذ قيل لهم { تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول } ليبين لكم كذبكم وباطلكم في بحر البحائر وتسييب السوائب، يرفضون الرجوع إلى الحق ويقولون: { حسبنا } أي يكفينا { ما وجدنا عليه آباءنآ } فلسنا في حاجة إلى غيره فرد تعالى عليهم منكرا عليهم قولهم الفاسد { أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا } أي يتبعونهم ويحتجون بباطلهم ولو كان أولئك الآباء جهالا حمقا لا يعقلون شيئا من الحق، { ولا يهتدون } إلى خير أو معروف.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كراهية الإلحاف في السؤال والتقعر في الأسئلة والتنطع فيها.
2- حرمة الابتداع في الدين وأنه سبب وجود الشرك في الناس.
3- وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما.
4- حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم.
[5.105]
شرح الكلمات:
آمنوا: صدقوا الله ورسوله واستجابوا لهما بفعل المأمور وترك المنهي.
عليكم أنفسكم: ألزموا أنفسكم هدايتها وإصلاحها.
إذا اهتديتم: إلى معرفة الحق ولزوم طريقه.
إلى الله مرجعكم جميعا: ضلالا ومهتدين.
فينبئكم: يخبركم بأعمالكم ويجازيكم بها.
معنى الآية الكريمة:
ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول: { يأيها الذين آمنوا } أي صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده { عليكم أنفسكم } ألزموها الهداية والطهارة بالإيمان والعمل الصالح وإبعادها عن الشرك والمعاصي، { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم }: اي أن ضلال غيركم غير ضار بكم إن كنتم مهتدين إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، كل نفس تجزى بما كسبت لا بما كسب غيرها ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها إلا أن من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك المؤمنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعتبرون مهتدين إذ بالسكوت عن المنكر يكثر وينتشر ويؤدي حتما إلى أن يضل المؤمنون فيفقدون هدايتهم ولذا قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطيبا يوما فقال: (يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم.. الخ } وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب "
وقوله تعالى: { إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } فيه وعد ووعيد، وعد لمن أطاع الله ورسوله، ووعيد لمن عصاهما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب إصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
2- ضلال الناس لا يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر.
3- تقرير مبدأ البعث الآخر.
4- للعمل أكبر الأثر في سعادة الإنسان أو شقائه.
[5.106-108]
شرح الكلمات:
شهادة بينكم: الشهادة: قول صادر عن علم حاصل بالبصر أو البصيرة، وبينكم: أي شهادة بعضكم على بعض.
إن أنتم ضربتم في الأرض: أي بأن كنتم مسافرين.
من بعد الصلاة: صلاة العصر.
إن ارتبتم: شككتم في سلامة قولهما وعدالته.
فإن عثر: أي وقف على خيانة منهما فيما عهد به إليهما حفظه.
أدنى: أقرب.
على وجهها: أي صحيحة كما هي لا نقص فيما ولا زيادة.
الفاسقين: الذين لم يلتزموا بطاعة الله ورسوله في الأمر والنهي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآيات الثلاث [106]، [107]، [108] ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول: { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل } أي ليشهد اثنان { ذوا عدل منكم } أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة، أو ليشهد اثنان من غيركم أي من غير المسلمين { إن أنتم ضربتم في الأرض } أي كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلا كافر، فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة شهادتهما فاحبسوهما أي أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله فيقولان والله لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى أي قرابة، { ولا نكتم شهادة الله إنآ إذا } أي إذا كتمنا شهادة الله { لمن الآثمين } { فإن عثر على أنهما استحقآ إثما } أي وإن وجد أن الذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه، { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } فيقسمان بالله قائلين والله: لشهادتنا أحق من شهادتهما أي لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما، { وما اعتدينآ } أي عليهما باتهام باطل، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت وما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند الموت، قال تعالى: { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجههآ } أي أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة عادلة لا حيف فيها ولا جور وقوله { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } ، أي وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة، وقوله تعالى: { واتقوا الله } أي خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته، { واسمعوا } ما تؤمرون به واستجيبوا لله فيه، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته، فاحذروا الفسق واجتنبوه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الوصية في الحضر والسفر معا، والحث عليها والترغيب فيها.
2- وجوب الإشهاد على الوصية.
3- يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود مسلم.
4- استحباب الحلف بعد صلاة العصر تغليظا في شأن اليمين.
5- مشروعية تحليف الشهود إذ ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم.
[5.109-111]
شرح الكلمات:
يوم يجمع الله الرسل: أي اذكر يوم يجمع الله الرسل وذلك ليوم القيامة.
الغيوب: جمع غيب: وهو ما غاب عن العيون فلا يدرك بالحواس.
أيدتك: قويتك ونصرتك.
بروح القدس: جبريل عليه السلام.
المهد: سرير الطفل الرضيع.
الكهل: من تجاوز سن الشباب أي ثلاثين سنة.
الكتاب: الخط والكتابة.
والحكمة: فهم أسرار الشرع، والإصابة في الأمور كلها.
تخلق كهيئة الطير: أي توجد وتقدر هيئة كصور الطير.
الأكمه والأبرص: الأكمه: من ولد أعمى، والأبرص: من به مرض البرص.
تخرج الموتى: أي أحياء من قبورهم.
كففت: أي منعت.
الحواريون: جمع حواري: وهو صادق الحب في السر والعلن.
معنى الآيات:
يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث الآخر يوم يجمع الرسل عليهم السلام ويسألهم وهو أعلم بهم: { فيقول ماذآ أجبتم }؟ أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون: { لا علم لنآ إنك أنت علام الغيوب } ، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس ويخص عيسى عليه السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم، لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنى، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون: { يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال: { إذ أيدتك بروح القدس } ، جبريل عليه السلام { تكلم الناس في المهد } وأنت طفل. إذ قال وهو في مهده
إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بولدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا
[مريم: 30-33] وقوله { وكهلا } أي وتكلمهم وأنت كهل أيضا وفيه بشرى لمريم أن ولدها يكبر ولا يموت صغيرا وقد كلم الناس وهو شاب وسيعود إلى الأرض ويكلم الناس وهو كهل ويعدد نعمه عليه فيقول: { وإذ علمتك الكتاب والحكمة } ، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه السلام والإنجيل الذي أوحاه إليه { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني } فيكون طيرا بإذني أي اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك اخلق لنا طيرا فأخذت طينا وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك ونفخت فيه بإذني فكان طائرا، واذكر أيضا { وتبرىء الأكمه } وهو الأعمى الذي لا عينين له، { والأبرص بإذني } أي بعوني لك وإقداري لك على ذلك { وإذ تخرج الموتى } من قبورهم أحياء فقد أحيا عليه السلام عددا من الأموات بإذن الله تعالى ثم قال بنو إسرائيل أحيي لنا سام بن نوح فوقف على قبره وناداه فقام حيا من قبره وهم ينظرون، واذكر { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات } فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك، { فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } ، واذكر { وإذ أوحيت إلى الحواريين } على لسانك { أن آمنوا بي وبرسولي } أي بك يا عيسى { قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } أي منقادون مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شدة هول يوم القيامة وصعوبة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون.
2- وجوب الاستعداد لذلك اليوم بتقوى الله تعالى.
3- توبيخ اليهود والنصارى بتفريط اليهود في عيسى وغلو النصارى فيه.
4- بيان إكرام الله تعالى لعيسى وما حباه به من الفضل والإنعام.
5- ثبوت معجزات عيسى عليه السلام وتقريرها.
[5.112-115]
شرح الكلمات:
هل يستطيع: هل يطيع ويرضى.
مائدة من السماء: المائدة: الخوان وما يوضع عليه أو الطعام والمراد بها هنا الطعام.
وتطمئن قلوبنا: أي تسكن بزيادة اليقين فيها.
ونكون عليها من الشاهدين: أي نشهد أنها نزلت من السماء.
عيدا: أي يوما يعود علينا كل عام نذكر الله تعالى فيه ونشكره.
وآية منك: علامة منك على قدرتك ورحمتك، ونبوة نبيك.
فمن يكفر بعد منكم: فمن يكفر بعد نزول المائدة منكم أيها السائلون للمائدة.
أحدا من العالمين: أي من الناس أجمعين.
معنى الآيات:
يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى واذكر
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون
[المائدة: 111]، { إذ قال الحواريون }: { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء }؟ ولما كان قولهم هذا دالا على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه السلام { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } فلا تقولوا مثل هذا القول. فاعتذروا عن قيلهم الباطل { قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك وهنا قال عيسى عليه السلام داعيا ربه ضارعا إليه { اللهم } أي يا الله { ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء تكون لنا عيدا لأولنا } أي للموجودين الآن منا { وآخرنا } أي ولمن يأتون بعدنا، { وآية منك } ، أي وتكون آية منك أي علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولا إلى بني إسرائيل، { وارزقنا } وأدم علينا رزقك وفضلك { وأنت خير الرازقين } ، فأجابه تعالى قائلا: { إني منزلها عليكم } ، وحقا قد أنزلها، { فمن يكفر بعد منكم } يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة رسولي، أو عظيم قدرتي { فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } ، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جفاء اليهود وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم إذ قالوا لموسى
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون
[المائدة: 24] وقالوا لعيسى { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء }.
2- في قول عيسى لهم { اتقوا الله } دال على أنهم قالوا الباطل كما أن قولهم { ونعلم أن قد صدقتنا } دال على شكهم وارتيابهم.
3- مشروعية الأعياد الدينية لعبادة الله بالصلاة والذكر شكرا لله تعالى وفي الإسلام عيدان: الأضحى الفطر.
4- من أشد الناس عذابا يوم القيامة آل فرعون والمنافقون ومن كفر من أهل المائدة.
[5.116-120]
شرح الكلمات:
إلهين: معبودين يعبدان من دوني.
سبحانك: تنزيها لك وتقديسا.
ما يكون لي: ما ينبغي لي ولا يتأتى لي ذلك.
شهيدا: رقيبا.
الرقيب: الحفيظ.
إن تعذبهم: أي بنارك فإنهم عبادك تفعل بهم ما تشاء.
وإن تغفر لهم: أي تستر عليهم وترحمهم بأن تدخلهم جنتك.
العزيز الحكيم: العزيز: الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده، الحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه فيدخل المشرك النار، والموحد الجنة.
الصادقين: جمع صادق: وهو من صدق ربه في عبادته وحده.
ورضوا عنه: لأنه أثابهم بأعمالهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
على كل شيء قدير: أي على فعل أي شيء تعلقت به إرادته وأراد فعله فإنه يفعله ولا يعجزه بحال من الأحوال.
معنى الآيات:
يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم واذكر لقومك { وإذ قال الله } تعالى يوم يجمع الرسل ويسألهم ماذا أجبتم، ويسأل عيسى بمفرده توبيخا للنصارى على شركهم { يعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين } أي معبودين يقرره بذلك فينفي عيسى ذلك على الفور ويقول منزها ربه تعالى مقدسا { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } ، ويؤكد تفصيه مما وجه إليه توبيخا لقومه: { إن كنت قلته فقد علمته } يا ربي، إنك { تعلم ما في نفسي } فكيف بقولي وعملي، وأنا { ولا أعلم ما في نفسك } إلا أن تعلمني شيئا، لأنك { أنت علام الغيوب } ما { قلت لهم إلا مآ أمرتني به } أن أقوله لهم وهو { اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا } أي رقيبا { فلما توفيتني } برفعي إليك { كنت أنت الرقيب عليهم } ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها. { وأنت على كل شيء شهيد } رقيب وحفيظ. { إن تعذبهم } أي من مات منهم على الشرك بأن تصليه نارك فأنت على ذلك قدير، { وإن تغفر لهم } أي لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل فإنك أنت العزيز الغالب على أمره الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا ينعم من أشرك به ولا يعذب من أطاعه ووحده. فأجابه الرب تبارك وتعالى قائلا: { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم }: صدقوا الله تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده لا شريك له ولم يشركوا سواه. ونفعه لهم أن أدخلوا به جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يخرجون منها أبدا، مع رضى الله تعالى عنهم ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم لا يفنى ولا يبيد، { ذلك الفوز العظيم } إنه النجاة من النار ودخول الجنات. وفي الآية الأخيرة [120] يخبر تعالى أنه له { ملك السموت والأرض وما فيهن } من سائر المخلوقات والكائنات خلقا وملكا وتصرفا يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب { وهو على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام.
2- براءة عيسى عليه السلام من مشركي النصارى وأهل الكتاب.
3- تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإلهية.
4- فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة، وفي الحديث:
" عليكم بالصدق فإنه يدعو إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ".
5- سؤال غير الله شيئا ضرب من الباطل والشرك، لأن غير الله لا يملك شيئا، ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟
[6 - سورة الأنعام]
[6.1-3]
شرح الكلمات:
الحمد: الثناء باللسان على المحمود بصفات الجمال والجلال.
خلق: أنشأ وأوجد.
يعدلون: يسوون به غيره فيعبدونه معه.
الأجل: الوقت المحدد لعمل ما من الأعمال يتم فيه أو ينتهي فيه، والأجل الأول أجل كل إنسان، والثاني أجل الدنيا.
تمترون: تشكون في البعث الآخر والجزاء: كما تشكون في وجوب توحيده بعبادته وحده دون غيره.
وهو الله في السماوات: أي معبود في السماوات وفي الأرض.
ما تكسبون: أي من خير وشر، وصلاح فساد.
معنى الآيات:
يخبر تعالى بأنه المستحق للحمد كله وهو الوصف بالجلال والجمال والثناء بهما عليه وضمن ذلك يأمر عباده أن يحمدوه كأنما قال قولوا الحمد لله، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره فقال: { الذي خلق السموت والأرض وجعل الظلمت والنور } ، فالذي أوجد السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات وجعل الظلمات والنور وهما من أقوى عناصر الحياة هو المستحق للحمد والثناء لا غيره ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناما وأوثانا ومخلوقات فيعبدونها معه يا للعجب!!.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [1] أما الآية الثانية [2] فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخا لهم على جهلهم منددا بباطلهم فيقول: { هو الذي خلقكم من طين } لأن آدم أباهم خلقه من طين ثم تناسلوا منه فباعتبار أصلهم هم مخلوقون من طين ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين، ثم قضى لكل أجلا وهو عمره المحدد له وقضى أجل الحياة كلها الذي تنتهي فيه وهو مسمى عنده معروف له لا يعرفه غيره ولا يطلع عليه سواه ولحكم عالية أخفاه، ثم أنتم أيها المشركون الجهلة تشكون في وجوب توحيده، وقدرته على إحيائكم بعد موتكم لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم خيره وشره، حسنه وسيئه، وفي الآية الثالثة [3] يخبر تعالى أنه هو الله المعبود بحق في السماوات وفي الأرض لا إله غيره ولا رب سواه { يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون } من خير وشر فهو تعالى فوق عرشه بائن من خلقه ويعلم سر عباده وجهرهم ويعلم أعمالهم وما يكتسبون بجوارحهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لذا وجبت الرغبة فيما عنده من خير، والرهبة مما لديه من عذاب، ويحصل ذلك لهم بالإنابة إليه وعبادته والتوكل عليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله.
2- لا يصح حمد أحد بدون ما يوجد لديه من صفات الكمال ما يحمد عليه.
3- التعجب من حال من يسوون المخلوقات بالخالق عز وجل في العبادة.
4- التعجب من حال من يرى عجائب صنع الله ومظاهر قدرته ثم ينكر البعث والحياة الآخرة.
5- صفة العلم لله تعالى وأنه تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم السر وأخفى.
[6.4-6]
شرح الكلمات:
من آية: المراد بالآية هنا آيات القرآن الكريم الدالة على توحيد الله تعالى والإيمان برسوله ولقائه يوم القيامة.
معرضين: غير ملتفتين إليها ولا مفكرين فيها.
الحق: الحق هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الدين الحق .
أنباء: أخبار ما كانوا به يستهزئون وهو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
من قرن: أي أهل قرن من الأمم السابقة، والقرن مائة سنة.
مكنا لهم في الأرض: أعطيناهم من القوة المادية ما لم نعط هؤلاء المشركين.
مدرارا: مطرا متواصلا غزيرا.
بذنوبهم: أي بسبب ذنوبهم وهي معصية الله ورسله.
وأنشأنا: خلقنا بعد إهلاك الأولين أهل قرن آخرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أولئك الذين يعدلون بربهم غيره من مخلوقاته فيقول تعالى عنهم: وما تأتيهم من آية من آيات ربهم التي يوحيها إلى رسوله ويضمها كتابه القرآن الكريم، إلا قابلوها بالإعراض التام، وعدم الالتفات إلى ما تحمله من هدى ونور، وسبب ذلك أنهم قد كذبوا بالحق لما جاءهم وهو الرسول وما معه من الهدى، وبناء على ذلك { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون } وقد استهزأوا بالوعيد وسينزل بهم العذاب الذي كذبوا به واستهزأوا، وأول عذاب نزل بهم هزيمتهم يوم بدر، ثم القحط سبع سنين، ومن مات منهم على الشرك فسوف يعذب في نار جهنم أبدا، ويقال لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تستهزئون وقوله تعالى: { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } أي كثيرا من أهل القرون الماضية مكن الله تعالى لهم في الأرض من الدولة والسلطان والمال والرجال ما لم يمكن لهؤلاء المشركين من كفار قريش، وأرسل على أولئك الذين مكن لهم السماء مدرارا بغزير المطر وجعل لهم في أرضهم الأنهار تجري من تحت أشجارهم وقصورهم، فلما أنكروا توحيدي وكذبوا رسولي، وعصوا أمري { فأهلكنهم بذنوبهم } ، لا ظلما منا ولكن بظلمهم هم لأنفسهم، وأوجدنا بعدهم قوما آخرين، وكان ذلك علينا يسيرا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التكذيب بالحق هو سبب الإعراض عنه فلو آمنوا به لأقبلوا عليه.
2- الاستهزاء والسخرية بالدين من موجبات العذاب وقرب وقوعه.
3- العبرة بهلاك الماضين، ومصارع الظالمين.
4- هلاك الأمم كان بسبب ذنوبهم، فما من مصيبة إلا بذنب.
[6.7-11]
شرح الكلمات:
قرطاسا: القرطاس: ما يكتب عليه جلدا أو كاغدا.
لمسوه بأيديهم: مسوه بأصابعهم ليتأكدوا منه.
ملك : الملك أحد الملائكة.
لقضي الأمر: أي أهلكوا وانتهت حياتهم.
لا ينظرون: لا يمهلون.
ولو جعلناه ملكا: ولو جعلنا الرسول إليهم ملكا لإنكارهم البشر.
لبسنا: خلطنا عليهم.
استهزىء: سخر وتهكم واستخف.
حاق بهم: نزل بهم العذاب وأحاط بهم فأهلكوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في شأن العادلين بربهم أصنامهم التي يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله يقول تعال: { ولو نزلنا عليك كتبا } أيها الرسول { كتبا } أي مكتوبا في ورق جلد أو كاغد ورأوه منزلا من السماء ولمسوه بأيديهم وحسوه بأصابعهم ما آمنوا ولقالوا: { إن هذآ إلا سحر مبين }. أي سحر واضح سحركم به محمد صلى الله عليه وسلم وإلا كيف ينزل الكتاب من السماء، { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } أي هلا أنزل عليه، لم لا ينزل عليه ملك يساعده ويصدقه بأنه نبي الله ورسوله، فقال تعالى: { ولو أنزلنا ملكا } ، وليس من شأن الله أن ينزل الملائكة ولو أنزل ملكا فكذبوه لأهلكهم، إذ الملائكة لا تنزل إلا لإحقاق الحق وعليه فلو نزل ملك لقضي أمرهم بإهلاكهم وقطع دابرهم وهذا ما لا يريده الله تعالى لهم. وقوله: { ثم لا ينظرون } أي لا يمهلون ولو ساعة ليتوبوا أو يعتذروا مثلا. وقوله تعالى: { ولو جعلنه ملكا } أي الرسول ملكا لقالوا كيف نفهم عن الملك ونحن بشر فيطالبون بأن يكون بشرا وهكذا كما قال تعالى: { ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا وللبسنا عليهم } خلطنا وشبهنا ما يخلطون على أنفسهم ويشبهون. ثم أخبر تعالى رسوله مسليا له قائلا { ولقد استهزىء برسل من قبلك } كما استهزيء بك فاصبر، فقد حاق بالمستهزئين ما كانوا به يستهزئون، كانوا إذا خوفهم الرسل عذاب الله سخروا منهم واستخفوا بهم وبالعذاب الذي خوفوهم به، ثم أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك المستهزئين بما يعدهم من عذاب ربهم وهم أكابر مجرمي قريش: { قل سيروا في الأرض } جنوبا لتقفوا على ديار عاد أو شمالا لتقفوا على ديار ثمود، أو غربا لتقفوا على بحيرة لوط فتعرفوا { كيف كان عقبة المكذبين } من أمثالكم لعلكم تحققون من طغيانكم وتكذيبكم فيسهل عليكم الرجوع.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الآيات بمعنى المعجزات والخوارق لا تستلزم الإيمان بل قد تكون سببا للكفر والعناد، ولذا لم يستجب الله لقريش ولم يعط رسوله ما طالبوه من الآيات.
2- إنكار رسالة البشر عام في كل الأمم وقالوا ما هذا إلا بشر مثلكم في آيات كثيرة في حين أن إرسال الملائكة لا يتم معه هدف لعدم قدرة الإنسان على التلقي عن الملائكة والتفاهم معهم، ولو أنزل الله ملكا رسولا لقالوا نريده بشرا مثلنا ولحصل الخلط واللبس بذلك.
3- الاستهزاء بالرسل والدعاة سنة بشرية لا تكاد تتخلف ولذا وجب على الرسل والدعاة الصبر على ذلك.
4- عاقبة التكذيب والاستهزاء هلاك المكذبين المستهزئين.
5- مشروعية زيارة القبور للوقوف على مصير الإنسان ومآل أمره فإن في ذلك ما يخفف شهوة الدنيا والنهم فيها والتكالب عليها وهو سبب الظلم والفساد.
[6.12-16]
شرح الكلمات:
كتب على نفسه الرحمة: أي أوجب على نفسه رحمة خلقه.
لا ريب فيه: لا شك في مجيئه وحصوله في أجله المحدد له.
خسروا أنفسهم: حيث لوثوها بأوضار الشرك والمعاصي فلم ينتفعوا بها.
وله ما سكن في الليل والنهار: أي ما استقر فيها من ساكن ومتحرك أي له كل شيء.
وليا: أحبه وأنصره وأطلب نصرته ومحبته وولايته.
من يصرف عنه: أي من العذاب بمعنى يبعد عنه.
الفوز المبين: أي الواضح إذ النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث مع العادلين بربهم غيره من أهل الشرك فيقول تعالى لرسوله سلهم قائلا: { قل لمن ما في السموت والأرض } خلقا وإيجادا أو ملكا وتصرفا وتدبيرا، واسبقهم إلى الجواب فقل لله، إذ ليس لهم من جواب إلا هذا: { لله } ، أي هو الله الذي { كتب على نفسه الرحمة } قضى بها وأوجبها على نفسه، ومظاهرها متجلية في الناس: إنهم يكفرونه ويعصونه وهو يطعمهم ويسقيهم ويكلؤهم ويحفظهم، وما حمدوه قط. ومن مظاهر رحمته جمعه الناس ليوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم الحسنة بعشر أمثالها أما السيئة فبسيئة مثلها فقط وهو ما دل عليه قوله: { ليجمعنكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه } أي الكائن الآتي بلا ريب ولا شك، وقوله تعالى: { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } يخبر تعالى أن الذين كتب خسرانهم أزلا في كتاب المقادير فهم لذلك لا يؤمنون وما كتب أزلا لعلم تام بموقفهم هذا الذي هم وافقوه من الكفر والعناد والشرك والشر والفساد، بذلك استوجبوا الخسران هذا ما دلت عليه الآية الأولى [12] أما الآية الثانية [13] { وله ما سكن في الليل والنهار } وهذا تقرير بأنه رب كل شيء والمالك لكل شيء إذ ما هناك إلا ساكن ومتحرك وهو رب الجميع، وهو السميع لأحوال عباده وسائر مخلوقاته العليم فأفعالهم الظاهرة والباطنة ولذا لا يسأل عما يفعل ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن هنا وجب اللجأ إليه والتوكل عليه، والانقياد لأمره ونهيه. وقوله تعالى في الآية الثالثة [14] { قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموت والأرض وهو يطعم ولا يطعم } يأمر تعالى رسوله أن يرد على المشركين المطالبين منه أن يوافقهم على شركهم ويعبد معهم آلهتهم فيقول: أفغير الله فاطر السماوات والأرض الذي يطعم غيره لافتقاره إليه، ولا يطعم لغناه المطلق أغيره تعالى أتخذ وليا أعبده كما اتخذتم أنتم أيها المشركون أولياء تعبدونهم. إن هذا لن يكون أبدا كما أمره ربه تعالى أن يقول في صراحة ووضوح، { إني أمرت أن أكون أول من أسلم } أي وجهه لله، وأقبل عليه بعبده بما شرع له، ونهاني أن أكون من المشركين بقوله: { ولا تكونن من المشركين } الذين يعبدون مع الله غيره من مخلوقاته وأمره في الآية [15] أن يقول للمشركين الراغبين في تركه التوحيد: { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } وهو عذاب يوم القيامة.
إنه عذاب أليم لا يطاق من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه أي أدخله الجنة والنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم كما قال تعالى
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز
[آل عمران: 185] نعم فاز وأي فوز أكبر من الخلوص من العذاب ودخول في دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عموم رحمة الله تعالى.
2- تقرير مبدأ الشقاوة والسعادة في الأزل قبل خلق الخلق.
3- الله رب كل شيء ومليكه.
4- تحريم ولاية غير الله، وتحريم الشرك به تعالى.
5- بيان الفوز الأخروي وهو النجاة من العذاب ودخول الجنة.
[6.17-19]
شرح الكلمات:
يمسسك: يصبك.
بضر: الضر: ما يؤلم الجسم أو النفس كالمرض والحزن.
بخير: الخير: كل ما يسعد الجسم أو الروح.
القاهر: الغالب المذل المعز.
شهادة: الشهادة: إخبار العالم بالشيء عنه بما لا يخالفه.
لأنذركم به: لأخوفكم بما فيه من وعيد الله لأهل عداوته.
إله واحد: معبود واحد لأنه رب واحد، إذ لا يعبد إلا الرب الخالف الرازق المدبر.
معنى الآيات:
ما زال السياق في توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم وتقوية موقفه من أولئك العادلين بربهم المشركين به فيقول له ربه تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } أي إن أصابك الله بما يضرك في بدنك فلا كاشف له عنك بإنجائك منه إلا هو. { وإن يمسسك بخير } أي وإن يردك بخير فلا راد له { فهو على كل شيء قدير } ، والخطاب وإن كان موجها للرسول صلى الله عليه وسلم عام في كل أحد فلا كاشف للضر إلا هو، ولا راد لفضله أحد، ومع كل أحد، وقوله تعالى في الآية الثانية [18] { وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } تقرير لربوبيته المستلزمة لألوهيتة فقهره لكل أحد، وسلطانه على كل أحد مع علو كلمته وعلمه بكل شيء موجب لألوهيته وطاعته وطلب ولايته، وبطلان ولاية غيره وعبادة سواه وقوله تعالى في الآية الثالثة [19] { قل الله شهيد بيني وبينكم } نزلت لما قال المشركون بمكة للرسول صلى الله عليه وسلم إئتنا بمن يشهد لك بالنبوة فإن أهل الكتاب أنكروها فأمره ربه تعالى أن يقول لهم ردا عليهم: أي شيء أكبر شهادة؟ ولما كان لا جواب لهم إلا أن يقولوا الله أمره أن يجيب به: { قل الله شهيد بيني وبينكم }. فشهادة الله تعالى لي بالنبوة إيحاؤه إلي بهذا القرآن الذي أنذركم به. وأنذر كل من بلغه وسمع به بأن من بلغه ولم يؤمن به ويعمل بما جاء فيه من العقائد والعبادات والشرائع فإنه خاسر لنفسه يوم القيامة. ثم أمره أن ينكر عليهم الشرك بقوله: أئنكم لتشهدون مع الله آلهة أخرى، وذلك بإيمانكم بها وعبادتكم لها أما أنا فلا أعترف بها بل أنكرها فضلا عن أن أشهد بها. ثم أمره بعد إنكار آلهة المشركين أن يقرر ألوهيته الله وحده وأن يتبرأ مع آلهتهم المدعاة فقال له قل: { إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب اللجأ إلى الله تعالى دون غيره من سائر خلقه إذ لا يكشف الضر إلا هو.
2- شهادة الله تعالى لرسوله بالنبوة وما أنزل عليه من القرآن وما أعطاه من المعجزات.
3- نذارة الرسول بلغت كل من بلغه القرآن الكريم إلى يوم الدين.
4- تقرير مبدأ التوحيد لا إله إلا الله، ووجوب البراءة من الشرك.
[6.20-24]
شرح الكلمات:
الذين أوتوا الكتاب: علماء اليهود والنصارى.
يعرفونه: يعرفون محمدا نبيا لله ورسولا له.
افترى على الله كذبا: اختلق الكذب وزوره في نفسه وقال.
لا يفلح الظالمون: لا ينجون من عذاب الله يوم القيامة.
أين شركاؤكم: استفهام توبيخي لهم.
تزعمون: تدعون أنهم شركاء يشفعون لكم عند الله.
وضل عنهم: غاب عنهم ولم يحضرهم ما كانوا يكذبونه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب } أي علماء اليهود والنصارى { يعرفونه } أي النبي محمدا صلى الله عليه وسلم أنه نبي الله وأن القرآن كتاب الله أوحاه إليه يعرفونه بما ثبت من أخباره ونعوته معرفة كمعرفة أبنائهم، رد الله تعالى بهذا على العرب الذين قالوا: لو كنت نبيا لشهد لك بذلك أهل الكتاب ثم أخبر تعالى أن الذين خسروا أنفسهم في قضاء الله وحكمه الأزلي لا يؤمنون، وإن علموا ذلك في كتبهم وفهموه واقتنعوا به، فهذا سر عدم إيمانهم، فلن يكون إذا عدم إيمانهم حجة ودليلا على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه غير نبي ولا رسول هذا ما دلت عليه الآية الأولى [20] وفي الآية الثانية نداء الله تعالى لكل من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب بقوله { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } وهم المشركون بزعمهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله ولذا عبدوها، أو كذبوا بآياته وهم أهل الكتاب، وأخبر أن الجميع في موقفهم المعادي للتوحيد والإسلام ظالمون، وإن الظالمون لا يفلحون فحكم بخسران الجميع إلا من آمن منهم وعبد الله ووحده وكان من المسلمين وقوله تعالى في الآية الثالثة [22] { ويوم نحشرهم جميعا } مشركين وأهل كتاب أي لا يفلحون في الدنيا ولا يوم نحشرهم وهو يوم القيامة لأنهم ظالمون، ثم أخبر تعالى بمناسبة ذكر يوم القيامة أنه يسأل المشركين منهم فيقول لهم: { أين شركآؤكم الذين كنتم تزعمون } أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم؟ ثم لم تكن نتيجة هذه الفتنة أي الاختبار إلا قولهم: { والله ربنا ما كنا مشركين } يكذبون هذا الكذب لأنهم رأوا أن المشركين لا يغفر لهم ولا ينجون من النار. ثم أمر الله رسوله أن يتعجب من موقفهم هذا المخزي لهم فقال له: { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } أما ربهم فهو عليم بهم { وضل عنهم } أي غاب فلم يروه. { ما كانوا يفترون } أي يكذبون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الإسلام إلا إيثار الدنيا على الآخرة.
2- سببان في عظم الجريمة الكاذب على الله المفتري والمكذب الجاحد به وبكتابه وبنبيه.
3- تقرير عدم فلاح الظالمين في الحياتين.
4- الشرك لا يغفر لصاحبه إذا لم يتب منه قبل موته.
[6.25-29]
شرح الكلمات:
أكنة: جمع كنان ما يكن فيه الشيء كالغطاء.
وقرأ: ثقلا وصمما فهم لا يسمعون.
يجادلونك: يخاصمونك.
أساطير الأولين: جمع أسطورة: ما يكتب ويحكى من أخبار السابقين.
وينأون عنه: أي ويبعدون عنه.
بل بدا لهم: بل ظهر لهم.
إن هي إلا حياتنا: ما هي إلا حياتنا.
مبعوثين: بعد الموت أحياء كما كنا قبل أن نموت.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أولئك العادلين بربهم المشركين به سواه فيخبر تعالى عن بعضهم فيقول { ومنهم من يستمع إليك } حال قراءتك القرآن ولكنه لا يعيه قلبه ولا يفقه ما فيه من أسرار وحكم تجعله يعرف الحق ويؤمن به، وذلك لما جعلنا حسب سنتنا في خلقنا من أكنة على قلوبهم أي أغطية، ومن وقر أي ثقل وصمم في آذانهم، فلذا هم يستمعون ولا يسمعون، ولا يفقهون وتلك الأغطية وذلك الصمم هما نتيجة ما يحملونه من بغض للنبي صلى الله عليه وسلم وكره لما جاء به من التوحيد، ولذا فهم لو يرون كل آية مما يطالبون من المعجزات كإحياء الموتى ونزول الملائكة عيانا لا يؤمنون بها لأنهم لا يريدون أن يؤمنوا ولذا قال تعالى: { وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها حتى إذا جآءوك يجدلونك } أي في شأن التوحيد وآلهتهم { يقول الذين كفروا إن هذآ } أي ما هذا { إلا أسطير الأولين } ، أمليت عليك أو طلبت كتابتها فأنت تقصها، وليس لك من نبوة ولا وحي ولا رسالة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [25] أما باقي الآيات فإن الثانية [26] تضمنت إخبار الله تعالى عنهم بأنهم ينهون الناس عن الإيمان بالنبي وبما جاء به وعن متابعته والدخول في دينه، وينأون هم بأنفسهم أي يبعدون عنه فلا إيمان ولا متابعة. وهذه شر الصفات يصفهم الله تعالى بها وهي البعد عن الحق والخير، وأمر الناس بالبعد عنهما ونهيهم عن قربهما ولذا قال تعالى: { وإن يهلكون إلا أنفسهم } بهذا الموقف الشائن المعادي للرسول والتوحيد، وما يشعرون بذلك إذ لو شعروا لكفوا، والذي أفقدهم الشعور هو حب الباطل والشر الذي حملهم على عداوة الرسول وما جاء به من عبادة الله وتوحيده وها هم أولا قد حشروا في جهنم، والله تعالى يقول للرسول: { ولو ترى إذ وقفوا على النار } ولا بد لهم من دخولها والاصطلاء بحرها والاحتراق بلهبها، فقالوا وهم في وسطها { يليتنا نرد } إلى الحياة الدنيا { ولا نكذب بآيت ربنا ونكون من المؤمنين } ، وما هم والله بصادقين وإنما هي تمنيات حمل عليها الإشفاق من العذاب والخوف من نار جهنم، والفضيحة حين ظهر لهم ما كانوا يخفون في الدنيا من جرائم وفواحش وهم يغشونها الليل والنهار قال تعالى وهو العليم الخبير: { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } ، وصدق الله لو ردوا لعادوا وفي الآية الأخيرة [29] يسجل الله تعالى عليهم سبب بلائهم ومحنتهم، وإقدامهم في تلك الجرأة الغريبة على الشرك ومحاربة التوحيد، ومحاربة الموحدين بالضرب والقتل والتعذيب إنه كفرهم بالبعث والجزاء إذ قالوا ما أخبر تعالى به عنهم: { إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في أن العبد إذا كره أحدا وأبغضه وتغالى في ذلك يصبح لا يسمع ما يقول له، ولا يفهم معنى ما يسمع منه.
2- شر دعاة الشر من يعرض عن الهدى ويأمر بالإعراض عنه، وينهى من يقبل عليه.
3- سبب الشر في الأرض الكفر بالله، وإنكار البعث والجزاء الآخر.
[6.30-32]
شرح الكلمات:
وقفوا على ربهم: جيء بهم ووقفوا على قضائه وحكمه تعالى فيهم.
بلى وربنا: أي إنه للحق والله.
خسر الذين كذبوا: أي خسروا أنفسهم في جهنم.
الساعة بغتة: ساعة: البعث ليوم القيامة وبغتة: أي فجأة.
يا حسرتنا: الحسرة: التندم والتحسر على ما فات ينادون حسرتهم زيادة في التألم والتحزن.
أوزارهم: أحمال ذنوبهم إذ الوزر الحمل الثقيل.
لعب ولهو: اللعب: العمل الذي لا يجلب درهما للمعاش، ولا حسنة للمعاد.
واللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه مما يكسبه خيرا أو يدفع عنه ضيرا.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله: ولو ترى إذ أولئك لمنكرون للبعث القائلون
إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين
[الأنعام: 29]، لو تراهم وقد حبسوا لقضاء الله وحكمه فيهم وقيل لهم وهم يشاهدون أهوال القيامة وما فيها من حساب وجزاء وعذاب { أليس هذا بالحق } أي الذي كنتم تكذبون فيسارعون بالإجابة قائلين { بلى وربنا } ، فيحلفون بالله تعالى تأكيدا لصحة جوابهم فيقال لهم: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } لا ظلما منا ولكن بسبب كفركم إذ الكفر منع من طاعة الله ورسوله، والنفس لا تطهر إلا على تلك الطاعة، هذا ما دلت عليه الآية الأولى [30] أما الآية الثانية [31] فقد أعلن تعالى عن خسارة صفقة الكافرين الذين باعوا الإيمان بالكفر والتوحيد بالشرك، والطاعة بالمعاصي فقال تعالى: { قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله } أي بالحياة بعد الموت وهذا هو سبب المحنة والكارثة { حتى إذا جآءتهم الساعة } ساعة فناء هذه الحياة وإقبال الحياة الآخرة { بغتة } أي فجأة لم يكونوا يفكرون فيها لكفرهم بها، وعندئذ صاحوا بأعلى أصواتهم معلنين عن تندمهم { يحسرتنا على ما فرطنا } أي في صفقتنا حيث اشترينا الكفر بالإيمان والشرك وبالتوحيد قال تعالى: { وهم يحملون أوزارهم } من الجائز أن تصور لهم أعمالهم من الكفر والشرك والظلم والشر والفساد في صورة رجل قبيح أشوه فيحملونه على ظهورهم في عرصات القيامة وقد ورد به خبر. ولذا قال تعالى: { ألا سآء ما يزرون } أي قبح ما يحملونه! وفي الآية [32] الأخيرة يخبر تعالى مذكرا واعظا ناصحا فيقول يا عباد الله: { وما الحيوة الدنيآ إلا لعب ولهو } فانتبهوا فلا تغتروا بما فيها من ملذات فإن نعيمها إلى زوال ما شأنها إلا شأن من يلعب أو يلهو، ثم لا يحصل على طائل من لعبه ولهوه، أما الدار الآخرة فإنها خير ولكن للذين يتقون الشرك والشر والمعاصي، فما لكم مقبلين على الفانى معرضين عن الباقي { أفلا تعقلون }؟!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ البعث والجزاء بذكر صور ومشاهد له.
2- قبح الذنوب وأنها أسوأ حمل يحمله صاحبها يوم القيامة.
3- حكم الله تعالى بالخسران على من كذب بلقائه فلم يؤمن ولم يعمل صالحا.
4- الساعة لا تأتي إلا بغتة، ولا ينافي ذلك ظهور علاماتها، لأن الزمن ما بين العلامة والعلامة لا يعرف مقداره.
5- نصيحة القرآن للعقلاء بأن لا يغتروا بالحياة الدنيا. ويهملوا شأن الآخرة وهي خير للمتقين.
[6.33-35]
شرح الكلمات:
ليحزنك: أي ليوقعك في الحزن الذي هو ألم النفس من جراء فقد ما تحب من هدايتهم أو من أجل ما تسمع منهم من كلم الباطل كتكذيبك وأذيتك.
فإنهم لا يكذبونك: أي لا ينسبونك إلى الكذب في بواطنهم ومجالسهم السرية لعلمهم اليقيني أنك صادق.
كذبت رسل: أي كذبتهم أقوامهم وأممهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
ولا مبدل لكلمات الله: التي تحمل وعده بنصر أوليائه وإهلاك أعدائه.
من نبإ المرسلين: أي أخبارهم في دعواتهم مع أممهم.
تبتغي نفقا: تطلب سربا تحت الأرض.
أو سلما في السماء: أي مصعدا تصعد به إلى السماء.
بآية: أي خارقة من خوارق العادت وهي المعجزات.
فلا تكونن من الجاهلين: أي فلا تقف موقف الجاهلين بتدبير الله في خلقه.
معنى الآيات:
هذه الآيات من تربية الله تعالى لرسوله وإرشاده لما يشد من عزمه ويزيد في ثباته على دعوة الحق التي أناط به بلاغها وبيانها فقال له تعالى: { قد نعلم إنه } أي الحال والشأن، { ليحزنك الذي يقولون } أي الكلام الذي يقولون لك وهو تكذيبك واتهامك بالسحر، والتقول على الله، وما إلى ذلك مما هو إساءة لك وفي الحقيقة إنهم لا يكذبونك لما يعلمون من صدقك وهم يلقبونك قبل إنبائك لهم وإرسالك بالأمين ولكن الظالمين هذا شأنهم فهم يرمون الرجل بالكذب وهم يعلمون أنه صادق ويقرون هذا في مجالسهم الخاصة، ولكن كي يتوصلوا إلى تحقيق أهدافهم في الإبقاء على عاداتهم وما ألفوا من عبادة أوثانهم يقولون بألسنتهم من نسبتك إلى الكذب وهم يعلمون أنك صادق غير كاذب فإذا عرفت هذا فلا تحزن لقولهم. هذا أولا وثانيا فقد كذبت رسل من قبلك وأوذوا كما كذبت أنت وأوذيت، وصبروا حتى أتاهم نصرنا فاصبر أنت حتى يأتيك النصر فإنه لا مبدل لكلمات الله التي تحمل وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه، ولقد جاءك في هذا الكتاب الذي أوحينا إليك من نبأ المرسلين وأخبارهم ما يكون عونا لك على الصبر حتى النصر فاصبر، وثالثا { وإن كان كبر عليك إعراضهم } عن دعوتك وعدم إيمانهم بها حتى تأتيهم بآية تلجئهم إلى الإيمان بك وبرسالتك كما يطلبون منك ويلحون عليك وهم كاذبون فإن استطعت أن تطلب لهم آية من تحت الأرض أو من السماء فافعل، وهذا ما لا تطيقه ولا تستطيعه لأنه فوق طاقتك فلا تكلف به وإذا فما عليك إلا بالصبر هذا معنى قوله تعالى: { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض } أي سربا، { أو سلما في السمآء } أي مصعدا { فتأتيهم بآية } أي فافعل، وما أنت بقادر فاصبر إذا ورابعا إن الله قادر على أن يجمعهم كلهم على الإيمان بك وبرسالتك والدخول في دينك، ولكنه لم يشأ ذلك لحكم عالية فلا تطلب أنت ما لا يريده ربك، فإنك إن فعلت كنت من الجاهلين، ولا نريد لك ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ثبوت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ولذا هو يحزن لفوت محبوب كما يحزن البشر لذلك.
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يأتيه موعود ربه بالنصر.
3- بيان سنة الله في الأمم السابقة.
4- إرشاد الرب تعالى رسوله إلى خير المقامات وأكمل الحالات بإبعادة عن ساحة الجاهلين.
[6.36-39]
شرح الكلمات:
إنما يستجيب: أي لدعوة الحق التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤمن ويهتدي.
يبعثهم الله: أي يوم القيامة.
لولا نزل عليه آية: هلا أداة تحضيض لا لولا الشرطية.
آية من ربه: آية: خارقة تكون علامة على صدقه.
لا يعلمون: أي ما يترتب على إيتائها مع عدم الإيمان بعدها من هلاك ودمار.
من دابة: الدابة كل ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان.
في الكتاب: كتاب المقادير أم الكتاب اللوح المحفوظ.
صم وبكم في الظلمات: صم: لا يسمعون وبكم: لا ينطقون في الظلمات لا يبصرون.
صراط مستقيم: هو الدين الإسلامي المفضي بالآخذ به إلى سعادة الدارين.
معنى الآيات:
بعدما سلى الرب تعالى رسوله في الآيات السابقة وحمله على الصبر أعلمه هنا بحقيقة علمية تساعده على الثبات والصبر فأعلمه أن الذين يستجيبون لدعوته صلى الله عليه وسلم هم الذين يسمعون لأن حاسة السمع عندهم سليمة ما أصابها ما يخل بأداء وظيفتها من كره الحق. وبغض أهله والداعين إليه فهؤلاء هم الذين يستجيبون لأنهم أحياء أما الأموات فإنهم لا يسمعون ولذا فهم لا يستجيبون ولكن سيبعثهم الله يوم القيامة أحياء ثم يرجع الجميع إليه من استجاب، لحياة قلبه، ومن لم يستجب لموت قلبه ويجزيهم بما عملوا الجزاء الأوفى وهو على كل شيء قدير، هذا ما دلت عيله الآية الأولى [36] أما الآية الثانية [37] فقد أخبر تعالى رسوله بقولهم { لولا نزل عليه آية } ، وعلمه أن يقول لهم { إن الله قادر على أن ينزل آية } وهي الخارقة كإحياء الموتى أو تسيير الجبال أو إنزال الملائكة يشاهدونهم عيانا، ولكن لم ينزلها لحكم عالية وتدبير حكيم، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } الحكمة في ذلك، ولو علموا أنها إذا نزلت كانت نهاية حياتهم لما سألوها. هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة [38] وهي قوله تعالى: { وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } سبقت هذه الآية لبيان كمال الله تعالى وشمول علمه وعظيم قدرته، وسعة تدبيره تدليلا على أنه تعالى قادر على إنزال الآيات، ولكن منع ذلك حكمته تعالى في تدبير خلقه فما من دابة تدب في الأرض ولا طائر يطير في السماء إلا أمم مثل الأمة الإنسانية مفتقرة إلى الله تعالى في خلقها ورزقها وتدبير حياتها، والله وحده القائم عليها، وفوق ذلك إحصاء عملها عليها ثم بعثها يوم القيامة ومحاسبتها ومجازاتها، وكل ذلك حواه كتاب المقادير وهو يقع في كل ساعة ولا يخرج شيء عما كتب في كتاب المقادير، اللوح المحفوظ { ما فرطنا في الكتب من شيء } فهل يعقل مع هذا أن يعجز الله تعالى عن إنزال آية، وكل مخلوقاته دالة على قدرته وعلمه ووحدانيته، ووجوب عبادته وفق مرضاته، وقوله { ثم إلى ربهم يحشرون } كل دابة وكل طائر يموت أحب أم كره، ويبعث أحب أم كره، والله وحده مميته ومحييه ومحاسبه ومجازيه، { ثم إلى ربهم يحشرون } ، ومن هنا كان المكذبون بآيات الله { صم وبكم في الظلمات } أموات غير أحياء إذ الأحياء يسمعون وينطقون ويبصرون وهؤلاء صم بكم في الظلمات فهم أموات غير أحياء وما يشعرون.
وأخيرا أعلم تعالى عباده أن هدايتهم كإضلالهم بيده فمن شاء هداه ومن شاء أضله، وعليه فمن أراد الهداية فليطلبها في صدق من الله جل جلاله وعظم سلطانه ومن رغب عنها فلن يعطاها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الإيمان بالله ورسوله ولقائه حياة والكفر بذلك موت فالمؤمن حي والكافر ميت.
2- سبب تأخر الآيات علم الله تعالى بأنهم لو أعطاهم الآيات ما آمنوا وبذلك يستوجبون العذاب.
3- تعدد الأمم في الأرض وتعدد أجناسها والكل خاضع لتدبير الله تعالى مربوب له.
4- تقرير ركن القضاء والقدر وإثباته في أم الكتاب.
[6.40-45]
شرح الكلمات:
أرأيتكم: أخبروني.
الساعة: يوم القيامة.
يكشف: يزيل ويبعد وينجي.
البأساء والضراء: البأساء: الشدائد من الحروب والأمراض، والضراء: الضر.
يتضرعون: يتذللون في الدعاء خاضعون.
بغتة: فجأة وعلى حين غفلة.
مبلسون: آيسون قنطون متحسرون حزنون.
دابر القوم: آخرهم أي أهلكوا من أولهم إلى آخرهم.
الحمد لله: الثناء بالجميل والشكر لله دون سواه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية المشركين العادلين بربهم أصناما وأحجارا، فيقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا رسولنا لأولئك الذين يعدلون بنا الأصنام { أرءيتكم } أي أخبروني، { إن أتكم عذاب الله } اليوم انتقاما منكم، { أو أتتكم الساعة } وفيها عذاب يوم القيامة، { أغير الله تدعون } ليقيكم العذاب ويصرفه عنكم { إن كنتم صدقين } في أن آلهتكم تنفع وتضر، تقي السوء وتجلب الخير؟ والجواب معلوم أنكم لا تدعونها ليأسكم من إجابتها بل الله وحده هو الذي تدعونه فيكشف ما تدعونه له إن شاء، وتنسون عندها ما تشركون به من الأصنام فلا تدعونها ليأسكم من إجابتها لضعفها وحقارتها. هذا ما تضمنته الآيتان الأولى [40] والثانية [41] وأما الآيات الأربع بعدهما فإن الله تعالى يخبر رسوله بقوله { ولقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك } أي أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممهم فأمروهم بالإيمان والتوحيد والعبادة فكفروا وعصوا فأخذناهم بالشدائد من حروب ومجاعات وأمراض لعلهم يتضرعون إلينا فيرجعون إلى الإيمان بعد الكفر والتوحيد بعد الشرك والطاعة بعد العصيان ولما لم يفعلوا وبخهم تعالى بقوله: { فلولا إذ جآءهم بأسنا تضرعوا } أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا إلينا { ولكن } حصل العكس حيث { قست قلوبهم وزين لهم الشيطان } أي حسن لهم { ما كانوا يعملون } من الشرك والمعاصي. وهنا لما نسوا ما ذكرتهم به رسلهم فتركوا العمل به معرضين عنه غير ملتفتين إليه فتح الله تعالى عليهم أبواب كل شيء من الخيرات حتى إذا فرحوا بذلك وسكنوا إليه واطمأنوا ولم يبق بينهم من هو أهل للنجاة. قال تعالى { أخذناهم بغتة } أي فجأة بعذاب من أنواع العذاب الشديدة { فإذا هم مبلسون } آيسون من الخلاص متحسرون { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } أي استؤصلوا بالعذاب عن آخرهم. وانتهى أمرهم { والحمد لله رب العالمين } ناصر أوليائه ومهلك أعدائه فاذكر هذا لقومك يا رسولنا لعلهم يثوبون إلى رشدهم ويعودون إلى الحق الذي تدعوهم إليه وهم معرضون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من غريب أحوال الإنسان المشرك أنه في حال الشدة الحقيقية يدعو الله وحده ولا يدعو معه الآلهة الباطلة التي كان في حال الرخاء والعافية يدعوها.
2- بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم.
3- إذا رأيت الأمة قد فسقت عن أمر ربها ورسوله فعوقبت فلم تتعظ بالعقوبة واستمرت على فسقها وبسط الله تعالى لها في الرزق وأغدق عليها الخيرات فاعلم أنها قد استدرجت للهلاك وأنها هالكة لا محالة.
4- شؤم الظلم هلاك الظالمين.
5- الإرشاد إلى حمد الله تعالى عند نهاية كل عمل، وعاقبة كل أمر.
[6.46-49]
شرح الكلمات:
أرأيتم: أخبروني وفي هذه الصيغة نوع من التعجب.
أخذ سمعكم وأبصاركم: أي أصمكم وأعماكم.
وختم على قلوبكم: جعلها لا تعي ولا تفهم.
نصرف الآيات: ننوع الأساليب لزيادة البيان والإيضاح.
يصدفون: يعرضون.
بغتة أو جهرة: بغتة: بدون إعلام ولا علامة سابقة، والجهرة، ما كان بإعلام وعلامة تدل عليه.
هل يهلك: أي ما يهلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة العادلين بربهم الأصنام والأوثان إلى التوحيد فقال تعالى لنبيه يلقنه الحجج التي تبطل باطل المشركين { قل أرأيتم } أي أخبروني يا قوم { إن أخذ الله سمعكم } وجعلكم صما لا تسمعون وأخذ { أبصاركم } فكنتم عميا لا تبصرون { وختم على قلوبكم } أي طبع عليها فأصبحتم لا تعقلون ولا تفهمون. أي إله غير الله يأتيكم بالذي أخذ الله منكم؟ والجواب لا أحد، إذا فكيف تتركون عبادة من يملك سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ويملك كل شيء فيكم وعندكم، وتعبدون ما لا يملك من ذلكم من شيء؟ أي ضلال أبعد من هذا الضلال! ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { انظر } يا رسولنا { كيف نصرف الآيات } أي ننوع أساليبها زيادة في بيانها وإظهار الحجة بها { ثم هم يصدفون } أي يعرضون عادلين بربهم ما لا يملك نفعا ولا ضرا ثم أمره في الآية الثانية [47] أن يقول لهم وقد أقام الحجة عليهم في الآية الأولى [46] قل لهم { أرءيتكم } أي أخبروني { إن أتكم عذاب الله } وقد استوجبتموه بصدوفكم عن الحق وإعراضكم عنه { بغتة } أي فجأة بدون سابق علامة، { أو جهرة } بعلامة تقدمته تنذركم به أخبروني من يهلك منا ومنكم؟ { هل يهلك إلا القوم الظلمون } بصرف العبادة إلى من لا يستحقها وترك من وجبت له وهو الله الذي لا إله إلا هو ثم عزى الرحمن جل جلاله رسوله بقوله: { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } أي ما نكلفهم بغير حمل البشارة بالنجاة ودخول الجنة لمن آمن وعمل صالحا والنذارة لمن كفر وعمل سوءا، فقال تعالى: { فمن ءامن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { والذين كذبوا بآياتنا } التي نرسل بها المرسلين فلم يؤمنوا ولم يعملوا صالحا { يمسهم العذاب } عذاب النار { بما كانوا يفسقون } بسبب فسقهم عن طاعتنا وطاعة رسلنا الفسق الذي أثمره لهم التكذيب بالآيات، إذ لو آمنوا بآيات الله لما فسقوا عن طاعته وطاعة رسوله فشؤمهم تكذيبهم، وذلك جزاؤهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- افتقار العبد إلى الله في سمعه وبصره وقلبه وفي كل حياته موجب عليه عبادة الله وحده دون سواه.
2- هلاك الظالمين لا مناص منه عاجلا أو آجلا.
3- بيان مهمة الرسل وهي البشارة لمن أطاع والنذارة لمن عصى والهداية والجزاء على الله تعالى.
4- الفسق عن طاعة الله ورسوله ثمرة التكذيب، والطاعة ثمرة الإيمان.
[6.50-53]
شرح الكلمات:
خزائن: جمع خزانة أو خزينة ما يخزن فيه الشيء ويحفظ.
الغيب: ما غاب عن العيون وكان محصلا في الصدور وهو نوعان غيب حقيقي وغيب إضافي فالحقيقي ما لا يعلمه إلا الله تعالى، والإضافي ما يعلمه أحد ويجهله آخر.
أنذر به: خوف به أي بالقرآن.
الغداة: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والعشي من صلاة العصر إلى غروب الشمس.
فتطردهم: أي تبعدهم من مجلسك.
فتنا: ابتلينا بعضهم ببعض الغني بالفقير، والشريف بالوضيع.
من الله علينا: أي أعطاهم الفضل فهداهم إلى الإسلام دوننا.
بالشاكرين: المستوجبين لفضل الله ومنته بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع العادلين بربهم الأصنام المنكرين للنبوة المحمدية فأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم: { لا أقول لكم عندي خزآئن الله } أي خزائن الأرزاق { ولا أعلم الغيب } أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب، { ولا أقول لكم إني ملك } من الملائكة ما أنا إلا عبد رسول أتبع ما يوحي إلي ربي فأقول وأعمل بموجب وحيه إلي. ثم قال له اسألهم قائلا { هل يستوي الأعمى والبصير }؟ والجواب لا، فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر، والمهدي والضال { أفلا تتفكرون } أي ما لكم لا تتفكرون فتهتدوا للحق وتعرفوا سبيل النجاة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [50] أما الآية الثانية [51] فإن الله تعالى يأمر رسوله أن ينذر بالقرآن المؤمنين العاصين فقال { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } يوم القيامة وهم مذنبون، وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع فهؤلاء ينفعهم إنذارك بالقرآن أما الكفرة المكذبون فهم كالأموات لا يستجيبون وهذا كقوله تعالى من سورة ق
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد
[الآية: 45] فهؤلاء إن أنذرتهم يرجى لهم أن يتقوا معاصي الله ومعاصيك أيها الرسول وهو معنى قوله تعالى: { لعلهم يتقون }. هذا ما تضمنته الآية الثانية [51] أما الآية الثالثة [52] وهي قوله تعالى { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } فإن بعض المشركين في مكة اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعد من مجلسه فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب حتى يجلسوا إليه ويسمعوا عنه فهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعل رجاء هداية أولئك المشركين فنهاه الله تعالى عن ذلك بقوله { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } في صلاة الصبح، وصلاة العصر، يريدون وجه الله ليرضى عنهم ويقربهم ويجعلهم من أهل ولايته وكرامته، ومبالغة في الزجر عن هذا الهم قال تعالى: { ما عليك من حسابهم من شيء } أي ما أنت بمسؤول عن خطاياهم إن كانت لهم خطايا، ولا هم بمسئولين عنك فلم تطردهم إذا؟ { فتطردهم فتكون من الظالمين } أي فلا تفعل، ولم يفعل صلى الله عليه وسلم وصبر عليهم وحبس نفسه معهم وفي الآية الأخيرة [53] يقول تعالى: { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } أي هكذا ابتلينا بعضهم ببعض هذا غني وذاك فقير، وهذا وضيع وذاك شريف، وهذا قوي وذاك ضعيف ليؤول الأمر ويقول الأغنياء الشرفاء للفقراء الضعفاء من المؤمنين استخفافا بهم واحتقارا لهم: أهؤلاء الذين من الله عليهم بيننا بالهداية والرشد قال تعالى: { أليس الله بأعلم بالشكرين }.
بلى فالشاكرون هم المستحقون لإنعام الله بكل خير وأما الكافرون فلا يعطون ولا يزادون لكفرهم النعم، وعدم شكرهم لها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- تقرير مبدأ أن الرسول لا يعلم الغيب، وأنه لا يتصرف في شيء من الكون.
3- نفي مساواة المؤمن والكافر إذ المؤمن مبصر والكافر أعمى.
4- استحباب مجالسة أهل الفاقة وأهل التقوى والإيمان.
5- بيان الحكمة في وجود أغنياء وفقراء وأشراف ووضعاء، وأقوياء وضعفاء وهي الاختبار.
6- الشاكرون مستوجبون لزيادة النعم، والكافرون مستوجبون لنقصانها وذهابها.
[6.54-58]
شرح الكلمات:
سلام عليكم: دعاء بالسلامة من كل مكروه، وهي تحية المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة في الجنة.
كتب ربكم على نفسه الرحمة: أي أوجب الرحمة على نفسه فلذا لا يعذب إلا بعد الإنذار، ويقبل توبة من تاب.
سوءا: أي ذنبا أساء به إلى نفسه.
بجهالة: الجهالة أنواع منها: عدم تقدير عاقبة الذنب، ونسيان عظمة الرب.
تستبين: تتضح وتظهر.
نهيت: أي نهاني ربي أي زجرني عن عبادة أصنامكم.
تدعون: تعبدون.
بينة: البينة: الحجة الواضحة العقلية الموجبة للحكم بالفعل أو الترك.
إن الحكم: أي ما الحكم إلا لله.
يقص الحق: أي يخبر بالحق.
خير الفاصلين: الفصل في الشيء: القضاء والحكم فيه، والفاصل في القضية: الحاكم فيها ومنهيها.
معنى الآيات:
يرشد الله تبارك وتعالى رسوله إلى الطريقة المثلى في الدعوة إليه، بعد أن نهاه عن الطريقة التي هم بها وهي طرد المؤمنين من مجلسه ليجلس الكافرون رجاء هدايتهم فقال تعالى: { وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا } أي يصدقون بنبوتك وكتابك وما جئت به من الدين الحق فهؤلاء رحب بهم وقل سلام عليكم ومهما كانت ذنوبهم التي ارتكبوها، وأخبرهم أن ربهم تعالى قد كتب على نفسه الرحمة فلا يخافون ذنوبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى ربهم بالإيمان به وتوطين النفس على طاعته، { أنه من عمل منكم سوءا بجهلة ثم تاب من بعده } أي أقلع عن الذنب نادما مستغفرا، وأصلح نفسه بالصالحات فإن ربه غفور رحيم فسيغفر له ويرحمه. هكذا يستقبل كل عبد جاء مؤمنا مستفتيا يسأل عن طريق النجاة يستقبل بالبشر والطلاقة والتحية والسلام لا بالعنف والتقريع والتوبيخ. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [54] أما الآية الثانية [55] فإنه تعالى بعد أن نهى رسوله عن الاستجابة لاقتراح المشركين المتكبرين، وعن طرد المؤمنين وعن حكمته في وجود أغنياء وفقراء وأقوياء وضعفاء في الناس وعن الطريقة المثلى في استقبال التائبين المستفتين بعد هذا كله قال تعالى: { وكذلك نفصل الآيات } أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات مستقبلا لبيان الهداية الإلهية ليهتدي من أراد الله له الهداية وقد طلبها ورغب فيها، ولتستبين وتتضح سبيل المجرمين، فلا تتبع وينهى عن اتباعها، لأنها طريق الهلاك والدمار. هذا ما أفادته الآية الثانية أما الآيات الثالثة والرابعة والخامسة في هذا السياق فهي تحمل الهداية الإلهية للرسول صلى الله عليه وسلم في طريق دعوته إلى ربه فكل آية من تلك الآيات مفتتحة بكلمة (قل) أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين يدعونك إلى موافقتهم على شركهم وعبادة غيري معهم { إني نهيت } أي نهاني ربي أن أعبد ما تدعون من الأصنام والأوثان، وقل لهم: لا أتبع أهواءكم في عبادة غير الله تعالى الموروثة لكم عن آبائكم الضلال مثلكم إني إن فعلت أكون قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين إلى سبل الفوز والفلاح.
وقل: { إني على بينة من ربي } أي على علم يقيني من وجوب الإيمان بالله ووجوب توحيده وطاعته ووجوب الدعوة إلى ذلك، وكذبتم أنتم بهذا كله، وبالعذاب إذ أنذرتكم به وأنا ما عندي ما تستعجلون به من العذاب، ولو كان عندي لحل بكم وانتهى أمركم، ولكن الحكم لله ليس لأحد غيره وقد قص عليكم أخبار السابقين المطالبين رسلهم بالعذاب ورأيتم كيف حل بهم العذاب، { إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفصلين } فإذا أراد أن يحكم بيني وبينكم فإنه نعم الحكم والعدل وهو خير الحاكمين. وقل لهم يا رسولنا { لو أن عندي ما تستعجلون به } من العذاب { لقضي الأمر بيني وبينكم } بتدمير الظالم منا، { والله أعلم بالظالمين } ، ولا يهلك غيرهم لأنهم المستوجبون للعذاب بظلمهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم.
2- اتباع أهواء أهل الأهواء والباطل يضل ويهلك.
3- على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله تعالى وبتوحيده ووعده ووعيده وأحكام شرعه.
4- وجوب الصبر والتحمل مما يلقاه الداعي من أهل الزيغ والضلال من الاقتراحات الفاسدة.
[6.59-62]
شرح الكلمات:
مفاتح الغيب: المفاتح: جمع مفتح بفتح الميم أي المخزن.
البر والبحر: البر ضد البحر، وهو اليابس من الأرض، والبحر ما يغمره الماء منها.
ورقة: واحدة الورق والورق للشجر كالسعف للنخل.
حبة: واحدة الحب من ذرة أو بر أو شعير أو غيرها.
ولا رطب: الرطب ضد اليابس من كل شيء.
في كتاب مبين: أي في اللوح المحفوظ كتاب المقادير.
يتوفاكم بالليل: أي ينيمكم باستتار الأرواح وحجبها عن الحياة كالموت.
جرحتم: أي كسبتم بجوارحكم من خير وشر.
ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى: أي يوقظكم لتواصلوا العمل إلى نهاية الأجل المسمى لكم.
حفظة: الكرام الكاتبين.
رسلنا: ملك الموت وأعوانه.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في نهاية الآية السابقة أنه أعلم بالظالمين المستحقين للعقوبة أخبر عز وجل أن الأمر كما قال ودليل ذلك أنه عالم الغيب والشهادة، إذ { وعنده مفاتح الغيب } أي خزائن الغيب وهو الغيب الذي استأثر بعلمه فلا يعلمه سواه ويعلم ما في البر والبحر وهذا من عالم الشهادة، إضافة إلى ذلك أن كل شيء كان أو يكون من أحداث العالم قد حواه كتاب له اسمه اللوح المحفوظ، وهو ما دل عليه قوله: { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمت الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين } وما كتبه قبل وجوده فقد علمه إذا فهو عالم الغيب والشهادة أحصى كل شيء عددا وأحاط بكل شيء علما، فكيف إذا لا يعبد ولا يرغب فيه ولا يرهب منه وأين هو في كماله وجلاله من أولئك الأموات من أصنام وأوثان.؟؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى [59] وأما الآية الثانية [60] فقد قررت ما دلت عليه الآية قبلها من قدرة الله وعلمه وحكمته فقال تعالى مخبرا عن نفسه { وهو الذي يتوفكم باليل } حال نومكم إذ روح النائم تقبض ما دام نائما ثم ترسل إليه عند إرادة الله بعثه من نومه أي يقظته، وقوله { ثم يبعثكم فيه } أي في النهار المقابل لليل، وعلة هذا أن يقضى ويتم الأجل الذي حدده تعالى للإنسان يعيشه وهو مدة عمره طالت أو قصرت، وهو معنى قوله { ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى } وقوله تعالى { ثم إليه مرجعكم } لا محالة وذلك بعد نهاية الأجل، { ثم ينبئكم } بعلمه { بما كنتم تعملون } من خير وشر ويجازيكم بذلك وهو خير الفاصلين. وفي الآية الثالثة يخبر تعالى عن نفسه أيضا تقريرا لعظيم سلطانه الموجب له بالعبادة والرغبة الرهبة إذ قال مخبرا عن نفسه { وهو القاهر فوق عباده } ، ذو القهر التام والسلطان الكامل على الخلق أجمعين { ويرسل عليكم } أيها الناس { حفظة } بالليل والنهار يكتبون أعمالكم وتحفظ لكم لتجزوا بها { حتى إذا جآء أحدكم الموت } لانقضاء أجله { توفته رسلنا } ملك الموت وأعوانه، { وهم لا يفرطون } أي لا يضيعون ولا يقصرون وأخيرا يقول تعالى مخبرا بالأمر العظيم إنه الوقوف بين يدي الرب تعالى المولى الحق الذي يجب أن يعبد دون سواه، وقد كفره أكثر الناس وعصوه، وفسقوا عن أمره وتركوا طاعته وأدهى من ذلك عبدوا غيره من مخلوقاته فكيف يكون حسابهم والحكم عليهم؟ والله يقول: { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة لله تعالى.
2- استئثار الله تعالى بعلم الغيب.
3- كتاب المقادير حوى كل شيء حتى سقوط الورقة من الشجرة وعلم الله بذلك.
4- صحة إطلاق الوفاة على النوم، وبهذا فسر قوله تعالى لعيسى إني متوفيك.
5- تقرير مبدأ المعاد والحساب والجزاء.
[6.63-67]
شرح الكلمات:
ينجيكم: يخلصكم مما تخافون.
تضرعا وخفية: التضرع: الدعاء بتذلل وخفية بدون جهر بالدعاء.
من هذه: أي الهلكة.
من الشاكرين: المعترفين بفضلك الحامدين لك على فعلك.
كرب: الكرب: الشدة الموجبة للحزن وألم الجسم والنفس.
تشركون: أي به تعالى بدعائهم أصنامهم وتقربهم إليها بالذبائح.
من فوقكم: كالصواعق ونحوها.
من تحت أرجلكم: كالزلزال والخسف ونحوهما.
أو يلبسكم شيعا: أي يخلط عليكم أمركم فتختلفون شيعا وأحزابا.
ويذيق بعضكم بأس بعض: أي يقتل بعضكم بعضا فتذيق كل طائفة الأخرى ألم الحرب.
يفقهون: معاني ما نقول لهم.
وكذب به قومك: أي قريش.
الوكيل: من يوكل إليه الشيء أو الأمر يدبره.
لكل نبأ مستقر: المستقر: موضع الاستقرار والنبأ: الخبر العظيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع المشركين العادلين بربهم فيقول الله تعالى لرسوله قل لهم: { من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } إذا ضل أحدكم طريقه في الصحراء ودخل عليه ظلام الليل، أو ركب البحر فغشيته ظلمة السحاب والليل والبحر واضطربت نفسه من الخوف يدعو من؟ إنه يدعو الله وحده لعلمه أنه لا ينجيه إلا هو يدعوه ويتضرع إليه جهرا وسرا قائلا وعزتك لئن أنجيتنا من هذه الهلكة التي حاقت بنا لنكونن من الشاكرين لك. ثم إذا نجاكم استجابة لدعائكم وأمنتم المخاوف عدتم فجأة إلى الشرك به بدعاء غيره. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [63] { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين } ، وفي الآية الثانية [64] يأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم جوابا لقوله من ينجيكم: { الله ينجيكم منها } أي من تلك الحالة التي اضطربت لها نفوسكم وخشيتم فيها الهلاك وينجيكم أيضا من كل كرب، ثم مع هذا يا للعجب أنتم تشركون به تعالى أصنامكم. قل لهم يا رسولنا أن الله الذي ينجيكم من كل كرب هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من السماء فوقكم، أو من الأرض تحتكم، أو يخلط عليكم أمركم فتتنازعوا فتختلفوا فتصبحوا شيعا وطوائف وفرقا متعادية يقتل بعضكم بعضا، فيذيق بعضكم بأس بعض، ثم قال الله تعالى لرسوله انظر يا رسولنا كيف نفصل الآيات بتنويع الكلام وتوضيح معانيه رجاء أن يفقهوا معنى ما نقول لهم فيهتدوا إلى الحق فيؤمنوا بالله وحده ويؤمنوا بلقائه وبرسوله وما جاء به فيكملوا ويسعدوا وفي الآية [65] يخبر تعالى بواقع القوم: أنهم كذبوا بهذا القرآن وما أخبرهم به من الوعيد الشديد وهو الحق الذي ليس بباطل ولا يأتيه الباطل، ويأمر رسوله أن يقول لهم بعد تكذيبهم له { لست عليكم بوكيل } فأخاف من تبعة عدم إيمانكم وتوحيدكم { لكل نبإ مستقر } وقد أنبأتكم بالعذاب على تكذيبكم وشرككم { وسوف تعلمون } ذلك يوم يحل بكم وقد استقر نبأه يوم بدر والحمد لله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا برهان أعظم على بطلان الشرك من أن المشركين يخلصون الدعاء لله تعالى في الشدة.
2- لا منجي من الشدائد ولا منقذ من الكروب إلا الله سبحانه وتعالى.
3- التحذير من الاختلاف المفضي إلى الانقسام والتكتل.
4- { لكل نبإ مستقر }. أجري مجرى المثل، وكذا { وسوف تعلمون }.
[6.68-70]
شرح الكلمات:
يخوضون في آياتنا: يتكلمون في القرآن طعنا فيه ونقدا له ولما جاء فيه.
فأعرض عنهم: قم محتجا على صنيعهم الباطل، غير ملتفت إليهم.
بعد الذكرى: أي بعد التذكر.
ولكن ذكرى: أي موعظة لهم.
وذر الذين: أي اترك الكافرين.
لعبا ولهوا: كونه لعبا لأنه لا يجنون منه فائدة قط، وكونه لهوا لأنهم يتلهون به وشغلهم عن الدين الحق الذي يكملهم ويسعدهم.
أن تبسل نفس: أي تسلم فتؤخذ فتحبس في جهنم.
كل عدل: العدل هنا: الفداء.
أبسلو: حبسوا في جهنم بما كسبوا من الشرك والمعاصي.
من حميم: الحميم الماء الشديد الحرارة الذي لا يطاق.
وعذاب أليم: أي شديد الألم والإيجاع وهو عذاب النار.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث مع أولئك العادلين المكذبين فيقول الله تعالى لرسوله { وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا } يستهزئون بالآيات القرآنية ويسخرون مما دلت عليه من التوحيد والعذاب للكافرين { فأعرض عنهم } أي فصد عنهم وانصرف { حتى يخوضوا في حديث غيره } وإن أنساك الشيطان نهينا هذا فجلست ثم ذكرت فقم ولا تقعد مع القوم الظالمين، وقوله تعالى: { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } أي وليس على المؤمنين المتقين أنت وأصحابك يا رسولنا من تبعة ولا مسئولية ولكن إذا خاضوا في الباطل فقوموا ليكون ذلك ذكرى لهم فيكفون عن الخوض في آيات الله تعالى. وهذا كان بمكة قبل قوة الإسلام، ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله ومن جلس معهم يكون مثلهم وهو أمر عظيم قال تعالى:
وقد نزل عليكم في الكتب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم
[النساء: 140] هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية.
أما الثالثة [70] فإن الله تعالى يأمر رسوله أن يترك اتخذوا دينهم الحق الذي جاءهم به رسول الحق لعبا ولهوا يلعبون به أو يسخرون منه ويستهزئون به وغرتهم الحياة الدنيا قال تعالى: { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا } اتركهم فلا يهمك أمرهم وفي هذا تهديد لهم على ما هم عليه من الكفر والسخرية والاستهزاء، وقد أخبر تعالى في سورة الحجر أنه كفاه أمرهم إذ قال
إنا كفيناك المستهزئين
[الحجر: 95]، وقوله تعالى { وذكر به } أي بالقرآن { أن تبسل نفس } أي كي لا تبسل { بما كسبت } أي كي لا تسلم نفس للعذاب بما كسبت من الشرك والمعاصي. { ليس لها } يوم تسلم للعذاب { من دون الله ولي } يتولى خلاصها، { ولا شفيع } يشفع لها فينجيها من عذاب النار { وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ } أي وإن تقدم ما أمكنها حتى ولو كان ملء الأرض ذهبا فداء لها لما نفعها ذلك ولم نجت من النار، ثم قال تعالى: { أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم } أبلسوا: أسلموا وأخذوا إلى جهنم بما كسبوا من الذنوب والآثام لهم في جهنم شراب من ماء حميم حار وعذاب موجع أليم.
وذلك بسبب كفرهم بالله وآياته ورسوله. حيث نتج عن ذلك خبث أرواحهم فما أصبح يلائم وصفهم إلا عذاب النار قال تعالى من هذه السورة سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الجلوس في مجالس يسخر فيها من الإسلام وشرائعه وأحكامه وأهله.
2- وجوب القيام احتجاجا من أي مجلس يعصى فيه الله ورسوله.
3- مشروعية الإعراض في حال الضعف عن المستهزئين بالإسلام الذين غرتهم الحياة الدنيا من أهل القوة والسلطان وحسب المؤمن أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم.
4- وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذين يرجى توبتهم.
5- من مات على كفره لم ينج من النار إذ لا يجد فداء ولا شفيعا يخلصه من النار بحال.
[6.71-73]
شرح الكلمات:
أندعوا: أي نعبد.
ما لا ينفعنا ولا يضرنا: أي ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا لو أراد ذلك لنا.
ونرد على أعقابنا: أي نرجع كفارا بعد أن كنا مؤمنين.
استهوته الشياطين: أي أضلته في الأرض فهوى فيها تائه حيران لا يدري أين يذهب.
واتقوه: أي اتقوا الله بتوحيده في عبادته وترك معصيته.
ويوم يقول كن فيكون: أي في يوم القيامة.
الصور: بوق كالقرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام.
الحكيم: في أفعاله الخبير بأحوال عباده.
معنى الآيات:
يدل السياق على أن عرضا من المشركين كان لبعض المؤمنين لأن يعبدوا معهم آلهتهم فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم عرضهم الرخيص منكرا عليهم ذلك أشد الإنكار { قل أندعوا من دون الله } ، الاستفهام للإنكار، { ما لا ينفعنا } إن عبدناه، { ولا يضرنا } إن تركنا عبادته وبذلك نصبح وقد رددنا على أعقابنا من التوحيد إلى الشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإيمان به ومعرفته ومعرفة دينه، فيكون حالنا كحال من أضلته الشياطين في الصحراء فتاه فيها فلا يدري أين يذهب ولا أين يجيىء، { له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا } وهو لا يقدر على إجابتهم ولا الاتيان إليهم لشدة ما فعل استهواء الشياطين في عقله. ثم أمره أن يقول أيضا قل إن الهدى الحق الذي لا ضلال ولا خسران فيه هدى الله الذي هدانا إليه ألا إنه الإسلام، وقد أمرنا ربنا أن نسلم له قلوبنا ووجوهنا لأنه رب العالمين فأسلمنا، كما أمرنا أن نقيم الصلاة فأقمناها وأن نتقيه فاتقيناه وأعلمنا أنا سنحشر إليه يوم القيامة فصدقناه في ذلك ثم هدانا فلن نرجع بعد إلى الضلالة. هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة [73] فقد تضمنت تمجيد الرب بذكر مظاهر قدرته وعلمه وعدله فقال تعالى: { وهو } أي الله رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له فأسلمنا { الذي خلق السموت والأرض بالحق } فلم يخلقهما عبثا وباطلا بل خلقهما ليذكر فيهما ويشكر، ويوم يقول لما أراد إيجاده أو إعدامه أو تبديله كن فهو يكون كما أراد في قوله الحق دائما { وله الملك يوم ينفخ في الصور } نفخة الفناء فلا يبقى شيء إلا هو الواحد القهار فيقول جل ذكره
لمن الملك اليوم
[غافر: 16] فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه قائلا:
لله الواحد القهار
[غافر: 16] { علم الغيب والشهدة } أي يعلم ما غاب في خزائن الغيب عن كل أحد، ويعلم الشهادة والحضور لا يخفي عليه أحد وهو الحكيم في تصرفاته وسائر أفعاله وتدابيره لمخلوقاته الخبير ببواطن الأمور وظواهرها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء بهذا كان المعبود الحق الذي لا يجوز أن يعبد سواه بأي عبادة من العبادات التي شرعها سبحانها وتعالى ليعبد بها.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- قبح الردة وسوء عاقبتها.
2- حرمة إجابة أهل الباطل لما يدعون إليه من الباطل.
3- لا هدى إلا هدى الله تعالى أي لا دين إلا الإسلام.
4- وجوب الإسلام لله تعالى وإقامة الصلاة واتقاء الله تعالى بفعل المأمور وترك المنهي.
5- تقرير المعاد والحساب والجزاء.
[6.74-79]
شرح الكلمات:
إبراهيم: هو إبراهيم خليل الرحمن بن آزر من أولاد سام بن نوح عليه السلام.
أصناما: جمع صنم تمثال من حجر.
آلهة: جمع إله بمعنى المعبود.
في ضلال: عدول عن طريق الحق.
ملكوت: ملك.
جن عليه الليل: أظلم.
فلما أفل: أي غاب.
بازغا: طالعا والبزوغ الطلوع.
الضالين: العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل.
وجهت وجهي: أقبلت بقلبي على ربي وأعرضت عما سواه.
حنيفا: مائلا عن الضلال إلى الهدى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان الهدى للعادلين بربهم أصناما يعبدونها لعلهم يهتدون فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } ، أي واذكر لهم قول إبراهيم لأبية آزر: { أتتخذ أصناما آلهة } أي أتجعل تماثيل من حجارة آلهة. أربابا تعبدها أنت وقومك { إني أراك } يا أبت { وقومك في ضلال مبين } عن طريق الحق الذي ينجو ويفلح سالكه هذا ما دلت عليه الآية الأولى [74] أما الآية الثانية [75] فإن الله تعالى يقول: { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض } أي كما أريناه الحق في بطلان عبادة أبيه للأصنام نريه أيضا مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السماوات والأرض، ليكون بذلك من جملة الموقنين، واليقين من أعلى مراتب الإيمان. هذا ما دلت عليه الآية الثانية وفي الثالثة [76] فصل الله تعالى ما أجمله في قوله { نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض } فقال تعالى: { فلما جن عليه الليل } أي أظلم { رأى كوكبا } قد يكون الزهرة { قال هذا ربي فلمآ أفل } أي غاب الكوكب { قال لا أحب الآفلين } ، { فلمآ رأى القمر بازغا } أي طالعا { قال هذا ربي فلمآ أفل } أي غاب { قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } ، في معرفة ربهم الحق. { فلما رأى الشمس بازغة } أي طالعة { قال هذا ربي هذآ أكبر } يعني من الكوكب والقمر { فلمآ أفلت } أي غابت بدخول الليل { قال يقوم إني بريء مما تشركون }. هكذا واجه إبراهيم قومه عبدة الكواكب التي تمثلها أصنام منحوته واجههم بالحقيقة التي أراد أن يصل إليهم معهم وهي إبطال عبادة غير الله تعالى فقال { إني وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض حنيفا } لا كما توجهون أنتم وجوهكم لأصنام نحتموها بأيديكم وعبدتموها بأهوائكم لا بأمر ربكم، وأعلن براءته في وضوح وصراحة: فقال: { ومآ أنا من المشركين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إنكار الشرك على أهله، وعدم إقرارهم ولو كانوا أقرب الناس إلى المرء.
2- فضل الله تعالى وتفضله على من يشاء بالهداية الموصلة إلى أعلى درجاتها.
3- مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها، ويتم بالتفكر والنظر في الآيات.
4- الاستدلال بالحدوث على وجود الصانع الحكيم وهو الله عز وجل.
5- سنة التدرج في التربية والتعليم.
6- وجوب البراءة من الشرك وأهله.
[6.80-83]
شرح الكلمات:
حاجة قومه: جادلوه وحاولوا غلبه بالحجة، والحجة: البينة والدليل القوي.
أتحآجوني في الله: أتجادلونني في توحيد الله وقد هداني إليه، فكيف أتركه وأنا منه على بينة.
سلطانا: حجة وبرهانا.
الأمن: خلاف الخوف.
ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك.
معنى الآيات:
لما أقام إبراهيم الدليل على بطلان عبادة غير الله تعالى وتبرأ من الشرك والمشركين حاجه قومه في ذلك فقال منكرا عليهم ذلك: { أتحجوني في الله وقد هدان } أي كيف يصح منكم جدال لي في توحيد الله وعبادته, وترك عبادة من سواه من الآلهة المدعاة وهي لم تخلق شيئا ولم تنفع ولم تضر، ومع هذا فقد هداني إلى معرفته وتوحيده وأصبحت على بينة منه سبحانه وتعالى، هذا ما دل عليه قوله تعالى، { وحآجه قومه قال أتحجوني في الله وقد هدان }. ولا شك أنهم لما تبرأ من آلهتهم خوفوه بها وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه فرد ذلك عليهم قائلا: { ولا أخاف ما تشركون به } من آلهة أن تصيبني بأذى، { إلا أن يشآء ربي شيئا } فإنه يكون قطعا فقد { وسع ربي كل شيء علما } ، ثم وبخهم قائلا { أفلا تتذكرون } فتذكروا ما أنتم عليه هو الباطل، وأن ما أدعوكم إليه هو الحق، ثم رد القول عليهم قائلا { وكيف أخاف مآ أشركتم } وهي أصنام جامدة لا تنفع ولا تضر لعجزها وحقارتها وضعفها، ولا تخافون أنتم الرب الحق الله الذي لا إله إلا هو المحيي المميت الفعال لما يريد، وقد أشركتم به أصناما ما أنزل عليكم في عبادتها حجة ولا برهانا تحتجون به على عبادتها معه سبحانه وتعالى. ثم قال لهم استخلاصا للحجة وانتزاعا لها منهم فأي الفريقين أحق بالأمن من الخوف: أنا الموحد للرب، أم أنتم المشركون به؟ والجواب معروف وهو من يعبد ربا واحدا أحق بالأمن ممن يعبد آلهة شتى جمادات لا تسمع ولا تبصر. وحكم الله تعالى بينهم وفصل فقال: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } أي ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، { أولئك لهم الأمن } أي في الدنيا والآخرة { وهم مهتدون } في حياتهم إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهو الإسلام الصحيح ثم قال تعالى: { وتلك حجتنآ ءاتينهآ إبرهيم على قومه } إشارة إلى ما سبق من محاجة إبراهيم قومه ودحض باطلهم وإقامة الحجة عليهم. وقوله { نرفع درجت من نشآء } تقرير لما فضل به إبراهيم على غيره من الإيمان واليقين والعلم المبين. ثم علل تعالى لذلك بقوله: { إن ربك حكيم عليم }. حكيم في تدبيره عليم بخلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية جدال المبطلين والمشركين لإقامة الحجة عليهم علهم يهتدون.
2- بيان ضلال عقول أهل الشرك في كل زمان ومكان.
3- التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه.
4- أحق العباد بالأمن من الخوف من آمن بالله ولم يشرك به شيئا.
5- تقرير معنى
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257].
[6.84-87]
شرح الكلمات:
وهبنا له: أعطيناه تكرما منا وإفضالا.
إسحاق ويعقوب: إسحاق بن إبراهيم الخليل ويعقوب ولد إسحاق ويلقب بإسرائيل.
كلا هدينا: أي كل واحد منهما هداه إلى صراطه المستقيم.
ومن ذريته: أي ذرية إبراهيم.
داود وسليمان: داود الوالد وسليمان الولد وكل منهما ملك ورسول.
وزكريا ويحيى: زكريا الوالد ويحيى الولد وكل منهما كان نبيا رسولا.
على العالمين: أي عالمي زمانهم لا على الإطلاق، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء.
ومن ذرياتهم: أي من بعض الآباء والذرية والإخوة لا الجميع.
اجتبيناهم: اخترناهم للنبوة والرسالة وهديناهم إلى الإسلام.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى ما آتى إبراهيم خليله من قوة الحجة والغلبة على أعدائه ذكر منة أخرى من بها عليه وهي أنه وهبه إسحاق ويعقوب بعد كبر سنه، إسحاق الولد ويعقوب الحفيد وأنه تعالى هدى كلا منهم الوالد والولد والحفيد، كما أخبر تعالى أنه هدى من قبلهم نوحا، وهدى من ذريته أي إبراهيم، وإن كان الكل من ذرية نوح، أي هدى من ذرية إبراهيم داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وأشار تعالى إلى أنهم كانوا محسنين، فجزاهم جزاء المحسنين والإحسان هو الإخلاص في العمل وأداؤه على الوجه الذي يرضي الرب تبارك وتعالى مع الإحسان العام لسائر المخلوقات بما يخالف الإساءة إليهم في القول والعمل. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [84] وأما الآية الثانية [85] فقد ذكر تعالى أنه هدى كذلك إلى حمل رسالته والدعوة إليه والقيام بواجباته وتكاليف شرعه كلا من زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وأخبر أن كل واحد منهم كان من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله كاملة وحقوق عباده كذلك كاملة غير ناقصة وكانت المجموعة الأولى داود وسليمان ومن ذكر بعدهما الصفة الغالبة عليهم الإحسان لأنه كان فيهم ملك وسلطان ودولة، والمجموعة الثانية وهي زكريا ويحيى وعيسى وإلياس الصفة الغالية عليهم الصلاح لأنهم كانوا أهل زهد في الدنيا وأعراضها، والمجموعة الثالثة والأخيرة في الآية الثالثة [86] وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط لم يغلب عليهم وصف مما وصف به المجموعتان الأولى والثانية، لأنهم وسط بين المجموعتين، فذكر تعالى أن كل واحد منهم فضله على عالمي زمانه، وكفى بذلك شرفا وكرما وخيرا. وأما الآية الأخيرة [87] فإن الله تعالى يقول فيها، ومن آباء المذكورين من الأنبياء ومن ذرياتهم وإخوانهم هديناهم أيضا وإن لم نذكر أسماءهم فهم كثير هديناهم إلى ما هدينا إليه آباءهم من الحق والدين الخالص الذي لا شائبة شرك فيه، واجتبينا الجميع اخترناهم للنبوة والرسالة { وهديناهم إلى صراط مستقيم } وهو الدين الإسلامي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- سعة فضل الله.
2- خير ما يعطى المرء في هذه الحياة الهداية إلى صراط مستقيم.
3- فضيلة كل من الإحسان والصلاح.
4- لا منافاة بين الملك والنبوة أو الإمارة والصلاح.
5- فضيلة الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة.
[6.88-90]
شرح الكلمات:
هدى الله: الهدى ضد الضلال، وهدى الله ما يهدي إليه من أحب من عباده وهو الإيمان والاستقامة.
حبط عنهم ما كانوا يعملون: أي بطلت أعمالهم فلم يثابوا عليها بقليل ولا كثير.
الحكم: الفهم للكتاب مع الإصابة في الأمور والسداد فيها.
يكفر بها هؤلاء: يجحد بها أي بدعوتك الإسلامية هؤلاء: أي أهل مكة.
قوما ليسوا بها بكافرين: هم المهاجرون والأنصار بالمدينة النبوية.
اقتده: اقتد: أي اتبع وزيدت الهاء للسكت.
عليه أجرا: أي على إبلاغ دعوة الإسلام ثمنا مقابل الإبلاغ.
ذكرى: الذكرى: ما يذكر به الغافل والناسي فيتعظ.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر ما وهب الله تعالى لمن شاء من عباده من هدايات وكمالات لا يقدر على عطائها إلا هو فقال ذلك في الآية الأولى [88] ذلك المشار إليه ما وهبه أولئك الرسل الثمانية عشر رسولا وهداهم إليه من النبوة والدين الحق هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده. وقوله تعالى: { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } يقرر به حقيقة علمية، وهي أن الشرك محبط للعمل فإن أولئك الرسل على كمالهم وعلو درجاتهم لو أشركوا بربهم سواه فعبدوا معه غيره لبطل كل عمل عملوه، وهذا من باب الافتراض، وإلا فالرسل معصومون ولكن ليكون هذا عظة وعبرة للناس. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية [89] فقد أشاد الله تعالى بأولئك الرسل السابقي الذكر مخبرا أنهم هم الذين آتاهم الكتاب وهي صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داوود وإنجيل عيسى والحكم وهو الفهم والإصابة والسداد في الأمور كلها. ثم قال تعالى فإن يكفر بهذه الآيات القرآنية وما تحمله من شرائع وأحكام وهداية الإسلام { فإن يكفر بها هؤلاء } من أهل مكة { فقد وكلنا بها قوما } من قبل وهم الرسل المذكورون في هذا السياق وقوما هم موجودون وهم المهاجرون والأنصار من أهل المدينة، ومن يأتي بعد من سائر البلاد والأقطار وقوله تعالى: { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ، يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بأولئك الأنبياء المرسلين في كمالاتهم كلها حتى يجمع صلى الله عليه وسلم كل كمال فيهم فيصبح بذلك أكملهم على الإطلاق. وكذلك كان، وقوله تعالى في ختام الآية الكريمة: { قل لا أسألكم عليه أجرا } يأمره تعالى أن يقول لأولئك العادلين بربهم الأصنام والأوثان المكذبين بنبوته وكتابه: ما أسألكم على القرآن الذي أمرت أن أقرأه عليكم لهدايتكم أجرا أي مالا مقابل تبليغه إياكم { إن هو إلا ذكرى للعالمين } أي ما القرآن إلا موعظة للعالمين يتعظون بها إن هم القوا أسماعهم وتجردوا من أهوائهم وأرادوا الهداية ورغبوا فيها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الشرك محبط للعمل كالردة والعياذ بالله تعالى.
2- فضل الكتاب الكريم والسنة النبوية.
3- وجوب الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهل العلم والصلاح من هذه الأمة.
4- حرمة أخذ الأجرة على تبليغ الدعوة الإسلامية.
5- القرآن الكريم ذكرى لكل من يقرأه أو يستمع إليه وهو شهيد حاضر القلب.
[6.91-92]
شرح الكلمات:
وما قدروا الله حق قدره: ما عظموه التعظيم اللائق به ولا عرفوه حق معرفته.
على بشر: أي إنسان من بني آدم.
الكتاب الذي جاء به موسى: التوراة.
قراطيس: جمع قرطاس: وهو ما يكتب عليه من ورق وغيره.
تبدونها: تظهرونها.
قل الله: هذا جواب: من أنزل الكتاب؟
ذرهم: اتركهم.
في خوضهم: أي ما يخوضون فيه من الباطل.
مبارك: أي مبارك فيه فخبره لا ينقطع، وبركته لا تزول.
أم القرى: مكة المكرمة.
يحافظون: يؤدونها بطهارة في أوقاتها المحددة لها في جماعة المؤمنين.
معنى الآيتين:
ما زال السياق مع العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فقد أنكر تعالى عليهم إنكارهم للوحي الإلهي وتكذيبهم بالقرآن الكريم إذ قالوا: { مآ أنزل الله على بشر من شيء } ، ومن هنا قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره } أي ما عظموه كما ينبغي تعظيمه لما قالوا: { مآ أنزل الله على بشر من شيء } ، ولقن رسوله الحجة فقال له قل لهم: { من أنزل الكتب الذي جآء به موسى نورا } يستضاء به في معرفة الطريق إلى الله تعالى وهدى يهتدى به إلى ذلك وهو التوراة جعلها اليهود قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها حسب أهوائهم وأطماعهم، وقوله: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءابآؤكم } أي وعلمكم الله بهذا القرآن من الحقائق العلمية كتوحيد الله تعالى وأسمائه وصفاته، والدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم، وعذاب أليم، ثم أمر الرسول أن يجيب عن السؤال الذي وجهه إليهم تبكيتا: { قل الله } أي الذي أنزل التوراة على موسى هو لله. { ثم ذرهم } أي اتركهم { في خوضهم } أي في الباطل { يلعبون } حيث لا يحصلون من ذلك الخوض في الباطل على أي فائدة تعود عليهم فهم كاللاعبين من الأطفال. هذا ما تضمنته الآية الأولى [91] أما الآية الثانية [93] فقد تضمنت أولا الرد على قول من قال: { مآ أنزل الله على بشر من شيء } أي كيف يقال ما أنزل الله على بشر من شيء وهذا القرآن بين أيديهم يتلى عليهم أنزله الله مباركا لا ينتهي خيره ولا يقل نفعه، مصدقا لما سبقه من الكتب كالتوراة والإنجيل أنزلناه ليؤمنوا به، { ولتنذر أم القرى } أي أهلها { ومن حولها } من المدن والقرى القريبة والبعيدة لينذرهم عاقبة الكفر والضلال فإنها الخسران التام والهلاك الكامل، وثانيا الإخبار بأن الذين يؤمنون بالآخرة أي بالحياة في الدار الآخرة يؤمنون بهذا القرآن، وهم على صلاتهم يحافظون وذلك مصداق إيمانهم وثمرته التي يجنيها المؤمنون الصادقون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كل من كذب الله تعالى أو أشرك به أو وصفه بوصف لا يليق بجلاله فإنه لم يقدر الله حق قدره.
2- بيان تلاعب اليهود بكتاب الله في إبداء بعض أخباره وأحكامه وإخفاء بعض آخر وهو تصرف ناتج من الهوى واتباع الشهوات وإيثار الدنيا على الآخرة.
3- بيان فضل الله على العرب بإنزال هذا الكتاب العظيم عليهم بلغتهم لهدايتهم.
4- تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية الحجاج والرد على المجادلين والكاذبين.
5- بيان علة ونزول الكتاب وهي الإيمان وإنذار المكذبين والمشركين.
6- الإيمان بالآخرة سبب لكل خير، والكفر به سبب لكل باطل وشر.
[6.93-94]
شرح الكلمات:
افترى على الله كذبا: اختلق على الله كذبا قال عليه ما لم يقل، أو نسب له ما هو منه براء.
أوحي إلي: الوحي: الإعلام السريع الخفي بواسطة الملك وبغيره.
غمرات الموت: شدائده عند نزع الروح.
باسطوا أيديهم: للضرب وإخراج الروح.
عذاب الهون: أي عذاب الذل والمهانة.
فرادى: واحدا واحدا ليس مع أحدكم مال ولا رجال.
ما خولناكم: ما أعطيناكم من مال ومتاع.
وراء ظهروكم: أي في دار الدنيا.
وضل عنكم: أي غاب.
تزعمون: تدعون كاذبين.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع المشركين والمفترين الكاذبين على الله تعالى بإتخاذ الأنداد والشركاء فقال تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } بأن ادعى أن الله نبأه وأنه نبيه ورسوله كما ادعى سعد بن أبي سرح بمكة ومسيلمة في بني حنيفة بنجد والعنسي باليمن: اللهم لا أحد هو أظلم منه، وممن قال أوحي إلي شيء من عند الله، ولم يوح إليه شيء وممن قال: { سأنزل مثل مآ أنزل الله } من الوحي والقرآن، ثم قال تعالى لرسوله: { ولو ترى } يا رسولنا { إذ الظالمون في غمرات الموت } أي في شدائد سكرات الموت، { والملائكة } ملك الموت وأعوانه { باسطوا أيديهم } بالضرب وإخراج الروح، وهم يقولون لأولئك المحتضرين تعجيزا وتعذيبا لهم: { أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون } بسبب استكباركم في الأرض بغير الحق إذ الحامل للعذرة وأصله نطفة قذرة، ونهايته جيفة قذرة، استكباره في الأرض حقا إنه استكبار باطل لا يصح من فاعله بحال من الأحوال. هذا ما دلت عيه الآية الأولى [93] أما الآية الثانية [94] فإن الله تعالى يخبر عن حال المشركين المستكبرين يوم القيامة حيث يقول لهم { ولقد جئتمونا فردى } أي واحد واحدا { كما خلقنكم } حفاة عراة غرلا { وتركتم ما خولنكم } أي ما وهبناكم من مال وولد { وراء ظهوركم } أي في دار الدنيا، { وما نرى معكم شفعآءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركآء } وأنتم كاذبون في زعمكم مبطلون في اعتقادكم { لقد تقطع بينكم } أي انحل حبل الولاء بينكم، { وضل عنكم ما كنتم تزعمون } أي ما كنتم تكذبون به في الدنيا.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- قبح الكذب على الله تعالى في أي شكل، وأن صاحبه لا أظلم منه قط.
2- تقرير عذاب القبر، وسكرات الموت وشدتها، وفي الحديث: أن للموت سكرات.
3- قبح الاستكبار وعظم جرمه.
4- تقرير عقيدة البعث الآخرة الجزاء على الكسب في الدنيا.
5- انعدام الشفعاء يوم القيامة إلا ما قضت السنة الصحيحة من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء والشهداء بشروط هي: أن يأذن الله للشافع أن يشفع وأن يرضى عن المشفوع له.
[6.95-99]
شرح الكلمات:
فالق الحب والنوى: شاق الحب كحب البر ليخرج منه الزرع، والنوى واحده نواة وشقها ليخرج منها الفسيلة (النخلة الصغيرة).
يخرج الحي من الميت: الدجاجة من البيضة.
ومخرج الميت من الحي: البيضة من الدجاجة.
فأنى تؤفكون: كيف تصرفون عن توحيد الله الذي هذه قدرته إلى عبادة الجمادات.
فالق الإصباح: الإصباح: بمعنى الصبح وفلقه: شقه ليتفجر منه النور والضياء.
سكنا: يسكن فيه الناس ويخلدون للراحة.
حسبانا: أي حسابا بهما تعرف الأوقات الأيام والليالي والشهور والسنون.
تقدير العزيز العليم: إيجاد وتنظيم العزيز الغالب على أمره العليم بأحوال وأفعال عباده.
لتهتدوا بها: أي ليهتدي بها المسافرون في معرفة طرقهم في البر والبحر.
من نفس واحدة: هي آدم أبو البشر عليه السلام.
فمستقر: أي في الأرحام.
ومستودع: أي في أصلاب الرجال.
يفقهون: أسرار الأشياء وعلل الأفعال فيهتدوا لما هو حق وخير.
خضرا: هو أول ما يخرج من الزرع ويقال له القصيل الأخضر.
متراكبا: أي بعضه فوق بعض وهو ظاهر في السنبلة.
طلع النخل: زهرها.
قنوان: واحده قنو وهو العذق وهو العرجون بلغة أهل المغرب.
مشتبها وغير متشابه: في اللون وغير مشتبه في الطعم.
وينعه: أي نضجه واستوائه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان الدليل على وجب توحيد الله تعالى وبطلان عبادة غيره فقال تعالى واصفا نفسه بأفعاله العظيمة الحكيمة التي تثبت ربوبيته وتقرر ألوهيته وتبطل ربوبية وألوهية غيره مما زعم المشركون أنها أرباب لهم وآلهة: { إن الله فالق الحب والنوى } أي هو الذي يفلق الحب ويخرج منه الزرع لا غيره وهو الذي يفلق النوى، ويخرج منه الشجر والنخل لا غيره فهو الإله الحق إذا وما عداه باطل، وقال: { يخرج الحي من الميت } فيخرج الزرع الحي من الحب الميت { ومخرج الميت من الحي } فيخرج الحب من الزرع الحي، والنخلة والشجرة من النواة الميتة ثم يقول: { ذلكم الله } أي المستحق للإلهية أي العبادة وحده { فأنى تؤفكون } أي فكيف يا للعجب تصرفون عن عبادته وتأليهه إلى تأليه وعبادة غيره: ويقول: { فالق الإصباح } أي هو الله الذي يفلق ظلام الليل فيخرج منه ضياء النهار { وجعل الليل سكنا }: أي ظرف سكن وسكون وراحة تسكن فيه الأحياء من تعب النهار والعمل فيه ليستريحوا، وقوله: { والشمس والقمر حسبانا } أي وجعل الشمس والقمر يدوران في فلكيهما بحساب تقدير لا يقدر عليه إلا هو، وبذلك يعرف الناس الأوقات وما يتوقف عليها من عبادات وأعمال وآجال وحقوق ثم يشير إلى فعله ذلك فيقول: { ذلك تقدير العزيز } الغالب على أمره { العليم } بسائر خلقه وأحوالهم وحاجاتهم وقد فعل ذلك لأجلهم فكيف إذا لا يستحق عبادتهم وتأليههم؟ عجبا لحال بني آدم ما أضلهم؟!
ويقول تعالى في الآية الثالثة [97] { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمت البر والبحر } هذه منة أخرى من مننه على الناس ومظهرا آخر من مظاهر قدرته حيث جعل لنا النجوم ليهتدي به مسافرونا في البر والبحر حتى لا يضلوا طريقهم فيهلكوا فهي نعمة لا يقدر على الإنعام بها إلا الله، فلم إذا يكفر به ويعبد سواه؟ وقوله: { قد فصلنا الآيت لقوم يعلمون } يخبر به تعالى على نعمة أخرى وهي تفصيله تعالى للآيات وإظهارها لينتفع بها العلماء الذي يميزون بنور العلم بين الحق والباطل والضار والنافع ويقول في الآية الرابعة [98] { وهو الذي أنشأكم } - أي خلقكم - { من نفس وحدة } هي آدم عليه السلام، فبعضكم مستقر في الأرحام وبعضنا مستودع في الأصلاب وهو مظهر من مظاهر إنعامه وقدرته ولطفه وإحسانه، ويختم الآية بقوله { قد فصلنا الآيت لقوم يفقهون } لتقوم لهم الحجة على ألوهيته تعالى دون ألوهية ما عداه من سائر المخلوقات لفهمهم أسرار الكلام وعلل الحديث ومغزاه.
ويقول في الآية [99] { وهو الذي أنزل من السمآء مآء } وهو ماء المطر ويقول { فأخرجنا به نبات كل شيء } أي ينبت أي قابل للإنبات من سائر الزروع والنباتات ويقول فأخرجنا من ذلك النبات خضرا وهو القصيل للقمح والشعير، ومن الخضر يخرج حبا متراكبا في سنابله، ويقول عز وجل: { ومن النخل من طلعها قنوان دانية } أي ويخرج بإذن الله تعالى من طلع النخل قنوان جمع قنو العذق دانية متدلية وقريبة لا يتكلف مشقة كبيرة من أراد جنيها والحصول عليها، وقوله { وجنت من أعناب } يقول وأخرجنا به بساتين من نخيل وأعناب، وأخرجنا به كذلك الزيتون والرمان حال كونه مشتبها في اللون وغير متشابه في الطعم، كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه ينبت لديكم ذلك التشابه وعدمه، وختم الآية بقوله: إن في ذلكم المذكور كله { لأيت } علامات ظاهرات تدل على وجوب ألوهية الله تعالى وبطلان ألوهية غيره { لقوم يؤمنون } لأنهم أحياء يفعلون ويفكرون ويفهمون أما غيرهم من أهل الكفر فهم أموات القلوب لما ران عليها من أوضار الشرك والمعاصي فهم لا يعقلون ولا يفقهون فأنى لهم أن يجدوا في تلك الآيات ما يدلهم على توحيد الله عز وجل؟
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الله خالق كل شيء فهو رب كل شيء ولذا وجب أن يؤله وحده دون ما سواه.
2- تقرير قدرة الله على كل شيء وعلمه بكل شيء وحكمته في كل شيء.
3- فائدة خلق النجوم وهي الاهتداء بها في السير في الليل في البر والبحر.
4- يتم إدراك ظواهر الأمور وبواطنها بالعقل.
5- يتم إدراك أسرار الأشياء بالفقه.
6- الإيمان بمثابة الحياة، والكفر بمثابة الموت في إدراك الأمور.
[6.100-103]
شرح الكلمات:
شركاء: جمع شريك في عبادته تعالى.
الجن: عالم كعالم الإنس إلا أنهم أجسام خفية لا ترى لنا إلا إذا تشكلت بما يرى.
وخرقوا: اختلقوا وافتاتوا.
يصفون: من صفات العجز بنسبة الولد والشريك إليه.
بديع السماوات والأرض: مبدع خلقهما حيث أوجدهما على غير مثال سابق.
أنى يكون له ولد: أي كيف يكون له ولد؟ كما يقول المبطلون.
ولم تكن له صاحبة: أي زوجة.
لا تدركه الأبصار: لا تراه في الدنيا، ولا تحيط به في الآخرة.
وهو يدرك الأبصار: أي محيط علمه بها.
وهو اللطيف: الذي ينفذ علمه إلى بواطن الأمور وخفايا الأسرار فلا يحجبه شيء.
معنى الآيات:
لقد جاء في الآيات السابقة من الأدلة والبراهين العقلية ما يبهر العقول ويذلها لقبول التوحيد، وأنه لا إله إلا الله، ولا رب سواه، ولكن مع هذا فقد جعل الجاهلون لله من الجن شركاء فأطاعوهم فيما زينوا لهم من عبادة الأصنام والأوثان، وهذا ما أخبر به تعالى في هذه الآية الكريمة [100] إذ قال { وجعلوا لله شركآء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنت بغير علم سبحنه وتعلى عما يصفون } ومعنى الآية وجعل العادلون بربهم الأصنام والجن شركاء لله في عبادته، وذلك بطاعتهم فيما زينوا لهم من عبادة الأصنام، والحال أنه قد خلقهم فالكل مخلوق له العابد والمعبود من الجن والأصنام، وزادوا في ضلالهم شوطا آخر حيث اختلقوا له البنين والبنات وهذا كله من تزيين الشياطين لهم وإلا فأي معنى في أن يكون لخالق العالم كله بما فيه الإنس والجن والملائكة أبناء وبنات. هذا ما عناه تعالى بقوله: { وخرقوا له بنين وبنت بغير علم سبحنه وتعلى عما يصفون } فنزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما وصفوه به كذبا بحتا وتخرصا كاملا من أن له بنين وبنات وليس لهم على ذلك أي دليل علمي لا عقلي ولا نقلي، وقد شارك في هذا الباطل العرب المشركون حيث قالوا الملائكة بنات الله، واليهود حيث قالوا عزير ابن الله، والنصارى إذ قالوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقول المبطلون. هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الآية الثانية [101] فقد تضمنت إقامة الدليل الذي لا يرد على بطلان هذه الفرية المنكرة فرية نسبة الولد لله سبحانه وتعالى، فقال تعالى: { بديع السموت والأرض } أي خالقهما على غير مثال سابق { أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة } أي يا للعجب كيف يكون لله ولد ولم تكن له زوجة إذ النوالد يكون بين ذكر وأنثى لحاجة إليه لحفظ النوع وكثرة النسل لعمارة الأرض بل ولعبادة الرب تعالى بذكره وشكره، أما الرب تعالى فهو خالق كل شيء ورب كل شيء فأي معنى لاتخاذ ولد له، لولا تزيين الشياطين للباطل حتى يقبله أولياؤهم من الإنس، وقوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم } دليل آخر على بطلان ما خرق أولئك الحمقى لله من ولد، إذ لو كان لله ولد لعلمه وكيف لا، وهو بكل شيء عليم.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة [102] وهي قوله تعالى: { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خلق كل شيء } أي ذلكم الله الذي هو بديع السماوات والأرض والخالق لكل شيء بكل شيء هو ربكم الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه ولا تشركوا به سواه. وإنه لكفيل برزقكم وحفظكم ومجازاتكم على أعمالكم وهو على كل شيء قدير. والآية الأخيرة في السياق الكريم [103] يقرر تعالى حقيقة كبرى وهي أن الله تعالى مباين لخلقه في ذاته وصفاته ليس كمثله شيء فكيف يشرك به وكيف يكون له ولد، وهو لا تدركه الأبصار وهو يدركها وهو اللطيف الذي ينفذ علمه وقدرته في كل ذرات الكون علوية وسفلية الخبير بكل خلقه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وهو العزيز الحكيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أن من الإنس من عبد الجن بطاعتهم وقبول ما يأمرونهم به ويزينونه لهم.
2- تنزه الرب تعالى عن الشريك والصاحبة والولد.
3- مباينة الرب تبارك وتعالى لخلقه.
4- استحالة رؤية الرب في الدنيا، وجوازها في الآخرة لأوليائه في دار كرامته.
[6.104-107]
شرح الكلمات:
بصائر من ربكم: البصائر جمع بصيرة: والمراد بها هنا الآيات المعرفة بالحق المثبتة له بطريق الحجج العقلية فهي في قوة العين المبصرة لصاحبها.
حفيظ: وكيل مسئول.
نصرف الآيات: نجريها في مجاري مختلفة تبيانا للحق وتوضيحا للهدى المطلوب.
وليقولوا درست: أي تعلمت وقرأت لا وحيا أوحي إليك.
وأعرض عن المشركين: أي لا تلتفت إليهم وامض في طريق دعوتك.
ولو شاء الله ما أشركوا: أي لو شاء أن يحول بينهم وبين الشرك حتى لا يشركوا لفعل وما أشركوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية المشركين وبيان الطريق لهم ففي هذه الآية يقول { قد جآءكم } أي أيها الناس { بصآئر من ربكم } وهي آيات القرآن الموضحة لطريق النجاة { فمن أبصر } بها وهي كالعين المبصرة { فلنفسه } إبصاره إذ هو الذي ينجو ويسعد { ومن عمي } فلم يبصر فعلى نفسه عماه إذ هي التي تهلك وتشقى وقل لهم يا رسولنا { ومآ أنا عليكم بحفيظ } أي بوكيل مسئول عن هدايتكم، وفي الآية الثانية [105] يقول تعالى: { وكذلك نصرف الآيات } أي بنحو ما صرفناها من قبل في هذا القرآن نصرفها كذلك لهداية مريدي الهداية والراغبين فيها أما غيرهم فسيقولون درست وتعلمت من غيرك حتى يحرموا الإيمان بك وبرسالتك والعياذ بالله تعالى، وفي الآية الثالثة [106] يأمر الله تعالى رسوله باتباع ما يوحى إليه من الحق والهدى، والإعراض عن المشركين المعاندين الذين يقولون درست حتى لا يأخذوا بما أتيتهم به ودعوتهم إليه من آيات القرآن الكريم إذ قال تعالى له: { اتبع مآ أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين } وفي الآية الرابعة [107] يسلي الرب تعالى رسوله ويخفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته ومحاربته فيها فيقول له: { ولو شآء الله مآ أشركوا } أي لو يشاء الله عدم إشراكهم لما قدروا على أن يشركوا إذا فلا تحزن عليهم، هذا أولا، وثانيا { وما جعلناك عليهم حفيظا } تراقبهم وتحصي عليهم أعمالهم وتجازيهم بها، وما أرسلناك عليهم وكيلا تتولى هدايتهم بما فوق طاقتك
إن عليك إلا البلاغ
[الشورى: 48] وقد بلغت إذا فلا أسى ولا أسف!!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- آيات القرآن بصائر من يأخذ بها يبصر طريق الرشاد وينجو ويسعد.
2- ينتفع بتصريف الآيات وما تحمله من هدايات العالمون لا الجاهلون وذلك لقوله تعالى في الآية الثانية [105] { ولنبينه لقوم يعلمون }.
3- بيان الحكمة في تصريف الآيات وهي هداية من شاء الله هدايته.
4- وجوب اتباع الوحي المتمثل في الكتاب والسنة النبوية.
5- بيان بطلان مذهب القدرية " نفاة القدر ".
[6.108-110]
شرح الكلمات:
ولا تسبوا: ولا تشتموا آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله تعالى.
عدوا: ظلما.
زينا لكل أمة عملهم: حسناه لهم خيرا كان أو شرا حتى فعلوه.
جهد أيمانهم: أي غاية اجتهادهم في حلفهم بالله.
آية: معجزة كإحياء الموتى ونحوها.
وما يشعركم: وما يدريكم.
ونذرهم: نتركهم.
يعمهون: حيارى يترددون.
معنى الآيات:
عندما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح يصدع بالدعوة جهرا بعدما كانت سرا أخذ بعض أصحابه يسبون أوثان المشركين، فغضب لذلك المشركون وأخذوا يسبون الله تعالى إله المؤمنين وربهم فنهاهم تعالى عن ذلك أي عن سب آلهة المشركين بقوله: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } أي لا تسبوا آلهتهم { فيسبوا الله عدوا } أي ظلما واعتداء بغير علم، إذ لو علموا جلال الله وكماله لما سبوه، وقوله تعالى: { كذلك زينا لكل أمة عملهم } بيان منه تعالى لسنته في خلقه وهي أن المرء إذا أحب شيئا ورغب فيه وواصل ذلك الحب وتلك الرغبة يصبح زينا له ولو كان في الواقع شينا. ويراه حسنا وإن كان في حقيقة الأمر قبيحا، ومن هنا كان دفاع المشركين عن آلهتهم الباطلة من هذا الباب فلذا لم يرضوا أن تسب لهم وهددوا الرسول والمؤمنين بأنهم لو سبوا آلهتهم لسبوا لهم إلههم وهو الله تعالى، وقوله تعالى { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } يخبر تعالى أن مرجع الناس المزين لهم أعمالهم خيرها وشرها ورجوعهم بعد نهاية حياتهم إلى الله ربهم فيخبرهم بأعمالهم ويطلعهم عليها ويجزيهم بها الخير بالخير والشر بالشر. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [108] وأما الآيتان الثانية [109] والثالثة [110] فقد أخبر تعالى أن المشركين أقسموا بالله أبلغ أيمانهم وأقصاها أنهم إذا جاءتهم آية كتحويل جبل الصفا إلى ذهب آمنوا عن آخرهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته واتبعوه على دينه الذي جاء به، قال هذا رؤساء المشركين، والله يعلم أنهم إذا جاءتهم الآية لا يؤمنون، فأمر رسوله أن يرد عليهم قائلا: { إنما الآيت عند الله } هو الذي يأتي بها إن شاء أما أنا فلا أملك ذلك. إلا أن المؤمنين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم رغبوا في مجيء الآية حتى يؤمن المشركون وينتهي الصراع الدائر بين الفريقين فقال تعالى لهم: { وما يشعركم } أيها المؤمنون { أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون } أي وما يدريكم أن الآية لو جاءت لا يؤمن بها المشركون؟ وبين علة عدم إيمانهم فقال: { ونقلب أفئدتهم } فلا تعي ولا تفهم { وأبصرهم } فلا ترى ولا تبصر. فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة لما دعوا إلى الإيمان به { ونذرهم في طغيانهم يعمهون } أي ونتركهم في شركهم وظلمهم حيارى يترددون لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهداية من الضلال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة قول أو فعل ما يتسبب عنه سب الله ورسوله.
2- بيان سنة الله في تزيين الأعمال لأصحابها خيرا كانت أو شرا.
3- بيان أن الهداية بيد الله تعالى وأن المعجزات قد لا يؤمن عليها من شاهدها.
[6.111-113]
شرح الكلمات:
الملائكة: أجسام نورانية يعمرون السماوات عباد مكرمون لا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة.
الموتى: جمع ميت: من فارقته الحياة أي خرجت منه روحه.
حشرنا: جمعنا.
قبلا: معاينة.
يجهلون: عظمة الله وقدرته وتدبيره وحكمته.
شياطين: جمع شيطان: وهو من خبث وتمرد من الجن والإنس.
يوحي بعضهم: يعلم بطريق سريع خفي بعضهم بعضا.
زخرف القول: الكذب المحسن والمزين.
غرورا: للتغرير بالإنسان.
يفترون: يكذبون.
ولتصغى إليه: تميل إليه.
وليقترفوا: وليرتكبوا الذنوب والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أولئك العادلين بربهم المطالبين بالآيات الكونية ليؤمنوا إذا شاهدوها فأخبر تعالى في هذه الآيات أنه لو نزل إليهم الملائكة من السماء، وأحيى لهم الموتى فكلموهم وقالوا لهم لا إله إلا الله محمد رسول الله، وحشر عليهم كل شيء أمامهم يعاينونه معاينة أو تأتيهم المخلوقات قبيلا بعد قبيل وهم يشاهدونهم ويقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ما كانوا ليؤمنوا بك ويصدقوك ويؤمنوا بما جئت به إلا أن يشاء الله ذلك منهم. ولكن أكثر أولئك العادلين بربهم الأصنام والأوثان يجهلون أن الهداية بيد الله تعالى وليست بأيديهم كما يزعمون وأنهم لو رأوا الآيات آمنوا.
هذا ما دلت عليه الآية [111] أما الآية الثانية [112] فإن الله تعالى يقول وكما كان لك يا رسولنا من هؤلاء العادلين أعداء يجادلونك ويحاربونك جعلنا لكل نبي أرسلناه أعداء يجادلونه ويحاربونه (شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول) أي القول المزين بالباطل المحسن بالكذب { غرورا } أي للتغرير والتضليل، { ولو شآء ربك } أيها الرسول عدم فعل ذلك الإيحاء والوسواس { ما فعلوه } إذا { فذرهم } أي اتركهم { وما يفترون } من الكفر والكذب والباطل.
هذا ما دلت عيه الآية الثانية أما الآية الثالثة [113] وهي قوله تعالى: { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } هذه الآية بجملها الأربع معطوفة على قوله { زخرف القول غرورا } إذ إيحاء شياطين الجن والإنس كان للغرور أي ليغتر به المشركون، { ولتصغى إليه } أي تميل { أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } وهم المشركون العادلون بربهم { وليرضوه } ويقتنعوا به لأنه مموه لهم مزين، ونتيجة لذلك التغرير والميل إليه وهو باطل والرضا به والاقناع بفائدته فهم يقترفون من أنواع الكفر وضروب الشرك والمعاصي والإجرام ما يقترفون!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أبدا، وبهذا تقررت ربوبيته وألوهيته للأولين والآخرين.
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وكل داع إلى الله تعالى بإعلامه أنه ما من نبي ولا داع إلا وله أعداء من الجن والإنس يحاربونه حتى ينصره الله عليهم.
3- التحذير من التمويه والتغرير فإن أمضى سلاح للشياطين هو التزيين والتغرير.
4- القلوب الفارغة من الإيمان بالله ووعده وعيده في الدار الآخرة أكثر القلوب ميلا إلى الباطل والشر والفساد.
[6.114-117]
شرح الكلمات:
أبتغي: أطلب.
حكما: الحكم الحاكم ومن يتحاكم إليه الناس.
أنزل إليكم الكتاب: أي أنزله لأجلكم لتهتدوا به فتكملوا عليه وتسعدوا.
مفصلا: مبينا لا خفاء فيه ولا غموض.
والذين آتيناهم الكتاب: أي علماء اليهود والنصارى.
الممترين: الشاكين، إذ الامتراء الشك.
صدقا وعدلا: صدقا في الأخبار فكل ما أخبر به القرآن هو صدق، وعدلا في الأحكام فليس في القرآن حكم جور وظلم أبدا بل كل أحكامه عادلة.
لا مبدل لكلماته: أي لا مغير لها لا بالزيادة والنقصان، ولا بالتقديم والتأخير.
السميع العليم: السميع لأقوال العباد العليم بأعمالهم ونياتهم وسيجزيهم بذلك.
سبيل الله: الإسلام إذ هو المفضي بالمسلم إلى رضوان الله تعالى والكرامة في جواره.
يخرصون: يكذبون الكذب الناتج عن الحزر والتخمين.
من يضل: بمن يضل.
بالمهتدين: في سيرهم إلى رضوان الله باتباع الإسلام الذي هو سبيل الله.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع العادلين بربهم الأصنام والأوثان لقد كان المراد في طلبهم الآية الحكم بها على صحة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبي الله وأن القرآن كلام الله وأنه لا إله إلا الله، ولم يكن هذا منهم إلا من قبيل ما توسوس به الشياطين لهم وتزينه لهم تغريرا بهم وليواصلوا ذنوبهم فلا يؤمنون ولا يتوبون، ومن هنا أنزل تعالى قوله: { أفغير الله أبتغي حكما } وهو تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله للمشركين أأميل إلى باطلكم وأقتنع به فغير الله أطلب حكما بيني وبينكم في دعواكم أني غير رسول الله وأن ما جئت به ليس وحيا من الله؟ ينكر صلى الله عليه وسلم تحكيم غير ربه تعالى وعلى ماذا يكون الحكم والله هو الذي أنزل إليهم الكتاب مفصلا فأي آية تغلب القرآن وهو آلاف الآيات هذا أولا وثانيا أهل الكتاب من قبلهم وهم علماء اليهود والنصارى مقرون ومعترفون بأن ما ينفيه المشركون حق لا مرية فيه إذا فامض أيها الرسول في طريق دعوتك ولا تكونن من الممترين فإنك عما قريب تظهر على المشركين، لقد تمت كلمة ربك أي في هذا القرآن الذي أوحي إليك صدقا في كل ما تحمله من أخبار ومن ذلك نصرك وهزيمة أعدائك، وعدلا في أحكامها التي تحملها، ولا يستطيع أحد تبديلها بتغيير لها بإخلاف وعد ولا بإبطال حكم، وربك هو السميع لأقوال عباده العليم بمقاصدهم وأفعالهم فما أقدره وأضعفهم فلذا لن يكون إلا مراده ويبطل جميع إراداتهم. واعلم يا رسولنا أنك { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } أي لو أنك تسمع لهم وتأخذ بآرائهم وتستجيب لاقتراحاتهم لأضلوك قطعا عن سبيل الله، والعلة أن أكثرهم لا بصيرة له ولا علم حق لديه وكل ما يقولونه هو هوى نفس، ووسواس شيطان.
إنهم ما يتبعون إلا أقوال الظن وما هم فيما يقولون إلا خارصون كاذبون. وحسبك علم ربك بهم فإنه تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة وبطلان التحاكم إلى غير الوحي الإلهي.
2- تقرير صحة الدعوة الإسلامية بأمرين الأول: القرآن الكريم، الثاني: شهادة أهل الكتاب ممن أسلموا كعبد الله بن سلام القرظي وأصحمة النجاشي وغيرهم.
3- ميزة القرآن الكريم: أن أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل.
4- وعود الله تعالى لا تتخلف أبدا، ولا تتبدل بتقديم ولا تأخير.
5- اتباع أكثر الناس يؤدي إلى الضلال فلذا لا يتبع إلا أهل العلم الراسخون فيه لقوله تعالى:
ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون
[يونس: 89].
[6.118-121]
شرح الكلمات:
مما ذكر اسم الله عليه: أي قيل عند ذبحه أو نحره بسم الله والله أكبر.
فصل لكم ما حرم عليكم: أي بين لكم ما حرم عليكم مما أحل لكم وذلك في سورة النحل.
إلا ما اضطررتم إليه: أي ألجأتكم الضرورة وهي خوف الضرر من الجوع.
المعتدين: المتجاوزين الحلال إلى الحرام، والحق إلى الباطل.
ذروا ظاهر الإثم: اتركوا: الإثم الظاهر والباطن وهو كل ضار فاسد قبيح.
يقترفون: يكسبون الآثام والذنوب.
وإنه لفسق: أي الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. فسق عن طاعة الله تعالى.
إلى أوليائهم ليجادلوكم: أي من الإنس ليخاصموكم في ترك الأكل من الميتة.
لمشركون: حيث أحلوا لكم ما حرم عليكم فاعتقدتم حله فكنتم بذلك عابديهم وعبادة غير الله تعالى شرك.
معنى الآيات:
مما أوحى به شياطين الجن إلى إخوانهم من شياطين الإنس أن قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. كيف تأكلون ما تقتلونه أنتم وتمتنعون عن أكل ما يقتله الله؟ فأنزل الله تعالى قوله { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين }. فأمر المؤمنين بعدم الاستجابة لما يقوله المشركون، وقال { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } أي: أي شيء يمنعكم من الأكل مما ذكر اسم الله عليه؟ { وقد فصل لكم } أي بين لكم غاية التبيين { ما حرم عليكم } من المطاعم { إلا ما اضطررتم إليه } أي ألجأتكم الضرورة إليه كمن خاف على نفسه الهلاك من شدة الجوع فإنه يأكل مما حرم في حال الإختيار. ثم أعلمهم أن كثيرا من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم فيحلون ويحرمون بدون علم وهم في ذلك ظلمة معتدون لأن التحريم والتحليل من حق الرب تعالى لا من حق أي أحد من الناس وتوعدهم بما دل عليه قوله: { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } ولازمه أنه سيجازيهم باعتدائهم وظلمهم بما يستحقون من العذاب على اعتدائهم على حق الله تعالى في التشريع بالتحليل والتحريم.
وقوله تعالى في الآية الثالثة: [120] { وذروا ظهر الإثم وباطنه } يأمر تعالى عباده بترك ظاهر الإثم كالزنى العلني وسائر المعاصي، وباطن الإثم كالزنى السري وسائر الذنوب الخفية وهو شامل لأعمال القلوب وهي باطنة وأعمال الجوارح وهي ظاهرة، لأن الإثم كل ضار فاسد قبيح كالشرك، والزنى وغيرهما من سائر المحرمات.
ثم توعد الذين لا يمتثلون أمره تعالى بترك ظاهر الإثم وباطنه بقوله: { إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون } أي سيجزيهم يوم القيامة بما اكتسبوه من الذنوب والآثام ولا ينجو إلا من تاب منهم وصحت توبته وفي الآية الأخيرة في هذا السياق [121] يقول تعالى ناهيا عباده عن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من ذبائح المشركين والمجوس فقال: { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وأخبر أن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه وهو ذبائح المشركين والمجوس فسق خروج عن طاعة الرب تعالى وهو مقتض للكفر لما فيه من الرضا بذكر اسم الآلهة التي تعبد من دون الله تعالى، ثم أخبرهم تعالى بأن الشياطين وهم المردة من الجن يوحون إلى الأخباث من الإنسان من أوليائهم الذين استجابوا لهم في عبادة الأوثان يوحون إليهم بمثل قولهم: كيف تحرمون ما قتل الله وتحلون ما قتلتم أنتم؟ ليجادلوكم بذلك، ويحذر تعالى المؤمنين من طاعتهم وقبول وسواسهم فيقول { وإن أطعتموهم } فأكلتم ذبائحهم أو تركتم أكل ما ذبحتم أنتم وقد ذكرتم عليه اسم الله، { إنكم لمشركون } لأنكم استجبتم لما تأمر به الشياطين تاركين ما يأمر به رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حل الأكل من ذبائح المسلمين.
2- وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام عند تذكيتها.
3- حرمة اتباع الأهواء ووجوب اتباع العلماء.
4- وجوب ترك الإثم ظاهرا كان أو باطنا وسواء كان من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح.
5- حرمة الأكل من ذبائح المشركين والمجوس والملاحدة البلاشفة الشيوعيين.
6- اعتقاد حل طاعة الشياطين شرك والعياذ بالله تعالى.
[6.122-124]
شرح الكلمات:
ميتا: الميت فاقد الروح، والمراد روح الإيمان.
أحييناه: جعلناه حيا بروح الإيمان.
مثله: صفته ونعته امرؤ في الظلمات ليس بخارج منها.
قرية: مدينة كبيرة.
ليمكروا فيها: بفعل المنكرات والدعوة إلى ارتكابها بأسلوب الخديعة والاحتيال.
وما يمكرون إلا بأنفسهم: لأن عاقبة المكر تعود على الماكر نفسه لآية
ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله
[فاطر: 43].
وإذا جاءتهم آية: أي من القرآن الكريم تدعوهم إلى الحق.
صغار: الصغار: الذل والهوان.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في حرب العادلين بربهم الأصنام الذين يزين لهم الشيطان تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم فقال تعالى: { أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } أي أطاعة هذا العبد الذي كان ميتا بالشرك والكفر فأحييناه بالإيمان والتوحيد وهو عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر كطاعة من مثله رجل في الظلمات ظلمات الشرك والكفر والمعاصي ليس بخارج من تلك الظلمات وهو أبو جهل والجواب لا، إذا كيف أطاع المشركون أبا جهل وعصوا عمر رضي الله عنه والجواب: أن الكافرين لظلمة نفوسهم واتباع أهوائهم لا عقول لهم زين لهم عملهم الباطل حسب سنة الله تعالى في أن من أحب شيئا وغالى في حبه على غير هدى ولا بصيرة يصبح في نظره زينا وهو شين وحسنا وهو قبيح، فلذا قال تعالى: { وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها } فيهلكوا أيضا. وقوله: { وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } هو كما قال: قوله الحق وله الملك، فالماكر من أكابر المجرمين حيث أفسدوا عقائد الناس وأخلاقهم وصرفوهم عن الهدى بزخرف القول والاحتيال والخداع، هم في الواقع يمكرون بأنفسهم إذ سوف تحل بهم العقوبة في الدنيا وفي الآخرة، إذ لا يحيق المكر السيء إلا بأهله ولكنهم لا يشعرون أي لا يدرون ولا يعلمون أنهم يمكرون بأنفسهم، وقوله تعالى في الآية الثالثة [124] { وإذا جآءتهم آية.. } أي حجة عقلية مما تحمله آيات القرآن تدعوهم إلى تصديق الرسول والإيمان بما جاء به ويدعو إليه من التوحيد بدل أن يؤمنوا { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتي رسل الله } أي من المعجزات كعصا موسى وطير عيسى الذي نفخ فيه فكان طائرا بإذن الله فرد الله عليهم هذا العلو والتكبر قائلا: { الله أعلم حيث يجعل رسالته } فإنه يجعلها في القلوب المشرقة والنفوس الزكية، لا في القلوب المظلمة والنفوس الخبيثة، وقوله تعالى { سيصيب الذين أجرموا } على أنفسهم بالشرك والمعاصي وعلى غيرهم حيث أفسدا قلوبهم وعقولهم، { صغار }: أي ذل وهوان { عند الله } يوم يلقونه { وعذاب شديد } قاس لا يطاق { بما كانوا يمكرون }: أي بالناس بتضليلهم وإفساد قلوبهم وعقولهم بالشرك والمعاصي التي كانوا يجرئونهم عليها ويغرونهم بها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الإيمان حياة، والكفر موت، المؤمن يعيش في نور والكافر في ظلمات.
2- بيان سنة الله تعالى في تزيين الأعمال القبيحة.
3- قل ما تخلو مدينة من مجرمين يمكرون فيها.
4- عاقبة المكر عائدة على الماكر نفسه.
5- بيان تعنت المشركين في مكة على عهد نزول القرآن.
6- الرسالة توهب لا تكتسب.
7- بيان عقوبة أهل الإجرام في الأرض.
[6.125-128]
شرح الكلمات:
شرح صدره: شرح الصدر توسعته لقبول الحق وتحمل الوارد عليه من أنوار الإيمان وعلامة ذلك، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله.
حرجا: ضيقا لا يتسع لقبول الحق، ولا لنور الإيمان.
كأنما يصعد: يصعب عليه قبول الإيمان حتى كأنه يتكلف الصعود إلى السماء.
الرجس: النجس وما لا خير فيه كالشيطان.
فصلنا الآيات: بيناها وأوضحناها غاية البيان والتوضيح.
يذكرون: يذكرون فيتعظون.
دار السلام: الجنة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى فهي مضافة إلى الله تعالى.
استكثرتم: أي من إضلال الإنس وإغوائهم.
استمتع بعضنا ببعض: انتفع كل منا بصاحبه أي تبادلنا المنافع بيننا حتى الموت.
أجلنا الذي أجلت لنا: أي الوقت الذي وقت لنا وهو أجل موتنا فمتنا.
مثواكم: مأواكم ومقر بقائكم وإقامتكم.
حكيم عليم: حكيم في وضع كل شيء في موضعه فلا يخلد أهل الإيمان في النار، ولا يخرج أهل الكفر منها، عليم بأهل الإيمان وأهل الكفران.
معنى الآيات:
بعد ذلك البيان والتفصيل لطريق الهداية في الآيات من أول السورة إلى قوله تعالى حكاية عن المدعوين إلى الحق العادلين به الأصنام إذ قالوا: { لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتي رسل الله }.
أعلم تعالى عباده أن الهداية بيده وأن الإضلال كذلك يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بعدله، وأن لكل من الهداية والإضلال سننا تتبع في ذلك فمن طلب الهداية ورغب فيها صادقا علم تعالى منه وسهل له طرقها وهيأ له أسبابها، ومن ذلك أنه يشرح صدره لقبول الإيمان وأنواره فيؤمن ويسلم ويحسن فيكمل ويسعد، ومن طلب الغواية ورغب فيها صادقا علم الله تعالى ذلك منه فهيأ له أسبابها وفتح له بابها فجعل صدره ضيقا حرجا لا يتسع لقبول الإيمان وحلول أنواره فيه حتى لكأنه يتكلف الصعود إلى السماء وما هو بقادر هذه سنته في الهداية والإضلال، وقوله تعالى { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } أي كذلك الفعل في الهداية والإضلال يجعل الله الرجس أي يلقي بكل ما لا خير فيه على قلوبهم من الكبر والحسد والشرك والكفر والشيطان لقبول المحل لكل ذلك نتيجة خلوه من الإيمان بالله ولقائه.
وقوله تعالى { وهذا صراط ربك مستقيما } يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى ما بينه من الهدى وهذا طريق ربك مستقيما فاسلكه والزمه فإنه يفضي بك إلى كرامة ربك وجواره في جنات النعيم. وقوله: { قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون } يمتن تعالى وله الحمد والمنة بما أنعم به على هذه الأمة من تفصيل الآيات حججا وبراهين وشرائع ليهتدي طالبوا الهدى المشار إليهم بقوله { لقوم يذكرون } فيذكرون فيؤمنون ويعملون فيكملون ويسعدون في دار السلام إذ قال تعالى { لهم دار السلم عند ربهم وهو وليهم } أي متوليهم بالنصر والتأييد في الدنيا والإنعام والتكريم في الآخرة { بما كانوا يعملون } من الصالحات.
هذا ما دلت عليه الآيات الأولى والثانية والثالثة أما الآية الرابعة [128] فقد تضمنت عرضا سريعا ليوم القيامة الذي هو ظرف للجزاء على العمل في دار الدنيا فقال تعالى: { ويوم يحشرهم جميعا } إنسهم وجنهم ويقول سبحانه وتعالى { يمعشر الجن قد استكثرتم من الإنس } أي في إغوائهم وإضلالهم، { وقال أوليآؤهم من الإنس } أي الذين كانوا يوالونهم على الفساد والشر والشرك والكفر { ربنا } أي يا ربنا { استمتع بعضنا ببعض } أي كل منا تمتع بخدمة الآخر له وانتفع بها، يريدون أن الشياطين زينت لهم الشهوات وحسنت لهم القبائح وأغرتهم بالمفاسد فهذا انتفاعهم منهم وأما الجن فقد انتفعوا من الإنس بطاعتهم والاستجابة لهم حيث خبثوا خبثهم وضلا ضلالهم. وقولهم { وبلغنآ أجلنا الذي أجلت لنا } أي واستمر ذلك منا إلى أن انتهينا إلى أجلنا الذي أجلته لنا وهو نهاية الحياة الدنيا وها نحن بين يديك، كأنهم يعتذرون بقولهم هذا فرد الله تبارك وتعالى عليهم بإصدار حكمه فيهم قائلا: { النار مثوكم خلدين فيهآ إلا ما شآء الله } ومعنى مثواكم: مقامكم الذي تقيمون فيه أبدا.
ومعنى قوله { إلا ما شآء الله } هو استثناء لبيان إرادة الله المطلقة التي لا يقيدها شيء، إذ لو شاء أن يخرجهم من النار لأخرجهم أي ليس هو بعاجز عن ذلك، ومن الجائز أن يكون هذا الاستثناء المراد به من كان منهم من أهل التوحيد ودخل النار بالفسق والفجور وكبير الذنوب بإغواء الشياطين له فإنه يخرج من النار بإيمانه، ويكون معنى (ما) (من) أي إلا من شاء الله. والله أعلم بمراده، وقوله في ختام الآية، { إن ربك حكيم عليم } ، ومن مظاهر حكمته وعلمه إدخال أهل الكفر والمعاصي النار أجمعين الإنس والجن سواء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في الهداية والإضلال.
2- بيان صعوبة وشدة ما يعاني الكافر إذا عرض عليه الإيمان.
3- القلوب الكافرة يلقى فيها كل ما لا خير فيه من الشهوات والشبهات وتكون مقرا للشيطان.
4- فضيلة الذكر المنتج للتذكر الذي هو الإتعاظ فالعمل.
5- ثبوت التعاون بين أخباث الإنس والجن على الشر والفساد.
6- إرادة الله مطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا يؤثر فيها شيء.
[6.129-132]
شرح الكلمات:
نولي بعض الظالمين بعضا: أي نجعل بعضهم أولياء بعض بجامع كسبهم الشر والفساد.
بما كانوا يكسبون: أي من الظلم والشر والفساد.
ألم يأتكم رسل منكم: الإستفهام للتوبيخ والرسل جمع رسول من أوحى الله تعالى إليه شرعه وأمره بإبلاغه للناس، هذا من الإنس أما من الجن فهم من يتلقون عن الرسل من الإنس ويبلغون ذلك إخوانهم من الجن، ويقال لهم النذر.
يقصون عليكم آياتي: يخبرونكم بما فيها من الحجج متتبعين ذلك حتى لا يتركوا شيئا إلا بلغوكم إياه وعرفوكم به.
وينذرونكم لقاء يومكم: اي يخوفونكم بما في يومكم هذا وهو يوم القيامة من العذاب والشقاء.
وأهلها غافلون: لم تبلغهم دعوة تعرفهم بربهم وطاعته، وما لهم عليها من جزاء.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وكذلك نولي بعض الظلمين بعضا بما كانوا يكسبون } إخبار منه تعالى بسنته في أهل الظلم وهي أن يجعل بعضهم أولياء بعض بمعنى يتولاه بالنصرة والمودة بسبب الكسب السيء الذي يكسبونه على نحو موالاة شياطين الإنس للجن فالجامع بينهم الخبث والشر وهؤلاء الجامع بينهم الظلم والعدوان، ولا مانع من حمل هذا اللفظ على تسليط الظالمين بعضهم على بعض على حد: ولا ظالم إلا سيبتلى بأظلم. كما أنه تعالى سيوالي يوم القيامة إدخالهم النار فريقا بعد فريق وكل هذا حق وصالح لدلالة اللفظ عليه.
وقوله تعالى: { يمعشر الجن والإنس } إخبار منه تعالى بأنه يوم القيامة ينادي الجن والإنس موبخا لهم فيقول: { ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم هذا } أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون عنهم ويفهمون عنكم { يقصون عليكم آياتي } أي يتلونها عليكم ويخبرونكم بما تحمله آياتي من حجج وبراهين لتؤمنوا بي وتعبدوني وحدي دون سائر مخلوقاتي، وينذرونكم أي يخوفونكم، لقاء يومكم هذا الذي أنتم الآن فيه وهو ويوم القيامة والعرض على الله تعالى. وما يتم فيه من جزاء على الأعمال خيرها وشرها، وأن الكافرين هم أصحاب النار. فأجابوا قائلين: شهدنا على أنفسنا - وقد سبق أن غرتهم الحياة الدنيا فواصلوا الكفر والفسق والظلم - { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة [131] فقد تضمنت الإشارة إلى علة إرسال الرسل إلى الإنس والجن إذ قال تعالى { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غفلون } أي ذلك الإرسال كان لأجل أنه تعالى لم يكن من شأنه ولا مقتضى حكمته أنه يهلك أهل القرى بظلم منه وما ربك بظلام للعبيد ولا بظلم منه وهو الشرك والمعاصي وأهلها غافلون لم يؤمروا ولم ينهوا، ولم يعلموا بعاقبة الظلم وما يحل بأهله من عذاب.
وفي الآية الأخيرة [132] أخبر تعالى أن لكل عامل من خير أو شر درجات من عمله إن كان العمل صالحا فهي درجات في الجنة، وإن كان العمل سيئا فاسدا فهي دركات في النار، وهذا يتم حسب علم الله تعالى بعمل كل عامل وهو ما دل عليه قوله، { وما ربك بغفل عما يعملون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في أن الأعمال هي سبب الموالاة بين الإنس والجن فذو العمل الصالح يوالي أهل الصلاح، وذو العمل الفاسد يوالي أهل الفساد.
2- التحذير من الإغترار بالحياة الدنيا.
3- بيان العلة في إرسال الرسل وهي إقامة الحجة على الناس، وعدم إهلاكهم قبل الإرسال إليهم.
4- الأعمال بحسبها يتم الجزاء فالصالحات تكسب الدرجات، والظلمات تكسب الدركات.
[6.133-135]
شرح الكلمات:
الغنى: عن كل ما سواه، فغناه تعالى ذاتي ليس بمكتسب كغنى غيره.
ذو الرحمة: صاحب الرحمة العامة التي تشمل سائر مخلوقاته والخاصة بالمؤمنين من عباده.
ويستخلف: أي ينشىء خلقا آخر يخلفون الناس في الدنيا.
إن ما توعدون لآت: إن ما وعد الله تعالى به عباده من نعيم أو جحيم لآت لا محالة.
على مكانتكم: أي على ما أنتم متمكنين منه من حال صالحة أو فسادة.
عاقبة الدار: أي الدار الدنيا وهي سعادة الآخرة القائمة على الإيمان والعمل الصالح.
إنه لا يفلح الظالمون: أي لا يفوز الظالمون بالنجاة من النار ودخول الجنان لأن ظلمهم يوبقهم في النار.
معنى الآيات:
بعد تلك الدعوة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وبيان جزاء من أقام بها، ومن ضيعها في الدار الآخرة.
خاطب الرب تبارك وتعالى رسوله قائلا: { وربك الغني ذو الرحمة } أي ربك الذي أمر عباده بطاعته ونهاهم عن معصيته هو الغني عنهم وليس في حاجة إليهم، بل هم الفقراء إليه المحتاجون إلى فضله، ورحمته قد شملتهم أولهم وآخرهم ولم تضق عن أحد منهم، ليعلم أولئك العادلون بربهم الأصنام والأوثان أنه تعالى قادر على إذهابهم بإهلاكهم بالمرة، والإتيان بقوم آخرين أطوع لله تعالى منهم، وأكثر استجابة لهم منهم: { إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشآء كمآ أنشأكم من ذرية قوم آخرين } وليعلموا أن ما يوعدونه من البعث والحساب والجزاء لآت لا محالة وما أنتم بمعجزين الله تعالى ولا فائتينه بحال، ولذا سوف يجزي كلا بعمله خيرا كان أو شرا وهو على ذلك قدير.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الآية الثالثة [135] فقد تضمنت أمر الله تعالى للرسول أن يقول للمشركين من قومه وهم كفار قريش بمكة { اعملوا على مكانتكم } ما دمتم مصرين على الكفر والشرك { إني عامل } على مكانتي فسوف تعلمون من تكون له عاقبة دار الدنيا وهي الجنة دار السلام أنا أم أنتم مع العلم أن الظالمين لا يفلحون بالنجاة من النار ودخول الجنان، ولا شك أنكم أنتم الظالمون بكفركم بالله تعالى وشرككم به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير غنى الله تعالى المطلق عن سائر خلقه.
2- بيان قدرة الله تعالى على إذهاب الخلق كلهم والإتيان بآخرين غيرهم.
3- صدق وعد الله تعالى وعدم تخلفه.
4- تهديد المشركين بالعذاب إن هم أصروا على الشرك والكفر والذي دل عليه قوله { اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عقبة الدار } الدنيا { إنه لا يفلح الظلمون }.
[6.136-140]
شرح الكلمات:
مما ذرأ: مما خلق.
من الحرث والأنعام: الحرث كل ما يحرث له الأرض من الزروع، والأنعام: الإبل والبقر والغنم.
نصيبا: حظا وقدرا معينا.
لشركائنا: شركاؤهم أوثانهم التي أشركوها في عبادة الخالق عز وجل.
ساء ما يحكمون: قبح حكمهم في ذلك إذ آثروا أوثانهم على الله.
ليردوهم: اللام لام العاقبة ومعنى يردوهم: يهلكوهم.
وليلبسوا: ليخلطوا عليهم دينهم.
حجر: أي ممنوعة على غير من لم يأذنوا له في أكلها.
حرمت ظهورها: أي لا يركبونها ولا يحملون عليها.
افتراء على الله: أي كذبا على الله عز وجل.
على أزواجنا: أي إناثنا.
وإن يكن ميتة: أي إن ولد ما في بطن الحيوان ميتا فهم شركاء الذكور والإناث سواء.
سفها بغير بعلم: حمقا وطيشا وعدم رشد وذلك لجهلهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في التنديد بأفعال العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فأخبر تعالى عما كانوا يبتدعونه من البدع ويشرعون من الشرائع بدون علم ولا هدى ولا ولا كتاب مبين فقال تعالى عنهم { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعم نصيبا } أي جعل أولئك العادلون بربهم لله تعالى مما خلق من الزرع والأنعام نصيبا أي قسما كما جعلوا للآلهة التي يؤلهونها مع الله سبحانه وتعالى نصيبا، { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركآئنا }. وقوله تعالى: { بزعمهم } لأنه سبحانه وتعالى ما طلب منهم ذلك ولا شرعه لهم وإنما هم يكذبون على الله تعالى ثم إذا أنبت أو أنتج ما جعلوه لله، ولم ينبت أو ينتج ما جعلوه للشركاء حولوه إلى الشركاء بدعوى أنها فقيرة وأن الله غني، وإذا حصل العكس لم يحولوا ما جعلوه للآلهة لله بنفس الحجة وهي أن الشركاء فقراء، والله غني.
هذا معنى قوله تعالى: { فما كان لشركآئهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركآئهم } وهو تحيز ممقوت وتحكم فاسد فلذا قبح تعالى ذلك عليهم فقال { سآء ما يحكمون } أي بئس الحكم حكمهم هذا وقبح صنيعا، صنيعهم هذا، وما جعلوه لله ينفقون على الضيفان والفقراء، وما جعلوه للشركاء ينفقونه على السدنة والمقيمين على الأصنام والأوثان.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية [137] وهي قوله تعالى { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركآؤهم } يريد وكذلك التحكم الباطل والإدعاء الكاذب في جعل لله شيئا مما ذرأ من الحرث والأنعام، ثم عدم العدل بين الله تعالى وبين شركائهم زين لكثير من المشركين شركاؤهم وهم شياطينهم من الجن والإنس قتل أولادهم كالمؤودة من البنات خوف العار، وكقتل الأولاد الصغار خوف الفقر، أو لنذرها للآلهة، وفعل الشياطين ذلك من أجل أن يردوهم أي يهلكوهم، ويلبسوا عليهم دينهم الحق أن يخلطوه لهم بالشرك، وهو معنى قوله تعالى { ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم } وقوله تعالى: { ولو شآء الله ما فعلوه } هو كما قال إذ لو أراد تعالى منعهم من ذلك لمنعهم وهو على كل شيء قدير، إذا فذرهم أيها الرسول وما يفترون من الكذب في هذا التشريع الجاهلي الباطل القبيح.
هذا ما دلت عيه الآية الثانية أما الثالثة [138] وهي قوله تعالى: { وقالوا هذه أنعم وحرث حجر لا يطعمهآ إلا من نشآء بزعمهم وأنعم حرمت ظهورها وأنعم لا يذكرون اسم الله عليها افترآء عليه }.
فقد تضمنت هذه الآية ثلاثة ضروب من تشريع الجاهلية وأباطيلهم.
الأول: تحريمهم بعض الأنعام والحرث وجعلها لله وللآلهة التي يعبدونها مع الله.
الثاني: أنعام أي إبل حرموا ركوبها كالسائبة والحام.
الثالثة: إبل لا يذكرون اسم الله عليها فلا يحجون عليها ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحال ولا إن حملوا عليها.
وقوله تعالى في ختام الآية { افترآء عليه } أي كذبا على الله تعالى لأنه تعالى ما حرم ذلك عليهم وإنما حرموه هم بأنفسهم وقالوا حرمه الله علينا، ولذا توعدهم الله تعالى على كذبهم هذا بقوله: { سيجزيهم بما كانوا يفترون } أي سيثيبهم الثواب الملائم لكذبهم وهو العذاب الأخروي.
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية الرابعة [139] { وقالوا ما في بطون هذه الأنعم خالصة لذكورنا ومحرم على أزوجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركآء } فقد تضمنت تشريعا آخر باطلا اختلقوه بأنفسهم وزعموا أن الله شرعه لهم وهو أنهم حرموا ما في بطون بعض الأنعام على الإناث، وجعلوها حلالا للذكور خالصة لهم دون النساء فلا يشرب النساء من ألبانها ولا يأكلن لحوم أجنتها إن ذبحوها ولا ينتفعن بها بحال، اللهم إلا أن ولد الجنين ميتا فإنهم لا يحرمونه على النساء ولا يخصون به الذكور فيحل أكله للنساء والرجال معا، ولذا توعدهم تعالى بقوله { سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم } أي سيثيبهم على هذا الكذب بما يستحقون من العذاب إنه حكيم في قضائه عليم بعباده.
هذا ما دلت عليه الآية الرابعة أما الخامسة [140] فقد أخبر تعالى بخسران أولئك المشرعين وضلالهم وعدم هدايتهم بقوله { قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها } أي جهلا { بغير علم وحرموا ما رزقهم الله } مما سبق ذكره { افترآء على الله } كذبا { قد ضلوا وما كانوا مهتدين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الابتداع في الدين والتشريع المنافي لشرع الله تعالى وإن لم ينسب إلى الله تعالى.
2- ما ينذره الجهال اليوم من نذور للأولياء وإعطائهم شيئا من الأنعام والحرث والشجر هو من عمل المشركين زينه الشيطان لجهال المسلمين.
3- حرمة قتل النفس لأي سبب كان وتحديد النسل اليوم وإلزام الأمة به من بعض الحكام من عمل أهل الجاهلية الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم كقتل البنات خشية العار والأولاد خشية الفقر.
[6.141-144]
شرح الكلمات:
أنشأ جنات: خلق جنات جمع جنة وهي البستان.
معروشات: ما يعمل له العريش. من العنب، وما لا يعرش له من سائر الأشجار.
مختلفا أكله: أي ثمره الذي يأكله منه.
متشابها: في الورق وغير متشابه في الحب والطعم.
حقه: ما وجب فيه من الزكاة.
يوم حصاده: يوم حصاده إن كان حبا وجذاذه إن كان نخلا.
ولا تسرفوا في إخراجه: أي بأن لا تبقوا لعيالكم منه شيئا.
حمولة: الحمولة ما يحمل عليها من الإبل.
وفرشا: الفرش الصغار من الحيوان.
خطوات الشيطان: مسالكه في التحريم والتحليل للإضلال والغواية.
أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين: أنثى الضأن وأنثى الماعز ذكرا كان أو أنثى.
نبئوني بعلم: خبروني بأيهما حرم بعلم صحيح لا بوسواس الشياطين.
أم كنتم شهداء: أي حاضرين وقت تحريمه تعالى ذلك عليكم إن كان قد حرمه كما تزعمون.
معنى الآيات:
لما توعد الحق تبارك وتعالى المفترين عليه حيث حرموا وحللوا ما شاءوا ونسبوا ذلك إليه إفتراء عليه تعالى، وما فعلوه ذلك إلا لجهلهم بالله تعالى وعدم معرفتهم بعلمه وقدرته وإلا لما اتخذوا له أندادا من الأحجار وقالوا: شركاؤنا، وشفعاؤنا عند الله. ذكر تعالى في هذه الآيات الأربع مظاهر قدرته وعلمه وحكمته وأمره ونهيه وحجاجه في إبطال تحريم المشركين ما أحل الله لعباده فقال تعالى: { وهو الذي أنشأ جنت } أي بساتين وحدائق من العنب معروشات أي محمول شجرها على العروش التي توضع للعنب ليرتفع فوقها وغير معروشات أي غير معرش لها، وأنشأ النخل والزرع مختلفا ثمره وطعمه، وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في الورق، وغير متشابه في الحب والطعم أيضا. وأذن تعالى في أكله وأباحه وهو مالكه وخالقه فقال: { كلوا من ثمره إذآ أثمر } أي نضج بعض النضج وأمر بإخراج الواجب فيه وهو الزكاة فقال { وآتوا حقه يوم حصاده } أي بعد درسه وتصفيته إذ لا يعطى السنبل، ونهى عن الإسراف وهو تجاوز الحد في إخراج الزكاة غلو حتى لا يبقوا لمن يعولون ما يكفيهم، فقال: { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وأنشأ من الأنعام: الإبل والبقر والغنم { حمولة } وهي ما يحمل عليها لكبرها { وفرشا } وهي الصغار التي لا يحمل عليها، وأذن مرة أخرى في الأكل مما رزقهم سبحانه وتعالى من الحبوب والثمار واللحوم وشرب الألبان، فقال: { كلوا مما رزقكم الله } ونهى عن اتباع مسالك الشيطان في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم فقال: { ولا تتبعوا خطوت الشيطن } وعلل للنهي فقال: { إنه لكم عدو مبين } ومن عرف عدوه اتقاه ولو بالبعد عنه، وأنشأ { ثمنية أزوج من الضأن اثنين } وهما الكبش والنعجة، { ومن المعز اثنين } وهما التيس والعنزة، وأمر رسوله أن يحاج المفترين في التحريم والتحليل فقال له { قل } يا رسولنا لهم { ءآلذكرين حرم } الله عليكم { أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } أي النعجة والعنزة { نبئوني بعلم إن كنتم صدقين } فإن قلتم حرم الذكرين فلازم ذلك جميع الذكور حرام، وإن قلتم حرم الأنثيين فلازمه أن جميع الإناث حرام وإن قلتم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فكل ما ولد منهما حرام ذكرا كان أو أنثى فكيف إذا حرمتم البعض وحللتم البعض فبأي علم أخذتم نبوئوني به إن كنتم صادقين قوله تعالى { ومن الإبل اثنين } وهما الناقة والجمل، { ومن البقر اثنين } وهما الثور والبقرة { قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } ، فهل حرم الذكرين أو الأنثيين هذه الأزواج الأربعة فإن حرم الذكرين فسائر الذكور محرمة، وإن حرم الأنثيين فسائر الإناث محرمة، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وحينئذ يكون كل مولود منهما محرما ذكرا كان أو أنثى، وبهذا تبين أنكم كاذبون على الله مفترون فالله تعالى لم يحرم من هذه الأزواج الثمانية شيئا، وإنما حرم الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه.
وقوله تعالى { أم كنتم شهدآء إذ وصكم الله } بهذا التحريم فهو تبكيت لهم وتقريع ، إذ لم يحرم الله تعالى هذا الذي حرموه، ولم يوصهم بذلك ولم يكونوا حال الوصية حضورا، وإنما هو الإفتراء والكذب على الله تعالى.
وأخيرا سجل عليهم أنهم كذبة ظالمون مضلون لغيرهم بغير علم، وأنهم لا يستحقون الهداية فقال عز وجل: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظلمين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إباحة أكل التمر والعنب والرمان والزيتون.
2- وجوب الزكاة في الزيتون والتمر والحبوب إذا بلغت النصاب وهو خمسة أوسق والوسق ستون صاعا، والصاع أربع حفنات.
3- جواز الأكل من الثمر قبل جذاذه وإخراج الزكاة منه.
4- حرمة الإسراف في المال بأن ينفقه فيما لا يعني، أو ينفقه كله ولم يترك لأهله شيئا.
5- إباحة أكل بهيمة الأنعام وهي ثمانية أزواج، ضأن وماعز، وإبل وبقر وكلها ذكر وأنثى.
6- إبطال تشريع الجاهلية في التحريم والتحليل، فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله.
7- جواز الجدال والحجاج لإحقاق الحق أو إبطال الباطل.
8- لا أظلم من يكذب على الله تعالى، فيشرع لعباده ما لم يشرع لهم.
[6.145-147]
شرح الكلمات:
محرما على طاعم يطعمه: محظورا ممنوعا على آكل يأكله.
ميتة أو دما مسفوحا: الميتة: ما مات دون تزكية، والدم المسفوح: المصبوب صبا لا المختلط باللحم والعظام.
رجس: نجس وقذر قبيح محرم.
أو فسقا أهل لغير الله به: الفسق الخروج عن طاعة الله والمراد ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه وإنما ذكر عليه اسم الأصنام أو غيرها، والإهلال رفع الصوت باسم المذبوح له.
فمن اضطر غير باغ ولا عاد: اضطر: ألجأته الضرورة وهي خوف الهلاك، والباغ الظالم، والعادي: المعتدي المجاوز للحد.
هادوا: اليهود.
ذي ظفر: صاحب ظفر. وهو الحيوان الذي لا يفرق أصابعه كالإبل والنعام.
ما حملت ظهورها أو الحوايا: أي الشحم العالق بالظهر. والحوايا: المباعر والمصارين والأمعاء.
أو ما اختلط بعظم: أي عفى لهم عن الشحم المختلط بالعظم كما عفي عن الحوايا والعالق بالظهر.
ببغيهم: أي بسبب ظلمهم.
ولا يرد بأسه: بطشه وعذابه.
معنى الآيات :
ما زال السياق في الحجاج مع أولئك المحرمين ما لم يحرم الله ففي أولى هذه الآيات يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للذين يحرمون افتراء على الله ما لم يحرم { لا أجد في مآ أوحي إلي } - وأنا رسول الله - { محرما } أي شيئا محرما { على طاعم يطعمه } أي آكل يأكله اللهم { إلا أن يكون ميتة } وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه أي لم يذك الذكاة الشرعية، { أو دما مسفوحا } أي مصبوبا صبا لا الدم المختلط بالعظم واللحم كالكبد والطحال، { أو لحم خنزير فإنه } أي لحم الخنزير { رجس } أي نجس قذر حرام، { أو فسقا أهل لغير الله به } أي ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه أو ذكر اسم الأصنام عليه فهو فسق أي خروج عن طاعة الرب الذي أمر من أراد ذبح بهيمة أن يذكر عليها اسمه ليحل له أكلها.
هذا معنى قوله تعالى: { قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به }.
وقوله تعالى { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } أي غير ظالم بأكل الميتة وما ذكر معها وذلك بأن يأكلها تلذذا بها لا دفعا لغائلة الموت وهو كاره لأكلها { ولا عاد } أي غير متجاوز القدر الذي أبيح له وهو ما يدفع به غائلة الموت عن نفسه { فإن ربك غفور رحيم } ومن مظاهر مغفرته ورحمته أنه أذن للمضطر بالأكل مما هو حرام في الضرورة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [145] أما الآية الثانية فبعد أن بين تعالى أنه لم يحرم على المؤمنين غير ما ذكر من الميتة وما ذكر بعدها أخبر أنه حرم على اليهود أكل كل ذي ظفر وهو ما ليس له أصابع مفرقة مثل الإبل والنعام والبط والإوز ومن البقر والغنم حرم عليهم شحومهما وهو الشحم اللاصق بالكرش والكلى، وأباح لهم من الشحوم ما حملته البقرة أو الشاة على ظهرها، وما كان لاصقا بالمباعر وهي الحوايا جمع حاوية وكذا الشحم المختلط بالعظام كشحم اللية، وشحم الجانب والأذن والعين وما إلى ذلك.
هذا ما تضمنه قوله تعالى من الآية الثانية { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايآ أو ما اختلط بعظم } ثم أخبر تعالى بأن هذا التحريم عليهم كان عقوبة لهم بسبب ظلمهم وإجرامهم فقال { ذلك جزينهم ببغيهم } أي ذلك التحريم منا عليهم كان جزاء ظلمهم، وقوله { وإنا لصدقون } فيما أخبرنا به عنهم، وهم الكاذبون إذ قالوا إنما حرم هذا على إسرائيل ونحن أتباع له أما نحن فلم يحرم علينا شيء وإنهم لكاذبون. وقوله تعالى { فإن كذبوك } أي اليهود فيما أخبرت به عنهم { فقل } لهم { ربكم ذو رحمة واسعة } ولذا لم يعاجلكم بالعقوبة وقد كذبتموه وكذبتم رسوله وافتريتم على رسله، ولكن ليس معنى ذلك أنكم نجوتم من العذاب فإن بأس الله لا يرد عن القوم المجرمين من أمثالكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الميتة وأنواعها في سورة المائدة وهي المنخنقة والموقوذة، والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، وحرمة الدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب وحرم بالسنة الحمر الأهلية والبغال، وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور.
2- قد يحرم العبد بالذنوب من كثير من الطيبات كما حصل لليهود.
3- إمهال الله تعالى المجرمين لا يدل على عدم عقوبتهم فإن بأس الله لا يرد عن القوم المجرمين.
[6.148-150]
شرح الكلمات:
أشركوا: أي جعلوا لله شركاء له يعبدونهم معه.
ولا حرمنا من شيء: أي مما حرموه من البحائر والسوائب والوصائل والحامات.
ذاقوا بأسنا: أي عذابنا.
تخرصون: تكذبون.
الحجة البالغة: الدليل القاطع للدعاوي الباطلة.
هلم شهداءكم: أي أحضروهم.
يعدلون: أي به غيره من الأصنام وسائر المعبودات الباطلة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في رد ترهات وأباطيل العادلين بربهم المشركين في ألوهيته سواه فذكر تعالى في الآيتين [148] و [149] شبهة للمشركين يتخذونها مبررا لشركهم وباطلهم وهي قوله: { لو شآء الله مآ أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } يريدون أن عدم مؤاخذة الله تعالى لنا ونحن نشرك به ونحرم ما نحرمه دليل على رضا الله بذلك وإلا لمنعنا منه وحال دون فعلنا له، فرد الله تعالى هذه الشبهة وأبطلها بقوله: { كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } أي مثل هذا التكذيب الصادر من هؤلاء العادلين بربهم من كفار قريش ومشركيها كذب الذين من قبلهم من الأمم، وما زالوا على تكذيبهم حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلو كان تعالى راضيا بشركهم وشرهم وباطلهم لما أخذهم فإمهال الله تعالى للناس لعلهم يتوبون ليس دليلا على رضاه بالشرك والشر، والحجة أنه متى انتهت فترة الإمهال نزل بالمكذبين العذاب.
وقوله تعالى { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ } يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للمذنبين العادلين بربهم { هل عندكم من علم فتخرجوه } أي ليس لديكم علم على ما تدعونه فتخرجوه لنا، { إن تتبعون إلا الظن } أي ما تتبعون في دعاويكم الباطلة إلا الظن، { وإن أنتم إلا تخرصون } أي وما أنتم إلا تحرصون أي تقولون بالحزر والخرص فتكذبون، وقوله تعالى { قل فلله الحجة البالغة } أي يعلم رسوله أن يقول لهم بعد أن دحض شبهتهم وأبطلها إن لم تكن لكم حجة فلله الحجة البالغة، ومع هذا { فلو شآء } هدايتكم { لهداكم أجمعين } وهو على ذلك قدير، وإنما حكمه في عباده وسنته فيهم أن يكلفهم اختبارا لهم ويوضح الطريق لهم ويقيم الحجة عليهم، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فعليها.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية وأما الآية الثالثة [150] وهي قوله تعالى: { قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا } أي الذين حرمتموه فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بهم " فإن شهدوا فلا تشهد معهم " وإن فرضنا أنهم يأتون بشهداء باطل يشهدون فلا تقرهم أنت أيها الرسول على باطلهم بل بين لهم بطلان ما ادعوه، فإنهم لا يتبعون في دعاويهم، إلا الأهواء، وعليه { ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون } ، وقد جمع هؤلاء المشركون كل هذه العظائم من الذنوب التكذيب بآيات الله، وعدم الإيمان بالآخرة، والشرك بربهم فكيف يجوزاتباعهم وهو مجرمون ضالون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والاستمرار فيها.
2- لا حجة إلا فيما قام على أساس العلم الصحيح.
3- الحكمة في عدم هداية الخلق كلهم مع قدرة الله تعالى على ذلك هو التكليف والإبتلاء.
4- مشروعية الشهادة وحضور الشهود.
5- عدم إقرار شهادة الباطل وحرمة السكوت عنها.
6- حرمة اتباع أصحاب الأهواء الذين كذبوا بآيات الله.
[6.151-153]
شرح الكلمات:
اتل: اقرأ.
من إملاق: من فقر.
الفواحش: جمع فاحشة كل ما قبح واشتد قبحه كالزنى والبخل.
حرم الله: أي حرم قتلها وهي كل نفس إلا نفس الكافر المحارب.
إلا بالحق: وهو النفس بالنفس وزنى المحصن، والردة.
بالتي هي أحسن: أي بالخصلة التي هي أحسن.
أشده: الإحتلام مع سلامة العقل.
بالقسط: أي بالعدل.
إلا وسعها: طاقتها وما تتسع له.
تذكرون: تذكرون فتتعظون.
السبل: جمع سبيل وهي الطريق.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إبطال باطل العادلين بربهم المتخذين له شركاء الذين يحرمون بأهوائهم ما لم يحرمه الله تعالى عليهم فقد أمر تعالى رسوله في هذه الآيات الثلاث أن يقول لهم: { تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } لا ما حرمتموه أنتم بأهوائكم وزينه لكم شركاؤكم. ففي الآية الأولى جاء تحريم خمسة أمور وهي: الشرك، وعقوق الوالدين، وقتل الأولاد، وارتكاب الفواحش، وقتل النفس فقال تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا } فأن تفسيرية، ولا ناهية وهذا أول محرم وهو الشرك بالله تعالى، { وبالوالدين إحسانا } ، وهذا أمر إذ التقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا، والأمر بالشيء نهي عن ضده فالأمر بالإحسان يقتضي تحريم الإساءة والإساءة إلى الوالدين هي عقوقهما، فكان عقوق الوالدين محرما داخلا ضمن المحرمات المذكورة في هذه الآيات الثلاث. { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } فهذا المحرم الثالث وهو قتل الأولاد من الإملاق الذي هو الفقر وهذا السبب غير معتبر إذ لا يجوز قتل الأولاد بحال من الأحوال وإنما ذكر لأن المشركين كانوا يقتلون أطفالهم لأجله وقوله تعالى { نحن نرزقكم وإياهم } تعليل للنهي عن قتل الأولاد من الفقر إذ ما دام الله تعالى يرزقكم أنتم أيها الآباء ويرزق أبناءكم فلم تقتلونهم؟ وفي الجملة بشارة للأب الفقير بأن الله تعالى سيرزقه هو وأطفاله فليصبر وليرج، ولا يقتل أطفاله. وقوله تعالى { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن }. هذا الأمر الرابع مما حرم الله تعالى، وهو فعل الفاحشة التي هي الزنى وسواء ما كان منه ظاهرا أو باطنا والتحريم شامل لكل خصلة قبيحة قد اشتد قبحها وفحش فأصبح فاحشة قولا كانت أو فعلا أو اعتقادا، وقوله: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } هذا هو المحرم الخامس وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها وهي كل نفس ما عدا نفس المحارب فإنها مباحة للقتل، الحق الذي تقتل به النفس المحرمة واحد من ثلاثة وهي القود والقصاص فمن قتل نفسا متعمدا جاز قتله بها قصاصا. والزنى بعد الإحصان فمن زنى وهو محصن وجب قتله رجما بالحجارة كفارة له، والردة عن الإسلام، وقد بينت هذه الحقوق السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح:
" لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة "
وقوله تعالى في ختام الآية { لعلكم تعقلون } أي ليعدكم بترك هذه المحرمات الخمس لأن تكونوا في عداد العقلاء، لأن من يشرك بربه صنما أو يسيء إلى أبويه أو يقتل أولاده أو يفجر بنساء الناس أو يقتلهم، لا يعتبر عاقلا أبدا إذ لو كان له عقل ما أقدم على هذه العظائم من الذنوب والآثام.
وفي الآية الثانية وهي قوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصكم به لعلكم تذكرون } ففي هذه الآية جاء تحريم أربعة أمور هي: أكل مال اليتيم، والتطفيف في الوزن، والجور في الأقوال والأحكام، ونكث العهد. فقوله تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم } أي بما ينقصه أو يفسده إلا بالحالة التي هي أحسن له نماء وحفظا وقوله { حتى يبلغ أشده } بيان لزمن اليتم وهو من ولادته وموت والده إلى أن يبلغ زمن الأشد وهو البلوغ، والبلوغ يعرف بالاحتلام أو نبات شعر العانة، وفي الجارية بالحيض أو الحمل، وببلوغ الثامنة عشرة من العمر وعلى شرط أن يبلغ اليتيم عاقلا فإن كان غير عاقل يبقى في كفالة كافله، وقوله تعالى: { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها } أمر بتوفية الكيل والوزن، والأمر بالشيء نهي عن ضده، وبذا حرم بخس الكيل والوزن والتطفيف فيهما وقوله { بالقسط } أي بالعدل بحيث لا يزيد ولا ينقص، وقوله { لا نكلف نفسا إلا وسعها } أي طاقتها رفعا للحرج عن المسلم في الكيل والوزن إذا هو نقص أو زاد بغير عمد ولا تساهل.
وقوله تعالى { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } هذا المحرم الثالث وهو قول الزور وشهادة الزور، إذ الأمر بالعدل في القول ولو كان المقول له أو فيه قريبا نهى عن ضده وهو الجور في القول.
وقوله تعالى { وبعهد الله أوفوا } متضمن للمحرم الرابع وهو نكث العهد وخلف الوعد، إذ الأمر بالوفاء بالعهود نهي عن نكثها وعدم الوفاء بها، وقوله تعالى { ذلكم وصكم به لعلكم تذكرون } إشارة إلى ما تضمنته هذه الآية الثانية مما حرم تعالى على عباده، وقوله { لعلكم تذكرون } أي ليعدكم بذلك لأن تذكروا فتتعظوا فتجتنبوا ما حرم عليكم. وقوله تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } هذه هي الآية الثالثة من آيات الوصايا العشر وقد تضمنت. الأمر بالتزام الإسلام عقائدا وعبادات وأحكاما وأخلاقا وآدابا، كما تضمنت النهي عن اتباع غيره من سائر الملل والنحل المعبر عنها بالسبل، وما دام الأمر بالتزام الإسلام يتضمن النهي عن ترك الإسلام فقد تضمنت الآية تحريما ألا وهو ترك الإسلام واتباع غيره هذا الذي حرم الله تعالى على عباده لا ما حرمه المشركون بأهوائهم وتزيين شركائهم قوله تعالى: { ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } إشارة إلى التزام الإسلام وترك ما عداه ليعدكم بذلك للتقوى وهي إتقاء غضب الرب تعالى وعذابه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- هذه الوصايا العشر عليها مدار الإسلام وسعادة الإنسان في الدارين كان عبد الله بن مسعود يقول فيها " من سره أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ الآيات الثلاث من آخر سورة الأنعام: { قل تعالوا.... تتقون }.
2- حرمة الشرك وحقوق الوالدين وقتل الأولاد والزنى واللواط وكل قبيح من قول أو عمل أو اعتقاد وقتل النفس إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وبخس الكيل والوزن، وقول الزور وشهادة الزور، ونكث العهد وخلف الوعد. والردة عن الإسلام، واتباع المذاهب الباطلة والطرق الضالة.
3- كمال العقل باجتناب المحرمات الخمس الأولى.
4- الحصول على ملكة المراقبة باجتناب المحرمات الأربع الثانية.
5- النجاة من النار والخزي والعار في الدارين بالتزام الإسلام حتى الموت والبراءة من غيره من سائر المذاهب والملل والطرق.
[6.154-157]
شرح الكلمات:
الكتاب: التوراة.
وتفصيلا لكل شيء: تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها وعباداتها وفضائلها وأحكامها.
وهذا كتاب أنزلناه: القرآن الكريم.
مبارك: خيريته ونفعه وبركته دائمة.
على طائفتين من قبلنا: اليهود والنصارى.
عن دراستهم: أي قراءتهم لكتبهم لأنها بلسانهم ونحن لا نفهم ذلك.
وصدف عنها: أعرض عنها ولم يلتفت إليها.
سوء العذاب: أي سيء العذاب وهو أشده.
معنى الآيات:
هذا الكلام متصل بما قبله، فثم حرف عطف والمعطوف عليه هو قل تعالوا أتل الآيات أي ثم قل يا رسولنا آتى ربي موسى الكتاب تماما لنعمه { على الذي أحسن } طاعة ربه وهو موسى عليه السلام، { وتفصيلا لكل شيء } مما تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها، وعباداتها وأحكامها العامة والخاصة { وهدى } يتبينون به الحق والصواب، { ورحمة } لهم في دنياهم لما يحمله من الدعوة إلى العدل والخير رجاء أن يوقنوا بلقاء ربهم.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي قوله تعالى: { ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقآء ربهم } أي بني إسرائيل { يؤمنون } فيعملون الصالحات ويتخلون عن المفاسد والشرور لما تجلبه لهم من غضب الله تعالى وعذابه.
أما الآية الثانية [155] فقد أشاد الله تعالى بالقرآن الكريم ممتنا بإنزاله وما أودع فيه من البركة التي ينالها كل من يؤمن به ويعمل به ويتلوه تعبدا وتقربا وتعلما.
هذا معنى قوله تعالى: { وهذا كتب أنزلنه مبارك } وقوله { فاتبعوه.... } أمر للعباد باتباع ما جاء في القرآن الكريم من عقائد وعبادات وشرائع وأحكام فإن من اتبعه قاده إلى السعادة والكمال في الحياتين، وقوله { واتقوا لعلكم ترحمون } أي اتقوا ترك العمل به ليعدكم ذلك الذي هو متابعة القرآن والتقوى للرحمة فترحمون في الدنيا والآخرة.
وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: { أن تقولوا إنمآ أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } فمعناها: إن الله تعالى أنزل الكتاب على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمره بتلاوته وإبلاغه الناس لئلا يقول الكافرون من العرب إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا اليهود والنصارى والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل، { وإن كنا عن دراستهم لغافلين } إذ لم نعرف لغتهم، ولم نعرف ما يقرأونه في كتابهم، فتقوم الحجة لكم علينا فقطعا لهذه الحجة أنزلنا الكتاب.
وقوله تعالى في الآية الرابعة: { أو تقولوا لو أنآ أنزل علينا الكتاب لكنآ أهدى منهم فقد جآءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة } كما قطع تعالى عذرهم بإنزال كتابه الكريم لو قالوا يوم القيامة إنما أنزل الكتاب على اليهود والنصارى ونحن لم ينزل إلينا شيء فلذا ما عرفنا ربنا ولا عرفنا محابه ومكارهه فنطيعه بفعل محابه وترك مكارهه، قطع كذلك عذرهم لو قالوا لو أنا أنزل علينا الكتاب الهادي إلى الحق المعرف بالهدى لكنا أهدى من اليهود والنصارى الذين أوتوا الكتاب قبلنا، فقال تعالى { فقد جآءكم بينة من ربكم } وهو القرآن الكريم ورسوله المبلغ له { وهدى ورحمة } أي وجاءكم الهدى والرحمة يحملهما القرآن الكريم، فأي حجة بقيت لكم تحتجون بها عند الله يوم القيامة إنكم إن لم تقبلوا هذه البينة وما تحمله من هدى ورحمة فقد كذبتم بآيات الله وصدفتم عنها ولا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها، وسيجزيكم بما يجزي به المكذبين بآيات الله الصادفين عنها.
هذا ما دلت عليه الآية الرابعة [157] { أو تقولوا لو أنآ أنزل علينا الكتاب لكنآ أهدى منهم } أي كراهية أن تقولوا. { فقد جآءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان منة الله تعالى على موسى عليه السلام والثناء عليه لإحسانه.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة.
3- الإشادة بالقرآن الكريم، وما أودع الله فيه من البركة والهدى والرحمة والخير.
4- قطع حجة المشركين بإنزال الله تعالى كتابه وإرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
5- التنديد بالظلم، وبيان جزاء الظالمين المكذبين بآيات الله المعرضين عنها.
[6.158-160]
شرح الكلمات:
بعض آيات ربك: أي علامات الساعة منها طلوع الشمس من مغربها.
كسبت في إيمانها خيرا: من الطاعات والقربات.
فرقوا دينهم: جعلوه طرائق ومذاهب تتعادى.
وكانوا شيعا: طوائف وأحزابا.
من جاء بالحسنة: أي أتى يوم القيامة بالحسنة التي هي الإيمان بالله والإقرار بوحدانيته والعمل بطاعته وطاعة رسوله.
ومن جاء بالسيئة: أي بالشرك بالله ومعاصيه.
معنى الآيات:
بعد ذكر الحجج وإنزال الآيات التي هي أكبر بينة على صحة التوحيد وبطلان الشرك، والعادلون بربهم الأصنام ما زالوا في موقفهم المعادي للحق ودعوته ورسوله فأنزل الله تعالى قوله: { هل ينظرون.... } أي ما ينتظرون { إلا أن تأتيهم الملائكة } لقبض أراوحهم، { أو يأتي ربك } يوم القيامة لفضل القضاء، { أو يأتي بعض ءايات ربك } الدالة على قرب الساعة كطلوع الشمس من مغربها، إن موقف الإصرار على التكذيب هو موقف المنتظر لما ذكر تعالى من الملائكة ومجيء الرب تعالى أو مجيء علامات الساعة للفناء. وقوله تعالى { يوم يأتي بعض ءايات ربك } الدالة على قرب الساعة وهي طلوع الشمس من مغربها إيذانا بقرب ساعة الفناء في هذه الحال يخبر تعالى أن نفسا لم تكن آمنت قبل ظهور هذه الآية لو آمنت بعد ظهورها لا يقبل منها إيمانها ولا تنتفع به لأنه أصبح إيمانا اضطراريا لا اختياريا، كما أن نفسا آمنت به قبل الآية، ولكن لم تكسب في إيمانها خيرا وأرادت أن تكسب الخير فإن ذلك لا ينفعها فلا تثاب عليه، لأن باب التوبة مفتوح إلى هذا اليوم وهو يوم طلوع الشمس من مغربها فإنه يغلق.
وقوله تعالى: { قل انتظروا إنا منتظرون } يأمر الله رسوله أن يقول لأولئك العادلين بربهم المصرين على الشرك والتكذيب: ما دمتم منتظرين انتظروا إنا منتظرون ساعة هلاككم فإنها آتية لا محالة.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [158] أما الآيتان بعدها فإن الله تعالى أخبر رسوله بأن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا أي طوائف وأحزابا وفرقا مختلفة كاليهود والنصارى، ومن يبتدع من هذه الأمة بدعا فيتابع عليها فيصبحون فرقا وجماعات ومذاهب مختلفة متطاحنة متحاربة هؤلاء { لست منهم في شيء } أي أنت بريء منهم، وهم منك بريئون، وإنما أمرهم إلى الله تعالى هو الذي يتولى جزاءهم فإنه سيجمعهم يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون من الشر والخير { من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون } من قبلنا فلا ننقص المحسن منهم حسنة من حسناته، ولا نضيف إلى سيئآته سيئة ما عملها، هذا حكم الله فيهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إثبات صفة الإتيان في عرصات القيامة للرب تبارك وتعالى لفصل القضاء.
2- تقرير أشراط الساعة وإن طلوع الشمس منها وأنها متى ظهرت أغلق باب التوبة.
3- حرمة الفرقة في الدين وأن اليهود والنصارى فرقوا دينهم وأن أمة الإسلام أصابتها الفرقة كذلك بل وهي أكثر لحديث وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة.
4- براءة الرسول صلى الله عليه وسلم ممن فرقوا دينهم وترك الأمر لله يحكم بينهم بحكمة العادل.
5- مضاعفة الحسنات، وعدم مضاعفة السيئات عدل من الله ورحمة.
[6.161-165]
شرح الكلمات:
قيما: أي مستقيما.
ملة إبراهيم: أي دين إبراهيم وهو الإسلام.
حنيفا: مائلا عن الضلالة إلى الهدى.
ونسكي: ذبحي تقربا إلى الله تعالى.
ومحياي: حياتي.
أبغي ربا: أطلب ربا: إلها معبودا أعبده.
ولا تزر وازرة: أي لا تحمل نفس وازرة أي آثمة.
وزر أخرى: أي إثم نفس أخرى.
خلائف الأرض: أي يخلف بعضكم بعضا جيل يموت وآخر يحيا إلى نهاية الحياة.
ليبلوكم فيما آتاكم: أي ليختبركم فيما أعطاكم من الصحة والمرض والمال والفقر والعلم والجهل.
معنى الآيات:
في هذه الآيات وهي خاتمة هذه السورة التي بلغت آياتها بضعا وستين ومائة آية وكانت كلها في الحجاج مع العادلين بربهم وبيان طريق الهدى لهم لعلهم يؤمنون فيوحدون ويسلمون. في هذه الآيات أمر الله رسوله أن يعلن عن مفاصلته لأولئك المشركين فقال له { قل إن صلاتي ونسكي } أي ما أذبحه تقربا إلى ربي، { ومحياي } أي ما آتيه في حياتي { ومماتي } أي ما أموت عليه من الطاعات والصالحات { لله رب العالمين } وحده { لا شريك له وبذلك أمرت } أي أمرني ربي سبحانه وتعالى، { وأنا أول المسلمين } لا يسبقني أحد أبدا، كما أمره أن ينكر على المشركين دعوتهم إليه صلى الله عليه وسلم لأن يعبد معهم آلهتهم، ليعبدوا معه إلهه وقال: { قل أغير الله أبغي ربا } أي أطلب إلها، { وهو رب كل شيء } أي ما من كائن في هذه الحياة إلا والله ربه أي خالقه ورازقه، وحافظه، وأعلمه لا تكسب نفس من خير إلا وهو لها، ولا تكسب من شر إلا عليها، وأنه { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس مذنبة أخرى، وأن مرد الجميع إلى الله تعالى { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } أي ويقضي بينكم فينجو من ينجو ويهلك من يهلك، كما أخبره أن يقول: { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } أي يخلف بعضكم بعضا هذا يموت فيورث، وهذا الوارث يموت فيورث، وقوله { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } أي هذا غني وهذا فقير، هذا صحيح وهذا ضرير هذا عالم وذاك جاهل، ثم علل تعالى لتدبيره فينا بقوله { ليبلوكم } أي يختبركم فيما آتاكم ليرى الشاكر ويرى الكافر ولازم الابتلاء النجاح أو الخيبة فلذا قال { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } فيعذب الكافر ويغفر ويرحم الشاكر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ملة إبراهيم عليه السلام وهي الإسلام.
2- مشروعية قول { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } في القيام للصلاة.
3- لا يصح طلب رب غير الله تعالى لأنه رب كل شيء.
4- عدالة الله تعالى تتجلى يوم القيامة.
5- عدالة الجزاء يوم القيامة.
6- تفاوت الناس في الغنى والفقر والصحة والمرض، والبر والفجور وفي كل شيء مظهر من مظاهر تدبير الله تعالى في خلقه. ينتفع به الذاكرون من غير أصحاب الغفلة والنسيان.
[7 - سورة الأعراف]
[7.1-5]
شرح الكلمات:
المص: هذه أحد الحروف المقطعة ويقرأ هكذا: ألف لآم ميم صاد، والله أعلم بمراده بها.
كتاب: أي هذا كتاب.
حرج: ضيق.
وذكرى: تذكرة بها يذكرون الله وما عنده وما لديه فيقبلون على طاعته.
أولياء: رؤساؤهم في الشرك.
وما تذكرون: أي تتعظون فترجعون إلى الحق.
وكم من قرية: أي كثيرا من القرى.
بأسنا بياتا: عذابنا ليلا وهم نائمون.
أو هم قائلون: أي نائمون بالقيلولة وهم مستريحون.
فما كان دعواهم: أي دعاؤهم، إلا قولهم إنا كنا ظالمين.
معنى الآيات:
{ المص } في هذه الحروف إشارة إلى أن هذا القرآن تألف من مثل هذه الحروف المقطعة وقد عجزتم عن تأليف مثله فظهر بذلك أنه كلام الله ووحيه إلى رسوله فآمنوا به وقوله { كتاب } أي هذا كتاب { أنزل إليك } يا رسولنا { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي ضيق منه { لتنذر به } قومك عواقب شركهم وضلالهم، وتذكر به المؤمنين منهم ذكرى وقل لهم { اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم } من الهدى والنور، { ولا تتبعوا من دونه } أي من غيره { أوليآء } لا يأمرونكم إلا بالشرك والشر والفساد، وهم رؤساء الضلال في قريش { قليلا ما تذكرون } أي تتعظون فترجعون إلى الحق الذي جانبتموه { وكم من قرية } أي وكثيرا من القرى أهلكنا أهلها لما جانبوا الحق ولازموا الباطل { فجآءها بأسنا } أي عذابنا الشديد { بياتا أو هم قآئلون } أي ليلا أو نهارا، فما كان دعاءهم يومئذ إلا قولهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين فاعترفوا بذنبهم، ولكن هيهات أن ينفعهم الاعترف بعد معاينة العذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القرآن الكريم هو مصدر نذارة الرسول صلى الله عليه وسلم وبشارته بما حواه من الوعد والوعيد، والذكرى والبشرى.
2- وجوب اتباع الوحي، وحرمة اتباع ما يدعو إليه أصحابه الأهواء والمبتدعة.
3- الاعتبار بما حل بالأمم الظالمة من خراب ودمار.
4- لا تنفع التوبة عن معاينة الموت أو العذاب.
[7.6-10]
معنى الكلمات:
أرسل إليهم: هم الأمم والأقوام.
فلنقصن عليهم بعلم: فلنخبرنهم بأعمالهم متتبعين لها فلا نترك منها شيئا.
وما كنا غائبين: أي عنهم أيام كانوا يعملون.
الوزن يومئذ الحق: أي العدل.
فمن ثقلت موازينه: أي بالحسنات فأولئك هم المفلحون بدخول الجنة.
خسروا أنفسهم: بدخولهم النار والإصطلاء بها أبدا.
معايش: جمع معيشة بمعنى العيش الذي يعيشه الإنسان.
قليلا ما تشكرون: أي شكرا قليلا والشكر ذكر النعمة للمنعم وطاعته بفعل محابه وترك مكارهه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين } يخبر تعالى أنه إذا جمع الخلائق لفصل القضاء مؤكدا الخبر بالقسم أنه يسأل كل أمة أو جماعة أو فرد أرسل إليهم رسله يسألهم عن مدى إجابتهم دعوة رسله إليهم، فهل آمنوا بما جاءتهم به الرسل، وأطاعوهم فيما بلغوهم، من التوحيد والعبادة والطاعة والانقياد، كما يسأل الرسل أيضا هل بلغوا ما ائتمنهم عليه من رسالته المتضمنة أمر عباده بالإيمان به وتوحيده وطاعته في أمره ونهيه، ثم يقص تعالى على الجميع بعلمه كل ما كان منهم من ظاهر الأعمال وباطنها، ولا يستطيعون إخفاء شيء أبدا، ولم يكن سؤاله لهم أولا، إلا من باب إقامة الحجة وإظهار عدالته سبحانه وتعالى فيهم، ولتوبيخ من يستحق التوبيخ منهم، وهذا معنى قوله تعالى: { فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين } عنهم حينما كانوا في الدنيا يعملون فكل أعمالهم كانت مكشوفة ظاهرة له تعالى ولا يخفى عليه منها شيء وهو السميع البصير.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [6] والثانية [7] أما الآيتان الثالثة الرابعة فقد أخبر تعالى أنه بعد سؤالهم وتعريفهم بأعمالهم ينصب الميزان وتوزن لهم أعمالهم فمن ثقلت موازين حسناته أفلح بالنجاة من النار ودخول الجنة دار السلام ومن خفت لقلة حسناته وكثرة سيئاته خسر نفسه بإلقائه في جهنم ليخلد في عذاب أبدي، وعلل تعالى لهذا الخسران في جهنم بقوله { بما كانوا بآياتنا يظلمون } أي يكذبون ويجحدون، وأطلق الظلم وأريد به التكذيب والجحود لأمرين هما:
أولا: اكتفاء بحرف الجر الباء إذ لا تدخل على ظلم ولكن على كذب أو جحد يقال كذب به وجحد به ولا يقال ظلم به ولكن ظلمه وهذا من باب التضمين وهو سائغ في لغة العرب التي نزل بها القرآن.
وثانيا: أنهم بدل أن يؤمنوا بالآيات وهي واضحات كذبوا بها فكانوا كأنهم ظلموا الآيات ظلما حيث لم يؤمنوا بها وهي بينات.
هذا ما دلت عليه الآيتان أما الآية الخامسة [10] فقد تضمنت امتنان الله تعالى على عباده، وكان المفروض أن يشكروا نعمه عليهم بالإيمان به وتوحيده وطاعته، ولكن الذي حصل هو عدم الشكر من أكثرهم قال تعالى { ولقد مكناكم في الأرض } حيث جعلهم متمكنين في الحياة عليها يتصرفون فيها ويمشون في مناكبها، وقوله { وجعلنا لكم فيها معايش } هذه نعمة أخرى وهي أن جعل لهم فيها معايش وأرزاقا يطلبونها فيها ويحصلون عليها وعليها قامت حياتهم، وقوله { قليلا ما تشكرون } أي لا تشكرون إلا شكرا يسيرا لا يكاد يذكر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والسؤال والحساب ووزن الأعمال يوم القيامة.
2- صعوبة الموقف حيث تسأل الأمم والرسل عليهم السلام كذلك.
3- الفلاح والخسران مبنيان على الكسب في الدنيا فمن كسب خيرا نجا، ومن كسب شرا هلك.
4- وجوب شكر النعم بالإيمان والطاعة لله ورسوله.
[7.11-18]
شرح الكلمات:
خلقناكم ثم صورناكم: أي خلقنا أباكم آدم أي قدرناه من الطين ثم صورناه على الصورة البشرية الكريمة التي ورثها بنوه من بعده إلى نهاية الوجود الإنساني.
فسجدوا: أي سجود تحية لآدم عليه السلام.
إبليس: أبو الشياطين من الجن وكنيته أبو مرة، وهو الشيطان الرجيم.
فاهبط منها: أي من الجنة.
من الصاغرين: جمع صاغر الذليل المهان.
فبما أغويتني: أي فبسبب إضلالك لي.
مذموما مدحورا: ممقوتا مذموما مطرودا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعداد أنعم الله تعالى على عباده تلك النعم الموجبة لشكره تعالى بالإيمان به وطاعته فقال تعالى { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } أي خلقنا أباكم آدم من طين ثم صورناه بالصورة البشرية التي ورثها بنوه عنه، { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم } وفي هذا إنعام آخر وهو تكريم أبيكم آدم بأمر الملائكة بالسجود له تحية له وتعظيما { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين } أي أبى وامتنع أن يسجد، فسأله ربه تعالى قائلا: { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } أي أي شيء جعلك لا تسجد فأجاب إبليس قائلا: { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } فأنا أشرف منه فكيف أسجد له، ولم يكن إبليس مصيبا في هذه القياس الفاسد أولا: ليست النار أشرف من الطين بل الطين أكثر نفعا وأقل ضررا، والنار كلها ضرر، وما فيها من نفع ليس بشيء إلى جانب الضرر وثانيا: إن الذي أمره بالسجود هو الرب الذي تجب طاعته سواء كان المسجود له فاضلا أو مفضولا، وهنا أمره الرب تعالى أن يهبط من الجنة فقال { فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين } أي الذليلين الحقيرين، ولما وقع إبليس في ورطته، وعرف سبب هلكته وهو عدم سجوده لآدم قال للرب تبارك وتعالى { أنظرني } أي أمهلني لا تمتني { إلى يوم يبعثون } فأجابه الرب بقوله
إلى يوم الوقت المعلوم
[الحجر: 38] وهو فناء هذه الدنيا فقط وذلك قبل البعث، جاء هذا الجواب في سورة الحجر وهنا قال { إنك من المنظرين } ومراد إبليس في الإمهال التمكن من إفساد أكبر عدد من بني آدم انتقاما منهم إذ كان آدم هو السبب في طرده من الرحمة، ولما أجابه الرب إلى طلبه قال: { فبمآ أغويتني } أي أضللتني { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } يريد آدم وذريته، والمراد من الصراط الإسلام إذ هو الطريق المستقيم والموصل بالسالك له إلى رضوان الله تعالى { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمآئلهم } يريد يحيط بهم فيمنعهم سلوك الصراط المستقيم حتى لا ينجوا ويهلكوا كما هلك هو زاده الله هلاكا، وقوله { ولا تجد أكثرهم شاكرين } هذا قول إبليس للرب تعالى، ولا تجد أكثر أولاد آدم الذي أضللتني بسببه شاكرين لك بالإيمان والتوحيد والطاعات.
وهنا أعاد الله أمره بطرد اللعين فقال { اخرج منها } أي من الجنة { مذءوما مدحورا } أي ممقوتا مطرودا { لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين } أي فبعزتي لأملأن جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- خطر الكبر على الإنسان.
2- ضرر القياس الفاسد.
3- خطر إبليس وذريته على بني آدم، والنجاة منهم بذكر الله تعالى وشكره.
4- الشكر هو الإيمان والطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
[7.19-22]
شرح الكلمات:
وزوجك: هي حواء التي خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر.
الجنة: دار السلام التي دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج.
من الظالمين: أي لأنفسهم.
فوسوس: الوسوسة: الصوت الخفي، وسوسة الشيطان لابن آدم إلقاء معان فاسدة ضارة في صدره مزينة ليعتقدها أو يقول بها أو يعمل.
ليبدي لهما ما ووري: ليظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما.
وقاسمهما: حلف لكل واحد منهما.
فدلاهما بغرور: أي أدناهما شيئا فشيئا بخداعه وتغريره حتى أكلا من الشجرة.
وطفقا يخصفان: وجعلا يشدان عليهما من ورق الجنة ليسترا عوراتهما.
معنى الآيات:
ولما طرد الرحمن إبليس من الجنة نادى آدم قائلا له { ويآءادم اسكن أنت وزوجك } أي حواء { الجنة فكلا من حيث شئتما } يعني من ثمارها وخيراتها، { ولا تقربا هذه الشجرة } أشار لهما إلى شجرة من أشجار الجنة معينة، ونهاهما عن الأكل منها، وعلمهما أنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين المستوجبين للعقاب، واستغل إبليس هذه الفرصة التي أتيحت له فوسوس لهما مزينا لهما الأكل من الشجرة قائلا لهما { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } { وقاسمهمآ } أي حلف لهما أنه ناصح لهما وليس بغاش لهما، { فدلاهما بغرور } وخداع حتى أكلا { فلما ذاقا الشجرة بدت... } أي ظهرت لهما سواءتهما حيث انحسر النور الذي كان يغطيهما، فجعلا يشدان من ورق الجنة على أنفسهما ليستر عوراتهما، وهو معنى قوله تعالى { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } وعندئذ ناداهما ربهما سبحانه وتعالى قائلا: ألم أنهكما عن هذه الشجرة وهو استفهام تأديب وتأنيب، { وأقل لكمآ إن الشيطآن لكما عدو مبين } فكيف قبلتما نصحه وهو عدوكما.
هداية الآيات
1- سلاح إبليس الذي يحارب به ابن آدم هو الوسوسة والتزيين لا غير.
2- تقرير عداوة الشيطان للإنسان.
3- النهي يقتضي التحريم إلا أن توجد قرينة تصرف عنه إلى الكراهة.
4- وجوب ستر العورة من الرجال والنساء سواء.
5- جواز الاقسام بالله تعالى، ولكن لا يحلف إلا صادقا.
[7.23-25]
شرح الكلمات:
ظلمنا أنفسنا: أي بأكلهما من الشجرة.
الخاسرين: الذين خسروا دخول الجنة والعيش فيها.
مستقر: مكان استقرار وإقامة.
متاع إلى حين: تمتع بالحياة إلى حين انقضاء آجالكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن آدم عليه السلام، أنه لما ذاق آدم وحواء الشجرة وبدت لهما سؤاتهما وعاتبهما ربهما على ذلك قالا معلنين عن توبتهما: { ربنا ظلمنآ أنفسنا } أي بذوق الشجرة { وإن لم تغفر لنا } أي خطيئتنا هذه { لنكونن من الخاسرين } أي الهالكين، وتابا فتاب الله تعالى عليهما وقال لهم اهبطوا إلى الأرض إذ لم تعد الجنة في السماء دارا لهما بعد ارتكاب المعصية، إن إبليس عصا بامتناعه عن السجود لآدم، وآدم وحواء بأكلهما من الشجرة وقوله { بعضكم لبعض عدو } أي اهبطوا إلى الأرض حال كون بعضكم لبعض عدوا، إبليس وذريته عدو لآدم وبنيه، وآدم وبنوه عدو لإبليس وذريته، { ولكم في الأرض مستقر } أي مقام استقرار، { ومتاع إلى حين } أي تمتع بالحياة إلى حين انقضاء الآجال وقوله تعالى { فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } يريد من الأرض التي أهبطهم إليها وهي هذه الأرض التي يعيش عليها بنو آدم، والمراد من الخروج الخروج من القبور إلى البعث والنشور.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- قول آدم وحواء: { ربنا ظلمنآ أنفسنا.. } الآية هو الكلمة التي ألقاها تعالى إلى آدم فتلقاها عنه فتاب عليه بها.
2- شرط التوبة الاعتراف بالذنب وذلك بالاستغفار أي طلب المغفرة.
3- شؤم الخطيئة كان سبب طرد إبليس من الرحمة، وإخراج آدم من الجنة.
4- لا تتم حياة للإنسان على غير الأرض، ولا يدفن بعد موته في غيرها لدلالة آية { فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون }.
[7.26-28]
شرح الكلمات:
وريشا: لباس الزينة والحاجة.
يواري سوءاتكم: يستر عوراتكم.
لباس التقوى: خير في حفظ العورات والأجسام والعقول والأخلاق.
من آيات الله: دلائل قدرته.
لا يفتننكم: أي لا يصرفنكم عن طاعة الله الموجبة لرضاه ومجاورته في الملكوت الأعلى.
أبويكم: آدم وحواء.
قبيله: جنوده من الجن.
فاحشة: خصلة قبيحة شديدة القبح كالطواف بالبيت عراة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يبني ءادم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا } هذا النداء الكريم المقصود منه تذكير للمشركين من قريش بنعم الله وقدرته عليهم لعلهم يذكرون فيؤمنون ويسلمون بترك الشرك والمعاصي، من نعمه عليهم أن أنزل عليهم لباسا يوارون به سوءاتهم، { وريشا } لباسا يتجملون به، في أعيادهم ومناسباتهم، ثم أخبر تعالى أن لباس التقوى خير لصاحبه من لباس الثياب، لأن المتقي عبد ملتزم بطاعة الله ورسوله، والله ورسوله يأمران بستر العورات، ودفع الغائلات، والمحافظة على الكرامات، ويأمران بالحياء، والعفة وحسن السمت ونظافة الجسم والثياب فأين لباس الثياب مجردة عن التقوى من هذه؟؟.
وقوله تعالى { ذلك من آيات الله } أي من دلائل قدرته الموجبة للإيمان به وطاعته، وقوله { لعلهم يذكرون } أي رجاء أن يذكروا هذه النعم فيشكروا بالإيمان والطاعة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [26] وفي الآية الثانية [27] ناداهم مرة ثانية فقال { يابني ءادم لا يفتننكم الشيطان كمآ أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ } يحذرهم من إغواء الشيطان لهم مذكرا إياهم بما صنع مع أبويهما من إخراجهما من الجنة بعد نزعه لباسهما عنهما فانكشفت سوءاتهما الأمر الذي سبب إخراجهما من دار السلام، منبها لهم على خطورة العدو من حيث أنه يراهم هو وجنوده، وهم لا يرونهم، ثم أخبر تعالى أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، وذلك حسب سنته في خلقه، فالشياطين يمثلون قمة الشر والخبث، فالذين لا يؤمنون قلوبهم مظلمة لانعدام نور الإيمان فيها فهي متهيئة لقبول الشياطين وقبول ما يوسوسون به ويوحونه من أنواع المفاسد والشرور كالشرك والمعاصي على اختلافها، وبذلك تتم الولاية بين الشياطين والكافرين، وكبرهان على هذا الولاء بينهم أن المشركين إذا فعلوا فاحشة خصلة ذميمة قبيحة شديدة القبح ونهوا عنها احتجوا على فعلهم بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأن الله تعالى أمرهم بها وهي حجة باطلة لما يلي
أولا: فعل آبائهم ليس دينا ولا شرعا.
ثانيا: حاشا لله تعالى الحكيم العليم أن يأمر بالفواحش إنما يأمر بالفواحش الذين يأتونها وهم الشياطين وأوليائهم من الإنس ولهذا رد الله تعالى عليهم بقوله { إن الله لا يأمر بالفحشآء } ووبخهم معنفا إياهم بقوله: { أتقولون على الله ما لا تعلمون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التذكير بنعم الله تعالى المقتضي للشكر على ذلك بالإيمان والتقوى.
2- التحذير من الشيطان وفتنته لاسيما وأنه يرى الإنسان والإنسان لا يراه.
3- القلوب الكافرة هي الآثمة، وبذلك تتم الولاية بين الشياطين والكافرين.
4- قبح الفواحش وحرمتها.
5- بطلان الاحتجاج بفعل الناس إذ لا حجة إلا في الوحي الإلهي.
6- تنزه الرب تعالى عن الرضا بالفواحش فضلا عن الأمر بها.
[7.29-31]
شرح الكلمات:
القسط: العدل في القول والحكمة والعمل.
أقيموا وجوهكم: أي أخلصوا العبادة لله واستقبلوا بيته.
كما بدأكم تعودون: كما بدأ خلقكم أول مرة يعيدكم بعد الموت أحياء.
أولياء من دون الله: يوالونهم محبة ونصرة وطاعة، من غير الله تعالى.
زينتكم: أي البسوا ثيابكم عند الدخول في الصلاة.
ولا تسرفوا: في أكل ولا شرب، والإسراف مجاوزة الحد المطلوب في كل شيء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أخطاء مشركي قريش فقد قالوا في الآيات السابقة محتجين على فعلهم الفواحش بأنهم وجدوا آباءهم على ذلك وأن الله تعالى أمرهم بها وأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال في هذه الآية [29] { قل } يا رسولنا { أمر ربي بالقسط } الذي هو العدل وهو الإيمان بالله ورسوله وتوحيد الله تعالى في عبادته، وليس هو الشرك بالله وفعل الفواحش، والكذب على الله تعالى بأنه حلل كذا وهو لم يحلل، وحرم كذا وهو لم يحرم، وقوله تعالى: { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } أي وقل لهم يا رسولنا أقيموا وجوهكم عند كل مسجد أي أخلصوا لله العبادة، واستقبلوا بيته الحرام، { وادعوه } سبحانه وتعالى { مخلصين له الدين } أي ادعوه وحده ولا تدعوا معه أحدا قوله: { كما بدأكم تعودون } يذكرهم بالدار الآخرة والحياة الثانية، فإن من آمن بالحياة بعد الموت والجزاء على كسبه خيرا أو شرا أمكنه أن يستقيم على العدل والخير طوال الحياة وقوله { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } بيان لعدله وحكمته ومظاهر قدرته فهو المبدىء والمعيد والهادي والمضل، له الملك المطلق والحكم الأوحد، فكيف يعدل به أصنام وأوثان هدى فريقا من عباده فاهتدوا، وأضل آخرين فضلوا ولكن بسبب رغبتهم عن الهداية وموالاتهم لأهل الغواية، { إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله } فضلوا ضلالا بعيدا { ويحسبون } لتوغلهم في الظلام والضلال { أنهم مهتدون }.
وقوله تعالى: { يابني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد } أي البسوا ثيابكم عند الطواف بالبيت فلا تطوفوا عراة، وعند الصلاة فلا تصلوا وأنتم مكشوفوا العورات كما يفعل المشركون المتخذون الشياطين أولياء فأضلتهم حتى زينت لهم الفواحش قولا وفعلا واعتقادا. وقوله: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } أي كلوا مما أحل الله لكم واشربوا، ولا تسرفوا بتحريم ما أحل الله، وشرع ما لم يشرع لكم فالزموا العدل، فإنه تعالى لا يحب المسرفين فاطلبوا حبه بالعدل، واجتنبوا بغضه بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
من هداية الآيات:
1- وجوب العدل في القول وفي الحكم.
2- وجوب اخلاص العبادة صلاة كانت أو دعاء لله تعالى.
3- ثبوت القدر.
4- وجوب ستر العورة في الصلاة.
5- حرمة الإسراف في الأكل والشرب وفي كل شيء.
[7.32-34]
شرح الكلمات:
من حرم زينة الله: التحريم: المنع، والزينة: ما يتزين به من ثياب وغيرها.
والطيبات: جمع طيب وهو الحلال غير المستخبث.
خالصة: لا يشاركهم فيها الكفار لأنهم في النار.
الفواحش: جمع فاحشة والمراد بها هنا الزنى واللواط السري كالعلني.
والإثم: كل ضار قبيح من الخمر وغيرها من سائر الذنوب.
والبغي بغير الحق: الظلم بغير قصاص ومعاقبة بالمثل.
وأن تشركوا: أي الشرك بالله وهو عبادة غير الله تعالى.
السلطان: الحجة التي تثبت بها الحقوق المختلف فيها أو المتنازع عليها.
أجل: وقت محدد تنتهي إليه.
معنى الآيات:
لما حرم المشركون الطواف بالبيت بالثياب وطافوا بالبيت عراة بدعوى أنهم لا يطوفون بثياب عصوا الله تعالى فيها، أنكر تعالى ذلك عليهم بقوله: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } كلحوم ما حرموه من السوائب، فالاستفهام في قوله { قل من حرم زينة الله } للإنكار. ومعنى أخرجها: أنه أخرج النبات من الأرض كالقطن والكتان ومعادن الحديد لأن الدروع من الحديد، وقوله تعالى { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } بالأصالة، لأن المؤمنين علماء فيحسنون العمل والإنتاج والصناعة، والكفار تبع لهم في ذلك لجهلهم وكسلهم وعدم بصيرتهم، { خالصة يوم القيامة } أي هي خالصة للمؤمنين يوم القيامة لا يشاركهم فيها الكفار ولأنهم في دار الشقاء النار والعياذ بالله تعالى وقوله تعالى { كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون } أي كهذا التفصيل والبيان الذي بيناه وفضلناه في هذه الآيات ومازلنا نفصل ونبين ما ننزل من آيات القرآن الكريم لقوم يعلمون أما غيرهم من أهل الجهل والضلال فإنهم لا ينتفعون بذلك لأنهم محجوبون بظلمة الكفر والشرك ودخان الأهواء والشهوات والشبهات.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [32] أما الآية الثانية [33] فقد تضمنت بيان أصول المحرمات وأمهات الذنوب وهي: الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم: وهو سائر المعاصي بترك الواجب أو فعل الحرام والبغي: وهو الاستطالة على الناس والاعتداء عليهم بهضم حقوقهم وأخذ أموالهم وضرب أجسامهم وذلك بغير حق أوجب ذلك الاعتداء وسوغه كأن يعتدي الشخص فيقتص منه ويعاقب بمثل ما جنى وظلم، والشرك بالله تعالى بعبادة غيره، والقول على الله تعالى بدون علم منه وذلك كشرع ما لم يشرع بتحريم ما لم يحرم، وإيجاب ما لم يوجب.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة والأخيرة في هذا السياق [34] فقد أخبر تعالى فيها أن لكل أمة أجلا محددا أي وقتا معينا يتم هلاكها فيه لا تتقدمه بساعة ولا تتأخر عنه بأخرى. وفي هذا إشارة أفصح من عبارة وهي أن هلاك الأمم والجماعات والأفراد يتم بسبب انحرافهم عن منهج الحياة، كالمرء يهلك بشرب السم، وبإلقاء نفسه من شاهق، أو إشعال النار في جسمه كذلك ارتكاب أمهات الذنوب وأصول المفاسد التي ذكر تعالى في قوله { قل إنما حرم ربي الفواحش.
.... } من شأنها أن تودي بحياة مرتكبيها لا محالة ما لم يتوبوا منها وتصلح حالهم بالعودة إلى منهج الحياة الذي وضع الله في الإيمان والتوحيد والطاعة لله ورسوله بفعل كل أمر وترك كل نهي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الإنكار الشديد على من يحرم ما أحل الله من الطيبات كبعض المتنطعين.
2- المستلذات من الطعام والشراب والمزينات من الثياب وغيرها المؤمنون أولى بها من غيرهم لأنهم يحسنون العمل، ويبذلون الجهد لاستخراجها والانتفاع بها. بخلاف أهل الجهالات فإنهم عمي لا يبصرون ومقعدون لا يتحركون. وإن قيل العكس هو الصحيح فإن أمم الكفر وأوربا وأمريكا هي التي تقدمت صناعيا وتمتعت بما لم يتمتع به المؤمنون؟ فالجواب: أن المؤمنين صرفوا عن العلم والعمل وأقعدوا عن الإنتاج والاختراع بإفساد أعدائهم لهم عقولهم وعقائدهم، فعوقوهم عن العمل مكرا بهم وخداعا لهم. والدليل أن المؤمنين لما كانوا كاملين في إيمانهم كانوا أرقى الأمم وأكملها حضارة وطهارة وقوة وإنتاجا مع أن الآية تقول {... لقوم يعلمون } فإذا حل الجهل محل العلم فلا انتاج ولا اختراع ولا حضارة.
2- بيان أصول المفاسد وهي الفواحش وما ذكر بعدها إلى {.... وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }.
3- ذكرت هذه المفاسد بطريق التدلي آخرها أخطرها وهكذا أخفها أولها.
4- أجل الأمم كأجل الأفراد يتم الهلاك عند انتظام المرض كامل الأمة أو أكثر أفرادها كما يهلك الفرد عندما يستشري المرض في كامل جسمه.
[7.35-36]
شرح الكلمات:
إما يأتينكم: أصل إما إن - الشرطية - وما زائدة لتقوية الكلام أدغمت فيها (إن) فصارت إما.
يقصون عليكم آياتي: يتلونها عليكم آية بعد آية مبينين لكم ما دلت عليه من أحكام الله وشرائعه، ووعده ووعيده.
فمن اتقى: أي الشرك فلم يشرك وأصلح نفسه بالأعمال الصالحة.
فلا خوف عليهم: في الدنيا والآخرة.
ولا هم يحزنون: على ما تركوا وراءهم أو فاتهم الحصول عليه من أمور الدنيا.
معنى الآيتين:
هذا النداء جائز أن يكون نداء عاما لكل بني آدم كما هو ظاهر اللفظ وأن البشرية كلها نوديت به على ألسنة رسلها، وجائز أن يكون خاصا بمشركي العرب وأن يكون المراد من الرسل محمد صلى الله عليه وسلم ذكر بصيغة الجمع تعظيما وتكريما له، وما نوديت إليه البشرية أو مشركوا العرب هو إخبار الله تعالى لهم بأن من جاءه رسول من جنسه يتلو عليه آيات ربه وهي تحمل العلم بالله وصفاته وبيان محابه ومساخطه، فمن اتقى الله فترك الشرك به، وأصلح ما أفسده قبل العلم من نفسه وخلقه وعقله وذلك بالإيمان والعمل الصالح فهؤلاء في حكم الله أنه { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } في الحياتين معا، أما الذين كذبوا بآيات الله التي جاءت الرسل بها وقصتها عليهم واستكبروا عن العمل به كما استكبروا عن الإيمان بها، فأولئك البعداء من كل خير { أصحب النار } أي أهلها { هم فيها خلدون } لا يخرجون منها بحال من الأحوال.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- قطع حجة بني آدم بإرسال الرسل إليهم.
2- أول ما يبدأ به في باب التقوى الشرك بأن يتخلى عنه الإنسان المؤمن أولا.
3- الإصلاح يكون بالأعمال الصالحة التي شرعها الله مزكية للنفوس مطهرة لها.
4- التكذيب كالاستكبار كلاهما مانع من التقوى والعمل الصالح. ولذا أصحابهما هم أصحاب النار.
[7.37-41]
شرح الكلمات:
فمن أظلم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولذا المشرك ظالم لأنه وضع العبادة في غير موضعها حيث عبد بها من لا يستحقها.
نصيبهم: ما قدر لهم في كتاب المقادير.
رسلنا: المراد بهم ملك الموت وأعوانه.
قالوا ضلوا عنا: غابوا عنا فلم نرهم ولم نجدهم.
في أمم: أي في جملة أمم.
اداركوا: أي تداركوا ولحق بعضهم بعضا حتى دخلوها كلهم.
أخراهم لأولاهم: الاتباع قالوا للرؤساء في الضلالة وهم المتبوعون.
تكسبون: من الظلم والشر والفساد.
يلج الجمل في سم الخياط: أي يدخل الجمل في ثقب الإبرة.
المجرمين: الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والمعاصي.
مهاد: فراش يمتهدونه من النار.
غواش: أغطية يتغطون بها من النار كذلك.
معنى الآيات:
يخبر تعالى بأنه لا أظلم ولا أجهل ولا أضل ممن يفترى على الله الكذب فيقول اتخذ ولدا أو أمر بالفواحش، أو حرم كذا وهو لم يحرم، أو كذب بآياته التي جاءت بها رسله فجحدها وعاند في ذلك وكابر، فهؤلاء المفترون المكذبون يخبر تعالى أنه { ينالهم نصيبهم من الكتاب } أي ما كتب لهم في اللوح المحفوظ من خير وشر وسعادة أو شقاء { حتى إذا جآءتهم رسلنا } أي ملك الموت وأعوانه { يتوفونهم }. يقولون لهم { أين ما كنتم تدعون من دون الله } أي تعبدون من أولياء؟ فيجيبون قائلين: { ضلوا عنا } أي غابوا فلم نرهم. قال تعالى: { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ويوم القيامة يقال لهم { ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس } في النار، فيدخلون. { كلما دخلت أمة لعنت أختها } فلعن المشركون بعضهم بعضا، واليهود والنصارى كذلك، { حتى إذا اداركوا فيها جميعا } أي تلاحقوا وتم دخولهم النار أخذوا يشتكون { قالت أخراهم لأولاهم ربنا } أي يا ربنا { هؤلاء أضلونا } عن صراطك فلم نعبدك { فآتهم عذابا ضعفا } أي مضاعفا { من النار } ، فأجابهم الله تعالى بقوله { لكل ضعف } لكل واحدة منكم ضعف من العذاب { ولكن لا تعلمون } ، إذ الدار دار عذاب فهو يتضاعف على كل من فيها، وحينئذ { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } أي من الشرك والافتراء على الله والتكذيب بآياته، ومجانبة طاعته وطاعة رسوله.
هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآيتان الرابعة والخامسة فإن الرابعة قررت حكما عظيما وهو أن الذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات وعاشوا على الشرك والشر والفساد هؤلاء إذا مات أحدهم وعرجت الملائكة بروحه إلى السماء لا تفتح له أبواب السماء، ويكون مآلهم النار كما قال تعالى { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } فعلق دخولهم الجنة على مستحيل وهو دخول الجمل في ثقب الإبرة، والمعلق على مستحيل مستحيل.
قال تعالى { وكذلك نجزي المجرمين } على أنفسهم حيث أفسدوها بالشرك والمعاصي. هذا ما تضمنته الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: { إن الذين كذبوا بآيتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السمآء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين }.
أما الخامسة فقد تضمنت الخبر التالي: { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } أي أغطية من النار وكما جزى تعالى هؤلاء المكذبين المستكبرين والمجرمين يجزي بعدله الظالمين لأنفسهم حيث لوثوها وخبثوها بأوضار الذنوب والآثام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شر الظلم ما كان كذبا على الله وتكذيبا بشرائعه.
2- تقرير فتنة القبر وعذابه.
3- لعن أهل النار بعضهم بعضا حنقا على بعضهم بعضا إذ كان كل واحد سببا في عذاب الآخر.
4- بيان جزاء المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها وهو الحرمان من دخول الجنة، وكذلك المجرمون والظالمون.
[7.42-43]
شرح الكلمات:
إلا وسعها: طاقتها وما تتحمله وتقدر عليه من العمل.
ونزعنا: أي أقلعنا وأخرجنا.
من غل: أي من حقد وعداوة.
هدانا لهذا: أي للعمل الصالح في الدنيا الذي هذا جزاؤه وهو الجنة.
بما كنتم تعملون: أي بسبب أعمالكم الصالحة من صلاة وصيام وصدقات وجهاد.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى جزاء أهل التكذيب والاستكبار عن الإيمان والعمل الصالح وكان شقاء وحرمانا ذكر جزاء أهل الإيمان والعمل الصالح فقال: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } ، ولما كان العمل منه الشاق الذي لا يطاق ومنه السهل الذي يقدر عليه قال: { لا نكلف نفسا إلا وسعها } أي ما تقدر عليه من العمل ويكون في استطاعتها، ثم أخبر عن المؤمنين العاملين للصالحات فقال { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }. كما أخبر في الآية الثانية أنه طهرهم باطنا فنزع ما في صدورهم من غل على بعضهم بعضا، وأن الأنهار تجري من تحت قصورهم، وأنهم قالوا شاكرين نعم الله عليهم: { الحمد لله الذي هدانا لهذا } أي لعمل صالح هذا جزاؤه أي الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وقرروا حقيقة وهي أن هدايتهم التي كان جزاؤها الجنة لم يكونوا ليحصلوا عليها لولا أن الله تعالى هو الذي هداهم فقالوا: { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } ، ثم قالوا والله { لقد جآءت رسل ربنا بالحق } فهاهم أهل الكفر والمعاصي في النار، وها نحن أهل الإيمان والطاعات في نعيم الجنة فصدقت الرسل فيما أخبرت به من وعد ووعيد، وناداهم ربهم سبحانه وتعالى: { أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } فيزاد بذلك نعيمهم وتعظم سعادتهم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- الإيمان والعمل الصالح موجبان لدخول الجنة مقتض للكرامة في الدارين.
2- لا مشقة لا تحتمل في الدين الصحيح الذي جاءت به الرسل إلا ما كان عقوبة.
3- لا عداوة ولا حسد في الجنة.
4- الهداية هبة من الله فلا تطلب إلا منه، ولا يحصل عليها إلا بطلبها منه تعالى.
5- صدقت الرسل فيما أخبرت به من شأن الغيب وغيره.
[7.44-47]
شرح الكلمات:
فأذن مؤذن: أي أعلن بأعلى صوته أن لعنة الله على الظالمين.
لعنة الله: أي أمره بطرد الظالمين من الرحمة إلى العذاب.
يصدون عن سبيل الله: سبيل الله هي الإسلام والصد: الصرف فهم صرفوا أنفسهم وصرفوا غيرهم.
ويبغونها عوجا: يطلبون الشريعة أن تميل مع ميولهم وشهواتهم فتخدم أغراضهم.
وبينهما حجاب: أي بين أهل الجنة وأهل النار حاجز فاصل وهو سور الأعراف.
وعلى الأعراف: سور بين الجنة والنار قال تعالى من سورة الحديد
فضرب بينهم بسور
[الآية: 13].
يعرفون كلا بسيماهم: أي كل من أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم.
صرفت أبصارهم: أي نظروا إلى الجنة التي فيها أصحاب النار.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار فيخبر تعالى أن أصحاب الجنة نادوا أصحاب النار قائلين لهم إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا به من الجنة ونعيمها حقا، فهل وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم من النار وعذابها حقا؟ فأجابوهم: نعم إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، وهنا أذن مؤذن قائلا: لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله التي هي الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى والجنة، ويبغونها عوجا أي يريدون سبيل الله معوجة تدور معهم حيث داروا في شرورهم ومفاسدهم، وشهواتهم وأهوائهم، وهم بالآخرة كافرون أيضا فهؤلاء يلعنونهم: لعنة الله على الظالمين الذين تلك صفاتهم قال تعالى في الآية الثالثة: { وبينهما } أي بين أهل الجنة وأهل النار { حجاب } فاصل أي حاجز وهو مكان على مرتفع، وعليه رجال من بني آدم استوت سيئاتهم وحسناتهم فحبسوا هناك حتى يقضي بين أهل الموقف فيحكم فيهم بدخلوهم الجنة إن شاء الله تعالى.
وقوله: { يعرفون كلا بسيماهم } أي يعرفون أهل الجنة بسيماهم وهي بياض الوجوه ونضرة النعيم، ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وزرقة العيون.
{ ونادوا أصحاب الجنة } أي نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة قائلين: سلام عليكم يتطمعون بذلك كما قال تعالى { لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقآء أصحاب النار } أي نظروا إلى جهة أهل النار فرأوا أهلها مسودة وجوههم زرق أعينهم يكتنفهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، رفعوا أصواتهم قائلين: { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } أي أهل النار لأنهم دخلوها بظلمهم العياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجود اتصال كامل بين أهل الجنة وأهل النار متى أراد أحدهم ذلك بحيث إذا أراد من في الجنة أن ينظر إلى من في النار ويخاطبه تم له ذلك.
2- يجوز إطلاق لفظ الوعد على الوعيد للمشاكلة أو التهكم كما في هذه الآيات.
3- التنديد بالصد عن سبيل الله، والظلم والكفر بالآخرة وهي أسباب الشقاء في الدار الآخرة.
4- تقرير مبدأ ثقل الحسنات ينجي وخفتها تردي، ومن استوت حسناته وسيئاته ينجو آخر من ينجو من دخول النار.
5- مشروعية الطمع إذا كان مقتضاه موجودا.
[7.48-51]
شرح الكلمات:
بسيماهم: السيما العلامة الدالة على من هي فيه.
جمعكم: أي للمال وللرجال كالجيوش.
أهؤلاء: إشارة إلى ضعفاء المسلمين وهم في الجنة.
أو مما رزقكم الله: أي من الطعام والشراب.
حرمهما: منعهما.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار قال تعالى: { ونادى أصحاب الأعراف رجالا } أي من أهل النار يعرفونهم بسيماهم التي هي سيما أصحاب النار من سواد الوجوه وزرقة العيون نادوهم قائلين: { مآ أغنى عنكم جمعكم } أي للأموال والرجال للحروب والقتال، كما لم يغن عنكم استكباركم على الحق وترفعكم عن قبوله وها أنتم في أشد ألوان العذاب، ثم يشيرون لهم إلى ضعفة المسلمين الذين يسخرون منهم في الدنيا ويضربونهم ويهينونهم { أهؤلاء الذين أقسمتم } أي حلفتم { لا ينالهم الله برحمة } ثم يقال لأصحاب الأعراف { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون }.
وفي الآية الثالثة يقول تعالى مخبرا عن أصحاب النار وأصحاب الجنة { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء } وذلك لشدة عطشهم { أو مما رزقكم الله } أي من الطعام وذلك لشدة جوعهم فيقال لهم: { إن الله حرمهما } أي شراب الجنة وطعامها { على الكافرين } فلا ينالوهما بحال من الأحوال.
ثم وصف الكافرين ليعرض جرائمهم التي اقتضت حرمانهم وعذابهم ليكون ذلك عظة وعبرة للكفار من قريش ومن سائر الناس فقال وهو ما تضمنته الآية الرابعة { الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيوة الدنيا فاليوم ننسهم كما نسوا لقآء يومهم هذا وما كانوا بآيتنا يجحدون } أي نتركهم في عذابهم كما تركوا يومهم هذا فلم يعملوا له من الإيمان والصالحات، وبسبب جحودهم لآياتنا الداعية إلى الإيمان وصالح الأعمال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عدم إغناء المال والرجال أي إغناء لمن مات كافرا مشركا من أهل الظلم والفساد.
2- بشرى الضعفة من المسلمين بدخول الجنة وسعادتهم فيها.
3- تحريم اتخاذ شيء من الدين لهوا ولعبا.
4- التحذير من الاغترار بالدنيا حتى ينسى العبد آخرته فلم يعد لها ما ينفعه فيها من الإيمان وصالح الأعمال.
[7.52-54]
شرح الكلمات:
ولقد جئناهم: أي أهل مكة أولا ثم سائر الناس.
بكتاب: القرآن العظيم.
فصلناه على علم : بيناه على علم منا فبينا حلاله وحرامه ووعده ووعيده وقصصه ومواعظه وأمثاله.
تأويله: تأويل ما جاء في الكتاب من وعد ووعيد أي عاقبة ما أنذروا به.
وضل عنهم: أي ذهب ولم يعثروا عليه.
في ستة أيام: هي الأحد إلى الجمعة.
يغشي الليل النهار: يغطي كل واحد منهما الآخر عند مجيئه.
حثيثا: سريعا بلا انقطاع.
مسخرات: مذللات.
ألا: أداة استفتاح وتنبيه (بمنزلة ألو للهاتف).
له الخلق والأمر: أي له المخلوقات والتصرف فيها وحده لا شريك له.
تبارك: أي عظمت قدرته، وجلت عن الحصر خيراته وبركاته.
العالمين: كل ما سوى الله تعالى فهو عالم أي علامة على خالقه وإلهه الحق.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض لأحوال الناس يوم القيامة ومشاهد النعيم والجحيم أخبر تعالى أنه جاء قريشا لأجل هدايتهم بكتاب عظيم هو القرآن الكريم وفصله تفصيلا فبين التوحيد ودلائله، والشرك وعوامله، والطاعة وآثارها الحسنة والمعصية وآثارها السيئة في الحال والمآل وجعل الكتاب هدى أي هاديا ورحمة يهتدي به المؤمنون وبه يرحمون.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [52] وهي قوله تعالى: { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون } وأما الآية الثانية [53] فقد استبطأ الحق تعالى فيها إيمان أهل مكة الذين جاءهم بالكتاب المفصل المبين فقال: { هل ينظرون } أي ما ينظرون { إلا تأويله } أي عاقبة ما أخبر به القرآن من القيامة وأهوالها، والنار وعذابها، وعندئذ يؤمنون، وهل ينفع يومئذ الإيمان؟ وهاهم أولاء يقولون { يوم يأتي تأويله } وينكشف الغطاء عما وعد به، { يقول الذين نسوه من قبل } أي قبل وقوعه، وذلك في الحياة الدنيا، نسوه فلم يعملوا بما ينجيهم فيه من العذاب يقولون: { قد جآءت رسل ربنا بالحق } اعترفوا بما كانوا به يجحدون ويكذبون ثم يتمنون ما لا يتحقق لهم أبدا فيقولون: { فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد } إلى الدنيا { فنعمل غير الذي كنا نعمل } من الشرك والشر والفساد. وتذهب تمنياتهم أدراج الرياح، ولم يرعهم إلا الإعلان التالي: { قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } خسروا أنفسهم في جهنم، وضاع منهم كل أمل وغاب عنهم ما كانوا يفترون من أن آلهتهم وأولياءهم يشفعون لهم فينجونهم من النار ويدخلونهم الجنة.
وفي الآية الأخيرة يقول تعالى لأولئك المتباطئين في إيمانهم { إن ربكم } الذي يحب ان تعبدوه وتدعوه وتتقربوا إليه وتطيعوه { الله الذي خلق السموت والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي اليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } هذا هو ربكم الحق وإلهكم الذي لا إله لكم غيره، ولا رب لكم سواه، أما الأصنام والأوثان فلن تكون ربا ولا إلها لأحد أبدا لأنها مخلوقة غير خالقة وعاجزة عن نفع نفسها، ودفع الضر عنها فكيف بغيرها؟ إن ربكم ومعبودكم الحق الذي له الخلق كله ملكا وتصرفا وله الأمر وحده يتصرف كيف يشاء في الملكوت كله.
علويه وسفليه فتبارك الله رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا ينفع الإيمان عند معاينة الموت والعذاب كما لا ينفع يوم القيامة.
2- يحسن التثبت في الأمر والتأني عند العمل وترك العجلة، فالله قادر على خلق السماوات والأرض في ساعة ولكن خلقها في ستة أيام بمقدار أيام الدنيا تعليما وإرشادا إلى التثبت في الأمور والتأني فيها.
3- صفة من صفات الرب تعالى التي يجب الإيمان بها ويحرم تأويلها أو تكييفها وهي استواؤه تعالى على عرشه.
4- انحصار الخلق كل الخلق فيه تعالى فلا خالق إلا هو، والأمر كذلك فلا آمر ولا ناهي غيره. هنا قال عمر: من بقي له شيء فليطلبه إذ لم يبق شيء ما دام الخلق والأمر كلاهما لله.
[7.55-56]
شرح الكلمات:
ادعوا ربكم: سلوه حوائجكم الدنيوية والأخروية فإنه ربكم فلا تستحيوا من سؤاله.
تضرعا وخفية: أي حال كونكم ضارعين متذللين مخفي الدعاء غير رافعين أصواتكم به.
المعتدين: أي في الدعاء وغيره والاعتداء في الدعاء أن يسأل الله ما لم تجر سنته بإعطائه أو إيجاده أو تغييره كأن يسأل أن يكون نبيا أو أن يرد طفلا أو صغيرا، أو يرفع صوته بالدعاء.
ولا تفسدوا في الأرض: أي بالشرك والمعاصي بعد إصلاحها بالتوحيد والطاعات.
المحسنين: الذين يحسنون أعمالهم ونياتهم، بمراقبتهم الله تعالى في كل أحوالهم.
معنى الآيات:
لما عرف تعالى عباده بنفسه وأنه ربهم الحق وإلههم، وأنه الخالق الآمر المتصرف بيده كل شيء أمرهم إرشادا لهم أن يدعوه، وبين لهم الحال التي يدعونه عليها، ليستجيب لهم فقال: { ادعوا ربكم تضرعا } أي تذللا وخشوعا { وخفية } أي سرا جهرا، ونهاهم عن الاعتداء في الدعاء حيث أعلمهم أنه لا يحب المعتدين، والاعتداء في الدعاء أن يدعى غير الله تعالى أو يدعى معه غيره، ومنه طلب ذوات الأسباب بدون إعداد أسبابها، أو سؤال ما لم تجر سنة الله به كسؤال المرء أن يكون نبيا أو يرد من كهولته إلى شبابه أو من شبابه إلى طفولته.
ثم بعد هذا الإرشاد والتوجيه إلى ما يكملهم ويسعدهم نهاهم عن الفساد في الأرض بعد أن أصلحها تعالى والفساد في الأرض يكون بالشرك والمعاصي، والمعاصي تشمل سائر المحرمات كقتل الناس وغصب أموالهم وإفساد زروعهم وإفساد عقولهم بالسحر والمخدرات وأعراضهم بالزنى والموبقات. ومرة أخرى يحضهم على دعائه لأن الدعاء هو العبادة وفي الحديث الصحيح " الدعاء هو العبادة " فقال: ادعوا ربكم أي سلوه حاجتكم حال كونكم في دعائكم خائفين من عقابه طامعين راجين رحمته وبين لهم أن رحمته قريب من المحسنين الذين يحسنون نياتهم وأعمالهم ومن ذلك الدعاء فمن أحسن الدعاء ظفر بالإجابة، فثواب المحسنين قريب الحصول بخلاف المسيئين فإنه لا يستجاب لهم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- وجوب دعاء الله تعالى فإن الدعاء هو العبادة.
2- بيان آداب الدعاء وهو: أن يكون الداعي ضارعا متذللا، وأن يخفي دعاءه فلا يجهر به، وأن يكون حال الدعاء خائفا طامعا، وأن لا يعتدي في الدعاء بدعاء غير الله تعالى أو سؤال ما لم تجر سنة الله بإعطائه.
3- حرمة الإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله تعالى بالإسلام.
4- الترغيب في الإحسان مطلقا خاصا وعاما حيث أن الله تعالى يحب أهله.
[7.57-58]
شرح الكلمات:
الرياح: جمع ريح وهو الهواء المتحرك.
بشرا: جمع بشير أي مبشرات بقرب نزول المطر، قرىء نشرا أي تنشر السحاب للأمطار.
رحمته: أي رحمة الله تعالى وهي المطر.
أقلت سحابا ثقالا: أي حملت سحابا ثقالا مشبعا ببخار الماء.
ميت: لا نبات به ولا عشب ولا كلأ.
كذلك نخرج الموتى: أي كذلك نحيي الموتى ونخرجهم من قبورهم أحياء.
تذكرون: تذكرون فتؤمنون بالبعث والجزاء.
الطيب: أي الطيب التربة.
خبث: أي خبثت تربته بأن كانت سبخة.
إلا نكدا: أي إلا عسرا.
تصرف الآيات: أي ننوعها ونخالف بين أساليبها ونذكر في بعضها ما لم نذكره في بعضها للهداية والتعليم.
لقوم يشكرون: لأنهم هم الذين ينتفعون بالنعم بشكرها بصرفها في محاب الله تعالى.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان مظاهر القدرة الربانية والرحمة الإلهية الموجبة لعبادته تعالى وحده دون سواه قال تعالى { وهو الذي يرسل الرياح بشرا } وهو أي ربكم الحق الذي لا إله إلا هو وبشرا أي مبشرات ونشرا أي تنشر الرياح تحمل السحب الثقال ليسقي الأرض الميتة فتحيا بالزروع والنباتات لتأكلوا وترعوا أنعامكم، وبمثل هذا التدبير في إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها يحييكم بعد موتكم فيخرجكم من قبوركم أحياء ليحاسبكم على كسبكم في هذه الدار ويجزيكم به الخير بالخير والشر بمثله جزاء عادلا لا ظلم فيه وهذا الفعل الدال على القدرة والرحمة ولطف التدبير يريكموه فترونه بأبصاركم لعلكم به تذكرون أن القادر على إحياء موات الأرض قادر على إحياء موات الأجسام فتؤمنوا بلقاء ربكم وتوقنوا به فتعملوا بمقتضى ما يسعدكم ولا يشقيكم فيه.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [57] { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } أي المطر { حتى إذآ أقلت } أي حملت { سحابا ثقالا } أي ببخار الماء { سقناه } بقدرتنا ولطف تدبيرنا { لبلد ميت } لا حياة به لا نبات ولا زرع، ولا عشب { فأنزلنا به } أي بالسحاب { المآء } العذب الفرات، { فأخرجنا به من كل الثمرات } المختلفة الألوان والروائح والطعوم { كذلك نخرج الموتى } كهذا الإخراج للنبات من الأرض الميتة نخرج الموتى من قبورهم وعملنا هذا نسمعكم إياه ونريكموه بأبصاركم رجاء أن تذكروا فتذكروا أن القادر على إحياء الأرض قادر على إحياء الموتى رحمة منا بكم وإحسانا منا إليكم.
أما الآية الثانية [58] فقد تضمنت مثلا ضربه الله تعالى للعبد المؤمن والكافر إثر بيان قدرته على إحياء الناس بعد موتهم فقال تعالى: { والبلد الطيب } أي طيب التربة { يخرج نباته بإذن ربه } وذلك بعد إنزال المطر به، وهذ مثل العبد المؤمن ذي القلب الحي الطيب إذا سمع ما ينزل من الآيات يزداد إيمانه وتكثر أعماله الصالحة { والذي خبث } أي والبلد الذي تربته خبيثة سبخة أو حمأة عندما ينزل به المطر لا يخرج نباته إلا نكدا عسرا قليلا غير صالح وهذا مثل الكافر عندما يسمع الآيات القرآنية لا يقبل عليها ولا ينتفع بها في خلقه ولا سلوكه فلا يعمل خيرا ولا يترك شرا.
وقوله تعالى: { كذلك نصرف الآيات } أي ببيان مظاهر قدرته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وضرب الأمثال وسوق الشواهد والعبر { لقوم يشكرون } إذ هم المنتفعون بها أما الكافرون الجاحدون فأنى لهم الإنتفاع بها وهم لا يعرفون الخير ولا ينكرون الشر.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير عقيدة البعث والحياة بعد الموت للحساب والجزاء إذ هي من أهم أركان الإيمان.
2- الإستدلال بالحاضر على الغائب وهو من العلوم النافعة.
3- حسن ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
4- فضيلة الشكر وهو صرف النعمة فيما من أجله وهبها الله تعالى للعبد.
[7.59-64]
شرح الكلمات:
نوحا: هذا أول الرسل هذا العبد الشكور هو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ أي أدريس عليهما السلام، أحد أولي العزم الخمسة من الرسل عاش داعيا وهاديا ومعلما ألفا ومائتين وأربعين سنة، ومدة الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاما، وما بعدها عاشها هاديا ومعلما للمؤمنين.
عذاب يوم عظيم: هو عذاب يوم القيامة.
الملأ: أشراف القوم ورؤساؤهم الذين يملأون العين والمجلس.
وأنصح لكم: أريد لكم الخير لا غير.
أوعجبتم: الاستفهام للإنكار، وعجبتم الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة هي كذبتم أي أكذبتم وعجبتم.
لينذركم: أي العذاب المترتب على الكفر والمعاصي.
ولتتقوا: أي الله تعالى بالإيمان به وتوحيده وطاعته فترحمون فلا تعذبون.
والذين معه في الفلك : هم المؤمنون من قومه والفلك هي السفينة التي صنعها بأمر الله تعالى وعونه.
عمين: جمع عم وهو أعمى البصيرة أما أعمى العينين يقال فيه أعمى.
معنى الآيات:
هذا شروع في ذكر قصص ستة من الرسل وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام والمراد من ذكر هذا القصص هو تنويع أسلوب الدعوة ليشاهد المدعون من كفار قريش صورا ناطقة ومشاهد حية لأمم سبقت وكيف كانت بدايتها وبم ختمت نهايتها، وهي لا تختلف إلا يسيرا عما هم يعيشونه من أحداث الدعوة والصراع الدائر بينهم وبين نبيهم لعلهم يتعظون، ومع هذا فالقصص يقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ لو لم يكن رسولا يوحى إليه لما تأتى له أن يقص من أخبار الماضين ما بهر العقول كما أن المؤمنين مع نبيهم يكتسبون من العبر ما يحملهم على الثبات والصبر، ويجنبهم القنوط واليأس من حسن العافية والظفر والنصر.
وهذا أول قصص يقوله تعالى فيه { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه } أي وعزتنا لقد أرسلنا نوحا إلى قومه كما أرسلناك أنت يا رسولنا إلى قومك من العرب والعجم، فقال: أي نوح في دعوته: { ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } أي ليس لكم على الحقيقة إله غيره، إذ الإله الحق من يخلق ويرزق ويدبر فيحيي ويميت ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويسمع ويبصر فأين هذا من آلهة نحتموها يأيديكم، ووضعتموها في بيوتكم عمياء لا تبصر صماء لا تسمع بكماء لا تنطق فكيف يصح أن يطلق عليها اسم الإله وتعبد { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } أنذرهم عذاب يوم القيامة إن هم أصروا على الشرك والعصيان فأجابه الملأ منهم وهم أهل الحل والعقد في البلاد قائلين: { إنا لنراك في ضلال مبين } بسبب موقفك العدائي هذا لآلهتنا، ولعبادتنا إياها فأجاب عليه السلام قائلا { يقوم ليس بي ضللة } مجرد ضلالة فكيف بالضلال كله كما تقولون، { ولكني رسول من رب العلمين } أي إليكم { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } أي بما هو خير لكم في حالكم ومآلكم، واعلموا أني { وأعلم من الله ما لا تعلمون } فأنا على علم بما عليه ربي من عظمة وسلطان، وجلال، وجمال، وما عنده من رحمة وإحسان، وما لديه من نكال وعذاب، وأنتم لا تعلمون فاتقوا الله إذا وأطيعوني يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى آجالكم، ولا يعجل بفنائكم وواصل حديثه معهم وقد دام ألف سنة إلا خمسين عاما قائلا: أكذبتم بما دعوتكم إليه وجئتكم به وعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا الله بتوحيده وعبادته وطاعته رجاء أن ترحموا فلا تعذبوا أمن هذا يتعجب العقلاء؟ وكانت نتيجة لهذه الدعوة المباركة الخيرة أن كذبوه فأنجاه ربه والمؤمنين معه، وأغرق الظالمين المكذبين، لأنهم كانوا قوما عمين فلا يستحقون البقاء والنجاة قال تعالى { فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنآ إنهم كانوا قوما عمين } لا يبصرون الآيات ولا يرون النذر والشواهد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كنبوة نوح عليه السلام.
2- تقرير وتأكيد التوحيد، وبيان معنى لا إله إلا الله.
3- التحذير من عذاب يوم القيامة بالتذكير به.
4- أصحاب المنافع من مراكز وغيرها هم الذين يردون دعوة الحق لمنافاتها للباطل.
5- تقرير مبدأ العاقبة للمتقين.
6- عمى القلوب أخطر من عمى العيون على صاحبه.
[7.65-69]
شرح الكلمات:
وإلى عاد: أي ولقد أرسلنا إلى عاد وهم قبيلة عاد، وعاد أبو القبيلة وهو عاد بن عوص ابن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
أخاهم هودا: أخاهم في النسب لا في الدين وهود هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام ابن نوح عليه السلام.
أفلا تتقون: أي أتصرون على الشرك فلا تتقون عذاب الله بالإيمان به وتوحيده، والاستفهام إنكاري أي ينكر عليهم عدم تقواهم لله عز وجل.
في سفاهة: السفاهة كالسفه وهو خفة العقل، وقلة الإدراك والحلم.
أمين: لا أخونكم ولا أغشكم ولا أكذبكم، كما أني مأمون على رسالتي لا أفرط في إبلاغها.
بسطة: أي طولا في الأجسام، إذ كانوا عمالق من عظم أجسادهم وطولها.
آلاء الله: نعمه واحدها ألى وإلى والي وإلو والجمع آلاء.
تفلحون: بالنجاة من النار في الآخرة، والهلاك في الدنيا.
معنى الآيات:
هذا هو القصص الثاني، قصص هود عليه السلام مع قومه عاد الأولى التي أهلكها الله تعالى بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام. قوله تعالى { وإلى عاد } أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم من النسب هودا فماذا قال لهم { قال ياقوم اعبدوا الله } أي وحدوه في العبادة ولا تعبدوا معه آلهة أخرى. وقوله: { ما لكم من إله غيره } أي ليس لكم أي إله غير الله، إذ الله هو الإله الحق وما عداه فآلهة باطلة، لأنه تعالى يخلق وهم لا يخلقون ويرزق وهم لا يرزقون ويدبر الحياة بكل ما فيها وهم مدبررون لا يملكون نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكيف يكونون آلهة. ثم حضهم على التقوى وأنكر عليهم تركهم لها فقال عليه السلام لهم: { أفلا تتقون } أي الله ربكم فتتركوا الشرك وتوحدوه؟ فأجاب الملأ الذين كفروا من قومه، بأسوأ إجابة وذلك لكبريائهم واغترارهم فقالوا: { إنا لنراك في سفاهة } أي حمق وطيش وعدم بصيرة بالحياة وإلا كيف تخرج عن إجماع قومك، وتواجههم بعيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، { وإنا لنظنك من الكاذبين } فيما جئت به أي من الرسالة، ودعوت إليه من التوحيد ونبذ الآلهة غير الله تعالى، فأجاب هود عليه السلام رادا شبهتهم فقال: { يقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العلمين } أي أني لست كما تزعمون أن بي سفاهة ولكني أحمل رسالة أبلغكموها، وأنا في ذلك ناصح لكم مريد لكم الخير أمين على وحي الله تعالى إلي، أمين لا أغشكم ولا أخونكم فما أريد لكم إلا الخير. ثم واصل دعوته فقال { أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم } أي أكذبتم برسالاتي وعجبتم من مجيئكم ذكر من ربكم { على رجل منكم لينذركم } أي عواقب كفركم وشرككم، أمن مثل هذا يتعجب العقلاء أم أنتم لا تعقلون؟.
ثم ذكرهم بنعم الله تعالى عليهم لعلها تحدث لهم ذكرا في نفوسهم فيتراجعون بعد عنادهم وإصرارهم فقال: { واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح } أي بعد أن أهلكهم بالطوفان لإصرارهم على الشرك { وزادكم في الخلق بصطة } أي جعل أجسامكم قوية وقاماتكم طويلة هذه نعم الله عليكم { فاذكروا ءالآء الله لعلكم تفلحون } لأنكم إن ذكرتموها بقلوبكم شكرتموها بأقوالكم وأعمالكم، وبذلك يتم الفلاح لكم، وهو نجاتكم من المرهوب وظفركم بالمحبوب وذلك هو الفوز المطلوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الدعوة إلى عبادة الله وترك عبادة ما سواه وهو معنى لا إله إلا الله.
2- مشروعية دفع الإتهام، وتبرئة الإنسان نفسه مما يتهم به من الباطل.
3- من وظائف الرسل عليهم السلام البلاغ لما أمروا بإبلاغه.
4- فضيلة النصح وخلق الأمانة.
5- استحسان التذكير بالنعم فإن ذلك موجب للشكر والطاعة.
[7.70-72]
شرح الكلمات:
ونذر: أي نترك.
بما تعدنا: أي من العذاب.
رجس: سخط موجب للعذاب.
أتجادلونني: أي أتخاصمونني.
من سلطان: أي من حجة ولا برهان يثبت أنها تستحق العبادة.
دابر: دابر القوم آخرهم لأنه إذا هلك آخر القوم هلك أولهم بلا ريب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص هود عليه السلام، فهاهم أولاء يردون على دعوة هود بقول الملأ منهم { أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا } وتهددنا إن نحن لم نترك عبادة آلهتنا، { فأتنا بما تعدنآ } به من العذاب { إن كنت من الصادقين } في دعواك فرد هود عليه السلام على قولهم هذا قائلا قد وقع عليكم رجس أي سخط وغضب من الله تعالى وأن عذابكم لذلك أصبح متوقعا في كل يوم فانتظروا ما سيحل بكم { إني معكم من المنتظرين } قال تعالى { فأنجيناه والذين معه برحمة منا } أي بعد إنزال العذاب، ومن معه من المؤمنين برحمة منا خاصة لا تتم إلا لمثلهم، { وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين } أهلكناهم بخارقة ريح تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وكذلك جزاء الظالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- احتجاج المشركين على صحة باطلهم بفعل آبائهم وأجدادهم يكاد يكون سنة مطردة في الأمم والشعوب، وهو التقليد المذموم.
2- من حمق الكافرين استعجالهم بالعذاب، ومطالبتهم به.
3- آلهة الوثنيين مجرد أسماء لا حقائق لها إذ إطلاق المرء اسم إله على حجر لا يجعله إلها ينفع ويضر، ويحيي ويميت.
4- قدرة الله تعالى ولطفه تتجلى في إهلاك عاد وإنجاء هود والمؤمنين.
[7.73-76]
شرح الكلمات:
وإلى ثمود: أي أرسلنا إلى ثمود، وثمود قبيلة سميت باسم جدها وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح.
أخاهم صالحا: أي في النسب وصالح هو صالح بن عبيد بن آسف بن كاشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود.
آية: علامة على صدقي في أني رسول الله إليكم.
وبوأكم في الأرض: أنزلكم في منازل تحبون فيها.
وتنحتون: تنجرون الحجارة في الجبال لتتخذوا منازل لكم لتسكنوها.
آلاء الله: نعم الله تعالى وهي كثيرة.
ولا تعثوا: أي لا تفسدوا في الأرض مفسدين.
استكبروا: عتوا وطغوا وتكبروا فلم يقبلوا الحق ولم يعترفوا به.
معنى الآيات:
هذا القصص الثالث قصص نبي الله صالح عليه السلام قال تعالى { وإلى ثمود أخاهم صالحا } أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا نبيا أرسلناه بما أرسلنا به رسلنا من قبله ومن بعده بكلمة التوحيد { قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وهذا مدلول كلمة الإخلاص التي جاء بها خاتم الأنبياء " لا إله إلا الله " { قد جآءتكم بينة من ربكم } تشهد بأنه لا إله إلا هو، وأني رسوله إليكم، هذه البينة ناقة تخرج من صخرة في جبل، { هذه ناقة الله لكم آية } علامة وأية علامة على صدقي في إرسال الله تعالى لي رسولا إليكم لتعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا، فذروا هذه الناقة تأكل في أرض الله { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم } ، فكانت الناقة ترعى في المرج، وتأتي إلى ماء القوم فتشربه كله، ويتحول في بطنها إلى لبن خالص فيحلبون ما شاءوا وقال لهم يوما هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم، ووعظهم عليه السلام بقوله: { واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد } أي بعد هلاكهم، وكانت ديار عاد بحضرموت جنوب الجزيرة العربية وديار ثمود بالحجر شمال الجزيرة بين الحجاز والشام. وقوله { وبوأكم في الأرض } أرض الحجر تتخذون من سهولها قصورا تسكنونها في الصيف، وتنحتون من الجبال بيوتا تسكنونها في الشتاء، { فاذكروا آلآء الله } أي نعمه العظيمة لتشكروها بعبادته وحده دون ما اتخذتم من أصنام، وحذرهم من عاقبة الفساد فقال { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي لا تنشروا الفساد في الأرض بالشرك وارتكاب المعاصي وإزاء هذه الدعوة الصادقة الهادفة إلى هداية القوم وإصلاحهم لينجوا من عاقبة الشرك والشر والفساد { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } أي قوم صالح، قالوا { للذين استضعفوا لمن آمن منهم } أي لمن آمن من ضعفاء القوم: { أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه } ، وهو استفهام سخرية واستهزاء دال على صلف القوم وكبريائهم، فأجاب المؤمنون من ضعفة القوم قائلين { إنا بمآ أرسل به مؤمنون } قالوها واضحة صريحة معلنة عن إيمانهم بما جاء به رسول الله صالح غير خائفين، وهنا رد المستكبرون قائلين: { إنا بالذي آمنتم به كافرون } وإمعانا منهم في الجحود والتكبر، لم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون حتى لا يعترفوا بالرسالة ولو في جواب رد الكلام فقالوا { إنا بالذي آمنتم به كافرون }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- اتحاد دعوة الرسل في الإيمان بالله والكفر بالطاغوت أي في عبادة الله وحده.
2- تقرير إرسال الرسل بالآيات وهي المعجزات وآية صالح أعجب آية وهي الناقة.
3- وجوب التذكير بنعم الله إذ هو الباعث على الشكر، والشكر هو الطاعة.
4- النهي عن الفساد في الأرض والشرك وارتكاب المعاصي.
5- الضعفة هم غالبا أتباع الأنبياء: وذلك لخلوهم من الموانع كالمحافظة على المنصب أو الجاه أو المال، وعدم إنغماسهم في الملاذ والشهوات.
[7.77-79]
شرح الكلمات:
فعقروا الناقة: نحروها بعد أن عقروا قوائمها أي قطعوها، والناقة هي الآية.
وعتوا عن أمر ربهم: تمردوا عن الأمر وعصوا فلم يطيعوا.
الرجفة: المرة من رجف إذا اضطرب، وذلك لما سمعوا الصيحة أخذتهم الرجفة.
جاثمين: باركين على الركب كما يجثم الطير أي هلكى على ركبهم .
فتولى عنهم: بعد أن هلكوا نظر إليهم صالح وهم جاثمون وقال راثيا لحالهم { يقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي } إلى قوله { ولكن لا تحبون النصحين } ثم أعرض عنهم وانصرف.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص صلاح عليه السلام فإنه بعد تلك الدعوة الطويلة العريضة والمستكبرون يردونها بصلف وكبرياء، وطالبوا بالآية لتدل على صدقه وأنه من المرسلين وأوتوا الناقة آية مبصرة ولجوا في الجدال والعناد وأخيرا تمالؤوا على قتل الناقة وعقروها
فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها
[الشمس: 14-15].
قوله تعالى في الآية الأولى [77] { فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم } يخبر تعالى أن قوم صالح عقروا الناقة قطعوا أرجلها ثم نحروها وهو العقر، وعتوا بذلك وتكبروا متمردين عن أمر الله تعالى حيث أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ولا يمسوها بسوء فإذا بهم يعقرونها تحديا وعنادا، { وقالوا ياصالح } بدل أن يقولوا يا رسول الله أو يا نبي الله { ائتنا بما تعدنآ } أي من العذاب إن مسسنا الناقة بسوء فقد نحرناها فأتنا بالعذاب إن كنت كما تزعم من المرسلين قال تعالى { فأخذتهم الرجفة } وهي هزة عنيفة اضطربت لها القلوب والنفوس نتيجة صيحة لملك عظيم صاح فيهم صباح السبت كما قال تعالى
فأخذتهم الصيحة مشرقين
[الحجر: 73] ولما هلكوا وقف عليهم صالح كالمودع كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القليب ببدر فناداهم يا فلان يا فلان كذلك صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وقف عليهم وهم خامدون وقال كالراثي المتحسر { يقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون النصحين } وتولى عنهم وانصرف.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حلول نقمة الله تعالى بكل من عتا عن أمره سبحانه وتعالى.
2- مشروعية الرثاء لمن مات أو أصيب بمصاب عظيم.
3- علامة قرب ساعة الهلاك إذا أصبح الناس يكرهون النصح ولا يحبون الناصحين.
[7.80-84]
شرح الكلمات:
ولوطا: أي وأرسلنا لوطا ولوط هو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلام ولد في بابل العراق.
الفاحشة: هي الخصلة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم.
من العالمين: أي من الناس.
من الغابرين: الباقين في العذاب.
وأمطرنا: أنزلنا عليهم حجارة من السماء كالمطر فأهلكتهم.
المجرمين: أي المفسدين للعقائد والأخلاق والأعراض.
معنى الآيات:
هذا هو القصص الرابع قصص نبي الله تعالى لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلام فقوله تعالى { ولوطا.... } أي وأرسلنا لوطا إلى قومه نم أهل سذوم، ولم يكن لوط منهم لأنه من أرض بابل العراق هاجر مع عمه إبراهيم وأرسله الله تعالى إلى أهل سذوم وعمورة قرب بحيرة لوط بالأردن.
وقوله إذ قال لقومه الذين أرسل إليهم منكرا عليهم فعلتهم المنكرة: { أتأتون الفاحشة } وهي إتيان الرجال في أدبارهم { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } أي لم يسبقكم إليها أحد من الناس قاطبة، وواصل إنكاره هذا المنكر موبخا هؤلاء الذين هبطت أخلاقهم إلى درك لم يهبط إليه أحد غيرهم فقال: { إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم مسرفون } وإلا فالشهوة من النساء هي المفطور عليها الإنسان، لا أدبار الرجال، ولكنه الإجرام والتوغل في الشر والفساد والإسراف في ذلك، والإسراف صاحبه لا يقف عند حد.
وبعد هذا الوعظ والإرشاد إلى سبيل النجاة، والخروج من هذه الورطة التي وقع فيها هؤلاء القوم المسرفون ما كان ردهم { إلا أن قالوا أخرجوهم } أي لوطا والمؤمنين معه { من قريتكم } أي مدينتكم سدوم، معللين الأمر بإخراجهم من البلاد بأنهم أناس يتطهرون من الخبث الذي هم منغمسون فيه قال تعالى بعد أن بلغ الوضع هذا الحد { فأنجيناه وأهله } من بناته وبعض نسائه { إلا امرأته كانت من الغابرين } حيث أمرهم بالخروج من البلاد ليلا قبل حلول العذاب بالقوم فخرجوا، وما إن غادروا المنطقة حتى جعل الله تعالى عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجين فأهلكوا أجمعين.
وقوله تعالى في ختام هذا القصص { فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } فإنه خطاب عام لكل من يسمع هذا القصص ليعتبر به حيث شاهد عاقبة المجرمين دمارا كاملا وعذابا أليما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شدة قبح جريمة اللواط.
2- أول من عرف هذه الجريمة القذرة هم قوم لوط عليه السلام.
3- الإسراف وعدم الاعتدال في الأقوال والأفعال يتولد عنه كل شر وفساد.
4- الكفر والإجرام يحل رابطة الأخوة والقرابة بين أصحابه والبرءاء منه.
من أتى هذه الفاحشة من المحصنين يرجم بالحجارة حتى الموت.
[7.85-87]
شرح الكلمات:
وإلى مدين آخاهم شعيبا: مدين أبو القبيلة وهو مدين بن إبراهيم الخليل وشعيب من أبناء القبيلة فهو أخوهم في النسب حقيقة إذ هو شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين.
ولا تبخسوا الناس أشياءهم: أي لا تنقصوا الناس قيم سلعهم وبضائعهم، إذ كانوا يفعلون ذلك.
صراط توعدون: طريق وتوعدون تخيفون المارة وتأخذون عليهم المكوس أو تسلبونهم أمتعتهم.
وتبغونها عوجا: أي تريدون سبيل الله - وهي شريعته - معوجة حتى توافق ميولكم.
المفسدين: هم الذين يعملون بالمعاصي في البلاد.
يحكم بيننا: يفصل بيننا فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين.
معنى الآيات:
هذا هو القصص الخامس في سورة الأعراف وهو قصص نبي الله شعيب مع قومه أهل مدين، فقوله تعالى: { وإلى مدين أخاهم شعيبا } أي وأرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا. فماذا قال لهم لما أرسل إليهم؟ { قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } أي قولوا لا إله إلا الله، ولازم ذلك أن يصدقوا برسول الله شعيب حتى يمكنهم أن يعبدوا الله بما يحب أن يعبد به وبما من شأنه أن يكملهم ويسعدهم في الدارين وقوله { قد جآءتكم بينة من ربكم } أي آية واضحة تشهد لي بالرسالة وبما أن آمركم به وأنهاكم عنه هو من عند الله تعالى إذا { فأوفوا الكيل والميزان } أي بالقسط الذي هو العدل، { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } بل أعطوهم ما تستحقه بضائعهم من الثمن بحسب جودتها ورداءتها { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } أي في البلاد بعد إصلاحها، وذلك بترك الشرك والذنوب ومن ذلك ترك التلصص وقطع الطرق، وترك التطفيف في الكيل والوزن وعدم بخس سلع الناس وبضائعهم ذلكم الذي دعوتكم إليه من الطاعة وترك المعصية خير لكم حالا ومآلا إن كنتم مؤمنين وقوله: { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا } ينهاهم عليه السلام عن أبشع الإجرام وهو أنهم يجلسون في مداخل البلاد، وعلى أفواه السكك، ويتوعدون المارة بالعذاب إن هم اتصلوا بالنبي شعيب وجلسوا إليه صرفا للناس عن الإيمان والاستقامة، كما أنهم يقطعون الطرق ويسلبون الناس ثيابهم وأمتعتهم أو يدفعون إليهم ضريبة خاصة.
وقوله { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } يذكرهم عليه السلام بنعمة الله تعالى عليهم وهي أنهم أصبحوا شعبا كبيرا بعدما كانوا شعبا صغيرا لا قيمة له ولا وزن بين الشعوب وقوله: { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } يعظهم ببيان مصير الظلمة المفسدين من الأمم المجاورة والشعوب حيث حلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فهلكوا يعظهم لعلهم يذكرون فيتركوا الشرك والمعاصي، ويعملوا بالتوحيد والطاعة.
وأخيرا يخوفهم بالله تعالى ويهددهم بأن حكما عدلا هو الله سيحكم بينهم وعندها يعلمون من هو المحق ومن هو المبطل فقال: { وإن كان طآئفة منكم } أي جماعة { آمنوا بالذي أرسلت به } من التوحيد والطاعة وترك الشرك والمعاصي، { وطآئفة } أخرى { لم يؤمنوا } وبهذا كنا متخاصمين نحتاج إلى من يحكم بيننا إذا { فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دعو الرسل واحدة في باب العقيدة إذ كلها تقوم على أساس التوحيد والطاعة.
2- حرمة التطفيف في الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم، ويدخل في ذلك الصناعات وحرف المهن وما إلى ذلك.
3- حرمة الفساد في الأرض بالمعاصي لا سيما البلاد التي طهرها الله بالإسلام وأصلحها بشرائعه.
4- حرمة التلصص وقطع الطرق وتخويف المارة.
5- حرمة الصد عن سبيل الله بمنع الناس من التدين والإلتزام بالشريعة ظاهرا وباطنا.
[7.88-89]
شرح الكلمات:
الملأ: أشراف القوم الذين يملؤون المجلس إذا جلسوا، والعين إذا نظر إليهم.
استكبروا: تكلفوا الكبر وهم حقيرون، حتى لا يقبلوا الحق.
من قريتنا: مدينتنا.
في ملتكم: في دينكم.
على الله توكلنا: أي فوضنا أمرنا واعتمدنا في حمايتنا عليه.
ربنا افتح بيننا: أي يا ربنا احكم بيننا.
وأنت خير الفاتحين: أي وأنت خير الحاكمين.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في قصص شعيب مع قومه أهل مدين فبعد أن أمرهم ونهاهم وذكرهم ووعظهم { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } مهددين موعدين مقسمين { لنخرجنك يشعيب والذين آمنوا معك من قريتنآ أو لتعودن في ملتنا }. هكذا سنة الطغاة الظلمة إذا غلبوا بالحجج والبراهين يفزعون إلى القوة فلما أفحمهم شعيب خطيب الأنبياء عليهم السلام، وقطع الطريق عليهم شهروا السلاح في وجهه، وهو النفي والإخراج من البلاد أو العودة إلى دينهم الباطل، { لنخرجنك يشعيب والذين آمنوا معك من قريتنآ أو لتعودن في ملتنا } ورد شعيب على هذا التهديد بقوله: { أولو كنا كارهين } أي أنعود في ملتكم ولو كنا كارهين لها { قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها } ووجه الكذب على الله إن عادوا إلى ملة الباطل هو أن شعيبا أخبرهم أن الله تعالى أمرهم بعبادته وحده وترك عبادة غيره، وأنه تعالى أرسله إليهم رسولا وأمرهم بطاعته إنقاذا لهم من الباطل الذي هم فيه فإذا أرتد وعاد هو ومن معه من المؤمنين إلى ملة الشرك كان موقفهم موقف من كذب على الله تعالى بأنه قال كذا وكذا والله عز وجل لم يقل. هذا ثم قال شعيب { وما يكون لنآ أن نعود فيهآ } ليس من الممكن ولا من المتهيء لنا العودة في ملتكم أبدا، اللهم إلا أن يشاء ربنا شيئا فإن مشيئته نافذه في خلقه، وقوله: { وسع ربنا كل شيء علما } فإذا كان قد علم أنا نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، فسوف يكون ما علمه كما علمه وهو الغالب على أمره. ثم قال عليه السلام بعد أن أعلمهم أن العودة إلى دينهم غير واردة ولا ممكنة بحال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله ذلك، وهذا مما لا يشاءه الله تعالى قال: { على الله توكلنا } في الثبات على دينه الحق، والبراءة من الباطل ثم سأل ربه قائلا: { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } أي احكم بيننا وبينهم بالحق { وأنت خير الفاتحين } أي الحاكمين، وذلك بإحقاق الحق وإبطال الباطل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة بشرية وهي أن الظلمة والمتكبرين يجادلون بالباطل حتى إذا أعياهم الجدال وأفحموا بالحجج بدل أن يسلموا بالحق ويعترفوا به ويقبلوه، فيستريحوا ويريحوا يفزعون إلى القوة بطرد أهل الحق ونفيهم أو إكراههم على قبول الباطل بالعذاب والنكال.
2- لا يصح من أهل الحق بعد أن عرفوه ودعوا إليه أن يتنكروا ويقبلوا الباطل بدله.
3- يستحب الاستثناء في كل ما عزم عليه المؤمن مستقبلا وإن لم يرده أو حتى يفكر فيه.
4- وجوب التوكل على الله عند تهديد العدو وتخويفه، والمضي في سبيل الحق.
5- مشروعية الدعاء وسؤال الله تعالى الحكم بين أهل الحق وأهل الباطل، لأن الله تعالى يحكم بالحق وهو خير الحاكمين.
[7.90-93]
شرح الكلمات:
لئن اتبعتم شعيبا: أي على ما جاء به من الدين والهدى.
الرجفة: الحركة العنيفة كالزلزلة.
جاثمين: باركين على ركبهم ميتين.
كأن لم يغنوا فيها: أي كأن لم يعمروها ويقيموا فيها زمنا طويلا.
الخاسرين: إذ هلكوا في الدنيا وادخلوا النار في الآخرة.
آسى: أي أحزن أو آسف شديد الأسف.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص شعيب مع أهل مدين فإنه بعد أن هدد الظالمون شعيبا بالإبعاد من مدينتهم هو والمؤمنون معه أو أن يعودوا إلى ملتهم فرد شعيب على التهديد بما أيأسهم من العودة إلى دينهم، وفزع إلى الله يعلن توكله عليه ويطلب حكمه العادل بينه وبين قومه المشركين الظالمين كأن الناس اضطربوا وأن بعضا قال اتركوا الرجل وما هو عليه، ولا تتعرضوا لما لا تطيقونه من البلاء. هنا قال الملأ الذين استكبروا من قومه مقسمين بآلهة الباطل: { لئن اتبعتم شعيبا } أي على دينه وما جاء به وما يدعو إليه من التوحيد والعدل ورفع الظلم { إنكم إذا لخاسرون } قال تعالى: { فأخذتهم الرجفة } استجابة لدعوة شعيب فأصبحوا هلكى جاثمين على الركب. قال تعالى: { الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها } أي كأن لم يعمروا الديار ويقيموا بها زمنا طويلا، وأكد هذا الخبر وهو حكم في المكذبين الظالمين فقال: { الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين } أما الذين صدقوا شعيبا فهم المفلحون الفائزون وودعهم شعيب كما ودع صالح قومه قال تعالى: { فتولى عنهم } وهم جاثمون هلكى فقال { يقوم لقد أبلغتكم رسلت ربي ونصحت لكم } فأبيتم إلا تكذيبي ورد قولي والإصرار على الشرك والفساد حتى هلكتم { فكيف ءاسى على قوم كفرين } أي لا معنى للحزن والأسف على مثلكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ثمرة الصبر والثبات النصر العاجل أو الآجل.
2- نهاية الظلم والطغيان والدمار والخسران.
3- لا أسى ولا حزنا على من أهلكه الله تعالى بظلمه وفساده في الأرض.
4- مشروعية توبيخ الظالمين بعد هلاكهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل القليب وكما فعل صالح وشعيب عليهما السلام.
[7.94-95]
شرح الكلمات:
في قرية: القرية: المدينة الجامعة لأعيان البلاد ورؤسائها وهي المدينة.
بالبأساء: بالشدة كالقحط والجوع والحروب.
والضراء: الحالة المضرة كالأمراض والغلاء وشدة المؤونة.
يضرعون: يدعون الله تعالى ويتضرعون إليه ليكشف عنهم السوء.
مكان السيئة الحسنة: أي بدل الغلاء الرخاء، وبدل الخوف الأمن، وبدل المرض الصحة.
حتى عفوا: كثرت خيراتهم ونمت أموالهم، وأصبحت حالهم كلها حسنة.
أخذناهم بغتة: أنزلنا بهم العقوبة فجأة.
معنى الآيتين:
على إثر بيان قصص خمسة أنبياء ذكر تعالى سنته في الأمم السابقة ليكون ذلك عظة لكفار قريش، وذكرى للمؤمنين فقال تعالى: { ومآ أرسلنا في قرية } أي في أهل قرية والمراد بالقرية الحاضرة والعاصمة من كبريات المدن حيث الكبراء والرؤساء من نبي من الأنبياء والمرسلين فكذبوه قومه وردوا دعوته مصرين على الشرك والضلال إلا أخذ الله تعالى أهل تلك المدينة بألوان من العذاب التأديبي كالقحط والجوع وشظف العيش، والأمراض والحروب المعبر عنه بالبأساء والضراء. رجاء أن يرجعوا إلى الحق بعد النفور منه، وقبوله بعد الإعراض عنه ثم يغير تعالى ما بهم من بأساء وضراء إلى يسر ورخاء، وعافية وهناء فتكثر أموالهم وأولادهم ويعظهم سلطانهم، ويقولون عندما يوعظون ويذكرون ليتوبوا فيؤمنوا ويتقوا: { قد مس آباءنا الضرآء والسرآء } أي الخير والشر وما هناك ما تخوفوننا به إنما هي الأيام هكذا دول يوم عسر وآخر يسر وبذلك يحق عليهم العذاب فيأخذهم الجبار عز وجل فجأة { وهم لا يشعرون } فيتم هلاكهم ويمسون حديث عبرة لمن بعدهم عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة وعذاب الآخرة أشد وأبقى.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان سنة الله تعالى في الأمم السابقة.
2- تخويف كفار قريش بما دلت عليه هذه السنة من أخذ الله تعالى المصرين على الكفر المتمردين على الحق.
3- التذكير والوعظ بتاريخ الأمم السابقة المنبىء عن أسباب هلاكهم وخسرانهم ليتجنبها العقلاء، كما قال تعالى:
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
[يوسف: 111].
[7.96-100]
شرح الكلمات:
آمنوا واتقوا: أي آمنوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده واتقوه تعالى بطاعته وعدم معصيته.
بركات من السماء والأرض: جمع بركة وهي دوام الخير وبقاؤه والعلم والإلهام والمطر من بركات السماء والنبات والخصب والرخاء والأمن والعافية من بركات الأرض.
يكسبون: من الشرك والمعاصي.
بياتا: أي ليلا وهم نائمون.
مكر الله: استدراجه تعالى لهم بإغداق النعم عليهم من صحة الأبدان ورخاء العيش حتى إذا آمنوا مكره تعالى بهم أخذهم بغتة.
أو لم يهد لهم: أي أو لم يبين لهم بمعنى يتبين لهم.
بذنوبهم: أي بسبب ذنوبهم.
معنى الآيات:
بعدما بين تعالى سنته في الأمم السابقة، وهي أخذ الأمة بعد تكذيبها وعصيانها بالبأساء والضراء، ثم إذا هي لم تتب واستمرت على كفرها وعصيانها أغدق عليها الخيرات حتى عفت بكثرة مالها وصلاح حالها أخذها بغتة فأهلكها، وتم خسرانها في الدارين، فتح تعالى باب التوبة والرجاء لعباده فقال: { ولو أن أهل القرى } المكذبين ككفار مكة والطائف وغيرهما من المدن { ءامنوا } أي بالله ورسوله وبلقاء الله ووعده ووعيده، { واتقوا } الله تعالى في الشرك وفي معصيته ومعصية رسوله لفتح عليهم أبواب السماء بالرحمات والبركات، وفتح عليهم كنوز الأرض ورزقهم من الطيبات ولكن أهل القرى الأولين كذبوا فأخذهم بالعذاب بما كانوا يكسبون، وأهل القرى اليوم وهم مكذبون فإما أن يعتبروا بما أصاب أهل القرى الأولين فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا، وإما أن يصروا على الشرك والتكذيب فينزل بهم ما نزل بمن قبلهم من عذاب الإبادة والاستئصال ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى [96] وهي قوله تعالى { ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركت من السمآء والأرض ولكن كذبوا فأخذنهم بما كانوا يكسبون } أما الآيات الثلاث بعدها فإن الله تعالى ينكر على أهل القرى غفلتهم موبخا لهم على تماديهم وإصرارهم على الباطل معجبا من حالهم فيقول: { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بيتا وهم نآئمون }؟ أي أجهلوا من نزل بمن قبلهم فأمنوا أن يأتيهم عذابنا ليلا وهم نائمون؟ { أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا } أي عذابنا { ضحى وهم يلعبون }؟ أي أو غفل أهل القرى وأمنوا أن يأتيهم عذابنا ضحى وهم في أعمالهم التي لا تعود عليهم بخير كأنها لعب أطفال يلعبون بها { أفأمنوا مكر الله }؟ أغرهم إمهالنا لهم واستدراجنا إياهم فأمنوا مكر الله؟ إنهم في ذلك خاسرون إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وقوله تعالى في الآية الخامسة [100] { أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلهآ أن لو نشآء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } أي عمى الذين يرثون الأرض من بعد أهلها ولم يتبين لهم بعد ولم يعلموا أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا الذين ورثوا ديارهم بذنوبهم { ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } أي ونجعل على قلوبهم غشاوة حتى لا يعوا ما يقال لهم ولا يفهموا ما يراد بهم حتى يهلكوا كما هلك الذين من قبلهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عرض الرحمن تبارك وتعالى رحمته على عباده ولم يطلب منهم أكثر من الإيمان والتقوى.
2- حرمة الغفلة ووجوب الذكر واليقظة.
3- حرمة الأمن من مكر الله تعالى.
4- إذا أمنت الأمة مكر الله تهيأت للخسران وحل بها لا محالة.
5- وجوب الاعتبار بما أصاب الأولين، وذلك بترك ما كان سببا لهلاكهم.
[7.101-102]
شرح الكلمات:
تلك القرى: الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.
من أنبائها: أي من أخبارها.
بالبينات: بالحجج والبراهين الدالة على توحيد الله وصدق رسله.
من قبل: أي من قبل خلقهم ووجودهم، إذ علم الله تعالى تكذيبهم فكتبه عليهم في كتاب المقادير.
وما وجدنا لأكثرهم من عهد: أي لم نجد لأكثرهم وفاء بعهودهم التي أخذت عليهم يوم أخذ الميثاق.
معنى الآيتين:
يخاطب الرب تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم قائلا { تلك القرى نقص عليك من أنبآئها } أي من أخبارها مع أنبيائها كيف دعتهم رسلهم إلى الإيمان والتوحيد والطاعة، وكيف ردت تلك الأمم دعوة الله واستكبرت على عبادته، وكيف كان حكمنا فيهم لعل قومك يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا. وقوله تعالى { ولقد جآءتهم رسلهم بالبينت } أي بالحجج الواضحات على صدق دعوتهم، وما جاءتهم به رسلهم من أمر ونهي من ربهم. وقوله { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } أي لم يكن أولئك الهالكون من أهل القرى ليؤمنوا بما كذبوا به في علم الله وقدره إذ علم الله أنهم لا يؤمنون فكتب ذلك عليهم فلذا هم لا يؤمنون، وقوله تعالى: { كذلك يطبع الله على قلوب الكفرين } أي كما كتب على الهالكين من أهل القرى أنهم لا يؤمنون ولم يؤمنوا فعلا فأهلكهم، يطبع كذلك على قلوب الكافرين فلا يؤمنون حتى يأخذهم العذاب وهم ظالمون بكفرهم. وهذا الحكم الإلهي قائم على مبدأ أن الله علم من كل إنسان قبل خلقه ما يرغب فيه وما يؤثره على غيره ويعمله باختياره وإرادته فكتب ذلك عليه فهو عند خروجه إلى الدنيا لا يعمل إلا به. ليصل إلى ما كتب عليه، وقدر له أزلا قبل خلق السماوات والأرض، وقوله تعالى { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } أي لم نجد لتلك الأمم التي أهلكنا وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. لم نجد لأكثرهم وفاء بعهدهم الذي أخذناه عليهم قبل خلقهم من الإيمان بنا وعبادتنا وطاعتنا وطاعة رسلنا، وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين عن أمرنا خارجين عن طاعتنا وطاعة رسلنا، وكذلك أحللنا بهم نقمتنا وأنزلنا بهم عذابنا فأهلكناهم أجمعين.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير الوحي الإلهي وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه ما قص من أنباء الأولين لا يتلقى إلا بوحي إلهي ولا يتلقى عن الله تعالى إلا رسول أعد لذلك.
2- وجود البينات مهما كانت قوية واضحة غير كاف في إيمان من لم يشأ الله هدايته.
3- المؤمن من آمن في الأزل، والكافر من كفر فيه.
4- الطبع على قلوب الكافرين سببه اختيارهم للكفر والشر والفساد وإصرارهم على ذلك كيفما كانت الحال.
[7.103-108]
شرح الكلمات:
ثم بعثنا من بعدهم: أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.
موسى: هو موسى بن عمران من ذرية يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
بآياتنا: هي تسع آيات: العصا، واليد، والسنون المجدبة، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والطمس على أموال فرعون.
إلى فرعون: أي بعث موسى الرسول إلى فرعون وهو الوليد بن مصعب بن الريان، ملك مصر.
وملئه: أي أشراف قومه وأعيانهم من رؤساء وكبراء.
فظلموا بها: أي ظلموا أنفسهم بالآيات وما تحمله من هدى حيث كفروا بها.
بينة من ربكم: حجة قاطعة وبرهان ساطع على أني رسول الله إليكم.
ونزع يده: أخرجها بسرعة من جيبه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ثم بعثنا من بعدهم موسى } هذا شروع في ذكر القصص السادس مما اشتملت عليه سورة الأعراف، وهي قصص موسى عليه السلام مع فرعون وملئه. قال تعالى وهو يقص على نبيه ليثبت به فؤاده، ويقرر به نبوته، ويعظ امته، ويذكر به قومه { ثم بعثنا من بعدهم } أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب موسى بن عمران إلى فرعون وملئه من رجالات ملكه ودولته، وقوله بآياتنا. هي تسع آيات لتكون حجة على صدق رسالته وأحقية دعوته. وقوله تعالى { فظلموا بها } أي جحدوها ولم يعترفوا بها فكفروا بها وبذلك ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم بها، واستمروا على كفرهم وفسادهم حتى أهلكهم الله تعالى بإغراقهم، ثم قال لرسوله { فانظر كيف كان عقبة المفسدين } أي دمارا وهلاكا وهي عاقبة كل مفسد في الأرض بالشرك والكفر والمعاصي. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [103] وأما الآيات بعدها فإنها في تفصيل أحداث هذا القصص العجيب. وأتى موسى فرعون وقال { يفرعون إني رسول من رب العالمين * حقيق } أي جدير وخليق بي { أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم } دالة على صدقي شاهدة بصحة ما أقول { فأرسل معي بني إسرائيل } لأذهب بهم إلى أرض الشام التي كتب الله لهم وقد كانت دار آبائهم. وهنا تكلم فرعون وطالب موسى بالآية التي ذكر أنه جاء بها فقال { إن كنت جئت بآية فأت بهآ إن كنت من الصادقين } أي فيما تدعيه وتقول به وتدعوا إليه. وهنا ألقى موسى عصاه أي أمام فرعون المطالب بالآية { فإذا هي ثعبان مبين } أي حية عظيمة تهتز أمام فرعون وملئه كأنها جان، هذه آية وزاده أخرى فأدخل يده في جيبه كما علمه ربه ونزعها { فإذا هي بيضآء للناظرين } بيضاء بياضا غير معهود مثله في أيدي الناس. هذا ما تضمنته هذه الآيات الخمس في هذا السياق.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سوء عاقبة المفسدين بالشرك والمعاصي.
2- تذكير موسى فرعون بأسلوب لطيف بأنه ليس ربا بل هناك رب العالمين وهو الله رب موسى وهارون والناس أجمعين.
3- تقرير مبدأ الصدق لدى الرسل عليهم السلام.
4- ظهور آيتين لموسى العصا واليد.
[7.109-112]
شرح الكلمات:
ساحر عليم: أي ذو علم بالسحر خبير به ليس مجرد مدع.
من أرضكم: أي من بلادكم ليستولي عليها ويحكمكم.
فماذا تأمرون: أي أشيروا بما ترون الصواب في حل هذا المشكل.
أرجه: أي أمهله وأخاه لا تعجل عليهما قبل اتخاذ ما يلزم من الاحتياطات.
في المدائن: مدن المملكة الفرعونية.
حاشرين: رجالا يجمعون السحرة الخبراء في فن السحر للمناظرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تفصيل قصص موسى مع فرعون فبعد أن تقدم موسى بما طلب فرعون منه من الآية فأراه آية العصا، واليد، وشاهد الملأ من قوم فرعون الآيتين العظيمتين قالوا { إن هذا لساحر عليم } وذلك لما بهرتهم الآيتان تحول العصا إلى حية عظيمة واليد البيضاء من غير سوء كالبرص بل بياضها عجب حتى لكأنها فلقة قمر أي قطعة منه، واتهموا موسى فورا بالسياسة وأنه يريد بهذا إخراجكم من بلادكم ليستولي عليها هو وقومه من بني إسرائيل، وهنا تكلم فرعون وقال: { فماذا تأمرون } أي بم تشيرون علي أيها الملأ والحال كما ذكرتم؟ فأجابوه قائلين { أرجه وأخاه } أي أوقفهما عندك { وأرسل في المدآئن حاشرين } أي رجالا من الشرط يحشرون أي يجمعون أهل الفن من السحرة من كافة أنحاء الإيالة أي الإقليم المصري، وأجر معه مناظرة فإذا انهزم انتهى أمره وأمنا من خطره على بلادنا وأوضاعنا. هذا ما دلت عليه الآيات الأربع في هذا السياق.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جهل الملأ بالآيات أدى بهم إلى أن قالوا إن موسى ساحر عليم.
2- مكر الملأ وخبثهم إذ اتهموا موسى سياسيا بأنه يريد الملك وهو كذب بحت وإنما يريد إخراج بني إسرائيل من مصر حيث طال استعبادهم وامتهانهم من قبل الأقباط وهم أبناء الأنبياء وأحفاد إسرائيل وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام.
3- فضيحة فرعون حيث نسي دعواه الربوبية، فاستشار الملأ في شأنه، إذ الرب الحق لا يستشير عباده فيما يريد فعله لأنه لا يجهل ما يحدث مستقبلا.
4- السحر صناعة من الصناعات يتعلم ويبرع فيها المرء، ويتقدم حتى يتفوق على غيره.
5- حرمة السحر وحرمة تعلمه، ووجوب إقامة الحد على من ظهر عليه وعرف به.
[7.113-116]
شرح الكلمات:
السحرة: جمع ساحر وهو من يتقن فن السحر ويؤثر في أعين الناس بسحره.
إن لنا لأجرا: أي ثوابا من عندك أي أجرا تعطيناه إن نحن غلبنا.
نحن الملقين: لعصينا.
سحروا أعين الناس: حيث صار النظارة في الميدان يشاهدون عصي السحر وحبالهم يشاهدونها حيات وثعابين تملأ الساحة.
واسترهبوهم: أي أدخلوا الرهب والرعب في قلوب الناس من قوة أثر السحر في عيونهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام من جهة وبين فرعون وملئه من جهة أخرى، فقد جاء في الآيات السابقة أن الملأ أشارواعلى فرعون بأن يحبس موسى وأخاه هارون ويرسل شرطة في المدن يأتون بالخبراء في فن السحر لمناظرة موسى عيسى أن يغلبوه، وفعلا أرسل فرعون في مدنه حاشرين يجمعون خبراء السحر، وها هم أولاء قد وصلوا قال تعالى { وجآء السحرة فرعون } وعرفوا أن الموقف جد صعب على فرعون فطالبوه بالأجر العظيم إن هم غلبوا موسى وأخاه فوافق فرعون على طلبهم، وهو معنى قوله تعالى: { وجآء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم } وزادهم أيضا أن يجعلهم من خواصه ورجال قصره فقال { وإنكم لمن المقربين } أي لدينا. وهنا تقدموا لموسى وكأنهم على ثقة في قوتهم السحرية وأن الجولة ستكون لهم، تقدموا بإلقاء آلاتهم السحرية أو تقدم موسى عليهم فقالوا { يموسى إمآ أن تلقي وإمآ أن نكون نحن الملقين } أي ألق عصاك أو نلقي نحن عصينا فقال لهم موسى { ألقوا } فألقوا فعلا فسحروا أعين الناس وجاءوا بسحر عظيم كما أخبر تعالى الأمر الذي استرهب النظارة حتى إن موسى عليه السلام أوجس في نفسه خيفة فنهاه ربه تعالى عن ذلك وأعلمه أنه الغالب بإذن الله تعالى جاء هذا الخبر في سورة طه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية طلب الأجرة على العمل الذي يقوم به الإنسان خارجا عن نطاق العبادة.
2- مشروعية الترقيات الحكومية لذي الخدمة الجلى للدولة.
3- تأثير السحر على أعين الناس حقيقة بحيث يرون الشيء على خلاف ما هو عليه إذ العصي والحبال استحالت في أعين الناس إلى حيات وثعابين.
[7.117-122]
شرح الكلمات:
تلقف: تأخذ بسرعة فائقة وحذق عجيب.
ما يأفكون: ما يقلبون بسحرهم وتمويههم.
فوقع الحق: ثبت وظهر.
صاغرين: ذليلين.
ساجدين: ساقطين على وجوههم سجدا لربهم رب العالمين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في المناظرة أو المباراة بين موسى عليه السلام وسحرة فرعون، فبعد أن ألقى السحرة حبالهم وعصيهم في الساحة وانقلبت بالتمويه السحري حيات وثعابين ورهب الناس من الموقف وظن فرعون وملأه أنهم غالبون أوحى الله تعالى إلى موسى أن يلقي عصاه فألقاها { فإذا هي تلقف ما يأفكون } أي تأخذه وتبتلعه وبذلك وقع الحق أي ظهر وثبت واستقر { وبطل ما كانوا يعملون } أي السحر والتمويه وقوله تعالى { فغلبوا } أي فرعون وملأه وقومه { هنالك } أي في ساحة المباراة والمناظرة { وانقلبوا } إلى ديارهم { صاغرين } أي ذليلين مهزومين. وقوله تعالى { وألقي السحرة ساجدين } أي إنهم بعد أن شاهدوا الآية الكبرى بهرتهم فخروا ساجدين كأنما ألقاهم أحد على وجه الأرض لا حراك لهم وهم يقولون { آمنا برب العالمين رب موسى وهارون } وضمن ذلك فقد كفروا بربوبية فرعون الباطلة، لأن الإيمان بالله سيلزم الكفر بما عداه، ولذا قالوا { آمنا برب العالمين رب موسى وهارون } تلويحا بكفرهم بفرعون الطاغية وبكل إله غير الله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنته تعالى في أن الحق والباطل إذا التقيا في أي ميدان فالغلبة للحق دائما.
2- بطلان السحر وعدم فلاح أهله ولقوله تعالى من سورة طه
ولا يفلح الساحر حيث أتى
[الآية: 69].
3- فضل العلم وأنه سبب الهداية فإيمان السحرة كان ثمرة العلم، إذ عرفوا أن ما جاء به موسى ليس سحرا وإنما هو آية له من الله فآمنوا.
4- مظهر من مظاهر القضاء والقدر فالسحرة أصبحوا كافرين وأمسوا مسلمين.
[7.123-126]
شرح الكلمات:
آمنتم به: أي صدقتموه فيما جاء به ودعا إليه.
مكر مكرتموه: أي حيلة احتلتموها وتواطأتم مع موسى على ذلك.
من خلاف: بأن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس.
ثم لأصلبنكم: التصليب: الشد على خشبة حتى الموت.
منقلبون: أي راجعون.
وما تنقم منا: أي وما تكره منا وتنكر علينا إلا إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا.
أفرغ علينا صبرا: أي افض علينا صبرا قويا حتى نثبت على ما توعدنا فرعون من العذاب ولا نرتد بعد إيماننا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث قصص موسى وفرعون ففي الآيات قبل هذه تمت المناظرة بين موسى والسحرة بنصر موسى عليه السلام وهزيمة فرعون النكراء حيث سحرته بعد ظهور الحق لهم واضحا مكشوفا آمنوا وأسلموا وسجدوا لله رب العالمين. وفي هذه الآيات يخبر تعالى عن محاكمة فرعون للسحرة فقال عز من قائل { قال فرعون } أي للسحرة { آمنتم به } أي بموسى { قبل أن آذن لكم } أي في الإيمان به، وهي عبارة فيها رائحة الهزيمة والحمق، وإلا فهل الإيمان يتأتى فيه الإذن وعدمه، الإيمان إذعان باطني لا علاقه له بالإذن إلا من الله تعالى، ثم قال لهم { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منهآ أهلها } أي إن هذا الذي قمتم به من ادعاء الغلب لموسى بعدما أظهرتم الحماس في بداية المباراة ما هو إلا مكر وتدبير خفي تم بينكم وبين موسى في المدينة قبل الخروج إلى ساحة المباراة، والهدف منه إخراجكم الناس من المدينة واستيلائكم عليها. ثم تهددهم وتوعدهم بقوله { فسوف تعلمون } ما أنا صانع بكم. وذكر ما عزم عليه فقال مقسما { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } يريد بقطع من كل واحد منهم يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم يربطهم على أخشاب في ساحة معينة ليموتوا كذلك نكالا وعبرة لغيرهم. هذا ما أعلنه فرعون وصرح به للسحرة المؤمنين فما كان جواب السحرة { قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون } أي راجعون فقتلك إيانا لم يزد على أن قربنا من ربنا وردنا إليه ونحن في شوق إلى لقاء ربنا، وعليه فحكمك بقتلنا ما هو بضائرنا، وشيء آخر هو أنك { وما تنقم منآ } يا فرعون أي ما تكره منا ولا تنكر علينا إجراما أجرمناه أو فسادا في الأرض أشعناه إنما تنقم منا إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا وهذا شيء لا مذمة فيه علينا، ولا عارا يلحقنا، فلذا
فاقض مآ أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيآ
[طه: 72] ثم أقبلوا على الله ورفعوا أيديهم إليه وقالوا ضارعين سائلين { ربنآ أفرغ علينا صبرا } حتى نتحمل العذاب في ذاتك { وتوفنا مسلمين } ، ونفذ فرعون جريمته ولكن أحدث ذلك اضطرابا في البلاد ولم يكن فرعون ولا ملأه يتوقعون دل عليه الآيات التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القلوب المظلمة بالكفر والجرائم أصحابها لا يتورعون عن الكذب واتهام الأبرياء.
2- فضيلة الاسترجاع أن يقول
إنا لله وإنآ إليه راجعون
[البقرة: 156] حيث فزع إليها السحرة لما هددهم فرعون إذ قالوا { إنآ إلى ربنا منقلبون } أي راجعون فهان عليهم ما تهددوا به.
3- مشروعية سؤال الصبر على البلاء للثبات على الإيمان.
4- فضل الوفاة على الإسلام وأنه مطلب عال لأهل الإيمان.
[7.127-129]
شرح الكلمات:
قال الملأ: أي لفرعون .
أتذر: أي أتترك.
وقومه: اي بني إسرائيل.
ليفسدوا في الأرض: أي في البلاد بالدعوة إلى مخالفتك، وترك طاعتك.
وآلهتك: أصناما صغارا وضعها ليعبدها الناس وقال أنا ربكم الأعلى وربها.
نستحيي نساءهم: نبقي على نسائهم لا تذبحهن كما تذبح الأطفال الذكور.
ويستخلفكم في الأرض: أي يجعلكم خلفاء فيها تخلفون الظالمين بعد هلاكهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث قصص موسى وفرعون أنه بعد انتصار موسى في المباراة وإيمان السحرة ظهر أمر موسى واتبعه ستمائة ألف من بني إسرائيل، وخاف قوم فرعون من إيمان الناس بموسى وبما جاء به من الحق قالوا لفرعون على وجه التحريض والتحريك له { أتذر موسى وقومه } يريدون بني إسرائيل { ليفسدوا في الأرض } أي أرض مصر بإفساد خدمك وعبيدك { ويذرك وآلهتك } أي ويتركك فلا يخدمك ولا يطيعك ويترك آلهتك فلا يعبدها إذ كان لفرعون أصنام يدعو الناس لعبادتها لتقربهم إليه وهو الرب الأعلى للكل. وبعد هذا التحريش والإغراء من رجال فرعون ليبطش بموسى وقومه قال فرعون { سنقتل أبنآءهم ونستحيي نسآءهم } كما كان يفعل قبل عندما أخبر بأن سقوط ملكه سيكون على يد بني إسرائيل { وإنا فوقهم قاهرون } هذه الكلمة من فرعون في هذا الظرف بالذات لا تعد وأن تكون تعويضا عما فقد من جبروت ورهبوت كان له قبل هزيمته في المبارة وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [127] وهي قوله تعالى { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبنآءهم ونستحيي نسآءهم وإنا فوقهم قاهرون } وكان رد موسى عليه السلام على هذا التهديد والوعيد الذي أرعب بني إسرائيل وأخافهم ما جاء في الآية الثانية [128] { قال موسى لقومه } أي من بني إسرائيل { استعينوا بالله } على ما قد ينالكم من ظلم فرعون، وما قد يصيبكم من أذى انتقاما لما فقد من علوه وكبريائه { واصبروا } على ذلك، واعلموا { إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والعاقبة للمتقين } فمتى صبرتم على ما يصيبكم فلم تجزعوا فترتدوا، واتقيتم الله ربكم فلم تتركوا طاعته وطاعة رسوله أهلك عدوكم وأورثكم أرضه ودياره، وسبحان الله هذا الذي ذكره موسى لبني إسرائيل قد تم حرفيا بعد فترة صبر فيها بنو إسرائيل واتقوا كما سيأتي في هذا السياق بعد كذا آية، وهنا قال بنو إسرائيل ما تضمنته الآية الأخيرة [129] { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا } بما أتيتنا به من الدين والآيات، وذلك عندما كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم للخدمة { ومن بعد ما جئتنا } وهذه منهم كلمة الآيس المهزوم نفسيا لطول ما عانوا من الاضطهاد والعذاب من فرعون وقومه الأقباط.
فأجابهم موسى عليه السلام قائلا: محييا الأمل في نفوسهم وإيصالهم بقوة الله التي لا تقهر { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } وهذا الذي رجاه موسى ورجاه بني إسرائيل قد تم كاملا بلا نقصان والحمد لله الكريم المنان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- خطر بطانة السوء على الملوك والرؤساء تجلت في إثارة فرعون ودفعه إلى البطش بقولهم { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض... الخ }.
2- بيان فضيلة الصبر والتقوى وأنها مفتاح النصر وإكسير الكمال البشري.
3- النفوس المريضة علاجها عسير ولكن بالصبر والمثابرة تشفى إن شاء الله تعالى.
4- بيان صدق ما رجاه موسى من ربه حيث تحقق بحذافيره.
5- استحسان رفع معنويات المؤمنين بذكر حسن العاقبة والتبشير بوعد الله لأوليائه أهل الإيمان والتقوى.
[7.130-133]
شرح الكلمات:
أخذنا آل فرعون بالسنين: أي عاقبناهم بسنيى الجدب والقحط.
ونقص من الثمرات: بالجوائح تصيبها، وبعدم صلاحيتها.
الحسنة: ما يحسن من خصب ورخاء وكثرة رزق وعافية.
سيئة: ضد الحسنة وهي الجدب والغلاء والمرض.
يطيروا بموسى: أي يتشاءمون بموسى وقومه.
الطوفان والجراد والقمل والضفادع: الطوفان الفيضانات المغرقة، والجراد معروف بأكل الزرع والثمار، والقمل جائز أن يكون القمل المعروف وجائز أن يكون السوس في الحبوب، والضفادع جمع ضفدعة. حيوان يوجد في المياه والمستنقعات.
والدم: والدم معروف قد يكون دم رعاف أو نزيف، أو تحول الماء ماء الشرب إلى دم عبيط في أوانيهم وأفواههم آية لموسى عليه السلام.
فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين: حيث لم يؤمنوا بهذه الآيات. أي مفسدين حيث حكم بإهلاكهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص موسى مع آل فرعون إنه لما شاهد فرعون وآله آية العصا وانهزام السحر أمامهم وإيمان السحرة حملهم الكبر على مواصلة الكفر والعناد فأصابهم الرب تعالى بجفاف وقحط سنوات لعلهم يذكرون، ولم يذكروا فحول الله تعالى جدبهم إلى خصب، وبلاءهم إلى عافية فلم يرجعوا وقالوا في الرخاء هذه لنا نحن مستحقوها وجديرون بها، وقالوا في القحط والبلاء قالوا هذه من شؤم موسى وبني إسرائيل، قال تعالى { ألا إنما طائرهم عند الله } وذلك لأنه مدبر الأمر وخالق كل شيء وجاعل للحسنة أسبابها وللسيئة أسبابها ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك قالوا اطيرنا بموسى ومن معه وأصروا على الكفر ولجوا في المكابرة والعناد حتى قالوا لموسى { مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } ولو علموا ما أصروا على الكفر ولما قالوا ما قالوا فأسباب الحسنة الإيمان والتقوى، وأسباب السيئة الكفر والمعاصي، إذ المراد بالحسنة والسيئة هنا: الخير والشر. وهنا وبعد هذا الإصرار والعناد والمكابرة رفع موسى يديه إلى ربه يدعوه فقال: يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغا وعتا، وأن قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية، فاستجاب الله تعالى دعاءه فأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فأخذهم الطوفان أولا فكادوا يهلكون بالغرق فجاءوا موسى وطلبوا منه أن يدعو ربه ليرفع عنهم هذا العذاب فإن رفعه عنهم آمنوا وأرسلوا معه بني إسرائيل فدعا ربه واستجاب الله تعالى فأخذوا شهرا في عافية فطلب منهم موسى ما وعدوه به فتنكروا لوعدهم وأصروا على كفرهم فأرسل الله تعالى عليهم الجراد فأكل زروعهم وأشجارهم وثمارهم حتى ضجوا وصاحوا وأتوا موسى وأعطوه وعودهم إن رفع الله عنهم هذا العذاب آمنوا وأرسلوا معه بني إسرائيل فرفع الله عنهم ذلك فلبثوا مدة آمنين من هذه العاهة وطالبهم موسى بوعدهم فتنكروا له، وهكذا حتى تمت الآيات الخمس مفصلات ما بين كل آية وأخرى مدة تقصر وتطول فاستكبروا عن الإيمان والطاعة وكانوا قوما مجرمين مفسدين لا خير فيهم ولا عهد لهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من تدبير الله تعالى أخذه عباده بالشدائد لعلهم يذكرون فيتعظون ويتوبون.
2- بطلان التطير مطلقا، وإنما الشؤم في المعاصي بمخالفة شرع الله فيترتب على الفسق والعصيان البلاء والعذاب.
3- الجهل سبب الكفر والمعاصي وسوء الأخلاق وفساد الأحوال.
4- عدم إيمان آل فرعون مع توارد الآيات عليهم دال على أن إيمانهم لم يسبق به القدر، كما هو دال على أن الآيات المعجزات لا تستلزم الإيمان بالضرورة.
5- التنديد بالإجرام وهو إفساد النفس بالشرك والمعاصي.
[7.134-137]
شرح الكلمات:
الرجز: العذاب وهو الخمسة المذكورة في آية [133] الآنفة الذكر.
إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون: المراد من الأجل أنهم كانوا إذا سألوا موسى أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب ويعدونه بالإيمان وإرسال بني إسرائيل معه فيرفع الله عنهم العذاب فيمكثون زمنا ثم يطالبهم موسى بالإيمان وإرسال بني إسرائيل فيأبون عليه ذلك وينكثون عهدهم.
فانتقمنا منهم: أي أنزلنا بهم نقمتنا فأغرقناهم في اليم الذي هو البحر.
الذين كانوا يستضعفون: هم بنو إسرائيل.
مشارق الأرض ومغاربها: هي أرض مصر والشام.
وتمت كلمة ربك الحسنى: هي وعده تعالى لهم في قوله
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين
[الآية: 5] - من سورة القصص -.
وما كانوا يعرشون: أي يرفعون من مباني الدور والقصور العالية.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون وقومه، وهذه هي الآيات الأخيرة في هذا القصص. إنه لما وقع عليهم الرجز وهو العذاب المفصل الطوفان فالجراد، فالقمل، فالضفادع، فالدم { قالوا يموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي من كشف العذاب عنا إن نحن آمنا بك وبما جئت به وبما تطالب به من إرسال بني إسرائيل معك وحلفوا وقالوا { لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرآئيل } قال تعالى: { فلما كشفنا عنهم الرجز } أي العذاب { إلى أجل هم بالغوه } إلى وقت ينتهون إليه { إذا هم ينكثون } عهودهم ولم يؤمنوا ولم يرسلوا بني إسرائيل وكان هذا ما بين كل آية وآية حتى كانت الخمس الآيات، ودقت ساعة هلاكهم قال تعالى { فأغرقناهم في اليم } وهو البحر الملح أي أغرق فرعون وجنده ورجال دولته وأشراف بلاده، ثم ذكر تعالى علة هذا الهلاك الذي حاق بهم ليكون عبرة لغيرهم وخاصة قريش التي ما زالت مصرة على الشرك والتكذيب، فقال تعالى { بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } كما هي الحال في قريش ومشركي العرب وكفارهم. وختم تعالى هذا القصص قصص موسى مع فرعون بقوله { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } وهم بنو إسرائيل حيث استعبدهم فرعون الظالم وآله زمنا غير قصير { مشارق الأرض ومغاربها } وهي أرض مصر والشام إذ الكل مما بارك الله تعالى فيه إلا أن أرض الشام أولا ثم أرض مصر ثانيا، إذ دخل بنو إسرائيل أرض فلسطين بعد وفاة موسى وهارون حيث غزا بهم يوشع بن نون العمالقة في أرض فلسطين وفتح البلاد وسكنها بنو إسرائيل وقوله تعالى { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرآئيل بما صبروا } والمراد من كلمة الله قوله في سورة القصص
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون
[الآية: 5-6] وقوله تعالى { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } من سلاح وعتاد ومبان شداد، وقصور رفيعة البنيان، { وما كانوا يعرشون } ويرفعون ويعلون من صروح عالية، وحدائق أعناب زاهية زاهرة وأورث أرضهم وديارهم وأموالهم قوما أخرين غيرهم، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. إلى هنا انتهى قصص موسى عليه السلام مع فرعون وملائه وكانت العاقبة له والحمد لله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ضعف الإنسان يظهر عند نزول البلاء به حيث يفزع إلى الله تعالى يدعوه ويضرع إليه وعند رفعه حيث ينسى ما نزل به ويعود إلى عاداته وما كان عليه من الشرك والمعاصي إلا من آمن وعمل صالحا فإنه يخرج من دائرة الضعف حيث يصبر عند البلاء ويشكر عند النعماء.
2- سبب العذاب في الدنيا والآخرة التكذيب بآيات الله بعدم الإيمان والعمل بها، والغفلة عنها حيث لا يتدبر ولا يفكر فيها وفي ما نزلت لأجله.
3- مظاهر قدرة الله، وصادق وعده، وعظيم منته على خلقه، وحسن تدبيره فيهم فسبحانه من إله عليم حكيم، رؤوف رحيم.
[7.138-141]
شرح الكلمات:
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر: أي قطعنا بهم فاجتازوه إلى ساحله.
يعكفون على أصنام لهم: يجلسون إلى تماثيل بقر منحوته من حجر.
اجعل لنا إلها: أي معبودا يريدون تمثالا كالذي شاهدوا.
تجهلون: أي أن العبادة لا تكون إلا لله تعالى.
متبر ما هم فيه: هالك خاسر لا يكسبهم خيرا ولا يدفع عنهم شرا.
وإذ نجيناكم: أي واذكروا نعم الله عليكم بإنجائه إياكم من آل فرعون.
يسومونكم سوء العذاب: يوردونكم موارد الردى والهلاك بما يصيبونكم به من عذاب.
بلاء من ربكم: أي اختبار وامتحان قاس شديد.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص جديد لنبي الله تعالى موسى مع قومه من بني إسرائيل إنه بعد هلاك فرعون وجنوده في اليم، انتهى الكلام على دعوة موسى لفرعون وملئه، وبذلك استقبل موسى وأخوه هارون مشاكل جديدة مع قومهما إنه بعد أن جاوز تعالى ببني إسرائيل البحر ونزلوا على شاطئه سالمين مروا بأناس يعكفون على تماثيل لهم وهي عبارة عن أبقار حجرية منحوته نحتا يعبدونها وهم عاكفون عليها وما إن رأى بنو إسرائيل هؤلاء العاكفين على الأصنام حتى قالوا لموسى يا موسى اجعل لنا إلها كما لهؤلاء آلهة، وهي كلمة دالة على جهل بالله تعالى وآياته، فما كان من موسى عليه السلام حتى جابههم بقوله: { إنكم قوم تجهلون } وواصل تأنيبه لهم وإنكاره الشديد عليهم فقال { إن هؤلاء } أي العاكفين على الأصنام والذين غرتكم حالهم { متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون } أي إنهم وما هم عليه من حال في هلاك وخسار، ثم قال لهم منكر متعجبا { أغير الله أبغيكم إلها } أي غير ربي عز وجل أطلب لكم إلها تعبدونه دون الله ما لكم أين يذهب بعقولكم، وهو سبحانه وتعالى فضلكم على العالمين وشرفكم على سائر سكان المعمورة أهكذا يكون شكركم له بطلب إله غيره، وهل هناك من يستحق العبادة غيره؟ وقوله تعالى في الآية الأخيرة [141] { وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب } أي واذكروا يا من قلتم اجعل لنا إلها كما للمشركين آلهة اذكروا فضل الله عليكم بإنجائه إياكم من فرعون وآله وهم الذين كانوا على منهجه في الظلم والكفر من رجال حكمه وأفراد شرطه وجيوشه { يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنآءكم } حتى لا تكثروا، { ويستحيون نسآءكم } للامتهان والخدمة، وفي هذا التعذيب والإنجاء منه { بلاء من ربكم عظيم } يتطلب شكركم لا كفركم، فكيف تريدون أن تعبدوا غيره، وتشركوا به أصناما لا تنفع ولا تضر، إن أمركم لجد مستغرب وعجب فاتقوا الله وتوبوا إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- طلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها يعبدونه دال على جهل تام في بني إسرائيل ولذا قال لهم موسى { إنكم قوم تجهلون } فالعلة في هذا الطلب العجيب هي الجهل بالله تعالى وأسمائه وصفاته، يشهد لهذا أن مسلمة الفتح لما خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين مروا بسدرة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أجعلها لنا ذات أنواط ننيط بها أسلحتنا، كما للمشركين نظيرها ينيطون بها أسلحتهم لينتصروا في القتال على أعدائهم فعجب الرسول من قولهم وقال
" سبحان الله ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة "
فجهل القائلين هو الذي سهل عليهم أن يقولوا مثل هذا القول، ويشهد لذلك أن آلاف الأشجار والمزارات في بلاد المسلمين تزار ويتبرك بها وتقدم لها القرابين ولا علة لذلك سوى جهل المسلمين بربهم عز وجل.
2- إنكار المنكر عند وجوده والعثور عليه بالأسلوب الذي يغيره.
3- استحباب التذكير بأيام الله خيرها وشرها لاستجلاب الموعظة للناس لعلهم يتوبون.
4- الرب تعالى يبتلي بالخير والغير، وفي كل ذلك خير لمن صبر وشكر.
[7.142-145]
شرح الكلمات:
ميقات: الميقات: الوقت المعين.
أخلفني في قومي: أي كن خليفتي فيهم .
المفسدين: الذين يعملون بالمعاصي.
استقر مكانه: ثبت ولم يتحول.
خر: سقط على الأرض.
أفاق: ذهب عنه الإغماء وعاد إليه وعيه.
اصطفيتك: أخترتك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر أحداث موسى مع بني إسرائيل إنه لما نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وملئه، وحدثت حادثة طلب بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلها كما للمشركين إلها وقد أنبأهم موسى وأدبهم عن قولهم الباطل واعد الله تعالى موسى أن يناجيه بجبل الطور وجعل له الموعد الذي يلقاه فيه شهرا ثلاثين يوما وكانت شهر القعدة وزادها عشرا من أول الحجة فتم الميقات أربعين ليلة. وعند خروجه عليه السلام استخلف في بني إسرائيل أخاه هارون وأوصاه بالإصلاح، ونهاه عن اتباع آراء المفسدين هذا معنى قوله تعالى { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } وكان ذلك من أجل أن يأتي بني إسرائيل بكتاب من ربهم يتضمن شريعة كاملة يساسون بها وتحكمهم ليكملوا ويسعدوا عليها.
وقوله تعالى { ولما جآء موسى لميقاتنا } أي في الموعد الذي واعدنا والوقت الذي حددنا وكلمه ربه بلا واسطة بينهما بل كان يسمع كلامه ولا يرى ذاته، تاقت نفس موسى لرؤية ربه تعالى، فطلب ذلك فقال { رب أرني أنظر إليك } فأجابه ربه تعالى بقوله إنك لن تراني أي رؤيتك لي غير ممكنة لك، ولكن إذا أردت أن تتأكد من أن رؤيتك لي في هذه الحياة غير ممكنة فانظر إلى الجبل " جبل الطور " فإن استقر مكانه بعد أن أتجلى له، فسوف تراني { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى } عند رؤية الجبل { صعقا } أي مغشيا عليه { فلمآ أفاق } مما اعتراه من الصعق { قال سبحانك } أي تنزيها لك وتقديسا { تبت إليك } فلم أسألك بعد مثل هذا السؤال { وأنا أول المؤمنين } بك وبجلالك وعظيم سلطانك وأنا عبدك عاجز عن رؤيتك في هذه الدار دار التكليف والعمل.
وهنا أجابه ربه تعالى قائلا { يموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ مآ آتيتك } من هذا الكمال والخير العظيم { وكن من الشاكرين } لي على إنعامي لأزيدك وذلك بطاعتي والتقرب إلي بفعل محابي وترك مكارهي. وقوله تعالى { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء } أي كتبنا له في ألواحه من كل شيء من أمور الدين والدنيا موعظة لقومه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وتفصيلا لكل شيء يحتاجون إلى بيانه وتفصيله. وقوله { فخذها بقوة } أي وقلنا له خذها بقوة أي بعزم وجد وذلك بالعمل بحلالها وحرامها فعلا وتركا، { وأمر قومك } أيضا { يأخذوا بأحسنها } أي بما هو عزائم فيها وليس برخص تربية لهم وتعويدا لهم على تحمل العظائم لما لازمهم من الضعف والخور دهرا طويلا.
وقوله تعالى { سأوريكم دار الفاسقين } يتضمن النهي لبني إسرائيل عن ترك ما جاء في الألواح من الشرائع والأحكام فإنهم متى تركوا ذلك أو شيئا منه يعتبرون فاسقين، وللفاسقين نار جهنم هي جزاؤهم يوم يلقون ربهم، وسيريهم إياها، فهذه الجملة تحمل غاية الوعيد والتهديد للذين يفسقون عن شرائع الله تعالى بإهمالها وعدم العمل بها، فليحذر المؤمنون هذا فإنه أمر عظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المحافظة على المواعيد أمر محبوب للشارع مرغب فيه وهو من سمات الصادقين.
2- جواز الاستخلاف في الأرض في مهام الأمور فضلا عما هو دون ذلك.
3- مشروعية الوصية للخلفاء بما هو خير.
4- إمكان رؤية الله تعالى وهي ثابتة في الآخرة لأهل الجنة.
5- استحالة رؤية الله تعالى في الدنيا لضعف الإنسان على ذلك.
6- وجود الأمة القابلة لأحكام الله قبل وجود الشرع الذي يحكمها.
[7.146-147]
شرح الكلمات:
سأصرف: سأبعد.
يتكبرون: يعلون ويترفعون فيمنعون الحقوق ويحتقرون الناس.
سبيل الرشد: طريق الحق القائم على الإيمان والتقوى.
سبيل الغي: طريق الضلال القائم على الشرك والمعاصي.
وكانوا عنها غافلين: لا يلتفتون إليها ولا ينظرون فيها ولا يتفكرون فيما تدل عليه وتهدي إليه.
حبطت أعمالهم: فسدت فلا ينتفعون بها لأنها أعمال مشرك والشرك محبط للعمل.
معنى الآيتين الكريمتين:
هاتان الآيتان تحملان تعليلا صحيحا صائبا لكل انحراف وفساد وظلم وشر وقع في الأرض ويقع إلى نهاية هذه الحياة وهذا التعليل الصحيح هو التكذيب بآيات الله والغفلة عنها، وسواء كان الحامل على التكذيب الكبر أو الظلم، أو التقليد أو العناد، إلا أن الكبر أقوى عوامل الصرف عن آيات الله تعالى لقوله عز وجل في مطلع الآية الأولى [146] { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق } ومن صرفه الله حسب سنته في صرف العباد لا يقبل ولا يرجع أبدا، وقوله { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } هذا بيان لعامل من عوامل الصرف عن آيات الله، وهو أن يعرض على العبد سبيل الرشد فيرفضه، ويرى سبيل الغي فيتبعه ويتخذه سبيلا، وقوله تعالى { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } التي جاءت بها رسلنا { وكانوا عنها غافلين } غير مبالين بها ولا ملتفتين إليها هذا هو التعليل الصحيح الذي نبهنا إليه فليتأمل، وقوله تعالى في الآية الثانية [147] { والذين كذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة حبطت أعمالهم } تقرير المراد به تأكيد خسران أولئك المصروفين عن آيات الله تعالى، إذ أعمالهم لم تقم على أساس العدل والحق بل قامت على أساس الظلم والباطل فلذا هي باطلة من جهة فلا تكسبهم خيرا، ومن جهة أخرى فهي أعمال سوء سوف يجزون بها سوءا في دار الجزاء وهو عذاب الجحيم، ولذا قال تعالى { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون من السوء، وعدالة الله تعالى أن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في صرف العباد عن آيات الله حتى يهلكوا كما هلك فرعون وآله.
2- من أقوى عوامل الصرف عن آيات الله الكبر.
3- التكذيب بآيات الله والغفلة عنها هما سبب كل ضلال وشر وظلم وفساد.
4- بطلان كل عمل لم يسلك فيه صاحبه سبيل الرشد التي هي سبيل الله التي تحدد الآيات القرآنية وتبين معالمها، وترفع أعلامها.
[7.148-149]
شرح الكلمات:
من حليهم: جمع حلي وهو ما تتحلى به المرأة لزوجها من أساور ونحوها من ذهب.
عجلا جسدا: العجل ولد البقرة والجسد أي ذاتا لا مجرد صورة على ورق أو جدار.
له خوار: الخوار صوت البقر كالرغاء صوت الإبل.
ولما سقط في أيديهم: أي ندموا على عبادته لأنها عبادة باطلة.
معنى الآيات:
هذا عود إلى قصص موسى عليه السلام مع قومه من بني إسرائيل، فقد كان السياق مع موسى في جبل الطور وطلبه الرؤية وتوبته من ذلك ثم اعترض السياق ببيان القاعدة العظيمة في تعليل هلاك العباد وبيان سببه وهو التكذيب بآيات الله المنزلة والغفلة عنها، ثم عاد السياق لقصص موسى مع بني إسرائيل فقال تعالى { واتخذ قوم موسى من بعده } أي من بعد غيبته في جبل الطور لمناجاة ربه وليأتي بالكتاب الحاوي للشريعة التي سيسوسهم بها موسى ويحكمهم بموجبها ومقتضى قوانينها اتخذوا { من حليهم } أي حلي نسائهم { عجلا جسدا له خوار } وذلك أن السامري طلب من نسائهم حليهم بحجة واهية: أن هذا الحلي مستعار من نساء الأقباط ولا يحل تملكه فاحتال عليهم وكان صائغا فصهره وأخرج لهم منه { عجلا جسدا } أي ذاتا { له خوار } أي صوت كصوت البقر، وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه ولم يقل وإله هارون لأن هارون كان معهم خليفة فخاف أن يكذبه هارون فلم ينسبه إليه، وقوله تعالى { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } توبيخ لهم وتقريع على غباوتهم وجهلهم، وإلا كيف يعتقدون إلها وهو لا يتكلم فيكلمهم ولا يعقل فيهديهم سبيل الرشد إن ضلوا وقد ضلوا بالفعل ثم قال تعالى { اتخذوه } أي إلها { وكانوا ظالمين } في ذلك، لأن الله رب موسى وهارون والعالمين لم يكن عجلا ولا مخلوقا كائنا من كان فما أجهل القوم وما أسوأ فهمهم وحالهم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [148] وأما الآية الثانية [149] فقد أخبر تعالى عن حالهم بعد انكشاف الأمر لهم، وبيان خطئهم فقال تعالى { ولما سقط في أيديهم } أي ندموا ندما شديدا ورأوا أنهم بشركهم هذا قد ضلوا الطريق الحق والرشد، صاحوا معلنين توبتهم { لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا } أي هذا الذنب العظيم { لنكونن من الخاسرين } في الدار الآخرة فنكون من أصحاب الجحيم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان سنة من سنن الكون وهي أن المرء يتأثر بما يرى ويسمع، والرؤية أكثر تأثيرا في النفس من السماع فإن بني إسرائيل رؤيتهم للأبقار الآلهة التي مروا بأهل قرية يعكفون عليها وطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها مثلها هو الذي جعلهم يقبلون عجل السامري الذي صنعه لهم، ومن هذا كان منظر الأشياء في التلفاز وشاشات الفيديو مؤثرا جدا وكم أفسد من عقول ولوث من نفوس، وأفسد من أخلاق.
2- تقبيح الغباء والجمود في الفكر، وذلك لقول الله تعالى { ألم يروا أنه لا يكلمهم }.
3- إذا أراد الله بعبده خرا ألهمه التوبة بعد المعصية فندم واستغفر.
[7.150-154]
شرح الكلمات:
ولما رجع موسى: أي من جبل الطور بعد مرور أكثر من أربعين يوما.
أسفا: أي حزينا شديد الحزن والغضب.
أعجلتم أمر ربكم: أي استعجلتم.
برأس أخيه: أي هارون شقيقه.
قال ابن أم: أصلها يا ابن أمي فقلبت الياء ألفا نحو يا غلاما، ثم حذفت وهارون شقيق موسى وإنما ناداه بأمه لأنه أكثر عطفا وحنانا.
فلا تشمت بي الأعداء: أي لا تجعل الأعداء يفرحون بإهانتك أو ضربك لي.
اتخذوا العجل: أي إلها عبدوه.
المفترين: الكاذبين على الله تعالى بالشرك به أي بجعل شريك له.
ولما سكت عن موسى الغضب: زال غضبه وسكنت نفسه من القلق والاضطراب.
أخذ الألواح: أي من الأرض بعد أن طرحها فتكسرت.
وفي نسختها: أي وفي ما نسخه منها بعد تكسرها نسخة فيها هدى ورحمة.
يرهبون: يخافون ربهم ويخشون عقابه فلا يعصونه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث قصص موسى مع بني إسرائيل ففي هذا السياق الكريم يخبر تعالى أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه من مناجاته وقد أخبره ربه تعالى أنه قد فتن قومه من بعده وأن السامري قد أضلهم فلذا رجع { غضبن أسفا } أي شديد الغضب والحزن، وما إن واجههم حتى قال { بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم }؟ أي استعجلتم فلم تتموا ميعاد ربكم أربعين يوما فقلتم مات موسى وبدلتم دينه فعبدتم العجل { وألقى الألواح } اي طرحها فتكسرت { وأخذ برأس أخيه } هارون ورأسه يؤنبه على تفريطه في مهام الخلافة فاعتذر هارون فقال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي هذا وارد في سورة طه وأما السياق هنا فقد قال { ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعدآء ولا تجعلني مع القوم الظلمين } وهم الذين ظلموا بعبادة العجل، ومعنى { فلا تشمت بي الأعدآء } لا تؤذني بضرب ولا بغيره إذ ذاك يفرح أعداءنا من هؤلاء الجهلة الظالمين، وهنا رق له موسى وعطف عليه فقال { رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين } توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه بقوله { وأنت أرحم الراحمين } هذا ما تضمنته الآيتان الأولى [150] والثانية [151] أما الآية الثالثة فقد أخبر تعالى بأن الذين اتخذوا العجل أي إلها { سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا } وكما جزاهم بالغضب المستوجب للعذاب والذلة المستلزمة للإهانة يجزي تعالى المفترين عليه الكاذبين باتخاذ الشريك له وهو بريء من الشركاء والمشركين، هذا ما دلت عليه الآية الثالثة [152] أما الآية الرابعة فقد تضمنت فتح باب الله تعالى لمن أراد أن يتوب إليه إذ قال تعالى { والذين عملوا السيئات } جمع سيئة وهي هنا سيئة الشرك { ثم تابوا من بعدها } أي تركوا عبادة غير الله تعالى وآمنوا إيمانا صادقا فإن الله تعالى يقبل توبتهم ويغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم فيدخلهم جنته مع الصالحين من عباده، هذا ما دلت عليه الآية الرابعة [153] أما الآية الخامسة [154] فقد تضمنت الإخبار عن موسى عليه السلام وإنه لما سكت عنه الغضب أي ذهب أخذ الألواح التي ألقاها من شدة الغضب وأخبر تعالى أن في نسخة تلك الألواح { هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } وهم المؤمنون المتقون وخصوا بالذكر لأنهم الذين يجدون الهدى والرحمة في نسخة الألواح، لأنهم يقرأون ويفهمون ويعلمون وذلك لإيمانهم وتقواهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الغضب من طباع البشر فلا يلام عليه المرء ومهما بلغ من الكمال كالأنبياء، ولكن أهل الكمال لا يخرج بهم الغضب إلى حد أن يقولوا أو يعملوا ما ليس بخير وصلاح.
2- مشروعية الاعتذار وقبول العذر من أهل المروءات.
3- مشروعية التوسل بأسماء الله وصفاته.
4- كل وعيد لله تعالى توعد به عبدا من عباده مقيد بعدم توبة المتوعد.
5- كل رحمة وهدى ونور في كتاب الله لا ينتفع به إلا أهل الإيمان والتقوى.
[7.155-157]
شرح الكلمات:
واختار موسى قومه سبعين رجلا: أي أخذ خيار قومه وهم سبعون رجلا.
لميقاتنا: أي للوقت الذي حددناه ليأتينا مع سبعين رجلا.
أخذتهم الرجفة: الصاعقة التي رجفت لها القلوب.
السفهاء: جمع سفيه: وهو الذي لا رشد له في سائر تصرفاته.
إن هي إلا فتنتك: أي ما هي إلا فتنتك أي اختبارك لأهل الطاعة من عبادك.
أنت ولينا: أي المتولي أمرنا وليس لنا من ولي سواك.
هدنا إليك: أي رجعنا إليك وتبنا.
الأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب.
المعروف، والمنكر: ما عرفه الشرع والمنكر: ما أنكره الشرع.
ويحرم عليهم الخبائث: أي بإذن الله والخبائث جمع خبيثة: كالميتة مثلا.
ويضع عنهم إصرهم والأغلال: الإصر: العهد والأغلال: الشدائد في الدين.
عزروه: أي وقروه وعظموه.
واتبعوا النور الذي أنزل معه: القرآن الكريم.
هم المفلحون: الفائزون أي الناجون من النار الداخلون الجنة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث موسى مع بني إسرائيل فإنه بعد الحدث الجلل الذي حصل في غيبة موسى وذلك هو عبادة جل بني إسرائيل العجل واتخاذهم له إلها فإن الله تعالى وقت لموسى وقتا يأتيه فيه مع خيار بني إسرائيل يطلب لهم التوبة من الله سبحانه وتعالى. قال تعالى { واختار موسى قومه سبعين رجلا } ولما انتهى بهم إلى جبل الطور وغشيت الجبل غمامة وأخذ موسى يناجي ربه تعالى وهم يسمعون قالوا لموسى لن نؤمن لك بأن الذي كان يكلمك الرب تعالى حتى نرى الله جهرة أي عيانا وهنا غضب الله تعالى عليهم فأخذتهم صيحة رجفت لها قلوبهم والأرض من تحتهم فماتوا كلهم، وهو معنى قوله تعالى
فأخذتهم الرجفة
[الأعراف: 78، 91] وهنا أسف موسى عليه السلام لموت السبعين رجلا وقد اختارهم الخير فالخير فإذا بهم يموتون أجمعون فخاطب ربه قائلا { رب لو شئت أهلكتهم من قبل } أي من قبل مجيئنا إليك { وإياي } وذلك في منزل بني إسرائيل حيث عبدوا العجل { أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ } أي بسبب فعل السفهاء الذين لا رشد لهم، وهم من عبدوا العجل كمن سألوا رؤية الله تعالى، وقوله عليه السلام { إن هي إلا فتنتك } أي إلا اختبارك وبليتك { تضل بها من تشآء وتهدي من تشآء أنت ولينا } فليس لنا سواك { فاغفر لنا } أي ذنوبنا { وارحمنا } برفع العذاب عنا { وأنت خير الغافرين } { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } بأن توفقنا لعمل الصالحات وتتقبلها منا، { وفي الآخرة } تغفر ذنوبنا وتدخلنا جنتك مع سائر عبادك الصالحين، وقوله { إنا هدنآ إليك } أي إنا قد تبنا إليك فأجابه الرب تعالى بقوله { عذابي أصيب به من أشآء } أي من عبادي وهم الذين يفسقون عن أمري ويخرجون عن طاعتي { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } وبهذا القيد الوصفي، وبما بعده خرج إبليس واليهود وسائر أهل الملل ودخلت أمة الإسلام وحدها إلا من آمن من أهل الكتاب واستقام على دين الله وهو الإسلام.
وقوله { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } هو محمد صلى الله عليه وسلم { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } وذلك بذكر صفاته والثناء عليه وعلى أمته، وقوله { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات } أي التي كانت قد حرمت عليهم بظلمهم { ويحرم عليهم الخبآئث } الخمر ولحم الخنزير والربا وسائر المحرمات في الإسلام، وقوله { ويضع عنهم إصرهم } أي ويحط عنهم تبعة العهد الذي أخذ عليهم بالعمل فيما في التوراة والإنجيل بأن يعملوا بكل ما جاء في التوراة والإنجيل، وقوله { والأغلال التي كانت عليهم } أي الشدائد المفروض عليهم القيام بها وذلك كقتل النفس بالنفس إذ لا عفو ولا دية وكقطع الثوب للنجاسة تصيبه وغير ذلك من التكاليف الشاقة كل هذا يوضع عليهم إذا أسلموا بدخولهم في الإسلام وقوله تعالى { فالذين آمنوا به } أي بمحمد صلى الله عليه وسلم { وعزروه } أي وقروه وعظموه { ونصروه } على أعدائه من المشركين والكافرين والمنافقين { واتبعوا النور الذي أنزل معه } وهو القرآن الكريم { أولئك هم المفلحون } أي وحدهم دون سواهم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب التوبة من كل ذنوب، ومشروعية صلاة ركعتين وسؤال الله تعالى عقبها أن يقبل توبة التائب ويغفر ذنبه.
2- كل سلوك ينافي الشرع فهو من السفه المذموم، وصاحبه قد يوصف بأنه سفيه.
3- الهداية والإضلال كلاهما بيد الله تعالى فعلى العبد أن يطلب الهداية من الله تعالى ويسأله أن لا يضله.
4- رحمة الله تعالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا تنال اليهود ولا النصارى ولا غيرهم.
5- بيان شرف النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
6- بيان فضل تزكية النفس بعمل الصالحات وإبعادها عن المدسيات من الذنوب.
7- بيان فضل التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8- وجوب توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ونصرته واتباع الكتاب الذي جاء به والسنن التي سنها لأمته.
[7.158-162]
شرح الكلمات:
لا إله إلا هو: أي لا معبود بحق إلا الله.
النبي الامي: المنبىء عن الله والمنبأ من قبل الله تعالى، والأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب. نسبة إلى الأم كأنه ما زال لم يفارق أمه فلم يتعلم بعد.
يؤمن بالله وكلماته: الذي يؤمن بالله ربا وإلها، وبكلماته التشريعية والكونية القدرية.
تهتدون: ترشدون إلى طريق كمالكم وسعادتكم في الحياتين.
أمة يهدون بالحق: أي جماعة يهدون أنفسهم وغيرهم بالدين الحق وبه يعدلون في قضائهم وحكمهم على أنفسهم وعلى غيرهم انصافا وعدلا لا جور ولا ظلم.
أسباطا: جمع سبط: وهو بمعنى القبيلة عند العرب.
استسقاه قومه: أي طلبوا منه الماء لعطشهم.
فانبجست: فانفجرت.
المن والسلوى: المن: حلوى كالعسل تنزل على أوراق الأشجار، والسلوى: طائر لذيذ لحمه.
اسكنوا هذه القرية: هي حاضرة فلسطين .
وقوله " حطة ": أي احطط عنا خطايانا بمعنى الإعلان عن توبتهم.
رجزا من السماء: أي عذابا من عند الله تعالى.
معنى الآيات:
بعد الإشادة بالنبي الأمي وبأمته، وقصر الفلاح في الدارين على الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه قد يظن ظان أن هذا النبي شأنه شأن سائر الأنبياء قبله هو نبي قومه خاصة وما ذكر من الكمال لا يتعدى قومه فرفع هذا الوهم بهذه الآية [158] حيث أمر الله تعالى رسوله أن يعلن عن عموم رسالته بما لا مجال للشك فيه فقال { قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } وقوله { الذي له ملك السموت والأرض } وصف لله تعالى وقوله { لا إله إلا هو } تقرير لألوهية الله تعالى بعد ذكر قدرته وسلطانه وملكه وتدبيره لذا وجب أن لا يكون معبود إلا هو وهو كذلك إذ كل معبود غيره هو معبود عن جهل وعناد وظلم. وقوله { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي } أمر الإله الحق إلى الناس كافة بالإيمان به تعالى ربا وإلها، وبرسوله النبي الأمي نبيا ورسولا، وقوله { الذي يؤمن بالله وكلماته } صفة للنبي الأمي إذ من صفات النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم أنه يؤمن بالله حق الإيمان وأوفاه ويؤمن بكلماته أي بكلمات الرب التشريعية وهي آيات القرآن الكريم، والكونية التي يكون الله بها ما شاء من الأكوان إذ بها يقول للشيء كن فيكون كما قال لعيسى بتلك الكلمة كن فكان عيسى عليه السلام وقوله { واتبعوه لعلكم تهتدون } هذا أمر الله إلى الناس كافة بعد الأمر بالإيمان به وبرسوله النبي الأمي أمر باتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم رجاء هداية من يتبعه فيما جاء به فيهتدي إلى سبيل الفوز في الدارين هذا ما تضمنته الآية الأولى [158] أما الآية الثانية [159] فقد تضمنت الإخبار الإلهي بأن قوم موسى وإن ضلوا أو أجرموا وفسقوا ليس معنى ذلك أنه لم يكن فيهم أو بينهم من هم على هدى الله فهذه الآية كانت كالاحتراس من مثل هذا الفهم، إذ أخبر تعالى أن { ومن قوم موسى أمة } أي جماعة تكثر أو تقل { يهدون بالحق } أي يعملون بالحق في عقائدهم وعباداتهم ويدعون إلى ذلك وبالحق يعدلون فيما بينهم وبين غيرهم فهم يعيشون على الإنصاف والعدل، ولم يذكر تعالى أين هم ولا متى كانوا هم؟ فلا يبحث ذلك، إذ لا فائدة فيه، ثم عاد السياق إلى قوم موسى يذكر احداثهم للعظة والاعتبار وتقرير الحق في توحيد الله تعالى وإثبات نبوة رسوله وتقرير عقيدة البعث والجزاء أو اليوم الآخر فقال تعالى في الآية الثالثة [160] { وقطعناهم } أي بني إسرائيل { اثنتي عشرة أسباطا أمما } أصل السبط ابن البنت وأريد به هنا أولاد كل سبط من أولاد يعقوب عليه السلام، فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب كل قبيلة تنتسب إلى أبيها الأول، وأتت لفظ اثنتي عشرة لأن معنى الأسباط الفرق والفرقة مؤنثة، وقوله: { وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه } أعلمناه بطريق الوحي وهو الإعلام الخفي السريع، ومعنى { استسقاه } طلبوا منه السقيا لأنهم عطشوا لقلة الماء في صحراء سينا.
{ أن اضرب بعصاك الحجر } هذا الموحى به، فضرب { فانبجست } أي انفجرت { منه اثنتا عشرة عينا } ليشرب كل سبط من عينه الخاصة حتى لا يقع اصطدام أو تدافع فينجم عنه الأذى وقوله تعالى { قد علم كل أناس مشربهم } يريد عرف كل جماعة ماءهم الخاص بهم وقوله تعالى { وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى } هذا ذكر لإنعامه تعالى على بني إسرائيل وهم في معية موسى وهارون في حادثة التيه، حيث أرسل تعالى الغمام وهو سحاب أبيض بارد يظلهم من الشمس حتى لا تلفحهم، وأنزل عليهم المن وهي حلوى كالعسل سقط ليلا كالطل على الأشجار، وسخر لهم طائرا لذيذ اللحم يقال له السلوى وهو طائر السماني المعروف وقلنا لهم { كلوا من طيبات ما رزقناكم } وقوله تعالى { وما ظلمونا } بتمردهم على أنبيائهم وعدم طاعتهم لربهم حتى نزل بهم ما نزل من البلاء، { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }. هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة [161] فقد تضمنت حادثة بعد أحداث التيه في صحراء سيناء وذلك أن يوشع بن نون بعد أن تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاة موسى وهارون وانقضاء مدة التيه وكانت أربعين سنة غزا يوشع ببني إسرائيل العمالقة في أرض القدس وفتح الله تعالى عليه فقال لبني إسرائيل ادخلوا باب المدينة ساجدين أي منحنين خضوعا لله وشكرا على نعمة الفتح بعد النصر والنجاة من التيه، وقوله أثناء دخولكم الباب كلمة " حطة " الدالة على توبتكم واستغفاركم ربكم لذنوبكم فإن الله تعالى يغفر لكم خطئياتكم، وسيزيد الله المحسنين منكم الإنعام والخير الكثير مع رضاه عنكم وإدخالكم الجنة، هذا معنى قول تعالى { وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية } أي مدينة فلسطين { وكلوا منها حيث شئتم } لما فيها من الخيرات { وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين }.
أما الآية الرابعة [162] فهي قد تضمنت الإخبار عن الذين ظلموا من بني إسرائيل الذين أمروا بدخول القرية ودخول الباب سجدا. حيث بدلوا { قولا غير الذي قيل لهم } فبدل حطة قالوا حنطة، وبدل الدخول منحنين ساجدين دخلوا يزحفون على أستاههم، فلما رأى تعالى ذلك التمرد والعصيان وعدم الشكران أنزل عليهم وباء من السماء كاد يقضي على آخرهم هذا معنى قوله تعالى { فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السمآء بما كانوا يظلمون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لكافة الناس عربهم وعجمهم أبيضهم وأصفرهم.
2- هداية الإنسان فردا أو جماعة أو أمة إلى الكمال والإسعاد متوقفة على اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
3- إنصاف القرآن للأمم والجماعات فقد صرح أن في بني إسرائيل أمة قائمة على الحق، وذلك بعد فساد بني إسرائيل، وقبل مبعث النبي الخاتم أما بعد البعثة المحمدية فلم يبق أحد على الحق، إلا من آمن به واتبعه لنسخ سائر الشرائع بشريعته.
4- إذا أنعم الله على عبد أو أمة نعمة ثم لم يشكرها تسلب منه أحب أم كره وكائنا من كان.
[7.163-166]
شرح الكلمات:
حاضرة البحر: أي على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس.
يمدون في السبت: أي يعتدون وذلك بالصيد المحرم عليهم فيه.
يوم سبتهم: أي يوم راحتهم من أعمال الدنيا وهو يوم السبت.
شرعا: جمع شارع أي ظاهرة بارزة تغريهم بنفسها.
كذلك نبلوهم: أي نمتحنهم ونختبرهم.
بما كانوا يفسقون: اي بسبب ما أعلنوه من الفسق وهو العصيان.
معذرة إلى ربكم: أي ننهاهم فإن انتهوا فذاك وإلا فنهينا يكون عذرا لنا عند ربنا.
فلما نسوا ما ذكروا به: أي أهملوه وتركوه فلم يمتثلوا ما أمروا به ولا ما نهوا عنه.
عن السوء: السوء هو كل ما يسيء إلى النفس من سائر الذنوب والآثام.
بعذاب بئيس: أي ذا بأس شديد.
فلما عتوا عما نهوا عنه: أي ترفعوا وطغوا فلم يبالوا بالنهي.
قردة خاسئين: القردة جمع قرد معروف وخاسئين ذليلين حقيرين أخساء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بني إسرائيل إلا أنه هنا مع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة فالله تعالى يقول لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام أسألهم أي اليهود { عن القرية التي كانت حاضرة البحر } أي قريبة منه على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس والشام، أي أسألهم عن أهلها كيف كان عاقبة أمرهم، إنهم مسخوا قردة وخنازير جزاء فسقهم عن أمر ربهم، وفصل له الحادث تفصيلا للعبرة والاتعاظ فقال { إذ يعدون في السبت } أي يعتدون ما أذن لهم فيه إلى ما حرم عليهم، إذن لهم أن يصيدوا ما شاءوا إلا يوم السبت فإنه يوم عبادة ليس يوم لهو وصيد وطرب، { إذ تأتيهم حيتانهم } أي أسماكهم { يوم سبتهم شرعا } ظاهرة على سطح الماء تغريهم بنفسها { ويوم لا يسبتون } أي في باقي أيام الأسبوع { لا تأتيهم } إذا هم مبتلون، قال تعالى { كذلك } أي كهذا الابتلاء والاختبار { نبلوهم بما كانوا يفسقون } أي بسبب فسقهم عن طاعة ربهم ورسله، إذ ما من معصية إلا بذنب هكذا سنة الله تعالى في الناس. هذا ما تضمنته الآية الأولى [163] وهي قوله تعالى { وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون }.
وأما الآية الثانية [164] فالله تعالى يقول لرسوله اذكر لهم أيضا إذ قالت طائفة منهم أي من أهل القرية لطائفة أخرى كانت تعظ المعتدين في السبت أي تنهاهم عنه لأنه معصية وتحذرهم من مغبة الاعتداء على شرع الله تعالى قالت { لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا } وهذا القول من هذه الطائفة دال على يأسهم من رجوع إخوانهم عن فسقهم وباطلهم، فأجابتهم الطائفة الواعظة { معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } أي وعظنا لهم هو معذرة لنا عند الله تعالى من جهة ومن جهة أخرى { ولعلهم يتقون } فيتوبوا ويتركوا هذا الاعتداء، قال تعالى { فلما نسوا ما ذكروا به } وخوفوا منه وهو تحريم الله تعالى عليهم الصيد يوم السبت، ومعنى نسوا تركوا ولم يلتفتوا إلى وعظ إخوانهم لهم وواصلوا اعتداءهم وفسقهم، قال تعالى { أنجينا الذين ينهون عن السوء } وهم الواعظون لهم ممن ملوا ويئسوا فتركوا وعظهم، وممن واصلوا نهيهم ووعظهم، { وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } أي شديد البأس { بما كانوا يفسقون } عن طاعة الله ربهم، إذ قال تعالى لهم { كونوا قردة خاسئين } فكانوا قردة خاسئين ذليلين صاغرين حقيرين، ثم لم يلبثوا (مسخا) إلا ثلاثة أيام وماتوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير الوحي والنبوة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذا القصص الذي يذكر لبني إسرائيل لن يتم إلا عن طريق الوحي، وإلا فكيف علمه وذكر به اليهود أصحابه وأهله، وقد مضى عليه زمن طويل.
2- إذا أنعم الله على أمة نعمة ثم أعرضت عن شكرها تعرضت للبلاء أولا ثم العذاب ثانيا.
3- جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد نجى الله تعالى الناهين عن المنكر وأهلك الذين باشروه ولم ينتهوا منه دون غرهم.
4- إطلاق لفظ السوء على المعصية مؤذن بأن المعصية مهما كانت صغيرة تحدث السوء في نفس فاعلها.
[7.167-170]
شرح الكلمات:
تأذن: أعلم وأعلن.
ليبعثن: أي ليسلطن.
من يسومهم سوء العذاب: أي يذيقهم ويوليهم سوء العذاب كالذلة والمسكنة.
وقطعناهم: أي فرقناهم جماعات جماعات.
بلوناهم بالحسنات والسيئات: اختبرناهم بالخير والشر أو النعم والنقم.
فخلف من بعدهم خلف: الخلف بإسكان اللام خلف سوء وبالتحريك خلف خير.
ورثوا الكتاب: أي التوراة.
عرض هذا الأدنى: أي حطام الدنيا الفاني وهو المال.
يمسكون بالكتاب: أي يتمسكون بما في التوراة فيحلون ما أحل الله فيها ويحرمون ما حرم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في شأن اليهود فقد أمر تعالى رسوله أن يذكر إعلامه تعالى بأنه سيبعث بكل تأكيد على اليهود إلى يوم القيامة من يذلهم ويضطهدهم عقوبة منه تعالى لهم على خبث طواياهم وسوء أفعالهم، وهذا الإطلاق في هذا الوعيد الشديد يقيد بأحد أمرين الأول بتوبة من تاب منهم ويدل على هذا القيد قوله تعالى في آخر هذه الآية { إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } أي لمن تاب والثاني بجوار دولة قوية لهم وحمايتها وهذا مفهوم قوله تعالى من سورة آل عمران
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله
[آل عمران: 112] وهو الإسلام
وحبل من الناس
[آل عمران: 112]، وهو ما ذكرناه آنفا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق [167] وهي قوله تعالى { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم } وأما الآية الثانية [168] فقد تضمنت بيان فضل الله تعالى على اليهود وهو أن الله تعالى قد فرقهم في الأرض جماعات جماعات، وأن منهم الصالحين، وأن منهم دون ذلك وأنه اختبرهم بالحسنات وهي النعم، والسيئات وهي النقم تهيئة لهم وإعدادا للتوبة إن آثروا التوبة على الاستمرار في الإجرام والشر والفساد. هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى { وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } وأما الآية الثالثة [169] فقد أخبر تعالى أنه قد خلف من بعد تلك الأمة خلف سوء ورثوا الكتاب الذي هو التوراة ورثوه عن أسلافهم ولم يلتزموا بما أخذ عليهم فيه من عهود على الرغم من قراءتهم له فقد آثروا الدنيا على الآخرة فاستباحوا الربا والرشا وسائر والمحرمات، ويدعون أنهم سيغفر لهم، وكلما أتاهم مال حرام أخذوه ومنوا أنفسهم بالمغفرة كذبا على الله تعالى قال تعالى موبخا لهم { ألم يؤخذ عليهم ميثق الكتب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } وقد قرأوا هذا في الكتاب وفهموه ومع هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم، ثم يواجههم تعالى بالخطاب مذكرا لهم واعظا فيقول { والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون }؟ ويفتح الله تعالى باب الرجاء لهم في الآية الرابعة في هذا السياق فيقول { والذين يمسكون بالكتاب } أي يعملون بحرص وشدة بما فيه من الأحكام والشرائع ولا يفرطون في شيء من ذلك { وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين } ، ومعنى هذا أنهم مصلحون إن تمسكوا بالكتاب وأقاموا الصلاة، وأن الله تعالى سيجزيهم على إصلاحهم لأنفسهم ولغيرهم أعظم الجزاء وأوفره، لأنه تعالى لا يضيع أجر المصلحين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان موجز لتاريخ اليهود في هذه الآيات الأربع.
2- من أهل الكتاب الصالحون، ومنهم دون ذلك.
3- التنديد بإيثار الدنيا على الأخرة، وبتمني المغفرة مع الإصرار على الإجرام.
4- تفضيل الآخرة على الدنيا بالنسبة للمتقين.
5- الحث على التمسك بالكتاب قراءة وتعلما وعملا بإحلال حلاله وتحريم حرامه.
6- فضل إقام الصلاة.
[7.171-174]
شرح الكلمات:
وإذ نتقنا الجبل: أي رفعناه من أصله فوق رؤوسهم.
واقع بهم: أي ساقط عليهم.
خذوا ما آتيناكم بقوة: أي التزموا بالقيام بما عهد إليكم من أحكام التوراة بقوة.
واذكروا ما فيه: أي لا تنسوا ما التزمتم به من النهوض بأحكام التوراة.
من ظهورهم ذريتهم: اي أخذهم من ظهر آدم عليه السلام بأرض نعمان من عرفات.
أشهدهم على أنفسهم: أي بأنه تعالى ربهم وإلههم ولا رب لهم غيره ولا إله لهم سواه.
المبطلون: العاملون بالشرك والمعاصي إذ كلها باطل لا حق فيه.
نفصل الآيات: نبينها ونوضحها بتنويع الأساليب وتكرار الحجج وضرب الأمثال وذكر القصص.
معنى الآيات:
الآية الأولى في هذا السياق هي خاتمة الحديث على اليهود إذ قال تعالى لرسوله { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة } أي اذكر لهم أيها الرسول إذ نتقنا أي رفعنا فوقهم جبل الطور من أصله وصار فوقهم كأنه ظلة { وظنوا أنه واقع بهم } أي ساقط عليهم وقلنا لهم { خذوا مآ ءاتينكم بقوة } والمراد مما آتاهم أحكام التوراة وما تحمل من الشرائع وأخذها العمل بها والالتزام بكل ما أمرت به ونهت عنه وقوله تعالى { واذكروا ما فيه } أي في الذي آتيناكم من الأوامر والنواهي، ولا تنسوه فإن ذكره من شأنه أن يعدكم للعمل به فتحصل لكم بذلك تقوى الله عز وجل، هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي خاتمة سياق الحديث عن اليهود. أما الآية الثانية [172] وهي قوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم } فإنها حادثة جديرة بالذكر والاهتمام لما فيها من الاعتبار، إن الله تعالى أخرج من صلب آدم ذريته فأنطقها بقدرته التي لا يعجزها شيء فنطقت وعقلت الخطاب واستشهدها فشهدت، وخاطبها ففهمت وأمرها فالتزمت وهذا العهد العام الذي أخذ على بني آدم، وسوف يطالبون به يوم القيامة، وهو معنى قوله تعالى { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ } أي أنك ربنا { أن تقولوا } يوم القيامة { إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنمآ أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } والعبرة من هذا أن الإنسان سرعان ما ينسى، ويعاهد ولا يفي، وما وجد من بني إسرائيل من عدم الوفاء هو عائد إلى أصل الإنسان، وهناك عبرة أعظم وهي أن التوحيد أخذ به العهد على كل آدمي، ومع الأسف أكثر بني آدم ينكرونه، ويشركون بربهم وقوله تعالى { وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون } وكهذا التفصيل الوارد في هذه السورة وهذا السياق وهو تفصيل عجيب نفصل الآيات تذكيرا للناس وتعليما ولعلهم يرجعون إلى الحق بعد إعراضهم عنه، وإلى الإيمان والتوحيد بعد انصرافهم عنهما تقليدا واتباعا لشياطين الجن والإنس.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان نفسيات اليهود وأنها نفسية غريبة وإلا كيف وهم بين يدي الله يتمردون عليه ويعصونه برفضهم الالتزام بما عهد إليهم من أحكام حتى يرفع فوقهم الطور تهديدا لهم، وعندئذ التزموا ولم يلبثوا إلا قليلا حتى نقضوا عهدهم وعصوا ربهم.
2- عجيب تدبير الله تعالى في خلقه.
3- الكافر كفر مرتين كفر بالعهد الذي أخذ عليه وهو في عالم الذر، وكفر بالله وهو في عالم الشهادة، والمؤمن آمن مرتين، فلذا يضاعف للأول العذاب ويضاعف للثاني الثواب.
4- تقرير مبدأ الخليقة، ومبدأ المعاد الآخر.
[7.175-178]
شرح الكلمات:
واتل عليهم نبأ: إقرأ عليهم.
فانسلخ منها: كفر بها وتركها وراء ظهره مبتعدا عنها.
فأتبعه الشيطان: لحقه وأدركه.
من الغاوين: من الضالين غير المهتدين الهالكين غير الناجين.
أخلد إلى الأرض: مال إلى الدنيا وركن إليها وأصبح لا هم له إلا الدنيا.
يلهث: اللهث: التنفس الشديد مع إخراج اللسان من التعب والإعياء.
ساء: قبح.
مثلا: أي صفة.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { واتل عليهم } أي اقرأ على قومك وعلى كل من يبلغه هذا الكتاب من سائر الناس { نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها } أي خبر الرجل الذي أعطيناه آيتنا تحمل الأدلة والحجج والشرائع والأحكام والآداب فتركها وابتعد عنها فلم يتلها ولم يفكر فيها ولم يعمل بها لا استدلالا ولا تطيبقا { فأتبعه الشيطان } أي لحقه وأدركه وتمكن منه إبليس، لأنه بتخليه عن الآيات وجد الشيطان له طريقا إليه { فكان من الغاوين } أي الضالين الفاسدين الهالكين { ولو شئنا لرفعناه بها } أي بالآيات إلى قمم المجد والكمال، وإلى الدرجات العلا في الدار الآخرة، { ولكنه أخلد إلى الأرض } أي مال إليها وركن فأكب على الشهوات والسرف في الملذات، وأصبح لا هم له إلا تحصيل ذلك { واتبع هواه } وترك عقله ووحي ربه عنده، فصار مثله أي صفته الملائمة له { كمثل الكلب } أي في اللهث والإعياء، والتبعية وعدم الاستقلال الذاتي { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } فحيرته وتعبه لاينقطعان أبدا. وقوله تعالى { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } أي هذا المثل الذي ضربناه لذلك الرجل الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها وكان من أمره ما قصصنا عليك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا في كل زمان ومكان، وعليه { فاقصص } يا رسولنا { القصص لعلهم يتفكرون } أي لعل قريشا تتفكر فتعتبر وترجع إلى الحق فتكمل وتسعد، وقوله تعالى { سآء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون } أي قبح مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فجحدوا بها حتى لا يوحدوا الله تعالى ولا يسلموا إليه، { وأنفسهم كانوا يظلمون } بتدنيسها بآثار الشرك والمعاصي وقوله تعالى { من يهد الله فهو المهتدي } أي من وفقه الله تعالى للهداية فآمن وأسلم واستقام على منهاج الحق فهو المهتدي بحق ومن خذله الله لشدة إعراضه عن الحق وتكبره عنه فضل بإضلال الله تعالى له فأولئك هم الخاسرون الخسران الحق المبين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- خطر شأن هذا الخبر الذي أمر تعالى رسوله أن يتلوه على الناس.
2- ترك القرآن الكريم بعدم تلاوته والتدبر فيه، وترك العمل به مفض بالعبد إلى أن يكون هو صاحب المثل في هذه الآية، فأولا يتمكن منه الشيطان فيصبح من الغواة وثانيا يخلد إلى الأرض كما هو حال الكثيرين فلا يكون لأحدهم هم إلا الدنيا.
ثم يتبع هواه لا عقله ولا شرع الله، فإذا به صورة لكلب يلهث لا تنقطع حيرته واتباعه لغيره كالكلب سواء بسواء وهذه حال من أعرضوا عن كتاب الله تعالى في هذه الآية فليتأملها العاقل.
3- لا رفعة ولا سيادة ولا كمال إلا بالعمل بالقرآن فهي الرافعة لقوله تعالى { ولو شئنا لرفعناه بها } أي بالآيات التي انسلخ منها والعياذ بالله.
4- الهداية بيد الله ألا فليطلبها من أرادها من الله بصدق القلب وإخلاص النية فإن الله تعالى لا يحرمه منها، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه.
[7.179-181]
شرح الكلمات:
ذرأنا لجهنم: خلقنا لجهنم أي للتعذيب بها والاستقرار فيها.
لا يفقهون بها: كلام الله ولا كلام رسوله.
لا يبصرون بها: آيات الله في الكون.
لا يسمعون بها: الحق والمعروف.
كالأنعام: البهائم في عدم الانتفاع بقلوبهم وأبصارهم وأسماعهم.
الغافلون: أي عن آيات الله، وما خلقوا له وما يراد لهم وبهم.
ولله الأسماء الحسنى: الأسماء جمع إسم والحسنى مؤنث الأحسن، والأسماء الحسنى لله خاصة دون غيره فلا يشاركه فيها أحد من مخلوقاته.
وذروا: اتركوا.
يلحدون: يميلون بها إلى الباطل.
وممن خلقنا: أي من الناس.
معنى الآيات:
على إثر ذكر الهدى والضلال وإن المهتدي من هداه الله، والضال من أضله الله أخبر تعالى أنه قد خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس، علما منه تعالى بأنهم يرفضون هدايته ويتكبرون عن عبادته، ويحاربون أنبياءه ورسله، وإن رفضهم للهداية وتكبرهم عن العبادة عطل حواسهم فلا القلب يفقه ما يقال له، ولا العين تبصر ما تراه، ولا الأذن تسمع ما تخبر به وتحدث عنه فأصبحوا كالآنعام بل هم أضل لأن الأنعام ما خرجت عن الطريق الذي سيقت له وخلقت لأجله، وأما أولئك فقد خرجوا عن الطريق الذي أمروا بسلوكه، وخلقوا له ألا وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له لينجوا من العذاب ويسعدوا في دار النعيم، وقوله تعالى { أولئك هم الغافلون } تقرير لحقيقة وهي أن استمرارهم في الضلال كان نتيجة غفلتهم عن آيات الله الكونية فلا يتأملوها فيعرفوا أن المعبود الحق هو الله وحده ويعبدوه وعن آيات الله التنزيلية فلا يتدبروها فيعلموا أن الله هو الحق المبين فيعبدوه وحده بما شرع لهم في كتابه وسنة نبيه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [179] وأما الآية الثانية في هذا السياق [180] وهي قوله تعالى { ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون } فقد أخبر تعالى فيها بأن الأسماء الحسنى له تعالى خاصة لا يشاركه فيها أحد من خلقه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مائة اسم إلا اسما أي تسعة وتسعون إسما ووردت مفرقة في القرآن الكريم، وأمر تعالى عباده أن يدعوه بها يا الله، يا رحمن يا رحيم يا رب، يا حي يا قيوم، وذلك عند سؤالهم إياه وطلبهم منه ما لا يقدرون عليه، كما أمرهم ان يتركوا أهل الزيغ والضلال الذين يلحدون في أسماء الله فيؤلونها، أو يعطلونها، أو يشبهونها، أمر عباده المؤمنين به يتركوا هؤلاء له ليجزيهم الجزاء العادل على ما كانوا يقولون ويعملون. لأن جدالهم غير نافع فيهم ولا مجد للمؤمنين ولا لهم.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة [181] وهي قوله تعالى { وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } إنه لما ذكر أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس ذكر هنا أنه خلق للجنة خلقا آخر من الإنس والجن فذكر صفاتهم التي يستوجبون بها الجنة كما ذكر صفات أهل جهنم التي استوجبوا بها جهنم، فقال { وممن خلقنآ } من الناس { أمة } كبيرة { يهدون } أنفسهم وغيرهم { بالحق } الذي هو هدى الله ورسوله وبالحق يعدلون في قضائهم وأحكامهم فينصفون ويعدلون ولا يجورون، ومن هذه الأمة كل صالح في أمة الإسلام يعيش على الكتاب والسنة اعتقادا وقولا وعملا وحكما وقضاء وأدبا وخلقا جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن السعادة والشقاء سبق بها قلم القضاء والقدر فكل ميسر لما خلق له.
2- هبوط الآدمي إلى درك أهبط من درك الحيوان، وذلك عندما يكفر بربه ويعطل حواسه عن الانتفاع بها، ويقصر همه على الحياة الدنيا.
3- بيان أن البلاء كامن في الغفلة عن آيات الله والإعراض عنها.
4- الأمر بدعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى نحو يا رب يا رحمن، يا عزيز يا جبار.
5- حرمة تأويل أسماء الله وصفاته وتحريفها كما قال المشركون في الله، اللات، وفي العزيز العزى سموا بها آلهتهم الباطلة، وهو الإلحاد الذي توعد الله أهله بالجزاء عليه.
6- أهل الجنة الذين خلقوا لها هم الذين يهدون بالكتاب والسنة ويقضون بهما.
[7.182-186]
شرح الكلمات:
كذبوا بآياتنا: أي بآيات القرآن الكريم.
سنستدرجهم: أي نستميلهم وهم هابطون إلى هوة العذاب درجة بعد درجة حتى ينتهوا إلى العذاب، وذلك بإدرار النعم عليهم مع تماديهم في التكذيب والعصيان حتى يبلغوا الأجل المحدد لهم ثم يؤخذوا أخذة واحدة.
وأملي لهم إن كيدي متين: أي أمهلهم فلا أعجل بعقوبتهم حتى ينتهوا إليها بأعمالهم الباطلة وهذا هو الكيد لهم وهو كيد متين شديد.
ما بصاحبهم من جنة: صاحبهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، والجنة الجنون والمتحدث عنهم كفار قريش.
ملكوت السماوات: أي ملك السماوات إلا أن لفظ الملكوت أعظم من لفظة الملك.
فبأي حديث بعده: أي بعد القرآن العظيم.
ونذرهم في طغيانهم: أي نتركهم في كفرهم وظلمهم.
يعمهون: حيارى يترددون لا يعرفون مخرجا ولا سبيلا للنجاة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن الذين كذبوا بآياته التي أرسل بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا بها وأصروا على الشرك والضلال معرضين عن التوحيد والهدى يخبر تعالى أنه سيستدرجهم بالأخذ شيئا فشيئا ودرجة بعد درجة حتى يحق عليهم العذاب فينزله بهم فيهلكون ويخبر أنه يملى لهم أيضا كيدا بهم ومكرا، أي يزيدهم في الوقت ويطول لهم زمن كفرهم وضلالهم فلا يعاجلهم بالعقوبة بل إنه يزيد في إرزاقهم وأموالهم حتى يفقدوا الاستعداد للتوبة ثم ثأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولذا قال { وأملي لهم إن كيدي متين } أي قوي شديد. هذا ما دلت عليه الآية الثانية [183] أما الثالثة فإنه تعالى يوبخهم على إعراضهم عن التفكير والتعقل فيقول { أولم يتفكروا } في سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم وتصرفاته الرشيدة الحكيمة فيعلموا أنه ما به من جنة وجنون كما يزعمون، وإنما هو نذير لهم من عذاب يوم أليم إن هم استمروا على سلوك درب الباطل والشر من الشرك والمعاصي، ونذارته بينه لا لبس فيها لا غموض لو كانوا يتفكرون. وفي الآية الرابعة [185] يوبخهم على عدم نظرهم في ملكوت السماوات والأرض وفي ما خلق الله من شيء وفي أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، إذ لو نظروا في ملكوت السماوات والأرض وما في ذلك من مظاهر القدرة والعلم والحكمة لعلموا أن المستحق للعبادة هو خالق هذا الملكوت، لا الأصنام والتماثيل، كما أنهم لو نظروا فيما خلق الله من شيء من النملة إلى النخلة ومن الحبة إلى القبة لأدركوا أن الله هو الحق وأن ما يدعون هو الباطل كما أنه حري بهم أن ينظروا في ما مضى من أعمارهم فيدركوا أنه من الجائز أن يكون قد اقترب أجلهم، وقد اقترب فعلا فليعجلوا بالتوبة حتى لا يؤخذوا وهم كفار أشرار فيهلكون ويسخرون خسرانا كاملا.
ثم قال تعالى في ختام الآية { فبأي حديث } بعد القرآن يؤمنون فالذي لا يؤمن بالقرآن وكله حجج وشواهد وبراهين وأدلة واضحة على وجوب توحيد الله والإيمان بكتابه ورسوله ولقائه ووعده ووعيده فبأي كلام يؤمن، اللهم لا شيء، فالقوم إذا أضلهم الله، ومن أضله الله فلا هادي له ويزرهم في طغيانهم يعمهون حيارى يترددون لا يدرون ما يقولون، ولا أين يتجهون حتى يهلكوا كما هلك من قبلهم. وما ربك بظلام للعبيد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم خطر التكذيب بالقرآن الكريم حتى أن المكذب ليستدرج حتى يهلك وهو لا يعلم.
2-أكبر موعظة وهي أن على الإنسان أن يذكر دائما أن أجله قد يكون قريبا وهو لا يدري فيأخذ بالحذر والحيطة حتى لا يؤخذ على غير توبة فيخسر.
3- من لا يتعظ بالقرآن وبما فيه من الزواجر، والعظات والعبر، لا يتعظ بغيره.
4- من أعرض عن كتاب الله مكذبا بما فيه من الهدى فضل، لا ترجى له هداية أبدا.
[7.187-188]
شرح الكلمات:
الساعة: أي الساعة بمعنى الوقت الذي تنتهي فيه الحياة الدنيا بالفناء التام.
أيان مرساها: أي متى وقت قيامها.
لا يجليها لوقتها: أي لا يظهرها في وقتها المحدد لها إلا هو سبحانه وتعالى.
بغتة: أي فجأة بدون توقع أو انتظار.
حفي عنها: أي ملحف مبالغ في السؤال عنها حتى أصبحت تعرف وقت مجيئها.
الغيب: الغيب ما غاب عن حواسنا وعن عقولنا فلم يدرك بحاسة ولا يعقل. والمراد به هنا ما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد.
السوء: كل ما يسوء العبد في روحه أبو بدنه.
إن أنا إلا نذير: أي ما أنا إلا نذير وبشير فلست بإله يدبر الأمر ويعلم الغيب.
معنى الآيات:
لا شك أن أفرادا من قريش أو من غيرهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة متى قيامها فأخبره تعالى بسؤالهم وعلمه الجواب فقال عز وجل وهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم { يسألونك عن الساعة أيان مرسها } أي متى وقت وقعوها وقيامها؟ قل لهم { قل إنما علمها عند ربي } أي علم وقت قيامها عند ربي خاصة { لا يجليها لوقتهآ } أي لا يظهرها لأول وقتها إلا هو { ثقلت في السموت والأرض } أي ثقل أمر علمها عند أهل السماوات والأرض { لا تأتيكم إلا بغتة } أي فجأة، ثم قال له يسألونك هؤلاء الجهال عن الساعة { كأنك حفي عنها } أي كأنك ملحف في السؤال مبالغ في طلب معرفتها حتى عرفتها، قل لهم { إنما علمها عند الله } خاصة، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ، ولذا هم يسألونه، إذ إخفاؤه لحكم عالية لو عرفها الناس ما سألوا ولن يسألوا ولكن الجهل هو الذي ورطهم في مثل هذه الأسئلة وهذا ما دلت عليه الآية الأولى [187] أما الآية الثانية [188] فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لأولئك السائلين عن الساعة متى وقت مجيئها { لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا } خيرا ولا شرا { إلا ما شآء الله } شيئا من ذلك فإنه يعينني على جلبه أو على دفعه فكيف إذا أعلم وقت مجيء الساعة حتى تسألوني عنها { ولو كنت أعلم الغيب } كما تظنون لاستكثرت من الخيرات وما مسني السوء. وذلك أني إذا عرفت متى الخصب ومتى الجدب، ومتى الغلاء ومتى الرخاء يمكنني بسهولة أن استكثر من الخير عند وجوده، وأتوقى الشر وأدفعه قبل حصوله، يا قوم إنما أنا نذير بعواقب الشرك والمعاصي بشير بنتائج الإيمان والتوحيد والعمل الصالح فلست بإله أعلم الغيب، ووظيفتي هذه صراحة هي البشارة والنذارة ينتفع بها المؤمنون خاصة معنى قوله تعالى { إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مرد علم الساعة إلى الله وحده فكل مسؤول عنها غير الله ليس أعلم من السائل.
2- للساعة أشراط بعضها في الكتاب وبعضها في السنة وليس معنى ذلك أنه تحديد لوقتها وإنما هي مقدمات تدل على قربها فقط.
3- استأثر الله بعلم الغيب فلا يعلم الغيب إلا الله، ومن علمه الله شيئا منه علم كما علم نبيه صلى الله عليه وسلم بعض المغيبات، والمعلم بالشيء لا يقال فيه يعلم الغيب وإنما يقال علمه ربه غيب كذا وكذا فعلمه.
4- إذا كان الرسول لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فيكف يطلب منه ذلك وإذ كان الرسول لا يملك فهل من دونه من العباد يملك؟ إذا عرفت هذا ظهر لك ضلال أقوام يدعون الموتى سائلين ضارعين عند قبورهم ويقولون أنهم لا يدعونهم ولكن يتوسلون بهم فقط.
[7.189-193]
شرح الكلمات:
من نفس واحدة: هي نفس آدم عليه السلام.
وجعل منها زوجها: أي خلق منها زوجها وهي حواء خلقها من ضلع آدم الأيسر.
ليسكن إليها: أي ليألفها ويأنس بها لكونها من جنسه.
فلما تغشاها: أي وطئها.
فمرت به: أي ذاهبة جائية تقضي حوائجها لخفت الحمل في الأشهر الأولى.
فلما أثقلت: أي أصبح الحمل ثقيلا في بطنها.
لئن آتيتنا صالحا: أي ولدا صالحا ليس حيوانا بل إنسانا.
جعلا له شركاء: أي سموه عبد الحارث وهو عبد الله جل جلاله.
فتعالى الله عما يشركون: أي أهل مكة حيث أشركوا في عبادة الله أصناما.
وإن تدعوهم إلى الهدى: أي الأصنام لا يتبعوكم.
معنى الآيات:
يقول تعالى لأولئك السائلين عن الساعة عنادا ومكابرة من أهل الشرك هو أي الله { الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } الإله المستحق للعبادة لا الأصنام والأوثان، فالخالق لكم من نفس واحدة وهي آدم وخلق منها زوجها حواء هو المستحق للتأليه والعبادة. دون غيره من سائر خلقه. وقوله { ليسكن إليها }: علة لخلقه زوجها منها، إذ لو كانت من جنس آخر لما حصلت الألفة والأنس بينهما وقوله { فلما تغشاها } أي للوطء ووطئها { حملت حملا خفيفا فمرت به } لخفته { فلمآ أثقلت } أي أثقلها الحمل { دعوا الله } أي آدم وحواء ربهما تعالى أي سألاه قائلين { لئن آتيتنا صالحا } أي غلاما صالحا { لنكونن من الشاكرين } أي لك. واستجاب الرب تعالى لهما وآتاهما صالحا. وقوله تعالى { فلمآ آتاهما صالحا جعلا له شركآء فيمآ آتاهما } حيث سمته حواء عبد الحارث بتغرير من إبليس، إذ اقترح عليهما هذه التسمية، وهي من الشرك الخفي المعفو عنه نحو لولا الطبيب هلك فلان، وقوله { فتعالى الله عما يشركون } عائد إلى كفار قريش الذين يشركون في عبادة الله أصنامهم وأوثانهم، بدليل قوله بعد { أيشركون ما لا يخلق شيئا } أي من المخلوقات { وهم } أي الأوثان وعبادها { يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا } إذا طلبوا منهم ذلك. { ولآ أنفسهم ينصرون } لأنهم جمادات لا حياة بها ولا قدرة لها وقوله { وإن تدعوهم } أي وإن تدعوا أولئك الأصنام { إلى الهدى } وقد ضلوا الطريق { لا يتبعوكم } لأنهم لا يعقلون الرشد من الضلال ولذا فسواء عليكم { أدعوتموهم أم أنتم صمتون } أي لم تدعوهم فإنهم لا يتبعونكم ومن هذه حاله وهذا واقعه فهل يصح أن يعبد فتقرب له القرابين ويحلف به، ويعكف عنده، وينادى ويستغاث به؟؟ اللهم لا، ولكن المشركين لا يعقلون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أصل خلق البشر وهو آدم وحواء عليهما السلام.
2- بيان السر في كون الزوج من جنس الزوج وهو الألفة والأنس والتعاون.
3- بيان خداع إبليس وتضليله للإنسان حيث زين لحواء تسمية ولدها بعبد الحارث وهو عبد الله.
4- الشرك في التسمية شرك خفي معفو عنه وتركه أولى.
5- التنديد بالشرك والمشركين، وبيان جهل المشركين وسفههم إذ يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يجيب ولا يتبع.
[7.194-198]
شرح الكلمات:
عباد أمثالكم: أي مملوكون مخلوقون أمثالكم لمالك واحد هو الله رب العالمين.
شركاءكم: أصنامكم التي تشركون بها.
ثم كيدون: بما استطعتم من أنواع الكيد.
فلا تنظرون: أي فلا تمهلون لأني لا أبالي بكم.
إن وليي الله: أي المتولي أموري وحمايتي ونصرتي الله الذي نزل القرآن.
وتراهم ينظرون: أي وترى الأصنام المنحوتة على شكل رجال ينظرون إليك وهم لا يبصرون.
معنى الآيات:
هذه الآيات الخمس في سياق ما قبلها جاءت مقررة لمبدأ التوحيد مؤكدة له منددة بالشرك مقبحة له، ولأهله فقوله تعالى { إن الذين تدعون } أي دعاء عبادة أيها المشركون { عباد أمثالكم } أي مملوكون لله، الله مالكهم كما أنتم مملوكون لله مربوبون. فكيف يصح منكم عبادتهم وهم مملكون مثلكم لا يملكون لكم ولا لأنفسهم نفعا ولا ضرا، وإن شككتم في صحة هذا فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين في زعمكم أنهم آلهة يستحقون العبادة. إنكم لو دعوتموهم ما استجابوا، وكيف يستجيبون وهم جماد ولا حياة لهم { ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم آذان يسمعون بها } إنه لا شيء لهم من ذلك فكيف إذا يستجيبون، وبأي حق يعبدون فيدعون ويرجون وهم فاقدوا آثار القدرة والحياة بالمرة.
ثم أمر الله تعالى رسوله أن يعلن لهم أنه لا يخافهم ولا يعدهم شيئا إذا كانوا هم يعبدونهم ويخافونهم فقال له قل لهؤلاء المشركين { ادعوا شركآءكم ثم كيدون } أنتم وإياهم { فلا تنظرون } أي لا تمهلوني ساعة، وذلك لأن { وليي الله الذي نزل الكتاب } أي القرآن { وهو يتولى الصالحين } فهو ينصرني منكم ويحميني من كيدكم إنه ولي وولي المؤمنين. أما أنتم { والذين تدعون من دونه } أي من دون الله من هذه الأوثان { لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } وشيء آخر وهو أنكم { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } فضلا عن إن تدعوهم إلى الضلال فكيف تصح عبادة من لا يجيب داعيه في الرخاء ولا في الشدة. وأخيرا يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، { وترهم } أي ترى أولئك الآلهة وهي تماثيل من حجارة { ينظرون إليك } إذا قابلتهم لأن أعينهم مفتوحة دائما، والحال أنهم لا يبصرون، وهل تبصر الصور والتماثيل؟.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إقامة الحجة على المشركين بالكشف عن حقيقة ما يدعون أنها آلهة فإذا بها أصنام لا تسمع ولا تجيب لا أيد لها ولا أرجل ولا آذان ولا أعين.
2- وجوب التوكل على الله تعالى، وطرد الخوف من النفس والوقوف أمام الباطل وأهله في شجاعة وصبر وثبات اعتمادا على الله تعالى وولايته إذ هو يتولى الصالحين.
3- جواز المبالغة في التنفير من الباطل والشر بذكر العيوب والنقائص.
[7.199-202]
شرح الكلمات:
العفو: ما كان سهلا لا كلفة فيه وهو ما يأتي بدون تكلف.
بالعرف: أي المعروف في الشرع بالأمر به أو الندب إليه.
وأعرض عن الجاهلين: الجاهلون: هم الذين لم تستنر قلوبهم بنور العلم والتقوى، والإعراض عنهم بعدم مؤاخذتهم على سوء قولهم أو فعلهم.
نزغ الشيطان: أي وسوسته بالشر.
فاستعذ بالله: أي قل أعوذ بالله يدفعه عنك إنه أي الله سميع عليم.
اتقوا: أي الشرك والمعاصي.
طائف من الشيطان: أي ألم بهم شيء من وسوسته.
وإخوانهم يمدونهم في الغي: أي إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي يمدونهم في الغي.
ثم لا يقصرون: أي لا يكفون عن الغي الذي هو الضلال والشر والفساد.
معنى الآيات:
لما علم تعالى رسوله كيف يحاج المشركين لإبطال باطلهم في عبادة غير الله تعالى والإشراك به عز وجل علمه في هذه الآية أسمى الآداب وأرفعها، وأفضل الأخلاق وأكملها فقال له: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } أي خذ من أخلاق الناس ما سهل عليهم قوله وتيسر لهم فعله، ولا تطالبهم بما لا يملكون أو بما لا يعلمون وأمرهم بالمعروف، وأعرض عن الجاهلين منهم فلا تعنفهم ولا تغلظ القول لهم فقد سأل صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية جبريل عليه السلام فقال له: (تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك) وقوله { وإما ينزغنك من الشيطن نزغ } أي أثار غضبك حتى لا تلتزم بهذا الأدب الذي أمرت به { فاستعذ بالله } بدفعه عنك إنه سميع لأقوالك عليم بأحوالك. ثم قال تعالى مقررا حكم الاستعاذة مبينا جدواها ونفعها لمن يأخذ بها. { إن الذين اتقوا } أي ربهم فلم يشركوا به أحدا ولم يفرطوا في الواجبات ولم يغشوا المحرمات هؤلاء { إذا مسهم طائف من الشيطان } بأن نزغهم بإثارة الغضب أو الشهوة فيهم تذكروا أمر الله ونهيه ووعده ووعيده { فإذا هم مبصرون } يرون قبح المعصية وسوء عاقبة فاعلها فكفوا عنها ولم يرتكبوها. وقوله تعالى: { وإخوانهم } أي إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي { يمدونهم } أي الشياطين { في الغي } أي في المعاصي والضلالات ويزيدونهم في تزيينها لهم وحملهم عليها، { ثم لا يقصرون } عن فعلها ويكفون عن ارتكابها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأمر بالتزام الآداب والتحلي بأكمل الأخلاق ومن أرقاها العفو عمن ظلم وإعطاء من حرم، وصلة من قطع.
2- وجوب الاستعاذة بالله عند الشعور بالوسوسة أو الغضب أو تزيين الباطل.
3- فضيلة التقوى وهي فعل الفرائض وترك المحرمات.
4- شؤم أخوة الشياطين حيث لا يقصر صاحبها بمد الشياطين له عن الغي الذي هو الشر والفساد.
[7.203-206]
شرح الكلمات:
قالوا لولا اجتبيتها: أي اخترعتها واختلقتها من نفسك وأتيتنا بها.
هذا بصائر من ربكم: أي هذا القرآن حجج وبراهين وأدلة على ما جئت به وأدعوكم إليه فهو أقوى حجة من الآية التي تطالبون بها.
فاستمعوا له وأنصتوا: أي اطلبوا سماعه وتكلفوا له، وأنصتوا عند ذلك أي اسكتوا حتى تسمعوا سماعا ينفعكم.
وخيفة: أي خوفا.
بالغدو والآصال: الغدو: أول النهار، والآصال: أواخره.
من الغافلين: أي عن ذكر الله تعالى.
إن الذين عند ربك: أي الملائكة.
يسبحونه: ينزهونه بألسنهم بنحو سبحان الله وبحمده.
معنى الآيات:
ما زال السياق في توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه الرد على المشركين خصومه فقال تعالى عن المشركين من أهل مكة { وإذا لم تأتهم } يا رسولنا { بآية } كما طلبوا { قالوا } لك { لولا } أي هلا { اجتبيتها } أي اخترعتها وأنشأتها من نفسك ما دام ربك لم يعطها قل لهم إنما أنا عبد الله ورسوله لا أفتات عليه { قل إنمآ أتبع ما يوحى إلي من ربي } وهذا القرآن الذي يوحى إلي بصائر من حجج وبراهين على صدق دعواي وإثبات رسالتي، وصحة ما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد وترك الشرك والمعاصي، فهلا آمنتم واتبعتم أم الآية الواحدة تؤمنون عليها والآيات الكثيرة لا تؤمنون عليها أين يذهب بعقولكم؟ وعلى ذكر بيان حجج القرآن وأنواره أمر الله تعالى عباده المؤمنين إذا قرىء عليهم القرآن أن يستمعوا وينصتوا وسواء كان يوم الجمعة على المنبر أو كان في غير ذلك فقال تعالى { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له } أي تكلفوا السماع وتعمدوه { وأنصتوا } بترك الكلام { لعلكم ترحمون } أي رجاء أن ينالكم من هدى القرآن رحمته فتهتدوا وترحموا لأن القرآن هدى ورحمة للمؤمنين.
ثم أمر تعالى رسوله وأمته تابعة له في هذا الكمال فقال تعالى { واذكر ربك في نفسك } أي سرا { تضرعا } أي تذللا وخشوعا، { وخيفة } أي وخوفا وخشية { ودون الجهر من القول } وهو السر بأن يسمع نفسه فقط أو من يليه لا غير وقوله { بالغدو والآصال } أي أوائل النهار وأواخره، ونهاه عن ترك الذكر وهو الغفلة فقال { ولا تكن من الغافلين } وذكر له تسبيح الملائكة وعبادتهم ليتأسى بهم، فيواصل العبادة والذكر ليل نهار فقال { إن الذين عند ربك } وهم الملائكة في الملكوت الأعلى { لا يستكبرون عن عبادته } أي طاعته بما كلفهم به ووظفهم فيه { ويسبحونه وله يسجدون } فتأس بهم ولا تكن من الغافلين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القرآن أكبر آية بل هو أعظم من كل الآيات التي أعطيها الرسل عليهم السلام.
2- وجوب الإنصات عند تلاوة القرآن وخاصة في خطبة الجمعة على المنبر وعند قراءة الإمام في الصلاة الجهرية.
3- وجوب ذكر الله بالغدو والآصال.
4- بيان آداب الذكر وهي:
1- السرية.
2- التضرع والتذلل.
3- الخوف والخشية.
4- الإسرار به وعدم رفع الصوت به، لا كما يفعل المتصوفة.
5- مشروعية الأئتساء بالصالحين والاقتداء بهم في فعل الخيرات وترك المنكرات.
6- عريمة السجود عند قوله { وله يسجدون } وهذه أول سجدات القرآن ويسجد القارىء والمستمع له، أما السامع فليس عليه سجود، ويستقبل بها القبلة ويكبر عند السجود وعند الرفع منه ولا يسلم وكونه متوضأ أفضل.
[8 - سورة الأنفال]
[8.1-4]
شرح الكلمات:
الأنفال: جمع نفل بتحريك الفاء: ما يعطيه الإمام لأفراد الجيش تشجيعا لهم.
ذات بينكم: أي حقيقة بينكم، والبين الوصلة والرابطة التي تربط بعضكم ببعض من المودة والإخاء.
إنما المؤمنون: أي الكاملون في إيمانهم.
وجلت قلوبهم: أي خافت إذ الوجل: هو الخوف لا سيما عند ذكر وعيده ووعده.
وعلى ربهم يتوكلون: على الله وحده يعتمدون وله أمرهم يفوضون.
ومما رزقناهم: أي أعطيناهم.
أولئك: أي الموصوفون بالصفات الخمس السابقة.
لهم درجات: منازل عالية في الجنة.
ورزق كريم: أي عطاء عظيم من سائر وجوه النعيم في الجنة.
معنى الآيات:
هذه الآيات نزلت في غزوة بدر وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نفل بعض المجاهدين لبلائهم وتخلف آخرون فحصلت تساؤلات بين المجاهدين لم يعطي هذا ولم لا يعطي ذاك فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { يسألونك عن الأنفال }؟ فأخبرهم أنها { لله والرسول } فالله يحكم فيها بما يشاء والرسول يقسمها بينكم كما يأمره ربه وعليه فاتقوا الله تعالى بترك النزاع والشقاق، { وأصلحوا } ذات بينكم بتوثيق عرى المحبة بينكم وتصفية قلوبكم من كل ضغن أو حقد نشأ من جراء هذه الأنفال واختلافكم في قسمتها، { وأطيعوا الله ورسوله } في كل ما يأمرانكم به وينهيانكم عنه { إن كنتم مؤمنين } حقا فامتثلوا الأمر واجتنبوا النهي. وقوله تعالى { إنما المؤمنون } أي الكاملون في إيمانهم الذين يستحقون هذا الوصف وصف المؤمنين هم { الذين إذا ذكر الله } أي اسمه أو وعده أو وعيده { وجلت قلوبهم } أي خافت فأقلعت عن المعصية، وأسرعت إلى الطاعة، { وإذا تليت عليهم ءايته زادتهم إيمنا } أي قوي إيمانهم وعظم يقينهم، { وعلى ربهم } لا على غيره { يتوكلون } وفيه تعالى يثقون. وإليه تعالى أمورهم يفوضون، { الذين يقيمون الصلاة } بأدائها بكامل شروطها وكافة أركانها وسائر سننها وآدابها، { ومما رزقناهم } أي أعطيناهم { ينفقون } من مال وعلم، وجاه وصحة بدن من كل هذا ينفقون في سبيل الله { أولئك } الموصوفون بهذه الصفات الخمس { هم المؤمنون حقا } وصدقا، { لهم درجات عند ربهم } أي منازل عالية متفاوتة العلو والارتفاع في الجنة، ولهم قبل ذلك { مغفرة } كاملة لذنوبهم، { ورزق كريم } طيب واسع لا تنقيص فيه ولا تكدير، وذلك في الجنة دار المتقين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأمر بتقوى الله عز وجل وإصلاح ذات البين.
2- الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
3- من المؤمنين من هو كامل الإيمان، ومنهم من هو ناقصه.
4- من صفات أهل الإيمان الكامل ما ورد في الآية الثانية من هذه السورة وما بعدها.
[8.5-8]
شرح الكلمات:
من بيتك: أي المدينة المنورة.
لكارهون: أي الخروج للقتال.
إحدى الطائفتين: العير " القافلة " أو النفير: نفير قريش وجيشها.
الشوكة: السلاح في الحرب.
يبطل الباطل: أي يظهر بطلانه بقمع أهله وكسر شوكتهم وهزيمتهم.
ولو كره المجرمون: كفار قريش المشركون.
معنى الآيات:
قوله تعالى { كمآ أخرجك ربك } أيها الرسول { من بيتك } بالمدينة { بالحق } متلبسا به حيث خرجت بإذن الله { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } لما علموا بخروج قريش لقتالهم، وكانت العاقبة خيرا عظيما، هذه الحال مثل حالهم لما كرهوا نزع الغنائم من أيديهم وتوليك قسمتها بإذننا، على أعدل قسمة وأصحها وأنفعها فهذا الكلام في هذه الآية [5] تضمنت تشبيه حال حاضره بحال ماضيه حصلت في كل واحدة كراهة بعض المؤمنين، وكانت العاقبة في كل منهما خيرا والحمد لله، وقوله تعالى { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } أي يجادلونك في القتال بعدما اتضح لهم أن العير نجت وأنه لم يبق إلا النفير ولا بد من قتالها. وقوله تعالى { كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } أي إلى الموت عيانا يشاهدونه أمامهم وذلك من شدة كراهيتهم لقتال لم يستعدوا له ولم يوطنوا أنفسهم لخوض معاركه. وقوله تعالى { وإذ يعدكم الله إحدى الطآئفتين } أي اذكر يا رسولنا لهم الوقت الذي يعدكم الله تعالى فيه إحدى الطائفتين العير والنفير، وهذا في المدينة وعند السير أيضا { أنها لكم } أي تظفرون بها، { وتودون } أي تحبون أن تكون { غير ذات الشوكة } وهي عير أبي سفيان { تكون لكم } ، وذلك لأنها مغنم بلا مغرم لقلة عددها وعددها، والله يريد { أن يحق الحق } أي يظهره بنصرأوليائه وهزيمة أعدائه، وقوله { بكلماته } أي التي تتضمن أمره تعالى إياكم بقتال الكافرين، وأمره الملائكة بالقتال معكم، وقوله { ويقطع دابر الكافرين } أي بتسليطكم عليهم فتقتلوهم حتى لا تبقوا منهم غير من فر وهرب، وقوله { ليحق الحق } أي لينصره ويقرره وهو الإسلام { ويبطل الباطل } وهو الشرك { ولو كره } ذلك { المجرمون } أي المشركون الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك، وعلى غيرهم أيضا حيث منعوهم من قبول الإسلام وصرفوهم عنه بشتى الوسائل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
[البقرة: 216] وذكر نبذة عن غزوة بدر الكبرى وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عيرا لقريش تحمل تجارة قادمة من الشام في طريقها إلى مكة وعلى رأسها أبو سفيان بن حرب فانتدب النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه للخروج إليها عسى الله تعالى أن يغنمهم إياها، لأن قريشا صادرت أموال بعضهم وبعضهم ترك ماله بمكة وهاجر. فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأثناء مسيره أخبرهم أن الله تعالى وعدهم إحدى الطائفتين، لا على التعيين جائز أن تكون العير، وجائز أن تكون النفير الذي خرج من مكة للذب عن العير ودفع الرسول وأصحابه عنها حتى لا يستولوا عيلها، فلما بلغ الرسول نبأ نجاة العير وقدوم النفير استشار أصحابه فوافقوا على قتال المشركين ببدر وكره بعضهم ذلك، وقالوا: إنا لم نستعد للقتال فأنزل الله تعالى هذه الآيات { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } إلى قوله {.
.. ولو كره المجرمون }.
2- بيان ضعف الإنسان في رغبته في كل ما لا كلفة فيه ولا مشقة.
3- إنجاز الله تعالى وعده للمؤمنين إذ أغنمهم طائفة النفير وأعزهم بنصر لم يكونوا مستعدين له.
4- ذكر نبذة عن وقعة بدر وهي من أشهر الوقائع وأفضلها وأهلها من أفضل الصحابة وخيارهم إذ كانت في حال ضعف المسلمين حيث وقعت في السنة الثانية من الهجرة وهم أقلية والعرب كلهم أعداء لهم وخصوم.
[8.9-14]
شرح الكلمات:
تستغيثون: أي تطلبون الغوث من الله تعالى وهو النصر على أعدائكم.
مردفين: أي متتابعين بعضهم ردف بعض أي متلاحقين.
وما جعله الله إلا بشرى: أي الإمداد بالملائكة إلا بشرى لكم بالنصر.
إذ يغشيكم النعاس: أي يغطيكم به والنعاس: نوم خفيف جدا.
أمنة: أي أمنا من الخوف الذي أصابكم لقلتكم وكثرة عدوكم.
منه: أي من الله تعالى.
رجز الشيطان: وسواسه لكم بما يؤلمكم ويحزنكم.
وليربط على قلوبكم: أي يشد عليها بالصبر واليقين.
ويثبت به الأقدام: اي بالمطر أقدامكم حتى لا تسوخ في الرمال.
الرعب: الخوف والفزع.
فاضربوا كل بنان: أي أطراف اليدين والرجلين حتى يعوقهم عن الضرب والمشي.
شاقوا الله ورسوله: أي خالفوه في مراده منهم فلم يطيعوه وخالفوا رسوله.
ذلكم فذوقوه: أي العذاب فذوقوه.
عذاب النار: أي في الآخرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة بدر، وبيان منن الله تعالى على رسوله والمؤمنين إذ يقول تعالى لرسوله { إذ تستغيثون ربكم } أي اذكر يا رسولنا حالكم لما كنتم خائفين لقلتكم وكثرة عدوكم فاستغثتم ربكم قائلين: اللهم نصرك، اللهم أنجز لي ما وعدتني { فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } أي متتالين يتبع بعضهم بعضا { وما جعله الله إلا بشرى } أي لم يجعل ذلك الإمداد إلا مجرد بشرى لكم بالنصر على عدوكم { ولتطمئن به قلوبكم } أي تسكن ويذهب منها القلق والاضطراب، أما النصر فمن عند الله، { إن الله عزيز حكيم } عزيز غالب لا يحال بينه وبين ما يريده، حكيم بنصر من هو أهل للنصر، هذه نعمة، وثانية: اذكروا { إذ يغشيكم } ربكم { النعاس أمنة منه } أي أمانا منه تعالى لكم فإن العبد إذا خامره النعاس هدأ وسكن وذهب الخوف منه، وثبت في ميدان المعركة لا يفر ولا يرهب ولا يهرب، { وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان } وهذه نعمة أخرى، فقد كانت الأرض رملية تسوح فيها أقدامهم لا يستطيعون عليها كرا ولا فرا، وقل ماؤهم فصاروا ظماء عطاشا، محدثين، لا يجدون ما يشربون ولا ما يتطهرون به من أحداثهم ووسوس الشيطان لبعضهم بمثل قوله: تقاتلون محدثين كيف تنصرون، تقاتلون وأنتم عطاش وعدوكم ريان إلى أمثال هذه الوسوسة، فأنزل الله تعالى على معسكرهم خاصة مطرا غزيرا شربوا وتطهروا وتلبدت به التربة فأصبحت صالحة للقتال عليها، هذا معنى قوله تعالى { وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي وسواسه { وليربط على قلوبكم } أي يشد عليها بما أفرغ عليها من الصبر وما جعل فيها من اليقين لها { ويثبت به الأقدام } ونعمة أخرى واذكر { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } بتأييدي ونصري { فثبتوا الذين آمنوا } أي قولوا لهم من الكلام تشجيعا لهم ما يجعلهم يثبتون في المعركة { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } أي الخوف أيها المؤمنين { فاضربوا فوق الأعناق } أي اضربوا المذابح { واضربوا منهم كل بنان } أي أطراف اليدين والرجلين حتى لا يستطيعوا ضربا بالسيف، ولا فرارا بالأرجل وقوله تعالى { ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله } أي عادوهما وحاربوهما { ومن يشاقق الله ورسوله } ينتقم منه ويبطش به { فإن الله شديد العقاب } ، وقوله تعالى { لكم فذوقوه } أي ذلكم العذاب القتل والهزيمة فذوقوه في الدنيا وأما الآخرة فلكم فيها عذاب النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاستغاثة بالله تعالى وهي عبادة فلا يصح أن يستغاث بغير الله تعالى.
2- تقرير عقيدة أن الملائكة عباد لله يسخرهم في فعل ما يشاء، وقد سخرهم للقتال مع المؤمنين فقاتلوا، ونصروا وثبتوا وذلك بأمر الله تعالى لهم بذلك.
3- تعداد نعم الله تعالى على المؤمنين في غزوة بدر وهي كثيرة.
4- مشاقة الله ورسوله كفر يستوجب صاحبها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
5- تعليم الله تعالى عباده كيف يقاتلون ويضربون أعداءهم، وهذا شرف كبير للؤمنين.
[8.15-19]
شرح الكلمات:
زحفا: أي زاحفين لكثرتهم ولبطىء سيرهم كأنهم يزحفون على الأرض.
فلا تولوهم الأدبار: أي لا تنهزموا فتفروا أمامهم فتولونهم أدباركم.
متحرفا لقتال: أي مائلا من جهة إلى أخرى ليتمكن من ضرب العدو وقتاله.
أو متحيزا إلى فئة: أي يريد الانحياز إلى جماعة من المؤمنين تقاتل.
فقد باء بغضب: أي رجع من المعركة مصحوبا بغضب من الله تعالى لمعصيته إياه.
وليبلي: أي لينعم عليهم بنعمة النصر والظفر على قلة عددهم فيشكروا.
فئتكم: مقاتلتكم من رجالكم الكثيرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة بدر وما فيها من جلال النعم وخفي الحكم ففي أولى هذه الآيات ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين فيقول { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } أي وأنتم وإياهم زاحفون إلى بعضكم البعض { فلا تولوهم الأدبار } أي لا تنهزموا أمامهم فتعطوهم أدباركم فتمكنوهم من قتلكم، إنكم أحق بالنصر منهم، وأولى بالظفر والغلب إنكم مؤمنون وهم كافرون فلا يصح منكم انهزام أبدا { ومن يولهم يومئذ دبره } اللهم { إلا متحرفا لقتال } أي مائلا من جهة إلى أخرى ليكون ذلك أمكن له في القتال { أو متحيزا إلى فئة } أي منحازا إلى جماعة من المؤمنين تقاتل فيقاتل معها ليقويها أو يقوى بها، من ولى الكافرين دبره في غير هاتين الحالتين { فقد بآء بغضب من الله } أي رجع من جهاده مصحوبا بغضب من الله { ومأواه جهنم وبئس المصير } وذلك بعد موته وانتقاله إلى الآخرة، وقوله تعالى { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } يخبر تعالى عباده المؤمنين الذين حرم عليهم التولي ساعة الزحف وتوعدهم بالغضب وعذاب النار يوم القيامة أنهم لم يقتلوا المشركين على الحقيقة وإنما الذي قتلهم هو الله فهو الذي أمرهم وأقدرهم وأعانهم، ولولاه ما قتل أحد ولا مات فليعرفوا هذا حتى لا يخطر ببالهم أنهم هم المقاتلون وحدهم. وحتى رمي رسوله المشركين بتلك التي وصلت إلى جل أعين المشركين في المعركة فأذهلتهم وحيرتهم بل وعوقتهم عن القتال وسببت هزيمتهم كان الله تعالى هو الرامى الذي أوصل التراب إلى أعين المشركين، إذ لو ترك الرسول صلى الله عليه وسلم لقوته لما وصلت حثية التراب إلى أعين الصف الأول من المقاتلين المشركين، ولذا قال تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وقوله تعالى { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } أي فعل تعالى ذلك القتل بالمشركين والرمي بإيصال التراب إلى أعينهم ليذل الكافرين ويكسر شوكتهم { وليبلي المؤمنين } أي ولينعم عليهم الأنعام الحسن بنصرهم وتأييدهم في الدنيا وإدخالهم الجنة في الآخرة. وقوله تعالى { إن الله سميع عليم } بمقتضى هاتين الصفتين كان الإبلاء الحسن، فقد سمع تعالى أقوال المؤمنين واستغاثتهم به، وعلم ضعفهم وحاجتهم فأيدهم ونصرهم فكان ذلك منه إبلاء حسنا، وقوله تعالى { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } أي ذلكم القتل والرمي والإبلاء كله حق واقع بقدرة الله تعالى { وأن الله موهن } أي مضعف { كيد الكافرين } فكلما كادوا كيدا بأوليائه وأهل طاعته أضعفه وأبطل مفعوله، وله الحمد والمنة.
وقوله تعالى { إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم } هذا خطاب للمشركين حيث قال أبو جهل وغيره من رؤساء المشركين " اللهم أينا كان أفجر لك واقطع للرحم فأحنه اليوم، اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة " أي أهلكه الغداة يوم بدر فأنزل الله تعالى { إن تستفتحوا } أي تطلبوا الفتح وهو القضاء بينكم وبين نبينا محمد { فقد جآءكم الفتح } وهي هزيمتهم في بدر { وإن تنتهوا } تكفوا عن الحرب والقتال وتنقادوا لحكم الله تعالى فتسلموا { فهو خير لكم وإن تعودوا } للحرب والكفر { نعد } فنسلط عليكم رسولنا والمؤمنين لنذيقكم على أيديهم الذل والهزيمة { ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت } وبلغ تعداد المقاتلين منكم عشرات الآلاف، هذا وأن الله دوما مع المؤمنين فلن يتخلى عن تأييدهم ونصرتهم ما استقاموا على طاعة ربهم ظاهرا وباطنا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة الفرار من العدو الكافر عند اللقاء لما توعد الله تعالى عليه من الغضب والعذاب ولعد الرسول له من الموبقات السبع في حديث مسلم " والتولي يوم الزحف ".
2- تقرير مبدأ أن الله تعالى خالق كل شيء وأنه خلق العبد وخلق فعله، إذ لما كان العبد مخلوقا وقدرته مخلوقة، ومأمورا ومنهيا ولا يصدر منه فعل ولا قول إلا بإقدار الله تعالى له كان الفاعل الحقيقي هو الله، وما للعبد إلا الكسب بجوارحه وبذلك يجزى الخير بالخير والشر بمثله. عدل الله ورحمته.
3- آية وصول حثية التراب من كف الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أغلب عيون المشركين في المعركة.
4- إكرام الله تعالى وإبلاؤه لأولياءه البلاء الحسن فله الحمد وله المنة.
5- ولاية الله للمؤمنين الصادقين هي أسباب نصرهم وكمالهم وإسعادهم.
[8.20-23]
شرح الكلمات:
ولا تولوا عنه: أي لا تعرضوا عن طاعته إذا أمركم أو نهاكم كأنكم لا تسمعون.
إن شر الدواب: أي شر ما يدب على الأرض الكافرون.
لأسمعهم: لجعلهم يسمعون أو لرفع المانع عنهم فسمعوا واستجابوا.
معنى الآيات:
ينادي الله تعالى عباده المؤمنين الذين آمنوا به وبرسوله وصدقوا بوعده ووعيده يوم لقائه فيأمرهم بطاعته وطاعة رسوله، وينهاهم عن الإعراض عنه وهم يسمعون الآيات تتلى والعظات تتوالى في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن نصركم وتأييدكم كان ثمرة لإيمانكم وطاعتكم فإن أنتم أعرضتم وعصيتم فتركتم كل ولاية لله تعالى لكم أصبحتم كغيركم من أهل الكفر والعصيان هذا معنى قوله { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون } وقوله { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } ينهاهم عز وجل أن يسلكوا مسلك الكافرين المشركين في التصامم عن سماع الآيات الحاملة للحق والداعية إليه، والتعامي عن رؤية آيات الله الدالة على توحيده الذين قالوا إنا عما يقوله محمد في صمم، وفيما يذكر ويشير إليه في عمى، فهم يقولون سمعنا بآذاننا وهم لا يسمعون بقلوبهم لأنهم لا يتدبرون ولا يفكرون فلذا هم في سماعهم كمن لم يسمع إذ العبرة بالسماع الانتفاع به لا مجرد سماع صوت وقوله تعالى { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } يعني بهم المشركين وكانوا شر الدواب لأنهم كفروا بربهم وأشركوا به فعبدوا غيره، وضلوا عن سبيله ففسقوا وظلموا وأجرموا الأمر الذي جعلهم حقا شر الدواب في الأرض فهذا تنديد بالمشركين، وفي نفس الوقت هو تحذير للمؤمنين من معصية الله ورسوله والإعراض عن كتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } أي لجعلهم يسمعون آيات الله وما تحمله من بشارة ونذارة وهذا من باب الفرض لقوله تعالى { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } هؤلاء طائفة من المشركين توغلوا في الشر والفساد والظلم والكبر والعناد فحرموا لذلك هداية الله تعالى فقد هلك بعضهم في بدر وبعض في أحد ولم يؤمنوا لعلم الله تعالى أنه لا خير فيهم وكيف لا وهو خالقهم وخالق طباعهم،
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
[الملك: 14].
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما، وحرمة معصيتهما.
2- حرمة التشبه بالمشركين والكافرين وسائر أهل الضلال وفي كل شيء من سلوكهم.
3- بيان أن من الناس من هو شر من الكلاب والخنازير فضلا عن الإبل والبقر والغنم أولئك البعض كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا.
[8.24-26]
شرح الكلمات:
استجيبوا: اسمعوا وأطيعوا.
لما يحييكم: أي لما فيه حياتكم ولما هو سبب في حياتكم كالإيمان والعمل الصالح والجهاد.
فتنة: أي عذابا تفتنون به كالقحط أو المرض أو تسلط عدو.
مستضعفون: أي ضعفاء أمام أعدائكم يرونكم ضعفاء فينالون منكم.
ورزقكم من الطيبات: جمع طيب من سائر المحللات من المطاعم والمشراب وغيرها.
لعلكم تشكرون: رجاء أن تشكروه تعالى بصرف النعمة في مرضاته.
معنى الآيات:
هذا هو النداء الثالث بالكرامة للمؤمنين الرب تعالى يشرفهم بندائه ليكرمهم بما يأمرهم به أو ينهاهم عنه تربية لهم وإعدادا لهم لسعادة الدارين وكرامتهما فيقول { يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } وهو بمعنى النداء الأول أطيعوا الله ورسوله. وقوله { لما يحييكم } إشعار بأن أوامر الله تعالى ورسوله كنواهيهما لا تخلوا أبدا مما يحيي المؤمنين أو يزيد في حياتهم أو يحفظها عليهم، ولذا وجب أن يطاع الله ورسوله ما أمكنت طاعتهما. وقوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } تنبيه عظيم للمؤمنين إذا سنحت لهم فرصة للخير ينبغي أن يفترصوها قبل الفوات لا سيما إذا كانت دعوة من الله أو رسوله، لأن الله تعالى قادر على أن يحول بين المرء وما يشتهي وبين المرء وقلبه فيقلب القلب ويوجهه إلى وجهة أخرى فيكره فيها الخير ويرغب في الشر وقوله { وأنه إليه تحشرون } فالذي يعلم أنه سيحشر رغم أنفه إلى الله تعالى كيف يسوغ له عقله أن يسمع نداءه بأمره فيه أو ينهاه فيعرض عنه، وقوله { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة } تحذير آخر عظيم للمؤمنين من أن يتركوا طاعة الله ورسوله، ويتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينتشر الشر ويعم الفساد، وينزل البلاء فيعم الصالح والطالح، والبار والفاجر، والظالم والعادل، وقوله { واعلموا أن الله شديد العقاب }. وهو تأكيد للتحذير بكونه تعالى إذا عاقب بالذنب والمعصية فعقابه قاس شديد لا يطاق فليحذر المؤمنون ذلك بلزوم طاعة الله ورسوله. وقوله تعالى: { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون } هذه موعظة ربانية لأولئك المؤمنين الذين عايشوا الدعوة الإسلامية من أيامها الأولى يذكرهم ربهم بما كانوا عليه من قلة وضعف يخافون أن يتخطفهم الناس لقلتهم وضعفهم، فآواهم عز وجل إلى مدينة نبيه المنورة ونصرهم بجنده فعزوا بعد ذلة واستغنوا بعد عيلة وفاقة، ورزقهم من الطيبات من مطعم ومشرب وملبس ومركب، ورزقهم من الطيبات إكراما لهم، ليعدهم بذلك للشكر إذ يشكر النعمة من عاشها ولابسها، والشكر حمد المنعم والثناء عليه وطاعته ومحبته وصرف النعمة في سبيل مرضاته، والله يعلم أنهم قد شكروا فرضي الله عنهم وأرضاهم والحقنا بهم صابرين شاكرين.
هداية الآيات
هداية الآيات:
1- وجب الاستجابة لنداء الله ورسوله بفعل الأمر وترك النهي لما في ذلك من حياة الفرد المسلم.
2- تعين اغتنام فرصة الخير قبل فواتها فمتى سنحت للمؤمن تعين عليه اغتنامها.
3- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء للفتن العامة التي يهلك فيها العادل والظالم.
4- وجوب ذكر النعم لشكرها بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
5- وجوب شكر النعم بحمد الله تعالى والثناء عليه والاعتراف بالنعمة له والتصرف فيها حسب مرضاته.
[8.27-29]
شرح الكلمات:
لا تخونوا الله والرسول: أي بإظهار الإيمان والطاعة ومخالفتهما في الباطن.
وتخونوا أماناتكم: أي ولا تخونوا أماناتكم التي يأتمن عليها بعضكم بعضا.
إنما أموالكم وأولادكم فتنة: أي الاشتغال بذلك يفتنكم عن طاعة الله ورسوله.
إن تتقوا الله: أي بامتثال أمره واجتناب نهيه في المعتقد والقول والعمل.
يجعل لكم فرقانا: نورا في بصائركم تفرقون به بين النافع والضار والصالح والفاسد.
ويكفر عنكم سيآتكم: أي يمحوا عنكم ما سلف من ذنوبكم التي بينكم وبينه.
ويغفر لكم ذنوبكم: أي يغطيها فيسترها عليكم فلا يفضحكم بها ولا يؤاخذكم عليها.
معنى الآيات:
هذا نداء رباني آخر يوجه إلى المؤمنين { يأيها الذين آمنوا } أي يا من آمنتم بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا. { لا تخونوا الله والرسول } بأن يظهر أحدكم الطاعة لله ورسوله، ويستسر المعصية، ولا تخونوا أماناتكم التي يأتمن بعضكم بعضا عليها { وأنتم تعلمون } عظيم جريمة الخيانة وآثارها السيئة على النفس والمجتمع، هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق { يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون } وقوله تعالى { واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم } فيه إشارة إلى السبب الحامل على الخيانة غالبا وهو المال والأولاد فأخبرهم تعالى أن أموالهم وأولادهم فتنة تصرفهم عن الأمانة والطاعة، وأن ما يرجوه من مال أو ولد ليس بشيء بالنسبة إلى ما عند الله تعالى إن الله تعالى عنده أجر عظيم لمن أطاعه واتقاه وحافظ على أمانته مع الله ورسوله ومع عباد الله وقوله تعالى في الآية الثالثة { يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم } هذا حض على التقوى وترغيب فيها بذكر أعظم النتائج لها وهي أولا إعطاء الفرقان وهو النصر والفصل بين كل مشتبه، والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع، والصحيح والفاسد، وثانيا تكفير السيئآت، وثالثا مغفرة الذنوب ورابعا الأجر العظيم الذي هو الجنة ونعيمها إذ قال تعالى في ختام الآية { والله ذو الفضل العظيم } إشارة إلى ما يعطيه الله تعالى أهل التقوى في الآخرة وهو الجنة ورضوانه على أهلها، ولنعم الأجر الذي من أجله يعمل العاملون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تحريم الخيانة مطلقا وأسوأها ما كان خيانة لله ورسوله.
2- في المال والأولاد فتنة قد تحمل على خيانة الله ورسوله، فليحذرها المؤمن.
3- من ثمرات التقوى تكفير السيآت وغفران الذنوب، والفرقان وهو نور في القلب يفرق به المتقي بين الأمور المتشابهات والتي خفي فيها وجه الحق والخير.
[8.30-31]
شرح الكلمات:
وإذ يمكر بك: أي يبيتون لك ما يضرك.
ليثبتوك: أي ليحبسوك مثبتا بوثاق حتى لا تفر من الحبس.
أو يخرجوك: أي ينفوك بعيدا عن ديارهم.
ويمكرون ويمكر الله: أي يدبرون لك السوء ويبيتون لك المكروه، والله تعالى يدبر لهم ما يضرهم أيضا ويبيت لهم ما يسوءهم.
آياتنا: آيات القرآن الكريم.
أساطير الأولين: الأساطير جمع أسطوره ما يدون ويسطر من أخبار الأولين.
معنى الآيات:
يذكر تعالى رسوله والمؤمنين بنعمة من نعمه تعالى عليهم فيقول لرسوله واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا { ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } إذا اجتمعت قريش في دار الندوة وأتمرت في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وفكرت ومكرت فأصدروا حكما بقتله صلى الله عليه وسلم وبعثوا من ينفذ جريمة القتل فطوقوا منزله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رماهم بحثية من تراب قائلا شاهت الوجوه، فلم يره أحد ونفذ وهاجر إلى المدينة وهذا معنى { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } فكان في نجاته صلى الله عليه وسلم من يد قريش نعمة عظمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر المؤمنين والحمد لله رب العالمين.
وقوله تعالى في الآية الثانية { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هذا إن هذآ إلا أساطير الأولين } هذا الخبر تنديد بموقف المشركين ذكر بعد ذكر مؤامراتهم الدنية ومكرهم الخبيث حيث قرروا قتله صلى الله عليه وسلم يخبر تعالى أنهم إذا قرأ عليهم الرسول آيات الله المبينة للحق والمقررة للايمان به ورسالته بذكر قصص الأولين قالوا { سمعنا } ما تقرأ علينا، { لو نشآء لقلنا مثل هذا } أي الذي تقول { إن هذآ إلا أساطير الأولين } أي أخبار السابقين من الأمم سطرت وكتبت فهي تملى عليك فتحفظها وتقرأها علينا وكان قائل هذه المقالة الكاذبة النضر بن الحارث عليه لعائن الله، إذ مات كافرا.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- التذكير بنعم الله تعالى على العبد ليجد العبد في نفسه داعية الشكر فيشكر.
2- بيان مدى ما قاومت به قريش دعوة الإسلام حتى إنها أصدرت حكمها بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
3- بيان موقف المشركين من الدعوة الإسلامية، وإنهم بذلوا كل جهد في سبيل انهائها والقضاء عليها.
[8.32-35]
شرح الكلمات:
اللهم: أي يا الله حذفت ياء النداء من أوله وعوض عنها الميم من آخره .
إن كان هذا: أي الذي جاء به محمد ويخبر به.
فأمطر: أنزل علينا حجارة.
يصدون عن المسجد الحرام: يمنعون الناس من الدخول إليه للاعتمار.
مكاء وتصدية: المكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق.
معنى الآيات:
ما زال السياق في التنديد ببعض أقوال المشركين وأفعالهم فهذا النضر بن الحارث القائل في الآيات السابقة
لو نشآء لقلنا مثل هذا إن هذآ إلا أساطير الأولين
[الأنفال: 31] يخبر تعالى عنه أنه قال { اللهم إن كان هذا } أي القرآن { هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء } فنهلك بها، ولا نرى محمدا ينتصر دينه بيننا. { أو ائتنا بعذاب أليم } حتى نتخلص من وجودنا. فقال تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } فوجودك بينهم أمان لهم { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } إذ كانوا إذا طافوا يقول بعضهم غفرانك ربنا غفرانك، ثم قال تعالى { وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } أي أي شيء يصرف العذاب عنهم وهم يرتكبون أبشع جريمة وهي صدهم الناس عن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت الحرام، فقد كانوا يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت والصلاة في المسجد الحرام. وقوله تعالى { وما كانوا أوليآءه } رد على مزاعمهم بأنهم ولاة الحرم والقائمون عليه فلذا لهم أن يمنعوا من شاءوا ويأذنوا لمن شاءوا فقال تعالى ردا عليهم { وما كانوا أوليآءه } أي أولياء المسجد الحرام، كما لم يكونوا أيضا أولياء الله إنما أولياء الله والمسجد الحرام المتقون الذين يتقون الشرك والمعاصي { ولكن أكثرهم لا يعلمون } هذا لجهل بعضهم وعناد آخرين. وقوله { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكآء وتصدية } إذ كان بعضهم إذ طافوا يصفقون ويصفرون كما يفعل بعض دعاة التصوف حيث يرقصون وهم يصفقون ويصفرون ويعدون هذا حضرة أولياء الله، والعياذ بالله من الجهل والضلال وقوله تعالى { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أذاقهموه يوم بدر إذ أذلهم فيه وأخزاهم وقتل رؤساءهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان عليه المشركون في مكة من بغض للحق وكراهية له حتى سألوا العذاب العام ولا يرون راية الحق تظهر ودين الله ينتصر.
2- النبي صلى الله عليه وسلم أمان أمته من العذاب فلم تصب هذه الأمة بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة.
3- فضيلة الاستغفار وأنه ينجي من عذاب الدنيا والآخرة.
4- بيان عظم جرم من يصد عن المسجد الحرام للعبادة الشرعية فيه.
5- بيان أولياء الله تعالى والذين يحق لهم أن يلوا المسجد الحرام وهو المتقون.
6- كراهية الصفير والتصفيق، وبطلان الرقص في التعبد.
[8.36-37]
شرح الكلمات:
إن الذين كفروا: أي كذبوا بآيات الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من قريش.
ثم تكون عليهم حسرة: أي شدة ندامة.
ثم يغلبون: أي يهزمون.
ليميز: أي ليميز كل صنف من الصنف الآخر.
الخبيث: هم أهل الشرك والمعاصي.
من الطيب: هم أهل التوحيد والأعمال الصالحة.
فيركمه: أي يجعل بعضه فوق بعض في جهنم.
معنى الآية الكريمة:
ما زال السياق في التنديد بالمشركين وأعمالهم الخاسرة يخبر تعالى { إن الذين كفروا } وهم أهل مكة من زعماء قريش { ينفقون أموالهم } في حرب رسول الله والمؤمنين للصد عن الإسلام المعبر عنه بسبيل الله يقول تعالى { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة } أي ندامة شديدة لسوء العاقبة التي كانت لهم في بدر وأحد والخندق إذ أنفقوا على هذه الحملات الثلاث من الأموال ما الله به عليم، ثم خابوا فيها وخسروا وبالتالي غلبوا وانتهى سلطانهم الكافر وفتح الله على رسوله والمؤمنين مكة وقوله تعالى { والذين كفروا } أي من مات منهم على الكفر { إلى جهنم يحشرون } أي يجمعون، وعلة هذا الجمع أن يميز الله تعالى الخبيث من الطيب فالطيبون وهم المؤمنون الصالحون يعبرون الصراط إلى الجنة دار النعيم، وأما الخبيث وهم فريق المشركين فيجعل بعضه إلى بعض فيركمه جميعا كوما واحدا فيجعله في جهنم. وقوله تعالى { أولئك هم الخاسرون } إشارة إلى الذين أنفقوا أموالهم للصد عن سبيل الله وماتوا على الكفر فحشروا إلى جهنم وجعل بعضهم إلى بعض ثم صيروا كوما واحدا ثم جعلوا في نار جهنم هم الخاسرون بحق حيث خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم وكل شيء وأمسوا في قعر جهنم مبلسين والعياذ بالله من الخسران المبين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كل نفقة ينفقها العبد للصد عن سبيل الله بأي وجه من الوجوه تكون عليه حسرة عظيمة يوم القيامة.
2- كل كافر وكل مؤمن طيب.
3- صدق وعد الله تعالى لرسوله والمؤمنين بهزيمة المشركين وغلبتهم وحسرتهم على ما أنفقوا في حرب الإسلام وضياع ذلك كله وخيبتهم فيه.
[8.38-40]
شرح الكلمات:
إن ينتهوا: عن الكفر بالله ورسوله وحرب الرسول والمؤمنين.
ما قد سلف: أي مضى من ذنوبهم من الشرك وحرب الرسول والمؤمنين.
مضت سنة الأولين: في إهلاك الظالمين.
لا تكون فتنة: أي شرك بالله واضطهاد وتعذيب في سبيل الله.
ويكون الدين كله لله: أي حتى لا يعبد غير الله.
مولاكم: متولي أمركم بالنصر والتأييد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان الإجراءات الواجب اتخاذها إزاء الكافرين فيقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { قل للذين كفروا } مبلغا عنا { إن ينتهوا } أي عن الشرك والكفر والعصيان وترك حرب الإسلام وأهله { يغفر لهم ما قد سلف } يغفر الله لهم ما قد مضى من ذنوبهم العظام وهي الشرك والظلم، وهذا وعد صدق ممن لا يخلف الوعد سبحانه وتعالى. { وإن يعودوا } إلى الظلم والاضطهاد والحرب فسوف يحل بهم ما حل بالأمم السابقة قبلهم لما ظلموا فكذبوا الرسل وآذوا المؤمنين وهو معنى قوله تعالى { فقد مضت سنت الأولين } أي سنة الله والطريقة المتبعة فيهم وهي أخذهم بعد الإنذار والإعذار. ثم في الآية الثانية من هذا السياق يأمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين قتالا يتواصل بلا انقطاع إلى غاية هي: أن لا تبقى فتنة أي شرك ولا اضطهاد لمؤمن أو مؤمنة من أجل دينه، وحتى يكون الدين كله لله فلا يعبد مع الله أحد سواه { فإن انتهوا } أي عن الشرك والظلم فكفوا عنهم وإن انتهوا في الظاهر ولم ينتهوا في الباطل فلا يضركم ذلك { فإن الله بما يعملون بصير } وسيظهرهم لكم ويسلطكم عليهم. وقوله في ختام السياق { وإن تولوا } أي نكثوا العهد وعادوا إلى حربكم بعد الكف عنهم فقاتلوهم ينصركم الله عليهم واعلموا أن الله مولاكم فلا يسلطهم عليكم، بل ينصركم عليهم إنه { نعم المولى } لمن يتولى { ونعم النصير } لمن ينصر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سعة فضل الله ورحمته.
2- الإسلام يجب أي يقطع ما قبله، فيغفر لمن أسلم كل ذنب قارفه من الكفر وغيره.
3- بيان سنة الله في الظالمين وهي إهلاكهم وإن طالت مدة الإملاء والإنظار.
4- وجوب قتال المشركين على المسلمين ما بقي في الأرض مشرك.
5- نعم المولى الله جل جلاله لمن تولاه، ونعم النصير لمن نصره.
[8.41-44]
شرح الكلمات:
أنما غنمتم من شيء: أي ما أخذتموه من مال الكافر قهرا لهم وغلبة قليلا كان أو كثيرا.
فأن لله خمسه: أي خمس الخمسة أقسام، يكون لله والرسول ومن ذكر بعدهما.
ولذي القربى: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب.
وما أنزلنا على عبدنا: أي من الملائكة والآيات.
يوم الفرقان: أي يوم بدر وهو السابع عشر من رمضان، إذ فرق الله فيه بين الحق والباطل.
التقى الجمعان: جمع المؤمنين وجمع الكافرين ببدر.
العدوة الدنيا: العدوة حافة الوادي، وجانبه والدنيا أي القريبة إلى المدينة.
بالعدوة القصوى: أي البعيد من المدينة إذ هي حافة الوادي من الجهة الأخرى.
والركب أسفل منكم: أي ركب أبي سفيان وهي العير التي خرجوا من أجلها. أسفل منكم مما يلي البحر.
عن بينة: أي حجة ظاهرة.
لتنازعتم في الأمر: أي اختلفتم.
ويقللكم في أعينهم: هذا قبل الالتحام أما بعد فقد رأوهم مثليهم حتى تتم الهزيمة لهم.
معنى الآيات:
هذه الآيات لا شك أنها نزلت في بيان قسمة الغنائم بعدما حصل فيها من نزاع فافتكها الله تعالى منهم ثم قسمها عليهم فقال الأنفال لله وللرسول في أول الآية ثم قال هنا { واعلموا } أيها المسلمون { أنما غنمتم من شيء } حتى الخيط والمخيط، ومعنى غنمتم أخذتموه من المال من أيدي الكفار المحاربين لكم غلبة وقهرا لهم فقسمته هي أن { لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ، والأربعة أخماس الباقية هي لكم أيها المجاهدون للراجل قسمة وللفارس قسمتان لما له من تأثير في الحرب، ولأن فرسه يحتاج إلى نفقة علف. والمراد من قسمة الله أنها تنفق في المصالح العامة ولو أنفقت على بيوته لكان أولى وهي الكعبة وسائر المساجد، وما للرسول فإنه ينفقه على عائلته، وما لذي القربى فإنه ينفق على قرابة الرسول الذين يحرم عليهم أخذ الزكاة لشرفهم وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وما لليتامى ينفق على فقراء المسلمين، وما لابن السبيل ينفق على المسافرين المنقطعين عن بلادهم إذا كانوا محتاجين إلى ذلك في سفرهم وقوله تعالى { إن كنتم آمنتم بالله } أي ربا { ومآ أنزلنا على عبدنا } أي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم { يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } وهو يوم بدر حيث التقى المسلمون بالمشركين، والمراد بما أنزل تعالى على عبده ورسوله الملائكة والآيات منها الرمية التي رمى بها المشركين فوصلت إلى أكثرهم فسببت هزيمتهم. وقوله { والله على كل شيء قدير } أي كما قدر على نصركم على قلتكم وقدر على هزيمة عدوكم على كثرتهم هو قادر على كل شيء يريده وقوله تعالى { إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم } تذكير لهم بساحة المعركة التي تجلت فيها آيات الله وظهر فيها إنعامه عليهم ليتهيئوا للشكر.
وقوله تعالى { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } أي لو تواعدتم أنتم والمشركون على اللقاء في بدر للقتال لاختلفتم لأسباب تقتضي ذلك منها أنكم قلة وهم كثرة { ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا } أي محكوما به في قضاء الله وقدره، وهو نصركم وهزيمة عدوكم. وجمعكم من غير تواعد ولا اتفاق سابق. وقوله تعالى { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } هذا تعليل لفعل الله تعالى يجمعكم في وادي بدر للقتال وهو فعل ذلك ليحيا بالإيمان من حيى على بينة وعلم أن الله حق والإسلام حق والرسول حق والدار الآخرة حق حيث أراهم الله الآيات الدالة على ذلك، ويهلك من هلك بالكفر على بينة إذ اتضح له أن ما عليه المشركون كفر وباطل وضلال ثم رضي به واستمر عليه. وقوله تعالى { وإن الله لسميع عليم } تقرير لما سبق وتأكيد له حيث أخبر تعالى أنه سميع لأقوال عباده عليهم بأفعالهم فما أخبر به وقرره هو كما أخبر وقرر. وقوله تعالى { إذ يريكهم الله في منامك قليلا } أي فأخبرت أصحابك ففرحوا بذلك وسروا ووطنوا أنفسهم للقتال، وقوله: { ولو أراكهم كثيرا } أي في منامك وأخبرت به أصحابك لفشلتم أي جبنتم عن قتالهم، ولتنازعتم في أمر قتالهم { ولكن الله سلم } من ذلك فلم يريكهم كثيرا إنه تعالى عليم بذات الصدور ففعل ذلك لعلمه بما يترتب عليه من خير وشر. وقوله تعالى { وإذ يريكموهم } أي اذكروا أيها المؤمنون إذ يريكم الله الكافرين عند التقائكم بهم قليلا في أعينكم كأنهم سبعون رجلا أو مائة مثلا ويقللكم سبحانه وتعالى في أعينهم حتى لا يهابوكم. وهذا كان عند المواجهة وقبل الالتحام أما بعد الالتحام فقد أرى الله تعالى الكافرين أراهم المؤمنين ضعيفهم في الكثرة وبذلك انهزموا كما جاء ذلك في سورة آل عمران في قوله
يرونهم مثليهم
[الآية: 13] وقوله تعالى { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } تعليل لتلك التدابير الإلهية لأوليائه لنصرتهم وإعزازهم وهزيمة أعدائهم وإذلالهم وقوله تعالى { وإلى الله ترجع الأمور } إخبار منه تعالى بأن الأمور كلها تصير إليه فما شاء منها كان وما لم يشأ لم يكن خبرا كان أو غيرا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان قسمة الغنائم على الوجه الذي رضيه الله تعالى.
2- التذكير بالإيمان، إذ هو الطاقة الموجهة باعتبار أن المؤمن حي بإيمانه يقدر على الفعل والترك، والكافر ميت فلا يكلف.
3- فضيلة غزوة بدر وفضل أهلها.
4- بيان تدبير الله تعالى في نصر أوليائه وهزيمة أعدائه.
5- بيان أن مرد الأمور نجاحا وخيبة لله تعالى ليس لأحد فيها تأثير إلا بإذنه.
[8.45-49]
شرح الكلمات:
فئة: طائفة مقاتلة.
فاثبتوا: لقتالها واصمدوا.
واذكروا الله كثيرا: مهللين مكبرين راجين النصر طامعين فيه سائلين الله تعالى ذلك.
تفلحون: تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة في الدنيا والنار في الآخرة.
ولا تنازعوا: أي لا تختلفوا وأنتم في مواجهة العدو أبدا.
وتذهب ريحكم: أي قوتكم بسبب الخلاف.
خرجوا من ديارهم بطرا: أي للبطر الذي هو دفع الحق ومنعه.
وقال إني جار لكم: أي مجير لكم ومعين على عدوكم.
تراءت الفئتان: أي التقتا ورأت كل منهما عدوها.
نكص على عقبيه: أي رجع إلى الوراء هاربا، لأنه جاءهم في صورة سراقة بن مالك.
إني أرى ما لا ترون: من الملائكة.
والذين في قلوبهم مرض: أي ضعف في إيمانهم وخلل في اعتقادهم.
معنى الآيات:
هذا النداء الكريم موجه إلى المؤمنين وقد أذن لهم في قتال الكافرين، وبدأ بسرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وثنى بهذه الغزوة غزوة بدر الكبرى فلذا هم في حاجة إلى تعليم رباني وهداية إلهية يعرفون بموجبها كيف يخوضون المعارك وينتصرون فيها وفي هذه الآيات الأربع تعليم عال جدا لخوض المعارك والانتصار فيها وهذا بيانها:
1- الثبات في وجه العدو والصمود في القتال حتى لكأن المجاهدين جبل شامخ لا يتحرك { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة } أي جماعة مقاتلة { فاثبتوا }.
2- ذكر الله تعالى تهليلا وتكبيرا وتسبيحا ودعاء وضراعة ووعدا ووعيدا. { واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } أي تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة والمذلة في الدنيا، والنار والعذاب في الآخرة.
3- طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما ومنه طاعة قائد المعركة ومديرها وهذا من أكبر عوامل النصر حسب سنة الله تعالى في الكون { وأطيعوا الله ورسوله }.
4- عدم التنازع والخلاف عند التدبير للمعركة وعند دخولها وأثناء خوضها.
5- بيان نتائج التنازع والخلاف وأنها: الفشل الذريع، وذهاب القوة المعبر عنها بالريح { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم }.
6- الصبر على مواصلة القتال والإعداد له وتوطين النفس واعدادها لذلك { واصبروا إن الله مع الصابرين }.
7- الإخلاص في القتال والخروج له لله تعالى فلا ينبغي أن يكون لأي اعتبار سوى مرضاة الله تعالى { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئآء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط }.
هذه عوامل النصر وشروط الجهاد في سبيل الله. تضمنتها ثلاث آيات من هذه الآيات الخمس وقوله تعالى في الآية الرابعة [48] { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب } يذكر تعالى المؤمنين بحادثة حدثت يوم بدر من أغرب الحوادث لتكون عبرة وموعظة للمؤمنين فيقول عز وجل واذكروا إذ زين الشيطان للمشركين الذين نهيتكم أن تتشبهوا بهم في سيرهم وقتالهم وفي كل حياتهم، فقال لهم: أقدموا على قتال محمد والمؤمنين، ولا ترهبوا ولا تخافوا إنه لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم أي مجير لكم وناصر ومعين.
وكان الشيطان في هذه الساعة في صورة رجل من أشراف قبيلته يقال له سراقة بن مالك فلما تراءت الفئتان لبعضهما البعض وتقدموا للقتال رأى الشيطان جبريل في صفوف الملائكة، فنكص على عقبيه، وكان آخذا بيد الحارث بن هاشم يحدثه يعده ويمنيه بعد ما زين لهم خوض المعركة وشجعهم على ذلك، وولى هاربا فقال له الحارث ما بك ما أصابك تعال فقال وهو هارب { إني أرى ما لا ترون } يعني الملائكة { إني أخاف الله والله شديد العقاب } وصدق وهو كذوب وقوله تعالى في نهاية الآية [49] { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم } أي واذكروا أيها المؤمنون للعبرة والاتعاظ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض أي ضعف في الإيمان وتخلخل في العقيدة: غر هؤلاء دينهم وإلا لما خرجوا لقتال قريش وهي تفوقهم عددا وعدة، ومثل هذا الكلام يعتبر عاديا من ضعاف الإيمان والمنافقين المستترين بزيف إيمانهم، فاذكروا هذا، ولا يفت في أعضادكم مثل هذا الكلام، وتوكلوا على الله واثقين في نصره فإنه ينصركم لأنه عزيز لا يغالب ولا يمانع في ما يريده أبدا. حكيم يضع النصر في المتأهلين له بالإيمان والصبر والطاعة له، ولرسوله، والإخلاص له في العمل والطاعة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أسباب النصر وعوامله ووجوب الأخذ بها في كل معركة وهي: الثبات وذكر الله تعالى، وطاعة الله ورسوله وطاعة القيادة وترك النزاع والخلاف والصبر والإخلاص.
2- بيان عوامل الفشل والخيبة وهي النزاع والاختلاف والبطر والرياء والاغترار.
3- بيان عمل الشيطان في نفوس الكافرين بتزيينه لهم الحرب ووعده وتمنيته لهم.
4- بيان حال المنافقين وضعفة الإيمان عند وجود القتال ونشوب الحروب.
5- وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه مهما كانت دعاوى المبطلين والمثبطين والمنهزمين.
[8.50-54]
شرح الكلمات:
إذ يتوفى: أي يقبض أرواحهم لإماتتهم.
وجوههم وأدبارهم: أي يضربونهم من أمامهم ومن خلفهم.
بظلام للعبيد: أي ليس بذي ظلم للعبيد كقوله
ولا يظلم ربك أحدا
[الكهف: 49].
كدأب آل فرعون: أي دأب كفار قريش كدأب آل فرعون في الكفر والتكذيب والدأب العادة.
لم يك مغيرا نعمة: تغيير النعمة تبديلها بنقمة بالسلب لها أو تعذيب أهلها.
آل فرعون: هم كل من كان على دينه من الأقباط مشاركا له في ظلمه وكفره.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرأ ورئاء الناس فيقول تعالى لرسوله { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } وهم يقولون لهم { وذوقوا عذاب الحريق } وجواب لولا محذوف تقديره (لرأيت أمرا فظيعا) وقوله تعالى { ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلم للعبيد } هو قول الملائكة لمن يتوفونهم من الذين كفروا. أي ذلكم الضرب والتعذيب بسبب ما قدمت أيديكم من الكفر والظلم والشر والفساد وأن الله تعالى ليس بظالم لكم فإنه تعالى لا يظلم أحدا. وقوله تعالى { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم } أي دأب هؤلاء المشركين من كفار قريش في كفرهم وتكذيبهم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم { كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم } وكفر هؤلاء فأخذهم الله بذنوبهم، وقوله { إن الله قوي شديد العقاب } يشهد له فعله بآل فرعون والذين من قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات وأخيرا أخذه تعالى كفار قريش في بدر أخذ العزيز المقتدر، وقوله تعالى { ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } إشارة إلى ما أنزله من عذاب على الأمم المكذبة الكافرة الظالمة، وإلى بيان سنته في عباده وهي أنه تعالى لم يكن من شأنه أن يغير نعمة أنعمها على قوم كالأمن والرخاء، أو الطهر والصفاء حتى يغيروا هم ما بأنفسهم بأن يكفروا ويكذبوا، ويظلموا أو يفسقوا ويفجروا، وعندئذ يغير تلك النعم بنقم فيحل محل الأمن والرخاء الخوف والغلاء ومحل الطهر والصفاء الخبث والشر والفساد هذا إن لم يأخذهم بالإبادة الشاملة والاستئصال التام. وقوله تعالى { وأن الله سميع عليم } أي لأقوال عباده وأفعالهم فلذا يتم الجزاء عادلا لا ظلم فيه. وقوله تعالى { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنآ آل فرعون وكل كانوا ظالمين } هذه الآية تشبه الآية السابقة إلا أنها تخالفها فيما يلي: في الأولى الذنب الذي أخذ به الهالكون كان الكفر، وفي هذه: كانت التكذيب، في الأولى: لم يذكر نوع العذاب، وفي الثانية أنه الإغراق، في الأولى لم يسجل عليهم سوى الكفر فهو ذنبهم لا غير.
وفي الثانية سجل على الكل ذنبا آخر وهو الظلم إذ قال { وكل كانوا ظالمين } أي بكفرهم وتكذيبهم، وصدهم عن سبيل الله وفسقهم عن طاعة الله ورسوله مع زيادة التأكيد والتقرير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عذاب القبر بتقرير العذاب عند النزع.
2- هذه الآية نظيرها آية الأنعام
ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم
[الآية: 93] أي بالضرب.
3- تنزه الخالق عز وجل عن الظلم لأحد.
4- سنة الله تعالى في أخذ الظالمين وإبدال النعم بالنقم.
5- لم يكن من سنة الله تعالى في الخلق تغيير ما عليه الناس من خير أو شر حتى يكونوا هم البادئين.
6- التنديد بالظلم وأهله، وأنه الذنب الذي يطلق على سائر الذنوب.
[8.55-59]
شرح الكلمات:
شر الدواب: من إنسان أو حيوان الذين ذكر الله وصفهم وهم بنو قريظة.
فهم لا يؤمنون: لما علم الله تعالى من حالهم أخبر أنهم يموتون على الكفر.
ينقضون عهدهم: أي يحلونه ويخرجون منه فلا يلتزموا بما فيه .
في كل مرة: أي عاهدوا فيها.
فإما تثقفنهم: أي إن تجدنهم، وما مزيدة أدغمت في إن الشرطية.
فشرد: أي فرق وشتت.
يذكرون: أي يتعظون.
فانبذ إليهم: أي اطرح عهدهم.
على سواء: أي على حال من العلم تكون أنت وإياهم فيها سواء، أي كل منكم عالم بنقض المعاهدة.
الخائنين: الغادرين بعهودهم.
سبقوا: أي فاتوا الله ولم يتمكن منهم.
معنى الآيات:
بمناسبة ذكر خصوم الدعوة الإسلامية والقائم عليها وهو النبي صلى الله عليه وسلم ذكر تعالى خصوما لها آخرين غير المشركين من كفار قريش وهم بنو قريظة من اليهود. فأخبر تعالى عنهم أنهم شر الدواب من الإنسان والحيوان ووصفهم محددا لهم ليعرفوا، وأخبر أنهم لا يؤمنون لتوغلهم في الشر والفساد، فقال: { إن شر الدواب عند الله } أي في حكمه وعلمه { الذين كفروا فهم لا يؤمنون } وخصصهم بوصف آخر خاص بهم فقال: { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عاهدهم أول مرة على أن لا يحاربوه ولا يعينوا أحدا على حربه فإذا بهم يعينون قريشا بالسلاح، ولما انكشف أمرهم اعتذروا معترفين بخطإهم، وعاهدوا مرة أخرى على أن لا يحاربوا الرسول ولا يعينوا من يحاربه فإذا بهم ينقضون عهدهم مرة أخرى ويدخلون في حرب ضده حيث انضموا الى الأحزاب في غزوة الخندق هذا ما دل عليه قوله تعالى { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة } أي يعاهدون فيها { وهم لا يتقون } أي لا يخافون عاقبة نقض المعاهدات والتلاعب بها حسب أهوائهم. وقوله تعالى { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون } يرشد رسوله آمرا إياه بما يجب أن يتخذه إزاء هؤلاء الناكثين للعهود المنغمسين في الكفر. بحيث لا يخرجون منه بحال من الأحوال. ويشهد لهذه الحقيقة أنهم لما حوصروا في حصونهم ونزلوا منها مستسلمين كان يعرض على أحدهم الإسلام حتى لا يقتل فيؤثر باختياره القتل على الإسلام وماتوا كافرين وصدق الله إذ قال { فهم لا يؤمنون } فهؤلاء إن ثقفتهم في حرب أي وجدتهم متمكنا منهم فاضربهم بعنف وشدة وبلا هوادة حتى تشرد أي تفرق بهم من خلفهم من أعداء الإسلام المتربصين بك الدوائر من كفار قريش وغيرهم لعلهم يذكرون أي يتعظون فلا يفكروا في حربك وقتالك بعد، وقوله { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين } هذا إرشاد آخر للرسول صلى الله عليه وسلم يتعلق بالخطط الحربية الناجحة وهو أنه صلى الله عليه وسلم إن خاف من قوم معاهدين له خيانة ظهرت أماراتها وتأكد لديك علاماتها فاطرح تلك المعاهدة ملغيا لها معلنا ذلك لتكون وإياهم على علم تام بإلغائها، وذلك حتى لا يتهموك بالغدر والخيانة، والله لا يحب الخائنين وقاتلهم مستعينا بالله عليهم وستكون الدائرة على الناكث الخائن، وهذا ضرب من الحزم وصحة العزم إذ ما دام قد عزم العدو على النقض فقد نقص فليبادر لافتكاك عنصر المباغتة من يده، وهو عنصر مهم في الحروب.
وقوله تعالى { ولا يحسبن الذين كفروا } وهم من هرب من بدر من كفار قريش { سبقوا } أي فاتوا فلم يقدر الله تعالى عليهم { إنهم لا يعجزون } أي إنهم لا يعجزون الله بحال فإنه تعالى لا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن شر الدواب هم الكفار من أهل الكتاب والمشركين بل هم شر البرية.
2- سنة الله فيمن توغل في الظلم والشر والفساد يحرم التوبة فلا يموت إلا كافرا.
3- من السياسة الحربية النافعة أن يضرب القائد عدوه بعنف وشدة ليكون نكالا لغيره من الأعداء.
4- حرمة الغدر والخيانة.
5- جواز إعلان إلغاء المعاهدة وضرب العدو فورا إن بدرت منه بوادر واضحة بأنه عازم على نقض المعاهدة وذلك لتفويت عنصر المباغته عليه.
[8.60-63]
شرح الكلمات:
أعدوا: هيئوا وأحضروا.
ما استطعتم: ما قدرتم عليه.
من قوة: أي حربية من سلاح على اختلاف أنواعه.
يوف إليكم: أي أجره وثوابه.
وإن جنحوا للسلم: أي مالوا إلى عدم الحرب ورغبوا في ذلك .
فإن حسبك الله: أي يكفيك شرهم، وينصرك عليهم.
ألف بين قلوبهم: أي جمع بين قلوب الأنصار بعدما كانت متنافرة مختلفة.
إنه عزيز حكيم: أي غالب على أمره، حكيم في فعله وتدبير أمور خلقه.
معنى الآيات:
بمناسبة انتهاء معركة بدر وهزيمة المشركين فيها، وعودتهم إلى مكة وكلهم تغيظ على المؤمنين وفعلا أخذ أبو سفيان يعد العدة للانتقام. وما كانت غزوة أحد إلا نتيجة لذلك هنا أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بإعداد القوة وبذل ما في الوسع والطاقة لذلك فقال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي بقوله
" ألا إن القوة الرمي "
قالها ثلاثا وقوله تعالى { ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم } يخبر تعالى عباده المؤمنين بعد أن أمرهم بإعداد القوة على اختلافها بأن رباطهم للخيل وحبسها أمام دورهم معدة للغزو والجهاد عليها يرهب أعداء الله من الكافرين والمنافقين أي يخوفهم حتى لا يفكروا في غزو المسلمين وقتالهم، وهذا ما يعرف بالسلم المسلح، وهو أن الأمة إذا كانت مسلحة قادرة على القتال يرهبها أعداؤها فلا يحاربونها، وإن رأوها لا عدة لها ولا عتاد ولا قدرة على رد أعدائها أغراهم ذلك بقتالها فقاتلوها. وقوله تعالى { وآخرين من دونهم } أي من دون كفار قريش، وقوله { لا تعلمونهم الله يعلمهم } من الجائز أن يكونوا اليهود أو المجوس أو المنافقين، وأن يكونوا الجن أيضا، وما دام الله عز وجل لم يسمهم فلا يجوز أن يقال هم كذا.. بصيغة الجزم، غير أنا نعلم أن أعداء المسلمين كل أهل الأرض من أهل الشرك والكفر من الإنس والجن، وقوله تعالى { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } إخبار منه تعالى أن ما ينفقه المسلمون من نفقة قلت أو كثرت في سبيل الله التي هي الجهاد يوفيهم الله تعالى إياها كاملة ولا ينقصهم منها شيئا فجملة { وأنتم لا تظلمون } جملة خالية ومعناها لا يظلمكم الله تعالى بنقص ثواب نفقاتكم في سبيله هذا ما دلت عليه الآية الأولى [60] أما الآية الثانية وهي قوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم } فإن الله تعالى يأمر رسوله وهو قائد الجهاد يومئذ بقبول السلم متى طلبها أعداؤه ومالوا إليها ورغبوا بصدق فيها، لأنه صلى الله عليه وسلم رسول رحمة لا رسول عذاب وأمره أن يتوكل على الله في ذلك أي يطيعه في قبول السلم ويفوض أمره إليه ويعتمد عليه فإنه تعالى يكفيه شر أعدائه لأنه سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم وأحوالهم لا يخفى عليه من أمرهم شيء فلذا سوف يكفي رسوله شر خداعهم إن أرادوا خداعه بطلب السلم والمسالمة، وهذا معنى قوله تعالى في الآيتين [62] و [63] { وإن يريدوا أن يخدعوك } أي بالميل إلى السلم والجنوح إليها { فإن حسبك الله } أي كافيك إنه { هو الذي أيدك بنصره } أي في بدر { وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } أي جمع بين تلك القلوب المتنافرة المنطوية على الإحن والعداوات ولأقل الأسباب وأتفهها، لقد كان الأنصار يعيشون على عداوة عظيمة فيما بينهم حتى إن حربا وقعت بينهم مائة وعشرين سنة فلما دخلوا في الإسلام اصطلحوا وزالت كل آثار العداوة والبغضاء وأصبحوا جسما واحدا من فعل هذا سوى الله تعالى؟ اللهم لا أحد، ولذا قال تعالى لرسوله { لو أنفقت ما في الأرض جميعا } أي من مال صامت وناطق { مآ ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب إعداد القوة وهي في كل زمان بحسبه إن كانت في الماضي الرمح والسيف ورباط الخيل فهي اليوم النفاثة المقاتلة والصاروخ، والهدروجين والدبابة والغواصة، والبارجة.
2- تقرير مبدأ: السلم المسلح، إرجع إلى شرح الآيات.
3- لا يخلوا المسلمون من أعداء ما داموا بحق مسلمين، لأن قوى الشر من إنس وجن كلها عدو لهم.
4- نفقة الجهاد خير نفقة وهي مضمونة التضعيف.
5- جواز قبول السلم في ظروف معينة، وعدم قبوله في أخرى وذلك بحسب حال المسلمين قوة وضعفا.
[8.64-66]
شرح الكلمات:
حسبك الله: أي كافيك الله كل ما يهمك من شأن أعدائك وغيرهم.
ومن اتبعك من المؤمنين: أي الله حسبهم كذلك أي كافيهم ما يهمهم من أمر أعدائهم.
حرض المؤمنين على القتال: أي حثهم على القتال مرغبا لهم مرهبا.
صابرون: أي على القتال فلا يضعفون ولا ينهزمون بل يثبتون ويقاتلون.
لا يفقهون: أي لا يعرفون أسرار القتال ونتائجه بعد فنونه وحذق أساليبه.
معنى الآيات:
ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله بعنوان النبوة التي شرفه الله بها على سائر الناس فيقول { يأيها النبي } ويخبره بنعم الخبر مطمئنا إياه وأتباعه من المؤمنين بأنه كافيهم أمر أعدائهم فما عليهم إلا أن يقاتلوهم ما دام الله تعالى ناصرهم ومؤيدهم عليهم، فيقول: { حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } ثم يناديه ثانية قائلا { يأيها النبي } ليأمره بالأخذ بالأسباب الموجبة للنصر بإذن الله تعالى وهي تحريض المؤمنين على القتال وحثهم عليه وترغيبهم فيه فيقول { حرض المؤمنين على القتال } ويخبره آمرا له ولأتباعه المؤمنين بأنه { إن يكن } أي يوجد منهم في المعركة { عشرون صابرون يغلبوا مئتين } ، وإن يكن منهم مائة صابرة يغلبوا ألفا من الكافرين، ويعلل لذلك فيقول { بأنهم قوم لا يفقهون } أي لا يفقهون أسرار القتال وهي أن يعبد الله تعالى ويرفع الظلم من الأرض ويتخذ الله من المؤمنين شهداء فينزلهم منازل الشهداء عنده، فالكافرون لا يفقهون هذا فلذا هم لا يصبرون على القتال لأنهم يقاتلون لأجل حياتهم فقط فإذا خافوا عنها تركوا القتال طلبا لحياة زيادة على ذلك أنهم جهال لا يعرفون أساليب الحرب ولا وسائلها الناجعة بخلاف المؤمنين فإنهم علماء، علماء بكل شيء هذا هو المفروض، وإن ضعف الإيمان ضعف تبعا له الفقه والعلم وحل الجهل والضعف كما هو مشاهد اليوم في المسلمين وقوله تعالى { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } الآن بعد علمه تعالى بضعفكم حيث لا يقوى الواحد على قتال عشرة، ولا العشرة على قتال مائة ولا المائة على قتال الألف خفف تعالى رحمة بكم ومنة عليكم، فنسخ الحكم الأول بالثاني الذي هو قتال الواحد للإثنين، والعشرة للعشرين والمائة للمائتين، والألف للألفين، ومفاده أن المؤمن لا يجوز له أن يفر من وجه اثنين ولكن يجوز له أن يفر إذا كانوا أكثر من اثنين وهكذا سائر النسب فالعشرة يحرم عليهم ان يفروا من عشرين ولكن يجوز لهم أن يفروا من ثلاثين أو أربعين مثلا. وهذا من باب رفع الحرج فقط وإلا فإنه يجوز للمؤمن أن يقاتل عشرة أو أكثر، فقد قاتل ثلاثة آلاف صحابي يوم مؤتة مائة وخمسين ألفا من الروم والعرب المتنصرة وقوله تعالى { بإذن الله } أي بمعونته وتأييده إذ لا نصر بدون عون من الله تعالى وإذن، وقوله { والله مع الصابرين } أي بالتأييد والنصر، والصبر شرط في تأييد الله وعونه فمن لم يصبر على القتال فليس له على الله وعد في نصره وتأييده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا كافي إلا الله تعالى، ومن زعم أن هناك من يكفي سوى الله تعالى فقد أشرك.
2- وجوب تحريض المؤمنين على الجهاد وحثهم عليه في كل زمان ومكان.
3- حرمة هزيمة الواحد من الواحد والواحد من الاثنين، ويجوز ما فوق ذلك.
4- وجوب تثقيف المجاهدين عقلا وروحا وصناعة.
5- وجوب الصبر في ساحة المعارك ويحرم الهزيمة إذا كان عدد المؤمنين اثني عشر ألف مقاتل أو أكثر إذ هذا العدد لا يغلب من قلة بإذن الله تعالى.
6- معية الله بالعلم والتأييد والنصر للصابرين دون الجزعين.
[8.67-69]
شرح الكلمات:
أسرى: جمع أسير وهو من أخذ في الحرب يشد عادة بإسار وهو قيد من جلد فاطلق لفظ الأسير على كل من أخذ في الحرب.
حتى يثخن في الأرض: أي تكون له قوة وشدة يرهب بها العدو.
عرض الدنيا: أي المال لأنه عارض ويزول فلا يبقى.
لولا كتاب من الله سبق: وهو كتاب المقادير بأن الله تعالى أحل لنبي هذه الأمة الغنائم.
فيما أخذتم: أي بسبب ما أخذتم من فداء أسرى بدر.
حلالا طيبا: الحلال هو الطيب فكلمة طيبا تأكيد لحلية اقتضاها المقام.
واتقوا الله: أي بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة بدر من ذلك أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عمر وسعد بن معاذ رضي الله عنهما رغبوا في مفاداة الأسرى بالمال للظروف المعاشية القاسية التي كانوا يعيشونها، وكانت رغبتهم في الفداء بدون علم من الله تعالى بإحلالها أو تحريمها أما عمر فكان لا يعثر على أسير إلا قتله وأما سعد فقد قال (الاثخان في القتال أولى من استبقاء الرجال) ولما تم الفداء نزلت هذه الآية الكريمة تعاتبهم أشد العتاب فيقول تعالى { ما كان لنبي } أي ما صح منه ولا كان ينبغي له أن يكون له أسرى حرب يبقيهم ليفاديهم أو يمن عليهم مجانا { حتى يثخن في الأرض } أرض العدو قتلا وتشريدا فإذا عرف بالبأس والشدة وهابه الأعداء جاز له الأسر أي الإبقاء على الأسرى أحياء ليمن عليهم بلا مقابل أو ليفاديهم بالمال، وقوله تعالى { تريدون عرض الدنيا } هذا من عتابه تعالى لهم، إذ ما فادوا الأسرى إلا لأنهم يريدون حطام الدنيا وهو المال، وقوله { والله يريد الآخرة } فشتان ما بين مرادكم ومراد ربكم لكم تريدون العرض الفاني والله يريد لكم النعيم الباقي، وقوله تعالى { والله عزيز حكيم } أي غالب على أمره ينصر من توكل عليه وفوض أمره إليه، حكيم في تصرفاته فلا يخذل أولياءه وينصره أعداءه فعليكم أيها المؤمنون بطلب مرضاته بترك ما تريدون لما يريد هو سبحانه وتعالى، وقوله تعالى { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيمآ أخذتم عذاب عظيم } أي لولا أنه مضى علم الله تعالى بحلية الغنائم لهذه الأمة وكتب ذلك في اللوح المحفوظ لكان ينالكم جزاء رضاكم بالمفاداة وأخذ الفدية عذاب عظيم.
وقوله تعالى { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } إذن منه تعالى لأهل بدر أن يأكلوا مما غنموا، وحتى ما فادوا به الأسرى وهي منة منه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى { واتقوا الله } أمر منه عز وجل لهم بتقواه بفعل أوامره وأوامر رسوله وترك نواهيهما، وقوله { إن الله غفور رحيم } إخبار منه تعالى أنه غفور لمن تاب من عباده رحيم بالمؤمنين منهم، وتجلى ذلك في رفع العذاب عنهم حيث غفر لهم وأباح لهم ما رغبوا فيه وأرادوه.
وفي الحديث:
" لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم ".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إرشاد الله تعالى لقادة الأمة الإسلامية في الجهاد أن لا يفادوا الأسرى وأن لا يمنوا عليهم بإطلاقهم إلا بعد أن يخنثوا في أرض العدو قتلا وتشريدا فإذا خافهم العدو ورهبهم عندئذ يمكنهم أن يفادوا الأسرى أو يمنوا عليهم.
2- التزهيد في الرغبة في الدنيا لحقارتها، والترغيب في الآخرة لعظم أجرها.
3- إباحة الغنائم.
4- وجوب تقوى الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.
[8.70-71]
شرح الكلمات:
من الأسرى: أسرى بدر الذين أخذ منهم الفداء كالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
إن يعلم الله في قلوبكم خيرا: أي إيمانا صادقا وإخلاصا تاما.
مما أخذ منكم: من مال الفداء.
وإن يريدوا خيانتك: أي الأسرى.
فقد خانوا الله من قبل: أي من قبل وقوعهم في الأسر وذلك بكفرهم في مكة.
فأمكن منهم: أي أمكنكم أنتم أيها المؤمنون منهم فقتلتموهم وأسرتموهم.
والله عليم حكيم: عليم بخلقه حكيم في صنعه وتدبيره.
معنى الآيتين:
هذه الآية الكريمة نزلت في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه إذ كان يقول هذه الآية نزلت في وذلك أنه بعد أن وقع في الأسر أسلم وأظهر إسلامه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه ما أخذ منه من فدية فأبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فأنزل الله تعالى قوله { يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا } أي إسلاما حقيقيا { يؤتكم خيرا } أي مالا خيرا { ممآ أخذ منكم ويغفر لكم } ذنوبكم التي كانت كفرا بالله ورسوله، ثم حربا على الله ورسوله، { والله غفور } يغفر ذنوب عباده التائبين { رحيم } بعباده المؤمنين فلا يؤاخذهم بعد التوبة عليها بل يرحمهم برحمته في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى { وإن يريدوا خيانتك } أي وإن يرد هؤلاء الأسرى الذين أخذ منهم الفداء ونطقوا بالشهادتين مظهرين إسلامهم خيانتك والغدر بك بإظهار إسلامهم ثم إذا عادوا إلى ديارهم عادوا إلى كفرهم، فلا تبال بهم ولا ترهب جانبهم فإنهم قد خانوا الله من قبل بكفرهم وشركهم { فأمكن منهم } المؤمنين وجعلهم في قبضتهم وتحت إمرتهم، ولو عادوا لعاد الله تعالى فسلطكم عليهم وأمكنكم منهم وقوله تعالى { والله عليم حكيم } أي عليم بنيات القوم وتحركاتهم حكيم فيما يحكم به عليهم ألا فليتقوه عز وجل وليحسنوا إسلامهم ويصدقوا في إيمانهم فذلك خير لهم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- فضل العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنزول الآية في حقه وشأنه.
2- فضل إضمار الخير والنيات الصالحة.
3- إطلاق لفظ الخير على الإسلام والقرآن وحقا هما الخير والخير كله.
4- ما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه خيرا منه.
5- الله جل جلاله: لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب ألا فليتق وليتوكل عليه.
[8.72-75]
شرح الكلمات:
آمنوا: صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله وصدقوا بوعده ووعيده.
وهاجروا: أي تركوا ديارهم والتحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة.
في سبيل الله: أي من أجل أن يعبد الله ولا يعبد معه غيره وهو الإسلام.
آووا: أي آووا المهاجرين فضموهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم.
وإن استنصروكم: أي طلبوا منكم نصرتهم على أعدائهم.
ميثاق: عهد أي معاهدة سلم وعدم اعتداء.
إلا تفعلوه: أي إن لم توالوا المسلمين، وتقاطعوا الكافرين تكن فتنة.
أولوا الأرحام: أي الأقارب من ذوي النسب.
بعضهم أولى ببعض: في التوارث أي يرث بعضهم بعضا.
معنى الآيات:
بمناسبة انتهاء الحديث عن أحداث غزوة بدر الكبرى ذكر تعالى حال المؤمنين في تلك الفترة من الزمن وأنهم مختلفون في الكمال، فقال وقوله الحق { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } فهذا صنف: جمع أهله بين الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس، والصنف الثاني في قوله تعالى { والذين ءاووا ونصروا } أي آووا الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين في ديارهم ونصروهم. فهذان صنفا المهاجرين والأنصار وهما أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة، وسيذكرون في آخر السياق مرة أخرى ليذكر لهم جزاؤهم عند ربهم، وقوله تعالى فيهم { أولئك بعضهم أوليآء بعض } أي في النصرة والموالاة والتوارث إلا أن التوارث نسخ بقوله تعالى في آخر آية من هذا السياق { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } والصنف الثالث من أصناف المؤمنين المذكور في قوله تعالى { والذين آمنوا ولم يهاجروا } أي آمنوا بالله ورسوله والدار الآخرة ثم رضوا بالبقاء بين ظهراني الكافرين فلم يهجروا ديارهم وأموالهم ويلتحقوا بدار الهجرة بالمدينة النبوية، فهؤلاء الناقصون في إيمانهم بتركهم الهجرة، يقول تعالى فيهم لرسوله والمؤمنين { ما لكم من ولايتهم من شيء } فلا توارث ولا موالاة تقتضي النصرة والمحبة حتى يهاجروا إليكم ويلتحقوا بكم، ويستثني تعالى حالة خاصة لهم وهي أنهم إذا طلبوا نصرة المؤمنين في دنيهم فإن على المؤمنين أن ينصروهم وبشرط أن لا يكون الذي اعتدى عليهم وآذاهم فطلبوا النصرة لأجله أن لا يكون بينه وبين المؤمنين معاهدة سلم وترك الحرب ففي هذه الحال على المؤمنين أن يوفوا بعهدهم ولا يغدروا فينصروا أولئك القاعدين عن الهجرة هذا ما دل عليه قوله تعالى { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير } ذيل الكلام بهذه الجملة لإعلام المؤمنين الكاملين كالناقصين بأن الله مطلع على سلوكهم خبير بأعمالهم وأحوالهم فليراقبوه في ذلك حتى لا يخرجوا عن طاعته وقوله تعالى في الآية [73] { والذين كفروا بعضهم أوليآء بعض } يتناصرون ويتوارثون. وبناء على هذا يقول تعالى { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } أي إن لا تفعلوا ما أمرتم به من مولاة المؤمنين محبة ونصرة وولاء، ومن معاداة الكافرين بغضا وخذلانا لهم وحربا عليهم تكن فتنة عظيمة لا يقادر قدرها وفساد كبير لا يعرف مداه، والفتنة الشرك والفساد المعاصي وقوله تعالى في الآية [74] { والذين ءامنوا وهاجروا وجهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا } هذا هو الصنف الأول أعيد ذكره ليذكر له جزاؤه عند ربه بعد تقرير إيمانهم وتأكيده فقال تعالى فيهم { أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة } أي لذنوبهم بسترها وعدم المؤاخذة عليها { ورزق كريم } ألا وهو نعيم الجنة في جوار ربهم سبحانه وتعالى والصنف الرابع من أصناف المؤمنين ذكره تعالى بقوله { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } فهذا الصنف أكمل من الصنف الثالث ودون الأول والثاني، إذ الأول والثاني فازوا بالسبق، وهؤلاء جاءوا من بعدهم ولكن لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم ألحقهم الله تعالى بالسابقين فقال { فأولئك منكم } وقوله تعالى { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } أي في الإرث وبها نسخ التوارث بالهجرة والمعاقدة، واستقر الإرث بالمصاهرة والولاء، والنسب إلى يوم القيامة، وقوله تعالى { في كتاب الله } أي في حكمه وقضائه المدون في اللوح المحفوظ، وقوله { إن الله بكل شيء عليم } هذه الجملة تحملة الوعد والوعيد الوعد لأهل الإيمان والطاعة، والوعيد لأهل الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان تفاوت المؤمنين في كمالاتهم وعلو درجاتهم عند ربهم.
2- أكمل المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والهجرة والجهاد وسبقوا لذلك وهم المهاجرون الأولون والذين جمعوا بين الإيمان والإيواء والنصرة والجهاد وهم الأنصار.
3- دون ذلك من آمنوا وهاجروا وجاهدوا ولكن بعد صلح الحديبية.
4- وأدنى أصناف المؤمنين من آمنوا ولم يهاجروا وهؤلاء على خطر عظيم.
5- وجوب نصرة المؤمنين بموالاتهم ومحبتهم ووجوب معاداة الكافرين وخذلانهم وبغضهم.
6- نسخ التوارث بغير المصاهرة والنسب والولاء.
[9 - سورة التوبة]
[9.1-4]
شرح الكلمات:
براءة: أي هذه براءة بمعنى تبرؤ وتباعد وتخلص.
عاهدتم: أي جعلتم بينكم وبينهم عهدا وميثاقا.
فسيحوا في الأرض: أي سيروا في الأرض طالبين لكم الخلاص.
مخزي الكافرين: مذل الكافرين ومهينهم.
وأذان من الله: إعلام منه تعالى.
يوم الحج الأكبر: أي يوم عيد النحر.
لم ينقصوكم شيئا: أي من شروط المعاهدة وبنود الاتفاقية.
ولم يظاهروا عليكم أحدا: أي لم يعينوا عليكم أحدا.
معنى الآيات:
هذه السورة القرآنية الوحيدة التي خلت من البسملة لأنها مفتتحة بآيات عذاب فتنافى معها ذكر الرحمة، وهذه السورة من آخر ما نزل من سور القرآن الكريم وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وبعض الصحابة في حج سنة تسع يقرأون هذه الآيات في الموسم، وهي تعلم المشركين أن من كان له عهد مطلق بلا حد شهر أو سنة مثلا أو كان له عهد دون أربعة أشهر، أو كان له عهد فوق أربعة أشهر ونقضه تعلمهم بأن عليهم أن يسيحوا في الأرض بأمان كامل مدة أربعة أشهر فإن أسلموا فهو خير لهم وإن خرجوا من الجزيرة فإن لهم ذلك وإن بقوا كافرين فسوف يؤخذون ويقتلون حيثما وجدوا في ديار الجزيرة التي أصبحت دار إسلام بفتح مكة ودخول أهل الطائف في الإسلام هذا معنى قوله تعالى { برآءة من الله ورسوله } أي واصلة { إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } تبدأ من يوم الإعلان عن ذلك وهو يوم العيد الأضحى. وقوله تعالى { واعلموا أنكم غير معجزي الله } أي غير فائتيه ولا هاربين من قهره وسلطانه عليكم هذا أولا، وثانيا { وأن الله مخزي الكافرين } أي مذلهم وقوله تعالى { وأذان من الله ورسوله } أي محمد صلى الله عليه وسلم والأذان الإعلان والإعلام، { إلى الناس } وهم المشركون { يوم الحج الأكبر } أي يوم عيد الأضحى حيث تفرغ الحجاج للاقامة بمنى للراحة والاستجمام قبل العودة إلى ديارهم، وصورة الإعلان عن تلك البراءة هي قوله تعالى { أن الله بريء من المشركين ورسوله } أي كذلك بريء من المشركين وعليه { فإن تبتم } أيها المشركون إلى الله تعالى بتوحيده والإيمان برسوله وطاعته وطاعة رسوله { فهو خير لكم } من الإصرار على الشرك والكفر والعصيان، { وإن توليتم } أي أعرضتم عن الإيمان والطاعة { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } بحال من الأحوال فلن تفوتوه ولن تهربوا من سلطانه فإن الله تعالى لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب ثم قال تعالى لرسوله { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } أي أخبرهم به فإنه واقع بهم لا محالة إلا أن يتوبوا وقوله تعالى في الآية الرابعة [4] { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم } من شروط المعاهدة { شيئا ولم يظاهروا } أي لم يعاونوا { عليكم أحدا } لا برجال ولا بسلاح ولا حتى بمشورة ورأي فهؤلاء لم يبرأ الله تعالى منهم ولا رسوله، وعليه { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } أي مدة أجلهم المحدد بزمن معين فوفوا لهم ولا تنقضوا لهم عهدا إلى أن ينقضوه هم بأنفسهم، أو تنتهي مدتهم وحينئذ إما الإسلام وإما السيف إذ لم يبق مجال لبقاء الشرك في دار الإسلام وقبته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز عقد المعاهدات بين المسلمين والكافرين إذا كان ذلك لدفع ضرر محقق عن المسلمين، أو جلب نفع للإسلام والمسلمين محققا كذلك.
2- تحريم الغدر والخيانة، ولذا كان إلغاء المعاهدت علنيا وإمداد أصحابها بمدة ثلث سنة يفكرون في أمرهم ويطلبون الأصلح لهم.
3- وجوب الوفاء بالمعاهدات ذات الآجال إلى أجلها إلا أن ينقضها المعاهدون.
4- فضل التقوى وأهلها وهو اتقاء سخط الله بفعل المحبوب له تعالى وترك المكروه.
[9.5-8]
شرح الكلمات:
فإذا انسلخ الأشهر الحرم: انقضت وخرجت الأشهر الأربعة التي أمنتم فيها المشركين.
حيث وجدتموهم: أي في أي مكان لقيتموهم في الحل أو الحرم.
وخذوهم: أي أسرى.
وأحصروهم: أي حاصروهم حتى يسلموا أنفسهم.
واقعدوا لهم كل مرصد: أي اقعدوا لهم في طرقاتهم وارصدوا تحركاتهم.
فإن تابوا: أي آمنوا بالله ورسوله.
فخلوا سبيلهم: أي اتركوهم فلا حصار ولا مطاردة ولا قتال.
استجارك: أي طلب جوارك أي حمايتك.
مأمنه: أي المكان الذي يأمن فيه.
فما استقاموا لكم: أي لم ينقضوا عهدهم ولم يخلوا بالاتفاقية.
وإن يظهروا عليكم: أي يغلبوكم.
لا يرقبوا فيكم: أي لا يراعوا فيكم ولا يحترموا.
إلا ولا ذمة: أي لا قرابة، ولا عهدا فالإل: القرابة والذمة: العهد.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إعلان الحرب العامة على المشركين تطهيرا لأرض الجزيرة التي هي دار الإسلام وحوزته من بقايا الشرك والمشركين، فقال تعالى لرسوله والمؤمنين { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } أي إذا انقضت وخرجت الأشهر الحرم التي أمنتم فيها المشركين الذين لا عهد لهم أولهم عهد ولكن دون أربعة أشهر أو فوقها وبدون حد محدود { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } في الحل والحرم سواء { وخذوهم } أسرى { واحصروهم } حتى يستسلموا، { واقعدوا لهم كل مرصد } أي سدوا عليهم الطرق حتى يقدموا أنفسهم مسلمين أو مستسلمين وقوله تعالى { فإن تابوا } أي من الشرك وحربكم { وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة فخلوا سبيلهم } إذ أصبحوا مسلمين مثلكم. وقوله { إن الله غفور رحيم } أي أن الله سيغفر لهم ويرحمهم بعد إسلامهم، لأنه تعالى غفور رحيم، هذا ما دلت عليه الآية الأولى [5] أما الآية الثانية [6] فقد أمر تعالى رسوله أن يجير من طلب جواره من المشركين حتى يسمع كلام الله منه صلى الله عليه وسلم ويتفهم دعوة الإسلام ثم هو بالخيار إن شاء أسلم وذلك خير له وإن لم يسلم رده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكان يأمن فيه من المسلمين أن يقتلوه.
وهو معنى قوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } فلذا قبل منهم ما طلبوه من الجوار حتى يسمعوا كلام الله تعالى إذ لو علموا ما رغبوا عن التوحيد إلى الشرك. وقوله تعالى في الآية الثالثة [7] { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } هذا الاستفهام للنفي مع التعجب أي ليس لهم عهد أبدا وهم كافرون غادرون، وقوله تعالى { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } هؤلاء بعض بني بكر بن كنانة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام صلح الحديبية وهم عند الحرم فهؤلاء لهم عهد وذمة ما استقاموا على عهدهم فلم ينقضوه.
فإن استقاموا استقام لهم المسلمون ولم يقتلوهم وفاء بعهدهم وتقوى لله تعالى لأنه تعالى يكره الغدر ويحب المتقين لذلك. وقوله تعالى { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة } الاستفهام للتعجب أي كيف يكون للمشركين عهد يفون به لكم وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم في معركة، { لا يرقبوا فيكم } أي لا يراعوا الله تعالى ولا القرابة ولا الذمة بل يقتلوكم قتلا ذريعا، وقوله تعالى { يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم } إخبار من الله تعالى عن أولئك المشركين الناكثين للعهد الغادرين بأنهم يحاولون إرضاء المؤمنين بالكذب بأفواههم، وقلوبهم الكافرة تأبى ذلك الذي يقولون بألسنتهم أي فلا تعتقده ولا تقره، { وأكثرهم فاسقون } لا يعرفون الطاعة ولا الالتزام لا بعهد ولا دين، والجملة فيها تهييج للمسلمين على قتال المشركين ومحاصرتهم وأخذهم تطهيرا لأرض الجزيرة منهم قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بالعهود ما لم ينقضها المعاهدون.
2- تقرير مبدأ الحزم في القتال والضرب بشدة.
3- وجوب تطهير الجزيرة من كل شرك وكفر لأنها دار الإسلام.
4- إقام الصلاة شرط في صحة الإيمان فمن تركها فهو كافر غير مؤمن.
5- احترام الجوار، والإقرار به، وتأمين السفراء والممثلين لدولة كافرة.
6- قبول طلب كل من طلب من الكافرين الإذن له بدخول بلاد الإسلام ليتعلم الدين الإسلامي.
7- القرآن كلام الله تعالى حقا بحروفه ومعانيه لقوله { حتى يسمع كلام الله } الذي يتلوه عليه صلى الله عليه وسلم.
8- وجوب مراقبة الله تعالى ومراعاة القرابة واحترام العهود.
[9.9-12]
شرح الكلمات:
اشتروا بآيات الله: أي باعوا آيات الله وأخذوا بدلها الكفر.
فصدوا عن سبيله: أي أعرضوا عن سبيل الله التي هي الإسلام كما صدوا غيرهم أيضا.
ساء: أي قبح.
لا يرقبون: أي لا يراعون.
إلا: الإل: الله، والقرابة والعهد وكلها صالحة هنا.
فإن تابوا: أي من الشرك والمحاربة.
نكثوا: أي نقضوا وغدروا.
وطعنوا في دينكم: أي انتقدوا الإسلام في عقائده أو عباداته ومعاملاته.
أئمة الكفر: أي رؤساء الكفر المتبعين والمقلدين في الشرك والشر والفساد.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المشركين، وبيان ما يلزم اتخاذه حيالهم فأخبر تعالى عنهم بقوله في الآية [9] { اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا } أي باعوا الإيمان بالكفر فصدوا أنفسهم كما صدوا غيرهم من أتباعهم عن الإسلام الذي هو منهج حياتهم وطريق سعادتهم وكمالهم. فلذا قال تعالى مقبحا سلوكهم { إنهم سآء ما كانوا يعملون } كما أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يراعون في أي مؤمن يتمكنون منه الله عز وجل ولا قرابة بينه وبينهم، ولا معاهدة تربطهم مع قومه، فقال تعالى { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون } ووصفه تعالى إياهم بالاعتداء دال على أنهم لا يحترمون عهودا ولا يتقون الله تعالى في شيء، وذلك لظلمة نفوسهم من جراء الكفر والعصيان، فلذا على المسلمين قتلهم حيث وجدوهم وأخذهم أسرى وحصارهم وسد الطرق عنهم حتى يلقوا السلاح ويسلموا لله، أو يستسلموا للمؤمنين اللهم إلا أن يتوبوا بالإيمان والدخول في الإسلام كما قال تعالى { فإن تابوا وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة فإخونكم في الدين } وقوله تعالى { ونفصل الأيت لقوم يعلمون } أي نبين الآيات القرآنية المشتملة على الحجج والبراهين على توحيد الله تعالى وتقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأحكام الشرعية في الحرب والسلم كما في هذا السياق وقوله { لقوم يعلمون } لأن الذين لا يعلمون من أهل الجهالات لا ينتفعون بها لظلمة نفوسهم وفساد عقولهم بضلال الشرك والأهواء وقوله تعالى في الآية الرابعة [12] { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم } يريد تعالى أولئك المعاهدين من المشركين إذ هم نكثوا أيمانهم التي أكدوا بها عهودهم فحلوا ما أبرموا ونقضوا ما أحكموا من عهد وميثاق وعابوا الإسلام وطعنوا فيه فهم إذا أئمة الكفر ورؤساء الكافرين فقاتلوهم بلا هوادة، ولا تراعوا لهم أيمانا حلفوها لكم فإنهم لا أيمان لهم. قاتلوهم رجاء أن ينتهوا من الكفر والخيانة والغدر فيوحدوا ويسلموا ويصبحوا مثلكم أولياء الله لا أعداءه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ذم سلوك الكافرين وتصرفاتهم في الحياة وحسبهم أن باعوا الحق بالباطل، واشتروا الضلالة بالهدى.
2- من كان الاعتداء وصفا له لا يؤمن على شيء، ولا يوثق فيه في شيء، لفساد ملكته النفسية.
3- أخوة الإسلام تثبت بثلاثة أمور التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
4- الطعن في الدين ردة وكفر موجب للقتل والقتال.
[9.13-16]
شرح الكلمات:
ألا: أداة تحضيض.
نكثوا أيمانهم: نقضوها وحلوها فلم يلتزموا بها.
هموا بإخراج الرسول: من دار الندوة إذ عزموا على واحدة من ثلاث الحبس أو النفي أو القتل.
أول مرة: أي في بدر أو في ماء الهجير حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة.
ويخزهم: أي يذلهم ويهينهم.
ويشف صدور: أي يذهب الغيظ الذي كان بها على المشركين الظالمين.
أن تتركوا: أي بدون امتحان، بالتكاليف كالجهاد.
وليجه: أي دخيله وهي الرجل يدخل في القوم وهو ليس منهم ويطلعونه على أسرارهم وبواطن أمورهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المشركين وما يلزم إزاءهم من إجراءات فإنه بعد أن أعطاهم المدة المذكورة وأمنهم فيها وهي أربعة أشهر، وقد انسلخت فلم يبق إلا قتالهم وأخذهم وإنهاء عصبة المشركين وآثارها في ديار الله فقال تعالى حاضا المؤمنين مهيجا لهم { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } وهذه خطيئة كافية في وجوب قتالهم، وثانية همهم بإخراج الرسول من بين أظهرهم من مكة وثالثة بدؤهم إياكم بالقتال في بدر، إذ عيرهم نجت وأبوا إلا أن يقاتلوكم، إذا فلم لا تقاتلونهم؟ أتتركون قتالهم خشية منهم وخوفا إن كان هذا { فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } ، لأن ما لدى الله تعالى من العذاب ليس لدى المشركين فالله أحق أن يخشى، هذا ما تضمنته الآية الأولى [13] وهي قوله تعالى { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } وفي الآية الثانية [14] يقول تعالى: { قاتلوهم } وهو أمر صريح بالقتال، وبذكر الجزاء المترتب على قتالهم فيقول { يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين } وهم خزاعة تشفى صدورهم من الغيظ على بني بكر الذين قاتلوهم وأعانتهم قريش عليهم بعد صلح الحديبية، وقوله تعالى: { ويتوب الله على من يشآء } هذه وإن لم تكن جزاء للأمر بالقتال كالأربعة التي قبلها. ولكن سنة الله تعالى أن الناس إذا رأوا انتصار أعدائهم عليهم في كل معركة يميلون إليهم ويقبلون دينهم وما هم عليه من صفات فقتال المؤمنين للكافرين وانتصارهم عليهم يتيح الفرصة لكثير من الكافرين فيسلمون وهو معنى قوله تعالى { ويتوب الله على من يشآء } وقوله { والله عليم حكيم } تقرير للأمر بالقتال والنتائج الطيبة المترتبة عليه آخرها أن يتوب الله على من يشاء. وقوله تعالى في الآية [16] الأخيرة { أم حسبتم أن تتركوا } أي بدون امتحان. وأنتم خليط منكم المؤمن الصادق ومنكم المنافق الكاذب، من جملة ما كان يوحى به المنافقون التثبيط عن القتال بحجة أن مكة فتحت وأن الإسلام عز فما هناك حاجة إلى مطاردة فلول المشركين، وهم يعلمون أن تكتلات يقودها الساخطون على الإسلام حتى من رجالات قريش يريدون الانقضاض على المسلمين وإهدار كل نصر تحقق لهم، وهذا المعنى ظاهر من سياق الآية { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } إذ هناك من اتخذوا من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة يطلعونها على أمور المسلمين، ويسترون عليهم وهي بينهم دخلية، ويقرر هذه الجملة التي ختمت بها الآية وهي قوله تعالى { والله خبير بما تعملون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية استعمال أسلوب التهييج والإثارة للجهاد.
2- وجوب خشية الله تعالى بطاعته وترك معصيته.
3- لازم الإيمان الشجاعة فمن ضعفت شجاعته ضعف إيمانه.
4- من ثمرات القتال دخول الناس في دين الله تعالى.
5- الجهاد عملية تصفية وتطهير لصفوف المؤمنين وقلوبهم أيضا.
[9.17-18]
شرح الكلمات:
ما كان للمشركين: أي ليس من شأنهم أو مما يتأتى لهم.
حبطت أعمالهم: أي بطلت فلا يثابون عليها ولا ينجحون فيها.
يعمروا مساجد الله: أي بالعبادة فيها، وصيانتها وتطهيرها.
ولم يخش إلا الله: أي لم يخف أحدا غير الله تعالى.
فعسى: عسى من الله تعالى كما هي هنا تفيد التحقيق أي هدايتهم محققة.
المهتدين: أي إلى سبيل النجاة من الخسران والظفر بالجنان.
معنى الآيتين:
لا شك أن هناك من المشركين من ادعى أنه يعمر المسجد الحرام بالسدانة والحجابة والسقاية وسواء كان المدعى هذا العباس يوم بدر أو كان غيره فإن الله تعالى أبطل هذا الادعاء وقال { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } أي لا ينبغي لهم ذلك ولا يصح منهم، وكيف وهم كفار شاهدون على أنفسهم بالكفر ، وهل الكافر بالله يعمر بيته وبماذا يعمره؟ وإذا سألت اليهودي ما أنت؟ يقول يهودي، وإذا سألت النصراني، ما أنت؟ يقول نصراني، وإذا سألت الوثني ما أنت؟ يقول مشرك فهذه شهادتهم على أنفسهم بالكفر، وقوله تعالى { أولئك } أي البعداء في الكفر والضلال { حبطت أعمالهم } أي بطلت وضاعت لفقدها الإخلاص فيها لله تعالى { وفي النار هم خالدون } لا يخرجون منها متى دخولها أبدا، إذ ليس لهم من العمل ما يشفع لهم بالخروج منها. ثم قرر تعالى الحقيقة وهي أن الذين يعمرون مساجد الله حقا وصدقا هم المؤمنون الموحدون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويخشون الله تعالى ولا يخشون سواه هؤلاء هم الجديرون بعمارة المساجد بالصلاة والذكر والتعلم للعلم الشرعي فيها زيادة على بنائها وتطهيرها وصيانتها هؤلاء جديرون بالهداية لكل كمال وخير يشهد لهذا قوله تعالى { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } إلى ما هو الحق والصواب، وإلى سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة دخول الكافر المساجد إلا لحاجة وبإذن من المسلمين.
2- فضيلة عمارة المساجد بالعبادة فيها وتطهيرها وصيانتها.
3- فضيلة المسلم وشرفه، إذ كل من يسأل عن دينه يجيب بجواب هو الكفر إلا المسلم فإنه يقول: مسلم أي لله تعالى فهو إذا المؤمن وغيره الكافر.
4- وجوب الإيمان بالله واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشية من الله تعالى.
5- أهل الأمن والنجاة من النار هم أصحاب الصفات الأربع المذكورة في الآية.
[9.19-22]
شرح الكلمات:
سقاية الحاج: مكان يوضع فيه الماء في المسجد الحرام ويسقى منه الحجاج مجانا.
وعمارة المسجد الحرام: هنا عبارة عن بنائه وصيانته وسدانة البيت فيه.
لا يستوون عند الله: إذ عمارة المسجد الحرام مع الشرك والكفر لا تساوى شيئا.
والله لا يهدي القوم الظالمين: أي المشركين لا يهديهم لما فيه كمالهم وسعادتهم.
ورضوان: أي رضا الله عز وجل عنهم.
نعيم مقيم: أي دائم لا يزول ولا ينقطع.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الرد على من رأى تفضيل عمارة المسجد الحرام بالسقاية والحجابة والسدانة على الإيمان والهجرة والجهاد فقال تعالى موبخا لهم { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون } في حكم الله وقضائه بحال من الأحوال، والمشركون ظالمون كيف يكون لعمارتهم للمسجد الحرام وزن أو قيمة تذكر { والله لا يهدي القوم الظالمين } بعد هذا التوبيخ والبيان للحال أخبر تعالى أن { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } هم { أعظم درجة } ممن آمنوا ولم يستكملوا هذه الصفات الأربع، وأخبر تعالى أنهم هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة، وأعظم من هذا ما جاء في قوله { يبشرهم ربهم برحمة منه } وهي الجنة { ورضوان } منه تعالى وهو أكبر نعيم { وجنات } أي بساتين في الملكوت الأعلى { لهم فيها نعيم مقيم } لا يحول ولا يزول وأنهم خالدون فيها لا يخرجون منها أبدا، { إن الله عنده أجر عظيم } لا يقادر قدره جعلنا الله تعالى منهم وحشرنا في زمرتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة، وأقربهم من الله منزلة من جمع الصفات الثلاث المذكورة في الآية [20] وهي الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.
2- فضل الهجرة والجهاد.
3- تفاوت أهل الجنة في علو درجاتهم.
4- حرمان الظالمين المتوغلين في الظلم من هداية الله تعالى.
[9.23-24]
شرح الكلمات:
أولياء: جمع ولي وهو من تتولاه بالمحبة والنصرة ويتولاك بمثل ذلك.
استحبوا: أي أحبوا الكفر على الإيمان.
الظالمون: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن أحب من لا تجوز محبته فقد وضع شيئا في غير موضعه فهو ظالم.
وعشيرتكم: أي قرابتكم من النسب كالأعمام الأباعد وأبنائهم.
اقترفتموها: أي اكتسبتموها.
كسادها: بوارها وعدم رواجها.
فتربصوا: أي انتظروا.
حتى يأتي الله بأمره: أي بعقوبة هذه المعصية يوم فتح مكة.
معنى الآيتين:
هذا إنذار الله تعالى للمؤمنين ينهاهم فيه عن اتخاذ من كفر من آبائهم وإخوانهم أولياء لهم يوادونهم ويناصرونهم ويطلعونهم على أسرار المسلمين وبواطن أمورهم. فيقول تعالى: { يأيها الذين آمنوا } أي بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده { لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان } أي اثروا الكفر والإصرار عليه على الإيمان بالله ورسوله ثم يهددهم إن لم يمتثلوا أمره ويفاصلوا آباءهم وإخوانهم المستحبين للكفر على الإيمان فيقول { ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } ووجه الظلم ظاهر وهو أنهم وضعوا المحبة موضع البغضاء، والنصرة موضع الخذلان. والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم، وفي هذا العدول عن خطابهم مباشرة إلى الواسطة ما يشعر بالغضب وعدم الرضى، والتهديد والوعيد { قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } فتركتم الهجرة والجهاد لذلك { فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } أي انتظروا أمر الله وهو فتح مكة عليكم وإنزال العقوبة بكم، { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي لا يوفقهم لسبيل نجاتهم وسعادتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء يوادون ولو كانوا من أقرب الأقرباء كالأب والابن والأخ.
2- من الظلم الفظيع موالاة من عادى الله ورسوله والمؤمنين.
3- فرضية محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، ومحبة سائر محاب الله تعالى وكره سائر مكاره الله تعالى من العقائد والأحوال والأعمال الذوات والصفات.
4- حرمان أهل الفسق المتوغلين فيه من هداية الله تعالى إلى ما يكملهم ويسعدهم.
[9.25-28]
شرح الكلمات:
في مواطن: المواطن جمع موطن بمعنى الوطن وهو محل إقامة الإنسان.
حنين: واد على بعد أميال يسيرة من الطائف.
إذ أعجبتكم كثرتكم: أي كثرة عددكم حتى قال من قال: لن نغلب اليوم من قلة.
فلم تغن عنكم شيئا: أي لم تجز عنكم شيئا من الإجزاء إذا انهزمتهم في أول اللقاء.
وضاقت عليكم الأرض: أي لم تعرفوا أين تذهبون، وكيف تتصرفون كأنكم محصورون في مكان ضيق.
بما رحبت: أي على رحابتها وسعتها.
أنزل الله سكينته: أي الطمأنينة في نفوسهم، فذهب القلق والاضطراب.
وأنزل جنودا: أي من الملائكة.
نجس: أي ذوو نجس وذلك لخبث أرواحهم بالشرك.
بعد عامهم هذا: عام تسعة من الهجرة.
عيلة: أي فقرا وفاقة وحاجة.
معنى الآيات:
لم حرم الله على المؤمنين موالاة الكافرين ولو كانوا أقرباءهم وحذرهم من القعود عن الهجرة والجهاد، وكان الغالب فيمن يقعد عن ذلك إنما كان لجبنه وخوفه أخبرهم تعالى في هذه الآيات الثلاث أنه ناصرهم ومؤيدهم فلا يقعد بهم الجبن والخوف عن أداء الواجب من الهجرة والجهاد فقال تعالى { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } كبدر والنضير وقريظة والفتح وغيرها { ويوم حنين } حين قاتلوا قبيلة هوازن مذكرا إياهم بهزيمة أصابت المؤمنين نتيجة خطأ من بعضهم وهو الاغترار بكثرة العدد إذ قال من قال منهم: لن نغلب اليوم من قلة إذ كانوا اثني عشر ألفا وكان عدوهم أربعة آلاف فقط، إنهم ما إن توغلوا بين جنبتي الوادي حتى رماهم العدو بوابل من النبل والسهام فلم يعرفوا كيف يتصرفون حتى ضاقت عليهم الأرض على سعتها وولوا مدبرين هاربين ولم يثبت إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان على بغلته البيضاء المسماة (بالدلدل) والعباس إلى جنبه وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه، ثم نادى منادي رسول الله: أن يا أصحاب سورة البقرة هلموا أصحاب السمرة (شجرة بيعة الرضوان) هلموا. فتراجعوا إلى المعركة ودارت رحاها و { أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا } تلامس القلوب وتنفخ فيها روح الشجاعة والصبر والثبات، فصبروا وقاتلوا وما هي إلا ساعة وإذا بالعدو سبي بين أيديهم ولم يحصل لهم أن غنموا يوما مثل ما غنموا هذا اليوم إذ بلغ عدد الإبل اثني عشر ألف بعير، ومن الغنم ما لا يحصى ولا يعد. بهذا جاء قوله تعالى: { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } أي هاربين من العدو { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا } أي من الملائكة { لم تروها وعذب الذين كفروا } أي هوازن { وذلك } أي القتل والسبي { جزآء الكافرين } بالله ورسوله.
وقوله تعالى { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشآء } أي بعد قتالكم للكافرين وقتلكم من تقتلون يتوب الله على من يشاء ممن بقوا أحياء بعد الحرب { والله غفور رحيم } فيغفر لمن يتوب عليه من المشركين ماضي ذنوبه من الشرك وسائر الذنوب ويرحمه بأن يدخله الجنة مع من يشاء من المؤمنين الصادقين في إيمانهم هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث. أما الآية الرابعة { يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } فإنه تعالى أمر المؤمنين بأن يمنعوا من دخول المسجد الحرام كل مشرك ومشركة لأن المشرك نجس الظاهر والباطن فلا يحل دخولهم إلى المسجد الحرام وهو مكة والحرم حولها، ومن يومئذ لم يدخل مكة مشرك، وقوله تعالى { وإن خفتم عيلة } أي فقرا لأجل انقطاع المشركين عن الموسم حيث كانوا يجلبون التجارة يبيعون ويشترون فيحصل نفع للمسلمين { فسوف يغنيكم الله من فضله } فامنعوا المشركين ولا تخافوا الفقر وقوله تعالى { إن شآء إن الله عليم حكيم } استثناء منه تعالى حتى تبقى قلوب المؤمنين متعلقة به سبحانه وتعالى راجية خائفة غير مطمئنة غافلة، وكونه تعالى عليما حكيما يرشح المعنى المذكور فإن ذا العلم والحكمة لا يضع شيئا إلا في موضعه فلا بد لمن أراد رحمة الله أو فضل الله أن يجتهد أن يكون أهلا لذلك، بالإيمان والطاعة العامة والخاصة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة العجب بالنفس والعمل إذ هو أي العجب من العوائق الكبيرة عن النجاح.
2- بيان إفضال الله تعالى وإكرامه لعباده المؤمنين.
3- بيان الحكمة من القتال في سبيل الله تعالى.
4- تقرير نجاسة الكافر المعنوية.
5- منع دخول المشرك الحرم المكي كائنا من كان بخلاف باقي المساجد فقد يؤذن للكافر لمصلحة أن يدخل بإذن المسلمين.
6- لا يمنع المؤمن من امتثال أمر ربه الخوف من الفاقة والفقر فإن الله تعالى تعهد بالإغناء إن شاء.
[9.29]
شرح الكلمات:
لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر: أي إيمانا صحيحا يرضاه الله تعالى لموافقة الحق والواقع.
ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله: أي كالخمر والربا وسائر المحرمات.
ولا يدينون دين الحق: أي الإسلام إذ هو الدين الذي لا يقبل دينا سواه.
من الذين أوتوا الكتاب: أي اليهود والنصارى.
الجزية: أي الخراج المعلوم الذي يدفعه الذمي كل سنة.
عن يد وهم صاغرون: أي يقدمونه بأيديهم لا ينيبون فيه غيرهم، وهم صاغرون: أي أذلاء منقادون لحكم الإسلام هذا.
معنى الآية الكريمة:
لما أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين حتى يتوبوا من الشرك ويوحدوا ويعبدوا الله تعالى بما شرع أمر رسوله في هذه الآية والمؤمنين بقتال أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وجعل إعطاء الجزية غاية لنهاية القتال، لا الإسلام لأن الإسلام يعرض أولا على أهل الكتاب فإن قبلوه فذاك وإن رفضوه يطلب منهم الدخول في ذمة المسلمين وحمايتهم تحت شعار الجزية وهي رمز دال على قبولهم حماية المسلمين وحكمهم بشرع الله تعالى فإذا أعطوها حقنوا دماءهم وحفظوا أموالهم، وأمنوا في حياتهم المادية والروحية، هذا ما تضمنته الآية الكريمة: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وإن قيل اليهود والنصارى يؤمنون بالله وباليوم الآخر فكيف نفت الآية عنهم ذلك؟ والجواب أن اليهود في إيمانهم بالله مشبهة مجسمة يصفون الله تعالى بصفات تعالى الله عنها علوا كبيرا، والنصارى يعتقدون أن الله حل في المسيح، وإن الله ثالث ثلاثة والله ليس كذلك فهم إذا لا يؤمنون بالله تعالى كما هو الله الإله الحق، فلذا إيمانهم باطل وليس بإيمان يضاف إلى ذلك أنهم لو آمنوا بالله لآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولو آمنوا باليوم الآخر لأطاعوا الله ورسوله لينجوا من عذاب اليوم الآخر وليسعدوا فيه بدخول الجنة فلما لم يؤمنوا ولم يعملوا كانوا حقا كافرين غير مؤمنين، وصدق الله العظيم حيث نفى عنهم الإيمان به وباليوم الآخر، والله أعلم بخلقه من أنفسهم.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- وجوب قتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يدخلوا في حكم الإسلام وذلك من أجل إعدادهم للإسلام ليكملوا عليه ويسعدوا به.
2- الإيمان غير الصحيح لا يعتبر إيمانا منجيا ولا مسعدا.
3- استباحة ما حرم الله من المطاعم والمشارب والمناكح كفر صريح.
4- مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب وهي مقدرة في كتب الفقه مبينة وهي بحسب غنى المرء وفقره وسعته وضيقه.
[9.30-33]
شرح الكلمات:
عزير: هو الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، واليهود يسمونه: عزرا.
المسيح: هو عيسى بن مريم عليهما السلام.
يضاهئون: أي يشابهون.
قول الذين كفروا: أي من آبائهم وأجدادهم الماضين.
قاتلهم الله: أي لعنهم الله لأجل كفرهم.
أنى يؤفكون: أي كيف يصرفون عن الحق.
أحبارهم ورهبانهم: الأحبار جمع حبر: علماء اليهود، والرهبان جمع راهب عابد النصارى.
أربابا من دون الله: أي آلهة يشرعون لهم فيعملون بشرائعهم من حلال وحرام.
نور الله: أي الإسلام لأنه هاد إلى الإسعاد والكمال في الدارين.
بأفواههم: أي بالكذب عليه والطعن فيه وصرف الناس عنه.
رسوله: محمدا صلى الله عليه وسلم.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب لكفرهم وعدم إيمانهم الإيمان الحق المنجي من النار ذكر في هذه الآيات الثلاث ما هو مقرر لكفرهم ومؤكد له فقال { وقالت اليهود عزير ابن الله } ونسبة الولد إلى الله تعالى كفر بجلاله وكماله { وقالت النصارى المسيح ابن الله } ونسبه الولد إليه تعالى كفر به عز وجل وبماله من جلال وكمال وقوله تعالى: { ذلك قولهم بأفواههم } أي ليس له من الواقع شيء إذ ليس لله تعالى ولد، وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة، وإنما ذلك قولهم بأفواههم فقط { يضاهئون } أي يشابهون به { قول الذين كفروا من قبل } وهم اليهود الأولون وغيرهم وقوله تعالى { قاتلهم الله أنى يؤفكون } دعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله تعالى وقوله { أنى يؤفكون } أي كيف يصرفون عن الحق ويبعدون عنه بهذه الصورة العجيبة وقوله { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } هذا دليل آخر على كفرهم وشركهم إذ قبولهم قول علمائهم وعبادهم والإذعان له والتسليم به حتى أنه ليحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه ، شرك وكفر والعياذ بالله، وقوله { والمسيح ابن مريم } أي اتخذه النصارى ربا وإلها، وقوله تعالى { ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } أي لم يأمرهم أنبياؤهم كموسى وعيسى وغيرهما إلا بعبادة الله تعالى وحده لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله { سبحانه عما يشركون } نزه تعالى نفسه عن شركهم. وقوله تعالى { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفوههم } أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله الذي هو الإسلام بأفواههم بالكذب والافتراء، والعيب والانتقاص، { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكفرون } ، وقد فعل فله الحمد وله المنة، وأصبح الإسلام الظاهر على الأديان كلها، هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآية الرابعة [33] فقد أخبر تعالى أنه { هو الذي أرسل رسوله } أي محمدا { بالهدى } وهو القرآن { ودين الحق } الذي هو الإسلام، وقوله { ليظهره } أي الدين الحق الذي هو الإسلام { على الدين كله ولو كره المشركون }.
وقد فعل فالإسلام ظاهر في الأرض كلها سمع به أهل الشرق والغرب ودان به أهل الشرق والغرب وسيأتي يوم يسود فيه المسلمون أهل الدنيا قاطبة بإذن الله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير كفر اليهود والنصارى بذكر عقائدهم الكفرية.
2- طاعة العلماء ورجال الدين طاعة عمياء حتى يحلوا ويحرموا فيتبعوا شرك.
3- بيان عداء اليهود والنصارى للإسلام وتعاونهم على إفساده وإفساد أهله.
4- بشرى المسلمين بأنهم سيسودون العالم في يوم من الأيام ويصبح الإسلام هو الدين الذي يعبد الله به في الأرض لا غيره، ويشهد لهذا آية
ويكون الدين كله لله
[الأنفال: 39] فلو لم يعلم الله أن ذلك كائن لم يجعله غاية وطالب بالوصول إليها.
[9.34-35]
شرح الكلمات:
بالباطل: أي بدون حق أباح لهم أكلها.
ويصدون عن سبيل الله: أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الإسلام الذي هو السبيل المفضي بالعبد إلى رضوان الله تعالى.
يكنزون: يجمعون المال ويدفنونه حفاظا عليه ولا يؤدون حقه.
الذهب والفضة: هما النقدان المعروفان.
في سبيل الله: أي حيث رضا الله كالجهاد وإطعام الفقراء والمساكين.
فبشرهم: أي أخبرهم بعذاب أليم: أي موجع.
يحمى عليها : لأنها تحول إلى صفائح ويحمى عليها ثم تكوى بها جباههم.
هذا ما كنزتم: أي يقال لهم عند كيهم بها: هذا ما كنزتم لأنفسكم توبيخا لهم وتقريعا.
معنى الآيتين:
بمناسبة ذكر عداء اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين، وأنهم يريدون دوما وأبدا إطفاء نور الله بأفواههم، ذكر تعالى ما هو إشارة واضحة إلى أنهم ماديون لا هم لهم إلا المال والرئاسة فأخبر المسلمين فقال { يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار } وهم علماء اليهود { والرهبان } وهم رجال الكنائس من النصارى { ليأكلون أموال الناس بالباطل } كالرشوة، وكتابة صكوك الغفران يبيعونها للسفلة منهم، إلى غير ذلك من الحيل باسم الدين، وقوله تعالى عنهم { ويصدون عن سبيل الله } دليل واضح على أنهم يحاربون الإسلام باستمرار للإبقاء على مناصبهم الدينية يعيشون عليها يترأسون بها على السفلة والعوام من اليهود والنصارى، وقوله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة } لفظ عام يشمل الأحبار والرهبان وغيرهم من سائر الناس من المسلمين ومن أهل الكتاب إلا أن الرهبان والأحبار يتناولهم اللفظ أولا، لأن من يأكل أموال الناس بالباطل ويصد عن سبيل الله أقرب إلى أن يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، وقوله تعالى لرسوله { فبشرهم بعذاب أليم } أي أخبرهم معجلا لهم الخبر في صورة بشارة، وبين نوع العذاب الأليم بقوله { يوم يحمى عليها } أي صفائح الذهب والفضة بعد تحويلها إلى صفائح { في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } أي من كل الجهات الأربع من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال ويقال لهم تهكما بهم وازدراء لهم وهم نوع عذاب أشد على النفس من عذاب الجسم { هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون }.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حقيقة علماء اليهود والنصارى، وهي أنهم ماديون باعوا آخرتهم بدنياهم يحاربون الإسلام ويصدون عنه للمحافظة على الرئاسة وللأكل على حساب الإسلام.
2- حرمة أكل أموال الناس بالباطل.
3- حرمة جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق منه.
4- المال الذي تؤدى زكاته كل حول لا يقال له كنز ولو دفن تحت الأرض.
5- بيان عقوبة من يكنز المال ولا ينفق منه في سبيل الله وهي عقوبة شديدة.
[9.36-37]
شرح الكلمات:
عدة: أي عدد.
الشهور: جمع شهر والشهر تسعة وعشرون يوما، أو ثلاثون يوما.
في كتاب الله: أي كتاب المقادير: اللوح المحفوظ.
أربعة حرم: هي رجب، والقعدة، والحجة، ومحرم، الواحد منها حرام والجمع حرم.
الدين القيم: أي الشرع المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
فلا تظلموا فيهن أنفسكم: أي لا ترتكبوا في الأشهر الحرم المعاصي فإنها أشد حرمة.
كافة: أي جميعا وفي كل الشهور حلالها وحرامها.
مع المتقين: أي بالتأييد والنصر، والمتقون هم الذين لا يعصون الله تعالى.
إنما النسيء: أي تأخير حرمة شهر المحرم إلى صفر.
يحلونه عاما ويحرمونه عاما: أي النسيء عاما يحلونه وعاما يحرمونه.
ليواطئوا عدة ما حرم الله: أي ليوافقوا عدد الشهور المحرمة وهي أربعة.
زين لهم سوء عملهم: أي زين لهم الشيطان هذا التأخير للشهر الحرام وهو عمل سيء لأنه إفتيات على الشارع واحتيال على تحليل الحرام.
معنى الآيتين
عاد السياق للحديث على المشركين بعد ذلك الاعتراض الذي كان للحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } لا تزيد ولا تنقص، وأنها هكذا في اللوح المحفوظ { يوم خلق السموت والأرض }. وأن منها أربعة أشهر حرم أي محرمات وهي رجب، والقعدة والحجة ومحرم، وحرمها الله تعالى أي حرم القتال فيها لتكون هدنة يتمكن العرب معها من السفر للتجارة وللحج والعمرة ولا يخافون أحدا، ولما جاء الإسلام وأعز الله أهله، نسخ حرمة القتال فيها. وقوله تعالى { ذلك الدين القيم } أي تحريم هذه الأشهر واحترامها بعدم القتال فيها هو الشرع المستقيم وقوله تعالى { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } أي لا ترتكبوا الذنوب والمعاصي في الأشهر الحرم فإن ذلك يوجب غضب الله تعالى وسخطه عليكم فلا تعرضوا أنفسكم له، وقوله تعالى { وقاتلوا المشركين } هذا خطاب للمؤمنين يأمرهم تعالى بقتال المشركين بعد انتهاء المدة التي جعلت لهم وهي أربعة أشهر وقوله { كآفة } أي جميعا لا يتأخر منكم أحد كما هم يقاتلونكم مجتمعين على قتالكم فاجتمعوا أنتم على قتالهم، وقوله { واعلموا أن الله مع المتقين } وهم الذين اتقوا الشرك والمعاصي ومعناه أن الله معكم بنصره وتأييده على المشركين العصاة وقوله عز وجل { إنما النسيء زيادة في الكفر } أي إنما تأخير حرمة محرم إلى صفر كما يفعل أهل الجاهلية ليستبيحوا القتال في الشهر الحرام بهذه الفتيا الشيطانية هذا التأخير زيادة في كفر الكافرين، لأنه محاربة لشرع الله وهي كفر قطعا لقوله تعالى { يضل به الذين كفروا } أي بالنسيء يزدادون ضلالا فوق ضلالهم. وقوله { يحلونه عاما ويحرمونه عاما } يعني النسيء وهو الشهر الذي أخروه أي أخروا حرمته إلى الشهر الذي بعده ليتمكنوا من القتال في الشهر الحرام، فعاما يحلون وعاما يحرمون حتى يوافقوا عدة الأشهر الحرم بلا زيادة ولا نقصان، ظنا منهم أنهم ما عصوا مستترين بهذه الفتيا الإبليسية كما قال تعالى { زين لهم سوء أعمالهم } والمزين للباطل قطعا هو الشيطان.
وقوله تعالى { والله لا يهدي القوم الكافرين } يخبر تعالى أنه عز وجل لا يهدي القوم الكافرين لما هو الحق والخير وذلك عقوبة لهم على كفرهم به وبرسوله، وإصرارهم على ذلك.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان أن شهور السنة الهجرية اثنا عشر شهرا وأيامها ثلثمائة وخمسة وخمسون يوما.
2- بيان أن الأشهر الحرم أربعة وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي رجب، والقعدة والحجة ومحرم.
3- حرمة الأشهر الحرم، ومضاعفة السيآت فيها أي قبح الذنوب فيها.
4- صفة المعية لله تعالى وهي معية خاصة بالنصر والتأييد لأهل تقواه.
5- حرمة الاحتيال على الشرع بالفتاوى الباطلة لاحلال الحرام، وأن هذا الاحتيال ما هو إلا زيادة في الإثم.
6- تزيين الباطل وتحسين المنكر من الشيطان.
7- حرمان أهل الكفر والفسق من هداية الله تعالى وتوفيقه لما هو حق وخير حالا ومآلا.
[9.38-40]
شرح الكلمات:
مالكم؟: أي أي شيء ثبت لكم من الأعذار.
انفروا: أي اخرجوا مستعجلين مندفعين.
اثاقلتم: أي تباطأتم كأنكم تحملون أثقالا.
إلا تنصروه: أي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
ثاني اثنين: أي هو وأبو بكر رضي الله عنه.
في الغار : غار ثور أي في جبل يقال له ثور بمكة.
لصاحبه: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
سكينته: أي طمأنينته.
كلمة الذين كفروا: هي الدعوة إلى الشرك.
السفلى: أي مغلوبة هابطة لا يسمع لها صوت.
وكلمة الله هي العليا: أي دعوة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هي العليا الغالبة الظاهرة.
معنى الآيات:
هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك فقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن هرقل ملك الروم قد جمع جموعه لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم التعبئة العامة، وكان الزمن صيفا حارا وبالبلاد جدب ومجاعة، وكان ذلك في شوال من سنة تسع، وسميت هذه الغزوة بغزوة العسرة فاستحث الرب تبارك وتعالى المؤمنين ليخرجوا مع نبيهم لقتال أعدائه الذين عزموا على غزوه في عقر داره فأنزل تعالى قوله { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله } والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم { انفروا في سبيل الله } أي اخرجوا للجهاد { في سبيل الله } أي لأجل رضاه سبحانه وتعالى وما عنده من نعيم مقيم. وقوله { ما لكم } أي أي شيء يجعلكم لا تنفرون؟ وأنتم المؤمنون طلاب الكمال والإسعاد في الدارين، وقوله { اثاقلتم إلى الأرض } أي تباطأتم عن الخروج راضين ببقائكم في دوركم وبلادكم. { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة }؟ ينكر تعالى على من هذه حاله منهم، ثم يقول لهم { فما متاع الحياة الدنيا } أي ما كل ما يوجد فيها من متع على اختلافها بالنسبة إلى ما في الآخرة من نعيم مقيم في جوار رب العالمين { إلا قليل } تافه لا قيمة له؛ فكيف تؤثرون القليل على الكثير والفاني على الباقي. ثم قال لهم { إلا تنفروا } أي إن تخليتم عن نصرته صلى الله عليه وسلم وتركتموه يخرج إلى قتال الروم وحده { يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير }. وفي هذا الخبر وعيد شديد اهتزت له قلوب المؤمنين.
وقوله تعالى { إلا تنصروه } أي إن خذلتموه ولم تخرجوا معه في هذا الظرف الصعب فقد نصره الله تعالى في ظرف أصعب منه نصره في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا { ثاني اثنين } أي هو وأبو بكر لا غير، { إذ هما في الغار } أي غار ثور، { إذ يقول لصاحبه }: لما قال لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا يا رسول الله، { لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه } فسكنت نفسه واطمأن وذهب الخوف من قلبه، { وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا } وهي دعوتهم إلى الشرك جعلها { السفلى } مغلوبة هابطة { وكلمة الله } كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله { هي العليا } الغالبة الظاهرة { والله عزيز } غالب لا يغالب { حكيم } في تصرفه وتدبيره، ينصر من أراد نصره بلا ممانع ويهزم من أراد هزيمته بلا مغالب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإمام بالدعوة العامة وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو النفير العام.
2- يجب أن يكون النفير في سبيل الله لا في سبيل غير سبيله تعالى.
3- بيان حقارة الدنيا وضآلتها أمام الآخرة.
4- وجوب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دينه في أمته في سنته.
5- شرف أبي بكر الصديق وبيان فضله.
6- الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
[9.41-43]
شرح الكلمات:
خفافا وثقالا: الخفاف جمع خفيف: وهو الشاب القوي البدن ذا الجدة من زاد ومركوب. والثقال جمع ثقيل: وهو الشيخ الكبير والمريض والفقير الذي لا جدة عنده.
ذلكم: أي الجهاد بالمال والنفس خير من التثاقل إلى الأرض وترك الجهاد حالا ومآلا.
عرضا قريبا: غنيمة في مكان قريب غير بعيد.
أو سفرا قاصدا: أي معتدلا لا مشقة فيه.
الشقة: الطريق الطويل الذي لا يقطع إلا بمشقة وعناء.
عفا الله عنك: لم يؤاخذك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحث على الخروج إلى قتال الروم بالشام ففي هذه الآيات يأمر تعالى المؤمنين بالخروج إلى الجهاد على أي حال كان الخروج من قوة وضعف فليخرج الشاب القوي كالكبير العاجز الضعيف والغني كالفقير فقال تعالى { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم } أعداء الله الكافرين به وبرسوله حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ويقبلوا أحكام الإسلام { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } أي نفوركم للجهاد وقتالكم الكافرين إلى الانتهاء بهم إلى إحدى الغايتين خير لكم من الخلود إلى الأرض والرضا بالحياة الدنيا وهي متاع قليل، إن كنتم تعلمون ذلك، وقوله تعالى { لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة } يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم لو كان أولئك المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وضعفة الإيمان قد دعوتهم إلى عرض قريب أي غنيمة حاضرة أو إلى سفر سهل قاصد معتدل لاتبعوك وخرجوا معك، ولكن دعوتهم إلى تبوك وفي زمن الحر والحاجة فبعدت عليهم الشقة فانتحلوا الأعذار إليك وتخلفوا. وقوله تعالى { وسيحلفون بالله } أي لكم قائلين: لو استطعنا أي الخروج لخرجنا معكم. قال تعالى { يهلكون أنفسهم } حيث يجلبون لها سخط الله وعقابه { والله يعلم إنهم لكاذبون } في كل ما اعتذروا به. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية [41 - 42] وأما الآية الثالثة فقد تضمنت عتاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حيث أذن لمن طلب منه التخلف عن النفور والنهوض إلى تبوك وكان من السياسة الرشيدة عدم الإذن لأحد حتى يتميز بذلك الصادق من الكاذب قال تعالى { عفا الله عنك } أي تجاوز عنك ولم يؤاخذك وقدم هذا اللفظ على العتاب الذي تضمنه الاستفهام { لم أذنت لهم } تعجيلا للمسرة للنبي صلى الله عليه وسلم إذ لو أخر عن جملة العتاب لأوجد خوفا وحزنا، وقوله تعالى { حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } علة للعتاب على الإذن للمنافقين بالتخلف عن الخروج إلى تبوك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إذا أعلن الإمام التعبئة العامة يحرم التخلف عن الجهاد ولا يقعد أحد، إلا بإذن لأجل علة قامت به فاستأذن فأذن له.
2- الجهاد كما يكون بالنفس يكون بالمال وهو خير من تركه حالا ومآلا.
3- الأيمان الكاذبة لإبطال حق أو إحقاق باطل توجب سخط الله تعالى وعذابه.
4- مشروعية العتاب للمحب.
5- جواز مخالفة الأولى على النبي صلى الله عليه وسلم لعدم علمه ما لم يعلمه الله تعالى.
[9.44-46]
شرح الكلمات:
لا يستأذنك: أي لا يطلبون منك إذنا بالتخلف عن الجهاد.
وارتابت قلوبهم: أي شكت في صحة ما تدعو إليه من الدين الحق.
في ريبهم: أي في شكهم.
يترددون: حيارى لا يثبتون على شيء.
لأعدوا له عدة: لهيأوا له ما يلزم من سلاح وزاد ومركوب.
انبعاثهم: أي خروجهم معكم.
فثبطهم: ألقي في نفوسهم الرغبة في التخلف وحببه إليهم فكسلوا ولم يخرجوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة تبوك وأحوال المأمورين بالنفير فيها فبعد أن عاتب الله تعالى رسوله في إذنه للمتخلفين أخبره أنه لا يستأذنه المؤمنون الصادقون في أن يتخلفوا عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم وإنما يستأذنه { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم } في الإيمان بالله ورسوله ووعده ووعيده، فهم حيارى مترددون لا يدرون أين يتجهون وهي حالة المزعزع العقيدة كسائر المنافقين، وأخبره تعالى أنهم كاذبون في اعتذاراتهم إذ لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته أي احضروا له أهبته من سلاح وزاد وراحلة ولكنهم كانوا عازمين على عدم الخروج بحال من الأحوال، ولو لم تأذن لهم بالتخلف لتخلفوا مخالفين قصدك متحدين أمرك. وهذا عائد إلى أن الله تعالى كره خروجهم لما فيه من الضرر والخطر فثبطهم بما ألقى في قلوبهم من الفشل وفي أجسامهم من الكسل كأنما قيل لهم اقعدوا مع القاعدين. هذا ما دلت عليه الآية [44] { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين } وقوله تعالى في ختام الآية الأولى [44] { والله عليم بالمتقين } فيه تقرير لعلمه تعالى بأحوال ونفوس عباده فما أخبر به هو الحق والواقع، فالمؤمنون الصادقون لا يطلبون التخلف عن الجهاد لإيمانهم وتقواهم، والمنافقون هم الذين يطلبون التخلف لشكهم وفجورهم والله أعلم بهم، ولا ينبئك مثل خبير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإيمان والتقوى إذ صاحبهما لا يمكنه أن يتخلف عن الجهاد بالنفس والمال.
2- خطر الشك في العقيدة وأنه سبب الحيرة والتردد، وصاحبه لا يقدر على أن يجاهد بمال ولا نفس.
3- سوابق الشر تحول بين صاحبها وبين فعل الخير.
[9.47-48]
شرح الكلمات:
لو خرجوا فيكم: أي مندسين بين رجالكم.
إلا خبالا: الفساد في الرأي والتدبير.
ولأوضعوا خلالكم: أي لأسرعوا بينكم بالنميمة والتحريش والإثارة لإبقائكم في الفتنة.
وفيكم سماعون لهم: أي بينكم من يكثر السماع لهم والتأثر بأقوالهم المثيرة الفاسدة.
من قبل: أي عند مجيئك المدينة مهاجرا.
وقلبوا لك الأمور: بالكيد والمكر والاتصال باليهود والمشركين والتعاون معهم.
وظهر أمر الله: بأن فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا.
وهم كارهون: أي لمجيء الحق وظهور أمر الله بانتصار دينه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في فضح نوايا المنافقين وكشف الستار عنهم فقال تعالى { لو خرجوا فيكم } أيها الرسول والمؤمنون أي إلى غزوة تبوك { ما زادوكم إلا خبالا } أي ضررا وفسادا وبلبلة لأفكار المؤمنين بما ينفثونه من سموم القول للتخذيل والتفشيل، { ولأوضعوا } أي أسرعوا ركائبهم { خلالكم } أي بين صفوفكم بكلمات التخذيل والتثبيط { يبغونكم } بذلك { الفتنة } وهي تفريق جمعكم وإثارة العداوة بينكم بما يحسنه المنافقون في كل زمان ومكان من خبيث القول وفاسده وقوله تعالى { وفيكم سماعون لهم } أي وبينكم أيها المؤمنون ضعاف الإيمان يسمعون منكم وينقلون لهم أخبار أسراركم كما أن منكم من يسمع لهم ويطيعهم ولذا وغيره كره الله انبعاثهم وثبطهم فقعدوا مع القاعدين من النساء والأطفال والعجز والمرضى، وقوله تعالى { والله عليم بالظالمين } الذين يعملون على إبطال دينه وهزيمة أوليائه. فلذا صرفهم عن الخروج معكم إلى قتال أعدائكم من الروم والعرب المتنصرة بالشام. وقوله تعالى في الآية الثانية [48] { لقد ابتغوا الفتنة من قبل } بل من يوم هاجرت إلى المدينة ووجد بها الإسلام وهم يثيرون الفتن بين أصحابك للإيقاع بهم، وفي أحد رجع ابن أبي بثلث الجيش وهم بنو سلمة وبنو حارثة بالرجوع عن القتال لولا أن الله سلم { وقلبوا لك الأمور } وصرفوها في وجوه شتى بقصد القضاء على دعوتك فظاهروا المشركين واليهود في مواطن كثيرة وكان هذا دأبهم { حتى جآء الحق } بفتح مكة { وظهر أمر الله } بدخول أكثر العرب في دين الله { وهم كارهون } لذلك بل أسفون حزنون، ولذا فلا تأسفوا على عدم خروجهم معكم، ولا تحفلوا به أو تهتموا له، فإن الله رحمة بكم ونصرا لكم صرفهم عن الخروج معكم فاحمدوا الله وأثنوا عليه بما هو أهله، ولله الحمد والمنة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجود منافقين في صفوف المؤمنين خطر عليهم وضرر كبير لهم فلذا ينبغي إن لا يشركوا في أمر، وأن لا يعول عليهم في مهمة.
2- وجوب الأخذ بالحيطة في الأمور ذات البال والأثر على حياة الإسلام والمسلمين.
3- المنافق يسوءه عزة الإسلام والمسلمين ويحزن لذلك.
4- تدبير الله تعالى لأوليائه خير تدبير فلذا وجب الرضا بقضاء الله وقره والتسليم به.
[9.49-52]
شرح الكلمات:
ومنهم: أي من المنافقين وهو الجد بن قيس.
إئذن لي: أي في التخلف عن الجهاد.
ولا تفتني: أي لا توقعني في الفتنة بدعوى أنه إذا رأى نساء الروم لا يملك نفسه.
حسنة تسؤهم: الحسنة كل ما يحسن من نصر وغنيمة وعافية ومعنى تسؤهم أي يكربون لها ويحزنون.
قد أخذنا أمرنا من قبل: أي احتطنا للأمر ولذا لم نخرج معهم.
إحدى الحسنيين: الأولى الظفر بالعدو والانتصار عليه والثانية الشهادة المورثة للجنة.
فتربصوا: أي انتظروا فإنا معكم من المنتظرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك فيقول تعالى { ومنهم من يقول ائذن لي } أي في التخلف عن الجهاد، { ولا تفتني } بإلزامك لي بالخروج أي لا توقعني في الفتنة، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: هل لك في بلاد بني الأصفر؟ فقال إني مغرم بالنساء وأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر (وهم الروم) لا أصبر عنهن فأفتن، والقائل هذا هو الجد بن قيس أحد زعماء المنافقين في المدينة فقال تعالى دعاء عليه وردا لباطله: { ألا في الفتنة سقطوا } وأي فتنة أعظم من الشرك والنفاق؟ { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } به وبأمثاله من أهل الكفر والنفاق، هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية [50] فقد تضمنت الكشف عما يقوله المنافقون في أنفسهم أنه إن تصب الرسول والمؤمنين حسنة من نصر أو غنيمة وكل حال حسنة يسؤهم ذلك أي يكربهم ويحزنهم، وإن تصبهم سيئة من هزيمة أو قتل وموت يقولوا فيما بينهم { قد أخذنا أمرنا } أي احتطنا للأمر فلم نخرج معهم { ويتولوا } راجعين إلى بيوتهم وأهليهم { وهم فرحون }. هذا ما تضمنته الآية التي هي قوله تعالى { إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون } أما الآيتان الثالثة والرابعة [51 - 52] فقد علم الله سبحانه وتعالى رسوله ما يقوله إغاظة لأولئك المنافقين وإخبارا لهم بما يسؤهم فقال { قل لن يصيبنآ } أي من حسنة أو سيئة إلا ما كتب الله لنا وما يكتبه ربنا لنا لن يكون إلا خيرا لأنه مولانا { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ونحن مؤمنون وعلى ربنا متوكلون، وقال له: { قل هل تربصون بنآ } أي هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين: النصر والظهور على أهل الشرك والكفر والنفاق أو الاستشهاد في سبيل الله، ثم النعيم المقيم في جوار رب العالمين وعليه { فتربصوا إنا معكم متربصون } ، وسوف لا نشاهد إلا ما يسرنا ويسوءكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيحة الجد بن قيس وتسجيل اللعنة عليه وتبشيره بجهنم.
2- بيان فرح المنافقين والكافرين بما يسوء المسلمين، وبيان استيائهم لما يفرح المسلمين وهي علامة النفاق البارزة في كل منافق.
3- وجوب التوكل على الله وعدم الاهتمام بأقوال المنافقين.
4- بيان أن المؤمنين بين خيارين في جهادهم: النصر أو الشهادة.
5- مشروعية القول الذي يغيط العدو ويحزنه.
[9.53-55]
شرح الكلمات:
طوعا أو كرها: أي وأنتم طائعون أو أنتم مكرهون على الانفاق.
إنكم كنتم قوما فاسقين: الجملة علة لعدم قبول نفقاتهم.
كسالى: متثاقلون لعدم إيمانهم في الباطن بفائدة الصلاة.
فلا تعجبك أموالهم: أي لا تستحسنوا أيها المسلمون ما عند المنافقين من مال وولد.
وتزهق أنفسهم: أي تفيض وتخرج من أجسامهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعليم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يرد على المنافقين فقال له قل لهم أيها الرسول { أنفقوا } حال كونكم طائعين أو مكرهين { لن يتقبل منكم } ، أي أخبرهم أن ما ينفقونه في هذا الخروج إلى تبوك وفي غيره سواء أنفقوه باختيارهم أو كانوا مكرهين عليه لن يتقبله الله منهم لأنهم كانوا قوما فاسقين بكفرهم بالله وبرسوله وخروجهم عن طاعتهما هذا ما دلت عليه الآية الأولى [53] أما الآية الثانية [54] فقد أخبر تعالى عن الأسباب الرئيسية التي حالت دون قبول نفقاتهم وهي أولا الكفر بالله وبرسوله، وثانيا إتيانهم الصلاة وهم كسالى كارهون، وثالثا كراهيتهم الشديدة لما ينفقونه قال تعالى { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة [55] فإن الله تعالى ينهى رسوله والمؤمنين عن أن تعجبهم أموالهم وأولادهم مهما بلغت في الكثرة والحسن فيقول { فلا تعجبك أمولهم ولا أولدهم } أي لا تستحسنوها ولا تخبروهم بذلك. وبين تعالى لرسوله علة إعطائهم ذلك وتكثيره لهم فقال { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كفرون } ووجه تعذيبهم بها في الحياة الدنيا أن ما ينفقونه من المال في الزكاة والجهاد يشعرون معه بألم لا نظير له لأنه إنفاق يعتبرونه ضدهم وليس في صالحهم، إذ لا يريدون نصر الإسلام ولا ظهوره، وأما أولادهم فالتعذيب بهم هو أنهم يشاهدونهم يدخلون في الإسلام ويعملون به ولا يستطيعون أن يردوهم عن ذلك، أي ألم نفسي أكبر من أن يكفر ولد الرجل بدينه ويدين بآخر من شروطه أن يبغض الكافر به ولو كان أبا أو أما أو أخا أو أختا أو أقرب قريب؟ وزيادة على هذا يموتون وهم كافرون فينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد، وبهذا سلى الرب تعالى رسوله والمؤمنين بيان علة ما أعطى المنافقين من مال وولد ليعذبهم بذلك لا ليسعدهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن الرياء مبطلة للعمل كالشرك محبط للعمل.
2- إطلاق الفسق على الكفر فكل كافر فاسق على الإطلاق.
3- حرمة التكاسل في الصلاة وأن ذلك من صفات المنافقين.
4- وجوب رضا النفس بما ينفق العبد في سبيل الله زكاة أو غيرها.
5- كراهية استحسان المسلم لما عند أهل الفسق والنفاق من مال ومتاع.
[9.56-59]
شرح الكلمات:
وما هم منكم: أي في باطن الأمر لأنهم كافرون ووجوههم وقلوبهم مع الكافرين.
يفرقون: أي يخافون خوفا شديدا منكم.
ملجأ: أي مكانا حصينا يلجأون إليه.
أو مغارات: جمع مغارة وهي الغار في الجبل.
أو مدخلا: أي سربا في الأرض يستتر فيه الخائف الهارب.
يجمحون: يسرعون سرعة تتعذر مقاومتها وإيقافها.
يلمزك: أي يعيبك في شأن توزيعها ويطعن فيك.
إذا هم يسخطون: أي غير راضين.
حسبنا الله: أي كافينا الله كل ما يهمنا.
إلى الله راغبون: إلى الله وحده راغبون أي طامعون راجون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وإظهار عيوبهم وكشف عوراتهم ليتوب منهم من أكرمه الله بالتوبة فقال تعالى عنهم { ويحلفون بالله إنهم لمنكم } أي من أهل ملتكم ودينكم، { وما هم منكم } أي في واقع الأمر إذ هم كفار منافقون { ولكنهم قوم يفرقون } أي يخافون منكم خوفا شديدا فلذا يحلفون لكم إنهم منكم لتؤمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبيان شدة فرقهم منكم وخوفهم من سيوفكم قال تعالى: { لو يجدون ملجئا } أي حصنا { أو مغارات } أي غيرانا في جبال { أو مدخلا } أي سربا في الأرض { لولوا } أي أدبروا إليها { وهم يجمحون } أي مسرعين ليتمنعوا منكم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية أما الآية الثالثة والرابعة [58- 59] فقد أخبر تعالى أن من المنافقين من يلمز الرسول صلى الله عليه وسلم أي يطعن فيه ويعيبه في شأن قسمة الصادقات وتوزيعها فيتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعدل في القسمة فقال تعالى { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا } أي عن الرسول وقسمته { وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } هذا ما تضمنته الآية [58] وأما الآية الأخيرة [59] فقد أرشدهم الله تعالى إلى ما كان ينبغي أن يكونوا عليه فقال عز وجل { ولو أنهم رضوا مآ آتاهم الله ورسوله } ، أي من الصدقات { وقالوا حسبنا الله } أي كافينا الله { سيؤتينا الله من فضله } الواسع العظيم ورسوله بما يقسم علينا ويوزعه بيننا { إنآ إلى الله } وحده { راغبون } طامعون راجعون أي لكان خيرا لهم وأدرك لحاجتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأيمان الكاذب شعار المنافقين وفي الحديث
" آية المنافق ثلاث: (إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أتمن خان ".
2- الجبن والخور والضعف والخوف من لوازم الكفر والنفاق.
3- عيب الصالحين والطعن فيهم ظاهرة دالة على فساد قلوب ونيات من يفعل ذلك.
4- مظاهر الرحمة الإلهية تتجلى في إرشاد المنافقين إلى أحسن ما يكونوا عليه ليكملوا ويسعدوا في الدارين.
5- لا كافي إلا الله، ووجوب انحصار الرغبة فيه تعالى وحده دون سواه.
[9.60]
شرح الكلمات:
الصدقات: جمع صدقة وهي هنا الزكاة المفروضة في الأموال.
للفقراء: جمع فقير وهو من ليس له ما يكفيه من القوت ولا يسأل الناس.
والمساكين: جمع مسكين وهو فقير ليس له ما يكفيه ويسأل الناس ويذل نفسه بالسؤال.
والعاملين عليها: أي على جمعها وجبابتها وهم الموظفون لها.
والمؤلفة قلوبهم: هم أناس يرجى إسلامهم أو بقاؤهم عليه إن كانوا قد أسلموا وهم ذوو شأن وخطر ينفع الله بهم إن أسلموا وحسن إسلامهم.
وفي الرقاب: أي في فك الرقاب أي تحريرها من الرق، فيعطى المكاتبون ما يسددون به نجوم أو أقساط كتابتهم.
وفي سبيل الله: أي الجهاد لإعداد العدة وتزويد المجاهدين بما يلزمهم من نفقة.
وابن السبيل: أي المسافر المنقطع عن بلاده ولو كان غنيا ببلاده.
فريضة من الله: أي فرضها الله تعالى فريضة على عباده المؤمنين.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة لمز المنافقين الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن في قسمته الصدقات بين تعالى في هذه الآية الكريمة أهل الصدقات المختصين بها. والمراد بالصدقات الزكوات وصدقة التطوع فقال عز وجل { إنما الصدقات } محصورة في الأصناف الثمانية التي تذكر وهم:
(1) الفقراء وهم المؤمنون الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم الضرورية من طعام وشراب وكساء ومأوى.
(2) المساكين وهم الفقراء الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم ولم يتعففوا فكانوا يسألون الناس ويظهرون المسكنة لهم والحاجة.
(3) الموظفين فيها من سعاة جباة وأمناء وكتاب وموزعين يعطون على عملهم فيها أجرة أمثالهم في العمل الحكومي.
(4) المؤلفة قلوبهم وهم من يرجى نفعهم للإسلام والمسلمين لمناصبهم وشوكتهم في أقوامهم، فيعطون من الزكاة تأليفا أي جمعا لقلوبهم على الإسلام ومحبته ونصرته ونصرة أهله، وقد يكون أحدهم لم يسلم بعد فيعطى ترغيبا له في الإسلام، وقد يكون مسلما لكنه ضعيف الإسلام فيعطى تثبيتا وتقوية على الإسلام.
(5) في الرقاب وهو مساعدة المكاتبين على تسديد أقساطهم ليتحرروا أما شراء عبد بالزكاة وتحريره فلا يجوز لأنه يعود بالنفع على دافع الزكاة لأن ولاء المعتوق له.
(6) الغارمين جمع غارم وهو من ترتبت عليه ديون بسبب ما أنفقه في طاعة الله تعالى على نفسه وعائلته، ولم يكن لديه مال لا نقد ولا عرض يسدد به ديونه.
(7) في سبيل الله وهو تجهيز الغزاة والإنفاق عليهم تسليحا وإركابا وطعاما ولباسا.
(8) ابن السبيل وهم المسافرون ينزلون ببلد وتنتهي نفقتهم فيحتاجون فيعطون من الزكاة ولو كانوا أغنياء ببلادهم.
وقوله تعالى { فريضة من الله } أي هذه الصدقات وقسمتها على هذا النحو جعله الله تعالى فريضة لازمة على عباده المؤمنين. وقوله { والله عليم } أي بخلقه وأحوالهم { حكيم } في شرعه وقسمته، فلذا لا يجوز أبدا مخالفة هذه القسمة فلا يدخل أحد فيعطى من الزكاة وهو غير مذكور في هذه الآية وليس شرطا أن يعطى كل الأصناف فقد يعطى المرء زكاته كلها في الجهاد أو في الفقراء والمساكين، أو في الغارمين أو المكاتبين وتجزئة وإن كان الأولى أن يقسمها بين الأصناف المذكورة من وجد منها، إذ قد لا توجد كلها في وقت واحد.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- تقرير فرضية الزكاة.
2- بيان مصارف الزكاة.
3- وجوب التسليم لله تعالى في قسمته بعدم محاولة الخروج عنها.
4- إثبات صفات الله تعالى وهي هنا: العلم والحكمة، ومتى كان الله تعالى عليما بخلقه وحاجاتهم حكيما في تصرفه وشرعه وجب التسليم لأمره والخضوع له بالطاعة والانقياد.
[9.61-63]
شرح الكلمات:
يؤذون النبي: أي الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، والأذى المكروه يصيب الإنسان كثيرا أو يسيرا.
هو أذن: أي يسمع من كل من يقول له ويحدثه وهذا من الأذى.
قل أذن خير لكم: أي هو يسمع من كل من يقول له لا يتكبر ولكن لا يقر إلا الحق ولا يقبل إلا الخير والمعروف فهو أذن خير لكم لا أذن شر مثلكم أيها المنافقون.
ويؤمن للمؤمنين: أي يصدق المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار أما غيرهم فإنه وإن يسمع منهم لا يصدقهم لأنهم كذبة فجرة.
والله: أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه.
من يحادد الله ورسوله: أي يعاديهما، ويقف دائما في حد وهما في حد فلا ولاء ولا موالاة أي لا محبة ولا نصرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وبيان فضائحهم قال تعالى: { ومنهم الذين يؤذون النبي } أي من المنافقين أفراد يؤذون النبي بالطعن فيه وعيبه بما هو براء منه، ويبين تعالى بعض ذلك الأذى فقال { ويقولون هو أذن } أي يسمع كل ما يقال له، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقر سماع الباطل أو الشر أو الفساد، وإنما يسمع ما كان خيرا ولو كان من منافق يكذب ويحسن القول. وأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله { قل أذن خير لكم } يسمع ما فيه خير لكم، ولا يسمع ما هو شر لكم. إنه لما كان لا يواجههم بسوء صنيعهم، وقبح أعمالهم حملهم هذا الجميل والإحسان على أن قالوا: { هو أذن } طعنا فيه صلى الله عليه وسلم وعيبا له. وقوله تعالى { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } هذا من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول للمنافقين ردا على باطلهم. أنه صلى الله عليه وسلم يؤمن بالله ربا وإلها، { ويؤمن للمؤمنين } أي بصدقهم فيما يقولون وهذا من خيريته صلى الله عليه وسلم وقوله { ورحمة للذين آمنوا منكم } أيضا من خيريته فهو صلى الله عليه وسلم رحمة لمن آمن به واتبع النور الذي جاء به فكمل عليه وسعد به في حياتيه. وقوله تعالى { والذين يؤذون رسول الله } أي بأي نوع من الأذى قل أو كثر توعدهم الله تعالى بقوله { لهم عذاب أليم } وهو لا محالة نازل بهم وهم ذائقوه حتما هذا ما دلت عليه الآية الأولى [61] أما الآية الثانية [62] فقد أخبر تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون للمؤمنين بأنهم ما طعنوا في الرسول ولا قالوا فيه شيئا يريدون بذلك إرضاء المؤمنين حتى لا يبطشوا بهم انتقاما لكرامة نبيهم قال تعالى { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } أي فبدل أن يرضوا المؤمنين كان الواجب أن يرضوا الله تعالى بالتوبة إليه ويرضوا الرسول بالإيمان ومتابعته إن كانوا كما يزعمون أنهم مؤمنون.
وقوله في الآية الثالثة [63] { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله } أي يشاقهما ويعاديهما فإن له جزاء عدائه ومحاربته نار جهنم خالدا فيها { ذلك الخزي العظيم } أي كونه في نار جهنم خالدا فيها لا يخرج منها هو الخزي العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة أذية رسول الله بأي وجه من الوجوه.
2- كون النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين دعوة للإيمان والإسلام.
3- توعد الله تعالى من يؤذي رسوله بالعذاب الأليم دليل على كفر من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- بيان كذب المنافقين وجبنهم حيث يحلفون للمؤمنين أنهم ما طعنوا في الرسول وقد طعنوا بالفعل، وإنما حلفهم الكاذب يدفعون به غضب المؤمنين والانتقام منهم.
5- وجوب طلب رضا الله تعالى بفعل محابه وترك مساخطه.
6- توعد من يحادد الله ورسوله بالعذاب الأليم.
[9.64-66]
شرح الكلمات:
يحذر المنافقون: أي يخافون ويحترسون.
تنزل عليهم سورة: أي في شأنهم فتفضحهم بإظهار عيبهم.
تنبئهم بما في قلوبهم: أي تخبرهم بما يضمرونه في نفوسهم.
قل استهزئوا: الأمر هنا للتهديد.
مخرج ما تحذرون: أي مخرجه من نفوسكم مظهره للناس أجمعين.
نخوض ونلعب: أي نخوض في الحديث على عادتنا ونلعب لا نريد سبا ولا طعنا.
تستهزئون: أي تسخرون وتحتقرون.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين لكشف الستار عنهم وإظهارهم على حقيقتهم ليتوب منهم من تاب الله عليه قال تعالى مخبرا عنهم { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم } أي يخشى المنافقون أن تنزل في شأنهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم { سورة تنبئهم } أي تخبرهم بما في قلوبهم فتفضحهم، ولذا سميت هذه السورة بالفاضحة وقوله تعالى لرسوله { قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون } يهددهم تعالى بأن الله مخرج ما يحذرون إخراجه وظهوره مما يقولونه في خلواتهم من الطعن في الإسلام وأهله. وقوله تعالى { ولئن سألتهم } أي عما قالوا من الباطل. لقالوا { إنما كنا نخوض ونلعب } لا غير. قل لهم يا رسولنا { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون } وذلك أن نفرا من المنافقين في غزوة تبوك قالوا في مجلس لهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآيات: وجاءوا يعتذرون لرسول الله فأنزل الله { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } أي الذي كنتم تدعونه، لأن الاستهزاء بالله والرسول والكتاب كفر مخرج من الملة، وقوله تعالى { إن نعف عن طآئفة منكم } لأنهم يتوبون كمخشي بن حمير، { نعذب طآئفة } أخرى لأنهم لا يتوبون وقوله تعالى { بأنهم كانوا مجرمين } علة للحكم بعذابهم وهو إجرامهم بالكفر والاستهزاء بالمؤمنين إذ من جملة ما قالوا: قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم يظن هذا يشيرون إلى النبي وهم سائرون - يفتح قصور الشام وحصونها فأطلع الله نبيه عليهم فدعاهم فجاءوا واعتذروا بقولهم إنا كنا نخوض أي في الحديث ونلعب تقصيرا للوقت، ودفعا للملل عنا والسآمة فأنزل تعالى { قل أبالله } الآية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكشف عن مدى ما كان يعيش عليه المنافقون من الحذر والخوف.
2- كفر من استهزأ بالله أو آياته أو رسوله.
3- لا يقبل اعتذار من كفر بأي وجه وإنما التوبة أو السيف فيقتل كفرا.
4- مصداق ما أخبر به تعالى من أنه سيعذب طائفة فقد هلك عشرة بداء الدبيلة " خراج يخرج من الظهر وينفذ ألمه إلى الصدر فيهلك صاحبه حتما ".
[9.67-70]
شرح الكلمات:
المنافقون: أي الذين يظهرون للمؤمنين الإيمان بألسنتهم ويسترون الكفر في قلوبهم.
بعضهم من بعض: أي متشابهون في اعتقادهم وقولهم وعملهم فأمرهم واحد.
بالمنكر: أي ما ينكره الشرع لضرره أو قبحه وهو الكفر بالله ورسوله.
عن المعروف: أي ما عرفه الشرع نافعا فأمر به من الإيمان والعمل الصالح.
يقبضون أيديهم: أي يمسكونها عن الإنفاق في سبيل الله.
نسوا الله فنسيهم: أي تركوا الله فلم يؤمنوا به وبرسوله فتركهم وحرمهم من توفيقه وهدايته.
عذاب مقيم: أي دائم لا يزول ولا يبيد.
بخلاقهم: أي بنصيبهم وحظهم من الدنيا.
وخضتم: أي في الكذب والباطل.
والمؤتفكات: أي المنقلبات حيث صار عاليها سافلها وهي ثلاث مدن.
بالبينات: الآيات الدالة على صدقهم في رسالاتهم إليهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في هتك استار المنافقين وبيان فضائهم لعلهم يتوبون. قال تعالى { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } أي كأبعاض الشيء الواحد وذلك لأن أمرهم واحد لا يختلف بعضهم عن بعض في المعتقد والقول العمل بين تعالى حالهم بقوله { يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف } وهذا دليل على انتكاسهم وفساد قلوبهم وعقولهم، إذ هذا عكس ما يأمر به العقلاء، والمراد من المنكر الذي يأمرون به هو الكفر والعصيان، والمعروف الذي ينهون عنه هو الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما. وقوله تعالى { ويقبضون أيديهم } كناية عن الإمساك وعدم البذل في الإنفاق في سبيل الله. وقوله { نسوا الله } فلم يؤمنوا به ولم يؤمنوا برسوله ولم يطيعوا الله ورسوله { فنسيهم } الله بأن تركهم محرومين من كل هداية ورحمة ولطف. وقوله { إن المنافقين هم الفاسقون } تقرير لمعنى { نسوا الله فنسيهم } ، إذ كفرهم بالله وبرسوله هو الذي حرمهم هداية الله تعالى ففسقوا سائر أنواع الفسق فكانوا هم الفاسقين الجديرين بهذا الوصف وهو الفسق والتوغل فيه. وقوله تعالى في الآية [68] { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم } أي كافيهم { ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم } أي دائم لا يزول ولا يبيد ولا يفنى فقد حملت هذه الآية أشد وعيد لأهل النفاق والكفر إذ توعدهم الرب تعالى بنار جهنم خالدين فيها وبالعذاب المقيم الذي لا يبارحهم ولا يتركهم لحظة أبد الأبد وذلك بعد أن لعنهم الله فأبعدهم وأسحقهم من كل رحمة وخير. وفي الآية الثالثة [69] يأمر تعالى رسوله أن يقول للمنافقين المستهزئين بالله وآياته ورسوله: أنتم أيها المنافقون كأولئك الذين كانوا من قبلكم في الاغترار بالمال والولد والكفر بالله والتكذيب لرسوله حتى نزل بهم عذاب الله ومضت فيهم سنته في إهلاكهم هذا ما تضمنته الآية الكريمة إذ قال تعالى { كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم } أي بنصيبهم الذي كتب لهم في الدنيا { فاستمتعتم بخلاقكم } أي بما كتب لكم في هذه الحياة الدنيا { كما استمتع الذين من قبلكم } أي سواء بسواء { وخضتم } في الباطل والشر وبالكفر والتكذيب { كالذي خاضوا } أي كخوضهم سواء بسواء أولئك الهالكون { حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } أي تلاشت وذهبت ولم ينتفعوا منها بشيء، { وأولئك هم الخاسرون }.
وبما أنكم أيها المنافقون تسيرون على منهجهم في الكفر والتكذيب والاغترار بالمال والولد فسوف يكون مصيركم كمصيرهم وهو الخسران المبين. وقوله تعالى في الآية الرابعة [70] { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبرهيم وأصحب مدين والمؤتفكت أتتهم رسلهم بالبينت } أي الآيات الدالة على توحيد الله وصدق رسوله وسلامة دعوتهم كما جاءكم أيها المنافقون رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالبينات فكذبتم كما كذب الذين من قبلكم فنزل بهم عذاب الله فهلك قوم نوح بالطوفان وعاد بالريح العاتية، وثمود بالصاعقة، وقوم إبراهيم بسلب النعم وحلول النقم، وأصحاب مدين بالرجفة وعذاب الظلمة، والمؤتفكات بالمطر والإئتفاك أي القلب بأن أصبح أعالي مدنهم الثلاث أسافلها، وأسافلها أعاليها، وما ظلمهم الله تعالى بما أنزل عليهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وأنتم أيها المنافقون إن لم تتوبوا إلى ربكم سيحل بكم ما حل بمن قبلكم أو أشد لأنكم لم تعتبروا بما سبق.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إن المنافقين لما كان مرضهم واحد وهو الكفر الباطني كان سلوكهم متشابها.
2- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف علامة النفاق وظاهرة الكفر وانتكاس الفطرة.
3- الاغترار بالمال والولد من عوامل عدم قبول الحق والإذعان له والتسليم به.
4- تشابه حال البشر واتباع بعضهم لبعض في الباطل والفساد والشر.
5- حبوط الأعمال بالباطل وهلاك أهلها أمر مقضى به لا يتخلف.
6- وجوب الاعتبار بأحوال السابقين والاتعاظ بما لاقاه أهل الكفر منهم من عذاب.
[9.71-72]
شرح الكلمات:
والمؤمنون: أي الصادقون في إيمانهم بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
أولياء بعض: أي يتولى بعضهم بعضا في النصرة والحماية والمحبة والتأييد.
ويقيمون الصلاة: أي يؤدونها في خشوع وافية الشروط والأركان والسنن والآداب.
ويؤتون الزكاة: أي يخرجون زكاة أموالهم الصامتة كالدراهم والدنانير والمعشرات، والناطقة كالأنعام: الإبل والبقر والغنم.
في جنات عدن: أي إقامة دائمة لا يخرجون منها ولا يتحولون عنها.
ورضوان من الله أكبر: أي رضوان الله الذي يحله عليهم أكبر من كل نعيم في الجنة.
معنى الآيتين:
بمناسبة ذكر المنافقين وبيان سلوكهم ونهاية أمرهم ذكر تعالى المؤمنين وسلوكهم الحسن ومصيرهم السعيد فقال { والمؤمنون والمؤمنات } أي المؤمنون بالله ورسوله ووعده ووعيده والمؤمنات بذلك { بعضهم أوليآء بعض } أي يوالي بعضهم بعضا محبة ونصرة وتعاونا وتأييدا { يأمرون بالمعروف } وهو ما عرفه الشرع حقا وخيرا من الإيمان وصالح الأعمال، { وينهون عن المنكر } وهو ما عرفه الشرع باطلا ضارا فاسدا من الشرك وسائر الجرائم فالمؤمنون والمؤمنات على عكس المنافقين والمنافقات في هذا الأمر وقوله تعالى { ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } والمنافقون لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى فهم مضيعون لها غير مقيمن لها، ويقبضون أيديهم فلا ينفقون، والمؤمنون يطيعون الله ورسوله، والمنافقون يعصون الله ورسوله، المؤمنون سيرحمهم الله، والمنافقون سيعذبهم الله، { إن الله عزيز } غالب سينجز وعده ووعيده { حكيم } يضع كل شيء في موضعه اللائق به فلا يعذب المؤمنين وينعم المنافقين بل ينعم المؤمنين ويعذب المنافقين.
وقوله تعالى في الآية الثانية [72] { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } أي من خلال قصورها وأشجارها { خالدين فيها ومساكن } أي قصورا طيبة في غاية النظافة وطيب الرائحة { في جنات عدن } أي إقامة، وقوله { ورضوان من الله } أي يحله عليهم أكبر من الجنات والقصور وسائر أنواع النعيم. وقوله { ذلك هو الفوز العظيم } ذلك المذكور من الجنة ونعيمها ورضوان الله فيها هو الفوز العظيم. والفوز هو السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب. هذا الوعد الإلهي الصادق للمؤمنين والمؤمنات يقابله وعيد الله تعالى للمنافقين والكفار في الآيات السابقة، ونصه
وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم
[الآية: 68].
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- بيان صفات المؤمنين والمؤمنات والتي هي مظاهر إيمانهم وأدلته.
2- أهمية صفات أهل الإيمان وهي الولاء لبعضه بعضا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، طاعة الله ورسوله.
3- بيان جزاء أهل الإيمان في الدار الآخرة وهو النعيم المقيم في دار الإسلام.
4- أفضلية رضا الله تعالى على سائر النعيم.
5- بيان معنى الفوز وهو النجاة من النار، ودخول الجنة.
[9.73-74]
شرح الكلمات:
جاهد الكفار: ابذل غاية جهدك في قتال الكفار والمنافقين.
واغلظ عليهم: أي في القول والفعل أي شدد عليهم ولا تلن لهم.
كلمة الكفر: أي كلمة يكفر بها من قالها وهي قول الجلاس بن سويد: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من الحمير.
وهموا بما لم ينالوا: أي هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم في مؤامرة دنيئة وهم عائدون من تبوك.
وما نقموا إلا أن أغناهم: أي ما أنكروا أو كرهوا من الإسلام ورسوله إلا أن أغناهم الله بعد فقر أعلى مثل هذا يهمون بقتل رسول الله؟
معنى الآيتين:
يأمر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين فيقول { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } وجهاد الكفار يكون بالسلاح وجهاد المنافقين يكون باللسان، وقوله تعالى { واغلظ عليهم } أي شدد عملك وقولك، فلا هوادة مع من كفر بالله ورسوله، ومع من نافق الرسول والمؤمنين فأظهر الإيمان وأسر الكفر وقوله تعالى { ومأواهم جهنم وبئس المصير } أي جهنم يريد ابذل ما في وسعك في جهادهم قتلا وتأديبا هذا لهم في الدنيا، وفي الآخرة مأواهم جهنم وبئس المصير، وقوله تعالى في الآية الثانية [74] { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا } هذا الكلام علة للأمر بجهادهم والإغلاظ عليهم لقول الجلاس بن سويد المنافق: لئن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من الحمير سمعه منه أحد المؤمنين فبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء الجلاس يعتذر ويحلف بالله ما قال الذي قال فأكذبه الله تعالى في قوله في هذه الآية { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } والسياق دال على تكرر مثل هذا القول الخبيث وهو كذلك. قوله تعالى { وهموا بما لم ينالوا } يعني المنافقين الذين تآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك في عقبة في الطريق إلا أن الله فضحهم وخيب مسعاهم ونجى رسوله منهم حيث بعث عمار بن ياسر يضرب وجوه الرواحل لما غشوه فردوا وتفرقوا بعد أن عزموا على أن يزاحموا رسول الله وهو على ناقته بنوقهم حتى يسقط منها فيهلك أهلكهم الله. وقوله تعالى { وما نقموا } أي وما كرهوا من رسول الله ولا من الإسلام شيئا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله وهل الغنى بعد الفقر مما ينقم منه، والجواب لا ولكنه الكفر والنفاق يفسد الذوق والفطرة والعقل أيضا.
ومع هذا الذي قاموا به من الكفر والشر والفساد يفتح الرب الرحيم تبارك وتعالى باب التوبة في وجوههم ويقول { فإن يتوبوا } من هذا الكفر والنفاق والشر والفساد يك ذلك { خيرا لهم } حالا ومآلا أي في الدنيا والآخرة، { وإن يتولوا } عن هذا العرض ويرفضوه فيصرون على الكفر والنفاق { يعذبهم الله عذابا أليما } أي موجعا في الدنيا بالقتل والخزي، وفي الآخر بعذاب النار، { وما لهم في الأرض من ولي } يتولاهم ولا ناصر ينصرهم، أي وليس لهم في الدنيا من ولي يدفع عنهم ما أراد الله أن ينزله بهم من الخزي والعذاب وما لهم من ناصر ينصرهم بعد أن يخذلهم الله سبحانه وتعالى.
هداية الأيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان آية السيف وهي { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين }.
2- تقرير مبدأ الردة وهي أن يقول المسلم كلمة الكفر فيكفر بها وذلك كالطعن في الإسلام أو سب الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو التكذيب بما أمر الله تعالى بالإيمان به والتصديق بضده أي بما أمر الله بتكذيبه.
3- تقرير مبدأ التوبة من كل الذنوب، وأن من تاب تقبل توبته.
4- الوعيد الشديد لمن يصر على الكفر ويموت عليه.
[9.75-78]
شرح الكلمات:
ومنهم: أي من المنافقين.
لئن آتانا من فضله: أي مالا كثيرا.
بخلوا به: أي منعوه فلم يؤدوا حقه من زكاة وغيرها.
فأعقبهم نفاقا: أي فأورثهم البخل نفاقا ملازما لقلوبهم لا يفارقها إلى يوم يلقون الله تعالى.
بما أخلفوا الله: أي بسبب إخلافهم ما وعدوا الله تعالى به.
سرهم ونجواهم: أي ما يسرونه في نفوسهم ويخفونه، وما يتناجون به فيما بينهم.
علام الغيوب: يعلم كل غيب في الأرض أو في السماء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في المنافقين وهم أصناف وهذا صنف آخر منهم قد عاهد الله تعالى لئن أغناهم من فضله وأصبحوا ذوي ثروة ومال كثير ليصدقن منه ولينفقنه في طريق البر والخير، فلما أعطاهم الله ما سألوا وكثر مالهم شحوا به وبخلوا، وتولوا عما تعهدوا به وما كانوا عليه من تقوى وصلاح، وهم معرضون. فأورثهم هذا البخل وخلف الوعد والكذب { نفاقا في قلوبهم } لا يفارقهم حتى يلقوا ربهم. هذا ما دل عليه قوله تعالى { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } أما الآية الأخيرة [78] وهي قوله تعالى { ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب }؟ فإنها تضمنت توبيخ الله تعالى للمنافقين الذين عاهدوا الله وأخلفوه بموقفهم الشائن كأنهم لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأنه تعالى علام الغيوب، وإلا كيف يعدونه ويحلفون له أم يحسبون أن الله لا يسمع سرهم ونجواهم فموقفهم هذا موقف مخز لهم شائن، وويل لهم حيث لازمهم ثمرته وهو النفاق حتى الموت وبهذا أغلق باب التوبة في وجوههم وهلكوا مع الهالكين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بالعهود وخاصة عهود الله تعالى.
2- ذم البخل وأهله.
3- تقرير مبدأ أن السيئة يتولد عنها سيئة.
4- جواز تقريع وتأنيب أهل الباطل.
5- وجوب مراقبة الله تعالى إذ لو راقب هؤلاء المنافقون الله تعالى لما خرجوا عن طاعته.
[9.79-80]
شرح الكلمات:
يلمزون: أي يعيبون ويطعنون.
المطوعين: أي المتصدقين بأموالهم زيادة على الفريضة.
إلا جهدهم: إلا طاقتهم وما يقدرون عليه فيأتون به.
فيسخرون منهم: أي يستهزئون بهم احتقارا لهم.
استغفر لهم: أي اطلب لهم المغفرة أو لا تطلب.
لا يهدي القوم الفاسقين: أي إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وذلك لتوغلهم في العصيان.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في التنديد بالمنافقين وكشف عوارهم فقد أخبر تعالى أن { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم }. أخبر تعالى أنه سخر منهم جزاء سخريتهم بالمتصدقين وتوعدهم بالعذاب الأليم. وكيفية لمزهم المتطوعين أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الصدقة فإذا جاء الرجل بمال كثير لمزوه وقالوا مراء، وإذا جاء الرجل بالقليل لمزوه وقالوا: الله غني عن صاعك هذا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ففضحهم وسخر منهم وتوعدهم بأليم العذاب وأخبر نبيه أن استغفاره لهم وعدمه سواء فقال { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وبين علة ذلك بقوله { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } ، وهذه العلة كافية في عدم المغفرة لهم لأنها الكفر والكافر مخلد في النار. وأخبر تعالى أنه حرمهم الهداية فلا يتوبوا فقال { والله لا يهدي القوم الفاسقين } لأن الفسق قد أصبح وصفا لازما لهم فلذا هم لا يتوبون، وبذلك حرموا هداية الله تعالى.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة لمز المؤمن والطعن فيه.
2- حرمة السخرية بالمؤمن.
3- غيرة الله على أوليائه حيث سخر الله ممن سخر من المطوعين.
4- من مات على الكفر لا ينفعه الاستغفار له، بل ولا يجوز الاستغفار له.
5- التوغل في الفسق أو الكفر أو الظلم يحرم صاحبه الهداية.
[9.81-83]
شرح الكلمات:
فرح المخلفون: أي سر الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: لا تنفروا في الحر: أي قال المنافقون لبعضهم بعضا لا تخرجوا للغزو في الحر.
لو كانوا يفقهون: أي لو كانوا يفقهون أسرار الأمور وعواقبها ونتائجها لما قالوا: لا تنفروا في الحر ولكنهم لا يفقهون.
فليضحكوا قليلا وليبكوا: أي في الدنيا، وليبكوا كثيرا في الدار الآخرة.
فإن رجعك الله إلى طائفة منهم: أي من المنافقين.
فاقعدوا مع الخالفين: أي المتخلفين عن تبوك من النساء والأطفال وأصحاب الأعذار.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين فقال تعالى مخبرا عنهم { فرح المخلفون } أي سر المتخلفون { بمقعدهم خلاف رسول الله } أي بقعودهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } في سبيله، وكرههم هذا للجهاد هو ثمرة نفاقهم وكفرهم وقولهم { لا تنفروا في الحر } لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر، قالوا هذا لبعضهم بعضا وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم قولهم هذا فقال { قل نار جهنم أشد حرا } فلماذا لا يتقونها بالخروج في سبيل الله كما يتقون الحر بعدم الخروج، وقوله تعالى { لو كانوا يفقهون } أي لما تخلفوا عن الجهاد لأن نار جهنم أشد حرا، ولكنهم لا يفقهون وقوله تعالى { فليضحكوا قليلا } أي في هذه الحياة الدنيا بما يحصل لهم من المسرات { وليبكوا كثيرا } أي يوم القيامة لما ينالهم من الحرمان والعذاب، وذلك كان { جزآء بما كانوا يكسبون } من الشر والفساد، وقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم } أي فإن ردك الله سالما من تبوك إلى المدينة إلى طائفة من المنافقين { فاستأذنوك للخروج } معك لغزو وجهاد { فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا } وعلة ذلك { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين } أي من النساء والأطفال فإن هذا يزيد في همهم ويعظم حسرتهم جزاء تخلفهم عن رسول الله وكراهيتهم الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من علامات النفاق الفرح بترك طاعة الله ورسوله.
2- من علامات النفاق كراهية طاعة الله ورسوله.
3- كراهية الضحك والإكثار منه.
4- تعمد ترك الطاعة قد يسبب الحرمان منها.
[9.84-85]
شرح الكلمات:
ولا تصل على أحد: أي صلاة الجنازة.
ولا تقم على قبره: أي لا تتول دفنه والدعاء له كما تفعل مع المؤمنين.
وماتوا وهم فاسقون: أي خارجون عن طاعة الله ورسوله.
وتزهق أنفسهم: أي تخرج أرواحهم بالموت وهم كافرون.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في شأن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك، وإن كانت هذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين وذلك أنه لما مات طلب ولده الحباب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله وقال له الحباب اسم الشيطان وسماه عبد الله جاءه فقال يا رسول الله إن أبي قد مات فأعطني قميصك أكفنه فيه " رجاء بركته " وصل عليه واستغفر له يا رسول الله فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص وقال له إذا فرغتم فآذنوني فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر وقال له: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين فقال بل خيرني فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم. فصلى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } أي لا تتول دفنه والدعاء له بالتثبيت عند المسألة. وعلل تعالى لهذا الحكم بقوله { إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } ، وقوله { ولا تعجبك أمولهم وأولدهم } فتصلي عليهم. إني إنما أعطيتهم ذلك لا كرامة لهم وإنما لأعذبهم بها في الدنيا بالغموم والهموم { وتزهق أنفسهم } أي ويموتوا { وهم كفرون } فسينقلون إلى عذاب أبدي لا يخرجون منه، وذلك جزاء من كفر بالله ورسوله.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة الصلاة على الكافر مطلقا.
2- حرمة غسل الكافر والقيام على دفنه والدعاء له.
3- كراهة الصلاة على أهل الفسق دون الكفر.
4- حرمة الإعجاب بأحوال الكافرين المادية.
[9.86-90]
شرح الكلمات:
استأذنك: أي طلبوا إذنك لهم بالتخلف.
أولوا الطول منهم: أي أولو الثروة والغنى.
ذرنا نكن مع القاعدين: أي اتركنا مع المتخلفين من العجزة والمرضى والأطفال والنساء.
مع الخوالف: أي مع النساء جمع خالفة المرأة تخلف الرجل في البيت إذا غاب.
طبع على قلوبهم: أي توالت ذنوبهم على قلوبهم فأصبحت طابعا عليها فحجبتها المعرفة.
لهم الخيرات: أي في الدنيا بالنصر والغنيمة. وفي الآخرة بالجنة والكرامة فيها.
وأولئك هم المفلحون: أي الفائزون بالسلامة من المخوف والظفر بالمحبوب.
المعذرون: أي المعتذرون.
وقعد الذين كذبوا الله: أي ولم يأت إلى طلب الإذن بالقعود عن الجهاد منافقوا الأعراب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في كشف عورات المنافقين وبيان أحوالهم فقال تعالى { وإذآ أنزلت سورة } أي قطعة من القرآن آية أو آيات { أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله } أي تأمر بالإيمان بالله والجهاد مع رسوله { استأذنك أولوا الطول منهم } أي من المنافقين { وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } أي المتخلفين عن الجهاد للعجز كالمرضى والنساء والأطفال قال تعالى: في عيبهم وتأنيبهم { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } أي مع النساء وذلك لجبنهم وهزيمتهم النفسية وقوله تعالى { وطبع على قلوبهم } أي طبع الله على قلوبهم بآثار ذنوبهم التي رانت على قلوبهم فلذا هم لا يفقهون معنى الكلام وإلا لما رضوا بوصمة العار وهي أن يكونوا في البيوت مع النساء هذه حال المنافقين وتلك فضائحهم إذا أنزلت سورة تأمر بالإيمان والجهاد يأتون في غير حياء ولا كرامة يستأذنون في البقاء مع النساء { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } ولم يستأذنوا ففازوا بكرامة الدنيا والآخرة قال تعالى { وأولئك لهم الخيرات } أي في الدنيا بالانتصارات والغنائم وفي الآخرة بالجنة ونعيمها ورضوان الله فيها. وقال { وأولئك هم المفلحون } أي الفائزون بالسلامة من كل مرهوب وبالظفر بكل مرغوب وفسر تعالى تلك الخيرات وذلك الفلاح بقوله في الآية [89] فقال { أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } وأخبر عما أعد لهم من ذلك النعيم المقيم بأنه الفوز فقال { ذلك الفوز العظيم }. هذا ما دلت عليه الآيات الأربع أما الآية الخامسة [90] فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن منافقي الأعراب أي البادية. فقال تعالى { وجآء المعذرون } أي المعتذرون ادغمت التاء في الذال فصارت المعذرون من الأعراب أي من سكان البادية كأسد وغطفان ورهط عامر بن الطفيل جاءوا يطلبون الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخلف بدعوى الجهد والمخمصة، وقد يكونون معذورين حقا وقد لا يكونون كذلك، وقوله { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } في دعوى الإيمان بالله ورسوله وما هم بمؤمنين بل هم كافرون منافقون، فلذا قال تعالى فيهم { سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم } في الدنيا وفي الآخرة،إن ماتوا على كفرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القرآن هو مصدر التشريع الإلهي الأول والسنة الثاني.
2- مشروعية الاستئذان للحاجة الملحة.
3- حرمة الاستئذان للتخلف عن الجهاد مع القدرة عليه.
4- حرمة التخلف عن الجهاد بدون إذن من الإمام.
5- فضل الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.
6- بيان عظم الأجر وعظيم الجزاء لأهل الإيمان والجهاد.
[9.91-92]
شرح الكلمات:
على الضعفاء: أي كالشيوخ. ولا على المرضى: كالعمى والزمنى.
حرج: أي إثم على التخلف.
إذا نصحوا لله ورسوله: أي لا حرج عليهم في التخلف إذا نصحوا لله ورسوله وذلك بطاعتهم لله ورسوله مع تركهم الإرجاف والتثبيط.
ما على المحسنين من سبيل: أي من طريق إلى مؤاخذتهم.
لتحملهم: أي على رواحل يركبونها.
تولوا: أي رجعوا إلى بيوتهم.
تفيض من الدمع: أي تسيل بالدموع الغزيرة حزنا على عدم الخروج.
معنى الآيتين:
لما ندد تعالى بالمتخلفين وتوعد بالعذاب الأليم الذين لم يعتذروا منهم ذكر في هذه الآيات أنه لا حرج على أصحاب الأعزار وهم الضعفاء، كالشيوخ والمرضى والعميان وذوو العرج والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ولكن بشرط نصحهم لله ورسوله فقال عز وجل { ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } أي إثم { إذا نصحوا لله ورسوله } ومعنى النصح لله ورسوله طاعتهما في الأمر والنهي وترك الإرجاف والتثبيط والدعاية المضادة لله ورسوله والمؤمنين والجهاد في سبيل الله وقوله تعالى { ما على المحسنين من سبيل } أي ليس على من أحسنوا في تخلفهم لأنه أولا بعذر شرعي وثانيا هم مطيعون لله ورسوله وثالثا قلوبهم ووجوههم مع الله ورسوله وإن تخلفوا بأجسادهم للعذر فهؤلاء ما عليهم من طريق إلى انتقاصهم أو أذيتهم بحال من الأحوال، كما ليس من سبيل { على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم } إلى الجهاد معك في سيرك { قلت } معتذرا إليهم { لا أجد مآ أحملكم عليه تولوا } أي رجعوا إلى منازلهم وهم يبكون والدموع تفيض من أعينهم حزنا { ألا يجدوا ما ينفقون } في سيرهم معكم وهم نفر منهم العرباص بن سارية وبنو مقرن وهم بطن من مزينة. رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لا حرج على أصحاب الأعذار الذين ذكر الله تعالى في قوله
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج
[النور: 61] وفي هذه الآية { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون } حرج وبشرط طاعة الله والرسول فيما يستطيعون والنصح لله والرسول بالقول والعمل وترك التثبيط والتخذيل والإرجاف من الإشاعات المضادة للإسلام والمسلمين.
2- مظاهر الكمال المحمدي في تواضعه ورحمته وبره وإحسانه إلى المؤمنين.
3- بيان ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار من الإيمان واليقين والسمع والطاعة والمحبة والولاء ورقة القلوب وصفاء الأرواح.
اللهم إنا نحبهم بحبك فأحببنا كما أحببتهم واجمعنا معهم في دار كرامتك.
[9.93-96]
شرح الكلمات:
إنما السبيل: أي الطريق إلى المعاقبة.
أغنياء: واجدون لأهبة الجهاد مع سلامة أبدانهم.
الخوالف: أي النساء والأطفال والعجزة.
إذا رجعتم إليهم: أي إذا عدتم إليهم من تبوك، وكانوا بضعا وثمانين رجلا.
لن نؤمن لكم: أي لن نصدقكم فيما تقولون.
ثم تردون: أي يوم القيامة.
إذا انقلبتم: أي رجعتم من تبوك .
لتعرضوا عنهم: أي لا تعاقبوهم.
رجس: أي نجس لخبث بواطنهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في المخلفين من المنافقين وغير المنافقين فقال تعالى { إنما السبيل } أي الطريق إلى عقاب المخلفين على الذين يستأذنوك في التخلف عن الغزو وهم أغنياء ذو قدرة على النفقة والسير { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } أي النساء { وطبع الله على قلوبهم } بسبب ذنوبهم فهم لذلك لا يعلمون أن تخلفهم عن رسول الله لا يجديهم نفعا وأنه يجر عليهم البلاء الذي لا يطيقونه. هؤلاء هم الذين لكم سبيل على عقابهم ومؤاخذتهم، لا على الذين لا يجدون ما ينفقون، وطلبوا منك حملانا فلم تجد ما تحملهم عليه فرجعوا إلى منازلهم وهم يبكون حزنا، هذا ما دلت عليه الآية الأولى [93] أما الآيات الثلاث بعدها فهي في المخلفين من المنافقين يخبر تعالى عنهم فيقول { يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم } يطلبون العذر منكم إذا رجعتم إلى المدينة من غزوكم. قل لهم يا رسولنا لا تعتذروا لأننا لا نؤمن لكم أي لا نصدقكم فيما تقولونه، لأن الله تعالى قد نبأنا من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله. إن أنتم تبتم فأخلصتم دينكم لله، أو أصررتم على كفركم ونفاقكم، وستردون بعد موتكم إلى عالم الغيب والشهادة وهو الله تعالى فينبئكم يوم القيامة بعد بعثكم بما كنتم تعملون من حسنات أو سيئآت ويجزيكم بذلك الجزاء العادل. وقوله تعالى { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم } يخبر تعالى رسوله والمؤمنين فيقول سيحلف لكم هؤلاء المخلفون إذا رجعتم إليهم أي إلى المدينة من أجل أن تعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم أي لا تؤاخذوهم ولا تلتفوا إليهم إنهم رجس أي نجس، ومأواهم جهنم جزاء لهم بما كانوا يكسبونه من الكفر والنفاق والمعاصي. وقوله تعالى { يحلفون لكم } معتذرين بأنواع من المعاذير لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فلن ينفعهم رضاكم شيئا لأنهم فاسقون والله لا يرضى عن القوم الفاسقين وما دام لا يرضى عنهم فهو ساخط عليهم، ومن سخط الله عليه أهلكه وعذبه فلذا رضاكم عنهم وعدمه سواء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا سبيل إلى أذية المؤمنين الصادقين إذا تخلفوا فإنهم ما تخلفوا إلا لعذر. وإنما السبيل على الأغنياء القادرين على السير إلى الجهاد وقعدوا عنه لنفاقهم.
2- مشروعية الاعتذار على شرط أن يكون المرء صادقا في اعتذاره.
3- المنافقون كالمشركين رجس أي نجس لأن بواطنهم خبيثة بالشرك والكفر وأعمالهم الباطنة خبيثة أيضا إذ كلها تآمر على المسلمين ومكر بهم وكيد لهم.
4- حرمة الرضا على الفاسق المجاهر بفسقه، إذ يجب بغضه فكيف يرضى عنه ويحب؟
[9.97-99]
شرح الكلمات:
الأعراب: جمع أعرابي وهو من سكن البادية.
أشد كفرا ونفاقا: أي من كفار ومنافقي الحاضرة.
وأجدر: أي أحق وأولى.
حدود ما أنزل الله: أي بشرائع الإسلام.
مغرما: أي غرامة وخسرانا.
ويتربص: أي ينتظر.
الدوائر: جمع دائرة: ما يحيط بالإنسان من مصيبة أو نكبة.
دائرة السوء: أي المصيبة التي تسوءهم ولا تسرهم وهي الهلاك.
قربات: جمع قربة وهي المنزلة المحمودة.
وصلوات الرسول: أي دعاؤه لهم بالخير.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الكشف عن المنافقين وإعدادهم للتوبة أو للقضاء عليهم ففي الآية الأولى [97] يخبر تعالى أن الأعراب وهم سكان البادية من العرب أشد كفرا ونفاقا من كفار الحضر ومنافقيهم. وإنهم أجدر أي أخلق وأحق أي بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله أي من الأحكام والسنن وذلك لبعدهم عن الاتصال بأهل الحاضرة وقوله تعالى { والله عليم حكيم } أي عليم بخلقه حكيم في شرعه فما أخبر به هو الحق الواقع، وما قضى به هو العدل الواجب. وقوله تعالى في الآية الثانية [98] { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما } أي من بعض الأعراب من يجعل ما ينفقه في الجهاد غرامة لزمته وخسارة لحقته في ماله وذلك لأنه لا يؤمن بالثواب والعقاب الأخروي لأنه كافر بالله ولقاء الله تعالى. وقوله عز وجل { ويتربص بكم الدوائر } أي وينتظر بكم أيها المسلمون الدوائر متى تنزل بكم فيتخلص منكم ومن الانفاق لكم والدوائر جمع دائرة المصيبة والنازلة من الأحداث وقوله تعالى { عليهم دآئرة السوء } هذه الجملة دعاء عليهم. جزاء ما يتربصون بالمؤمنين. وقوله { والله سميع عليم } أي سميع لأقوالهم عليم بنياتهم فلذا دعا عليهم بما يستحقون. وقوله تعالى في الآية الثالثة [99] { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول } إخبار منه تعالى بأن الأعراب ليسوا سواء بل منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلذا هو يتخذ ما ينفق من نفقة في الجهاد قربات عند الله أي قربا يتقرب بها إلى الله تعالى، ووسيلة للحصول على دعاء الرسول له، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه المؤمن بزكاته أو صدقته يدعو له بخير، كقوله لعبد الله بن أبي أوفى: اللهم صل على آل أبي أوفى، وقوله تعالى { ألا إنها قربة لهم } إخبار منه تعالى بأنه تقبلها منهم وصارت قربة لهم عنده تعالى، وقوله تعالى { سيدخلهم الله في رحمته } بشرى لهم بدخول الجنة، وقوله { إن الله غفور رحيم } يؤكد وعد الله تعالى لهم بإدخالهم في رحمته التي هي الجنة فإنه يغفر ذنوبهم أولا، ويدخلهم الجنة ثانيا هذه سنته تعالى في أوليائه، يطهرهم ثم ينعم عليهم بجواره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن سكان البادية يحرمون من كثير من الآداب والمعارف فلذا سكن البادية غير محمود إلا إذا كان فرارا من الفتن.
2- من الأعراب المؤمن والكافر والبر والتقي والعاصي والفاجر كسكان المدن إلا أن كفار البادية ومنافقيها أشد كفرا ونفاقا لتأثير البيئة.
3- فضل النفقة في سبيل الله والإخلاص فيها لله تعالى.
[9.100-102]
شرح الكلمات:
والسابقون: أي إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد.
اتبعوهم بإحسان: أي في أعمالهم الصالحة.
رضي الله عنهم: بسبب طاعتهم له وإنابتهم إليه وخشيتهم منه ورغبتهم فيما لديه.
ورضوا عنه: بما أنعم عليهم من جلائل النعم وعظائم المنن.
وممن حولكم: أي حول المدينة من قبائل العرب.
مردوا: مرقوا وحذقوه وعتوا فيه.
سنعذبهم مرتين: الأولى قد تكون فضيحتهم بين المسلمين والثانية عذاب القبر.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } وهم الذين سبقوا غيرهم إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد، والذين اتبعوهم في ذلك وأحسنوا أعمالهم فكانت موافقة لما شرع الله وبين رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ الجميع رضي الله عنهم بإيمانهم وصالح أعمالهم، ورضوا عنه بما أنالهم من إنعام وتكريم، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا أي وبشرهم بما أعد لهم من جنات وقوله { ذلك الفوز العظيم } أي ذلك المذكور من رضاه تعالى عنهم ورضاهم عنه وإعداد الجنة لهم هو الفوز العظيم، والفوز السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب فالنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم، هذا ما دلت عليه الآية الأولى [100] وأما الآية الثانية فقد تضمنت الإخبار بوجود منافقين في الأعراب حول المدينة، ومنافقين في داخل المدينة، إلا أنهم لتمرسهم وتمردهم في النفاق أصبحوا لا يعرفون، لكن الله تعالى يعلمهم هذا معنى قوله تعالى { وممن حولكم من الأعراب منفقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } ، وقوله تعالى { سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم } وعيد لهم نافذ فيهم لا محالة وهو أنه تعالى سيعذبهم في الدنيا مرتين مرة بفضحهم أو بما شاء من عذاب ومرة في قبورهم، ثم بعد البعث يردهم إلى عذاب النار وهو العذاب العظيم، وقوله تعالى في الآية الثانية [102] { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } هؤلاء أناس آخرون تخلفوا عن الجهاد بغير عذر وهم أبو لبابة ونفر معه ستة أو سبعة أنفار ربطوا أنفسهم في سواري المسجد لما سمعوا ما نزل في المتخلفين وقالوا لن نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلطوا عملا صالحا وهو إيمانهم وجهادهم وإسلامهم وعملا سيئا وهو تخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، فقوله تعالى { عسى الله أن يتوب عليهم } إعلامهم بتوبة الله تعالى عليهم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحل رباطهم وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها واستغفر لنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل السبق للخير والفوز بالأولية فيه.
2- فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيرهم ممن جاء بعدهم.
3- فضل التابعين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحسنوا المتابعة.
4- علم ما في القلوب إلى الله تعالى فلا يعلم أحد من الغيب إلا ما علمه الله عز وجل.
5- الرجاء لأهل التوحيد الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا بأن يغفر الله لهم ويرحمهم.
[9.103-106]
شرح الكلمات:
صدقة: مالا يتقرب به إلى الله تعالى.
تطهرهم وتزكيهم بها: أي تطهرهم من ذنوبهم، وتزكيهم أنت أيها الرسول بها بدعائك لهم وثنائك عليهم.
وصل عليهم: أي ادع لهم بالخير.
إن صلاتك سكن لهم: أي دعاءك رحمة.
ويأخذ الصدقات: يتقبلها.
مرجون لأمر الله: مؤخرون لحكم الله وقضائه.
عليم حكيم: اي بخلقه نيات وأموالا وأعمالا حكيم في قضائه وشرعه.
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآية قبل هذه أن المتخلفين التائبين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم هذه أموالنا التي تخلفنا بسببها صدقة فخذها يا رسول الله فقال لهم إني لم أؤمر بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلوتك سكن لهم والله سميع عليم } فأمر تعالى رسوله أن يأخذ صدقة هؤلاء التائبين لأنها تطهرهم من ذنوبهم ومن أوضار الشح في نفوسهم وتزكيهم أيها الرسول بها بقبولك لها وصل عليهم أي ادع لهم بخير، إن صلاتك سكن لهم أي رحمة وطمأنينة في نفوسهم والله سميع لأقوالهم لما قدموا صدقتهم وقالوا خذها يا رسول الله عليم بنياتهم وبواعث نفوسهم فهم تائبون توبة صدق وحق. وقوله تعالى { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } الاستفهام للتقرير أي هم يعلمون ذلك قطعا، ويأخذ الصدقات أي يقبلها، وأن الله هو التواب أي كثير قبول التوبة من التائبين الرحيم بعباده المؤمنين ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم حاضا لهم على العمل الصالح تطهيرا لهم وتزكية لنفوسهم { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } فيشكر لكم ويثني به عليكم { وستردون إلى عالم الغيب والشهادة } وهو الله عز وجل { فينبئكم بما كنتم تعملون } ويجزيكم به الحسن بالحسن والسيء بمثله. وقوله تعالى { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } هذا هو الصنف الثالث من أصناف المتخلفين فالأول هم المنافقون والثاني هم التائبون والثالث هو المقصود بهذه الآية وهم ثلاثة أنفار كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فهؤلاء لم يأتوا الرسول صلى الله عليه وسلم ليعتذروا إليه كما فعل التائبون المتصدقون بأموالهم منهم أبو لبابة حيث ربطوا أنفسهم في سواري المسجد فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم حتى يحكم الله فيهم، وهو معنى قوله تعالى { مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم } فإن عذبهم أو تاب عليهم فذلك لعلمه وحكمته. وبقوا كذلك حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ثم تاب الله تعالى عليهم كما جاء ذلك بعد كذا آية من آخر هذه السورة { وأن الله هو التواب الرحيم }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الصدقة تكفر الذنوب وتطهر الأرواح من رذيلة الشح والبخل.
2- يستحب لمن يأخذ صدقة امرىء مسلم أن يدعو له بمثل: آجرك الله على ما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت.
3- ينبغي للتائب من الذنب الكبير أن يكثر بعده من الصالحات كالصدقات والصلوات ونحوها.
4- فضيلة الخوف والرجاء فالخوف يحمل على ترك المعاصي والرجاء يحمل على الإكثار من الصالحات.
[9.107-110]
شرح الكلمات:
ضرارا: أي لأجل الإضرار.
وإرصادا: انتظارا وترقبا.
إلا الحسنى }: أي إلا الخير والحال الأحسن.
لا تقم فيه أبدا: أي لا تقم فيه للصلاة أبدا.
أسس على التقوى: أي بني على التقوى وهو مسجد قبا.
فيه رجال: هم بنو عمرو بن عوف.
على تقوى من الله: اي على خوف.
ورضوان: أي رجاء رضوان الله تعالى.
على شفا جرف هار: أي على طرف جرف مشرف على السقوط، وهو مسجد الضرار.
ريبة في قلوبهم: أي شكا في نفوسهم.
إلا أن تقطع قلوبهم: أي تفصل من صدورهم فيموتوا.
معنى الآيات
ما زال السياق في فضح المنافقين وإغلاق أبواب النفاق في وجوههم حتى يتوبوا إلى الله تعالى أو يهلكوا وهم كافرون فقال تعالى ذاكرا فريقا منهم { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل } إن المراد من هؤلاء الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا اثنا عشر رجلا من أهل المدينة كانوا قد أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاخص إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا للعاجز منا والمريض ولليلة المطيرة فصل لنا فيه فقال لهم صلى الله عليه وسلم أنا الآن على جناح سفر وإن عدنا نصلي لكم فيه إن شاء الله أو كما قال. فلما عاد صلى الله عليه وسلم من تبوك ووصل إلى مكان قريب من المدينة يقال له ذواوان وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار نزل عليه الوحي بشأن مسجد الضرار فبعث مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عاصما أخا بني العجلان فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال لمعن انظرني حتى أخرج إليك بنار فخرج بسعف نخل قد أضرم فيه النار وأتيا المسجد وأهله فيه فأضرما فيه النار وهدماه وتفرق أهله ونزل فيهم قوله تعالى { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا } أي لأجل الإضرار بالمسجد النبوي ومسجد قباء حتى يأتيهما أهل الحي وقوله { وكفرا } أي لأجل الكفر بالله ورسوله وقوله { وتفريقا بين المؤمنين } علة ثالثة لبناء مسجد الضرار إذ كان أهل الحي مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا تفرقتهم في مسجدين حتى يجد هؤلاء المنافقون مجالا للتشكيك والطعن وتفريق صفوف المؤمنين على قاعدة: (فرق تسد) { وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل } وهو أبو عامر الراهب الفاسق لأنه عليه لعائن الله هو الذي أمرهم أن يبنوه ليكون وكرا للتآمر والكيد وهذا الفاسق قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما وجدت قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فكان مع المشركين في حروبهم كلها إلى أن انهزم المشركون في هوازن وأيس اللعين ذهب إلى بلاد الروم يستعديهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا أمر المنافقين ببناء مسجد الضرار ليكون كما ذكر تعالى حتى ينزل به مع جيوش الروم التي قد خرج يستعديها ويؤلبها إلا أنه خاب في مسعاه وهلك بالشام إلى جهنم وبئس المصير فهذا معنى قوله تعالى { وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل } أي قبل بناء مسجد الضرار الذي هدم وحرق وأصبح موضع قمامة تلقى فيه الجيف والقمائم.
وقوله تعالى { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } هذا قولهم لما حرق عليهم المسجد وهدم وانفضح أمرهم حلفوا ما أرادوا ببنائه إلا الحالة التي هي حسنى لا سوء فيها إذ قالوا بنيناه لأجل ذي العلة ولليلة المطيرة، وقوله تعالى { والله يشهد إنهم لكاذبون } تفنيد لقولهم وتقرير لكذبهم. وقوله تعالى { لا تقم فيه أبدا } نهي للرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلى لهم فيه كما واعدهم وهو ذاهب إلى تبوك. وقوله تعالى { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } وهو مسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء إذ كل منهما أسس من أول يوم على تقوى من الله ورضوان أي على خوف من الله وطلب رضاه، وقوله تعالى { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } ثناء على أهل قباء بخير واخبار أنهم يحبون أن يتطهروا من الخبث الحسي والمعنوي فكانوا يجمعون في الاستنجاء بين الحجارة والماء فأثنى الله تعالى عليهم بذلك، وقوله تعالى { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان } أي على مخافة من الله وطلب لرضاه خير أمن أسس بنيانه على شفا أي طرف جرف هار أي مشرف على السقوط، والجرف ما يكون في حافة الوادي من أرض يجرف السيل من تحتها التراب وتبقى قائمة ولكنها مشرفة على السقوط، وقوله تعالى { فانهار به في نار جهنم } أي سقط به ذلك الجرف في نار جهنم والعياذ بالله تعالى، هذا حال أولئك المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار . وقوله تعالى { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي لا يهديهم إلى ما يكملون به ويسعدون أي يحرمهم هدايته فيخسرون دنيا وأخرى وقوله تعالى { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } أي شكا واضطرابا في نفوسهم { إلا أن تقطع قلوبهم } فيهلكوا والشك في قلوبهم أي فكان هذا البناء الظالم سببا في تأصل النفاق والكفر في قلوبهم حتى يموتوا كافرين وقوله { والله عليم حكيم } تذييل للكلام بما يقرر مضمونه ويثبته فكونه تعالى عليما حكيما يستلزم حرمان أولئك الظلمة المنافقين من الهداية حتى يموتوا وهم كافرون إلى جهنم وذلك لتوغلهم في الظلم والشرك والفساد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أكبر مؤامرة ضد الإسلام قام بها المنافقون بارشاد الفاسق أبي عامر الراهب.
2- بيان أن تنازع الشرف هو سبب البلاء كل البلاء فابن أبي حارب الإسلام لأنه كان يؤمل في السلطة على أهل المدينة فحرمها بالإسلام. وأبو عامر الراهب ترهب لأجل الشرف على أهل المدينة والسلطان الروحي فلذا لما فقدها حارب من كان سبب حرمانه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم حتى قال له مواجهة: ما قاتلك قوم إلا قاتلتك معهم. بل ذهب إلى الروم يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود ما حاربوا الإسلام إلا من أجل المحافظة على أملهم في مملكة إسرائيل.
3- لا يصح الإغترار بأقوال أهل النفاق فإنها كذب كلها.
4- أيما مسجد بني للإضرار والتفرقة بين المسلمين إلا ويجب هدمه وتحرم الصلاة فيه.
5- فضل التطهر والمبالغة في الطهارتين الروحية والبدنية.
6- التحذير من الظلم والإسراف فيه فإنه يحرم صاحبه هداية الله فيهلك وهو ظالم فيخسر دنيا وأخرى.
[9.111-112]
شرح الكلمات:
الجنة: هي دار السلام التي أعدها الله تعالى للمتقين.
يقاتلون: أي الكفار والمشركين.
وعدا: أي وعدهم وعدا حقا.
في التوراة: أي مذكورا في التوراة والإنجيل والقرآن.
ومن أوفى بعهده: أي لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى.
ذلك هو الفوز العظيم: أي ذلك البيع هو الفوز العظيم.
التائبون: أي من الشرك والنفاق والمعاصي.
العابدون: أي المطيعون لله في تذلل وخشوع مع حبهم لله وتعظيمهم له.
السائحون: أي الصائمون والخارجون في سبيل الله لطلب علم أو تعليمه أو جهاد لأعدائه.
الآمرون بالمعروف: أي بعبادة لله الله تعالى وتوحيده فيها.
الناهون عن المنكر: أي عن الشرك والمعاصي.
والحافظون لحدود الله: اي القائمون عليها العاملون بها.
وبشر المؤمنين: اي بالجنة دار السلام.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال المتخلفين عن الجهاد فضل الجهاد ترغيبا فيه وفيما أعد لأهله فقال { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } وهذا هو المثمن الذي أعطى الله تعالى فيه الثمن وهو الجنة، وقوله { يقاتلون في سبيل الله فيقتلون } أي أعداء الله المشركين { ويقتلون } أي يستشهدون في معارك القتال وقوله { وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن } أي وعدهم بذلك وعدا وأحقه حقا أي أثبته في الكتب الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن تقريرا له وتثبيتا وقوله { ومن أوفى بعهده من الله } استفهام بمعنى النفي أي لا أحد مطلقا أوفى بعهده إذا عاهد من الله تعالى وقوله { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } فبناء على ذلك فاستبشروا أيها المؤمنون ببيعكم الذي بايعتم الله تعالى به أي فسروا بذلك وافرحوا وذلك البيع والاستبشار هو الفوز العظيم الذي لا فوز خير ولا أعظم منه.
وقوله { التائبون } إلى قوله: { والحافظون لحدود الله } هو ذكر لأوصاف أهل البيع وتحديد لهم فهم الموصوفون بتسع صفات الأولى التائبون أي من الشرك والمعاصي والثانية العابدون وهم المطيعون لله طاعة ملؤها المحبة لله تعالى والتعظيم له والرهبة منه والثالثة الحامدون لله تعالى في السراء والضراء وعلى كل حال والرابعة السائحون وهم الصائمون كما في الحديث والذين يخرجون في سبيل الله لطلب علم أو غزو أو تعليم أو دعوة إلى الله تعالى ليعبد ويوحد ويطاع في أمره ونهيه والخامسة والسادسة الراكعون الساجدون أي المقيمون الصلاة المكثرون من نوافلها كأنهم دائما في ركوع وسجود والسابعة والثامنة الآمرون بالمعروف وهو الإيمان بالله وتوحيده وطاعته وطاعة رسوله والناهون عن المنكر وهو الكفر به تعالى والشرك في عبادته ومعصية رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والتاسعة الحافظون لحدود الله بالقيام عليها وعملها بعد العلم بها وقوله تعالى: { وبشر المؤمنين } وهم أهل الإيمان الصادق الكامل المستحقون لبشرى الرسول صلى الله عليه وسلم بالنصر والتأييد في الدنيا والنجاة من النار ودخول الجنة يوم القيامة اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الله تعالى ومننه على عباده المؤمنين حيث وهبهم أرواحهم وأموالهم واشتراها منهم.
2- فضل الجهاد والاستشهاد في سبيل الله.
3- على المؤمن أن يشعر نفسه أن بدنه وماله لله تعالى وأن عليه رعايتهما وحفظهما حتى ترفع راية الجهاد ويطالب إمام المسلمين بالنفس والمال فيقدم نفسه وماله إذ هما وديعة الله تعالى عنده.
4- على المؤمن أن لا يدخل الضرر على نفسه ولا على ماله بحكم أنهما لله تعالى.
5- على المؤمن أن يتعاهد نفسه ليرى هل هو متصف بهذه الصفات التسع أولا فإن رأى نقصا كمله وإن رأى كمالا حمد الله تعالى عليه وحفظه وحافظ عليه.
[9.113-116]
شرح الكلمات:
أن يستغفروا للمشركين: أي يسألون الله تعالى لهم المغفرة.
أولي قربى: أصحاب قرابة كالأبوة والبنوة والأخوة.
موعدة: أي وعد وعده به.
تبرأ منه: أي قال: إني بريء منك.
أواه حليم: الأواه: كثير الدعاء والشكوى إلى الله تعالى والحليم الذي لا يغضب ولا يؤاخذ بالذنب.
ما يتقون: أي ما يتقون الله تعالى فيه فلا يفعلوه أو لا يتركوه.
من ولي: الولي من يتولى أمرك فيحفظك ويعينك.
معنى الآيات:
لما مات أبو طالب على الشرك بعد أن عرض عليه الرسول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فأبى أن يقولها وقال هو على ملة عبد المطلب قال له النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك، واستغفر بعض المؤمنين أيضا لأقربائهم الذين ماتوا على الشرك، أنزل الله تعالى قوله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } إذ ماتوا على الشرك ومن مات على الشرك قضى الله تعالى بأنه في النار أي ما صح ولا انبغى للنبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا أن يستغفروا أي ما صح ولا انبغى استغفارهم. ولما قال بعض إن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك قال تعالى جوابا { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه } وهي قوله:
سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا
[مريم: 47] لكنه عليه السلام لما تبين له أن أباه عدو لله أي مات على الشرك تبرأ منه ولم يستغفر له، وقوله { إن إبراهيم لأواه حليم } تعليل لمواعدة إبراهيم أباه بالاستغفار له لأن إبراهيم كان كثير الدعاء والتضرع والتأسف والتحسر فلذا واعد أباه بالاستغفار له وقوله تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } هذه الآية نزلت ردا على تساؤلات الذين قالوا متندمين لقد كنا استغفرنا لأقاربنا المشركين فخافوا فأخبرهم تعالى أنه ليس من شأنه تعالى أن يضل قوما بعد إذ هداهم إلى الصراط المستقيم حتى يبين لهم ما يتقون وأنتم استغفرتم لأقربائكم قبل أن يبين لكم أنه حرام. ولكن إذا أراد الله أن يضل قوما بين لهم ما يجب أن يتقوه فيه فإذا لم يتقوه أضلهم. وقوله تعالى { إن الله بكل شيء عليم } فلا يضل إلا من يستحق الضلال كما أنه يهدي من يستحق الهداية وذلك لعلمه بكل شيء وقوله تعالى { له ملك السموت والأرض } أي خلقا وملكا وتصرفا فهو يضل من يشاء ويهدي من يشاء يحيي ويميت يحيي بالإيمان ويميت بالكفر ويحيى الأموات ويميت الأحياء لكامل قدرته وعظيم سلطانه وقوله { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } أي ليس لكم من يتولاكم إذا تخلى عنكم وليس لكم من ينصركم إذا خذلكم فلذا وجبت طاعته والاتكال عليه، وحرم الالتفات إلى غيره من سائر خلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الاستغفار لمن مات على الشرك لأن الله لا يغفر أن يشرك به فلذا لا يطلب منه شيء أخبر أنه لا يفعله.
2- وجوب الوفاء بالوعود والعهود.
3- ليس من سنة الله تعالى في الناس أن يضل عباده قبل أن يبين لهم ما يجب عليهم عمله أو اتقاؤه.
4- ليس للعبد من دون الله من ولي يتولاه ولا نصير ينصره ولذا وجبت ولاية الله بطاعته واللجوء إليه بالتوكل عليه.
[9.117-119]
شرح الكلمات:
المهاجرين: الذين هجروا ديارهم من مكة وغيرها ولحقوا برسول الله بالمدينة.
الأنصار: هم سكان المدينة من الأوس والخزرج آمنوا ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ساعة العسرة: هي أيام الخروج إلى تبوك لشدة الحر والجوع والعطش.
يزيغ قلوب: أي تميل عن الحق لشدة الحال وصعوبة الموقف.
الثلاثة الذين خلفوا: هم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية.
بما رحبت: أي على اتساعها ورحابتها.
أن لا ملجأ: أي إذ لا مكان للجوء فيه والهرب إليه.
الصادقين: في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم والصدق ضد الكذب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة تبوك وفي هذه الآيات الثلاث إعلان عن شرف وكرامة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه البررة من الأنصار والمهاجرة إذ قال تعالى { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } أي أدامها (التوبة) وقبلها وقوله { الذين اتبعوه في ساعة العسرة } أي عند خروجه إلى تبوك في الحر الشديد والفاقة الشديدة وقوله { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } وذلك لصعوبة الحال وشدة الموقف لقد عطشوا يوما كما قال عمر رضي الله عنه كان أحدنا يذبح بعيره ويعصر فرثه فيشرب ماءه ويضع بعضه على كبده فخطر ببعض القوم خواطر كادت القلوب تزيغ أي تميل عن الحق ولكن الله تعالى ثبتهم فلم يقولوا سوءا ولم يعملوه لأجل هذا أعلن الله تعالى في هذه الآيات عن كرامتهم وعلو مقامهم ثم تاب عليهم إنه هو التواب الرحيم وقوله { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ومعنى خلفوا أرجئوا في البت في توبتهم إذ تقدم قوله تعالى
وآخرون مرجون لأمر الله
[التوبة: 106] فقد تخلفت توبتهم خمسين يوما { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } فصبروا على شدة ألم النفس من جراء المقاطعة التي أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم انتظارا لحكم الله لأنهم تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ولم يكن لهم عذر، فلذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم تقدم المخلفون فاعتذروا فقبل منهم رسول الله وتاب الله على المؤمنين منهم ولم يتقدم هؤلاء الثلاثة ليعتذروا خوفا من الكذب فآثروا جانب الصدق فأذاقهم الله ألم المقاطعة ثم تاب عليهم وجعلهم مثلا للصدق فدعا المؤمنين أن يكونوا معهم فقال { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } أي اتقوا الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه وكونوا من الصادقين في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم تكونوا مع الصادقين في الآخرة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وسائر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- بيان فضل غزوة العسرة على غيرها من الغزوات " وهي غزوة تبوك ".
3- بيان فضل الله على المؤمنين بعصمة قلوبهم من الزيغ في حال الشدة.
4- بيان فضل كعب بن مالك وصاحبيه في صبرهم وصدقهم ولجوئهم إلى الله تعالى حتى فرج عليهم وتاب عليهم وكانوا مثالا للصدق.
5- وجوب التقوى والصدق في النيات والأقوال والأحوال والأعمال.
[9.120-122]
شرح الكلمات:
ومن حولهم من الأعراب: وهم مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم.
ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه: أي يطلبون لأنفسهم الراحة ولنفس رسول الله التعب والمشقة.
ظمأ: أي عطش.
ولا نصب: أي ولا تعب.
ولا مخمصة: أي مجاعة شديدة.
يغيظ الكفار: أي يصيبهم بغيظ في نفوسهم يحزنهم.
نيلا: أي منالا من أسر أو قتل أو هزيمة للعدو.
واديا: الوادي: سيل الماء بين جبلين أو مرتفعين.
لينفروا كافة: أي يخرجوا للغزو والجهاد جميعا.
طائفة: أي جماعة معدودة.
ليتفقهوا في الدين: أي ليعلموا أحكام الدين وأسرار شرائعه.
ولينذروا قومهم: أي ليخوفوهم عذاب النار بترك العمل بشرع الله.
لعلهم يحذرون : أي عذاب الله تعالى بالعلم والعمل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في آثار أحداث غزوة تبوك فقال تعالى { ما كان لأهل المدينة } أي سكانها من المهاجرين والأنصار { ومن حولهم من الأعراب } أي ومن النازلين حول المدينة من الأعراب كمزينة وجهينة وغفار وأشجع وأسلم { أن يتخلفوا عن رسول الله } إذا خرج إلى جهاد ودعا بالنفير العام وفي هذا عتاب ولوم شديد لمن تخلفوا عن غزوة تبوك وقوله { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } أي بأن يطلبوا لأنفسهم الراحة دون نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله { ذلك } أي النهي الدال عليه بصيغة ما كان لأهل المدينة وهي أبلغ من النهي بأداته (لا) لأنه نفي للشأن أي هذا مما لا ينبغي أن يكون أبدا. وقوله { بأنهم لا يصيبهم } بسبب أنهم لا يصيبهم { ظمأ } أي عطش { ولا نصب } أي تعب { ولا مخمصة } أي جوع شديد في سبيل الله أي في جهاد أهل الكفر لإعلاء كلمة الإسلام التي هي كلمة الله { ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار } أي ولا يطأون أرضا من أرض العدو يغتاظ لها العدو الكافر ويحزن { ولا ينالون من عدو } أي لله تعالى { نيلا } أي منالا أي أسرى أو قتلى أو غنيمة منه أو هزيمة له { إلا كتب لهم به عمل صالح } فلهذا لا ينبغي لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يفوتهم هذا الأجر العظيم. وقوله { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } تعليل لتقرير الأجر وإثباته لهم إن هم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسنوا الصحبة والعمل وقوله تعالى { ولا ينفقون نفقة } أي في سبيل الله الذي هو هنا الجهاد { صغيرة ولا كبيرة } أي قليلة ولا كثيرة { ولا يقطعون واديا } ذاهبين إلى العدو أو راجعين { إلا كتب لهم } أي ذلك المذكور من النفقة والسير في سبيل الله، وقوله تعالى { ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } أي جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه قبل خروجهم في سبيل الله، وقوله تعالى { فلولا نفر من كل فرقة } أي قبيلة منهم طائفة أي جماعة { ليتفقهوا في الدين } بما يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعلمونه منه { ولينذروا قومهم } عواقب الشرك والشر والفساد { لعلهم يحذرون } ذلك فينجون من خزي الدنيا وعذاب الآخرة هذه الآية نزلت لما سمع المسلمون ورأوا نتائج التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لن نتخلف بعد اليوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا ولا نتخلف عن غزو ما حيينا فأنزل الله تعالى هذه الآية يرشدهم إلى ما هو خير وأمثل فقال { فلولا } أي فهلا نفر من كل فرقة منهم أي قبيلة أو حي من أحيائهم طائفة فقط وتبقى طائفة منهم بدل أن يخرجوا كلهم ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فإن خروجهم على هذا النظام أنفع لهم فالذين يبقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجون معه إذا خرج يتفقهون في الدين لصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والباقون هم في مهام دينهم أيضا ودنياهم فإذا رجع أولئك المتفقهون علموا إخوانهم ما فاتهم من العلم وأسرار الشرع كما أن الذين ينفرون إلى الجهاد قد يشاهدون من نصر الله لأوليائه وهزيمته لأعدائه ويشاهدون أيضا ضعف الكفار وفساد قلوبهم وأخلاقهم وسوء حياتهم فيعودون إلى إخوانهم فينذرونهم ما عليه أهل الكفر والفساد فيحذرون منه ويتجنبونه وفي هذا خير للجميع وهو معنى قوله تعالى { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب إيثار رسول الله صلى الله عليه وسلم على النفس بكل خير بل بالحياة كلها.
2- بيان فضل السير في سبيل الله، وما فيه من الأجر العظيم.
3- فضل الإحسان وأهله.
4- تساوي فضل طلب العلم والجهاد على شرط النية الصالحة في الكل وطالب العلم لا ينال هذا الأجر إلا إذا كان يتعلم ليعلم فيعمل فيعلم مجانا في سبيل الله والمجاهد لا ينال هذا الأجر إلا إذا كان لإعلاء كلمة الله خاصة.
5- حاجة الأمة إلى الجهاد والمجاهدين كحاجتها إلى العلم والعلماء سواء بسواء.
[9.123]
شرح الكلمات :
آمنوا: أي بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
الذين يلونكم: أي يلون بلادكم وحدودها.
من الكفار: من: بيانية، أي الكافرين.
وليجدوا فيكم غلظة: أي قوة بأس وشدة مراس ليرهبوكم وينهزموا أمامكم.
مع المتقين: أي بنصره وتأييده والمتقون هم الذين اتقوا الشرك والمعاصي والخروج عن السنن الإلهية في النصر والهزيمة.
معنى الآية الكريمة:
لما طهرت الجزيرة من الشرك وأصبحت دار إسلام وهذا في أخريات حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بعد غزوة تبوك أمر الله تعالى المؤمنين بأن يواصلوا الجهاد في سبيله بعد وفاة نبيه وأرشدهم إلى الطريقة التي يجب أن يتبعوها في ذلك وهي: أن يبدأوا بدعوة وقتال أقرب كافر منهم والمراد به الكافر المتاخم لحدودهم كالأردن أو الشام أو العراق مثلا فيعسكروا على مقربة منهم ويدعونهم إلى خصلة من ثلاث: الدخول في دين الله الإسلام أو قبول حماية المسلمين لهم بدخولهم البلاد وضرب الجزية على القادرين منهم مقابل حمايتهم وتعليمهم وحكمهم بالعدل والرحمة الإسلامية أو القتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم فإذا ضمت أرض هذا العدو إلى بلادهم وأصبحت لهم حدود أخرى فعلوا كما فعلوا أولا وهكذا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فتسعد البشرية في دنياها وآخرتها. وأمرهم أن يعلموا أن الله ما كلفهم بالجهاد إلا وهو معهم وناصرهم ولكن على شرط أن يتقوه في أمره ونهيه فهذا ما دلت عليه الآية الكريمة { يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } أي قوة بأس وشدة مراس في الحرب { واعلموا أن الله مع المتقين } أي بنصره وتأييده.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- وجوب الجهاد واستمراريته إلى أن لا تبقى فتنة أو شرك أو اضطهاد لمؤمن ويكون الدين والحكم كلاهما لله تعالى.
2- مشروعية البداءة في الجهاد بأقرب الكفار إلى بلاد المسلمين من باب (الأقربون أولى بالمعروف).
3- إذا اتسعت بلاد الإسلام تعين على أهل كل ناحية قتال من يليهم الأقرب فالأقرب.
4- وعد الله بالنصر والتأييد لأهل التقوى العامة والخاصة.
[9.124-127]
شرح الكلمات:
سورة: أي قطعة من القرآن وسواء كانت آيات من سورة أو سورة بكاملها وحدها.
زداته إيمانا: أي السورة قوت إيمانه وزادت فيه لأنها كالغيث النافع.
يستبشرون: فرحين بفضل الله تعالى عليهم.
في قلوبهم مرض: أي شك ونفاق وشرك.
فزادتهم رجسا: أي نجسا إلى نجس قلوبهم ونفوسهم.
يفتنون: أي يمتحنون.
ولا هم يذكرون: أي لا يتعظون لموات قلوبهم.
صرف الله قلوبهم: دعاء عليهم بأن لا يرجعوا إلى الحق بعد انصرافهم عنه.
لا يفقهون: أي لا يفهمون أسرار الخطاب لظلمة قلوبهم وخبث نفوسهم.
معنى الآيات:
هذا آخر حديث عن المنافقين في سورة براءة الفاضحة للمنافقين يقول تعالى { وإذا مآ أنزلت سورة } أي من سور القرآن التي بلغت 114 سورة نزلت وتليت وهم غائبون عن المجلس الذي تليت فيه، فمنهم أي من المنافقين من يقول: { أيكم زادته هذه إيمانا } وقولهم هذا تهكم منهم وازدراء قال تعالى { فأما الذين آمنوا } بحق وصدق { فزادتهم إيمانا } لأنها نزلت بأحكام أو أخبار لم تكن عندهم فآمنوا بها لما نزلت فزاد بذلك إيمانهم وكثر كما كان أن إيمانهم يقوى حتى يكون يقينا بما يتنزل من الآيات وقوله { وهم يستبشرون } أي فرحون مسرورون بالخبر الذي نزل والقرآن كله خير كما هم أيضا فرحون بإيمانهم وزيادة يقينهم { وأما الذين في قلوبهم مرض } أي شك ونفاق { فزادتهم رجسا } أي شكا ونفاقا { إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون }. وقوله تعالى { أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } أي أيستمر هؤلاء المرضى بالنفاق على نفاقهم ولا يرون أنهم يفتنون أي من أجل نفاقهم مرة أو مرتين أي يختبرون بالتكاليف والفضائح وغيرها { ثم لا يتوبون } من نفاقهم { ولا هم يذكرون } فيتعظون فيتوبون هذا ما دلت عليه الآيات الأولى [124] والثانية [125] والثالثة [126] أما الآية الرابعة [127] فقد تضمنت سوء حال هؤلاء المنافقين وقبح سلوكهم فسجلت عليهم وصمة عار وخزي إلى يوم القيامة إذ قال تعالى { وإذا مآ أنزلت سورة } أي وهم في المجلس وقرئت على الجالسين وهم من بينهم. { نظر بعضهم إلى بعض } وقال في سرية ومخافته هيا نقوم من هذا المجلس الذي نعير فيه ونشتم { هل يراكم من أحد } أي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان الجواب: لا يرانا أحد انصرفوا متسللين لواذا قال تعالى في دعاء عليهم: { صرف الله قلوبهم } أي عن الهدى { بأنهم قوم لا يفقهون } أي لا يفقهون أسرار الآيات وما تهدي إليه، فعلتهم سوء فهمهم وعلة سوء فهمهم ظلمة قلوبهم وعلة تلك الظلمة الشك والشرك والنفاق والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ زيادة الإيمان ونقصانه زيادته بالطاعة ونقصانه بالعصيان.
2- جواز الفرح بالإيمان وصالح الأعمال.
3- مريض القلب يزداد مرضا وصحيحه يزداد صحة سنة من سنن الله في العباد.
4- كشف أغوار المنافقين وفضيحتهم في آخر آية من سورة التوبة تتحدث عنهم.
5- يستحب أن لا يقال انصرفنا من الصلاة أو الدرس ولكن يقال انقضت الصلاة أو انقضى الدرس ونحو ذلك.
[9.128-129]
شرح الكلمات:
رسول من أنفسكم: أي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من جنسكم عربي.
عزيز عليه: أي شاق صعب.
ما عنتم: أي ما يشق عليكم ويصعب تحمله.
حريص عليكم: أي حريص على هدايتكم وما فيه خيركم وسعادتكم.
رؤوف: شفيق.
رحيم: يرق ويعطف ويرحم.
فإن تولوا: أي أعرضوا عن دين الله وما جئت به من الهدى.
حسبي الله: أي كافي الله.
لا إله إلا هو: أي لا معبود بحق إلا هو.
توكلت: أي فوضت أمري إليه واعتمدت عليه.
رب العرش العظيم: عرش الله تعالى لا أعظم منه إلا خالقه عز وجل إذ كرسيه تعالى وسع السماوات والأرض ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة.
معنى الآيتين الكريمتين:
في ختام سورة التوبة يقول الله تعالى لكافة العرب: { لقد جآءكم رسول } أي كريم عظيم { من أنفسكم } عدناني قرشي هاشمي مطلبي تعرفون نسبه وصدقه وأمانته. { عزيز عليه ما عنتم } أي يشق عليه ما يشق عليكم ويؤلمه ما يؤلمكم لأنه منكم ينصح لكم نصح القومي لقومه. { حريص عليكم } أي على هدايتكم وإكمالكم وإسعادكم. { بالمؤمنين } منكم ومن غيركم من سائر الناس { رءوف رحيم } أي شفوق عطوف يحب رحمتهم وإيصال الخير لهم. إذا فآمنوا به واتبعوا النور الذي جاء به تهتدوا وتسعدوا ولا تكفروا فتضلوا وتشقوا. وقوله تعالى { فإن تولوا } أي أعرضوا عن دعوتك فلا تأس وقل حسبي الله أي يكفيني ربي كل ما يهمني { لا إله إلا هو } أي لا معبود بحق سواه لذا فإني أعبده وأدعو إلى عبادته، { عليه توكلت } أي في شأني كله { وهو رب العرش العظيم } ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان منة الله تعالى على العرب خاصة وعلى البشرية عامة ببعثه خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم.
2- بيان كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
3- وجوب التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه في كل شيء يقوم به العبد.
4- عظمة عرش الرحمن عز وجل.
[10 - سورة يونس]
[10.1-2]
شرح الكلمات:
آلر: هذه السورة الرابعة من السور المفتتحة بالحروف المقطعة تكتب آلر وتقرأ ألف لام. را.
الكتاب: أي القرآن العظيم.
الحكيم: القائل بالحكمة والقرآن مشتمل على الحكم فهو حكيم ومحكم أيضا.
عجبا: العجب ما يتعجب منه.
رجل منهم: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
قدم صدق: أي أجرا حسنا بما قدموا في حياتهم من الإيمان وصالح الأعمال.
إن هذا: أي القرآن.
لسحر مبين: أي بين ظاهر لا خفاء فيه في كذبهم وادعائهم الباطل.
معنى الآيتين:
مما تعالجة السور المكية قضايا التوحيد والوحي والبعث الآخر وسورة يونس افتتحت بقضية الوحي أي إثباته وتقريره من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } أي هذه آيات القرآن الكريم المحكم آياته المشتمل على الحكم الكثيرة حتى لكأنه الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه وقوله تعالى { أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم } أي أكان إيحاؤنا إلى محمد عبدنا ورسولنا وهو رجل من قريش عجبا لأهل مكة يتعجبون منه؟ والموحى به هو: { أن أنذر الناس } ، أي خوفهم عاقبة الشرك والكفر والعصيان { وبشر الذين آمنوا } أي بأن لهم قدم صدق عند ربهم وهو الجزاء الحسن لما قدموا من الإيمان وصالح الأعمال يتلقونه يوم يلقون ربهم في الدار الآخرة فلما أنذر وبشر صلى الله عليه وسلم قال الكافرون هذا سحر مبين ومرة قالوا: ساحر مبين وقولهم هذا لمجرد دفع الحق وعدم قبوله لا أن ما أنذر به وبشر هو سحر، ولا المنذر المبشر هو ساحر وإنما هو المجاحدة والعناد والمكابرة من أهل الشرك والكفر والباطل والشر والفساد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي بشهادة الكتاب الموحى به.
2- إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتقريرها بالوحي إليه.
3- بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي النذارة والبشارة.
4- بشرى أهل الإيمان والعمل الصالح بما أعد لهم عند ربهم.
5- عدم تورع أهل الكفر عن الكذب والتضليل.
[10.3-6]
شرح الكلمات:
إن ربكم الله: أي معبودكم الحق الذي يجب أن تعبدوه وحده هو الله.
خلق السماوات والأرض: أي أوجدها من العدم حيث كانت عدما فأصبحت عوالم.
في ستة أيام: هي الأحد والأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.
ثم استوى على العرش: أي استوى استواء يليق به عز وجل فلا يقال كيف؟
ما من شفيع إلا من بعد إذنه: أي لا يشفع أحد يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن له.
أفلا تذكرون: أي أتستمرون في جحودكم وعنادكم فلا تذكرون.
ثم يعيده: أي بعد بعد الفناء والبلى وذلك يوم القيامة.
شراب من حميم: أي من ماء أحمي عليه وغلى حتى أصبح حميما يشوي الوجوه.
جعل الشمس ضياء: أي جعلها تضيء على الأرض.
والقمر نورا: أي جعل القمر بنور الأرض وهو الذي خلق ضوء الشمس ونور القمر.
وقدره منازل: أي قدر القمر منازل والشمس كذلك.
لتعلموا: أي قدرهما منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب.
يتقون: أي مساخط الله وعذابه وذلك بطاعته وطاعة رسوله.
معنى الآيات:
هذه الآيات في تقرير الألوهية بعد تقرير الوحي واثباته في الآيتين السابقتين فقوله تعالى { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر } إخبار منه تعالى أنه عزوجل هو رب أي معبود أولئك المشركين به ألهة أصناما. يعبدونها معه وهي لم تخلق شيئا أما الله فإنه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام بمقدار أيامنا هذه إذ لم تكن يومئذ أياما كأيام الدنيا هذه، ثم استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله يدبر أمر السماء والأرض. هذا هو الإله الحق الذي يجب أن يعبد ويتقرب إليه. وقوله: { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } أي وأنه لعظمته وعزة سلطانه لا يقدر أحد أن يشفع لآخر إلا بعد إذنه له فكيف إذا تعبد هذه الأصنام رجاء شفاعتها لعابديها، والله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؟ وقوله تعالى { ذلكم الله ربكم فاعبدوه } أي هذا الموصوف بهذه الصفات المعرف بهذه النعوت من الجلال والكمال هو ربكم الحق فاعبدوه بما شرع لكم من أنواع العبادات تكملوا وتسعدوا وقوله { أفلا تذكرون } هو توبيخ للمشركين لهم لم لا تتعظون بعد سماع الحق. وقوله تعالى { إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا } تقرر لمبدأ البعث الآخر أي الله تعالى ربكم الحق مرجعكم بعد موتكم جميعا إذ وعدكم وعد الحق بالرجوع إليه والوقوف بين يديه وقوله { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } أي بالعدل: بيان لعلة الحياة بعد الموت إذ هذه الدار دار عمل والآخرة دار جزاء على هذا العمل فلذا كان البعث واجبا حتما لا بد منه ولا معنى لإنكاره لأن القادر على البدء قادر على الإعادة من باب أولى وأحرى وقوله تعالى { والذين كفروا لهم شراب من حميم } أي ماء حار قد بلغ المنتهى في حرارته وعذاب أليم أي موجع إخبار منه تعالى بجزاء أهل الكفر يوم القيامة وهو علة أيضا للحياة بعد الموت والبعث بعد الفناء وبهذا تقرر مبدأ البعث كما تقرر قبله مبدأ التوحيد ومن قبل مبدأ الوحي إذ على هذه القضايا تدور السور المكية وقوله تعالى { هو الذي جعل الشمس ضيآء } أي ذات ضياء والقمر نورا ذا نور وقدر القمر منازل وهي ثمانية وعشرون منزلة يتنقل فيها القمر، فعل ذلك { لتعلموا عدد السنين والحساب } فتعرفون عدد السنوات والشهور والأيام والساعات إذ حياتكم تحتاج إلى ذلك فهذا الرب القادر على هذا الخلق والتدبير هو المعبود الحق الذي يجب أن تعبدوه ولا تعبدوا سواه فهذا تقرير للتوحيد وتأكيد له.
وقوله { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } أي لم يخلق هذه الحياة الدنيا وهذه العوالم فيها عبثا فتفنى وتبلى بعد حين ولا شيء وراء ذلك بل ما خلق ذلك إلا بالحق أي من أجل أن يأمر وينهى ثم يجزي المطيع بطاعته والعاصي بعصيانه وفي هذا تأكيد لقضية البعث والجزاء أيضا وقوله { يفصل الآيات } أي هذا التفصيل المشاهد في هذا السياق { لقوم يعلمون } إذ هم الذين ينتفعون به أما الجهلة فلا ينتفعون بهذا التفصيل والبيان وقوله تعالى في الآية الأخيرة { إن في اختلاف اليل والنهار } أي بالطول والقصر والضياء والظلام { وما خلق الله في السموت والأرض } من أفلاك وكواكب ورياح وأمطار وما خلق في الأرض من إنسان وحيوان وبر وبحر وأنهار وأشجار وجبال ووهاد { لآيات } أي علامات واضحة دالة على الخالق المعبود بحق وعلى جلاله وجماله وكماله وعظيم قدرته وقوة سلطانه فيعبد لذلك بحبه غاية الحب وبتعظيمه غاية التعظيم وبرهبته الخشية منه غاية الرهبة والخشية ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ويطاع فلا يعصى وقوله تعالى { لقوم يتقون } خص أهل التقوى بالآيات فيما ذكر من مظاهر خلقه وقدرته لأنهم هم الذين حقا يبصرون ذلك ويشاهدونه لصفاء أرواحهم وطهارة قلوبهم ونفوسهم أما أهل الشرك والمعاصي فهم في ظلمة لا يشاهدون معها شيئا والعياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير ألوهية الله تعالى وأنه الإله الحق.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء في الدار الآخرة.
3- بيان الحكمة في خلق الشمس والقمر وتقدير منازلهما.
4- مشروعية تعلم الحساب وعلم الفلك لما هو نافع للمسلمين.
5- فضل العلم والتقوى وأهلهما من المؤمنين.
[10.7-10]
شرح الكلمات:
لا يرجون لقاءنا: أي لا ينتظرون ولا يؤملون في لقاء الله تعالى يوم القيامة.
ورضوا بالحياة الدنيا: أي بدلا عن الآخرة فلم يفكروا في الدار الآخرة.
واطمأنوا بها: أي سكنوا إليها وركنوا فلم يروا غيرها حياة يعمل لها.
غافلون: لا ينظرون إليها ولا يفكرون فيها.
مأواهم النار: أي النار هي المأوى الذي يأوون إليه وليس لهم سواها.
يهديهم ربهم بإيمانهم: أي بأن يجعل لهم بإيمانهم نورا يهتدون به إلى الجنة.
دعواهم فيها سبحانك اللهم: أي يطلبون ما شاءوا بكلمة سبحانك اللهم.
وآخر دعواهم أن الحمد لله: أي آخر دعائهم: الحمد لله رب العالمين.
معنى الآيات:
بعد تقرير الوحي والألوهية في الآيات السابقة ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث الكريمة بيان جزاء كل ممن كذب بلقاء الله فلم يرج ثوابا ولم يخش عقابا ورضي بالحياة الدنيا واطمأن بها، وممن آمن بالله ولقائه ووعده ووعيده فآمن بذلك وعمل صالحا فقال تعالى { إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحيوة الدنيا واطمأنوا بها } أي سكنت نفوسهم إليها وركنوا فعلا إليها { والذين هم عن آياتنا غافلون } أي آياته الكونية في الآفاق والقرآنية وهي حجج الله تعالى وأدلته الدالة على وجوده وتوحيده ووحيه وشرعه غافلون عنها لا ينظرون فيها ولا يفكرون فيما تدل لإنهماكهم في الدنيا حيث أقبلوا عليها وأعطوها قلوبهم ووجوهم وكل جوارحهم. هؤلاء يقول تعالى في جزائهم { أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } أي من الظلم والشر والفساد. ويقول تعالى في جزاء من آمن بلقائه ورجا ما عنده { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم } أي إلى طريق الجنة { بإيمانهم } أي بنور إيمانهم فيدخلونها { تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم }. ونعيم الجنة روحاني وجسماني فالجسماني يحصلون عليه بقولهم: سبحانك اللهم، فإذا قال أحدهم هذه الجملة " سبحانك اللهم " حضر لديه كل مشتهى له. والروحاني يحصلون عليه بسلام الله تعالى عليهم وملائكته { وتحيتهم فيها سلام }. وإذا فرغوا من المآكل والمشارب قالوا: الحمد لله رب العالمين: وهذا معنى قوله { دعواهم فيها سبحانك اللهم } أي دعاؤهم أي صيغة طلبهم { وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم } أي دعائهم { أن } أي أنه: { الحمد لله رب العالمين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- التحذير من نسيان الآخرة والإقبال على الدنيا والجري وراء زخارفها.
2- التحذير من الغفلة بعدم التفكر بالآيات الكونية والقرآنية إذ هذا التفكير هو سبيل الهداية والنجاة من الغواية.
3- الإيمان والعمل الصالح مفتاح الجنة والطريق الهادي إليها.
4- نعيم الجنة روحاني وجسماني وهو حاصل ثلاث كلمات هي:
سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
[10.11-14]
شرح الكلمات:
الشر: كل ما فيه ضرر في العقل أو الجسم أو المال والولد، والخير عكسه: ما فيه نفع يعود على الجسم أو المال أو الولد.
لقضي إليهم أجلهم: لهلكوا وماتوا.
فنذر: أي نترك.
في طغيانهم يعمهون: أي في ظلمهم وكفرهم يترددون لا يخرجون منه كالعميان.
الضر: المرض وكل ما يضر في جسمه، أو ماله أو ولده.
مر كأن لم يدعنا: مضى في كفره وباطله كأن لم يكن ذاك الذي دعا بكشف ضره.
كذلك زين: مثل ذلك النسيان بسرعة لما كان يدعو لكشفه، زين للمسرفين إسرافهم في الظلم والشر.
القرون: أي أهل القرون.
بالبينات: بالحجج والآيات على صدقهم في دعوتهم.
خلائف: أي لهم، تخلفونهم بعد هلاكهم.
معنى الآيات:
هذه الفترة التي كانت تنزل فيها هذه السورة المكية كان المشركون في مكة في هيجان واضطراب كبيرين حتى إنهم يطالبون بنزول العذاب عليهم إذ ذكر تعالى ذلك عنهم في غير آية من كتابه منها
سأل سآئل بعذاب واقع
[المعارج: 1] ومنها
ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب
[العنكبوت: 53] وفي هذا الشأن نزل قوله تعالى { ولو يعجل الله للناس الشر } أي عند سؤالهم إياه، أو فعلهم ما يقتضيه كاستعجاله الخير لهم { لقضي إليهم أجلهم } أي لهلكوا الهلاك العام وانتهى أجلهم في هذه الحياة، وقوله تعالى { فنذر الذين لا يرجون لقآءنا في طغيانهم يعمهون } أي لم نعجل لهم العذاب فنذر الذين لا يرجون لقاءنا أي لا يؤمنون بلقائنا وما عندنا من نعيم وجحيم نتركهم في طغيانهم في الكفر والظلم والشر والفساد يعمهون حيارى يترددون لا يعرفون متجها ولا مخرجا لما هم فيه من الضلال والعمى.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [11] أما الآية الثانية [12] فقد تضمنت بيان حقيقة وهي أن الإنسان الذي يعيش في ظلمة الكفر ولم يستنر بنور الإيمان إذا مسه الضر وهو المرض والفقر وكل ما يضر دعا ربه على الفور لجنبه أو قاعدا أو قائما يا رباه يا رباه فإذا استجاب الله له وكشف ما به من ضر مر كأن لم يكن مرض ولا دعا واستجيب له واستمر في كفره وظلمه وغيه. وقوله تعالى { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } أي كما أن الإنسان الكافر سرعان ما ينسى ربه الذي دعاه ففرج ما به كذلك حال المسرفين في الظلم والشر فإنهم يرون ما هم عليه هو العدل والخير ولذا يستمرون في ظلمهم وشرهم وفسادهم. هذا ما دل عليه قوله تعالى { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون }.
وقوله تعالى في الآية الثالثة { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا } هذا خطاب لأهل مكة يخبرهم تعالى مهددا إياهم بإمضاء سنته فيهم بأنه أهلك أهل القرون من قبلهم لما ظلموا أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات أي بالآيات والحجج، وأبوا أن يؤمنوا لما ألفوا من الشرك والمعاصي فأهلكهم كعاد وثمود وأصحاب مدين وقوله تعالى { كذلك نجزي القوم المجرمين } أي مثل ذلك الجزاء بالإهلاك العام نجزي القوم المجرمين في كل زمان ومكان إن لم يؤمنوا ويستقيموا.
وقوله تعالى { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } أي يقول لمشركي العرب من أهل مكة وغيرها، ثم جعلناكم خلائف في الأرض بعد إهلاك من قبلكم لننظر كيف تعملون فإن كان عملكم خيرا جزيناكم به وإن كان سوءا جزيناكم به وتلك سنتنا في عبادنا وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر رحمة الله بعباده إذ لو عجل لهم ما يطلبون من العذاب كما يعجل لهم الخير عندما يطلبونه لأهلكم وقضى إليهم أجلهم فماتوا.
2- يعصي الله العصاة ويكفر به الكافرون ويتركهم في باطلهم وشرهم فلا يعجل لهم العذاب لعلهم يرجعون.
3- بيان أن الإنسان الكافر يعرف الله عند الشدة ويدعوه ويضرع إليه فإذا نجاه عاد إلى الكفر به كأن لم يكن يعرفه.
4- استمرار المشركين على إسرافهم في الكفر والشر والفساد مزين لهم حسب سنة الله تعالى فمثلهم مثل الكافر يدعو عند الشدة وينسى عند الفرج.
5- وعيد الله لأهل الإجرام بالعذاب العاجل أو الآجل إن لم يتوبوا.
6- كل الناس أفرادا وأمما ممهلون مراقبون في أعمالهم وسلوكهم ومجزيون بأعمالهم خيرها وشرها لا محالة.
[10.15-18]
شرح الكلمات:
لا يرجون لقاءنا: أي لا يؤمنون بالبعث والدار الآخرة.
من تلقاء نفسي: أي من جهة نفسي.
ولا أدراكم به: أي لا أعلمكم به.
عمرا من قبله: أي أربعين سنة قبل أن يوحى إلي.
المجرمون: المفسدون لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
ما لا يضرهم: أي إن لم يعبدوه.
وما لا ينفعهم: أي إن عبدوه.
أتنبئون: أتعلمون وتخبرون الله.
سبحانه: أي تنزيها له.
عما يشركون: أي به معه من الأصنام.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير قضايا أصول الدين الثلاث: التوحيد والوحي والبعث فقوله تعالى { وإذا تتلى عليهم آياتنا } أي إذا قرئت عليهم آيات الله عز وجل { قال الذين لا يرجون لقآءنا } وهم المنكرون للبعث إذ به يتم اللقاء مع الله تعالى للحساب والجزاء. { ائت بقرآن غير هذآ } أي بأن يكون خاليا من عيب آلهتنا وانتقاصها. أوأبقه ولكن بدل كلماته بما لا يسوءنا فاجعل مكان آية فيها ما يسوءنا آية أخرى لا إساءة فيها لنا وقولهم هذا إما أن يكون من باب التحدي أو الاستهزاء والسخرية ولكن الله تعالى علم رسوله طريقة الرد عليهم بناء على ظاهر قولهم فقال له { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي } أي إنه لا يتأتى لي بحال أن أبدله من جهة نفسي لأني عبدالله ورسوله ما اتبع إلا ما يوحى إلي { إني أخاف إن عصيت ربي } بتبديل كلامه { عذاب يوم عظيم } أي عذاب يوم القيامة وقوله { قل لو شآء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به } أي قل لهم ردا على طلبهم: لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته عليكم، ولا أدراكم هو به أي ولا أعلمكم فالأمر أمره وأنا لا أعصيه ويدل لكم على صحة ما أقول: إني لبثت فيكم عمرا أي أربعين سنة قبل أن آتيكم به { أفلا تعقلون }: معنى ما أقول لكم من الكلام وما أذكر لكم من الحجج؟.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية [15 - 16] أما الآية الثالثة فقد تضمنت التنديد بالمجرمين الذين يكذبون على الله تعالى بنسبة الشريك إليه ويكذبون بآياته ويجحدونها فقال تعالى { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي لا أحد أظلم منه { أو كذب بآيته } بعدما جاءته أي لا أحد أظلم من الأثنين، وقوله تعالى { إنه لا يفلح المجرمون } دل أولا على أن المذكورين مجرمون وأنهم لا يفلحون شأنهم شأن كل المجرمين. وإذا لم يفلحوا فقد خابوا وخسروا. وقول تعالى في الآية الرابعة { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } أي من الأصنام { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } وهم في ذلك كاذبون مفترون فلذا أمر الله أن يرد عليهم بقوله { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموت ولا في الأرض } إذ لو كان هناك من يشفع عنده لعلمهم وأخبر عنهم فلم الكذب على الله والافتراء عليه ثم نزه الله تعالى نفسه عن الشرك به والشركاء له فقال { سبحانه وتعالى عما يشركون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من الدعوة إلى الله تعالى تلاوة آياته القرآنية على الناس تذكيرا وتعليما.
2- بيان ما كان عليه المشركون من تعنت وجحود ومكابرة.
3- كون النبي صلى الله عليه وسلم عاش أربعين سنة لم يعرف فيها علما ولا معرفة ثم برز في شيء من العلوم والمعارف فتفوق وفاق كل أحد دليل على أنه نبي يوحى إليه قطعا.
4- لا أحد أظلم من أحد رجلين رجل يكذب على الله تعالى وآخر يكذب الله تعالى.
5- إبطال دعوى المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله يوم القيامة.
6- بيان سبب عبادة المشركين لآلهتهم وهو رجاؤهم شفاعتها لهم.
[10.19-20]
شرح الكلمات:
أمة واحدة: أي على دين واحد هو الإسلام.
فاختلفوا : أي تفرقوا بأن بقي بعض على التوحيد وبعض على الشرك.
كلمة سبقت: بإبقائهم إلى آجالهم ومجازاتهم يوم القيامة.
آية: خارقة كناقة صالح عليه السلام.
إنما الغيب لله: اي إن علم الآية متى تأتي من الغيب والغيب لله وحده فلا أنا ولا أنتم تعلمون إذا فانتظروا إنا معكم من المنتظرين.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى رسوله بحقيقة علمية تاريخية من شأن العلم بها المساعدة على الصبر والتحمل فيقول { وما كان الناس إلا أمة واحدة } أي في زمن سابق أمة واحدة على دين التوحيد دين الفطرة ثم حدث أن أحدثت لهم شياطين الجن والإنس البدع والأهواء والشرك فاختلفوا فمنهم من ثبت على الإيمان والتوحيد ومنهم من كفر بالشرك والضلال. وقوله تعالى { ولولا كلمة سبقت من ربك } وهي أنه لا يعجل العذاب للأمم والأفراد بكفرهم وإنما يؤخرهم إلى آجالهم ليجزيهم في دار الجزاء بعذاب النار يوم القيامة لولا كلمته والتي هي
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين
[ص: 85] لعجل لهم العذاب فحكم بينهم بأن أهلك الكافر وأنجى المؤمن.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [19] أما الآية الثانية [20] فيخبر تعالى عن المشركين أنهم قالوا { لولا أنزل عليه آية من ربه } أي هلا أنزل على محمد آية خارقة من ربه لنعلم ونستدل بها على أنه رسول الله وقد يريدون بالآية عذابا فلذا أمر الله رسوله أن يرد عليهم بقوله { إنما الغيب لله } فهو وحده يعلم متى يأتيكم العذاب وعليه { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } ولم تطل مدة الانتظار ونزل بهم العذاب ببدر فهلك رؤساؤهم وأكابر المستهزئين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأصل هو التوحيد والشرك طارىء.
2- الشر والشرك هما اللذان يحدثان الخلاف في الأمة والتفرق فيها أما التوحيد والخير فلا يترتب عليهما خلاف ولا حرب ولا فرقة.
3- بيان علة بقاء أهل الظلم والشرك يظلمون ويفسدون إلى آجالهم.
4- الغيب كله لله فلا أحد يعلم الغيب إلا الله ومن علمه الله شيئا منه وهذا خاص بالرسل لإقامة الحجة على أممهم.
[10.21-23]
شرح الكلمات:
رحمة: أي مطر بعد قحط أو صحة بعد مرض أو غنى بعد فاقة.
ضراء: حالة من الضر بالمرض والجدب والفقر.
مكر في آياتنا: أي استهزاء بها وتكذيب.
إن رسلنا: أي الحفظة من الملائكة.
يسيركم: أي يجعلكم تسيرون بما حولكم من مراكب وما يسر لكم من أسباب.
بريح طيبة: أي مناسبة لسير السفن موافقة لغرضهم.
ريح عاصف: أي شديدة تعصف بالشجر فتقتلعه والبناء فتهدمه.
وأحيط بهم: أي أحدق بهم الهلاك من كل جهة.
يبغون بغير الحق: أي يظلمون مجانبين للحق والاعتدال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة أهل مكة إلى توحيد الله والإيمان برسوله والدار الآخرة فيقول تعالى { وإذآ أذقنا الناس } أي كفار مكة { رحمة من بعد ضرآء مستهم } أي أذقناهم طعم الرحمة التي هي المطر بعد الجفاف والغنى بعد الفاقة والصحة بعد المرض وهي الضراء التي مستهم فترة من الزمن. يفاجئونك بالمكر بآيات الله وهو استهزاؤهم بها والتكذيب بها وبمن أنزلت عليه. وقوله تعالى { قل الله أسرع مكرا } أي قل يا رسولنا لهؤلاء الماكرين من المشركين الله عز وجل أسرع مكرا منكم فسوف يريكم عاقبة مكره بكم وهي إذلالكم وخزيكم في الدنيا وعذابكم في الآخرة إن متم على كفركم وقوله { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } تقرير لما أعلمهم به من مكر الله تعالى بهم إذ كتابة الملائكة ما يمكرون دليل على تبييت الله تعالى لهم المكروه الذي يريد أن يجازيهم به على مكرهم.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [21] أما الآية الثانية [22] فهي تري المشركين ضعفهم وعجزهم وحاجتهم إلى الله تعالى، ومن كان كذلك فكيف يستهزىء بربه ويسخر من آياته ويكذب رسوله إن أمرهم لعجب فيقول تعالى هو أي الله الذي تمكرون بآياته الذي يسيركم في البر بما خلق لكم من الظهر الإبل والخيل والحمير، وفي البحر بما سخر لكم من الفلك تجري في البحر بأمره. حتى إذا كنتم في البحر وجرين أي السفن بهم أي بالمشركين بريح طيبة مناسبة لسير السفن وفرحوا بها على عادة ركاب البحر يفرحون بالريح المناسبة لسلامتهم من الميدان والقلق والاضطراب. جاءتها أي السفن ريح عاصفة أي شديدة الهبوب تضطرب لها السفن ويخاف ركابها الغرق، وجاءهم أي الكفار الراكبين عليها الموج من كل مكان من جهات البحر والموج هو ارتفاع ماء البحر وتموجه كزوابع الغبور في البر. وظنوا أي أيقنوا أو كادوا أنهم أحيط بهم أي هلكوا { دعوا الله مخلصين له الدين } أي الدعاء يا رب يا رب نجنا ويعدونه قائلين { لئن أنجيتنا من هذه } أي الهلكة { لنكونن من الشاكرين } لك أي المطيعين المعترفين بنعمتك علينا الموحدين لك بترك الآلهة لعبادتك وحدك لا شريك لك.
فلما أنجاهم من تلك الشدة يفاجئونك ببغيهم في الأرض بغير الحق شركا وكفرا وظلما وفسادا فعادوا لما كانوا وإنهم لكاذبون وقوله تعالى { يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } يخبرهم تعالى بقوله يا أيها الناس الباغون في الأرض بغير الحق في أي زمان كنتم وفي أي مكان وجدتم إنما بغيكم أي عوائده عائدة على أنفسكم إذ هي التي تتأثم وتخبث في الدنيا وتفسد وتصبح أهلا لعذاب الله يوم القيامة وقوله { متاع الحياة الدنيا } أي ذلك متاع الحياة الدنيا شقاء كان أو سعادة { ثم إلينا مرجعكم } أي لا إلى غيرنا وذلك بعد الموت يوم القيامة { فننبئكم بما كنتم تعملون } من خير وشر ونجزيكم به الجزاء العادل في دار الجزاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من مكر مكر الله به والله أسرع مكرا وأكبر أثرا وضررا.
2- بيان ضعف الإنسان وفقره إلى الله وحاجته إليه عز وجل في حفظ حياته وبقائه إلى أجله.
3- إخلاص العبد الدعاء في حال الشدة آية أن التوحيد أصل والشرك طارىء.
4- المشركون الأولون أحسن حالا من جهلة هذه الأمة إذ يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة أما جهال المسلمين اليوم فشركهم دائم في الرخاء والشدة على السواء.
5- بغي الإنسان عائد على نفسه كمكره ونكثه وفي الحديث (ثلاث على أصحابها رواجع: البغي والمكر والنكث).
6- تقرير مبدأ البعث والجزاء يوم القيامة.
[10.24-25]
شرح الكلمات:
مثل الحياة الدنيا: أي صفتها المنطبقة عليها المتفقة معها.
ماء: أي مطر.
فاختلط به: أي بسببه نبات الأرض أي اشتبك بعضه ببعض.
مما يأكل الناس: كالبر وسائر الحبوب والفواكه والخضر.
والأنعام: أي من الكلأ والعشب عادة وإلا قد يعلف الحيوان الشعير.
زخرفها: أي نضرتها وبهجتها.
وازينت: أي تجملت بالزهور.
وظن أهلها أنهم قادرون عليها: أي متمكنون من تحصيل حاصلاتها الزراعية.
أتاها أمرنا: أي قضاؤنا بإهلاكها وتدميرها عقوبة لأصحابها.
حصيدا: أي كأنها محصودة بالمنجل ليس فيها شيء قائم.
كأن لم تغن بالأمس: أي كأن لم تكن موجودة غانية بالأمس.
نفصل الآيات: أي نبينها.
والله يدعو إلى دار السلام: دار السلام: الجنة والله يدعو إليها عباده ليأخذوا بالأهبة لدخولها وهي الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم يعرض الهدايات الإلهية على الناس لعلهم يهتدون ففي هذه الآية يضرب تعالى مثلا للحياة الدنيا التي يتكالب الغافلون عليها ويبيعون آخرتهم بها فيكذبون ويظلمون من أجلها إنما مثلها في نضارتها الغارة بها وجمالها الخادعة به كمثل ماء نزل من السماء فاختلط بالماء نبات الأرض فسقى به ونما وازدهر وأورق وأثمر وفرح به أهله وغلب على ظنهم أنهم منتفعون به فائزون به وإذا بقضاء الله فيه تأتيه فجأه في ساعة من ليل أو نهار فإذا هو حصيد ليس فيه ما هو قائم على ساق، هشيم تذروه الرياح كأن لم لم يغن بالأمس أي كأن لم يكن موجودا أمس قائما يعمر مكانه أتاه أمر الله لأن أهله ظلموا فعاقبهم بجائحة أفسدت عليهم زرعهم فأمسوا يائسين حزينين. هذه الصورة المثالية للحياة الدنيا فهلا يتنبه الغافلون أمثالي!! أو هلا يستيقظ النائمون من حالهم كحالي؟؟.
وقوله تعالى في الآية الثانية [25] { والله يدعوا إلى دار السلام } أي بترك الشرك والمعاصي والإقبال على الطاعات والصالحات ودار السلام الجنة إذ هي الخالية من الكدر والتنغيص فلا مرض ولا هرم، ولا موت ولا حزن. ودعاة الضلالة يدعون إلى الدنيا والتي صورتها ومآلها، أنها دار الكدر والتنغيص. والهم والحزن فأي الدعوتين تجاب؟ { ويهدي من يشآء إلى صراط مستقيم } فلتطلب هدايته بصدق فإنه لا يهدي إلا هو والصراط المستقيم هو الإسلام طريق الجنة وسلم الوصول إليها رزقنا الله تعالى السير فيه والثبات عليه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان الصورة الحقيقية للحياة الدنيا في نضرتها وسرعة زوالها.
2- التحذير من الاغترار بالدنيا والركون إليها.
3- التحذير من الذنوب فإنها سبب الشقاء وسلب النعم.
4- فضيلة التفكر وأهله.
5- فضل الله على عباده ورحمته بهم إذ يدعوهم إلى داره لإكرامهم والإنعام عليهم.
[10.26-30]
شرح الكلمات:
الحسنى وزيادة: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم.
ولا يرهق وجوههم: أي لا يغشى وجوههم.
قتر: غبرة من الكآبة والحزن.
السيآت: جمع سيئة ما يسيء إلى النفس من ذنوب الشرك والمعاصي.
مكانكم: أي الزموا مكانكم لا تفارقوه.
فزيلنا بينهم: فرقنا بينهم.
هنالك: أي ثم.
تبلو كل نفس: أي تختبر.
ما أسلفت: أي ما قدمت.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: أي غاب عنهم ما كانوا يكذبون.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى في الآية السابقة أنه يدعو إلى دار السلام ذكر جزاء من أجاب الدعوة ومن لم يجبها فقال للذين أحسنوا فآمنوا وعبدوا الله بما شرع ووحدوه تعالى في عبادته وربوبيته وأسمائه وصفاته فهؤلاء جزاؤهم الحسنى وهي الجنة وزيادة وهي النظر إلى وجهه الكريم في دار السلام، وأنهم إذا بعثوا لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة كما يكون ذلك لمن لم يجب دعوة الله تعالى، وقرر جزاءهم ووضحه بقوله: { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } وذكر جزاء من أعرض عن الدعوة ورفضها فأصر على الكفر والشرك والعصيان فقال { والذين كسبوا السيئات جزآء سيئة بمثلها } فالذين كسبوا سيآت الشرك والمعاصي فأساء ذلك إلى نفوسهم فدساها وخبثها جزاؤهم جهنم وترهقهم ذلة في عرصات القيامة وليس لهم من الله من عاصم يعصمهم من عذاب الله. كأنما وجوههم لسوادها قد أغشيت قطعا من الليل مظلما وقوله تعالى { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } تقرير لمصيرهم والعياذ بالله وهو ملازمة النار وعدم الخروج منها بخلودهم فيها.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى [26] والثانية [27] أما الآيات الثالثة والرابعة والخامسة فإنها تضمنت عرضا سريعا لحشر الناس يوم القيامة، والمراد بذلك تقرير عقيدة الإيمان باليوم الآخر فقال تعالى: { ويوم نحشرهم جميعا } أي في عرصات القيامة { ثم نقول للذين أشركوا } أي بنا آلهة عبدوها دوننا { مكانكم } أي قفوا لا تبرحوا مكانكم { أنتم وشركآؤكم } ، ثم يزايل الله تعالى أي يفرق بينهم وهو معنى قوله تعالى { فزيلنا بينهم } ولا شك أنهم يقولون ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين ندعو من دونك فلذا ذكر تعالى ردهم عليهم في قوله { وقال شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } أي لأننا ما كنا نسمعكم ولا نبصركم ولا أمرناكم بعبادتنا وهذا قول كل من عبد من دون الله من سائر الأجناس { فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا } أي والله { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } غير شاعرين بحال من الأحوال بعبادتكم. قال تعالى: { هنالك } أي في ذلك الموقف الرهيب { تبلوا كل نفس مآ أسلفت } أي تختبر ما قدمت في دنياها وتعرفه هل هو ضار بها أو نافع لها { وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون } هكذا يجدون أنفسهم أمام مولاهم ومالك أمرهم ومعبودهم الحق والذي طالما كفروا به وتنكروا له وجحدوا آياته ورسله وضل أي غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الأكاذيب والترهات والأباطيل من تلك الأصنام التي سموها آلهة وعبدوها وندموا يوم لا ينفع الندم وجزاهم بما لم يكونوا يحتسبون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الحسنة وما تعقبه من نيل الحسنى.
2- بيان سوء السيئة وما تورثه من حسرة وندامة وما توجبه من خسران.
3- تقرير معتقد البعث والجزاء بعرض صادق واضح له.
4- تبرؤ ما عبد من دون الله من عابديه وسواء كان المعبود ملكا أو إنسانا أو جانا أو شجرا أو حجرا الكل يتبرأ من عابديه ويستشهد الله تعالى عليه.
5- في عرصات القيامة تعلم كل نفس ما أحضرت، وما قدمت وأخرت وتبلو ما أسلفت فتعرف وأنى لها أن تنتفع بما تعرف؟.
[10.31-33]
شرح الكلمات:
من السماء: أي بالغيث والمطر.
والأرض: أي بالنبات والحبوب والثمار.
أمن يملك السمع والأبصار: أي يملك أسماعكم وأبصاركم إن شاء أبقاها لكم وإن شاء سلبها منكم.
ومن يخرج الحي من الميت: أي الجسم الحي من جسم ميت والعكس كذلك.
ومن يدبر الأمر: أي أمر الخلائق كلها بالحياة والموت والصحة والمرض والعطاء والمنع.
أفلا تتقون: أي الله فلا تشركوا به شيئا ولا تعصوه في أمره ونهيه.
فأنى تصرفون: أي كيف تصرفون عن الحق بعد معرفته والحق هو أنه لا إله إلا الله.
حقت: أي وجبت.
أنهم لا يؤمنون: وذلك لبلوغهم حدا لا يتمكنون معه من التوبة البتة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد فيقول تعالى لرسوله { قل } يا رسولنا لأولئك المشركين مستفهما إياهم { من يرزقكم من السمآء والأرض } بإنزال المطر وبانبات الحبوب والثمار والفواكهة والخضر التي ترزقونها، وقل لهم { أمن يملك السمع والأبصار } أي أسماعكم وأبصاركم بحيث إن شاء أبقاها لكم وأمتعكم بها، وإن شاء أخذها منكم وسلبكم إياها فأنتم عمي لا تبصرون وصم لا تسمعون { ومن يخرج الحي من الميت } كالفرخ من البيضة { ويخرج الميت من الحي } كالبيضة من الدجاجة، والنخلة من النواة، والنواة من النخلة. { ومن يدبر الأمر } في السماء والأرض كتعاقب الليل والنهار ونزول الأمطار، وكالحياة والموت والغنى والفقر والحرب والسلم والصحة والمرض إلى غير ذلك مما هو من مظاهر التدبير الإلهي في الكون. { فسيقولون الله } ، إذ لا جواب لهم إلا هذا إذا فما دام الله هو الذي يفعل هذا ويقدر عليه دون غيره كيف لا يتقى عز وجل بتوحيده وعدم الإشراك به، فلم لا تتقونه؟
وقوله تعالى { فذلكم الله ربكم } أي فذلكم الذي يرزقكم من السماء والأرض ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويدبر الأمر هو ربكم الحق الذي لا رب لكم سواه إذا { فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون } أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته إلى الضلال؟ إنه أمر يدعو إلى الاستغراب والتعجب!.
وقوله تعالى { كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون } أي مثل ذلك الصرف الذي يصرفه المشركون عن الحق بعد معرفته إلى الضلال أي كما حق ذلك حقت كلمة ربك وهي أن الله لا يهدي القوم الفاسقين فهم لا يهتدون، وذلك أن العبد إذا توغل في الشر والفساد بالإدمان والاستمرار عليه يبلغ حدا لا يتأتى له الرجوع منه والخروج بحال فهلك على فسقه لتحق عليه كلمة العذاب وهي
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين
[ص: 85].
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشركوا العرب كانوا يشركون في الألوهية ويوحدون في الربوبية.
2- وليس بنافع أن يوحد العبد في الربوبية ويشرك في الألوهية.
3- ليس بعد الحق إلا الضلال فلا واسطة بينهما فمن لم يكن على حق فهو على ضلال.
4- التوغل في الشر والفساد يصبح طبعا لصاحبه فلا يخرج منه حتى يهلك به.
[10.34-36]
شرح الكلمات:
من شركائكم: جمع شريك من أشركوه في عبادة الله تعالى.
من يبدأ الخلق: أي ينشيء الإنسان والحيوان أول ما ينشئه فذلك بدء خلقه.
فأنى تؤفكون: أي كيف تصرفون عن الحق بعد معرفته.
أمن لا يهدي: أي لا يهتدي.
كيف تحكمون: أي هذا الحكم الفاسد وهو اتباع من لا يصح اتباعه لأنه لا يهدي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حجاج المشركين لبيان الحق لهم ودعوتهم إلى اتباعه فيقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المشركين { قل هل من شركآئكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده }؟ أي هل يوجد من بين آلهتكم التي تعبدونها من يبدأ خلق إنسان من العدم ثم يميته، ثم يعيده؟ وجوابهم معروف وهو لا يوجد إذا فكيف تؤفكون أي تصرفون عن الحق بعد معرفته والإقرار به؟ وقل لهم أيضا { قل هل من شركآئكم من يهدي إلى الحق } أي يوجد من آلهتكم من يهدي إلى الحق؟ والجواب لا يوجد لأنها لا تتكلم ولا تعلم إذا فقل لهم الله يهدي إلى الحق أي بواسطة نبيه ووحيه وآياته.
وقل لهم { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى } والجواب معروف الذي يهدي إلى الحق أحق بأن يتبع ممن لا يهتدي إلا أن يهدى، إذا لم لا تتقون الله فتوحدوه وتؤمنوا برسوله وكتابه فتهتدوا، وتتركوا آلهتكم التي لا تهدي إلى الحق؟ { فما لكم } أي أي شيء ثبت لديكم في ترك عبادة الله لعبادة غيره من هذه الأوثان، { كيف تحكمون } أي حكم هذا تحكمون به وهو اتباع من لا يهدي وترك عبادة من يهدي إلى الحق. وقوله تعالى { وما يتبع أكثرهم إلا ظنا } أي أن أكثر هؤلاء المشركين لا يتبعون في عبادة أصنامهم إلا الظن فلا يقين عندهم في أنها حقا آلهة تستحق العبادة، { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } أي إن الظن لا يكفي عن العلم ولا يغني عنه أي شيء من الإغناء، والمطلوب في العقيدة العلم لا الظن. وقوله تعالى { إن الله عليم بما يفعلون } هذه الجملة تحمل الوعيد الشديد لهم على إصرارهم على الباطل وعنادهم على الحق فسيجزيهم بذلك الجزاء المناسب لظلمهم وعنادهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بإبطال الآلهة المزعومة حيث اعترف عابدوها بأنها لا تبدأ خلقا ولا تعيده بعد موته، ولا تهدي إلى الحق، والله يبدأ الخلق ثم يعيده ويهدي إلى الحق.
2- إبطال الأحكام الفاسدة وعدم إقرارها ووجوب تصحيحها.
3- لا يقبل الظن في العقائد بل لا بد من العلم اليقيني فيها.
4- كراهية القول بالظن والعمل به وفي الحديث
" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ".
[10.37-39]
شرح الكلمات:
أن يفترى من دون الله: أي افتراء أي لم يكن هذا القرآن افتراء.
وتفصيل الكتاب: أي بيان ما فرض الله تعالى على هذه الأمة وما أحل لها وما حرم.
أم يقولون افتراه: أي اختلقه من نفسه وتقوله من عنده.
بما لم يحيطوا بعلمه: أي بما توعدهم الله تعالى به من العذاب.
ولما يأتهم تأويله: أي ولما يأتهم بعد ما يؤول إليه ذلك الوعيد من العذاب.
كذلك كذب الذين من قبلهم: أي كتكذيب هؤلاء بوعد الله لهم كذب الذين من قبلهم.
معنى الآيات:
هذه الآيات في تقرير عقيدة الوحي وإثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: { وما كان هذا القرآن } أي لم يكن من شأن هذا القرآن العظيم { أن يفترى من دون الله } أي يختلق من غير الله تعالى من سائر خلقه، { ولكن تصديق الذي بين يديه } أي ولكنه كلام الله ووحيه أوحاه إلى رسوله وأنزله تصديق الذي بين يديه أي من الكتب التي سبقت نزوله وهي التوراة والإنجيل { وتفصيل الكتاب } الذي كتبه الله تعالى على أمة الإسلام من الفرائض والشرائع والأحكام. وقوله تعالى { لا ريب فيه } أي لا شك في أنه وحي الله وكلامه نزل من رب العالمين. وهو الله مربي الخلائق أجساما وعقولا وأخلاقا وأرواحا ومن مقتضى ربوبيته إنزال كتاب فيه تبيان كل شيء يحتاج إليه العبد في تربيته وكماله البدني والروحي والعقلي والخلقي.
وقوله تعالى في الآية الثانية [38] { أم يقولون افتراه } أي بل يقول هؤلاء المشركون المجاحدون وهو قول في غاية السخف والقباحة يقولون القرآن افتراه محمد ولم يكن بوحي أنزل عليه، قل يا رسولنا متحديا إياهم أن يأتوا بسورة مثله. فإنهم لا يستطيعون وبذلك تبطل دعواهم، وقل لهم ادعوا لمعونتكم على الإتيان بسورة مثل سورة القرآن من استطعتم الحصول على معونتهم إن كنتم صادقين في دعواكم أن القرآن لم يكن وحيا من الله، وإنما اختلاق اختلقه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } أي إن القضية ليست قضية أنهم ما استطاعوا أن يدركوا أن القرآن كلام الله، وإنما القضية هي أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه من وعيد الله تعالى لهم بالعذاب، ولما يأتهم بعد ما يؤول إليه الوعيد إذ لو رأوا العذاب ما كذبوا، ولذا قال تعالى { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي
حتى ذاقوا بأسنا
[الأنعام: 148] كما في آية الأنعام. وهنا قال تعالى { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } فقد أهلك تعالى الظلمة من قوم نوح بالغرق ومن قوم هود بريح صرصر ومن قوم صالح بالصيحة ومن قوم شعيب بالرجفة ومن أمم أخرى بما شاء من أنواع العذاب فهؤلاء إن لم يتوبوا واستمروا في تكذيبهم فسوف يحل بهم ما حل بغيرهم
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون
[إبراهيم: 42].
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
2- من أدلة أن القرآن كلام الله تصديقه للكتب السالفة وعدم التناقض معها إذ هما من مصدر واحد وهو الله رب العالمين.
3- من أدلة القرآن على أنه وحي الله تحدى الله العرب بالإتيان بسورة واحدة في فصاحته وبلاغته، وإعجازه وعجزهم عن ذلك.
4- استمرار المشركين في العناد والمجاحدة علته أنهم لم يذوقوا ما توعدهم الله به من العذاب إذ لو ذاقوا لآمنوا ولكن لا ينفعهم حينئذ الإيمان.
[10.40-44]
شرح الكلمات:
ومنهم من يؤمن به: أي من أهل مكة المكذبين بالقرآن من يؤمن به مستقبلا.
وربك أعلم بالمفسدين: وهم دعاة الضلالة الذين يفسدون العقول والقلوب والجملة تهديد لهم.
وإن كذبوك: أي استمروا على تكذبيك.
ومنهم من يستمعون إليك: أي إذ قرأت القرآن.
ومنهم من ينظر إليك: أي يبصر ويشاهد آيات النبوة وأعلام صدقك، ولا يهتدي إلى معرفة أنك رسول الله لأن الله تعالى حرمه ذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى في خطاب رسوله ليسليه ويصبره على عدم إيمان قومه مع ظهور الأدلة وقوة البراهين { ومنهم من يؤمن به } أي بالقرآن وبالنبي أيضا إذ الإيمان بواحد يستلزم الإيمان بالثاني، { ومنهم من لا يؤمن به } ، وهذا إخبار غيب فتم كما أخبر تعالى فقد آمن من المشركين عدد كبير ولم يؤمن عدد آخر. وقوله { وربك أعلم بالمفسدين } أي الذين لا يؤمنون وفي الجملة تهديد لأولئك الذين يصرفون الناس ويصدونهم عن الإيمان والتوحيد. وقوله تعالى: { وإن كذبوك } أي استمروا في تكذيبهم لك فلا تحفل بهم وقل { لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا بريء مما تعملون } فإذا كان هناك عقاب دنيوي فإنك تسلم منه ويهلكون هم به.
وقوله تعالى في الآية [42] { ومنهم من يستمعون إليك } إلى قراءتك القرآن وإلى قولك إذا قلت داعيا أو آمرا أو ناهيا، ومع هذا فلا يفهم ولا ينتفع بما يسمع، ولا لوم عليك في ذلك لأنك لا تسمع الصم، وهؤلاء صم لا يسمعون، ومنهم من ينظر إليك بأعين مفتحة ويرى علامات النبوة وآيات الرسالة ظاهرة فى حالك ومقالك ومع هذا لا يهتدي ولا لوم عليك فإنك لا تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون. وقوله تعالى { إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون } بيان لسنة الله تعالى في أولئك الذين يسمعون ولا ينتفعون بسماعهم، ويبصرون ولا ينتفعون بما يبصرون، وهي أن من توغل في البغض والكراهية لشيء يصبح غير قادر على الانتفاع بما يسمع منه ولا بما يبصر فيه. ولذا قيل حبك الشيء يعمي ويصم. والبغض كذلك كما أن الاسترسال في الشر والفساد مدة من الزمن يحرم صاحبه التوبة إلى الخير والصلاح، ومن هنا قال تعالى { إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك.
2- تقرير معنى آية
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
[الحج: 46].
3- تعليم رسول الله طريق الحجاج والرد على الخصوم المشركين.
4- انتفاء الظلم عن الله تعالى، وإثباته للإنسان لنفسه.
[10.45-48]
شرح الكلمات:
يحشرهم: أي نبعثهم من قبورهم ونجمعهم لساحة فصل القضاء.
كأن لم يلبثوا: أي في الدنيا أحياء في دورهم وأمواتا في قبورهم.
أو نتوفينك: أي نميتك قبل ذلك.
فإذا جاء رسولهم: أي في عرصات القيامة.
بالقسط: أي بالعدل.
متى هذا الوعد: أي بالعذاب يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى { ويوم يحشرهم } أي اذكر لهم يوم نحشرهم من قبورهم بعد بعثهم أحياء { كأن لم يلبثوا } في الدنيا أحياء في دورهم وأمواتا في قبورهم. { إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم } أي ليرى بعضهم بعضا ساعة ثم يحول بينهم هول الموقف، وقوله تعالى { قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله وما كانوا مهتدين } يخبر تعالى أن الذين كذبوا بالبعث الآخر والحساب والجزاء الأخروي فلم يرجوا لقاء الله فيعملوا بمحابه وترك مساخطه قد خسروا في ذلك اليوم أنفسهم وأهليهم في جهنم، وقوله { وما كانوا مهتدين } أي في حياتهم حيث انتهوا إلى خسران وعذاب أليم.
وقوله تعالى { وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك } أي إن أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل ذلك فعلى كل حال مرجعهم إلينا جميعا بعد موتهم، فنحاسبهم ونجازيهم بحسب سلوكهم في الدنيا الخير بالخير والشر بمثله، وقوله تعالى { ثم الله شهيد على ما يفعلون } تقرير وتأكيد لمجازاتهم يوم القيامة لأن علم الله تعالى بأعمالهم وشهادته عليها كاف في وجوب تعذيبهم. وقوله تعالى { ولكل أمة رسول فإذا جآء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } أي ولكل أمة من الأمم رسول أرسل إليها وبلغها فأطاع من أطاع وعصى من عصى فإذا جاء رسولها في عرصات القيامة قضي بينهم أي حوسبوا أو جوزوا بالقسط أي بالعدل وهم لا يظلمون بنقص حسنات المحسنين ولا بزيادة سيئآت المسيئين. وقوله تعالى { ويقولون } أي المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، { متى هذا الوعد } أي بالعذاب يوم القيامة. { إن كنتم صادقين } يقولون هذا استعجلا للعذاب لأنهم لا يؤمنون به. والجواب في الآية التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة.
2- الإعلان عن خسران منكري البعث يوم القيامة.
3- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يؤدي رسالته بإعلامه بأنه سيعذب أعداءه.
4- بيان كيفية الحساب يوم القيامة بأن يأتي الرسول وأمته ثم يجري الحساب بينهم فينجي الله المؤمنين ويعذب الكافرين.
[10.49-53]
شرح الكلمات:
لنفسي ضرا: أي لا أقدر على دفع الضر إذا لم يعني الله تعالى.
ولا نفعا: أي لا أقدر على أن أجلب لنفسي نفعا إذا لم يرده الله تعالى لي.
لكل أمة أجل: أي وقت معين لهلاكها.
فلا يستأخرون ساعة: أي عن ذلك الأجل.
ولا يستقدمون: أي عليه ساعة.
قل أرأيتم: أي قل لهم أخبروني.
أثم إذا ما وقع: أي حل العذاب.
عذاب الخلد: أي الذي يخلدون فيه فلا يخرجون منه.
ويستنبئونك: أي ويستخبرونك.
قل إي: أي نعم.
وما أنتم بمعجزين: أي بفائتين العذاب ولا ناجين منه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين فقد طلبوا في الآيات السابقة بالعذاب فقالوا
متى هذا الوعد
[يونس: 48] أي بالعذاب
إن كنتم صادقين
[يونس: 48] فأمر الله تعالى رسوله في هذه الآيات أن يقول لهم إني { لا أملك لنفسي ضرا } أي لا أملك دفع الضر عني، ولا جلب النفع لي إذا لم يشأ الله تعالى ذلك، فكيف أعلم الغيب وأعرف متى يأتيكم العذاب كما لا أقدر على تعجيله إن كان الله يريد تأجيله، واعلموا أنه لكل أمة من الأمم أجل أي وقت محدد لهلاكها وموتها فيه، فلا يتأخرون عنه ساعة ولا يتقدمون عليه بأخرى فلذا لا معنى لمطالبتكم بالعذاب. وشيء آخر أرأيتم أي أخبروني إن أتاكم العذاب الذي تستعجلونه بياتا أي ليلا أو نهارا أتطيقونه وتقدرون على تحمله إذا فماذا تستعجلون منه أيها المجرمون إنكم تستعجلون أمرا عظيما. وقوله تعالى { أثم إذا ما وقع آمنتم به }؟ أي أتستمرون على التكذيب والعناد، ثم إذا وقع آمنتم به، وهل ينفعكم إيمانكم يومئذ؟ فقد يقال لكم توبيخا وتقريعا الآن تؤمنون به، وقد كنتم به تستعجلون.
وقوله تعالى { ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون }؟ يخبر تعالى أنه إذا دخل المجرمون النار وهم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي ذوقوا - تهكما بهم - عذاب الخلد أي العذاب الخالد الذي لا يفني ولا يبيد إنكم ما تجزون أي ما تثابون إلا بما كنتم تكسبونه من الشرك والمعاصي. وقوله تعالى: { ويستنبئونك أحق هو }؟ أي ويستخبرك المشركون المعاندون قائلين لك أحق ما تعدنا به من العذاب يوم القيامة؟ أجبهم بقولك { قل إي وربي إنه لحق ومآ أنتم بمعجزين } الله ولا فائتينه بل لا بد وأن يلجئكم إلى العذاب إلجاء، ويذيقكموه عذابا أليما دائما وأنتم صاغرون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يملك أحد من الخلق لنفسه فضلا عن غيره ضرا يدفعه ولا نفعا يجلبه إلا بإذن الله تعالى ومشيئته، وخاب الذين يعولون على الأولياء في جلب النفع لهم ودفع الشر عنهم.
2- الآجال محدودة لا تتقدم ولا تتأخر فلذا لا معنى للجبن من العبد.
3- لا ينفع الإيمان ولا التوبة عند معاينة العذاب أو ملك الموت.
4- جواز الحلف بالله إذا أريد تأكيد الخبر.
5- إي حرف إجابة وتقترن دائما بالقسم نحو إي والله، إي وربي.
[10.54-58]
شرح الكلمات:
لافتدت به: لقدمته فداء لها.
وأسروا الندامة: أخفوها في أنفسهم على ترك الإيمان والعمل الصالح.
وقضي بينهم بالقسط: أي حكم الله بينهم بالعدل.
وعد الله حق: أي ما يعدهم الله به هو كائن حقا.
موعظة من ربكم: أي وصية من ربكم بالحق والخير، وباجتناب الشرك والشر.
وهدى: أي بيان لطريق الحق والخير من طريق الباطل والشر.
فضل الله ورحمته: ما هداهم إليه من الإيمان والعمل الصالح، واجتناب الشرك والمعاصي.
فبذلك فليفرحوا: أي فبالإيمان والعمل الصالح بعد العلم والتقوى فليسروا وليستبشروا.
هو خير مما يجمعون: أي من المال والحطام الفاني.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أن ما وعد الله تعالى به المشركين من العذاب هو آت لا محالة إن لم يؤمنوا وإنه عذاب لا يطاق فقال تعالى { ولو أن لكل نفس ظلمت } أي نفسها بالشرك والمعاصي، لو أن لها ما في الأرض من مال صامت وناطق وقبل منها لقدمته فداء لها من العذاب، وذلك لشدة العذاب، وقال تعالى عن الكافرين وهم في عرصات القيامة وقد رأوا النار { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } أي أخفوها في صدروهم ولم ينطقوا بها وهي ندمهم الشديد على عدم إيمانهم واتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى { وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } أي وقضى الله تعالى أي حكم بين الموحدين والمشركين والظالمين والمظلومين بالقسط الذي هو العدل الإلهي والحال أنهم لا يظلمون بأن يؤاخذوا بما لم يكتسبوا. وقوله تعالى { ألا إن لله ما في السماوات والأرض } أي انتبهوا واسمعوا أيها المشركون إن لله ما في السماوات والأرض من سائر المخلوقات ملكا حقيقيا لا يملك معه أحد شيئا من ذلك فهو يتصرف في ملكه كما يشاء يعذب ويرحم يشقي ويسعد لا اعتراض عليه ألا أن وعد الله حق أي تنبهوا مرة أخرى واسمعوا إن وعد الله أي ما وعدكم به من العذاب حق ثابت لا يتخلف. وقوله تعالى: { ولكن أكثرهم لا يعلمون } إذ لو علموا أن العذاب كائن لا محالة وعلموا مقدار هذا العذاب ما كفروا به وقوله تعالى { هو يحيي ويميت وإليه ترجعون } يخبر تعالى عن نفسه أنه يحيي ويميت ومن كان قادرا على الإحياء والإماتة فهو قادر على كل شيء، ومن ذلك إحياء الكافرين بعد موتهم وحشرهم إليه ومجازاتهم على ما كسبوا من شر وفساد وقوله { وإليه ترجعون } تقرير مبدأ المعاد الآخر. بعد هذه التقريرات لقضايا العقيدة الثلاث: التوحيد، والنبوة، والبعث والجزاء نادى الله تعالى العرب والعجم سواء قائلا { يأيها الناس قد جآءتكم موعظة من ربكم وشفآء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } وكل من الموعظة التي هي الأمر والنهي بأسلوب الترغيب والترهيب والشفاء والهدى والرحمة قد حواها القرآن الكريم كأنه قال يا أيها الناس وفيكم الجاهل والفاسق والمريض بالشرك والكفر والضال عن الحق، والمعذب في جسمه ونفسه قد جاءكم القرآن يحمل كل ذلك لكم فآمنوا به واتبعوا النور الذي يحمله وتداووا به واهتدوا بنوره تشفوا وتكملوا عقلا وخلقا وروحا وتسعدوا في الحياتين معا.
وقوله تعالى { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } أي بلغهم يا رسولنا آمرا إياهم بأن يفرحوا بالإسلام وشرائعه والقرآن وعلومه فإن ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني، وما يعقب من آثار سيئة لا تحتمل ولا تطاق.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم عذاب يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن يفتدي منه بما في الأرض جميعا.
2- تقرير ربوبية الله تعالى لسائر المخلوقات في العالمين العلوي والسفلي.
3- الإشادة بفضل القرآن وعظمته لما يحمله من المواعظ والهدى والرحمة والشفاء.
4- يستحب الفرح بالدين ويكره الفرح بالدنيا.
[10.59-61]
شرح الكلمات:
أرأيتم : أي أخبروني.
ما أنزل الله لكم من رزق: أي الذي خلق لكم من رزق كلحوم الأنعام.
ءآلله أذن لكم: أي في التحريم حيث حرمتم البحيرة والسائبة وفي التحليل حيث أحللتم الميتة.
يفترون على الله الكذب: أي يختلقون الكذب تزويرا له وتقديرا في أنفسهم.
وما تكون في شأن: أي في أمر عظيم.
شهودا إذ تفيضون فيه: أي تأخذون في القول أو العمل فيه.
وما يعزب عن ربك: أي يغيب.
من مثقال ذرة: أي وزن ذرة والذرة أصغر نملة.
إلا في كتاب مبين: أي اللوح المحفوظ ومبين أي واضح.
معنى الآيات:
سياق الآيات في تقرير الوحي وإلزام المنكرين له من المشركين بالدليل العقلي قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المشركين { قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق } أي أخبروني عما خلق الله لكم من نبات وطعام وحرث فجعلتم منه حراما كالبحيرة والسائبة والثياب التي تحرمون الطواف بها والحرث الذي جعلتموه لآلهتكم، وحلال كالميتة التي تستبيحونها { ءآلله أذن لكم } (في هذا التشريع بوحي منه { أم على الله تفترون } فإن قلتم الله أذن لنا بوحي فلم تنكرون الوحي وتكذبون به، وإن قلتم لا وحي ولكننا نكذب على الله فموقفكم إذا شر موقف إذ تفترون على الله الكذب والله تعالى يقول: { وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } أي إذا هم وقفوا بين يديه سبحانه وتعالى ما ظنهم أيغفر لهم ويعفى عنهم لا بل يلعنون وفي النار هم خالدون وقوله تعالى { إن الله لذو فضل على الناس } في كونه لا يعجل لهم العقوبة وهم يكذبون عليه ويشركون به ويعصونه ويعصون رسوله، { ولكن أكثرهم لا يشكرون } وذلك لجهلهم وسوء التربية الفاسدة فيهم، وإلا العهد بالإنسان أن يشكر لأقل معروف وأتفه فضل.
وقوله تعالى { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن } أي وما تكون يا رسولنا في أمر من أمورك الهامة وما تتلو من القرآن من آية أو آيات في شأن ذلك الأمر { إلا كنا } أي نحن رب العزة والجلال { عليكم شهودا } أي حضورا { إذ تفيضون فيه } أي في الوقت الذي تأخذون فيه، وقوله تعالى { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السمآء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } يخبر تعالى عن سعة علمه تعالى وإحاطته بسائر مخلوقاته بحيث لا يعزب أي لا يغيب عن علمه تعالى مثقال ذرة أو وزن ذرة وهي النملة الصغير وسواء كانت في الأرض أو في السماء، وسواء كانت أصغر من النملة أو أكبر منها. بالإضافة إلى أن ذلك كله في كتاب مبين أي في اللوح المحفوظ. لهذا العلم والقدرة والرحمة استوجب التأليه والعبادة دون سائر خلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير الوحي وإثباته للنبي صلى الله عليه وسلم.
2- التحريم والتحليل من حق الله تعالى دون سائر خلقه.
3- حرمة الكذب على الله، وإن صاحبه مستوجب للعذاب.
4- ما أعظم نعم الله تعالى على العباد ومع هذا فهم لا يشكرون إلا القليل منهم.
5- وجوب مراقبة الله تعالى، وحرمة الغفلة في ذلك.
6- إثبات اللوح المحفوظ وتقريره كما صرحت به الآيات والأحاديث.
[10.62-64]
شرح الكلمات:
ألا: أداة استفتاح وتنبيه.
إن أولياء الله: جمع ولي وهو المؤمن التقي بشرط أن يكون إيمانه وتقواه على نور من الله.
لا خوف عليهم: أي لا يخافون عند الموت ولا بعده، ولا هم يحزنون على ما تركوا بعد موتهم.
آمنوا: أي صدقوا بالله وبما جاء عن الله وبرسول الله وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يتقون: أي ما يسخط الله تعالى من ترك واجب أو فعل حرام.
لهم البشرى: أي بالجنة في القرآن الكريم وعند الموت وبالرؤيا الصالحة يراها أو ترى له.
لا تبديل لكلمات الله: أي لوعده الذي يعده عباده الصالحين، لأن الوعد بالكلمة وكلمة الله لا تبدل.
الفوز: النجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مؤكدا الخبر بأداة التنبيه { ألا } وأداة التوكيد { إن } فيقول: { ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي لا يخافون عند الموت ولا في البرزخ ولا يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما يتركون وراءهم بعد موتهم ولا في الدار الآخرة وبين تعالى أولياءه وعرف بهم فقال: { الذين آمنوا وكانوا يتقون } أي آمنوا به وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله عن ربه، وكانوا يتقون طوال حياتهم وسائر ساعاتهم سخط الله تعالى فلا يتركون واجبا هم قادرون على القيام به، ولا يغشون محرما لم يكرهوا عليه. وقوله تعالى: { لهم البشرى } في الحياة الدنيا وفي الآخرة: أي لهم بشرى ربهم في كتابه برضوانه ودخول الجنة ولهم البشرى بذلك عند الاحتضار تبشرهم الملائكة برضوان الله وجنته وفي الآخرة عند قيامهم من قبورهم تتلقاهم الملائكة بالبشرى.
وقوله تعالى: { لا تبديل لكلمات الله } وهو تأكيد لما بشرهم، إذ تلك البشرى كانت بكلمات الله وكلمات الله لا تتبدل فوعد الله إذا لا يتخلف.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ولاية الله تعالى بطاعته وموافقته في محابه ومكارهه فمن آمن إيمانا يرضاه الله، واتقى الله في أداء الفرائض واجتناب المناهي فقد صار ولي الله والله وليه.
2- البشرى هي ما يكرم الله به برؤيا صالحة يراها الولي أو ترى له.
3- الأولياء هم أهل الإيمان والتقوى فالكافر والفاجر لا يكون وليا أبدا، إلا إذا آمن الكافر، وبر الفاجر بفعل الصالحات وترك المنهيات.
4- صدق إخبار الله تعالى وعدالة أحكامه، وسر ولايته إذ هي تدور على موافقة الرب تعالى فيما يجب من الاعتقادات والأعمال والأقوال والذوات والصفات وفيما يكره من ذلك فمن وافق ربه فقد والاه ومن خالفه فقد عاداه.
[10.65-67]
شرح الكلمات:
لا يحزنك: أي لا يجعلك قولهم تحزن.
إن العزة لله: العزة الغلبة والقهر.
شركاء: أي شركاء بحق يملكون مع الله لعابديهم خيرا أو يدفعون عنهم ضرا.
إلا الظن: الظن أضعف الشك.
يخرصون: أي يحزرون ويكذبون.
لتسكنوا فيه: أي تخلدوا فيه إلى الراحة والسكون عن الحركة.
مبصرا: أي مضيئا ترى فيه الأشياء كلها.
في ذلك: أي من جعله تعالى الليل سكنا والنهار مبصرا لآيات.
يسمعون: أي سماع إجابة وقبول.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير قضايا التوحيد الثلاث التوحيد والنبوة والبعث قال تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم { ولا يحزنك قولهم } أي لا يجعلك قول المشركين المفترين
لست مرسلا
[الرعد: 43] وأنك
لشاعر مجنون
[الصافات: 36] تحزن فإن قولهم هذا لا ينتج لهم إلا سوء العاقبة والهزيمة المحتمة، { إن العزة لله جميعا } فربك القوي القادر سيهزمهم وينصرك عليهم. إذا فاصبر على ما يقولون ولا تأس ولا تحزن. إنه تعالى هو السميع لأقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم ولا يخفى عليه شيء من أمرهم. { ألا إن لله من في السموت ومن في الأرض } خلقا وملكا وتصرفا، كل شيء في قبضته وتحت سلطانه وقهره فكيف تبالي بهم يا رسولنا فتحزن لأقوالهم { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركآء } أي آلهة حقا بحيث تستحق العبادة لكونها تملك نفعا أو ضرا، موتا أو حياة لا بل ما هم في عبادتها متبعين إلا الظن { وإن هم إلا يخرصون } أي يتقولون ويكذبون، وقوله تعالى { هو الذي جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا } أي الإله الحق الذي يجب أن يدعى ويعبد الله الذي جعل لكم أيها الناس ليلا مظلما لتسكنوا فيه فتستريحوا من عناء العمل في النهار. وجعل لكم النهار مبصرا أي مضيئا لتتمكنوا من العمل فيه فتوفروا لأنفسكم ما تحتاجون إليه في حياتكم من غذاء وكساء. وليست تلك الآلهة من أصنام وأوثان بالتي تستحق الألوهية فتدعى وتعبد. وقوله { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } أي إن فيما ذكر تعالى من كماله وعزته وقدرته وتدبيره لأمور خلقه آيات علامات واضحة على أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره، ولكن يرى تلك الآيات من يسمع سماع قبول واستجابة لا من يسمع الصوت ولا يفكر فيه ولا يتدبر معانيه فإن مثله أعمى لا يبصر وأصم لا يسمع.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- على المؤمن الداعي إلى الله تعالى أن لا يحزنه أقوال أهل الباطل وأكاذيبهم حتى لا ينقطع عن دعوته، وليعلم أن العزة لله جميعا وسوف يعزه بها ، ويذل أعداءه.
2- ما يعبد من دون الله لم يقم عليه عابدوه أي دليل ولا يملكون له حجة وإنما هم مقلدون يتبعون الظنون والأوهام.
3- مظاهر قدرة الله تعالى في الخلق والتدبير كافية في إثبات العبادة له ونفيها عما سواه.
[10.68-70]
شرح الكلمات:
سبحانه: أي تنزه عن النقص وتعالى أن يكون له ولد.
الغني: أي الغنى المطلق بحيث لا يفتقر إلى شيء.
إن عندكم من سلطان: أي ما عندكم من حجة ولا برهان.
بهذا: أي الذي تقولونه وهو نسبة الولد إليه تعالى.
متاع في الدنيا: أي ما هم فيه اليوم هو متاع لا غير وسوف يموتون ويخسرون كل شيء.
يكفرون: أي بنسبة الولد إلى الله تعالى، وبعبادتهم غير الله سبحانه وتعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تحقيق التوحيد وتقريره بإبطال الشرك وشبهه فقال تعالى: { قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه } أي قال المشركون أن الملائكة بنات الله وهو قول مؤسف محزن للرسول صلى الله عليه وسلم كقولهم له
لست مرسلا
[الرعد: 43]، وقد نهي صلى الله عليه وسلم عن الحزن من جراء أقوال المشركين الفاسدة الباطلة. ونزه الله تعالى نفسه عن هذا الكذب فقال سبحانه، وأقام الحجة على بطلان قول المشركين بأنه هو الغني الغنى الذاتي الذي لا يفتقر معه إلى غيره فكيف إذا يحتاج إلى ولد أو بنت فيستغني به وهو الغني الحميد، وبرهان آخر على غناه أن له ما في السماوات وما في الأرض الجميع خلقه وملكه فهل يعقل أن يتخذ السيد المالك عبدا من عبيده ولدا له. وحجة أخرى هل لدى الزاعمين بأن لله ولدا حجة تثبت ذلك والجواب لا، لا. قال تعالى مكذبا إياهم: { إن عندكم من سلطان بهذآ } أي ما عندكم من حجة ولا برهان بهذا الذي تقولون ثم وبخهم وقرعهم بقوله: { أتقولون على الله ما لا تعلمون }؟ وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلنا عن خيبة الكاذبين وخسرانهم: { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } وإن قيل كيف لا يفلحون وهم يتمتعون بالأموال والأولاد والجاه والسلطة أحيانا فالجواب في قوله تعالى { متاع في الدنيا } أي لك متاع في الدنيا، يتمتعون به إلى نهاية أعمارهم، ثم إلى الله تعالى مرجعهم جميعا، ثم يذيقهم العذاب الشديد الذي ينسون معه كل ما تمتعوا به في الحياة الدنيا، وعلل تعالى ذلك العذاب الشديد الذي أذاقهم بكفرهم فقال: { بما كانوا يكفرون } أي يجحدون كمال الله وغناه فنسبوا إليه الولد والشريك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كفر من ينسب إلى الله تعالى أي نقص كالولد والشريك أو العجز مطلقا.
2- كل دعوى لا يقيم لها صاحبها برهانا قاطعا وحجة واضحة فلا قيمة لها ولا يحفل بها.
3- أهل الكذب على الله كالدجالين والسحرة وأهل البدع والخرافات لا يفلحون ونهايتهم الخسران.
4- لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بما يرى عليه أهل الباطل والشر من المتع وسعة الرزق وصحة البدن فإن ذلك متاع الحياة الدنيا، ثم يؤول أمرهم إلى خسران دائم.
[10.71-73]
شرح الكلمات:
واتل عليهم نبأ نوح: أي اقرأ على المشركين نبأ نوح أي خبره العظيم الخطير.
كبر عليكم مقامي: أي عظم عليكم مقامي بينكم ادعوا إلى ربي.
فأجمعوا أمركم: أي اعزموا عزما أكيدا.
غمة: أي خفاء ولبسا لا تهتدون منه إلى ما تريدون.
ثم اقضوا إلي: أي انفذا أمركم.
ولا تنظرون: أي ولا تمهلون رحمة بي أوشفقة علي.
فإن توليتم: أي أعرضتم عما أدعوكم إليه من التوحيد.
في الفلك: أي في السفينة.
خلائف: أي يخلف الآخر الأول جيلا بعد جيل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية المشركين بالرد على دعواهم وبيان الحق لهم وفي هذه الآيات يأمر الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليهم طرفا من قصة نوح مع قومه المشركين الذين كانت حالهم كحال مشركي العرب سواء بسواء وفي قراءة هذا القصص فائدتان الأولى تسلية الرسول وحمله على الصبر، والثانية تنبيه المشركين إلى خطإهم، وتحذيرهم من الاستمرار على الشرك والعصيان فيحل بهم من العذاب ما حل بغيرهم قال تعالى: { واتل عليهم نبأ نوح } أي خبره العظيم الشأن وهو قوله لهم { يقوم إن كان كبر عليكم مقامي } أي عظم وشق عليكم وجودي بينكم أدعوكم إلى الله، وتذكيري إياكم بآيات الله، فإني توكلت على الله فأجمعوا أمركم أي اعزموا عزما أكيدا وادعوا أيضا شركاءكم للاستعانة بهم، ثم أحذركم أن يكون أمركم عليكم غمة أي خفيا ملتبسا عليكم فيجعلكم تترددون في إنفاذ ما عزمتم عليه، ثم اقضوا إلي ما تريدون من قتلي أو نفيي ولا تنظرون أي لا تؤخروني أي تأخير. وقوله تعالى: { فإن توليتم } أي أعرضتم عن دعوتي وتذكيري ولم تقبلوا ما أدعوكم إليه من عبادة الله تعالى وحده، فما سألتكم عليه من أجر أي ثواب، حتى تتولوا. إن أجري إلا على ربي الذي أرسلني وكلفني. وقد أمرني أن أكون من المسلمين له قلوبهم ووجوههم وكل أعمالهم فأنا كذلك كل عملي له فلا أطلب أجرا من غيره قال تعالى: { فكذبوه } أي دعاهم واستمر في دعائهم إلى الله زمنا غير قصير وكانت النهاية: أن كذبوه، ودعانا لنصرته فنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة وجعلناهم خلائف لبعضهم بعضا أي يخلف الآخر الأول، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها عبدنا نوحا فانظر يا رسولنا كيف كان عاقبة المنذرين الذين لم يقبلوا النصح ولم يستجيبوا للحق إنها عاقبة وخيمة إذ كانت إغراقا في طوفان ونارا في جهنم وخسرانا قال تعالى في سورة نوح:
مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا
[الآية: 25].
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الدعاة بمثل موقف نوح العظيم إذ قال لقومه: أجمعوا أمركم ونفذوا ما تريدون إني توكلت على الله.
2- ثمرة التوكل شجاعة واطمئنان نفس وصبر وتحمل مع مضاء عزيمة.
3- دعوة الله لا ينبغي أن يأخذ الداعي عليها أجرا إلا للضرورة.
4- بيان سوء عاقبة المكذبين بعد إنذارهم وتحذيرهم.
[10.74-78]
شرح الكلمات:
بالبينات: أي بالحجج الواضحات على صدق دعوتهم، وما يدعون إليه من توحيد الله تعالى.
نطبع: الطبع على القلب عبارة عن تراكم الذنوب على القلب حتى لا يجد الإيمان إليه طريقا.
المعتدين: الذين تجاوزوا الحد في الظلم والاعتداء على حدود الشرع.
الحق: الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام وهي تسع.
لتلفتنا: لتصرفنا وتحول وجوهنا عما وجدنا عليه آباءنا.
الكبرياء: أي العلو والسيادة والملك على الناس.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى طرفا من قصة نوح عليه السلام وأبرز فيها مظهر التوكل على الله تعالى من نوح ليقتدى به، ومظهر نصرة الله تعالى لأوليائه وهزيمته أعدائه ذكر هنا سنة من سننه في خلقه وهي أنه بعث من بعد نوح رسلا كثيرين إلى أممهم فجاؤوهم بالبينات أي بالحجج والبراهين على صدقهم وصحة ما جاءوا به ودعوا إليه من توحيد الله، فما كان أولئك الأقوام ليؤمنوا بما كذب به من سبقهم من نوح. قال تعالى: { كذلك نطبع على قلوب المعتدين } هذا بيان سنة الله تعالى في البشر وهي أن العبد إذا أذنب وواصل الذنب بدون توبة يصبح الذنب طبعا من طباعه لا يمكنه أن يتخلى عنه، وما الذنب إلا اعتداء على حدود الشارع فمن اعتدى واعتدى وواصل الاعتداء حصل له الطبع وكان الختم على القلب فيصبح لا يقبل الإيمان ولا يعرف المعروف ولا ينكر المنكر. وقوله تعالى: { ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون } أي من بعد الأمم الهالكة بعثنا رسولينا موسى وهارون ابني عمران إلى فرعون وملئه بآياتنا المتضمنة الدليل على صحة مطلب رسولينا وهو توحيد الله وإرسال بني إسرائيل معهما، { فاستكبروا } أي فرعون وملؤه { وكانوا قوما مجرمين } حيث أفسدوا القلوب والعقول وسفكوا الدماء وعذبوا الضعفاء يقول تعالى عنهم { فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين } أي لما بهرتهم المعجزات وهي آيات موسى وأبطلت إفكهم قالوا إن هذا لسحر مبين تخلصا من الهزيمة التي لحقتهم، فرد موسى عليهم بقوله { أتقولون للحق لما جآءكم } هذا سحر ثم بعد توبيخهم استدل على بطلان قولهم بكونه انتصر عليهم فأفلح بينهم وفاز عليهم فقال: { أسحر هذا ولا يفلح الساحرون } فلو كان ما جئت به سحرا فكيف أفلحت في إبطال سحركم وهزيمة سحرتكم. فلما أفحمهم بالحجة قالوا مراوغين: { أجئتنا لتلفتنا } أي تصرفنا { عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبريآء في الأرض } أي وتكون لكما السيادة والملك في أرض مصر فسلكوا مسلك الاتهام السياسي. وقالوا { وما نحن لكما بمؤمنين } أي بمصدقين ولا متبعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في البشر وهي أن التوغل في الشر والفساد والظلم يوجب الختم على القلوب فيحرم العبد الإيمان والهداية.
2- ذم الاستكبار وأنه سبب كثير من الإجرام.
3- تقرير أن السحر صاحبه لا يفلح أبدا ولا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مرهوب.
4- الاتهامات الكاذبة من شأن أهل الباطل والظلم والفساد.
[10.79-82]
شرح الكلمات:
ساحر عليم: أي ذو سحر حقيقي له تأثير عليم بالفن.
ألقوا: أي ارموا في الميدان ما تريدون إلقاءه من ضروب السحر.
إن الله سيبطله: أي يظهر بطلانه أمام النظارة من الناس.
ويحق الله الحق: أي يقرر الحق ويثبته.
بكلماته: أي بأمره إذ يقول للشيء كن فيكون.
المجرمون: أهل الإجرام على أنفسهم وعلى غيرهم وهم الظلمة المفسدون.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر قصة موسى بعد قصة نوح عليهما السلام في الآيات السابقة لما غلب موسى فرعون وملأه بالحجة اتهم فرعون موسى وأخاه هارون بأنهما سياسيان يريدان الملك والسيادة على البلاد لا هم لهما إلا ذاك وكذب فرعون وهو من الكاذبين وهنا أمر رجال دولته أن يحضروا له علماء السحر ليباري موسى في السحر فجمع سحرته فقال لهم موسى { ألقوا مآ أنتم ملقون } فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، فنظر إليه موسى وقال: { ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } وألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- للسحر طرق يتعلم بها وله علماء به وتعلمه حرام واستعماله حرام.
2- حد الساحر القتل لأنه إفساد في الأرض.
3- جواز المبارزة للعدو والمباراة له إظهارا للحق وإبطالا للباطل.
4- عاقبة الفساد وعمل أصحابه الخراب والدمار.
5- متى قاوم الحق الباطل انهزم الباطل وانتصر الحق بأمر الله تعالى ووعده الصادق.
[10.83-87]
شرح الكلمات:
فما آمن لموسى: أي لم ينقد له ويتبعه.
إلا ذرية: أي طائفة قليلة من أولاد بني إسرائيل.
وملائهم: أي أشرافهم ورؤسائهم.
أن يفتنهم: أن يضطهدهم ويعذبهم.
لعال في الأرض: قاهر مستبد.
مسلمين: مذعنين منقادين لأمره ونهيه.
فتنة للقوم الظالمين: أي لا تفتنهم بنا بأن تنصرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا كفرا.
أن تبوءا: اتخذا لقومكما بمصر بيوتا تبوءون إليها وترجعون.
قبلة: أي مساجد تصلون فيها.
معنى الآيات:
بعد ذلك الانتصار الباهر الذي تم لموسى على السحرة، والهزيمة المرة التي لحقت فرعون ولم يؤمن لموسى ويتابعه إلا ذرية من بني إسرائيل، وعدد قليل من آل فرعون كامرأته ومؤمن آل فرعون والماشطة قال تعالى: { فمآ آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون } أي مع خوف من فرعون أن يفتنهم وقوله: { وملئهم } عائد إلى مؤمني آل فرعون أي مع خوف من ملائهم أي رؤسائهم وأشرافهم أن يفتنوهم أيضا، وقوله تعالى { وإن فرعون لعال في الأرض } أي إنه قاهر متسلط مستبد ظالم، { وإنه لمن المسرفين } في الظلم فلذا خافوه لما آمنوا، ولما ظهر الخوف على بني إسرائيل قال لهم موسى { يقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } ففوضوا أمركم إليه إن كنتم حقا مسلمين لله منقادين لأمره ونهيه، فأجابوا قائلين: { على الله توكلنا } وسألوا الله تعالى أن لا يفتن قوم فرعون بهم بأن ينصرهم عليهم فيزدادوا كفرا وظلما، وضمن ذلك أن لا تسلط الظالمين علينا فيفتنونا في ديننا بصرفنا عنه بقوة التعذيب { ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين } وهذا حسن توسل منهم إذا قالوا برحمتك فتوسلوا إلى الله برحمته ليستجيب دعاءهم، والمراد من القوم الكافرين هنا فرعون وملأه. وقوله تعالى: { وأوحينآ إلى موسى وأخيه } أي هارون { أن تبوءا لقومكما } أي من بني إسرائيل { بمصر } أي بأرض مصر { بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة } أي متقابلة ومساجد تصلون فيها { وأقيموا الصلاة } على الوجه الذي شرع لكم. وهذا بناء على أن بني إسرائيل بعد الانتصار على فرعون أخذوا ينحازون من مجتمع فرعون فأمروا أن يكونوا حيا مستقلا استعدادا للخروج من أرض مصر فأمرهم الرب تبارك وتعالى أن يجعلوا بيوتهم قبلة أي متقابلة ليعرفوا من يدخل عليهم ومن يخرج منهم وليصلوا فيها كالمساجد حيث منعوا من المساجد إما بتخريبها وإما بمنعهم منها ظلما وعدوانا وقوله تعالى { وبشر المؤمنين } أي وبشر يا رسولنا المؤمنين الصادقين في إيمانهم الكاملين فيه بحسن العاقبة بكرامة الدنيا وسعادة الآخرة بدخول دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أراه كيف انتصر موسى بالمعجزات ومع ذلك لم يتابعه إلا القليل من قومه.
2- التنديد بالعلو في الأرض والإسراف في الشر والفساد وبأهلهما.
3- وجوب التوكل على الله تعالى لتحمل عبء الدعوة إلى الله تعالى والقيام بطاعته.
4- مشروعية الدعاء والتوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته.
5- اتخاذ المساجد في المنازل للصلاة فيها عند الخوف.
6- وجوب إقام الصلاة.
7- بشرى الله تعالى للمؤمنين والمقيمين للصلاة بحسن العاقبة في الدارين.
[10.88-89]
شرح الكلمات:
زينة: حليا وحللا ورياشا ومتاعا.
أموالا: أي كثيرة من الذهب والفضة والأنعام والحرث.
اطمس: أي أزل أثرها من بينهم بإذهابها.
واشدد على قلوبهم: اربط عليها حتى لا يدخلها إيمان ليهلكوا وهم كافرون.
أجيبت دعوتكما: أي استجابها الله تعالى.
فاستقيما: على طاعة الله بأداء رسالته والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.
سبيل الذين لا يعلمون: أي طريق الجهلة الذي لا يعرفون محاب الله ومساخطه ولا يعلمون شرائع الله التي أنزل لعباده.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل فبعد أن لج فرعون في العناد والمكابرة بعد هزيمته سأل موسى ربه قائلا { ربنآ إنك آتيت فرعون وملأه } أي أعطيتهم { زينة } أي ما يتزين به من الملابس والفرش والأثاث وأنواع الحلي والحلل وقوله { وأموالا } أي الذهب والفضة والأنعام والحرث { في الحياة الدنيا } أي في هذه الحياة الدنيا وقوله: { ربنا ليضلوا عن سبيلك } أي فيسبب ذلك لهم الضلال إذا { ربنا اطمس على أموالهم } أي أذهب أثرها بمسحها وجعلها غير صالحة للانتفاع بها، { واشدد على قلوبهم } أي اطبع على قلوبهم واستوثق منها فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم الموجع أشد الإيجاع، قال تعالى: { قد أجيبت دعوتكما فاستقيما } على طاعتنا بالدعوة إلينا وأداء عبادتنا والنصح لعبادنا والعمل على إنقاذ عبادنا من ظلم الظالمين، { ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون } أي فتستعجلا وقوع العذاب فإن الذين لا يعلمون ما لله من حكم وتدابير وقضاء وقدر يستعجلون الله تعالى في وعده لهم فلا تكونوا مثلهم بل انتظروا وعدنا واصبروا حتى يأتي وعد الله. وما الله بمخلف وعده.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- مشروعية الدعاء بالهلاك على أهل الظلم.
2- كثرة المال وأنواع الزينة، والانغماس في ذلك والتلهي به يسبب الضلال لصاحبه.
3- الذين بلغوا حدا من الشر والفساد فطبع على قلوبهم لا يموتون إلا على الكفر فيخسرون.
4- المؤمن داع فهو شريك في الدعاء فلذا أهل المسجد يؤمنون على دعاء الإمام في الخطبة فتحصل الإجابة للجميع، ومن هنا يخطيء الذين يطوفون أو يزورون إذ يدعون بدعاء المطوف ولا يؤمنون.
5- حرمة اتباع طرق أهل الضلال، وتقليد الجهال والسير وراءهم.
[10.90-92]
شرح الكلمات:
وجاوزنا ببني إسرائيل: أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه.
البحر: بحر القلزم.
بغيا وعدوا: أي بغيا على موسى وهارون واعتداء عليهما.
آلآن: أي أفي هذا الوقت تقر بالوحدانية وتعترف له بالذلة؟!.
ببدنك: أي بجسدك لا روح فيه.
آية: علامة على أنك عبد وليس برب فيعتبروا بذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة موسى وهارون مع فرعون وبني إسرائيل قال تعالى: { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } وذلك بداية لاستجابة الله تعالى دعوة موسى وهارون ومعنى { جاوزنا } أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه، وذلك بأن أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فضرب فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم ويبست الأرض ودخل موسى مع بني إسرائيل يتقدمهم جبريل عليه السلام على فرس حتى تجاوزا البحر إلى الشاطىء، وجاء فرعون على فرسه ومعه ألوف الجنود فتبعوا موسى وبني إسرائيل فدخلوا البحر فلما توسطوه أطبق الله تعالى عليهم البحر فغرقوا أجمعين إلا ما كان من فرعون فإنه لما أدركه الغرق أي لحقه ووصل الماء إلى عنقه أعلن عن توبته فقال: { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل } ولكبريائه لم يقل لا إله إلا الله ولو قالها لتاب الله عليه فأنجاه بل قال: { لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل } وهو يعرف أنه الله. وقوله: { وأنا من المسلمين } مبالغة في طلب النجاة من الغرق بالتوبة حيث أعلن أنه من المسلمين أي المستسلمين المنقادين لأمره، فرد الله تعالى بقوله: { آلآن } أي وقت التوبة والإسلام بعد الإيمان، { وقد عصيت قبل } وتمردت على الله وشرعه وكفرت به وبرسوله { وكنت من المفسدين } للبلاد والعباد بالظلم والشر والفساد، { فاليوم ننجيك } أي نجعلك على نجوة من الأرض أي مرتفع منها { ببدنك } أي بجسمك دون روحك، وبذلك { لتكون لمن خلفك } أو بعدك من الناس { آية } أي علامة على أنك عبد مربوب وليس كما زعمت أنك رب وإله معبود، وتكون عبرة لغيرك فلا يطغى طغيانك ولا يكفر كفرانك فيهلك كما هلكت، وقوله تعالى: { وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون } إخبار منه بواقع الناس ومن أولئك الغافلين عن آيات الله وهي تتلى عليهم أهل مكة من كفار قريش وما سيق هذا القصص إلا لأجل هدايتهم، لو كانوا يهتدون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا تقبل التوبة عند معاينة العذاب وفي الحديث
" تقبل توبة العبد ما لم يغرغر "
2- أكمل الأديان وأفضلها الإسلام ولهذا أهل اليقين يسألون الله تعالى أن يتوفاهم مسلمين ولما أيقن فرعون بالهلاك زعم أنه من المسلمين.
3- فضل لا إله إلا الله فقد ورد أن جبريل كان يحول بين فرعون وبين أن يقول: لا إله إلا الله فينجو فلم يقلها فغرق وكان من الهالكين.
4- تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس في هذه الحياة غافلون عما يراد بهم ولهم ولم ينتبهوا حتى يهلكوا.
[10.93]
شرح الكلمات:
مبوأ صدق: أي أنزلناهم منزلا صالحا طيبا مرضيا.
من الطيبات: أي من أنواع الأرزاق الطيبة الحلال.
حتى جاءهم العلم: وهو معرفتهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو النبي المنتظر وأنه المنجي.
يقضي بينهم: يحكم بينهم.
فيما كانوا فيه يختلفون: أي في الذي اختلفوا من الحق فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار.
معنى الآية الكريمة:
هذه خاتمة الحديث عن موسى وبني إسرائيل بعد أن نجاهم الله من عدوهم بإهلاكه في اليم قال تعالى: { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق } أي أنزلناهم مبوأ صالحا طيبا وهو بلاد فلسطين من أرض الشام المباركة، وذلك بعد نجاتهم من التيه ودخولهم فلسطين بصحبة نبي الله يوشع بن نون عليه السلام، وقوله { ورزقناهم من الطيبات } إذ أرض الشام أرض العسل والسمن والحبوب والثمار واللحم والفحم وذكر هذا إظهار لنعم الله تعالى ليشكروها. وقوله: { فما اختلفوا حتى جآءهم العلم } يريد أن بني إسرائيل الذين أكرمهم ذلك الإكرام العظيم كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم متفقين على دين واحد منتظرين النبي المنتظر المبشر به في التوراة الذي سينقذ بني إسرائيل مما حل بهم من العذاب والاضطهاد على أيدي أعدائهم الروم، فلما جاءهم وهو العلم وهو القرآن والمنزل عليه محمد صلى الله عليه وسلم اختلفوا فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر. وقوله تعالى في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم: { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } من أمر الإيمان لك واتباعك واتباع ما جئت به من الهدى ودين الحق، فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل الكفار النار.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- بيان إكرام الله تعالى لبني إسرائيل.
2- الرزق الطيب هو ما كان حلالا لا ما كان حراما.
3- إذا أراد الله هلاك أمة اختلفت بسبب العلم الذي هو في الأصل سبب الوحدة والوئام.
4- حرمة الاختلاف في الدين إذ كان يؤدي إلى الانقسام والتعادي والتحارب.
5- يوم القيامة هو يوم الفصل الذي يقضي الله تعالى فيه بين المختلفين بحكمه العادل.
[10.94-97]
شرح الكلمات:
شك: ما قابل التصديق فالشاك غير المصدق.
مما أنزلنا إليك: أي في أن بني إسرائيل لم يختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم.
الكتاب: أي التوراة والإنجيل.
فلا تكونن من الممترين: أي لا تكونن من الشاكين.
حقت عليهم: أي وجبت لهم النار بحكم الله بذلك في اللوح المحفوظ.
حتى يروا العذاب: أي يستمرون على تكذيبهم حتى يروا العذاب فيؤمنوا حيث لا ينفع الإيمان.
معنى الآيات:
يقرر تعالى نبوة رسوله { فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك } أحبار اليهود ورهبان النصارى فإنهم يعرفون نعوتك وصفاتك في التوراة والإنجيل وإنك النبي الخاتم والمنقذ وأن من آمن بك نجا ومن كفر هلك وهذا من باب الفرض وليكون تهييجا للغير ليؤمن وإلا فهو صلى الله عليه وسلم قد قال: (لا أشك ولا أسأل) وقوله { لقد جآءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } ، يقسم تعالى لرسوله بأنه قد جاءه الحق من ربه وهو الحديث الثابت بالوحي الحق وينهاه أن يكون من الممترين أي الشاكين في صحة الإسلام، وأنه الدين الحق الذي يأبى الله إلا أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وقوله { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين } أي وينهاه أيضا أن يكون من الذين كذبوا بوحي الله وشرعه ورسوله المعبر عنها بالآيات لأنها حاملة لها داعية إليها، فتكون من الخاسرين يوم القيامة. وهذا كله من باب " إياك أعني واسمعي يا جاره " وإلا فمن غير الجائز أن يشك الرسول أو يكذب بما أنزل عليه من الآيات الحاملة من الشرائع والأحكام. وقوله تعالى: { إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جآءتهم كل آية } هو كما أخبر عز وجل فالذين قضى الله بعذابهم يوم القيامة فكتب ذلك في كتاب المقادير عنده هؤلاء لا يؤمنون أبدا مهما بذل في سبيل إيمانهم من جهد في تبيين الحق وإقامة الأدلة وإظهار الحجج عليهم وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من جراء ما يألم له ويحزن من إعراض كفار قريش وعدم استجابتهم وقوله { ولو جآءتهم كل آية } تأكيد للحكم السابق وهو أن الذي حكم الله بدخولهم النار لا يؤمنون ولا يموتون إلا كافرين لينجز الله ما وعد ويمضي ما قضى وحكم. وقوله: { حتى يروا العذاب الأليم } أي يستمرون على كفرهم بك وبما جئت به حتى يشاهدوا العذاب الأليم وحينئذ يؤمنون كما آمن فرعون عندما أدركه الغرق ولكن لم ينفعه إيمانه فكذلك هؤلاء المشركون من قومك الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم وعندئذ لا ينفعهم إيمانهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- سؤال من لا يعلم من يعلم.
3- التكذيب بآيات الله كفر وصاحبه من الخاسرين.
4- الشك والافتراء في أصول الدين وفروعه كفر.
5- تقرير عقيدة القضاء والقدر، وإن الشقي من شقي في كتاب المقادير والسعيد من سعد فيه.
6- عدم قبول توبة من عاين العذاب في الدنيا بأن رأى ملك الموت وفي الآخرة بعد أن يبعث ويشاهد أهوال القيامة.
[10.98-100]
شرح الكلمات:
فلولا: أداة تحضيض هنا بمعنى هلا وفيها معنى التوبيخ والنفي.
قرية آمنت: أي أهل قرية آمنوا.
يونس: هو يونس بن متى نبي الله ورسوله.
إلى حين: أي إلى وقت انقضاء آجالهم.
أفأنت تكره الناس: أي إنك لا تستطيع ذلك.
إلا بإذن الله: أي بإرادته وقضائه.
الرجس: أي العذاب.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى في الآيات السابقة أن الخسران لازم لمن كذب بآيات الله، وأن الذين وجب لهم العذاب لإحاطة ذنوبهم بهم لا يؤمنون لفقدهم الاستعداد للإيمان ذكر هنا ما يحض به أهل مكة على الإيمان وعدم الإصرار على الكفر والتكذيب فقال: { فلولا كانت قرية آمنت فنفعهآ إيمانها } أي فهلا أهل قرية آمنوا فانتفعوا بإيمانهم فنجوا من العذاب اللازم لمن لم يؤمن أي لم لا يؤمنون وما المانع من إيمانهم وهذا توبيخ لهم. وقوله { إلا قوم يونس لمآ آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } فلم نهلكهم بعذاب استئصال وإبادة شاملة لأنهم لما رأوا أمارات العذاب بادروا إلى التوبة قبل نزوله بهم فكشف الله تعالى عنهم العذاب ، ومتعهم بالحياة إلى حين انقضاء آجالهم فما لأهل أم القرى لا يتوبون كما تاب أهل نينوى من أرض الموصل وهم قوم يونس عليه السلام.
وقوله تعالى: { ولو شآء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } يحمل دلالتين الأولى أن عرض الله تعالى الإيمان على أهل مكة وحضهم عليه وتوبيخهم على تركه لا ينبغي أن يفهم منه أن الله تعالى عاجز عن جعلهم يؤمنون بل لو شاء إيمانهم لآمنوا كما لو شاء إيمان أهل الأرض جميعا لآمنوا والثانية تسلية الرسول والتخفيف عنه من ألم وحزن عدم إيمان قومه وهو يدعوهم بجد وحرص ليل نهار فأعلمه ربه أنه لو شاء إيمان كل من في الأرض لآمنوا، ولكنه التكليف المترتب عليه الجزاء فيعرض الإيمان على الناس عرضا لا إجبار معه فمن آمن نجا، ومن لم يؤمن هلك ويدل على هذا قوله له { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } أي إن هذا ليس لك، ولا كلفت به، وقوله تعالى: { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } تقرير وتأكيد لما تضمنه الكلام السابق من أن الإيمان لا يتم لأحد إلا بإرادة الله وقضائه، وقوله تعالى: { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } أي إلا أنه تعالى يدعو الناس إلى الإيمان مبينا لهم ثمراته الطيبة ويحذرهم من التكذيب مبينا لهم آثاره السيئة فمن آمن نجاه وأسعده ومن لم يؤمن جعل الرجس الذي هو العذاب عليه محيطا به جزاء له لأنه لا يعقل إذ لو عقل لما كذب ربه وكفر به وعصاه وتمرد عليه وهو خالقه ومالك أمره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده دعوته إياهم إلى الإيمان به وحضهم عليه.
2- قبول التوبة قبل معاينة العذاب، ورؤية العلامات لا تمنع من التوبة.
3- إرادة الله الكونية التي يكون بها الأشياء لا تتخلف أبدا، وإرادته الشرعية التكليفية جائزة التخلف.
4- لا إيمان إلا بإذن الله وقضائه فلذا لا ينبغي للداعي أن يحزن على عدم إيمان الناس إذا دعاهم ولم يؤمنوا لأن الله تعالى كتب عذابهم أزلا وقضى به.
[10.101-103]
شرح الكلمات
ماذا في السماوات والأرض: أي من عجائب المخلوقات، وباهر الآيات.
وما تغني الآيات والنذر: أي ما تغني أي إغناء إذا كان القوم لا يؤمنون.
فهل ينتظرون: أي ما ينتظرون.
خلوا من قبلهم: أي مضوا من قبلهم من الأمم السابقة.
قل فانتظروا: أي العذاب.
ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا: أي من العذاب المنتظر.
كذلك: أي كذلك الإنجاء ننج المؤمنين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لهم: { قل انظروا ماذا في السموت والأرض } من سائر المخلوقات وما فيها من عجائب الصنعة، ومظاهر الحكمة والرحمة والقدر فإنها تدعو إلى الإيمان بالله ربا وإلها لا إله غيره ولا رب سواه، وتفند دعوى ألوهية الأصنام والأحجار. ثم قال تعالى: { وما تغني الآيات والنذر } أي الرسل في هداية قوم قضى الله تعالى أزلا أنهم لا يؤمنون حتى إلى ما قدر لهم وما حكم به عليهم من عذاب الدنيا والآخرة ولكن لما كان علم ذلك إلى الله تعالى فعلى النذر أن تدعو وتبلغ جهدها والأمر لله من قبل ومن بعد. وقوله: { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } أي إنهم ما ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلفوا من قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم دعتهم رسلهم وبلغتهم دعوة ربهم إليهم إلى الإيمان والتوحيد والطاعة فأعرضوا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب.
ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم { فانتظروا } أي ما كتب عليكم من العذاب إن لم تتوبوا إليه وتسلموا { إني معكم من المنتظرين } فإن كان العذاب فإن سنة الله فيه أن يهلك الظالمين المشركين المكذبين وينجي رسله والمؤمنين وهو معنى قوله تعالى في الآية الأخيرة [103] { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك } إي الإنجاء { حقا علينا ننج المؤمنين }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا تنفع الموعظة مهما بولغ فيها عبدا كتب أزلا أنه من أهل النار.
2- ما ينتظر الظلمة في كل زمان ومكان إلا ما حل بمن ظلم من قبلهم من الخزي والعذاب.
3- وعد الله تعالى ثابت لأوليائه بإنجائهم من الهلاك عند أهلاكه الظلمة المشركين.
[10.104-107]
شرح الكلمات:
من ديني: أي الإسلام في أنه حق.
يتوفاكم: أي يقبض أرواحكم فيميتكم.
وإن أقم وجهك للدين حنيفا: أي أمرني ربي أن أقم وجهي للدين الإسلامي حنيفا أي مائلا عن كل الأديان إليه دون غيره.
ما لا ينفعك ولا يضرك: أي آلهة لا تنفع ولا تضر وهي أصنام المشركين وأوثانهم.
إنك إذا من الظالمين: أي إنك إذا دعوتها من المشركين الظالمين لأنفسهم.
فلا كاشف له إلا هو: أي لا مزيل للضر ومبعده عمن أصابه إلا هو عز وجل.
يصيب به: أي بالفضل والرحمة.
وهو الغفور الرحيم: أي لذنوب عباده التائبين الرحيم بعباده المؤمنين.
معنى الآيات:
بعد أن بين تعالى طريق الهدى وطريق الضلال وأنذار وحذر وواعد وأوعد في الآيات السابقة بما لا مزيد عليه أمر رسوله هنا أن يواجه المشركين من أهل مكة وغيرهم بالتقرير التالي فقال: { قل يأيها الناس } أي مشركي مكة والعرب من حولهم { إن كنتم في شك } وريب في صحة ديني الإسلام الذي أنا عليه وأدعوا إليه، { فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } فمجرد شككم في صحة ديني لا يجعلني أعبد أوثانا وأصناما لا تنفع ولا تضر، { ولكن أعبد الله } الذي ينفع ويضر، يحيي ويميت، الله الذي يتوفاكم أي يميتكم بقبض أرواحكم فهو الذي يجب أن يعبد ويخاف ويرهب { وأمرت أن أكون من المؤمنين } أي أمرني ربي أن أومن به فأكون من المؤمنين فآمنت وأنا من المؤمنين. وقوله تعالى: { وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين } أي وأوحى إلي ربي آمرا إياي بأن أقيم وجهي لدينه الحق فلا ألتفت إلى غيره من الأديان الباطلة، ونهاني مشددا علي أن أكون من المشركين الذين يعبدون معه آلهة أخرى بعد هذا الإعلان العظيم والمفاصلة الكاملة والتعريض الواضح بما عليه أهل مكة من الضلال والخطأ الفاحش، واجه الله تعالى رسوله بالخطاب وهو من باب " إياك أعني واسمعي يا جاره " فنهاه بصريح القول أن يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره وهو كل المعبودات ما سوى الله عز وجل فقال: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك } أي لا يجلب لك نفعا ولا يدفع عنك ضرا، ولا يضرك بمنع خير عنك، ولا بإنزال شر بك فإن فعلت بأن دعوت غير الله فإنك إذا من الظالمين، ولما كان دعاء النبي غير الله ممتنعا فالكلام إذا تعريض بالمشركين وتحذير للمؤمنين، وقوله تعالى: في خطاب رسوله: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له } عنك { إلا هو } عز وجل، { وإن يردك بخير } من الخيور عافية وصحة رخاء ونصر { فلا رآد لفضله } أي ليس هناك من يرده عنك بحال من الأحوال، وقوله: { يصيب } أي بالفضل والخير والنعمة { من يشآء من عباده } إذ هو الفاعل المختار، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقوله: { وهو الغفور الرحيم } بيان لصفات الجلال والكمال فيه فإنه تعالى يغفر ذنوب التائبين إليه مهما بلغت في العظم، ويرحم عباده المؤمنين مهما كثروا في العدد، وبهذا استوجب العبادة بالمحبة والتعظيم والطاعة والتسليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- على المؤمن أن لا يترك الحق مهما شك وشكك فيه الناس.
2- تحريم الشرك ووجوب تركه وترك أهله.
3- دعاء غير الله مهما كان المدعو شرك محرم فلا يحل أبدا، وإن سموه توسلا.
4- لا يؤمن عبد حتى يوقن أن ما أراده الله له من خير أو شر لا يستطيع أحد دفعه ولا تحويله بحال من الأحوال، وهو معنى حديث:
" ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. ".
[10.108-109]
شرح الكلمات:
يا أيها الناس: أي يا أهل مكة.
قد جاء الحق: أي الرسول يتلو القرآن ويبين الدين الحق.
من اهتدى: أي آمن بالله ورسوله وعبدالله تعالى موحدا له.
ومن ضل: أي أبى إلا الإصرار على الشرك والتكذيب والعصيان.
فعليها: أي وبال الضلال على نفس الضال كما أن ثواب الهداية لنفس المهتدي.
وما أنا عليكم بوكيل: أي بمجبر لكم على الهداية وإنما أنا مبلغ ونذير.
واصبر حتى يحكم الله: أي في المشركين بأمره.
خير الحاكمين: أي رحمة وعدلا وإنفاذا لما يحكم به لعظيم قدرته.
معنى الآيتين:
هذا الإعلان الأخير في هذه السورة يأمر الله تعالى رسوله أن ينادي المشركين بقوله: { يأيها الناس } وهو نداء عام يشمل البشرية كلها وإن أريد به ابتداء أهل مكة { قد جآءكم الحق من ربكم } وهو القرآن يتلوه رسول الله وفيه بيان الدين الحق الذي لا كمال للإنسان له إلا بالإيمان به والأخذ الصادق بما تضمنه من هدى. وبعد فمن اهتدى بالإيمان والاتباع فإنما ثواب هدايته لنفسه إذ هي التي تزكو وتطهر وتتأهل لسعادة الدارين، ومن ضل بالإصرار على الشرك والكفر والتكذيب فإنما ضلاله أي جزاء ضلاله عائد على نفسه إذ هي التي تتدسى وتخبث وتتأهل لمقت الله وغضبه وأليم عقابه. وما على الرسول المبلغ من ذلك شيء، إذ لم يوكل إليه ربه هداية الناس بل أمره أن يصرح لهم بأنه ليس عليهم بوكيل { ومآ أنا عليكم بوكيل } وقوله تعالى: { واتبع ما يوحى إليك } أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتزام الحق باتباع ما يوحى إليه من الأوامر والنواهي وعدم التفريط في شيء من ذلك، ولازم هذا وهو عدم اتباع ما لا يوحى إليه به ربه وقوله: { واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين } أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على اتباع الوحي والثبات على الدعوة وتحمل الأذى من المشركين إلى غاية أن يحكم الله فيهم وقد حكم فأمره بقتالهم فقتلهم في بدر وواصل قتالهم حتى دانوا لله بالإسلام ولله الحمد والمنة، وقوله { وهو خير الحاكمين } ثناء على الله تعالى بأنه خير من يحكم وأعدل من يقضي لكمال علمه وحكمته، وعظيم قدرته، وواسع رحمته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن القرآن والرسول حق والإسلام حق.
2- تقرير مبدأ أن المرء يشقى ويسعد بكسبه لا بكسب غيره.
3- وجوب اتباع الوحي الإلهي الذي تضمنه القرآن والسنة الصحيحة.
4- فضيلة الصبر وانتظار الفرج من الله تعالى.
[11 - سورة هود ]
[11.1-5]
شرح الكلمات:
آلر: هذا أحد الحروف المقطعة: يكتب آلر ويقرأ ألف، لام، را.
أحكمت: أي نظمت نظما متقنا ورصفت ترصيفا لا خلل فيه.
فصلت: أي ببيان الأحكام، والقصص والمواعظ، وأنواع الهدايات.
من لدن: أي من عند حكيم خبير وهو الله جل جلاله.
متاعا حسنا: أي بطيب العيش وسعة الرزق.
إلى أجل مسمى: أي موت الإنسان بأجله الذي كتب له.
ويؤت كل ذي فضل: أي ويعط كل ذي عمل صالح فاضل جزاءه الفاضل.
عذاب يوم كبير: هو عذاب يوم القيامة.
يثنون صدورهم: أي يطأطئون رؤوسهم فوق صدورهم ليستتروا عن الله في زعمهم.
يستغشون ثيابهم: يغطون رؤوسهم ووجوههم حتى لا يراهم الله في نظرهم الباطل.
معنى الآيات: قوله تعالى { الر } هذا الحرف مما هو متشابه ويحسن تفويض معناه إلى الله فيقال: الله أعلم بمراده بذلك. إن أفاد فائدتين الأولى: أن القرآن الكريم الذي تحداهم الله بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله قد تألف من مثل هذه الحروف: الم، الر، طه، طس حم، ق، ن، فألفوا مثله فإن عجزتم فاعلموا أنه كتاب الله ووحيه وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا به، والثانية أنهم لما كانوا لا يريدون سماع القرآن بل أمروا باللغو عند قراءته، ومنوا الاستعلان به جاءت هذه الحروف على خلاف ما ألفوه في لغتهم واعتادوه في لهجاتهم العربية فاضطرتهم إلى سماعه فإذا سمعوا تأثروا به وآمنوا ولنعم الفائدة أفادتها هذه الحروف المقطعة.
وقوله تعالى { كتاب أحكمت آياته } أي المؤلف من هذه الحروف كتاب عظيم أحكمت آياته أي رصفت ترصيفا ونظمت تنظيما متقنا لا خلل فيها ولا في تركيبها ولا معانيها، وقوله: { ثم فصلت } أي بين ما تحمله من أحكام وشرائع، ومواعظ وعقائد وآداب وأخلاق بما لا نظير له في أي كتاب سبق، وقوله: { من لدن حكيم خبير } أي تولى تفصيلها حكيم خبير، حكيم في تدبيره وتصرفه، حكيم في شرعه وتربيته وحكمه وقضائه، خبير بأحوال عباده وشؤون خلقه، فلا يكون كتابه ولا أحكامه ولا تفصيله إلا المثل الأعلى في كل ذلك.
وقوله: { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } أي أنزل الكتاب وأحكم أيه وفصل أحكامه وأنواع هدايته بأن لا تعبدوا إلا الله إذ لا معبود حق إلا هو ولا عبادة تنفع إلا عبادته. وقوله { إنني لكم منه نذير وبشير } هذا قول رسوله المبلغ عنه يقول أيها الناس إني لكم منه أي من ربكم الحكيم العليم نذير بين يدي عذاب شديد إن لم تتوبوا فتؤمنوا وتوحدوا. وبشير أي أبشر من آمن ووحد وعمل صالحا بالجنة في الآخرة { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى } أي وبأن تستغفروا ربكم باعترافكم بخطأكم بعبادة غيره، ثم تتوبوا إليه أي ترجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده وطاعته في أمره ونهيه، ولكم جزاء على ذلك وهو أن يمتعكم في هذه الحياة متاعا حسنا بالنعم الوفيرة والخيرات الكثيرة إلى نهاية آجالكم المسماة لكل واحد منكم.
وقوله { ويؤت كل ذي فضل فضله } أي ويعط سبحانه وتعالى كل صاحب فضل في الدنيا من بر وصدقة وإحسان فضله تعالى يوم القيامة في دار الكرامة الجنة دار الأبرار. وقوله: { وإن تولوا } أي تعرضوا عن هذه الدعوة فتبقوا على شرككم وكفركم { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } وهو عذاب يوم القيامة. وقوله تعالى: { إلى الله مرجعكم } يخبرهم تعالى بعد أن أنذرهم عذاب يوم القيامة بأن مرجعهم إليه تعالى لا محالة فسوف يحييهم بعد موتهم ويجمعهم عنده ويجزيهم بعدله ورحمته { وهو على كل شيء قدير } ومن ذلك إحياؤهم بعد موتهم ومجازاتهم السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها وهذا هو العدل والرحمة اللذان لا نظير لهما.
وقوله تعالى: { ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه } هذا النوع من السلوك الشائن الغبي كان بعضهم يثني صدره أي يطأطىء رأسه ويميله على صدره حتى لا يراه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يفعل ذلك ظنا منه أنه يخفي نفسه عن الله تعالى وهذا نهاية الجهل، وبعضهم يفعل ذلك بغضا للرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يراه فرد تعالى هذا بقوله: { ألا حين يستغشون ثيابهم } أي يتغطون بها { يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور } فلا معنى لاستغشاء الثياب استتارا بها عن الله تعالى فإن الله يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما تخفي صدورهم وإن كانوا يفعلون ذلك بغضا للنبي صلى الله عليه وسلم، فبئس ما صنعوا وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظهر من مظاهر إعجاز القرآن وهو أنه مؤلف من الحروف المقطعة ولم تستطع العرب الإتيان بسورة مثله.
2- بيان العلة في إنزال الكتاب وأحكام آيه وتفصيلها وهي أن يعبد الله تعالى وحده وأن يستغفره المشركون ثم يتوبون إليه ليكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة.
3- وجوب التخلي عن الشرك أولا، ثم العبادة الخالصة ثانيا.
4- المعروف لا يضيع عند الله تعالى إذا كان صاحبه من أهل التوحيد { ويؤت كل ذي فضل فضله }.
5- بيان جهل المشركين الذين كانوا يستترون عن الله برؤوسهم وثيابهم.
6- مرجع الناس إلى ربهم شاءوا أم أبوا والجزاء عادل ولا يهلك على الله إلا هالك.
[11.6-8]
شرح الكلمات:
من دابة: أي حي يدب على الأرض أي يمشي من إنسان وحيوان.
مستقرها: أي مكان استقراها من الأرض.
ومستودعها: أي مكان استيداعها قبل استقرارها كأصلاب الرجال وأرحام النساء.
في كتاب مبين: أي اللوح المحفوظ.
في ستة أيام: أي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.
وكان عرشه على الماء: إذ لم يكن قد خلق شيئا من المخلوقات سواه، والماء على الهواء.
ليبلوكم: أي ليختبركم ليرى أيكم أحسن عملا.
إلى أمة معدودة: أي إلى طائفة من الزمن معدودة.
وحاق بهم: أي نزل وأحاط بهم.
معنى الآيات:
لما أخبر تعالى في الآية السابقة إنه عليم بذات الصدور ذكر في هذه مظاهر علمه وقدرته تقريرا لما تضمنته الآية السابقة فقال عز وجل { وما من دآبة في الأرض } من إنسان يمشي على الأرض أو حيوان يمشي عليها زاحفا أو يمشي على رجلين أو أكثر أو يطير في السماء إلا وقد تكفل الله بزرقها أي بخلقه وإيجاده لها وبتعليمها كيف تطلبه وتحصل عليه، وهو تعالى يعلم كذلك مستقرها أي مكان استقرار تلك الدابة في الأرض، كما يعلم أيضا مستودعها بعد موتها إلى تبعث ليوم القيامة.
وقوله تعالى { كل في كتاب مبين } أي من الدابة ورزقها ومستقرها ومستودعها قد دون قبل خلقه في كتاب المقادير اللوح المحفوظ، وقوله تعالى في الآية [7] { وهو الذي خلق السموت والأرض في ستة أيام وكان عرشه على المآء } أي أوجد السماوات السبع والأرض وما فيها في ظرف ستة أيام وجائز أن تكون كأيام الدنيا، وجائز أن تكون كالأيام التي عنده وهي ألف سنة لقوله في سورة الحج
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الآية: 47] وقوله { وكان عرشه على المآء } أي خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض، والعرش: سرير الملك ومنه يتم تدبير كل شيء في هذه الحياة، وقوله { على المآء } إذ لم يكن أرض ولا سماء فلم يكن إلا الماء كالهواء. وقوله تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } أي خلقكم وخلق كل شيء لأجلكم، ليختبركم أيكم أطوع له وأحسن عملا أي بإخلاصه لله تعالى وحده وبفعله على نحو ما شرعه الله وبينه رسوله.
هذه مظاهر علمه تعالى وقدرته وبها استوجب العبادة وحده دون سواه وبها علم أنه لا يخفى عليه من أمر عباده شيء فكيف يحاول الجهلة إخفاء ما في صدورهم وما تقوم به جوارحهم بثني صدورهم واستغشاء ثيابهم. ألا ساء ما يعملون.
وقوله تعالى { ولئن قلت } - أي أيها الرسول للمشركين - إنكم مبعوثون من بعد الموت، أي مخلوقون خلقا جديدا ومبعوثون من قبوركم لمحاسبتكم ومجازاتكم بحسب أعمالكم في هذه الحياة الدنيا { ليقولن الذين كفروا } أي عند سماع أخبار الحياة الثانية وما فيها من نعيم مقيم، وعذاب مهين { إن هذآ إلا سحر مبين } أي ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الكلام ما هو إلا سحر مبين يريد به صرف الناس عن ملذاتهم، وجمعهم حوله ليترأس عليهم ويخدموه، وهو كلام باطل وظن كاذب وهذا شأن الكافر، وقوله تعالى في الآية [8] { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } أي ولئن أخرنا أي أرجأنا ما توعدناهم به من عذاب إلى أوقات زمانية معدودة الساعات والأيام والشهور والأعوام { ليقولن ما يحبسه } أي شيء حبس العذاب يقولون هذا إنكارا منهم واستخفافا قال تعالى { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم } أي ليس هناك من يصرفه ويدفعه عنهم بحال من الأحوال، { وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون } أي ونزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون بقولهم: ما يحبسه!!؟
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- سعة علم الله تعالى وتكفله بأرزاق مخلوقاته من إنسان وحيوان.
2- بيان خلق الأكوان، وعلة الخلق.
3- تقرير مبدأ البعث الآخر بعد تقرير الألوهية الله تعالى.
4- لا ينبغي الاغترار بإمهال الله تعالى لأهل معصيته، فإنه قد يأخذهم فجأة وهم لا يشعرون.
[11.9-11]
شرح الكلمات:
أذقنا الإنسان: أي أنلناه رحمة أي غنى وصحة.
ثم نزعناها منه: أي سلبناها منه.
يؤوس كفور: أي كثير اليأس أي القنوط شديد الكفر.
نعماء بعد ضراء: أي خيرا بعد شر.
السيئات: جمع سيئة وهي ما يسوء من المصائب.
فرح فخور: كثير الفرح والسرور والبطر.
صبروا: أي على الضراء والمكاره.
مغفرة: أي لذنوبهم.
وأجر كبير: أي الجنة دار الأبرار.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن الإنسان الذي لم يستنر بنور الإيمان ولم يتحل بصالح الأعمال إن أذاقه الله تعالى رحمة منه برخاء وسعة عيش وصحة بدن، ثم نزعها منه لأمر أراده الله تعالى { إنه } اي ذلك الإنسان { ليئوس } أي كثير اليأس والقنوط { كفور } لربه الذي أنعم عليه جحود لما كان قد أنعم به عليه.
وقوله { ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء } أي أذقناه طعم نعمة ولذاذة رخاء وسعة عيش وصحة بدن بعد ضراء كانت قد أصابته من فقر ومرض { ليقولن } بدل أن يحمد الله ويشكره على إسعاده بعد شقاء وإغنائه بعد فقر وصحة بعد مرض يقول متبجحا { ذهب السيئات عني إنه لفرح } أي كثير السرور { فخور } كثير الفخر والمباهاة، وهذا علته ظلمة النفس بسبب الكفر والمعاصي، أما الإنسان المؤمن المطيع لله ورسوله فعلى العكس من ذلك إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر ، وذلك لما في قلبه من نور الإيمان وفي نفسه من زكاة الأعمال.
هذا ما تضمنه قوله تعالى { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة } أي لذنوبهم { وأجر كبير } عن ربهم وهو الجنة دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أن الإنسان قبل أن يطهر بالإيمان والعمل الصالح يكون في غاية الضعف والانحطاط النفسي.
2- ذم اليأس والقنوط ولحرمتهما.
3- ذم الفرح بالدنيا والفخر بها.
4- بيان كمال المؤمن الروحي المتمثل في الصبر والشكر وبيان جزائه بالمغفرة والجنة.
[11.12-14]
شرح الكلمات:
فلعلك: للاستفهام الإنكاري أي لا يقع منك ترك ولا يضق صدرك.
ضائق به صدرك: أي بتلاوته عليهم كراهية أن يقولوا كذا وكذا.
كنز: مال كثير تنفق منه على نفسك وعلى أتباعك.
وكيل: أي رقيب حفيظ.
افتراه: اختلقه وكذبه.
من استطعتم: من قدرتم على دعائهم لإعانتكم.
فهل أنتم مسلمون: أي أسلموا لله بمعنى انقادوا لأمره وأذعنوا له.
معنى الآيات:
بعد أن كثرت مطالبة المشركين الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يحول لهم جبال مكة ذهبا في اقتراحات منها لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } أي لا تتلوه على المشركين ولا تبلغهم إياه لتهاونهم به وإعراضهم عنه { وضآئق به صدرك } أي بالقرآن، كراهة أن تواجههم به فيقولوا { لولا أنزل عليه كنز } أي مال كثير يعيش عليه فيدل ذلك على إرسال الله له { أو جآء معه ملك } يدعو بدعوته ويصدقه فيها ويشهد له بها فلا ينبغي أن يكون ذلك منك أي فبلغ ولا يضق صدرك { إنمآ أنت نذير } أي محذر عواقب الشرك والكفر والمعاصي، والله الوكيل على كل شيء أي الرقيب الحفيظ أما أنت ليس عليك من ذلك شيء.
وقوله تعالى { أم يقولون افتراه } أي بل يقولون افتراه أي افترى القرآن وقال من نفسه بدون ما أوحي إليه، قل في الرد عليهم { قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم } دعوتهم لإعانتكم { إن كنتم صادقين } في دعواكم أني افتريته، فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا فتوبوا إلى ربكم وأسلموا له.
وقوله { فإلم يستجيبوا لكم } أي قل لهم يا رسولنا فإن لم يستجب لنصرتكم من دعوتموه وعجزتم { فاعلموا أنمآ أنزل بعلم الله } أي أنزل القرآن متلبسا بعلم الله وذلك أقوى برهان على أنه وحيه وتنزيله { وأن لا إله إلا هو } أي وأنه لا إله إلا الله ولا معبود بحق سواه، وأخيرا { فهل أنتم مسلمون } أي أسلموا بعد قيام الحجة عليكم بعجزكم، وذلك خير لكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ولاية الله لرسوله وتسديده له وتأييده.
2- بيان ما كان عليه المشركون من عناد في الحق ومكابرة.
3- بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكلف هداية الناس وإنما كلف إنذارهم عاقبة كفرهم وعصيانهم، وعلى الله تعالى بعد ذلك مجازاتهم.
4- تحدي الله تعالى منكري النبوة والتوحيد بالإتيان بعشر سور من مثل القرآن فعجزوا وقامت عليهم الحجة وثبت أن القرآن كلام الله ووحيه وأن محمدا عبده ورسوله وأن الله لا إله إلا هو.
[11.15-17]
شرح الكلمات:
زينة الحياة الدنيا: المال والولد وأنواع اللباس والطعام والشراب.
نوف إليهم: نعطهم نتاج أعمالهم وافيا.
لا يبخسون: أي لا ينقصون ثمرة أعمالهم.
وحبط: أي بطل وفسد.
على بينة من ربه: أي على علم يقيني.
ويتلوه شاهد منه: أي يتبعه.
كتاب موسى: أي التوراة.
ومن يكفر به: أي بالقرآن.
فالنار موعده: أي مكان وعد به فهو لا محالة نازل به.
في مرية منه: أي في شك منه.
معنى الآيات:
لما أقام الله تعالى الحجة على المكذبين بعجزهم عن الإتيان بعشر سور من مثل القرآن مفتريات حيث ادعوا أن القرآن مفترى وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افتراه ولم يبق إلا أن يختار المرء أحد الطريقين طريق الدنيا أو الآخرة الجنة أو النار فقال تعالى { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } من مال وولد وجاه وسلطان وفاخر اللباس والرياش.
{ نوف إليهم أعمالهم فيها } نعطهم نتاج عملهم فيها وافيا غير منقوص فعلى قدر جهدهم وكسبهم فيها يعطون ولا يبخسهم عملهم لكفرهم وتركهم، ثم هم بعد ذلك إن لم يتوبوا إلى ربهم. هلكوا كافرين ليس لهم إلا النار { وحبط ما صنعوا } في هذه الدار من أعمال وبطل ما كانوا يعملون.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [15 والثانية 16] وهو قوله تعالى { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } وقوله تعالى في الآية الثالثة [17] { أفمن كان على بينة من ربه } بما أوحى إليه من القرآن وما حواه من الأدلة والبراهين على توحيد الله ونبوة رسوله، وعلى المعاد الآخر، وقوله { ويتلوه شاهد منه } أي ويتبع ذلك الدليل دليل آخر وهو لسان الصدق الذي ينطق به وكمالاته الخلقية والروحية حيث نظر إليه أعرابي فقال والله ما هو بوجه كذاب، ودليل ثالث في قوله { ومن قبله كتاب موسى } أي التوراة { إماما ورحمة } شاهد له حيث حمل نعوت الرسول وصفاته ونعوت أمته وصفاتها في غير موضع منه أفمن هو على هذه البينات والدلائل والبراهين من صحة دينه، كمن لا دليل له ولا برهان إلا التقليد للضلال والمشركين، وقوله { أولئك يؤمنون به } أي أولئك الذين ثبتت لديهم تلك البينات والحجج والبراهين { يؤمنون به } أي بالقرآن الحق والنبي الحق والدين الحق. وقوله تعالى { ومن يكفر به } أي بالقرآن ونبيه ودينه من الأحزاب أي من سائر الطوائف والأمم والشعوب فالنار موعده، وحسبه جهنم وبئس المصير.
وقوله تعالى { فلا تك في مرية منه } أي فلا تك في شك منه أي في أن موعد من يكفر به من الأحزاب النار.
وقوله { إنه الحق من ربك } أي القرآن الذي كذب به المكذبون وما تضمنه من الوعد والوعيد، والدين الحق كل ذلك هو الحق الثابت من ربك، إلا أن { أكثر الناس لا يؤمنون } وإن ظهرت الأدلة ولاحت الأعلام وقويت البراهين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حقيقة وهي أن الكفر غير مانع من أن ينتج الكافر بحسب جهده من كسب يده فيحصد إذ زرع، ويربح إذا اتجر، وينتج إذا صنع.
2- بيان أن الكافر لا ينتفع من عمله في الدنيا ولو كان صالحا وأن الخسران لازم له.
3- المسلمون على بينة من دينهم، وسائر أهل الأديان الأخرى لا بينة لهم وهم في ظلام التقليد وضلال الكفر والجهل.
5- بيان سنة الله في الناس وهي أن أكثرهم لا يؤمنون.
[11.18-20]
شرح الكلمات:
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا: أي لا أحد فالاستفهام للنفي.
يعرضون على ربهم: أي يوم القيامة.
الأشهاد: جمع شاهد وهم هنا الملائكة.
لعنة الله: أي طرده وإبعاده.
على الظالمين: أي المشركين.
سبيل الله: أي الإسلام.
عوجا: أي معوجة.
معجزين في الأرض: أي الله عز وجل أي فائتين بل هو قادر على أخذهم في أية الحظة.
من أولياء: أي أنصار يمنعونهم من عذاب الله.
وما كانوا يبصرون: ذلك لفرط كراهيتهم للحق فلا يستطيعون سماعه، ولا رؤيته.
معنى الآيات:
بعد أن قرر تعالى مصير المكذبين بالقرآن ومن نزل عليه وما نزل به من الشرائع ذكر نوعا من إجرام المجرمين الذين استوجبوا به النار فقال عز وجل { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي لا أحد في الناس أعظم ظلما من أحد افترى على الله كذبا ما من أنواع الكذب وإن قل وقوله { أولئك يعرضون على ربهم } أي أولئك الكذبة يعرضون يوم القيامة على ربهم جل جلاله في عرصات القيامة، ويقول الأشهاد من الملائكة شاهدين عليهم { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } ثم يعلن معلن قائلا { ألا لعنة الله على الظالمين } أي ألا بعدا لهم من الجنة وطردا لهم منها إلى نار جهنم.
ثم وضح تعالى نوع جناياتهم التي استوجبوا بها النار فقال { الذين يصدون عن سبيل الله } أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الدين الإسلامي، { ويبغونها } أي سبيل الله { عوجا } أي معوجة كما يهوون ويشتهون فهم يريدون الإسلام أن يبيح لهم المحرمات من الربا والزنى والسفور، ويريدون من الإسلام أن يأذن لهم في عبادة القبور والأشجار والأحجار إلى غير ذلك، ويضاف إلى هذا ذنب أعظم وهو كفرهم بالدار الآخرة. قال تعالى { أولئك } أي المذكورون { لم يكونوا معجزين في الأرض } أي لم يكن من شأنهم ومهما رأوا أنفسهم أقوياء أن يعجزوا الله تعالى في الأرض فإنه مدركهم مهما حاولوا الهرب ومنزل بهم عذابه متى أراد ذلك لهم، وليس لهم من دون الله من أولياء أي أنصار يمنعونهم من العذاب متى أنزله بهم، وقوله تعالى { يضاعف لهم العذاب } إخبار منه بأن هؤلاء الظالمين يضاعف لهم العذاب يوم القيامة لأنهم صدوا غيرهم عن سبيل الله فيعذبون بصدهم أنفسهم عن الإسلام، وبصد غيرهم عنه، وهذا هو العدل وقوله تعالى فيهم { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } إخبار بحالهم في الدنيا أنهم كانوا لشدة كراهيتهم للحق ولأهله من الداعين إليه لا يستطيعون سماعة ولا رؤيته ولا رؤية أهله القائمين عليه والداعين إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم ذنب من يكذب على الله تعالى بنسبة الولد أو الشريك إليه أو بالقول عليه بدون علم منه.
2- عظم جرم من يصد عن الإسلام بلسانه أو بحاله، أو سلطانه.
3- عظم ذنب من يريد إخضاع الشريعة الإسلامية لهواه وشهواته بالتأويلات الباطلة والفتاوى غير المسؤولة ممن باعوا آخرتهم بدنياهم.
4- بيان أن من كره قولا أو شخصا لا يستطيع رؤيته ولا سماعه.
[11.21-24]
شرح الكلمات:
وضل عنهم ما كانوا يفترون: أي غاب عنهم ما كانوا يدعونه من شركاء لله تعالى.
لا جرم: أي حقا وصدقا أنهم في الآخرة هم الأخسرون.
وأخبتوا إلى ربهم: أي تطامنوا أو خشعوا لربهم بطاعته وخشيته.
مثل الفريقين: أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين.
أفلا تذكرون: أي تتعظون، فتستغفروا ربكم ثم تتوبوا إليه؟.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تحديد المجرمين وبيان حالهم في الآخرة فقال تعالى { أولئك } أي البعداء { الذين خسروا أنفسهم } حيث استقروا في دار الشقاء فخسروا كل شيء حتى أنفسهم، { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي وغاب عنهم ما كانوا يزعمون أن لهم شركاء، وأنهم يشفعون لهم وينصرونهم قال تعالى: { لا جرم } أي حقا { أنهم في الآخرة } أي في دار الآخرة { هم الأخسرون } أي الأكثر خسرانا من غيرهم لأنهم أضافوا إلى جريمة كفرهم جريمة تكفير غيرهم ممن كانوا يدعونهم إلى الضلال، ويصدونهم عن الإسلام سبيل الهدى والنجاة من النار. ولما ذكر تعالى حال الكافرين وما انتهوا إليه من خسران، ذكر تعالى حال المؤمنين فقال { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي آمنوا بالله وبوعده ووعيده. وآمنوا برسول الله وبما جاء به، وعملوا الصالحات التي شرعها الله تعالى لهم من صلاة وزكاة { وأخبتوا إلى ربهم } أي أسلموا له وجوههم وقلوبهم وانقادوا له بجوارحهم فتطامنوا وخشعوا أولئك أي السامون أصحاب الجنة أي أهلها { هم فيها خالدون } أي لا يبرحون منها ولا يتحولون عنها، هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآية الرابعة [24] وهي قوله تعالى { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا }؟ فقد ذكر تعالى مقارنة بين أهل الشرك وأهل التوحيد توضيحا للمعنى وتقريرا للحكم فقال { مثل الفريقين } أي صفة الفريقين الموضحة لهما هي كالأعمى والأصم وهذا فريق الكفر والظلم والسميع والبصير. وهذا فريق أهل الإيمان والتوحيد فهل يستويان مثلا أي صفة الجواب لا، لأن بين الأعمى والبصير تباينا كما بين الأصم والسميع تباينا فأي عاقل يرضى أن يكون العمى والصمم وصفا له ولا يكون البصر والسمع وصفا له؟ والجواب لا أحد إذا { أفلا تذكرون } أي أفلا تتعظون بهذا المثل وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وتوحدوا وتؤمنوا برسوله وتتبعوه، وبكتابه وتعملوا بما فيه؟.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان المقارنات بين الأشياء المتضادة للعبرة والاتعاظ.
2- الكافر ميت موتا معنويا فلذا هو لا يسمع ولا يبصر، والمسلم حي فلذا هو سميع بصير.
3- بيان ورثة دار النعيم وهم أهل الإيمان والطاعة، وورثة دار الخسران وهم أهل الكفر والظلم.
[11.25-27]
شرح الكلمات:
نوحا: هو العبد الشكور أبو البشرية الثاني نوح عليه السلام.
إني لكم نذير مبين: أي مخوف لكم من عذاب بين النذارة.
عذاب يوم أليم: هو عذابه يوم القيامة.
الملأ: الأشراف وأهل الحل والعقد في البلاد .
أراذلنا: جمع أرذل وهو الأكبر خسة ودناءة.
بادي الرأي: أي ظاهر الرأي، لا عمق عندك في التفكير والتصور للأشياء.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة نوح عليه السلام وهي بداية لخمس قصص جاءت في هذه السورة سورة هود عليه السلام قال تعالى { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين } أي قال لهم إني لكم نذير مبين أي بين النذارة أي أخوفكم عاقبة كفركم بالله وبرسوله وشرككم في عبادة ربكم الأوثان والأصنام، وقوله { أن لا تعبدوا إلا الله } أي نذير لكم بأن لا تعبدوا إلا الله، وتتركوا عبادة غيره من الأصنام والأوثان وقوله { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } علل لهم أمرهم بالتوحيد ونهيهم عن الشرك بأنه يخاف عليهم إن أصروا على كفرهم وتركهم عذاب يوم أليم وهو عذاب يوم القيامة { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } أي فرد على نوح ملأ قومه أشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم ممن كفروا بالله ورسوله فقالوا { ما نراك إلا بشرا مثلنا } أي لا فضل لك علينا فكيف تكون رسولا لنا ونحن مثلك هذا أولا وثانيا { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } أي سفلتنا من أهل المهن المحتقرة كالحياكة والحجامة والجزارة ونحوها وقولهم بادي الرأي أي ظاهر الرأي لا عمق في التفكير ولا سلامة في التصور عندك وقولهم { وما نرى لكم علينا من فضل } أي وما نرى لكم علينا من أي فضل تستحقون به أن نصبح أتباعا لكم فنترك ديننا ونتبعكم على دينكم بل نظنكم كاذبين فيما تقولون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إن نوحا واسمه عبد الغفار أول رسول إلى أهل الأرض بعد أن أشركوا بربهم وعبدوا غيره من الأوثان والآلهة الباطلة.
2- قوله أن لا تعبدوا إلا الله هو معنى لا إله إلا الله.
3- التذكير بعذاب يوم القيامة.
4- اتباع الرسل هم الفقراء والضعفاء، وخصومهم الأغنياء والأشراف والكبراء.
5- احتقار أهل الكبر لمن دونهم، وفي الحديث
" الكبر بطر الحق وغمط الناس ".
[11.28-31]
شرح الكلمات:
أرأيتم: أي أخبروني.
على بينة من ربي: أي على علم علمنيه الله فعلمت أنه لا إله إلا الله.
فعميت عليكم: أي خفيت عليكم فلم تروها.
أنلزمكموها: أي أجبركم على قبولها.
بطارد الذين آمنوا: أي بمبعدهم عني ومن حولي.
خزائن الله: التي فيها الفضل والمال.
تزدري أعينكم: تحتقر أعينكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة نوح مع قومه فأخبر تعالى أن نوحا قال لقومه أرأيتم أي أخبروني إن كنت على بينة من ربي أي على علم يقيني تعالى وبصفاته وبما أمرني به من عبادته وتوحيده والدعوة إلى ذلك. وقوله { وآتاني رحمة من عنده } وهي الوحي والنبوة والتوفيق لعبادته. { فعميت عليكم } أنتم فلم تروها. فماذا أصنع معكم { أنلزمكموها } أي أنجبركم أنا ومن آمن بي على رؤيتها والإيمان بها والعمل بهداها، { وأنتم لها كارهون } أي والحال أنكم كارهون لها والكاره للشيء لا يكاد يراه ولا يسمعه، هذا ما دلت عليه الآية الأولى [27] أما الآية الثانية فإن الله تعالى يخبر أيضا عن قيل نوح لقومه: { ويقوم لا أسألكم عليه مالا } أي لا أطلب منكم أجرا على إبلاغكم هذه الرحمة التي عميت عليكم فلم تروها. { إن أجري إلا على الله } أي ما أجري إلا على الله إذ هو الذي كلفني بالعمل بها والدعوة إليها وواعدني بالأجر عليها. وقوله
ومآ أنا بطارد المؤمنين
[الشعراء: 114] أي وما أنا بمطيعكم في طرد المؤمنين من حولي كما اقترحتم علي، إنهم ملاقو ربهم، ومحاسبهم ومجازيهم على أعمالهم فكيف يصح مني إبعادهم عن سماع الحق وتعلمه والأخذ به ليكملوا ويسعدوا إذ العبرة بزكاة النفوس وطهارة الأرواح بواسطة الإيمان والعمل الصالح لا بالشرف والمال والجاه كما تتصورون ولذا فأني أراكم قوما تجهلون هذا ما دلت عليه الآية الثانية [28] ثم قال لهم في الآية الثالثة { ويقوم من ينصرني من الله إن طردتهم } أي من هو الذي يرد عني عذاب الله ويمنعني منه إن أنا عصيته فطردت أي أقصيت وأبعدت عبادة المؤمنين عن سماع الهدى وتعلم الخير ولا علة لذلك إلا لأنهم فقراء ضعفاء تزدريهم أعينكم المريضة التي لا تقدر على رؤية الحق وأهله والداعين إليه، ثم قال لهم { أفلا تذكرون } أي تتفكرون فتعلمون خطأكم وجهلكم فتثوبوا إلى رشدكم، وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وبرسوله وتعبدوه وحده لا شريك له ثم قال لهم في الآية الأخيرة [31] { ولا أقول لكم عندي خزآئن الله } ردا على قولهم:
وما نرى لكم علينا من فضل
[هود: 27] { ولا أعلم الغيب } فأعرف ما تخفيه صدور الناس فأطرد هذا وأبقي هذا، { ولا أقول إني ملك } حتى تقولوا ما نراك إلا بشرا مثلنا { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } لفقرهم وضعفهم { لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم } أي من صدق أو نفاق ومن حب لي أو بغض كأنهم طعنوا في المؤمنين واتهموهم بأنهم ينافقون أولهم أغراض فاسدة أو أطماع مادية من أجلها التفوا حول نوح، وقوله { إني إذا لمن الظلمين } أي إني إذا قلت للمؤمنين من الضعفاء لن يؤتيكم الله خيرا كنت بعد ذلك من الظالمين الذين يعتدون على الناس بهضمهم حقوقهم وامتهان كرامتهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) كره الشيء يجعل صاحبه لا يراه ولا يسمعه ولا يفهم ما يقال له فيه.
2) كراهية أخذ الأجرة على الدعوة والتربية والتعليم الديني.
3) وجوب احترام الضعفاء وإكرامهم وحرمة احتقارهم وازدرائهم.
4) علم الغيب استأثر الله تعالى به دون سائر خلقه إلا من علمه الله شيئا منه فإنه يعلمه.
5) حرمة غمط الناس وازدرائهم والسخرية منهم.
[11.32-34]
شرح الكلمات:
جادلتنا: أي خاصمتنا تريد إسقاطنا وعدم اعتبارنا في ديننا وما نحن عليه.
بما تعدنا: أي من العذاب إن لم نؤمن بما تدعونا إليه.
إن كنت من الصادقين: أي في دعواك النبوة والإخبار عن الله عز وجل.
بمعجزين: أي بغالبين ولا فائتين الله تعالى متى أراد الله عذابكم.
نصحي: أي بتخويفي إياكم عذاب ربكم إن بقيتم على الكفر به وبلقائه ورسوله.
أن يغويكم: أي يوقعكم في الضلال ويبقيكم فيه فلا يهديكم أبدا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة نوح عليه السلام مع قومه فأخبر تعالى عن قول قوم نوح له عليه السلام: فقال: { قالوا ينوح قد جادلتنا } أي خاصمتنا وأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين أي فعجل العذاب وأنزله علينا إن كنت من الصادقين فيما تقول وتدعو وتعد. فأخبر تعالى عن قول نوح لهم ردا على مقالتهم وهو ما علمه ربه تعالى أن بقوله: فقال { قال إنما يأتيكم به الله } أي بالعذاب الله إن شاء ذلك. { ومآ أنتم بمعجزين } أي فائتين الله ولا هاربين منه. وقوله: { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون }. أي إن نصحي لا ينفعكم بمعنى أنكم لا تقبلونه مهما أردت ذلك وبالغت فيه إن كان الله جل جلاله يريد أن يغويكم لما فرط منكم وما أنتم عليه من عناد وكفر ومجاحدة ومكابرة إذ مثل هؤلاء لا يستحقون هداية الله تعالى بل الأولى بهم الضلالة حتى يهلكوا ضالين فيشقوا في الدار الآخرة. وقوله تعالى: { هو ربكم وإليه ترجعون } أي فالأمر له ألستم عبيده وهو ربكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم وإن كانت حكمته تنفي أن يعذب الصالحين ويرحم الغواة الظالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الجدال لإحقاق الحق وإبطال الباطل. بشرط الأسلوب الحسن.
2- إرادة الله تعالى قبل كل إرادة وما شاءه الله يكون وما لم يشأه لم يكن.
3- لا ينفع نصح الناصحين ما لم يرد الله الخير للمنصوح له.
4- ينبغي عدم إصدار حكم على عبد لم يمت فيعرف بالموت مآله. إلا قول الله أعلم به.
[11.35]
شرح الكلمات:
أم يقولون: أي بل يقولون افتراه.
افتراه: أي اختلقه وقال من نفسه ولم يوح به إليه.
فعلي إجرامي: أي عاقبة الكذب الذي هو الإجرام تعود علي لا على غيري.
وأنا بريء: أي أتبرأ وأتنصل من إجرامكم فلا أتحمل مسؤوليته.
مما تجرمون: أي على أنفسكم بإفسادها بالشرك والكفر والعصيان.
معنى الآية:
هذه الآية الكريمة أوقعها الله منزلها سبحانه وتعالى بين أجزاء الحديث عن نوح وقومه، وحسن موقعها هنا لأن الحديث عن نوح وقومه لا يتأتى لأحد إلا لنبي يوحى إليه، وذلك لبعده في التاريخ فقص النبي له اليوم دليل على أنه نبي يوحى إليه، فلذا قال أم يقولون افتراه أي يقولون افترى القرآن وكذبه ولم يوح إليه قل إن افتريته كما زعمتم فعلي إجرامي أي أثم كذبي وأنا بريء مما تجرمون أنتم بتكذيبكم إياي وكفركم بربكم ورسوله ووعده ووعيده.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز الاعتراض في الكلام إذا حسن موقعه لإقامته حجة أو إبطال باطل أو تنبيه على أمر مهم.
2- قص القصص أكبر دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة ودعوته إلى الله تعالى.
3- تقرير مبدأ تحمل كل إنسان مسؤولية عمله وأن لا تزر وازرة وزر أخرى.
[11.36-39]
شرح الكلمات:
وأوحى إلى نوح: أي اعلم بطريق الوحي الذي هو الاعلام السريع الخفي.
فلا تبتئس: لا تحزن ولا يشتد بك الحزن فإني منجيك ومهلكهم.
الفلك: أي السفينة التي أمرناك بصنعها لحمل المؤمنين عليها.
سخروا منه: أي استهزئوا به كقولهم: تحمل هذا الفلك إلى البحر أو تحمل البحر إليه.
يخزيه: أي يذله ويهينه.
ويحل عليه عذاب مقيم: أي وينزل به عذاب النار يوم القيامة فلا يفارقه.
معنى الآيات:
عاد السياق بعد الاعتراض بالآية [35] إلى الحديث عن نوح وقومه فقال تعالى { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن }. وهذا بعد دعوة دامت قرابة ألف سنة إلا خمسين عاما أي فلم يؤمن بعد اليوم أحد من قومك وعليه فلا تبتئس أي لا تغتم ولا تحزن بسبب ما كانوا يفعلون من الشر والفساد والكفر والمعاصي فإني منجيك ومن معك من المؤمنين ومهلكهم بالغرق. وقوله تعالى في الآية الثانية [37] { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } أي وأمرناه أن يصنع الفلك أي السفينة تحت بصرنا وبتوجيهنا وتعليمنا. إذ لم يكن يعرف السفن ولا كيفية صنعها وقوله { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } أي لا تسألني لهم صرف العذاب ولا تشفع لهم في تخفيفه عليهم، لأنا قضينا بإهلاكهم بالطوفان فهم لا محالة مغرقون قوله تعالى { ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } يخبر تعالى عن حال نوح وهو يصنع الفلك بقطع الخشب ونجره وتركيبه وقومه يمرون عليه وكلما مر عليه أشراف القوم وعليتهم يسخرون منه كقولهم يا نوح أصبحت نجارا أو وهل تنقل البحر إليها، أو تنقلها إلى البحر فيرد عليهم نوح عيله السلام بقوله { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } أي منا. فسوف تعلمون أي مستقبلا من يأتيه عذاب يخزيه أي يذله ويهينه ويكسر أنف كبريائه، ويحل عليه عذاب مقيم وهو عذاب النار يوم القيامة وهو عذاب دائم لا ينتهي أبدا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كراهية الحزن والأسى والأسف على ما يقوم به أهل الباطل والشر والفساد.
2- بيان تاريخ صنع السفن وانها بتعليم الله لنوح عليه السلام.
3- بيان سنة البشر في الاستهزاء والسخرية بأهل الحق ودعاته لظلمة نفوسهم بالكفر والمعاصي.
4- بيان صدق وعد الله رسله.
[11.40-44]
شرح الكلمات:
فار التنور: أي خرج الماء وارتفع من التنور وهو مكان طبخ الخبز.
زوجين اثنين: أي من كل ذكر وأنثى من سائر أنواع المخلوقات اثنين.
وأهلك: أي زوجتك وأولادك.
مجريها ومرساها: أي اجراؤها وإرساؤها.
في موج كالجبال: الموج ارتفاع ماء البحر وكونه كالجبال أي في الارتفاع.
يعصمني من الماء: يمنعني من الماء أن يغرقني.
وغيض الماء: أي نقص بنضوبه في الأرض.
على الجودي: أي فوق جبل الجودي وهو جبل بالجزيرة غرب الموصل.
بعدا للقوم الظالمين: أي هلاكا لهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى { حتى إذا جآء أمرنا وفار التنور } أي واصل صنع السفينة حتى إذا جاء أمرنا أي بإهلاك المشركين، وفار التنور أي خرج الماء من داخل التنور وفار وتلك علامة بداية الطوفان فاحمل فيها أي في السفينة التي صنعت من كل زوجين اثنين أي من كل نوع من أنواع الحيوانات زوجين أي ذكرا وأنثى. وأهلك أي واحمل أهلك من زوجة وولد كسام وحام ويافث إلا من سبق عليه القول أي بالإهلاك كامرأته واعلة وولده كنعان. ومن آمن أي واحمل من آمن من سائر الناس، { ومن آمن ومآ آمن معه إلا قليل } أي نحو من ثمانين رجلا وامرأة هذا ما دلت عليه الآية الأولى [40] أما الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن نوحا قال لجماعة المؤمنين { اركبوا فيها } أي في السفينة { بسم الله مجريها ومرساها } أي باسم الله تجري وباسم الله ترسوا أي تقف { إن ربي لغفور رحيم } أي فهو لا يهلكنا بما قد يكون لنا من ذنب ويرحمنا فينجينا ويكرمنا. وقوله تعالى في الآية الثالثة [42] { وهي تجري بهم في موج كالجبال } وصف للسفينة وهي تغالب الماء وتمخر عبابه وأمواج الماء ترتفع حتى تكون كالجبال في ارتفاعها وقبلها نادى نوح ابنه كنعان، وهو في هذه الساعة في معزل أي من السفينة حيث رفض الركوب فيها لعقوقه وكفره فقال له { يبني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين } فتغرق كما يغرقون فأجاب الولد قائلا { سآوي إلى جبل يعصمني من المآء } أي يمنعني منه حتى لا إغرق، فأجابه نوح قائلا { لا عاصم اليوم من أمر الله } أي بعذاب الكافرين { إلا من رحم } أي الله فهو المعصوم. قال تعالى { وحال بينهما الموج } أي بين الولد العاق والوالد الرحيم { فكان } أي الولد { من المغرقين }. وقوله تعالى { وقيل يأرض ابلعي مآءك } أي اشربيه وابتلعيه، ويا سماء أقلعي أي من الصب والإمطار. والآمر للأرض والسماء هو الله تعالى. { وغيض المآء } أي نقص ونضب. { واستوت على الجودي } أي ورست السفينة بركابها على الجودي وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل { وقيل بعدا للقوم الظالمين } أي هلاكا لهم فلم يبق منهم أحدا إذ أخذهم الطوفان وهم ظالمون بدأ الطوفان أول يوم من رجب واستمر ستة أشهر حيث رست السفينة في أول محرم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الإيمان ينجي، والكفر يهلك ويردي.
2- مشرعية التسمية عند الركوب في سفينة أو غيرها.
3- عقوق الوالدين كثيرا ما يسبب الهلاك في الدنيا، أما عذاب الآخرة فهو لازم له.
4- مظهر من مظاهر رحمة الوالد بولده.
5- مظاهر عظمه الرب تعالى وإطاعة الخلق أمره حتى الأرض والسماء.
[11.45-49]
شرح الكلمات:
من أهلي: أي من جملة أهلي من أزواج وأولاد.
وإن وعدك الحق: أي الثابت الذي لا يخلف.
إنه عمل غير صالح: أي إن سؤالك هذا إياي عمل غير صالح.
أعظك: أي أنهاك وأخوفك من أن تكون من الجاهلين.
من الجاهلين: أي من الذين لا يعرفون جلالي وصدق وعدي ووفائي فتسألني ما ليس لك به علم.
سنمتعهم: أي بالأرزاق والمتع إلى نهاية آجالهم ثم يحل بهم عذابي وهم الكفرة.
للمتقين: أي الذين يتقون الله فيعبدونه ولا يشركون به شيئا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى: { ونادى نوح ربه } أي دعاه سائلا { رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } ، وهذا كان منه حال الإركاب في الفلك، وامتناع ولده كنعان من الركوب أي رب إن ولدي كنعان من زوجتي ومن جملة أولادي، وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ومن معي من المؤمنين، { وإن وعدك الحق } أي الذي لا خلف فيه أبدا، { وأنت أحكم الحاكمين } أعلمهم وأعدلهم، وهذا ابني قد استعصى عني ولم يركب معي وسيهلك مع الهالكين إن لم ترحمه يارب العالمين فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله الحق: { إنه ليس من أهلك } أي الذين وعدتك بإنجائهم لأنه على غير دينك وعلى خلاف منهجك، { إنه عمل غير صالح } أي إن سؤالك هذا إلي بإنجاء ولدك وهو كافر على غير ملتك، وقد أعلمتك إني مغرق الكافرين. سؤالك هذا عمل غير صالح يصدر عنك: { إني أعظك } أي أنهاك وأخوفك { أن تكون من الجاهلين } فتسألني ما ليس لك به علم. قال نوح { رب } أي يا رب إني أعوذ بك أي استجير وأتحصن بك أن أسألك بعد الآن ما ليس لي به علم. وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين أي الذين غبنوا أنفسهم حظوظها فهلكوا، فأجابه الرب تعالى { ينوح اهبط } من السفينة أنت ومن معك من المؤمنين بسلام منا أي بأمن منا وتحيات، وبركات عليك وعلى أمم ممن معك أي من ذرية من معك، فلا تخافوا جوعا ولا شقاء، وأمم من ذرية من معك سنمتعهم متاع الحياة الدنيا بالأرزاق ثم يمسهم منا عذاب أليم، يوم القيامة لأنهم ينحرفون عن الإسلام ويعيشون على الشرك والكفر. وهذا من علم الغيب الذي أخبر الله تعالى به فكان كما أخبر فقد نشأت أجيال وأجيال من ذرية نوح منهم الكافر ومنهم المؤمن وفي الجميع ينفذ حكم الله ويتم فيهم وعده ووعيده. وقوله تعالى في الآية [49] وهي الأخيرة في هذا السياق يقول تعالى { تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ } أي هذه القصة التي قصصناها عليك من أنباء الغيب الذي لا يعلم تفصيله إلا الله نوحيها إليك ضمن آيات القرآن ما كنت تعلمها أنت ولا قومك على وجه التفصيل من قبل هذا القرآن إذا فاصبر يا رسولنا على أذى قومك مبلغا دعوة ربك حتى يأتيك نصرنا فإن العاقبة الحسنى الحميدة دائما للمتقين ربهم بطاعته والصبر عليها حتى يلقوه مؤمنين صابرين محتسبين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- رابطة الإيمان والتقوى أعظم من رابطة النسب.
2- حرمة العمل بغير علم فلا يحل القدوم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه.
3- ذم الجهل وأهله.
4- شرف نوح عليه السلام وأنه أحد أولي العزم من الرسل.
5- بيان العبرة من القصص القرآني وهي تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
6- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإثباتها ببرهان عقلي وهو الإخبار بالغيب الذي لا يعلم إلا من طريق الوحي.
7- بيان فضل الصبر، وأن العاقبة الحميدة للمتقين وهم أهل التوحيد والعمل الصالح.
[11.50-52]
شرح الكلمات:
وإلى عاد أخاهم هودا: أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم في النسب لا في الدين أخاهم هودا. وهود من قبيلة عاد وعاد من ولد سام بن نوح عليه السلام.
اعبدوا الله: أي اعبدوه وحده ولا تعبدوا معه غيره.
ما لكم من إله غيره: أي ليس لكم معبود بحق يستحق عبادتكم غيره.
إن أنتم إلا مفترون: أي ما أنتم في تأليه غير الله من الأوثان إلا كاذبون.
لا أسألكم عليه أجرا: أي لا أطلب منك أجرا على إبلاغي دعوة التوحيد إليكم.
فطرني: أي خلقني.
مدرارا: أي كثيرة الدرور للمطر النازل منها.
ولا تتولوا مجرمين: أي ولا تعرضوا عن دعوة التوحيد مجرمين على أنفسكم بالشرك بالله.
معنى الآيات:
هنا شروع في قصة هود مع قومه عاد بعد قصة نوح عليه السلام ومغزى القصة تقرير توحيد الله ونبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى { وإلى عاد أخاهم هودا } أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا وهو أخوهم في النسب وأول من تكلم بالعربية فهو أحد أربعة أنبياء من العرب وهم هود، وصالح، وشعيب، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقوله { قال يقوم اعبدوا الله } أي قال هود لقومه بعد أن أرسله الله إليهم يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في عبادته فلا تعبدوا معه غيره فإنه ما لكم من إله غير الله سبحانه وتعالى. وقوله { إن أنتم إلا مفترون } أي ما أنتم في عبادة غير الله من الأصنام والأوثان إلا كاذبون، إذ لم يأمركم الله تعالى ربكم بعبادتها، وإنما كذبتم عليه في ذلك. وقوله { يقوم لا أسألكم عليه أجرا } يريد لا أسألكم على دعوتي إياكم إلى توحيد ربكم لتكملوا بعبادته وتسعدوا أجرا أي مالا { إن أجري إلا على الذي فطرني } أي ما أجري إلا على الله الذي خلقني. وقوله { أفلا تعقلون } أي أفلا تعقلون أني لو كنت أبغي بدعوتي إلى التوحيد أجرا لطلبت ذلك منكم، غير أني لم أطلب من غير ربي أجرا فبان بذلك صدقي في دعوتكم ونصحي لكم.
وقوله تعالى عن قيل هود { ويقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } يخبر تعالى أن هودا نادى قومه فقال يا قوم استغفروا ربكم أي آمنوا به واطلبوا منه المغفرة لذنوبكم، ثم توبوا إليه أي ارجعوا إلى عبادته وحده بما شرع لكم على لسان نبيكم، واتركوا عبادة غيره يكافئكم بأن يرسل السماء عليكم مدرارا أي بالأمطار المتتالية بعد الذي أصابكم من الجفاف والقحط والجدب، ويزدكم قوة روحية إلى قوتكم المادية، وقوله { ولا تتولوا مجرمين } ينهاهم ناصحا لهم أن يرفضوا نصيحته ويرجعوا إلى عبادة الأوثان فيجرموا على أنفسهم بإفسادها بأوضار الشرك والعصيان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دعوة الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم واحدة هي: أن يعبد الله وحده.
2- تقرير مبدأ لا إله إلا الله.
3- المشركون والمبتدعون الكل مفترون على الله كاذبون حيث عبدوه بما لم يشرع لهم.
4- وجوب الإخلاص في الدعوة.
5- فضل الاستغفار ووجوب التوبة.
6- تقديم الاستغفار على التوبة مشعر بأن العبد إذا لم يعترف أولا بذنبه لا يمكنه أن يتوب منه.
[11.53-57]
شرح الكلمات:
بينة: أي بحجة وبرهان على صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده.
وما نحن بتاركي آلهتنا: أي عبادة آلهتنا لأجل قولك إنها لا تستحق أن تعبد.
إلا اعتراك: أي أصابك.
بسوء: أي بخبل فأنت تهذي وتقول ما لا يقبل ولا يعقل.
ثم لا تنظرون: أي لا تمهلون.
آخذ بناصيتها: أي مالكها وقاهرها ومتصرف فيها. فلا تملك نفعا ولا ضرا إلا بإذنه.
إن ربي على صراط مستقيم: أي على طريق الحق والعدل.
فإن تولوا: أصلها تتولوا فعل مضارع حذفت منه إحدى التائين ومعناه تدبروا.
على كل شيء حفيظ: أي رقيب ولا بد انه يجزي كل نفس بما كسبت.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة هود مع قومه إذ أخبر تعالى عن قيل قوم هود إلى هود فقال { قالوا يهود ما جئتنا ببينة } أي بحجة أو برهان على صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وترك عبادة آلهتنا والاعتراف بنبوتك { وما نحن بتاركي آلهتنا } أي عبادتها { عن قولك } أي من أجل قولك أنها لا تستحق أن تعبد لكونها لا تنفع ولا تضر، { وما نحن لك بمؤمنين } أي بمتابعين لك على دينك ولا مصدقين لك فيما تقول { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } أي ما نجد ما نقول فيك إلا أن بعض آلهتنا التي تسبها وتشتمها قد أصابتك بسوء بخبل وجنون فأنت تهذر وتهذي ولا تدري ما تقول. فأجابهم قائلا { إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون } فأعلن براءته في وضوح من آلهتهم وأنه لا يخافها إبطالا لدعواهم أنها أصابته بسوء، وأعلمهم أنه يشهد الله على ذلك، ثم أمرهم أن يشهدوا هم كذلك. وقوله { من دونه } أي من دون الله من سائر الآلهة والشركاء ثم تحداهم مستخفا بهم بآلهتهم، فقال { فكيدوني جميعا } أي احتالوا على ضري ثم لا تنظرون أي لا تؤخرون ولا تمهلون، ثم كشف لهم عن مصدر قوته وهو توكله على ربه فقال { إني توكلت على الله ربي وربكم } أي فوضت أمري إليه وجعلت كل ثقتي فيه فهو لا يسلمني إليكم ولا يخذلني بينكم. ثم أعلمهم بإحاطة قدرة الله بهم وقهره لهم فقال { ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتهآ } أي قاهر لها متحكم فيها يقودها حيث شاء وينزل بها من العذاب ما يشاء، ثم أعلمهم أن ربه تعالى على طريق العدل والحق فلا يسلط أعداءه على أوليائه، فقال { إن ربي على صراط مستقيم } فلذا أنا لست بخائف ولا وجل ثم قال لهم { فإن تولوا } أي فإن تدبروا عن الحق وتعرضوا عنه فغير ضائري ذلك إذ أبلغتكم ما أرسلني به ربي إليكم وسيهلككم ويستخلف قوما غيركم، ولا تضروه شيئا من الضرر لا قليلا ولا كثيرا { إن ربي على كل شيء حفيظ } أي رقيب، وسيجزي كلا بما كسب بعدله ورحمته.
وله الحمد والمنة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مدى مجاحدة ومكابرة المشركين في كل زمان ومكان.
2- تشابه الفكر الشركي وأحوال المشركين إذ قول قوم هود { إن نقول إلا اعتراك }.. الخ. يردده جهلة السلمين وهو فلان ضربه الولي الفلاني.
3- مواقف أهل الإيمان واحدة فما قال نوح لقومه متحديا لهم قاله هود لقومه.
4- تقرير مبدأ أن كل شيء في الكون خاضع لتدبير الله لا يخرج عما أراده له أو به.
[11.58-60]
شرح الكلمات:
ولما جاء أمرنا: أي بعذابهم وهي الريح الصرر.
برحمة منا: أي بفضل منا ونعمة.
جبار عنيد: أي مستكبر عن الحق لا يذعن له ولا يقبله.
ويوم القيامة: أي ولعنة في يوم القيامة.
ألا بعدا لعاد: أي هلاكا لعاد وإبعادا لهم من كل رحمة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في هود وقومه قال تعالى { ولما جآء أمرنا } أي عذابنا { نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا } أي بلطف وفضل ونعمة { ونجيناهم من عذاب غليظ } هو عذاب يوم القيامة فهما نجاتان نجاة في الدنيا من عذاب الريح العقيم الصرر التي دمرت كل شيء بأمر ربها ونجاة من عذاب النار يوم القيامة وهي أعظم. وقوله تعالى { وتلك عاد } أي هذه عاد قوم هود جحدوا بآيات ربهم فلم يؤمنوا وعصوا رسله أي هودا وجمع لأن من كذب برسول كأنما كذب بكل الرسل { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } أي اتبعوا أمر دعاة الضلالة من أهل الكبر والعناد للحق فقادوهم إلى سخط الله وأليم عقابه وقوله { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } أي اتبعهم الله غضبه وسخطه وهلاكه، ويوم القيامة كذلك وأشد. ويختم الحديث عن هذه القصة بقول الله تعالى { ألا إن عادا كفروا ربهم } أي جحدوه فلم يعترفوا بألوهيته وعبادته { ألا بعدا } أي هلاكا لعاد قوم هود. فهل يعتبر مشركو قريش بهذه القصة فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا ويفلحوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد إذ القصة كلها مسوقة لذلك.
2- بيان سنة الله في الأولين وهي أنه يبعث الرسل مبشرين ومنذرين فإن استجاب المرسل إليهم سعدوا، وإن لم يستجيبوا يمهلهم حتى تقوم الحجة عليهم ثم يهلكهم، وينجي المؤمنين.
3- التنديد بالكبر والعناد إذ هما من شر الصفات الخلقية في الإنسان.
4- اتباع الطغاة والظلم والكفر والفساد لا تقود إلا إلى الدمار والخسار.
[11.61-63]
شرح الكلمات:
وإلى ثمود: أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود.
أخاهم صالحا: أي في النسب لأنه من قبيلة ثمود، بينه وبين ثمود أبي القبيلة خمسة أجداد.
واستعمركم: أي جعلكم عمارا فيها تعمرونها بالسكن والإقامة فيها.
قريب مجيب: أي من خلقه، إذ العوالم كلها بين يديه ومجيب أي لمن سأله.
مرجوا قبل هذا: أي قبل أن تقول ما قلت كنا نرجو أن تكون سيدا فينا.
أرأيتم: أي أخبروني.
على بينة من ربي: أي على علم بربي علمنيه سبحانه وتعالى فهل يليق بي أن أعبد غيره.
غير تخسير: أي خسار وهلاك.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة صالح مع قومه إذ قال تعالى مخبرا عن إرساله إلى قومه { وإلى ثمود أخاهم صالحا } أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود بالحجر بين الحجاز والشام أخاهم في القبيلة لا في الدين صالحا. فقال { يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } فناداهم بعنوان القومية جمعا لقلوبهم على ما يقول لهم فقال { يقوم اعبدوا الله } أي آمنوا به ووحدوه في عبادته فلا تعبدوا معه أحدا. إذ ليس لكم من إله غيره. إذ هو ربكم أي خالقكم ورازقكم ومدير أمركم. { أنشأكم من الأرض } أي ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم منها { واستعمركم فيها } أي جعلكم تعمرونها بالسكن فيها والعيش عليها. إذا فاستغفروه بالاعتراف بألوهيته ثم توبوا إليه فاعبدوه وحده ولا تشركوا في عبادته أحدا. وقوله { إن ربي قريب مجيب } أخبرهم بقرب الرب تعالى من عباده وإجابته لسائليه ترغيبا لهم في الإيمان والطاعة، وترك الشرك والمعاصي. هذا ما تضمنته الآية الأولى [61] أما الآية الثانية فقد تضمنت رد القوم عليه عليه السلام إذ قالوا بما أخبر تعالى عنهم { يصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا } أي كنا نأمل فيك الخير ونرجوا أن تكون سيدا فينا حتى فاجأتنا بما تدعونا إليه من ترك آلهتنا لإلهك ثم أنكروا عليه دعوته فقالوا { أتنهانآ أن نعبد ما يعبد آباؤنا } وأخبروه أنهم غير مطمئنين إلى صحة ما يدعوهم إليه من توحيد الله تعالى فقالوا { وإننا لفي شك مما تدعونآ إليه مريب } أي موقع في الريب وهو اضطراب النفس وعدم سكونها إلى ما قيل لها أو أخبرت به هذا ما تضمنه الآية الثانية [62] أما الآية الثالثة [63] فقد تضمنت دعوة صالح لقومه بأسلوب رفيع رغبة منه في أقامة الحجة عليهم لعلهم يؤمنون ويوحدون إذ قال بما أخبر الله تعالى في قوله: { قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } أي على علم يقيني بالإيمان بربي ووجوب عبادته وتوحيده وآتاني منه رحمة وهي النبوة والرسالة، فمن ينصرني من الله إن عصيته اللهم إنه لا أحد أبدا إذا فإنكم ما تزيدونني إن أنا أطعتكم في ترك عبادة ربي والرضا بعباة آلهتكم إلا خسارا وضلالا في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وحدة الوسيلة والغاية عند كافة الرسل فالوسيلة عباة الله وحده، والغاية رضا الله والجنة.
2- تقديم الاستغفار على التوبة في الآية سره إن المرء لا يقلع عن ذنبه حتى يعترف به.
3- بيان سنة في الناس وهي أن المرء الصالح يرجى في أهله حتى إذا دعاهم إلى الحق وإلى ترك الباطل كرهوه وقد يصارحونه بما صارح به قوم صالح نبيهم إذ قالوا { قد كنت فينا مرجوا قبل هذا }.
4- حرمة الاستجابة لأهل الباطل بأي نوع من الاستجابة، إذ الاستجابة لا تزيد العبد إلا خسارا.
[11.64-68]
شرح الكلمات:
آية: أي علامة على صدقي فيما جئتكم به من أنه لا إله إلا الله.
فذروها تأكل في أرض الله: أي اتركوها ترعى في المراعي غير المحمية لآحد.
بسوء: أي كضربها أو قتلها، أو منعها من الماء الذي تشرب منه.
فعقروها: أي قتلوها بالعقر الذي هو قطع قوائمها بالسيف.
تمتعوا في دياركم: أي ابقوا في دياركم تأكلون وتشربون وتتمتعون في الحياة ثلاثة أيام.
وعد غير مكذوب: أي صادق لم أكذبكم فيه ولم يكذبني ربي الذي وعدكم به.
في ديارهم جاثمين: أي ساقطين على ركبهم ووجوههم.
كأن لم يغنوا فيها: أي كأن لم يكونوا بها أمس ولم تعمر بهم يوما.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن صالح وقومه. إنه لما دعاهم صالح إلى توحيد الله تعالى كذبوه وطالبوه بما يدل على صدق ما دعا إليه فأجابهم صالح بما أخبر تعالى به في هذه الآية { ويقوم هذه ناقة الله لكم آية } وذلك أنهم سألوا أن يخرج لهم ناقة من جبل أشاروا إليه فدعا صالح ربه فاستجاب الله تعالى له وتمخض الجبل عن ناقة عشراء هي عجب في خلقتها وكمالها فقال عندئذ { هذه ناقة الله } أضافها إلى الهل لأنها كانت بقدرته ومشيئته { لكم آية } أي علامة لكم على صدق ما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان، فذروها تأكل في أرض الله أي خلوها تأكل من نبات الأرض من المراعي العامة التي ليست لأحد، ولا تمسوها بسوء كعقرها أو ذبحها وقتلها فيأخذكم عذاب قريب قد لا يتأخر أكثر من ثلاثة أيام، فكذبوه فعقروها فلما رأى ذلك قال لهم بأمر الله { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } أي عيشوا فيها. { ذلك وعد غير مكذوب } أي ذلك الوعد وعد صادق غير مكذوب فيه. هذا ما دلت عليه الآيتان [64 - 65] وقال تعالى: { فلما جآء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا } أي لما اكتملت المدة التي حددت لهم وجاء أمر الله بعذابهم نجى الله تعالى رسوله صالحا والمؤمنين برحمة منه أي بلطف ونعمة منه عز وجل وقوله { ومن خزي يومئذ } أي ونجاهم من ذل ذلك اليوم وعذابه، وقوله { إن ربك هو القوي العزيز } أي إن ربك يا محمد صلى الله عليه وسلم قوي إذا بطش عزيز غالب لا يغلب على أمر يريده. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة [66] وأما الآيتان بعد فقد أخبر تعالى فيهما عن هلاك ثمود بقوله { وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين } أي إن الذين أشركوا بربهم وكذبوا بآياته أخذتهم الصيحة فانخلعت لها قلوبهم فهلكوا وأصبحوا في ديارهم جاثمين على ركبهم كأن لم يغنوا بديارهم ولم يعمروها قال تعالى { ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود } أي هلاكا لثمود، وبهذا التنديد والوعيد بعد الهلاك والعذاب المخزي انتهت قصة صالح مع قومه ثمود الذين آثروا الكفر على الإيمان والشرك على التوحيد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إعطاء الله تعالى الآيات للمطالبين بها لا يستلزم الإيمان بها.
2- آية صالح عليه السلام من أعظم الآيات ولم يؤمن عليها قومه.
3- إقامة ثلاثة أيام لا يعد صاحبها مقيما وعليه أن يقصر الصلاة.
4- شؤم الظلم وسوء عاقبة أهله.
[11.69-73]
شرح الكلمات:
بالبشرى: أي بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.
فما لبث: أي ما أبطأ.
بعجل حنيذ: أي مشوي على الحجارة .
لا تصل إليه: أي لم يتناولوه فيأكلوا منه.
نكرهم: أي لم يعرفهم.
وأوجس: أي أحس بالخوف وشعر به.
لوط: هو ابن هاران أخي إبراهيم عليه السلام.
يا ويلتا: أي يا ويلتي أحضري هذا أوان حضورك.
وهذا بعلي شيخا: إشارة إلى إبراهيم إذ هو بعلها أي زوجها.
إن هذا لشيء عجيب: أي أمر يتعجب منه استبعادا له واستغرابا.
معنى الآيات:
هذه بشارة إبراهيم عليه السلام التي بشره الله تعالى بها إذ قال تعالى { ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى } والمراد بالرسل جبريل وميكائيل وإسرافيل، إذ دخلوا عليه داره فسلموا عليه فرد عليهم السلام وهو معنى قوله تعالى { قالوا سلاما قال سلام } وقوله تعالى { فما لبث أن جآء بعجل حنيذ } أي لم يبطأ حتى جاء بعجل مشوي فحنيذ بمعنى محنوذ وهو المشوي على الحجارة. فقربه إليهم وعرض عليهم الأكل بقوله
ألا تأكلون
[الصافات:91، الذاريات: 27] فلما رأى أيديهم لا تصل إليه أي لم يتناولوه نكرهم بمعنى أنكرهم وأوجس منهم خيفة لأن العادة أن الضيف إذا نزل على أحد فقدم إليه طعاما فلم يأكل عرف أنه ينوي شرا ولما رأت الملائكة ذلك منه قالوا له لا تخف وبينوا له سبب مجيئهم فقالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط أي لإهلاكهم وتدميرهم بسبب إجرامهم. وكانت امرأته قائمة وراء الستار تخدمهم مع إبراهيم. فلما سمعت بنبأ هلاك قوم لوط ضحكت فرحا بهلاك أهل الخبث فعندئذ بشرها الله تعالى على لسان الملائكة بإسحاق ومن بعده يعقوب أي بولد وولد ولد، فلما سمعت البشرى صكت وجهها تعجبا على عادة النساء وقالت { يويلتى ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي } تشير إلى زوجها إبراهيم { شيخا } أي كبير السن إذ كانت سنه يومئذ مائة سنة وسنها فوق التسعين. { إن هذا لشيء عجيب } أي ولادتي في هذه السن أمر يتعجب منه. { قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت } أي بيت إبراهيم، { إنه حميد مجيد } أي محمود بإفضاله وإنعامه عليكم { مجيد } أي ذو مجد وثناء وكرم. وامرأة إبراهيم المبشرة هي سارة بنت عم إبراهيم عليه السلام، والبشارة هنا لإبراهيم وزوجه سارة معا وهي مزدوجة إذ هي بهلاك الظالمين، وبإسحاق ويعقوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحباب تبشير المؤمن بما هو خير له ولو بالرؤيا الصالحة.
2- مشروعية السلام لمن دخل على غيره أو وقف عليه أو مر به ووجوب رد السلام.
3- مشروعية خدمة أهل البيت لضيوفهم ووجوب إكرام الضيف وفي الحديث الصحيح
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ".
4- شرف أهل بيت إبراهيم عليه السلام.
[11.74-76]
شرح الكلمات:
الروع: الفزع والخوف.
البشرى: أي الخبر السار المفرح للقلب.
يجادلنا: أي يخاصمنا.
في قوم لوط: أي في شأن هلاك قوم لوط، ولوط هو رسول الله لوط بن هاران بن عم إبراهيم.
حليم أواه: الحليم الذي لا يعامل بالعقوبة والأواه كثير التأوه مما يسيء ويحزن.
أعرض عن هذا: أي اترك الجدال في قوم لوط.
غير مردود: أي لا يستطيع أحد رده لأن الله تعالى قد قضى به فهو واقع لا محالة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن بشارة إبراهيم قال تعالى فلما ذهب عن إبراهيم الروع أي الفزع والخوف من الملائكة قبل أن يعرفهم وجاءته البشرى بالولد وبهلاك قوم لوط أخذ يجادل الملائكة في شأن هلاك قوم لوط لأجل ما بينهم من المؤمنين فقال إن فيها لوطا فأجابوه بقولهم الذي ذكر تعالى في سورة العنكبوت
نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين
[الآية: 32] وقوله تعالى { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } تعليل لمجادلة إبراهيم الملائكة في قوم لوط، وذلك أن إبراهيم رقيق القلب حليم لا يعامل بالعقوبة فأراد تأخير العذاب عنهم لعلهم يتوبون. وكان أواها ضارعا قانتا يكثر من قول آه إذا رأى أو سمع ما يسوء ومنيبا أي توابا رجاعا إلى ربه في كل وقت. ولما الح إبراهيم في مراجعة الملائكة قالوا له يا إبراهيم أعرض عن هذا الجدال، إنه قد جاء أمر ربك أي بهلاك القوم. { وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } أي غير مدفوع من أحد وهو ما سيذكر في السياق بعد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الجدال عمن يرجى له الخير من الناس، وذلك في غير الحدود الشرعية إذا رفعت إلى الحاكم.
2- فضيلة خلق الحلم.
3- فضل الإنابة إلى الله تعالى.
4- قضاء الله لا يرد أي ما حكم الله به لابد واقع.
[11.77-80]
شرح الكلمات:
سيء بهم: أي حصل له غم وهم بمجيئهم إليه.
وضاق بهم ذرعا: أي عجزت طاقته عن تحمل الأمر.
يوم عصيب: أي شديد لا يحتمل.
يهرعون إليه: أي مدفوعين بدافع الشهوة يمشون مسرعين في غير اتزان.
السيئات: أي كبائر الذنوب بإتيان الذكور.
ولا تخزون في ضيفي: أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض لضيفي.
رجل رشيد: أي ذو رشد وعقل ومعرفة بالأمور وعواقبها.
أو آوي إلى ركن شديد: أي إلى عشيرة قوية تمنعني منكم. ولم تكن له عشيرة لأنه من غير ديارهم.
معنى الآيات:
هذه فاتحة حديث لوط عليه السلام مع الملائكة ثم مع قومه قال تعالى { ولما جآءت رسلنا } وهم ضيف إبراهيم عليه السلام { لوطا سيء بهم } أي تضايق وحصل له هم وغم خوفا عليهم من مجرمي قومه. وقال هذا يوم عصيب أي شديد لما قد يحدث فيه من تعرض ضيفه للمذلة والمهانة وهو بينهم هذا ما دلت عليه الآية الأولى [77] أما الثانية [78] فقد أخبر تعالى عن مجيء قوم لوط إليه وهو في ذلك اليوم الصعب والساعة الحرجة فقال عز وجل { وجآءه قومه يهرعون إليه } أي مدفوعين بدافع الشهوة البهيمية مسرعين ومن قبل كانوا يعملون السيئات أي من قبل مجيئهم كانوا يأتون الرجال في أدبارهم فأراد أن يصرفهم عن الضيف فقال { يقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } أي هؤلاء نساء الأمة هن أطهر لكم فتزوجوهن. واتقوا الله أي خافوا نقمته ولا تخزوني في ضيفي أي لا تهينوني ولا تذلوني فيهم. أليس منك رجل رشيد؟ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ فأجابوه لعنهم الله قائلين: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق أي من رغبة وحاجة، وإنك لتعلم ما نريد أي من إتيان الفاحشة في الرجال. وهنا قال لوط عليه السلام: { لو أن لي بكم قوة } أي أنصارا ينصرونني وأعوانا يعينوني لحلت بينكم وبين ما تشتهون، أو آوي إلى ركن شديد يريد عشيرة قوية يحتمي بها فتحميه وضيفه من قومه المجرمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة إكرام الضيف وحمايته من كل ما يسوءه.
2- فظاعة العادات السيئة وما تحدثه من تغير في الإنسان.
3- بذل ما يمكن لدفع الشر لوقاية لوط ضيفه ببناته.
4- أسوأ الحياة أن لا يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
5- إظهار الرغبة في القوة لدفع الشر وإبعاد المكروه ممدوح.
[11.81-83]
شرح الكلمات:
فأسر بأهلك: أي اخرج بهم من البلد ليلا.
بقطع من الليل: أي بجزء وطائفة من الليل.
الصبح: هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
جعلنا عاليها: أي عالى القرية سافلها.
من سجيل: أي من طين متحجر.
منضود: أي منظم واحدة فوق أخرى بانتظام.
مسومة: أي معلمة بعلامة خاصة.
عند ربك: أي معلمة من عند الله تعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن ضيف لوط مع قومه إنه بعد أن اشتد بلوط الخوف وتأسف من عدم القدرة على حماية الضيف الكريم وقال متمنيا لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد. هنا قالت له الملائكة { يلوط إنا رسل ربك } إليك لننجينك ونهلك قومك لن يصلوا إليك أي بأي سوء أو بأدنى أذى فأسر بأهلك أي فاخرج بهم بقطع من الليل أي بطائفة وجزء من الليل ولا يلتف منكم أحد كراهة أن يرى ما ينزل بالقوم من العذاب فيصيبه كرب من ذلك إلا امرأتك وهي عجوز السوء فخلفها في القرية وإن خرجت دعها تلتفت فإنها مصيبها ما أصابهم. وسأل لوط عن موعد نزول العذاب بالقوم فقالوا إن موعدهم الصبح، وكان لوط قد استبطأ الوقت فقالوا له: أليس الصبح بقريب؟ وقوله تعالى: { فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها } أي فلما جاء أمر الله بعذاب القوم أمر جبريل عليه السلام فقلبها على أهلها فجعل عالي القرية سافلها، وسافلها عاليها وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل فمن كان خارج القرية أصابه حجر فأهلكه وقوله تعالى { منضود مسومة } أي مركب بعضها فوق بعض معلمة كل حجر عليها اسم من يرمى به، وقوله { عند ربك } أي معلمة من عند ربك يا رسول الله، وما هي من الظالمين ببعيد أي وما تلك القرية الهالكة من الظالمين وهم مشركو العرب ببعيد، أو وما تلك الحجارة التي أهلك بها قوم لوط ببعيد نزولها بالظالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحباب السير في الليل لما فيه من البركة بقطع المسافات البعيدة بدون تعب.
2- كراهة التأسف لهلاك الظالمين.
3- مظاهر قدرة الله تعالى في قلب أربع مدن في ساعة فكان الأعلى أسفل والأسفل أعلى.
4- وعيد الظالمين في كل زمان ومكان بأشد العقوبات وأفظعها.
[11.84-86]
شرح الكلمات:
وإلى مدين: أي أرسلنا إلى مدين إلى أهل مدين.
المكيال والميزان: أي إذا بعتم لأحد فلا تنقصوا المكيال والميزان.
عذاب يوم محيط: أي يحيط بكم من جميع جهاتكم فلا ينجو منه أحد منكم.
بالقسط: أي بالعدل أي بالمساواة والتساوي في البيع والشراء على حد سواء.
ولا تبخسوا: أي لا تنقصوهم حقوقهم التي هي لهم عليكم في الكيل والوزن وفي غير ذلك.
ولا تعثوا في الأرض: أي ولا تعثوا في الأرض بالفساد.
بقية الله خير لكم: أي ما يبقى لكم بعد توفية المكيال والميزان خير لكم من الحرام الذي حرم الله عليكم.
وما أنا عليكم بحفيظ: أي رقيب أراقب وزنكم وكيلكم وإنما أنا واعظ لكم وناصح لا غير.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين قال تعالى { وإلى مدين أخاهم شعيبا } أي وأرسلنا إلى قبيلة مدين أخاهم في النسب شعيبا. { قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } أي وحدوا الله تعالى ليس لكم إله تعبدونه بحق إلا هو إذ هو ربكم الذي خلقكم ورزقكم ويدبر أمركم. وقوله { ولا تنقصوا المكيال والميزان } أي لا تنقصوا المكيال إذا كلتم لغيركم، والميزان إذا وزنتم لغيركم. وقوله { إني أراكم بخير } أي في رخاء وسعة من الرزق، { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } إن أصررتم على الشرك والنقص والبخس وهو عذاب يحيط بكم فلا يفلت منكم أحد. وقوله { ويقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط } أمر بتوفية المكيال والميزان بالعدل بعد أن نهاهم عن النقص تأكيدا لما نهاهم عنه وليعطف عليه نهيا آخر وهو النهي عن بخس الناس أشياءهم إذ قال { ولا تبخسوا الناس أشيآءهم } أي تنقصوهم حقوقهم وما هو لهم بحق من سائر الحقوق. ونهاهم عما هو أعم من ذلك فقال { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي ولا تسعوا في الأرض بالفساد وهو شامل لكل المعاصي والمحرمات. وقوله { بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين } أي وما يبقى لكم بعد توفية الناس حقوقهم خير لكم مما تأخذونه بالنقص والبخس لما في الأول من البركة ولما في الثاني من المحق إن كنتم مؤمنين بشرع الله ووعده ووعيده وقوله { ومآ أنا عليكم بحفيظ } أي بمراقب لكم حين تبيعون وتشترون، ولا بحاسب محصر عليكم ظلمكم فأجازيكم به، وإنما أنا واعظ لكم ناصح ليس غير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وحدة دعوة الرسل وهي البداية بتوحيد الله تعالى أولا ثم الأمر والنهي لإكمال الإنسان وإسعاده بعد نجاته من الخسران.
2- حرمة نقص الكيل والوزن أشد حرمة.
3- وجوب الرضا بالحلال وإن قل، وسخط الحرام وإن كثر.
4- حرمة بخس الناس حقوقهم كأجور العمال، وأسعار البضائع ونحو ذلك.
5- حرمة السعي بالفساد في الأرض بأي نوع من الفساد وأعظمه تعطيل شرائع الله تعالى.
[11.87-90]
شرح الكلمات:
أصلاتك: أي كثرة الصلاة التي تصليها هي التي أثرت على عقلك فأصبحت تأمرنا بما لا ينبغي من ترك عبادة آلهتنا والتصرف في أموالنا.
الحليم الرشيد: أي ذو الحلم والرشد، والحلم ضد الطيش والرشد ضد السفه ولم يكن قولهم هذا مدحا له وإنما هو استهزاء به.
أن أخالفكم: أي لا أريد أن أنهاكم عن الشيء لتتركوه ثم أفعله بعدكم.
أن أريد إلا الإصلاح: أي ما أريد الإ الإصلاح لكم.
وما توفيقي إلا بالله: أي وما توفيقي للعمل الإصلاحي والقيامة به إلا بفضل الله علي.
وإليه أنيب: أي ارجع في أمري كله.
لا يجرمنكم شقاقي: أي لا تكسبنكم مخالفتي أن يحل بكم من العذاب ما حل بقوم نوح والأقوام من بعدهم.
وما قوم لوط منكم ببعيد: أي في الزمن والمكان إذ بحيرة لوط قريبة من بلاد مدين التي هي بين معان والأردن.
رحيم ودود: أي رحيم بالمؤمنين ودود محب للمتقين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين إنه لما أمرهم بعبادة الله تعالى وحده ونهاهم نقص الكيل والوزن وبخس الناس أشياءهم والسعي في الأرض بالفساد، إذ كانوا يكسرون الدراهم وينشرونها ويقطعون الطريق. فردوا عليه قوله بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: { قالوا يشعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء }؟ إنهم بهذا الخطاب ينكرون عليه نهيه لهم عن عبادة الأوثان والأصنام التي كان يعبدها آباؤهم من قبلهم كما ينكرون عليه نهيه لهم عن نقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وأمره إياهم بالتزام الحق والعدل في ذلك، ينكرون عليه نهيه لهم وأمره إياهم وينسبون ذلك إلى كثرة صلاته فهي التي في نظرهم قد أصابته بضعف العقل وقلة الادراك، وقولهم له { إنك لأنت الحليم الرشيد } إنما هو تهكم واستهزاء منهم لا إنهم يعتقدون حلم شعيب ورشده وإن كان في الواقع هو كما قالو حليم رشيد إذ الحليم هو الذي لا يحمله الغضب أن يفعل ما لا يفعله في حال الرضا والرشيد خلاف السفيه الذي لا يحسن التصرف في المال وغيره هذا ما تضمنته الآية الأولى [87] وأما الآيات الثلاث بعدها فقد تضمنت رد شعيب عليه السلام على مقالتهم السابقة إذ قال { يقوم أرأيتم } أي أخبروني { إن كنت على بينة من ربي } أي على برهان وعلم يقيني بألوهيته ومحابه ومساخطه ووعده لأوليائه ووعيده لأعدائه، ورزقي منه رزقا حسنا أي حلالا طيبا أخبروني فهل يليق بي أن أتنكر لهذا الحق والخير وأجاريكم على باطلكم. اللهم لا، وشيء آخر وهو أني ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه فإني لا آمركم بتوفية الكيل والوزن وأنقصها ولا بترك عبادة الأوثان وأعبدها، ولا أنهاكم عن كسر الدراهم وأكسرها فأكون كمن يأمر بالشيء ولا يفعله، وينهى عن الشيء ويفعله فيستحق اللوم والعتاب ونزع الثقة منه، وعدم اعتباره فلا يؤخذ بقوله ولا يعمل برأيه.
وأمر آخر هو أني ما أريد بما أمرتكم به ولا بما نهيتكم عنه إلا الإصلاح لكم ما استطعت ذلك وقدرت عليه. وما توفيقي في ذلك إلا بالله ربي وربكم عليه توكلت في أمري كله وإليه وحده أنيب أي أقبل بالطاعة وأرجع بالتوبة. ثم ناداهم محذرا إياهم من اللجاج والعناد فقال: ويا قوم لا يجرمنكم أي لا يحملنكم شقاقي أي خلافي على الاستمرار في الكفر والعصيان فيصيبكم عذاب مثل عذاب قوم نوح وهو الغرق أو قوم هود وهو الريح المدمرة أو قوم صالح وهو الصيحة المرجفة { وما قوم لوط منكم ببعيد } في الزمن والمكان وقد علمتم ما حل بهم من دمار وخراب. أي لا يحملنكم شقاقي وعداوتي على أن ينزل بكم العذاب، واستغفروا ربكم مما أنتم عليه من الشرك والمعاصي، ثم توبوا إليه بالطاعة، { إن ربي رحيم } لا يعذب من تاب إليه ودود يحب من أناب إليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التعريض القريب يعطي حكم القذف الصريح.
2- كراهية إتيان الشيء بعد النهي عنه، وترك الشيء بعد الأمر به والحث عليه.
3- كراهية اللجاج والعناد لما يمنع من الاعتراف بالحق والالتزام به.
4- وجوب الاستغفار والتوبة من الذنوب.
5- وصف الرب تعالى بالرحمة والمودة.
[11.91-95]
شرح الكلمات:
ما نفقه: أي ما نفهم بدقة كثيرا من كلامك.
ولولا رهطك: أي أفراد عشيرتك.
وما أنت علينا بعزيز: أي بقوي ممتنع.
ظهريا: أي لم تأبهوا به ولم تلتفتوا إليه كالشيء الملقى وراء الظهر.
على مكانتكم: أي على ما أنتم عليه من حال التمكن والقدرة.
الصيحة: أي صيحة العذاب التي أخذتهم.
جاثمين: أي على ركبهم.
كأن لم يغنوا فيها: أي كأن لم يقيموا بها يوما.
ألا بعدا لمدين: أي هلاكا لمدين قوم شعيب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن شعيب وقومه إنه بعد الحوار الذي دار بين شعيب وقومه يقول ويقولون وكان عليه السلام فصيحا مؤيدا من الله تعالى فيما يقول فأفحمهم وقطع الحجة عليهم لجأوا إلى أسلوب القوة والتهديد بل والشتم والإهانة وكان هذا منهم إيذانا بقرب ساعة هلاكهم فقالوا فيما قص تعالى عنهم في هذه الآيات { قالوا يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول } فقد نادوه ليسمع منهم ثم أعلموه أنهم لا يفقهون كثيرا من كلامه مع أنه يخاطبهم بلغتهم، ولكنه الصلف والكبرياء فإن صاحبها لا يفهم ما يقوله الضعفاء. وقالوا له: وإنا لنراك فينا ضعيفا وهو احتقار منهم له، وقالوا: ولولا رهطك لرجمناك أي ولولا وجود جماعة من عشيرتك نحترمهم لرجمناك أي لقتلناك رميا بالحجارة، وأخيرا وما أنت علينا بعزيز أي بممتنع لو أردناك. وهنا رد شعيب عليه السلام عليهم بقوله فقال ما أخبر تعالى به عنه { قال يقوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه ورآءكم ظهريا } أي غير مبالين بأمره ولا نهيه كما جعلتموه وراء ظهوركم لا تلتفون إليه ولا تسمعون منه ولا تطيعونه، يا ويلكم { إن ربي بما تعملون محيط } أي علمه فأعمالكم معلومة له لا يخفى منها عليه شيء ولسوف يجزيكم بها عاجلا أو آجلا وقابل تهديدهم له بمثله فقال لهم { ويقوم اعملوا على مكانتكم } أي على تمكنكم من عملكم { إني عمل } أي على تمكني من العمل الذي أعمله { سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } يذله ويهينه ومن هو كاذب منا فيعذب ويخزى ويذل ويهان أيضا وعليه فارتقبوا يومذاك { وارتقبوا إني معكم رقيب } منتظر قال تعالى { ولما جآء أمرنا } أي بالعذاب { نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا } أي بفضل منا ونعمة من عندنا، { وأخذت الذين ظلموا } أي بالشرك والعصيان { الصيحة } أي صيحة العذاب التي ارتجفت لها قلوبهم وانخلعت فبركوا على ركبهم جاثمين هلكي لا يتحركون. قال تعالى في بيان حالهم { كأن لم يغنوا فيهآ } أي كأن لم يقيموا في تلك الديار ويعمروها زمنا طويلا. ثم لعنهم فقال: { ألا بعدا لمدين } بعدا لها من الرحمة وهلاكا، كما بعدت قبلها ثمود وهلكت.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما أوتي نبي الله شعيب العربي من فصاحة وبيان حتى قيل فيه خطيب الأنبياء.
2- اشتداد الأزمات مؤذن بقرب انفراجها.
3- بيان فساد عقل من يهتم بتنفيذ أوامر الناس ويهمل أوامر الله تعالى ولا يلتفت إليها.
4- فضل انتظار الفرج من الله تعالى وهو الرجاء المأمور به.
5- صدق وعد الله رسله وعدم تخلفه أبدا.
[11.96-99]
شرح الكلمات:
موسى: هو موسى بن عمران كليم الله ورسوله إلى بني إسرائيل.
بآياتنا: هي التسع الآيات الذي ذكر أكثرها في آية الأعراف.
وسلطان مبين: أي بحجة قوية على عدو الله فرعون فهزمه بها.
وملئه: أي أشرف رجال دولة فرعون.
وما أمر فرعون برشيد: أي بذي رشد بل هو السفه كله.
يقدم قومه: أي تقدمهم إلى النار فأوردهم النار.
بئس الورد المورود: أي قبح وساء وردا يورد النار.
وأتبعوا في هذه لعنة: أي ألحقتهم في دار الدنيا لعنة وهي غرقهم.
بئس الرفد المرفود: أي قبح الرفد الذي هو العطاء المرفود به أي المعطي لهم. والمراد لعنة الدنيا ولعنة الآخرة.
معنى الآيات:
هذه لمحة خاطفة لقصة موسى عليه السلام مع فرعون تضمنتها أربع آيات قصار قال تعالى { ولقد أرسلنا موسى } أي بعد إرسالنا شعيبا إلى أهل مدين أرسلنا موسى بن عمران مصحوبا بآياتنا الدالة على إرسالنا له وصدق ما يدعوا إليه ويطالبه به وسلطان مبين أي أي وحجة قوية ظاهرة على وجوب توحيد الله تعالى وبطلان أولوهية من عداه كفرعون عليه لعائن الله
وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري
[القصص: 38] وقوله تعالى { إلى فرعون وملئه } أرسلناه بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وأشراف جنده وزعماء دولته فأمرهم موسى باتباع الحق وترك الباطل فأبوا واتبعوا أمر فرعون فأضلهم. { ومآ أمر فرعون برشيد } حتى يهدي إلى الفلاح من اتبعه. قال تعالى { يقدم قومه يوم القيامة } أي يتقدمهم إلى النار فيوردهم حياضها { وبئس الورد المورود } أي نار جهنم قوله تعالى { وأتبعوا في هذه لعنة } أي فرعون وقومه لعنوا في الدنيا، ويوم القيامة يلعنون أيضا { بئس الرفد المرفود } وهما لعنة الدنيا ولعنة الآخرة، والرفد العون والعطاء والمرفود به هو المعان به والمعطى لمن يرفد من الناس.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- من كتب الله شقاءه لا يؤمن بالآيات بل يردها ويكذب بها حتى يهلك.
2- قوة الحجج وكثرة البراهين لا تستلزم إذعان الناس وإيمانهم.
3- التحذير من اتباع رؤساء الشر وأئمة الفساد والضلال.
4- ذم موارد الباطل والشر والفساد.
5- شر المعذبين من جمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
[11.100-102]
شرح الكلمات:
ذلك: الإشارة إلى قصص الأنبياء الذي تقدم في السورة.
من أنباء القرى: أي أخبار أهل القرى قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون.
منها قائم وحصيد: منها مدن بقيت آثارها كمدائن صالح، ومنها مدن لم يبق منها شيء كديار عاد.
التي يدعون: أي يعبدونها بالدعاء وغيره كالذبح لها والنذور والحلف بها.
غير تتبيب: أي تخسير وهلاك.
إذا أخذ القرى: أي عاقبها بذنوبها.
أليم شديد: أي موجع شديد الإيجاع.
معنى الآيات:
لما قص تعالى على رسوله في هذه السورة ما قص من أخبار الأمم السابقة خاطبه قائلا { ذلك } أي ما تقدم في السياق { من أنبآء القرى } أي أهلها نقصه عليك تقريرا لنبوتك وإثباتا لرسالتك وتثبيتا لفؤادك وتسلية لك. وقوله تعالى { منها قآئم وحصيد } أي ومن تلك القرى البائدة منها آثار قائمة من جدران وأطلال، ومنها ما هو كالحصيد ليس فيه قائم ولا شاخص لاندراسها وذهاب آثارها. وقوله تعالى { وما ظلمناهم } بإهلاكنا إياهم ولكن هم ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي والمجاحدة لآياتنا والمكابرة لرسولنا. وقوله تعالى { فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء } أي لم تغن عنهم أصنامهم التي اتخذوها آلهة فعبدوها بأنواع العبادات من دعاء ونذر وذبح وتعظيم إذ لم تغن عنهم شيئا من الإغناء { لما جآء أمر ربك } بعذابهم { وما زادوهم غير تتبيب } أي تخسير ودمار وهلاك. ثم في الآية الأخيرة قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وكذلك أخذ ربك } أي وكذلك الأخذ المذكور أخذ ربك { إذا أخذ القرى } أي العواصم والحواضر بمن فيها والحال أنها ظالمة بالشرك والمعاصي { إن أخذه أليم شديد } أي ذو وجع شديد لا يطاق فهل يعتبر المشركون والكافرون والظالمون اليوم فيترك المشركون شركهم والكافرون كفرهم والظالمون ظلمهم قبل أن يأخذهم الله كما أخذ من قبلهم؟.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونشر رسالته وتسليته بما يقص الله عليه من أنباء السابقين.
2- تنزه الله تعالى عن الظلم في إهلاك أهل الشرك والمعاصي.
3- آلهة المشركين لم تغن عنهم عند حلول النقمة بهم شيئا.
4- التنديد بالظلم وسوء عاقبة الظالمين.
[11.103-109]
شرح الكلمات:
لآية: أي علامة على أن الذي عذب في الدنيا قادر على أن يعذب في الآخرة.
يوم مشهود: أي يشهد جميع الخلائق وهو يوم القيامة.
إلا لأجل معدود: أي أجل الدنيا المعدود الأيام والساعات.
إلا بإذنه: أي إلا بإذن الله تعالى.
شقي وسعيد: أي فمن أهل الموقف من هو شقي أزلا وسيدخل النار، ومنهم سعيد أزلا وسيدخل الجنة.
زفير وشهيق: أي صوت شديد وهو الزفير وصوت ضعيف وهو الشهيق.
عطاء غير مجذوذ: أي غير مقطوع بل هو دائم أبدا.
فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء: أي في شك من بطلان عبادة هؤلاء المشركين.
نصيبهم غير منقوص: ما قدر لهم من خير أو شر رحمة أو عذاب.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إن في ذلك لآية } أي إن في أخذ الله تعالى للأمم الظالمة وتعذيبها بأشد أنواع العذاب آية أي علامة واضحة على أن من عذب في الدنيا قادر على أن يعذب في الآخرة فالمؤمنون بلقاء الله تعالى يجدون فيما أخبر تعالى به من إهلاك الأمم الظالمة آية هي عبرة لهم فيواصلون تقواهم لله تعالى حتى يلاقوه وهم به مؤمنون ولأوامره ونواهيه مطيعون. وقوله تعالى { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } أي ذلك الذي فيه عذاب الآخرة هو يوم القيامة حيث يجمع فيه الناس لفصل القضاء { وذلك يوم مشهود } إذا تشهده الخلائق كلها وقوله تعالى { وما نؤخره إلا لأجل معدود } أي وما يؤخر يوم القيامة إلا لإكمال عمر الدنيا المعدود السنين والأيام بل والساعات. وقوله تعالى { يوم يأت } أي يوم القيامة { لا تكلم نفس إلا بإذنه } أي بإذن الله تعالى وقوله { فمنهم شقي وسعيد } أي والناس فيه ما بين شقي وسعيد، وذلك عائد إلى ما كتب لكل إنسان من شقاوة أو سعادة في كتاب المقادير، أولا، ولما كسبوا من خير وشر ثانيا. وقوله تعالى { فأما الذين شقوا } أي في حكم الله وقضائه ففي النار لهم فيها زفير وهو صوت شديد وشهيق وهو صوت ضعيف والصوتان متلازمان إذ هما كأول النهيق وآخره عند الحمار. وقوله تعالى { خالدين فيها } أي في النار { ما دامت السموت والأرض } أي مدة دوامهما، وقوله { إلا ما شآء ربك } أن لا يخلد فيها وهم أهل التوحيد ممن ماتوا على كبائر الذنوب. وقوله تعالى { إن ربك فعال لما يريد } أي إن ربك أيها الإنسان فعال لما يريد إذا أراد شيئا فعله لا يحال بينه وبين فعله. وقوله { وأما الذين سعدوا } أي حكم الله تعالى بسعادتهم لما وفقهم الله من الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي { ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموت والأرض إلا ما شآء ربك } إذ إرادة الله مطلقة لا تحد إلا بمشيئته العليا وقوله { عطآء غير مجذوذ } أي عطاء من ربك لأهل طاعته غير مقطوع أبدا وهذا دليل خلودهم فيها أبدا.
وقوله تعالى { فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء } هو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاه ربه تعالى أن يشك في بطلان عبادة المشركين أصنامهم فإنهم لا دليل لهم على صحة عبادتها وإنما هم مقلدون لآبائهم يعبدون ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان، وقوله تعالى { وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص } يخبر تعالى إنه موفي المشركين ما كتب لهم من خير وشر أو رحمة وعذاب توفية كاملة لا نقص فيها بحال.
هداية الآيات :
من هداية الآيات:
1- فضل وفضيلة الإيمان بالآخرة.
2- حتمية البعث الآخر وأنه لا شك فيه.
3- الشقاوة والسعادة مضى بهما القضاء والقدر قبل وجود الأشقياء والسعداء.
4- عجز كل نفس عن الكلام يوم القيامة حتى يؤذن لها به.
5- إرادة الله مطلقة، لو شاء أن يخرج أهل النار لأخرجهم منها ولو شاء أن يخرج أهل الجنة لأخرجهم إلا أنه حكم بما أخبر به وهو العزيز الحكيم.
[11.110-113]
شرح الكلمات:
الكتاب: أي التوراة.
ولولا كلمة سبقت: أي لولا ما جرى به قلم القدر من تأخير الحساب والجزاء إلى يوم القيامة.
لفي شك منه مريب: أي موقع في الريب الذي هو اضطراب النفس وقلقها.
فاسقتم كما أمرت: أي على الأمر والنهي كما أمرك ربك بدون تقصير.
ولا تطغوا: أي لا تجاوزا حدود الله.
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا: أي لا تميلوا إليهم بموادة أو رضا بأعمالهم.
فتمسكم النار: أي تصيبكم ولازم ذلك دخولها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات وهو يبلغ دعوة الله تعالى ويدعو إلى توحيده مواجها صلف المشركين وعنادهم فيقول له. { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة كما أنزلنا عليك القرآن. فاختلفت اليهود في التوراة فمنهم من آمن بها ومنهم من كفر كما اختلف قومك في القرآن فمنهم من آمن به ومنهم من كفر إذا فلا تحزن. وقوله تعالى { ولولا كلمة سبقت من ربك } وهي تأخير الجزاء على الأعمال في الدنيا إلى القيامة { لقضي بينهم } فنجى المؤمنين وأهلك الكافرين. وقوله تعالى { وإنهم لفي شك منه مريب } وإن قومك من مشركي العرب لفي شك من القرآن هل هو وحي الله وكلامه أو هو غير ذلك مريب أي موقع في الريب الذي هو شك مع اضطراب النفس وقلقها وحيرتها وقوله تعالى { وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم } أي وإن كل واحد من العباد مؤمنا كان أو كافرا بارا أو فاجرا ليوفينه جزاء عمله يوم القيامة ولا ينقصه من عمله شيئا وقوله { إنه بما يعملون خبير } تقرير لما أخبر به من الجزاء العادل إذ العلم بالعمل والخبرة التامة به لابد منهما للتوفية العادلة. وقوله تعالى { فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك } أي بناء على ذلك فاستقم كما أمرك ربك في كتابه فاعتقد الحق واعمل الصالح واترك الباطل ولا تعمل الطالح أنت ومن معك من المؤمنين ليكون جزاؤكم خير جزاء يوم الحساب والجزاء. وقوله { ولا تطغوا } أي لا تتجاوزوا ما حد لكم في الاعتقاد والقول والعمل وقوله { إنه بما تعملون بصير } تحذير لهم من الطغيان الذي نهوا عنه، وتهديد لمن طغى فتجاوز منهج الاعتدال المأمور بالتزامه. وقوله تعالى { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } أي لا تميلوا إلى المشركين بمداهنتهم أو الرضا بشركهم فتكونوا مثلهم فتدخلوا النار مثلهم فتمسكم النار كما مستهم، وقوله تعالى { وما لكم من دون الله من أوليآء ثم لا تنصرون } أي إن أنتم ركنتم إلى الذين ظلموا بالشرك بربهم فكنتم في النار مثلهم فإنكم لا تجدون من دون الله وليا يتولى أمر الدفاع عنكم ليخرجكم من النار ثم لا تنصرون بحال من الأحوال، وهذا التحذير وإن وجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء فإن المقصود به أمته إذ هي التي يمكنها فعل ذلك أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو معصوم من أقل من الشرك فكيف بالشرك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه مما يجده من جحود الكافرين.
2- بيان سبب تأخر العذاب في الدنيا، وهو أن الجزاء في الآخرة لا في الدنيا.
3- الجزاء الأخروي حتمي لا يتخلف أبدا إذ به حكم الحق عز وجل.
4- وجوب الاستقامة على دين الله تعالى عقيدة وعبادة وحكما وأدبا.
5- حرمة الغلو وتجاوز ما حد الله تعالى في شرعه.
6- حرمة مداهنة المشركين أو الرضا بهم أو بعملهم، لأن الرضا بالكفر كفر.
[11.114-115]
شرح الكلمات:
وأقم الصلاة: أي صل الصلاة المفروضة.
طرفي النهار: أي الصبح، وهي في الطرف الأول، والظهر والعصر وهما في الطرف الثاني.
وزلفا من الليل: أي ساعات الليل والمراد صلاة المغرب وصلاة العشاء.
إن الحسنات يذهبن السيئات: أي حسنات الصلوات الخمس يذهبن صغائر الذنوب التي تقع بينهن.
ذلك ذكرى للذاكرين: أي ذلك المذكور من قوله وأقم الصلاة عظة للمتعظين.
المحسنين: أي الذين يحسنون نياتهم وأقوالهم وأعمالهم بالإخلاص فيها لله وأدائها على نحو ما شرع الله وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهدايتهم إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم فقال تعالى { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من اليل } أقمها في هذه الأوقات الخمس وهي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، ومعنى أقمها أدها على الوجه الأكمل لأدائها، فيكون ذلك الأداء حسنات يمحو الله تعالى بها السيئات، وقوله تعالى { ذلك } أي المأمور به وما يترتب عليه { ذكرى } أي عظة { للذاكرين } أي المتعظين وقوله { واصبر } أي على الطاعات فعلا وتركا وعلى أذي المشركين ولا تجزع { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } أي جزاءهم يوم القيامة، والمحسنون هم الذين يخلصون أعمالهم لله تعالى ويؤدونها على الوجه الأكمل في أدائها فتنتج لهم الحسنات التي يذهب الله بها السيئات.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- بيان أوقات الصلوات الخمس إذ طرفي النهار هما الصبح وفيها صلاة الصبح والعشي وفيها صلاة الظهر والعصر كما أن زلفا من الليل هي ساعاته فيها صلاة المغرب والعشاء.
2- بيان سنة الله تعالى في أن الحسنة تمحو السيئة وفي الحديث
" الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما لم تغش الكبائر ".
3- وجوب الصبر والإحسان وأنهما من أفضل الأعمال.
[11.116-119]
شرح الكلمات:
فلولا: لولا كلمة تفيد الحض على الفعل والحث عليه.
من القرون: أي أهل القرون والقرن مائة سنة.
أولو بقية: أي أصحاب بقية أي دين وفضل.
ما أترفوا فيه: أي ما نعموا فيه من طعام وشراب ولباس ومتع.
وكانوا مجرمين: أي لأنفسهم بارتكاب المعاصي ولغيرهم بحملهم على ذلك.
بظلم: أي منه لها بدون ما ذنب اقترفته.
أمة واحدة: أي على دين واحد وهو الإسلام.
ولذلك خلقهم: أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرحمة للرحمة.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله { فلولا كان من القرون } من قبلكم أيها الرسول والمؤمنون { أولوا بقية } من فهم وعقل وفضل ودين ينهون عن الشرك والتكذيب والمعاصي أي فهلا كان ذلك إنه لم يكن اللهم إلا قليلا ممن أنجى الله تعالى من اتباع الرسل عند إهلاك أممهم وقوله تعالى { واتبع الذين ظلموا مآ أترفوا فيه وكانوا مجرمين } أي لم يكن بينهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجى الله وما عداهم كانوا ظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي متبعين ما اترفوا فيه من ملاذ الحياة الدنيا وبذلك كانوا مجرمين فأهلكهم الله تعالى ونجى رسله والمؤمنين كما تقدم ذكره في قصة نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام. وقوله تعالى { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } أي لم يكن من شأن ربك أيها الرسول أن يهلك القرى بظلم منه وأهلها مصلحون، ولكن يهلكهم بسبب ظلمهم لأنفسهم بالشرك والتكذيب والمعاصي. وما تضمنته هذه الآية هو بيان لسنة الله تعالى في إهلاك الأمم السابقة ممن قص تعالى أنباءهم في هذه السورة. وقوله تعالى { ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة } أي على الإسلام بأن خلق الهداية في قلوبهم وصرف عنهم الموانع، ولما لم يشأ ذلك لا يزالون مختلفين على أديان شتى من يهودية ونصرانية ومجوسية وأهل الدين الواحد يختلفون إلى طوائف ومذاهب مختلفة وقوله { إلا من رحم ربك } أيها الرسول فإنهم لا يختلفون بل يؤمنون بالله ورسوله ويعملون بطاعتهما فلا فرقة ولا خلاف بينهم دينهم واحد وأمرهم واحد. وقوله { ولذلك خلقهم } أي وعلى ذلك خلقهم فمنهم كافر ومنهم مؤمن، والكافر شقي والمؤمن سعيد، وقوله { وتمت كلمة } أي حقت ووجبت وهي { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } ولذا كان اختلاقهم مهيئا لهم لدخول جهنم حيث قضى الله تعالى بامتلاء جهنم من الجن والإنس أجمعين فهو أمر لابد كائن.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ما يزال الناس بخير ما وجد بينهم أولو الفضل والخير يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن الفساد والشر.
2- الترف كثيرا ما يقود إلى الإجرام على النفس باتباع الشهوات وترك الصالحات.
3- متى كان أهل القرى صالحين فهم آمنون من كل المخاوف.
4- الاتفاق رحمة والخلاف عذاب.
[11.120-123]
شرح الكلمات:
وكلا نقص: أي وكل ما تحتاج إليه من أنباء الرسل نقصه عليك تثبيتا لفؤادك.
ما نثبت به فؤادك: أي نقص عليك من القصص ما نثبت به قلبك لتصبر على دعوتنا وتبليغها.
وجاءك في هذه الحق: أي في هذه السورة الحق الثابت من الله تعالى كما جاءك في غيرها.
وموعظة وذكرى: أي وجاءك فيها موعظة وذكرى للمؤمنين إذ هم المنتفعون بها.
ولله غيب السماوات والأرض: أي ما غاب علمه فيهما فالله يعلمه وحده وليس لغيره فيه علم.
فاعبده: أي وحده في العباده ولا تشرك به شيئا.
وتوكل عليه: أي فوض أمرك إليه وثق تمام الثقة فيه فإنه يكفيك.
معنى الآيات:
لما قص تعالى على رسوله في هذه السورة الشريفة ما قصه من أنباء الرسل مع أممهم مبينا ما لاقت الرسل من أفراد أممهم من تكذيب وعناد ومجاحدة وكيف صبرت الرسل حتى جاءها النصر أخبر تعالى رسوله بقوله { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } أي ونقص عليك كل ما تحتاج إليه في تدعيم موقفك وقوة عزيمتك من أنباء الرسل أي من أخبارها مع أممها الشيء الذي نثبت به قلبك حتى تواصل دعوتك وتبلغ رسالتك. وقوله { وجآءك في هذه } أي السورة الحق من الأخبار كما جاءك في غيرها { وموعظة } لك تعظ بها غيرك، { وذكرى } يتذكر بها المؤمنون فيثبتون على الحق ويصبرون على الطاعة والبلاء فلا يجزعوا ولا يملوا، وقوله { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون } أي وقل يا رسولنا للذين لا يؤمنون من قومك ممن هم مصرون على التكذيب والشرك والعصيان اعملوا على حالكم وما أنتم متمكنون منه إنا عاملون على حالنا كذلك،
وانتظروا أينا ينتصر في النهاية أو ينكسر. وقوله ولله غيب السماوات والأرض فهو وحده يعلم متى يجيء النصر ومتى تحق الهزيمة. وإليه يرجع الأمر كله أمر الانتصار والانكسار كأمر الهداية والاضلال والإسعاد والاشقاء، وعليه فاعبده يا رسولنا وحده وتوكل عليه وحده، فإنه كافيك كل ما يهمك من الدنيا والآخرة، وما ربك بغافل عما تعملون أيها الناس وسيجزي كلا بما عمل من خير أو غير وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فائدة القصص القرآني وهي أمور منها:
أ) تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
ب) إيجاد مواعظ وعبر للمؤمنين.
ج) تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- علم الغيب لله وحده لا يعلمه غيره.
3- مرد الأمور كلها لله بداءا وعودا ونهاية.
4- وجوب عبادة الله تعالى والتوكل عليه.
[12 - سورة يوسف]
[12.1-3]
شرح الكلمات:
ألر: تكتب ألر وتقرأ: ألف، لام، را، والله أعلم بمراده بذلك.
الكتاب المبين: أي القرآن المظهر للحق في الاعتقادات والعبادات والشرائع.
قرآنا عربيا: أي بلغه العرب العدنانيون والقحطانيون سواء.
نحن نقص: نحدثك متتبعين آثار الحديث على وجهه الذي كان عليه وتم به.
بما أوحينا: أي بإيحائنا إليك فالوحي هو أداة القصص.
من قبله: أي من قبل نزوله عليك.
لمن الغافلين: أي من قبل إيحائنا إليك غافلا عنه لا تذكره ولا تعلم منه شيئا.
معنى الآيات:
إن المناسبة بين سورتي هود ويوسف عليهما السلام أن الثانية تتميم للقصص الذي اشتملت عليه الأولى إذ سورة يوسف اشتملت على أطول قصص في القرآن الكريم أوله
إذ قال يوسف لأبيه
[الآية: 4] رابع آية وآخره
وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم
[الآية: 102] الآية الثانية بعد المائة وأما سبب نزول هذه السورة فقد قيل للرسول صلى الله عليه وسلم لو قصصت علينا فأنزل الله تعالى { الر تلك آيات الكتاب المبين } إلى قوله
وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم
[الآية: 102] فقص أحداث أربعين سنة تقريبا، فقوله تعالى { الر } من هذه الحروف المقطعة تألفت آيات القرآن الكريم، فأشار إليها بقوله { تلك آيات الكتاب المبين } أي المبين للحق المظهر له ولكل ما الناس في حاجة إليه مما يصلح دينهم ودنياهم. وقوله تعالى { إنآ أنزلناه } أي القرآن { قرآنا عربيا } أي بلسان العرب ليفهموه ويعقلوا معانيه فيهتدوا عليه فيكملوا ويسعدوا. وقوله { لعلكم تعقلون } أي ليمكنكم فهمه ومعرفة ما جاء فيه من الهدى والنور. وقوله تعالى { نحن نقص عليك } يا رسول الله { أحسن القصص } أي أصحه وأصدقه وأنفعه وأجمله { بمآ أوحينآ إليك هذا القرآن } أي بواسطة إيحائنا إليك هذا القرآن، { وإن كنت من قبله } أي من قبل إيحائه إليك { لمن الغافلين } عنه لا تذكره ولا تعلمه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير إعجاز القرآن إذ هو مؤلف من مثل الر، وطس، وق، ومع هذا لم يستطع العرب أن يأتوا بسورة مثله.
2- بيان الحكمة في نزول القرآن باللغة العربية وهي أن يعقله العرب ليبلغوه إلى غيرهم.
3- القرآن الكريم اشتمل على أحسن القصص فلا معنى لسماع قصص غيره.
4- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإثباتها بأقوى برهان عقلي وأعظم دليل نقلي.
[12.4-6]
شرح الكلمات:
لأبيه: أي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام.
إني رأيت: أي في منامي.
أحد عشر كوكبا: أي من كواكب السماء.
ساجدين: أي نزل الكل من السماء وسجدوا ليوسف وهو طفل.
فيكيدوا لك: أي يحتالوا عليك بما يضرك.
عدو مبين: أي بين العداوة ظاهرها.
يجتبيك ربك: أي يصطفيك له لتكون من عباده المخلصين.
من تاويل الأحاديث: أي تعبير الرؤيا.
ويتم نعمته عليك: أي بأن ينبئك ويرسلك رسولا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إذ قال يوسف } هذا بداية القصص أي اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف بن يعقوب لأبيه يعقوب { يأبت } أي يا أبي { إني رأيت أحد عشر كوكبا } أي من كواكب السماء { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } أي نزلوا من السماء وسجدوا له تحية وتعظيما. وسيظهر تأويل هذه الرؤيا بعد أربعين سنة حيث يجمع الله شمله بأبويه وإخوته الأحد عشر ويسجد الكل له تحية وتعظيما. وقوله تعالى { قال يبني } أي قال يعقوب لولده يوسف { لا تقصص رؤياك على إخوتك } وهم إخوة له من أبيه دون أمه { فيكيدوا لك كيدا } أي يحملهم الحسد على أن يكيدوك بما يضرك بطاعتهم للشيطان حين يغريهم بك { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } إذ أخرج آدم وحواء من الجنة بتزيينه لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عن الأكل منها. وقوله { وكذلك يجتبيك ربك } وكما أراك ربك الكواكب والشمس والقمر ساجدين لك يجتبيك أي يصطفيك له لتكون من عباده المخلصين.
وقوله { ويعلمك من تأويل الأحاديث } أي ويعلمك معرفة ما يؤول إليه أحاديث الناس ورؤياهم المنامية، ويتم نعمته عليك بالنبوة وعلى آل يعقوب أي أولاده. { كمآ أتمهآ على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق } إسحاق جد يوسف الأدنى وإبراهيم جده الأعلى حيث أنعم عليهما بانعامات كبيرة أعظمها النبوة والرسالة، وقوله تعالى { إن ربك عليم } أي بخلقه { حكيم } أي في تدبيره فيضع كل شيء في موضعه فيكرم من هو أهل للاكرام، ويحرم من هو أهل للحرمان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ثبوت الرؤيا شرعا ومشروعية تعبيرها.
2- قد تتأخر الرؤيا فلا يظهر مصداقها إلا بعد السنين العديدة.
3- مشروعية الحذر والأخذ بالحيطة في الأمور الهامة.
4- بيان إفضال الله على آل إبراهيم بما أنعم عليهم فجعلهم أنبياء آباء وأبناء وأحفادا.
[12.7-10]
شرح الكلمات:
آيات للسائلين: عبر للسائلين عن أخبارهم وما كان لهم من أحوال غريبة.
ونحن عصبة: أي جماعة أذ هم أحد عشر رجلا.
أو اطرحوه أرضا: أي ألقوه في أرض بعيدة لا يعثر عليه.
يخل لكم وجه أبيكم: أي من النظر إلى يوسف فيقبل عليكم ولا يلتفت إلى غيركم.
في غيابة الجب: أي ظلمة البئر.
بعض السيارة: أي المسافرين السائرين في الأرض.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة يوسف عليه السلام قال تعالى { لقد كان في يوسف وإخوته } أي في شأن يوسف وإخوته وما جرى لهم وما تم من أحداث جسام عبر وعظات للسائلين عن ذلك المتطلعين إلى معرفته. { إذ قالوا } أي إخوة يوسف { ليوسف وأخوه } بنيامين وهو شقيقه دونهم { أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة } أي جماعة فكيف يفضل الاثنين على الجماعة { إن أبانا } أي يعقوب عليه السلام { لفي ضلال مبين } أي في خطإ بين بإيثارة يوسف وأخاه بالمحبة دوننا. وقوله { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم } يخبر تعالى عما قاله إخوة يوسف وهم في خلوتهم يتآمرون على أخيهم للتخلص منه فقالوا { اقتلوا يوسف } بإزهاق روحه، { أو اطرحوه } في أرض بعيدة ألقوه فيها فيهلك وتتخلصوا منه بدون قتل منكم، وبذلك { يخل لكم وجه أبيكم } حيث كان مشغولا بالنظر إلى يوسف، ويحبكم وتحبونه وتتوبوا إلى الله من ذنب إبعاد يوسف عن أبيه، وتكونوا بعد ذلك قوما صالحين حيث لم يبق ما يورثكم ذنبا أو يكسبكم إثما. وقوله تعالى { قال قآئل منهم } يخبر تعالى عن قيل إخوة يوسف لبعضهم البعض وهم يتشاورون في شأن يوسف وكيف يبعدونه عن أبيهم ورضاه عنهم قال قائل منهم هو يهودا أو روبيل وكان أخاه وابن خالته وكان أكبرهم سنا وأرجحهم عقلا قال: لا تقتلوا يوسف، لأن القتل جريمة لا تطاق ولا ينبغي ارتكابها بحال، والقوه في غيابة الجب أي في ظلمة البئر، وهي بئر معروفة في ديارهم بأرض فلسطين يلتقطه بعض السيارة من المسافرين إن كنتم فاعلين شيئا إزاء أخيكم فهذا أفضل السبل لذلك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الميل إلى أحد الأبناء بالحب يورث العداوة بين الإخوة.
2- الحسد سبب لكثير من الكوارث البشرية.
3- ارتكاب أخف الضررين قاعدة شرعية عمل بها الأولون.
4- الشفقة والمحبة في الشقيق أكبر منها في الأخ للأب.
[12.11-14]
شرح الكلمات:
لناصحون: لمشفقون عليه نحب له الخير كما نحبه لأنفسنا.
يرتع ويلعب: أي يأكل ويشرب ويلعب بالمسابقة والمناضلة.
إني ليحزنني: أي يوقعني في الحزن الذي هو ألم النفس أي ذهابكم به.
الذئب: حيوان مفترس خداع شرس.
ونحن عصبة: أي جماعة قوية.
لخاسرون: أي ضعفاء عاجزون عرضة للخسران بفقدنا أخانا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة يوسف إنهم بعد ائتمارهم واتفاقهم السري على إلقاء يوسف في غيابة الجب طلبوا من أبيهم أن يترك يوسف يخرج معهم إلى البر كعادتهم للنزهة والتنفه وكأنهم لاحضوا عدم ثقة أبيهم فيهم فقالوا له { ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } أي محبون له كل خير مشفقون عليه أن يمسه أدنى سوء. { أرسله معنا غدا يرتع ويلعب } أي يرتع في البادية يأكل الفواكه ويشرب الألبان ويأكل اللحوم ويلعب بما نلعب به من السباق والمناضلة، والمصارعة، { وإنا له لحافظون } من كل ما قد يضره أو يسيء إليه. فأجابهم عليه السلام قائلا { إني ليحزنني أن تذهبوا به } أي إنه ليوقعني في الحزن وآلامه ذهابكم به. { وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } في رتعكم ولعبكم. فأجابوه قائلين { لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنآ إذا لخاسرون } أي لا خير في وجودنا ما دمنا نغلب على أخينا فيأكله الذئب بيننا. ومع الأسف فقد اقنعوا بهذا الحديث والدهم وغدا سيذهبون بيوسف لتنفيذ مؤامرتهم الدنية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة: لا حذر مع القدر أي لا حذر ينفع في رد المقدور.
2- صدق المؤمن يحمله على تصديق من يحلف له ويؤكد كلامه.
3- جواز الحزن وأنه لا إثم فيه وفي الحديث
" وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ".
4- أكل الذئب للإنسان إن أصاب منه غفلة واقع وكثير أيضا.
[12.15-18]
شرح الكلمات:
وأجمعوا: أي أمرهم على إلقائه في غيابة الجب.
في غيابة الجب: أي في ظلمة البئر.
وأوحينا إليه: أي أعلمناه بطريق خفي سريع.
عشاء: أي بعد غروب الشمس أول الليل.
نستبق: أي بالمناضلة.
عند متاعنا: أي أمتعتنا من ثياب وغيرها.
وما أنت بمؤمن لنا: أي بمصدق لنا.
بدم كذب: أي بدم مكذوب أي دم سخلة وليس دم يوسف.
بل سولت لكم: أي زينت وحسنت.
على ما تصفون: أي من الكذب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الإخبار عما عزم عليه إخوة يوسف أن يفعلوه فقد أقنعوا والدهم يوم أمس على إرسال يوسف معهم إلى البر وها هم أولاء وقد أخذوه معهم وخرجوا به، وما إن بعدوا به حتى تغيرت وجوههم عليه وصار يتلقى الكلمات النابية والوكز والضرب أحيانا، وقد أجمعوا أمرهم على إلقائه في بئر معلومة لهم في الصحراء، ونفذوا مؤامرتهم وألقوا أخاهم وهو يبكي بأعلى صوته وقد انتزعوا منه قميصه وتركوه مكتوفا في قعر البئر. وهنا أوحى الله تعالى إليه أي أعلمه بما شاء من وسائط العلم إنه سينبئهم في يوم من الأيام بعملهم الشنيع هذا وهو معنى قوله تعالى في السياق { وأوحينآ إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } وبعد أن فرغوا من أخيهم ذبحوا سخلة ولطخوا بدمها قميصه، وعادوا إلى أبيهم مساء يبكون يحملون الفاجعة إلى أبيهم الشيخ الكبير قال تعالى { وجآءوا أباهم عشآء } أي ليلا { يبكون } وقالوا معتذرين { يأبانآ إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ومآ أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق لنا { ولو كنا صادقين } وقد دلت عباراتهم على كذبهم قال تعالى { وجآءوا على قميصه بدم كذب } أي ذي كذب أو مكذوب إذ هو دم سخلة ذبحوها فأكلوها ولطخوا ببعض دمها قميص يوسف أخيهم ونظر يعقوب إلى القميص وهو ملطخ بالدم الكذب ولم يكن به خرق ولا تمزيق فقال إن هذا الذئب لحليم إذ أكل يوسف ولم يخرق ثوبه، ثم قال ما أخبر تعالى عنه بقوله { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا } أي لم يكن الأمر كما وصفتم وادعيتم وإنما سولت لكم أنفسكم أمرا فنفذتموه. { فصبر جميل } أي فأمري صبر جميع والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى معه. { والله المستعان على ما تصفون } أي من الكذب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز صدور الذنب الكبير من الرجل المؤمن المهيء للكمال مستقبلا.
2- لطف الله تعالى بيوسف وإكرامه له بإعلامه إياه أنه سينبىء إخوته بفعلتهم هذه وضمن ذلك بشره بسلامة الحال وحسن المآل.
3- اختيار الليل للاعتذار دون النهار لأن العين تستحي من العين كما يقال. وكما قيل " كيف يرجوا الحياء منه صديق... ومكان الحياء منه خراب. يريد عينيه لا تبصران.
4- فضيلة الصبر الجميل وهو الخالي من الجزع والشكوى معا.
[12.19-22]
شرح الكلمات:
سيارة: رفقة من الناس تسير مع بعضها بعضا.
واردهم: أي الذي يرد لهم الماء.
فأدلى دلوه: أي دلى دلوه في البئر.
وأسروه بضاعة: أي أخفوه كبضاعة من البضائع.
وشروه بثمن بخس: أي باعوه بثمن ناقص.
وقال الذي اشتراه: أي الرجل الذي اشتراه واسمه قطفير ولقبه العزيز.
أكرمي مثواه: أي أكرمي موضع إقامته بمعنى أكرميه وأحسني إليه.
أو نتخذه ولدا: أي نتبناه فقال ذلك لأنه لم يكن يولد له.
من تأويل الأحاديث: أي تعبير الرؤيا.
ولما بلغ أشده: أي قوته البدنية والعقلية.
حكما وعلما: أي حكمة ومعرفة أي حكمة في التدبير ومعرفة في الدين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وإخوته إنه لما ألقى يوسف في الجب وترك هناك جاءت قافلة من بلاد مدين تريد مصر فأرسلوا واردا لهم يستقي لهم الماء فأدلى دلوه في البئر فتعلق به يوسف فخرج معه وما إن رآه المدلي حتى صاح قائلا يا بشراي هذا غلام وكان إخوة يوسف يترددون على البئر يتعرفون على مصير أخيهم فلما رأوه بأيدي الوارد ورفقائه قالوا لهم هذا عبد لنا أبق، وإن رأيتم شراءه بعناه لكم فقالوا ذاك الذي نريد فباعوه لهم بثمن ناقص وأسره الذين اشتروا أي أخفوه عن رجال القافلة حتى لا يطالبوهم بالاشتراك فيه معهم، وقالوا هذه بضاعة كلفنا أصحاب الماء بإيصالها إلى صاحبها بمصر. هذا ما دل عليه قوله تعالى { وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يبشرى هذا غلام وأسروه بضاعة } { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة }.
وكونها معدودة غير موزونة دال على قلتها { وكانوا فيه من الزاهدين } أي إخوته لا الذين اشتروه. ولما وصلوا به مصر باعوه من وزير يقال له قطفير العزيز فتفرس فيه الخير فقال لا مرأته زليخا أكرمي مقامه بيننا رجاء أن ينفعنا في الخدمة أو نبيعه بثمن غال، أو نتخذه ولدا حيث نحن لا يولد لنا. هذا معنى قوله تعالى { وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا } قال تعالى. { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } أي وكما نجيناه من القتل والجب وعطفنا عليه العزيز مكنا له في الأرض فيما بعد فصار ملك مصر بما فيها يحكمها ويسوسها بالعدل والرحمة ، وقوله تعالى { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } أي ولنعلمه تعبير الرؤا من أحاديث الناس وما يقصونه منه. وقوله تعالى { والله غالب على أمره } أي على أمر يوسف فلم يقدر إخوته أن يبلغوا منه مرادهم كما هو تعالى غالب على كل أمر أراده فلا يحول بينه وبين مراده أحد وكيف وهو العزيز الحكيم.
وقوله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } إذ لو علموا لفوضوا أمرهم إليه وتوكلوا عليه ولم يحاولوا معصيته بالخروج عن طاعته. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يجد من أقربائه من أذى إذ يوسف ناله الأذى من أخوته الذين هم أقرب الناس إليه بعد والديه. وقوله تعالى { ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين } أي ولما بلغ يوسف اكتمال قوته البدنية بتجاوز سن الصبا إلى سن الشباب وقوته العقلية بتجاوزه سن الشباب إلى سن الكهولة آتيناه حكما وعلما أي حكمة وهي الإصابة في الأمور وعلما وهو الفقه في الدين، وكما آتينا يوسف الحكمة والعلم نجزي المحسنين طاعتنا بالصبر والصدق وحسن التوكل وفي هذا بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن العاقبة وأن الله تعالى سينصره على أعدائه ويمكن له منهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز الفرح بما يسر والإعلان عنه.
2- جوازالاحتياط لأمر الدين والدنيا.
3- اطلاق لفظ الشراء على البيع.
4- نسخ التبني في الإسلام.
5- معرفة تعبير الرؤا كرامة لمن علمه الله ذلك.
6- من غالب الله غلب.
7- بلوغ الأشد يبتدي بانتهاء الصبا والدخول في البلوغ.
8- حسن الجزاء مشروط بحسن القصد والعمل.
[12.23-25]
شرح الكلمات:
راودته: أي طالبته لحاجتها تريد أن ينزل عن إرادته لإرادتها وهو يأبى.
التي هو في بيتها: أي زليخا امرأة العزيز.
وغلقت الأبواب: أغلقتها بالمغاليق.
هيت لك: أي تعال عندي.
معاذ الله: أي أعوذ بالله أي أتحصن وأحتمي به من فعل ما لا يجوز.
أحسن مثواي: أي إقامتي في بيته.
همت به: أي لتبطش به ضربا.
وهم بها: أي ليدفع صولتها عليه.
برهان ربه: ألهمه ربه أن الخير في عدم ضربها .
السوء والفحشاء: السوء ما يسوء وهو ضربها، والفحشاء الخصلة القبيحة.
المخلصين: أي الذين استخلصناهم لولايتنا وطاعتنا ومحبتنا.
وقدت قميصه: أي قطعته من وراء.
وألفيا سيدها: أي وجدا العزيز زوجها وكانوا يطلقون على الزوج لفظ السيد لأنه يملك المرأة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وما جرى له من أحداث في بيت العزيز الذي اشتراه إنه ما إن أوصى العزيز امرأته بإكرام يوسف حتى بادرت إلى ذلك فأحسنت طعامه وشرابه ولباسه وفراشه، ونظرا إلى ما تجلبه الخلوة بين الرجل والمرأة من إثارة الغريزة الجنسية لا سيما إذا طالت المدة، وأمن الخوف وقلت التقوى حتى راودته بالفعل عن نفسه أي طلبت منه نفسه ليواقعها بعد أن اتخذت الأسباب المؤمنة حيث غلقت أبواب الحجرة والبهو والحديقة، وقالت تعال إلي. وكان رد يوسف على طلبها حازما قاطعا للطمع وهذا هو المطلوب في مثل هذا الموقف قال تعالى مخبرا عما جرى في القصر حيث لا يعلم أحد من الناس ما جرى وما تم فيه من أحداث. { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون }. إنها بعد أن اتخذت كل ما يلزم للحصول على رغبتها منه أجابها قائلا { إنه ربي أحسن مثواي } يريد العزيز أحسن إقامتي فكيف أخونه في أهله. وفي نفس الوقت أن سيده الحق الله جل جلاله قد أحسن مثواه بما سخر له فكيف يخونه فيما حرم عليه. وقوله إنه لا يفلح الظالمون تعليل ثان فالظالم بوضع الشيء في غير موضعه يخيب في سعيه ويخسر في دنياه وأخراه فكيف أرضى لنفسي ولك بذلك وقوله تعالى { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } أي همت بضربه لامتناعه عن إجابتها لطلبها بعد مراودات طالت مدتها، وهم هو بها أي بضربها دفعا لها عن نفسه إلا إنه أراه الله برهانا في نفسه فلم يضربها وآثر الفرار إلى خارج البيت، ولحقته تجري وراءه لترده خشية أن يعلم أحد بما صنعت معه. واستبقا الباب هو يريد الخروج وهي تريد رده إلى البيت خشية الفضيحة وأخذته من قميصه فقدته أي شقته من دبر أي من وراء لأنه أمامها وهي وراءه.
وقوله تعالى: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشآء } أي هكذا نصرف عن يوسف السوء فلا يفعله والفحشاء فلا يقربها، وعلل لذلك بقوله إنه من عبادنا المخلصين أي الذين استخلصناهم لعبادتنا ومحبتنا فلا نرضى لهم أن يتلوثوا بآثار الذنوب والمعاصي. وقوله تعالى { وألفيا سيدها لدى الباب } أي ووجدا زوجها عند الباب جالسا في حال هروبه منها وهي تجري وراءه حتى انتهيا إلى الباب وإذا بالعزيز جالس عنده فخافت المعرة على نفسها فبادرت بالاعتذار قائلة ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أي يوما أو يومين، أو عذاب أليم يكون جزاءا له كأن يضرب ضربا مبرحا.
[12.26-29]
شرح الكلمات:
وشهد شاهد من أهلها: أي ابن عمها.
قد من قبل: أي من قدام.
قد من دبر: أي من وراء أي من خلف.
إنه من كيدكن: أي قولها، ما جزاء من أراد بأهلك سوءا.
يوسف أعرض عن هذا: أي عن هذا الأمر ولا تذكره لكيلا يشيع.
من الخاطئين: المرتكبين للخطايا الآثمين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن يوسف وأحداث القصة فقد ادعت زليخا أن يوسف راودها عن نفسها وطالبت بعقوبته فقالت
ما جزآء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم
[يوسف: 25] وهنا رد يوسف ما قذفته به، ولولا أنها قذفته ما أخبر عن مراودتها إياه فقال ما أخبر تعالى به في هذه الآيات { هي راودتني عن نفسي } وهنا أنطق الله جل جلاله طفلا رضيعا إكراما لعبده وصفيه يوسف فقال هذا الطفل والذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد يوسف { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين } هذا ما قضى به الشاهد الصغير. { فلما رأى قميصه قد من دبر قال }. { إنه } أي قولها
ما جزآء من أراد بأهلك سوءا
[يوسف: 25] { من كيدكن } أي من صنيع النساء { إن كيدكن عظيم } ، ثم قال ليوسف يا يوسف { أعرض عن هذا } الأمر ولا تذكره لأحد لكيلا يفشوا فيضر. وقال لزليخا { واستغفري لذنبك } أي اطلبي العفو من زوجك ليصفح عنك ولا يؤاخذك بما فرط منك من ذنب إنك كنت من الخاطئين أي الآثمين من الناس هذا ما تضمنته الآيات الأربع في هذا السياق الكريم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الدفاع عن النفس ولو بما يسيء إلى الخصم.
2- إكرام الله تعالى لأوليائه حيث أنطق طفلا في المهد فحكم ببراءة يوسف.
3- تقرير أن كيد النساء عظيم وهو كذلك.
4- استحباب الستر على المسيء وكراهية إشاعة الذنوب بين الناس.
[12.30-34]
شرح الكلمات:
في المدينة: أي عاصمة مصر يومئذ.
تراود فتاها: أي عبدها الكنعاني.
قد شغفها حبا: أي دخل حبه شغاف قلبها أي أحاط بقلبها فتملكه عليها.
إنا لنراها في ضلال مبين: أي في خطأ بين بسبب حبها إياه.
فلما سمعت بمكرهن: أي بما تحدثن به عنها في غيبتها.
وأعتدت لهن متكئا: أي وأعدت لهن فراشا ووسائد للاتكاء عليها.
أكبرنه: أي أعظمنه في نفوسهن.
فذلك الذي لمتنني فيه: أي قلتن كيف تحب عبدا كنعانيا.
فاستعصم: أي امتنع مستمسكا بعفته وطهارته.
الصاغرين: الذليلين المهانين.
أصب إليهن: أمل إليهن.
وأكن من الجاهلين: أي المذنبين إذ لا يذنب إلا من جهل قدرة الله واطلاعه عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة يوسف إنه بعد الحكم الذي أصدره شاهد يوسف عليه السلام انتقل الخبر إلى نساء بعض الوزراء فاجتمعن في بيت إحداهن وتحدثن بما هو لوم لامرأة العزيز حيث راودت عبدا لها كنعانيا عن نفسه وهو ما أخبر تعالى عنه في الآيات الآتية قال تعالى { وقال نسوة في المدينة } أي عاصمة مصر يومئذ { امرأة العزيز تراود فتاها } أي عبدها { عن نفسه قد شغفها حبا } أي قد بلغ حبها إياه شغاف قلبها أي غشاءه. { إنا لنراها } أي نظنها { في ضلال مبين } أي خطأ واضح: إذ كيف تحب عبدا وهي من هي في شرفها وعلو مكانتها. قوله تعالى { فلما سمعت بمكرهن } أي ما تحدثن به في غيبتها { أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا } أي فقابلت مكرهن بمكر أعظم منه فأعدت لهن حفلة طعام وشراب فلما أخذن في الأكل يقطعن بالسكاكين الفواكه كالأترج وغيره أمرته أن يخرج عليهن ليرينه فيعجبن برؤيته فيذهلن عن أنفسهن ويقطعن أيديهن بدل الفاكهة التي يقطعنها للأكل وبذلك تكون قد دفعت عن نفسها المعرة والملامة، وهذا ما جاء في قوله تعالى { وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا } أي إنسان من الناس. { إن هذآ إلا ملك } أي ما هذا إلا ملك { كريم } وذلك لجماله وما وهبه الله تعالى من حسن وجمال في خلقه وخلقه. وهنا قالت ما أخبر تعالى به في قوله { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } أي هذا هو الفتي الجميل الذي لمتنني في حبه ومراودته عن نفسه { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } أي راودته فعلا وامتنع عن إجابتي. { ولئن لم يفعل مآ آمره } أي به مما أريده منه { ليسجنن وليكونا من الصاغرين } أي الذليلين المهانين. وهكذا أسمعته تهديدها أمام النسوة المعجبات به. ومن هنا فزع يوسف إلى ربه ليخلصه من مكر هذه المرأة وكيدها فقال ما أخبر تعالى به عنه { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } أي يا رب فلذا عد كلامه هذا سؤالا لربه ودعاء السجن أحب إلي مما يدعونني إليه من الإثم، { وإلا تصرف عني كيدهن } أي كيد النسوة { أصب إليهن } أي أمل إليهن { وأكن } أي بفعل ذلك { من الجاهلين } أي الآثمين بارتكاب معصيتك.
وهذا ما لا أريده وهو مافررت منه { فاستجاب له ربه } أي أجابه في دعائه وصرف عنه كيدهن إنه تعالى هو السميع لأقوال عباده ودعاء عبده وصفيه يوسف عليه السلام العليم بأحوال وأعمال عباده ومنهم عبده يوسف. ولذا استجاب له فطمأنه وأذهب الألم ألم الخوف من نفسه، وله الحمد والمنة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- بيان طبيعة الإنسان في حب الاطلاع وتتبع الأخبار.
2- رغبة الإنسان في الثأر لكرامته، وما يحميه من دم أو مال أو عرض.
3- ضعف النساء أمام الرجال، وعدم قدرتهن على التحمل كالرجال.
4- إيثار يوسف عليه السلام السجن على معصية الله تعالى وهذه مظاهر الصديقية.
5- الجهل بالله تعالى وبأسمائه وصفاته ووعده ووعيده وشرعه هو سبب كل الجرائم في الأرض.
[12.35-38]
شرح الكلمات:
ثم بدا لهم: أي ظهر لهم.
الآيات: أي الدلائل على براءة يوسف.
أعصر خمرا: أي أعصر عنبا ليكون خمرا.
واتبعت ملة: أي دين.
ما كان لنا: أي ما انبغى لنا ولا صح منا.
أن نشرك بالله من شيء: أي أن أشرك بالله شيئا من الشرك وإن قل ولا من الشركاء وإن عظموا أو حقروا.
ذلك من فضل الله علينا: أي ذلك التوحيد والدين الحق.
وعلى الناس: إذ جاءتهم الرسل به ولكنهم ما شكروا فلم يتبعوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن يوسف عليه السلام وما حدث له بعد ظهور براءتة من تهمة امرأة العزيز قال تعالى { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين } أي ثم ظهر للعزيز ومن معه من بعد ما رأوا الدلائل الواضحة على براءة يوسف وذلك كقد القميص من دبر ونطق الطفل وحكمه في القضية بقوله
وإن كان قميصه
[يوسف: 27] الخ وهي أدلة كافية في براءة يوسف إلا أنهم رأوا سجنه إلى حين ما، أي ريثما تسكن النفوس وتنسى الحادثة ولم يبق لها ذكر بين الناس. وقوله تعالى { ودخل معه السجن فتيان } أي فقرروا سجنه وادخلوه السجن ودخل معه فتيان أي خادمان كانا يخدمان ملك البلاد بتهمة وجهت إليهما. وقوله تعالى { قال أحدهمآ إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } وكان هذا الطلب منهما بعد أن أعجبا بسلوكه مع أهل السجن وحسن معاملته وسألاه عن معارفه فأجابهم بأنه يعرف تعبير الرؤيا فعندئذ قالا هيا نجربه فندعي أنا رأينا كذا وكذا وسألاه فأجابهما بما أخبر تعالى به في هذه الآيات: { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } واللفظ محتمل لما يأتيهما في المنام أو اليقظة وهو لما علمه الله تعالى يخبرهما به قبل وصوله إليهما وبما يؤول إليه، وعلل لهما مبينا سبب علمه هذا بقوله { ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } وهم الكنعانيون والمصريون إذ كانوا مشركين يعبدون الشمس وغيرها، تركت ملة الكفر واتبعت ملة الإيمان بالله واليوم الآخر ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم واصل حديثه معهما دعوة لهما إلى الإيمان بالله والدخول في الإسلام فقال { ما كان لنآ } أي ما ينبغي لنا أن نشرك بالله من شيء فنؤمن به ونعبده معه، ثم أخبرهما أن هذا لم يكن باجتهاد منهم ولا باحتيال، وإنما هو من فضل الله تعالى عليهم، فقال ذلك من فضل الله علينا، وعلى الناس إذ خلقهم ورزقهم وكلأهم ودعاهم إلى الهدى وبينه لهم ولكن أكثر الناس لا يشكرون فهم لا يؤمنون ولا يعبدون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- دخل يوسف السجن بداية أحداث ظاهرها محرق وباطنها مشرق.
2- دخول السجن ليس دائما دليلا على أنه بيت المجرمين والمنحرفين إذ دخله صفي لله تعالى يوسف عليه السلام.
3- تعبير الرؤى تابع لصفاء الروح وقوة الفراسة وهي في يوسف علم لدني خاص.
4- استغلال المناسبات للدعوة إلى الله تعالى كما استغلها يوسف عليه السلام.
5- وجوب البراءة من الشرك وأهله.
6- اطلاق لفظ الآباء على الجدود إذ كل واحد هو أب لمن بعده.
[12.39-42]
شرح الكلمات:
يا صاحبي السجن: أي يا صاحبي في السجن وهما الفتيان صاحب طعام الملك وصاحب شرابه.
أأرباب متفرقون: أي آلهة متفرقون هنا وهناك أي في ذواتهم وصفاتهم وأماكنهم.
من دونه: أي من دون الله سبحانه وتعالى.
إلا أسماء: أي مجرد اسم إله، وإلا في الحقيقة هو ليس بإله إنما هو صنم.
ما أنزل الله بها من سلطان: أي لم يأمر الله تعالى بعبادتها بأي نوع من أنواع العبادة.
فيسقي ربه خمرا: أي يسقي سيده الذي هو ملك البلاد شراب الخمر.
فيصلب: يقتل مصلوبا على خشبة كما هي عادة القتل عندهم.
قضي الأمر: أي فرغ منه وبت فيه.
ظن أنه ناج منهما: أي أيقن إنه محكوم ببراءته.
أذكرني عند ربك: أي أذكرني عند الملك بأني مسجون ظلما بدون جريمة.
فأنساه الشيطان ذكر ربه: أي أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه تعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وهو في السجن لقد سبق أن استعبر الفتيان يوسف رؤياهما أي طلبا منه أن يعبرها لهما لما علما منه أنه يعبر الرؤى غير أن يوسف استغل الفرصة وأخذ يحدثهما عن أسباب علمه بتعبير الرؤى وأنه تركه لملة الكفر وإيمانه بالله تعالى وحده وأنه في ذلك متبع ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإنه لا ينبغي لهم أن يشركوا بالله وفي هذا تعريض بما عليه أهل السجن من الشرك بالله تعالى بعبادة الأصنام، وواصل حديثه داعيا إلى الله تعالى فقال ما أخبر به تعالى في هذا السياق { يصاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } فخاطب صاحبيه يا صاحبي السجن أخبراني واصدقاني: آرباب أي آلهة متفرقون هنا وهناك، هذا صنم وهذا كوكب، وهذا إنسان، وهذا حيوان، وهذا لونه كذا وهذا لونه كذا خير أم الله الواحد في ذاته وصفاته القهار لكل ما عداه من سائر المخلوقات، ولم يكن لهم من جواب سوى { الله الواحد القهار } إن العقل يقضي بهذا. ثم خاطب أهل السجن كافة فقال { ما تعبدون من دونه } أي من دون الله الواحد القهار { إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم } إنها مجرد أسماء لا غير إذ كونكم تطلقون لفظ إله أو رب على صنم أو كوكب مرسوم له صورة لا يكون بذلك ربا وإلها إن الرب هو الخالق الرازق المدبر أما المخلوق المرزوق الذي لا يملك نفعا ولا ضرا لنفسه فضلا عن غيره فإطلاق الرب والإله عليه كذب وزور، إنها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان حجة ولا برهانا فتعبد لذلك بحكم أن الله أمر بعبادتها. ثم قال لهم { إن الحكم إلا لله } أي ما الحكم إلا لله، وقد حكم بأن لا يعبد إلا هو، إذا فكل عبادة لغيره هي باطلة يجب تركها والتخلي عنها، ذلك الدين القيم أخبرهم أن عبادة الله وحده وترك عبادة غيره هي الدين القويم والصراط المستقيم إلا أن أكثر الناس لا يعلمون فجهلهم بمعرفة ربهم الحق الذي خلقهم ورزقهم ويدبر حياتهم وإليه مرجعهم هو الذي جعلهم يعبدون ما ينحتون ويؤلهون ما يصنعون.
ولما فرغ من دعوته إلى ربه التفت إلى من طلبا منه تعبير رؤياهما فقال: ما أخبر تعالى به عنه { يصاحبي السجن أمآ أحدكما فيسقي ربه خمرا } أي سيطلق سراحه ويعود إلى عمله عند الملك فيسقيه الخمر كما كان يسقيه من قبل، وأما الآخر وهو طباخ الملك المتهم بأنه أراد أن يضع في طعام الملك السم ليقتله، فيصلب فتأكل الطير من رأسه بعد صلبه. وهنا قالا: إننا لم نر شيئا وإنما سألناك لنجربك لا غير فرد عليهما قائلا { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } أي فرغ منه وبت فيه رأيتما أم لم تريا. ثم قال للذي ظن أنه ناج منهما ما أخبر تعالى به عنه { اذكرني عند ربك } أي عند سيدك وكانوا يطلقون على السيد المالك لفظ الرب. فأنساه الشيطان ذكر ربه أي أنسى الشيطان يوسف عليه السلام ذكر ربه تعالى حيث التفت بقلبه إلى الخادم والملك ونسي الله تعالى فعاقبه ربه الحق فلبث في السجن بضع سنين أي سبع سنوات عدا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب اغتنام الفرص للدعوة إلى الله تعالى.
2- تقرير التوحيد عن طريق أحاديث السابقين.
3- لا حكم في شيء إلا بحكم الله تعالى فالحق ما أحقه الله والباطل ما أبطله والدين ما شرعه.
4- مشروعية الاستفتاء في كل مشكل من الأمور.
5- غفلة يوسف عليه السلام بإقباله على الفتى وقوله له اذكرني عند ربك ناسيا مولاه الحق ووليه الذي أنجاه من القتل وغيابة الجب، وفتنة النساء جعلته يحبس في السجن سبع سنين.
[12.43-46]
شرح الكلمات:
الملك: ملك مصر الذي العزيز وزير من وزرائه واسمه الريان بن الوليد.
سبع عجاف: هزال غير سمان.
يا أيها الملأ: أيها الأشراف والأعيان من رجال الدولة.
أفتوني في رؤياي: أي عبروها لي.
أضغاث أحلام: أي أخلاط أحلام كاذبة لا تعبير لها إلا ذاك.
وادكر بعد أمة: أي وتذكر بعد حين من الزمن أي قرابة سبع سنين.
يوسف أيها الصديق: أي يا يوسف أيها الصديق أي يا كثير الصدق علم ذلك منه في السجن.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وهو في محنته إنه لما قارب الفرج أوانه رأى ملك مصر رؤيا أهالته وطلب من رجال دولته تعبيرها، وهو ما أخبر تعالى به في هذه الآيات إذ قال عز وجل: { وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف } أي مهازيل في غاية الهزال. { وسبع سنبلات خضر وأخر } أي سنبلات يابسات. ثم واجه رجال العلم والدولة حوله وقد جمعهم لذلك فقال { يأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرءيا تعبرون } أي تؤولون. فأجابوه بما أخبر تعالى عنهم بقوله { قالوا أضغاث أحلام } أي رؤياك هذه هي من أضغاث الأحلام التي لا تعبر، إذ قالوا { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } والمراد من الأضغاث الأخلاط وفي الحديث الصحيح
" الرؤيا من الرحمن والحلم من الشيطان "
وقوله تعالى { وقال الذي نجا منهما } أي من صاحبي السجن، { وادكر بعد أمة } أي وتذكر ما أوصاه به يوسف وهو يودعه عند باب السجن إذ قال له
اذكرني عند ربك
[يوسف: 42] بعد حين من الزمن قرابة سبع سنوات. قال ما أخبر تعالى به عنه { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } أي إلى يوسف في السجن فإنه أحسن من يعبر الرؤى فأرسلوه فدخل عليه وقال ما أخبر به تعالى عنه في قوله { يوسف } أي يا يوسف { أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } وقوله { لعلي أرجع إلى الناس } أي الملك ورجاله { لعلهم يعلمون } أي ما تعبرها به أنت فينتفعون بذلك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز الرؤيا الصالحة يراها الكافر والفاسق.
2- الرؤى نوعان حلم من الشيطان، ورؤيا من الرحمن.
3- النسيان من صفات البشر.
4- جواز وصف الإنسان بما فيه من غير إطراء كقوله أيها الصديق.
5- لعل تكون بمعنى كي التعليلية.
[12.47-49]
شرح الكلمات:
دأبا: أي متتابعة على عادتكم.
فذروه في سنبله: أي اتركوه في سنبله لا تدرسوه.
سبع شداد: أي صعاب قاسية لما فيها من الجدب.
بما تحصنون: أي تحفظونه وتدخرونه للبذر والحاجة.
يغاث الناس: أي يغيثهم ربهم بالأمطار وجريان النيل.
وفيه يعصرون: أي ما من شأنه أن يعصر كالزيتون والعنب وقصب السكر.
معنى الآيات:
قوله تعالى { قال تزرعون } إلى آخره هو جواب يوسف للذي استفتاه أي طلب منه تعبير رؤيا الملك قال له في بيان تأويل الرؤيا تزرعون بمعنى ازرعوا سبع سنين دأبا أي متتالية كعادتكم في الزرع كل سنة وهي تأويل السبع البقرات السمان، فما حصدتم من زروع فذروه في سنبله أي اتركوه بدون درس حتى لا يفسد إلا قليلا مما تأكلون أي فادرسوه لذلك. ثم يأتي بعد ذلك أي من بعد المخصبات سبع شداد أي مجدبات صعاب وهي تأويل السبع البقرات العجاف يأكلن ما قدمتم لهن ما قدمتم لهن أي من الحبوب التي احتفظتم بها من السبع المخصبات يريد تأكلونه فيهن إلا قليلا مما تحصنون أي تدخرونه للبذور ونحوه. ثم يأتي بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون أي يأتي من بعد السبع النسين المجدبات عام فيه يغاث الناس بالمطر وفيه يعصرون العنب والزيت وكل ما يعصر لوجود الخصب فيه. وقوله ثم يأتي من بعد ذلك عام الخ. هذا لم تدل عليه الرؤيا وإنما هو مما علمه الله تعالى يوسف فأفادهم به من غير ما سألوه ذلك إحسانا منه ولحكمة عالية أرادها الله تعالى. وهو الحكيم العليم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- أرض مصر أرض فلاحة وزراعة من عهدها الأول.
2- الاحتفاظ بالفائض في الصوامع وغيرها مبدأ اقتصادي هام ومفيد.
3- كمال يوسف في حسن تعبير الرؤى شيء عظيم.
4- فضل يوسف عليه السلام على أهل مصر حيث أفادهم بأكثر مما سألوا.
[12.50-52]
شرح الكلمات:
وقال الملك ائتوني به: أي بيوسف.
فلما جاءه الرسول: أي مبعوث الملك.
ارجع إلى ربك: أي سيدك.
ما بال النسوة: ما حالهن.
ما خطبكن: ما شأنكن.
حاش لله: أي تنزيها لله تعالى عن العجز أن يخلق بشرا عفيفا.
حصص الحق: وضح وظهر الحق.
معنى الآيات:
إن رؤيا الملك كانت تدبيرا من الله تعالى لإخراج يوسف من السجن إنه بعد أن رآى الملك الرؤيا وعجز رجاله عن تعبيرها وتذكر أحد صاحبي السجن وما وصاه به يوسف، وطلب من الملك أن يرسله إلى يوسف في السجن ليستفتيه في الرؤيا وأرسلوه واستفتاه فأفتاه وذهب به إلى الملك فأعجبه التعبير وعرف مدلوله أمر بإحضار يوسف لإكرامه لما ظهر له من العلم والكمال وهو ما أخبر تعالى به في قوله { وقال الملك ائتوني به } أي يوسف { فلما جآءه الرسول } أي جاء يوسف رسول الملك وهو صاحبه الذي كان معه في السجن ونجا من العقوبة وعاد إلى خدمة الملك فقال له إن الملك يدعوك فقال له عد إليه واسأله { ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } أي قل له يسأل عن حال النسوة اللائي قطعن أيديهن والمرأة التي اتهمتني فجمع الملك النسوة وسألهن قائلا ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ فأجبن قائلات حاش لله ما علمنا عليه من سوء أي ننزه الله تعالى أن يعجز أن يخلق بشرا عفيفا مثل هذا. ما علمنا عليه من سوء.
وهنا قالت امرأة العزيز زليخا ما أخبر تعالى به عنها { الآن حصحص الحق } أي وضح وبان وظهر { أنا راودته عن نفسه } وليس هو الذي راودني، { وإنه لمن الصادقين } وقوله تعالى { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } هذا إخبار عن يوسف عليه السلام فإنه قال ذلك أي امتناعي من الخروج من السجن وعدم إجابتي الملك وطلبي إليه أن يسأل عن حال النسوة حتى تم الذي تم من براءتي على لسان النسوة عامة، وامرأة العزيز خاصة حيث اعترفت قطعيا ببراءتي وقررت أنها هي التي راودتني عن نفسي فأبيت ورفضت فعلت هذا ليعلم زوجها العزيز أني لم أخنه في أهله في غيبته وأن عرضه مصان وشرفه لم يدنس لأنه ربي أحسن مثواي. وإن الله لا يهدي كيد الخائنين فلو كنت خائنا ما هداني لمثل هذا الموقف المشرف والذي أصبحت به مبرأ الساحة سليم العرض طاهر الثوب والساحة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل العلم وشرفه إذ به رفع الملك يوسف إلى حضرته وهو رفيع.
2- فضيلة الحلم والأناة وعدم التسرع في الأمور.
3- فضيلة الصدق وقول الحق ولو كان على النفس.
4- شرف زليخا بإقرارها بذنبها رفعها مقاما ساميا وأنزلها درجة عالية فقد تصبح بعد قليل زوجة لصفي الله يوسف الصديق بن الصديق زوجة له في الدنيا وزوجة له في الآخرة وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
[12.53-57]
شرح الكلمات:
لأمارة بالسوء: أي كثيرة الأمر والسوء هو ما يسيء إلى النفس البشرية مثل الذنوب.
إلا ما رحم ربي: أي إلا من رحمه الله فإن نفسه لا تأمر بالسوء لطيبها وطهارتها.
استخلصه لنفسي: أجعله من خلصائي من أهل مشورتي وأسراري.
مكين أمين: أي ذو مكانة تتمكن بها من فعل ما تشاء، أمين مؤتمن على كل شيء عندنا.
خزائن الأرض: أي خزائن الدولة في أرض مصر.
إني حفيظ عليم: أي أحافظ على ما تسنده إلي واحفظه، عليم بتدبيره.
يتبوأ: أي ينزل ويحل حيث يشاء بعد ما كان في غيابة الجب وضيق السجن.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث على يوسف عليه السلام فقوله تعالى: { ومآ أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم } هذا من قول يوسف عليه السلام، إذ قال لما طلب إلى الملك أن يحقق في قضية النسوة اللاتي قطعن أيديهن وامرأة العزيز وتم التحقيق بالإعلان عن براءة يوسف مما اتهم به قال ذلك، أي فعلت ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين . وهضما لنفسه من جهة ومن جهة أخرى فقد هم بضرب زليخا كما تقدم، قال: { ومآ أبرىء نفسي } وعلل لذلك فقال { إن النفس } أي البشرية { لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } إلا نفسا رحمها ربي بتوفيقها إلى تزكيتها وتطهيرها بالإيمان وصالح الأعمال فإنها تصبح نفسا مطمئنة تأمر بالخير وتنهى عن الشر، وقوله: { إن ربي غفور رحيم } ذكر هذه الجملة تعليلا لقوله: { ومآ أبرىء نفسي } فذكر وإن حصل مني هم بضرب وهو سوء فإني تبت إلى الله، والله غفور أي يعفو ويصفح فلا يؤاخذ من تاب إليه ويرحمه فإنه رحيم بالمؤمنين من عباده. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [53] أما الآية الثانية [54] والثالثة [55] فقد تضمنت استدعاء الملك ليوسف وما دار من حديث بينهما إذ قال تعالى: { وقال الملك } الريان بن الوليد { ائتوني به } أي بيوسف بعد أن ظهر له علمه وكماله الروحي { أستخلصه لنفسي } أي أجعله خالصا لي أستشيره في أمري وأستعين به على مهام ملكي وجاء يوسف من السجن وجلس إلى الملك وتحدث معه وسأله عن موضوع سني الخصب والجدب فأجابه بما أثلج صدره من التدابير الحكيمة السديدة وهنا قال له ما أخبر تعالى به قال له: { إنك اليوم لدينا مكين أمين } أي ذو مكانة عندنا تمكنك من التصرف في البلاد كيف تشاء أمين على كل شيء عندنا فأجابه يوسف بما أخبر به تعالى بقوله: { قال اجعلني على خزآئن الأرض } أي أرض مصر ومعنى هذا أنه حل محل العزيز الذي قد مات في تلك الأيام.
وعلل لطلبه وزارة المال والاقتصاد بقوله: { إني حفيظ عليم } أي حفيظ على ما أتولى تدبيره عليم بكيفية الإدارة وتدبير الشؤون. وقوله تعالى في الآية الرابعة [56]: { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشآء } أي بمثل هذه الأسباب والتدابير مكنا ليوسف في أرض مصر يتبوأ منها أي ينزل حيث يشاء يتقلب فيها أخذا وعطاء وإنشاء وتعميرا لأنه أصبح وزيرا مطلق التصرف. وقوله تعالى: { نصيب برحمتنا من نشآء } أي رحمته من عبادنا ولا نضيع أجر المحسنين، وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإحسان بتوفيتهم أجورهم، ويوسف عليه السلام من شاء الله رحمتهم كما هو من أهل الإحسان الذين يوفيهم الله تعالى أجورهم في الدنيا والآخرة، وأخبر تعالى أن أجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون، ترغيبا في الإيمان والتقوى إذ بهما تنال ولاية الله تعالى عز وجل إذ أولياؤه هم المؤمنون المتقون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة هضم النفس باتهامها بالنقص والتقصير.
2- تحقيق الحكمة القائلة: المرء مخبوء تحت لسانه.
3- جواز ذكر المرشح للعمل كحذق الصنعة ونحوه ولا يعد تزكية للنفس.
4- فضيلة الإحسان في المعتقد والقول والعمل.
5- فضل الإيمان والتقوى.
[12.58-62]
شرح الكلمات:
وجاء إخوة يوسف: من أرض كنعان لما بلغهم أن ملك مصر يبيع الطعام.
وهم له منكرون: أي غير عارفين أنه أخوهم.
ولما جهزهم بجهازهم: أي أكرمهم وزودهم بما يحتاجون إليه في سفرهم بعدما كال لهم ما ابتاعوه منه.
بأخ لكم من أبيكم: هو بنيامين لأنه لم يجىء معهم لأن والده لم يقدر على فراقه.
سنراود عنه أباه: أي سنجتهد في طلبه منه.
وقال لفتيانه: أي غلمانه وخدمه.
بضاعتهم: أي دراهمهم التي جاءوا يمتارون بها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن قصة يوسف عليه السلام وتتبع أحداثها، إنه بعد أن ولي يوسف أمر الوزارة ومرت سنوات الخصب وجاءت سنوات الجدب فاحتاج أهل أرض كنعان إلى الطعام كغيرهم فبعث يعقوب عليه السلام بنيه يمتارون وكانوا عشرة رجال بعد أن علم أن ملك مصر يبيع الطعام، قال تعالى مخبرا عن حالهم: { وجآء إخوة يوسف } أي من أرض كنعان { فدخلوا عليه } أي على يوسف { فعرفهم وهم له منكرون } أي لم يعرفوه لتغيره بكبر السن وتغير أحواله وقوله تعالى: { ولما جهزهم بجهازهم } أي كال لهم وحمل لكل واحد بعيره بعد أن أكرمهم غاية الإكرام { قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم } ولا شك أنه قد سألهم عن أحوالهم فأخبروه عن أبيهم وأولاده بالتفصيل فلذا قال لهم { ائتوني بأخ لكم من أبيكم } وهو بنيامين ورغبهم في ذلك بقوله: { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } أي خير المضيفين لمن نزل عليهم { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون }. بعد هذا الإلحاح عليهم أجابوه بما أخبر تعالى به عنهم بقوله: { قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون } أي سنبذل جهدنا في طلبه حتى نأتي به، { وإنا لفاعلون } كما أخبرناك.
وقوله تعالى: { وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } يخبر تعالى عن قيل يوسف لغلمانه اجعلوا دراهمهم التي اشتروا بها الطعام في رحالهم من حيث لا يشعرون { لعلهم يعرفونهآ إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون } كل هذا كان رغبة من يوسف في إحضار أخيه الشقيق فجعل رد الدراهم وسيلة لذلك لأنهم إذا وجدوها تحرجوا من أخذها فرجعوا بها. وجاءوا بأخيهم معهم، وهو مطلب يوسف عليه السلام حققه الله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عجيب تدبير الله تعالى إذ رؤيا الملك وتعبير يوسف لها وظهورها كما عبرها كان تدبيرا لولاية يوسف ثم لمجيء إخوته يطلبون الطعام لأهليهم ولتتم سلسلة الأحداث الآتية، فلا إله إلا الله، ولا رب سواه.
2- حسن تدبير يوسف عليه السلام للإتيان بأخيه بنيامين تمهيدا للإتيان بالأسرة كلها.
3- أثر الإيمان في السلوك، إذ عرف يوسف أن أخوته لا يستحلون أكل مال بغير حقه فجعل الدراهم في رحالهم ليرجعوا بها ومعهم أخوهم الذي يريد إحضاره.
[12.63-67]
شرح الكلمات:
منع منا الكيل: أي منع الملك منا الكيل حتى نأتيه بأخينا.
نكتل: أي نحصل على الكيل المطلوب.
على أخيه من قبل: أي كما أمنتكم على يوسف من قبل وقد فرطتم فيه.
ما نبغي: أي أي شيء نبغي.
ونزداد كيل بعير: أي بدل ما كنا عشرة نصبح أحد عشر لكل واحد حمل بعير.
ذلك كيل يسير: أي على الملك لغناه وطوله فلا يضره أن يزيدنا حمل بعير.
موثقا: أي عهدا مؤكدا باليمين.
إلا أن يحاط بكم: أي تهلكوا عن آخركم.
من شيء: أي أراد الله خلافه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وإخوته قال تعالى مخبرا عن رجوع إخوة يوسف من مصر إلى أرض كنعان بفلسطين: { فلما رجعوا إلى أبيهم } أي يعقوب عليه السلام { قالوا يأبانا منع منا الكيل } أي منع منا ملك مصر الكيل إلا أن نأتي بأخينا بنيامين { فأرسل معنآ أخانا نكتل وإنا له لحافظون } أن يناله مكروه بحال من الأحوال. فأجابهم يعقوب عليه السلام بما أخبر تعالى عنه بقوله: { قال هل آمنكم عليه } أي ما آمنكم عليه { إلا كمآ أمنتكم على أخيه من قبل } يعني يوسف لما ذهبوا به إلى البادية. { فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين } جرى هذا الحديث بينهم عند وصولهم وقبل فتح أمتعتهم، وأما بعد فتحها فقد قالوا ما أخبر تعالى به في قوله: { ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم } أي دراهمهم { ردت إليهم قالوا يأبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا } أي فأرسل معنا أخانا نذهب به إلى مصر { ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير } لأن الملك المصري لا يبيع للنفر الواحد إلا حمل بعير نظرا لحاجة الناس إلى الطعام في هذه السنوات الصعبة للجدب العام في البلاد. فأجابهم يعقوب بما قال تعالى عنه { قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله } أي حتى تعطوني عهدا مؤكدا باليمين على أن تأتوني به { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } بعدو ونحوه فتهلكوا جميعا فأعطوه ما طلب منهم من عهد وميثاق، قال تعالى: { فلمآ آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل } أي شهيد علي وعليكم، أي فأشهد الله تعالى على عهدهم. ولما أرادوا السفر إلى مصر حملته العاطفة الأبوية والرحمة الإيمانية على أن قال لهم من ما أخبر تعالى عنه: { وقال يبني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } أي لا تدخلوا وأنتم أحد عشر رجلا من باب واحد فتسرع إليكم العين، وإنما ادخلوا من عدة أبواب فلا ترون جماعة واحدة أبناء رجل واحد فلا تصيبكم عين الحاسدين ثم قال: { ومآ أغني عنكم من الله من شيء } ، وهو كذلك { إن الحكم إلا لله } فما شاءه كان: { عليه توكلت } أي فوضت أمري إليه { وعليه فليتوكل المتوكلون } أي فليفوض إليه المتوكلون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مدى توكل يعقوب عليه السلام على الله وثقته في ربه عز وجل، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وكيف لا وهو أحد أنبياء الله ورسله عليهم السلام.
2- جواز أخذ العهد المؤكد في الأمور الهامة ولو على أقرب الناس كالأبناء مثلا.
3- لا بأس بتخوف المؤمن من إصابة العين وأخذ الحيطة للوقاية منها مع اعتقاد أن ذلك لا يغني من الله شيئا وأن الحكم لله وحده في خلقه لا شريك له في ذلك.
4- وجوب التوكل على الله تعالى وإمضاء العمل الذي تعين وتفويض أمر ما يحدث لله تعالى.
[12.68-72]
شرح الكلمات:
إلا حاجة في نفس يعقوب: هي إرادة دفع العين عن أولاده شفقة عليهم.
آوى إليه أخاه: أي ضمه إليه أثناء الأكل وأثناء المبيت.
فلا تبتئس: أي لا تحزن.
جعل السقاية: أي صاع الملك وهو من ذهب كان يشرب فيه ثم جعله مكيالا يكيل به.
أذن مؤذن: نادى مناد.
أيتها العير: أي القافلة.
صواع الملك: أي صاع الملك. فالصاع والصواع بمعنى واحد.
وأنا به زعيم: أي بالحمل كفيل.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن إخوة يوسف فقد عهد إليهم إذا هم وصلوا إلى ديار مصر أن لا يدخلوا من باب واحد بل من أبواب متعددة خشية العين عليهم، وقد وصلوا وعملوا بوصية أبيهم فقد قال تعالى مخبرا عنهم { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم } أي دخولهم من أبواب متفرقة { من الله } أي من قضائه { من شيء إلا حاجة } أي لكن حاجة { في نفس يعقوب } وهي خوف العين عليهم { قضاها } أي لا غير.
وقوله تعلى: { وإنه لذو علم لما علمناه } ثناء على يعقوب أي إنه لصاحب علم وعمل لتعليمنا إياه وقوله: { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } هو كما أخبر عز وجل أكثر الناس لا يعلمون عن الله تعالى صفات جلاله وكماله ومحابه ومساخطه وأبواب الوصول إلى مرضاته والحصول على رضاه ومحبته، وما يتقي مما يحرم على العبد من ذلك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [68].
أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى أن إخوة يوسف لما دخلوا عليه في منزله آوى إليه أخاه أي شقيقه وهو بنيامين، وذلك لما جاء وقت النوم جعل كل اثنين في غرفة وهم أحد عشر رجلا بقي بنيامين فقال هذا ينام معي، وأنه لما آواه إليه في فراشه أعلمه أنه أخوه يوسف، وأعلمه أن لا يحزن بسبب ما كان إخوته قد عملوه مع أبيهم ومع أخيهم يوسف وأعلمه أنه سيحتال على بقائه معه فلا يكترث بذلك ولا يخبر إخوته بشيء من هذا. هذا ما دلت عليه الآية الثانية وهي قوله تعالى: { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون }.
أما الآية الثالثة [70] فقد تضمنت الإخبار عن تدبير يوسف لبقاء أخيه معه دونهم وذلك أنه لما جهزهم بجهازهم أي كال لهم الطعام وزودهم بما يحتاجون إليه بعد إكرامه لهم جعل بطريق خفي لم يشعروا به سقاية الملك وهي الصاع أو الصواع وهي عبارة عن إناء من ذهب كان يشرب فيه ثم جعل آلة كيل خاصة بالملك عرفت بصواع الملك أو صاعه. جعلها في رحل أخيه بنيامين.
ثم لما تحركت القافلة وسارت خطوات نادى مناد قائلا أيتها العير أي يا أهل القافلة إنكم لسارقون. هذا ما تضمنته الآية الكريمة إذ قال تعالى: { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون }. قال تعالى إخبارا عنهم: { قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون } فأجابوا بقولهم: { نفقد صواع الملك ولمن جآء به حمل بعير } أي مكافأة له { وأنا به زعيم } أي وأنا بإعطائه حمل البعير كفيل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل العلم وأهله.
2- تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس لا يعلمون.
3- حسن تدبير يوسف للإبقاء على أخيه معه بعد ذهاب إخوته.
4- مشروعية إعطاء المكافآت لمن يقوم بعمل معين وهي الجعالة في الفقه.
5- مشروعية الكفالة والكفيل غارم.
[12.73-76]
شرح الكلمات:
تالله : أي والله.
لنفسد في الأرض: أي بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.
وما كنا سارقين: أي لم نسرق الصواع كما أنا لم نسرق من قبل متاع أحد.
من وجد في رحله فهو جزاؤه: أي يأخذ بالسرقة رقيقا.
كذلك نجزي الظالمين: أي في شريعتنا.
في وعاء أخيه: أي في وعاء أخيه الموجود في رحله.
كذلك كدنا ليوسف: أي يسرنا له هذا الكيد الذي توصل به إلى أمر محمود.
في دين الملك: أي في شرعه إذ كان يضرب السارق ويغرم بمثل ما سرق.
نرفع درجات من نشاء: أي كما رفع يوسف عليه السلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن يوسف وإخوته، إنه لما أعلن عن سرقة صواع الملك وأوقفت القافلة للتفتيش، وأعلن عن الجائزة لمن يأتي بالصواع وأنها مضمونة هنا قال إخوة يوسف ما أخبر تعالى به عنهم: { قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض } أي بالسرقة وغشيان الذنوب وإنما جئنا للميرة { وما كنا سارقين } أي في يوم من الأيام، وهنا قال رجال الملك ردا على مقاتلهم بما أخبر تعالى به: { قالوا فما جزآؤه إن كنتم كاذبين } فأجاب الإخوة بما أخبر تعالى عنهم بقوله: { قالوا جزآؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } يريدون أن السارق يسترق أي يملك بالسرقة وقوله { كذلك نجزي الظالمين } أي في شريعتنا. وهنا أخذ يوسف بنفسه يفتش أوعية إخوته بحثا عن الصواع، وبدأ بأوعيتهم واحدا بعد واحد وآخر وعاء وعاء أخيه بنيامين دفعا للتهمة والتواطؤ في القضية، حتى استخرجها من وعاء أخيه الذي كان في رحله، هذا ما دل عليه قوله تعالى: { فبدأ بأوعيتهم قبل وعآء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه } وقوله تعالى: { كذلك كدنا ليوسف } أي هكذا يسرنا له هذا الكيد الذي توصل به إلى أمر محمود غير مذموم. وقوله تعالى: { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي لم يكن في شرع مصر أن يأخذ أخاه عبدا بالسرقة بل السارق يضرب ويغرم فقط، { إلا أن يشآء الله } أمرا فإنه يكون. وقوله تعالى: { نرفع درجات من نشآء } أي في العلم كما رفعنا يوسف { وفوق كل ذي علم } من الناس { عليم } إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فهو العليم الذي لا أعلم منه بل العلم كله له ومنه ولولاه لما علم أحد شيئا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز الحلف بالله تعالى للحاجة.
2- مشروعية دفع التهمة عن النفس البريئة.
3- معرفة حكم السرقة في شرعة يعقوب عليه السلام.
4- بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه.
5- بيان حكم السرقة في القانون المصري على عهد يوسف عليه السلام.
6- علو مقام يوسف عليه السلام في العلم.
7- تقرير قاعدة (وفوق كل ذي علم عليم): إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى.
[12.77-79]
شرح الكلمات:
إن يسرق: أي يأخذ الصواع خفية من حرزه.
فقد سرق أخ له: أي يوسف في صباه.
فأسرها يوسف: أي أخفى هذه التهمة في نفسه.
ولم يبدها لهم: أي لم يظهرها لهم.
أنتم شر مكانا: أي منزلة ممن رميتموه بالسرقة.
بما تصفون: أي بحقيقة ما تصفون أي تذكرون.
أبا شيخا كبيرا: أي يعقوب عليه السلام.
معاذ الله: أي نعوذ بالله من أن نأخذ من لم نجد متاعنا عنده.
متاعنا: أي الصواع.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث مع يوسف عليه السلام وإخوته، إنه بعد أن استخرج يوسف الصواع من متاع أخيه وتقرر ظاهرا أن بينامين قد سرق، قال إخوته ما أخبر به تعالى عنهم في قوله: { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } أي إن يكن بنيامين قد سرق كما قررتم فلا عجب فقد سرق أخ له من قبل يعنون يوسف أيام صباه، كان يسرق الطعام ويعطيه للمساكين وسرق صنما لأبي أمه فكسره حتى لا يعبده، وليس هذا من السرقة المحرمة ولا المذمومة بل هي محمودة. وقوله تعالى { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } أي أسر يوسف قولتهم { فقد سرق أخ له من قبل } ولم يظهرها لهم وقال ردا لقولتهم الخاطئة: { أنتم شر مكانا } أي شر منزلة ممن رميتموه بالسرقة { والله أعلم بما تصفون } أي بحقيقة ما تذكرون. ولما سمعوا قول يوسف وكان فيه نوع من الصرامة والشدة قالوا مستعطفين يوسف مسترحمينه بما حكى الله تعالى عنهم في قوله: { قالوا يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا } أي لأخينا والدا كبير السن يعز عليه فراقه ولا يطيقه. { فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين } أي واحدا منا بدلا عنه ومثلك يفعل ذلك لأنه إحسان وأنت من المحسنين. فأجابهم بما أخبر تعالى به في قوله: { قال معاذ الله } أي نعوذ بالله { أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنآ إذا لظالمون } أي إذا أخذنا من لم يجن ونترك من جنى أي سرق فقد كنا بذلك ظالمين وهذا ما لا نرضاه ولا نوافق عليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاعتذار عن الخطأ.
2- قد يضطر الحليم إلى أن يقول ما لم يكن يقوله لولا ما ووجه به من السوء.
3- مشروعية الاسترحام والاستعطاف لمن احتاج إلى ذلك رجاء أن يرحم ويعطف عليه.
4- حرمة ترك الجاني وأخذ غيره بدلا منه إذ هذا من الظلم المحرم.
[12.80-84]
شرح الكلمات:
خلصوا نجيا: أي اعتزلوا يناجي بعضهم بعضا.
أخذ عليكم موثقا: أي عهدا وميثاقا لتأتن به إلا أن يحاط بكم.
ومن قبل ما فرطتم: أي ومن قبل إضاعتكم لبنيامين فرضتم في يوسف كذلك.
فلن أبرح الأرض: أي لن أفارق الأرض، أي أرض مصر.
وما كنا للغيب حافظين: أي لما غاب عنا ولم نعرفه حافظين.
العير التي أقبلنا فيها: أي أصحاب القافلة التي جئنا معها وهم قوم كنعانيون.
سولت لكم أنفسكم: أي زينت وحسنت لكم أمرا ففعلتموه.
أن يأتيني بهم جميعا: أي بيوسف وأخويه بنيامين وروبيل.
وتولى عنهم: أي معرضا عن حديثهم.
وقال يا أسفى: أي يا حزني أحضر هذا أوان حضورك.
فهو كظيم: أي مغموم مكروب لا يظهر كربه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث على قصة يوسف وإخوته، إنه بعد أن أخذ يوسف أخاه بالسرقة ولم يقبل استرحامهم له بأخذ غيره بدلا عنه انحازوا ناحية يفكرون في أمرهم وهو ما أخبر به تعالى عنه في قوله: { فلما استيأسوا } أي يئسوا { خلصوا نجيا } أي اعتزلوا يتناجون في قضيتهم { قال كبيرهم } وهو روبيل مخاطبا إياهم { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا } يذكرهم بالميثاق الذي أخذه يعقوب عليهم لما طلبوا منه أن يرسل معهم بنيامين لأن عزيز مصر طلبه. { ومن قبل ما فرطتم في يوسف } أي وذكرهم بتفريطهم في يوسف يوم ألقوه في غيابة الجب وباعوه بعد خروجه من الجب. ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به: { فلن أبرح الأرض } أي أرض مصر حتى يأذن لي أبي بالرجوع إليه { أو يحكم الله لي } بما هو خير { وهو خير الحاكمين }.
ولما أقنعهم بتخلفه عنهم أخذ يرشدهم إلى ما يقولونه لوالدهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله عنه: { ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يأبانا إن ابنك سرق وما شهدنآ إلا بما علمنا } أي حيث رأينا الصواع يستخرج من رحل أخينا { وما كنا للغيب حافظين } أي ولو كنا نعلم أن أخانا يحدث له هذا الذي حدث ما أخذناه معنا. كما أننا ما شهدنا بأن السارق يؤخذ بالسرقة إلا بما علمنا منك { وسئل القرية التي كنا فيها } وهي عاصمة مصر { والعير التي أقبلنا فيها } إذ فيها كنعانيون من جيرانك { وإنا لصادقون } في كل ما أخبرناك به. هذا ما أرشد به روبيل إخوته، ولما ذهبوا به واجتمعوا بأبيهم وحدثوه بما علمهم روبيل أن يقولوه فقالوه لأبيهم. رد عليهم يعقوب عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه في قوله: { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا } أي زينت لكم أنفسكم أمرا ففعلتموه { فصبر جميل } أي فصبري على ما أصابني صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد غير الله { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } أي يوسف وبنيامين وروبيل { إنه هو العليم } بفقري إليه وحاجتي عنده { الحكيم } في تدبيره لأوليائه وصالحي عباده { وتولى عنهم } أي أعرض عن مخاطبتهم { وقال يأسفى } أي يا أسفي وشدة حزني أحضر فهذا أوان حضورك { على يوسف } قال تعالى مخبرا عن حاله بعد ذلك { وابيضت عيناه من الحزن } فغلب بياضهما على سوادهما ومعنى هذا أنه فقد الإبصار بما أصاب عينيه من البياض.
{ فهو كظيم } أي ممتلىء من الهم والكرب والحزن مكظوم لا يبثه لأحد ولا يشكوه لغير ربه تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية المناجاة للتشاور في الأمر الهام.
2- مشروعية التذكير بالالتزامات والعهود والمحافظة على ذلك.
3- قد يغلب الحياء على المؤمن فيمنعه من أمور هي خير له.
4- مشروعية النصح وتزويد المنصوح له بما يقوله ويعمله.
5- جواز اتهام البريء لملابسات أو تهمة سابقة.
6- إظهار التأسف والحزن والشكوى لله تعالى.
[12.85-88]
شرح الكلمات:
تالله تفتؤا تذكر: أي والله لا تزال تذكر يوسف.
حرضا: أي مشرفا على الهلاك لطول مرضك.
أشكو بثي: أي عظيم حزني إذ البث الذي لا يصبر عليه حتى يبث إلى الغير.
فتحسسوا: أي اطلبوا خبرهما بلطف حتى تصلوا إلى النتيجة.
من روح الله: أي من رحمة الله.
ببضاعة مزجاة: أي بدراهم مدفوعة لا يقبلها الناس لرداءتها.
يجزي المتصدقين: أي يثيب المتصدقين بثواب الدنيا والآخرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق فيما جرى من حديث بين يعقوب عليه السلام وبنيه أنه بعدما ذكروا له ما جرى لهم في مصر أعرض عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم. قالوا له ما أخبر به تعالى في قوله: { قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف } أي والله لا تزال تذكر يوسف حتى تصبح حرضا مشرفا على الموت أو تكون من الهالكين أي الميتين. أجابهم بما أخبر تعالى به عنه: { قال إنمآ أشكو بثي } أي همي { وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون } يريد أن رجاءه في الله كبير وأن الله لا يخيب رجاءه وأن رؤيا يوسف صادقة وأن الله تعالى سيجمع شمله به ويسجد له كما رأى. ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به: { يبني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } أي التمسوا أخبارهما بحواسكم بالسؤال عنهما والنظر إليهما، { ولا تيأسوا من روح الله } أي لا تقنطوا من فرج الله ورحمته وعلل للنهي فقال: { إنه لا ييأس من روح الله } أي من فرجه ورحمته { إلا القوم الكافرون }.
وامتثل الأبناء أمر الوالد وذهبوا إلى مصر وانتهوا إليها ونزلوا بها وأتوا الى دار العزيز { فلما دخلوا عليه قالوا } ما أخبر تعالى به عنهم { يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر } أي من الجدب والقحط والمجاعة { وجئنا ببضاعة مزجاة } أي دراهم رديئة مدفوعة لا تقبل كما تقبل الجيدة منها { فأوف لنا الكيل } بها { وتصدق علينآ } بقبولها على رداءتها { إن الله يجزي المتصدقين } أي يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به خيرا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شدة الحزن تعرض صاحبها للحرض أو الموت.
2- تحرم الشكوى لغير الله عز وجل.
3- حرمة اليأس من الفرج عند الشدة والرحمة عند العذاب.
4- جواز الشكوى إذا كان المراد بها الكشف عن الحال للاصلاح أو العلاج كأن يقول المحتاج إني جائع أو عار مثلا وكأن يقول المريض للطبيب أشكوا ألما في بطني أو رأسي مثلا.
5- فضل الصدقة وثواب المتصدقين.
[12.89-93]
شرح الكلمات:
إذ أنتم جاهلون: أي لا تعلمون ما يؤول إليه أمر يوسف.
قد من الله علينا: أي أنعم علينا بأن جمع بيننا بعد افتراق طويل أنتم سببه.
من يتق ويصبر: أي يتق الله فيخافه فلا يعصيه ويصبر على ما يناله من وصب ونصب.
لقد آثرك الله علينا: أي فضلك علينا بما من عليك من الإنعام والكمال.
لا تثريب عليكم: أي لا عتب عليكم ولا لوم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث مع يوسف وإخوته، إنه لما وصلوا إليه من أرض كنعان بأمر والدهم وشكوا إليه ما هم فيه من ضيق الحال إذ قالوا له: قد مسنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة، لما سمع منهم ذلك رق قلبه وارفضت عيناه بالدموع وأراد أن ينهي التكتم الذي كان عليه وهو إخفاء حاله عليهم فقال لهم: { قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } ذكرهم بما صنعوا به من إلقائه في الجب وبيعه عبدا وبذلك فرقوا بينه وبين والده وأخيه شقيقه وقوله: { إذ أنتم جاهلون } أي بما يصير إليه أمر يوسف وهنا قالوا في اندهاش وتعجب: { أءنك لأنت يوسف } فأجابهم قائلا بما أخبر تعالى به عنه { قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينآ } أي أنعم علينا فجمع بيننا على أحسن حال ثم قال: { إنه من يتق ويصبر } أي يتق الله يخافه فيقيم فرائضه ويتجنب نواهيه ويصبر على ذلك وعلى ما يبتليه به { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } أي في طاعة ربهم والإسلام له ظاهرا وباطنا. وهنا قالوا له ما أخبر به تعالى عنهم: { قالوا تالله لقد آثرك الله علينا } أي بالعلم والعمل والفضل { وإن كنا لخاطئين } فيما فعلنا بك، فكان هذا توبة منهم فقال لهم: { لا تثريب عليكم اليوم } أي لا عتب ولا لوم ولا ذكر لما صنعتم لأنه يؤذي { يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } سأل الله تعالى له ولهم المغفرة وأثنى على الله تعالى بأنه أرحم الراحمين متعرضا لرحمته تعالى له ولإخوته. ثم سألهم عن والده فأخبروه أنه قد عمي من الحزن عليه فقال: { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا } أي يرجع بصيرا كما كان { وأتوني بأهلكم أجمعين } يريد أبويه والنساء والأطفال والأحفاد. وهو تحول كامل للأسرة الشريفة من أرض كنعان إلى أرض مصر تدبيرا من الله العزيز الحكيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن المعاصي لن تكون إلا نتيجة للجهل بالله تعالى وجلاله وشرائعه ووعده ووعيده.
2- فضل التقوى والصبر وما لهما من حسن العاقبة.
3- فضل الصفح والعفو وترك عتاب القريب إذا أساء.
[12.94-100]
شرح الكلمات:
ولما فصلت العير: أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى أرض فلسطين.
إني لأجد ريح يوسف: أشتمها لأن الريح حملتها إليه بأمر الله تعالى.
لولا أن تفندون: أي تسفهون، لصدقتموني فإني وجدت ريح يوسف.
إنك لفي ضلالك القديم: أي خطإك بإفراطك في حب يوسف.
فلما أن جاء البشير: هو يهودا الذي حمل إليه القميص الملطخ بالدم الكذب.
فارتد بصيرا: أي رجع بصيرا.
سوف استغفر لكم ربي: أجل الاستغفار لهم إلى آخر الليل أو إلى ليلة الجمعة.
على العرش: أي السرير.
وخروا له سجدا: أي سجدو له تحية وتعظيما.
من البدو: أي البادية، بادية الشام.
من بعد أن نزغ: أي أفسد.
لطيف لما يشاء: أي لطيف في تدبيره لمن يشاء من عباده كما لطف بيوسف.
معنى الآيات:
هذه أواخر قصة يوسف عليه السلام، إنه بعد أن بعث بقميصه إلى والده وحمله أخوه يهودا ضمن القافلة المتجهة إلى أرض كنعان، ولما فصلت العير من عريش مصر حملت ريح الصبا ريح يوسف إلى أبيه قال: { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } أي تسفهون لصدقتموني فإني أجدها فقال الحاضرون مجلسه من أفراد الأسرة والذين لم يعلموا بخبر يوسف بمصر قالوا له: { إنك لفي ضلالك القديم } أي من خطإك بإفراطك في حب يوسف. وواصلت العير سيرها وبعد أيام وصلت وجاء يهودا يحمل القميص فألقاه على وجه يعقوب فارتد بصيرا كما أخبر يوسف إخوته بمصر. وهنا واجه أبناءه بالخطاب الذي أخبر تعالى به في قوله: { قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون } أي أعلم من لطف الله وحسن تدبيره ورحمته وإفضاله ما لا تعلمون. وهنا طلبوا من والدهم أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ربهم فقالوا ما أخبر تعالى به: { قالوا يأبانا استغفر لنا ذنوبنآ إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم }. أجل لهم طلب المغفرة إلى ساعة الاستجابة كآخر الليل وقت السحر أو يوم الجمعة. وتنفيذا لأمر يوسف إخوته بأن يأتوه بأهلهم أجمعين تحملت الأسرة بسائر أفرادها مهاجرين إلى مصر. وكان يوسف وملك مصر وألوف من رجال الدولة وأعيان البلاد في استقبالهم، وكان يوسف قد ضربت له خيمة أو فسطاط، ووصلت المهاجرة إلى مشارف الديار المصرية وكان يوسف في فسطاطه { فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه } أي ضمهما إلى موكبه { وقال ادخلوا مصر إن شآء الله آمنين } ولما انتهوا إلى القصر ودخلوا { ورفع } يوسف { أبويه } أمه وأباه { على العرش } سرير الملك { وخروا له سجدا } تحية وتشريفا. وهنا قال يوسف { يأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا } إذ رأى في صباه أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رآهم له ساجدين.
وقوله { وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجآء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } هذا ثناء على الله بنعمه وتذكير للحاضرين بالحادثة والطاف الله تعالى فيها. ومن كرم نفس يوسف وسمو آدابه لم يقل قد أحسن بي إذ أخرجني من الجب فيذكرهم بما يؤلمهم بل قال من السجن. ويعني بقوله وجاء بكم من البدو أي من أرض كنعان. ونسب الإساءة التي كانت من إخوته إلى الشيطان تلطيفا للجو ومبالغة في إذهاب الهم من نفس إخوته، وختم حديث النعمة في أعظم فرحة { إن ربي لطيف لما يشآء إنه هو العليم } أي بخلقه { الحكيم } في تدبيره وصنعه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- آية عظيمة هي حمل الريح ريح يوسف على مسافات بعيدة.
2- آية أخرى هي ارتداد بصر يعقوب بعد العمى بمجرد أن ألقي القميص على وجهه.
3- كرم يعقوب وحسن عفوه وصفحه على أولاده إذ استغفر لهم ربهم فغفر لهم.
4- مشروعية الخروج خارج المدينة لاستقبال أهل الكمال والفضل كالحجاج مثلا.
5- صدق رؤيا يوسف عليه السلام إذ تمت حرفيا فجلس يوسف على عرشه وخر له أبواه وإخوته ساجدين.
6- قد يتأخر تأويل الرؤيا عشرات السنين إذ تأخرت رؤيا يوسف أربعين سنة.
7- تجليات الألطاف الإلهية والرحمات الربانية في هذه القصة في مظاهر عجيبة.
[12.101]
شرح الكلمات:
رب: أي يا رب خالقي ورازقي ومالك أمري ومعبودي الذي ليس لي معبود سواه.
من الملك: أي من بعض الملك إذ أصبح ملكا لمصر فقط.
تأويل الأحاديث: تعبير الرؤا.
فاطر السماوات والأرض: أي خالقهما على غير مثال سابق.
أنت ولي: أي متولي أمري في الحياتين الدنيا والآخرة.
معنى الآية الكريمة:
هذا آخر الحديث عن قصة يوسف، إنه بعد أن جمع الله تعالى شمله بكافة أفراد أسرته وفتح عليه من خزائن رحمته ما فتح، وانقلبت الإحراقات: إحراقات الإلقاء في الجب، والبيع رقيقا بثمن بخس، وفتنة امرأة العزيز، والسجن سبع سنين؛ انقلبت إلى اشراقات ملكا ودولة، عزا ورفعة، مالا وثراء، اجتماعا ووئاما، وفوق ذلك العلم اللدني والوحي الإلهي وتأويل الأحاديث. وبعد أن قبض الله تعالى والده وتاب على إخوته وهيأهم للنبوة ونبأهم. تاقت نفس يوسف إلى الملكوت الأعلى إلى الجيرة الصالحة إلى رفقة الأخيار آبائه الأطهار إبراهيم وإسحاق ويعقوب رفع يديه إلى ربه وقال: { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموت والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفنى مسلما وألحقني بالصالحين } واستجاب الله تعالى دعاءه فلم يلبث إلا قليلا حتى وافاه الأجل فارتحل والتحق بأبائه وصالحي إخوانه فسلام عليه وعليهم وعلى كل صالح في الأرض والسماء، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- مشروعية دعاء الله تعالى والتوسل إليه بأسمائه وصفاته.
2- مشروعية العزوف عن الدنيا والرغبة عنها عند حصولها والتمكن منها.
3- فضل الشوق إلى الله والحنين إلى رفقة الصالحين في الملكوت الأعلى.
4- مشروعية سؤال الموت إن لم يكن لضر أو ملل من العبادة، أو رغبة في الراحة لحديث
" لا يسألن أحدكم الموت لضر نزل به "
وهو صحيح. ولكن شوقا إلى الله تعالى والالتحاق بالصالحين. عزوفا عن هذه الدار وشوقا إلى الأخرى دار السلام.
[12.102-106]
شرح الكلمات:
ذلك: إشارة إلى ما قص تعالى على رسوله من قصة يوسف وإخوته.
من أنباء الغيب: أي أخبار الغيب.
وما كنت لديهم: أي لدى إخوة يوسف.
إذ أجمعوا أمرهم: أي اتفقوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب.
وهم يمكرون: أي يحتالون على إخراجه وإلقائه في الجب.
عليه من أجر: أي على القرآن وإبلاغه من ثواب أي مال.
إن هو إلا ذكر: أي ما هو إلا ذكر أي موعظة يتعظ بها المؤمنون.
معنى الآيات:
بعد ما قص تعالى على رسوله بواسطة الوحي قصة يوسف وإخوته وهي من الغيب المحض إذ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قومه من العرب يعرفون عن هذه الأحداث التاريخية شيئا، لا سيما وأن بعض هذه الأنباء تم في ظلام الليل وبعضها في ظلام البئر وبعضها وراء الستور، وبعضها في طبقات السجون وبعضها في قصور الملوك وبعضها في الحضر وبعضها في البدو، وبعد تطاول الزمن وتقادم العصور. بعد أن قص ما قص قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: { ذلك من أنبآء الغيب } أي من أخبار الغيب { نوحيه إليك } أي نعلمك به بطريق الوحي { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } ويؤكد وحيه إليه بذلك فيقول، وما كنت لدى إخوة يوسف في الوقت الذي أجمعوا فيه أمرهم على التخلص من يوسف بأي ثمن وهم يحتالون على إخراجه من بين يدي أبويه ليلقوه في غيابة الجب تخلصا منه حيث رأوا أنه حجب عنهم وجه أبيهم وذهب بعطفه وحنانه دونهم. وقوله تعالى: { ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } يخبره تعالى أن الإيمان بك وبما جئت به من الوحي والتوحيد والبعث الآخر مثل هذا القصص كاف في التدليل على صحة نبوتك وعلى وجوب الإيمان بما جئت به وتدعو إليه ومع هذا فأكثر الناس ولو حرصت على إيمانهم ما هم بمؤمنين، ولذلك عوامل من أبرزها أن الإيمان يتعارض مع ما ألفوا من الباطل والشر والفساد، لا سيما شهواتهم وأغراضهم الدنيوية ومن قبل ذلك أن من كتب الله شقاءه لا يؤمن بحال، ولذا فلا تحزن ولا تكرب، وقوله تعالى: { وما تسألهم عليه من أجر } أي على هذا القرآن وإبلاغه إليهم من مال إذ لو كنت سائلهم أجرا على قراءتك عليهم وإبلاغك لهم لكان ذلك مانعا من قبول ما تدعوهم إليه، ولكن ما دام ذلك يقدم لهم مجانا فلا معنى لعدم إيمانهم إلا ما كتب الله من خسرانهم فهم عاملون للوصول إليه.
وقوله تعالى: { إن هو إلا ذكر للعالمين } أي ما هذا القرآن وما يحمله من هدى ونور وقراءتك له إلا ذكرى أي موعظة يتعظ بها من يسمعها من أهل البصيرة والإيمان من العالمين من هيأهم الله تعالى للسعادة والكمال، وقوله تعالى: { وكأين من آية في السماوات والأرض } أي وكثير من الآيات الدالة على الله وعلى وجوب عبادته وتوحيده فيها في السماوات كالشمس والقمر والكواكب والسحب والأمطار، والأرض كالجبال والأنهار والأشجار والمخلوقات المختلفة يمرون عليها صباح مساء وهم معرضون غير ملتفتين إليها ولا متفكرين فيها فلذا هم لا يؤمنون ولا يهتدون.
وقوله تعالى في الآية الأخيرة [106] { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } يخبر تعالى رسوله أن من يدعوهم إلى الإيمان به وبما جاء به ما يؤمن أكثرهم بالله ربا خالقا رازقا إلا وهم مشركون به أصناما وأوثانا يعبدونها وهي حقيقة قائمة لو سئل يهودي أو نصراني عن الخالق الرازق المحيي المميت المدبر للكون لقال الله، ولكن هو به مشرك يعبد معه غيره وكذلك حال المشركين الذين أخبر تعالى عنهم، وكثر من أهل الجهل في هذه الآمة القرآنية يدعون غير الله ويذبحون لغير الله وينذرون لغير الله وهم مؤمنون بالله وبما جاء به رسوله من التوحيد والبعث والجزاء والشرع.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بأصدق برهان وأعظم حجة.
2- بيان حكم الله في الناس وهو أن أكثرهم لا يؤمنون فلا يحزن الداعي ولا يكرب.
3- دعوة الله ينبغي أن تقدم إلى الناس مجانا، وأجر الداعي على الله تعالى الذي يدعو إليه.
4- ذم الغفلة وعدم التفكر في الآيات الكونية.
5- بيان حقيقة ثابتة وهي أن غير أهل التوحيد وإن آمنوا بالله ربا خالقا رازقا مدبرا أكثرهم يشركون به غيره في بعض صفاته وعباداته.
[12.107-109]
شرح الكلمات:
غاشية من عذاب الله: أي نقمة من نقمه تعالى تغشاهم أي تحوط بهم.
بغتة: فجأة وهم مقيمون على شركهم وكفرهم.
هذه سبيلي: أي دعوتي وطريقتي التي أنا عليها.
على بصيرة: أي على علم يقين مني.
وسبحان الله: أي تنزيها لله وتقديسا أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه.
من أهل القرى: من أهل المدن والأمصار لا من أهل البوادي.
للذين اتقوا: أي الله تعالى بأداء فرائضه وترك نواهيه.
أفلا تعقلون: أي أفلا يعقل هؤلاء المشركون هذا الذي يتلى عليهم ويبين لهم فيؤمنوا ويوحدوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الدعوة إلى الإيمان بالوحي الإلهي والتوحيد والبعث والجزاء وهي أركان الدين العظمى، فقال تعالى:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
[يوسف: 106] والذين يمرون بالكثير من آيات الله وهم معرضون. أفأمن هؤلاء { أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } أي عقوبة من عذاب تغشاهم وتجللهم بالعذاب الذي لا يطاق { أو تأتيهم الساعة } أي القيامة { بغتة } أي فجأة { وهم لا يشعرون } بوقت مجيئها فتعظم البلية وتشتد عليهم الرزية، وكيف يأمنون وهل يوجد من يؤمنهم غير الله تعالى فما لهم إذا لا يؤمنون ولا يتقون حتى ينجوا مما يتوقع لهم؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى [107] أما الثانية فقد أمر الله تعالى رسوله أن يواصل دعوته دعوة الخير هو والمؤمنون معه فقال: { قل هذه سبيلي } أي قل أيها الرسول للناس هذه طريقتي في دعوتي إلى ربي بأن يؤمن به ويعبد وحده دون سواه. { أدعو إلى الله على بصيرة } أي على علم يقين بمن أدعو إليه وبما أدعو به وبالنتائج المترتبة على هذه الدعوة، { أنا ومن اتبعني } من المؤمنين كلنا ندعو إلى الله على بصيرة.
وقوله تعالى: { وسبحان الله } أي وقل سبحان الله أي تنزيها له عن أن يكون له شريك أو ولد، وقل كذلك معلنا براءتك من الشرك والمشركين { ومآ أنا من المشركين }. هذا ما دلت عليه الآية الثانية. أما الآية الثالثة فإن الله تعالى يخبر رسوله بأنه ما أرسل من قبله من الرسل وهم كثر إلا رجالا أي لا نساء ولا ملائكة { نوحي إليهم من أهل القرى } أي الأمصار والمدن، وهذا إبطال لإنكارهم أن يكون الرسول رجلا من الناس، وقوله تعالى: { أفلم يسيروا } أي هؤلاء المكذبون من قريش وغيرهم { في الأرض } للاعتبار { فينظروا } كيف كان عاقبة من سبقهم من الأمم كعاد وثمود فإنا أهلكناهم ونجينا أهل الإيمان والتوحيد من بينهم مع رسلهم هذه النجاة ثمرة من ثمرات الإيمان والتقوى، { ولدار الآخرة خير للذين اتقوا } فإنها دار النعيم المقيم والسلامة من الآهات والعاهات والكبر والهرم والموت والفناء.
وقوله تعالى في نهاية الآية { أفلا تعقلون } يوبخ أولئك المشركين المصرين على التكذيب والشرك على عدم تعقلهم وتفهمهم لما يتلى عليهم وما يسمعون من الآيات القرآنية وما يشاهدون من الآيات الكونية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من العقوبات المترتبة على الشرك والمعاصي.
2- تقرير عقيدة البعث الآخر.
3- تعين الدعوة إلى الله تعالى على كل مؤمن تابع للرسول صلى الله عليه وسلم.
4- تعين العلم اليقيني للداعي إلى الله إذ هو البصيرة المذكورة في الآية.
5- وجوب توحيد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.
6- الرسالة من خصوصيات الرجال وليس في النساء رسولة.
7- بيان ثمرات التوحيد والتقوى في الدنيا والآخرة.
[12.110-111]
شرح الكلمات:
استيأس الرسل: أي يئسوا من إيمان قومهم.
وظنوا أنهم قد كذبوا: أي ظن الأمم المرسل إليهم أن الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر.
ولا يرد بأسنا: أي عذابنا الشديد.
عن القوم المجرمين: أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي وأجرموا على غيرهم بصرفهم عن الإيمان.
لقد كان في قصصهم: أي الرسل عليهم السلام.
ما كان حديثا يفترى: أي ما كان هذا القرآن حديثا يختلق.
تصديق الذي بين يديه: أي ما قبله من الكتب الإلهية إذ نزل مصدقا لها في الإيمان والتوحيد.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد بقوله تعالى:
ومآ أرسلنا
[يوسف: 109] أي ما زال من أرسلنا من رسلنا يدعون إلينا ويواصلون دعوتهم ويتأخر نصرهم حتى يدب اليأس إلى قلوبهم ويظن أتباعهم أنهم قد أخلفوا ما وعدوا به من نصرهم وإهلاك أعدائهم { جآءهم } بعد وجود اليأس نصرنا { فنجي من نشآء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين }. هذا ما جاء في الآية الأولى { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جآءهم نصرنا فنجي من نشآء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } وهم أهل الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } أي كان في قصص الرسل مع أممهم بذكر أخبارهم وتبيان أحوالهم من نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين المكذبين عبرة يعتبر بها المؤمنون فيثبتون على إيمانهم ويواصلون تقواهم لربهم بأداء فرائضه واجتناب نواهيه.
وأولوا الألباب هم أصحاب العقول، وقوله تعالى: { ما كان حديثا يفترى } أي لم يكن هذا القرآن العظيم بالحديث الذي في إمكان الإنسان أن يكذب ويختلق مثله بحال من الأحوال ولكنه أي القرآن هو { تصديق الذي بين يديه } أي تقدم في النزول عليه كالتوراة والإنجيل فهو مصدق لهما في أصول الإيمان والتوحيد ولا يتنافى معهما وهذا أكبر دليل على أنه وحي إلهي مثلهما، وليس بالكلام المختلق كما يقول المبطلون، وقوله تعالى: { وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } أي كما هو مصدق لما بين يديه هو أيضا يفصل كل شيء تحتاج إليه البشرية في دينها المزكي لأنفسها الموجب لها رحمة ربها ورضاه عنها وهدى ينير الطريق فيهدي من الضلالة ورحمة تنال المؤمنين به العاملين به المطبقين لشرائعه وأحكامه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في تأخر النصر على رسله وعباده المؤمنين زيادة في الإعداد والتمحيص ثم يأتي نصر الله فيعز أولياء الله ويذل أعداءه.
2- التنديد بالإجرام وهو الإفساد للعقائد والأخلاق والشرائع والأحكام.
3- بيان فضل القرآن وما فيه من الهدى والرحمة لمن طلب ذلك منه.
4- المؤمنون باعتبار أنهم أحياء هم الذين ينتفعون بهداية القرآن ورحمته.
[13 - سورة الرعد]
[13.1-4]
شرح الكلمات:
المر: هذه الحروف المقطعة تكتب المر وتقرأ ألف لام ميم را. والله أعلم بمراده بها.
بغير عمد ترونها: العمد جمع عمود أي مرئية لكم إذ الجملة نعت.
ثم استوى على العرش: استواء يليق به عزوجل.
وسخر الشمس والقمر: أي ذللها بمواصلة دورانها لبقاء الحياة إلى أجلها.
هو الذي مد الأرض: أي بسطها للحياة فوقها.
رواسي: أي جبال ثوابت.
زوجين اثنين: أي نوعين وضربين كالحلو والحامض والأصفر والأسود مثلا.
لآيات: أي دلالات على وحدانية الله تعالى.
قطع متجاورات: أي بقاع متلاصقات.
ونخيل صنوان: أي عدة نخلات في أصل واحد يجمعها، والصنو الواحد والجمع صنوان.
في الأكل: أي في الطعم هذا حلو وهذا مر وهذا حامض، وهذا لذيذ وهذا خلافه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { المر } الله أعلم بمراده به. وقوله { تلك آيات الكتاب } الإشارة إلى ما جاء من قصص سورة يوسف، فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل فمن جملة آياتها ما قص الله تعالى على رسوله. وقوله { والذي أنزل إليك من ربك } وهو القرآن العظيم { الحق } أي هو الحق الثابت، وقوله { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } أي مع أن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق فإن أكثر الناس من قومك وغيرهم لا يؤمنون بأنه وحي الله وتنزيله فيعملوا به فيكملوا ويسعدوا، وقوله تعالى: { الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها }: أي أن إلهكم الحق الذي يجب أن تؤمنوا به وتعبدوه وتوحدوه الله الذي رفع السماوات على الأرض بغير عمد مرئية لكم ولكن رفعها بقدرته وبما شاء من سنن. وقوله: { ثم استوى على العرش } أي خلق السماوات والأرض ثم استوى على عرشه استواء يليق بذاته وجلاله يدبر أمر الملكوت وقوله: { وسخر الشمس والقمر } أي ذللهما بعد خلقهما يسيران في فلكهما سيرا منتظما إلى نهاية الحياة، وقوله { كل يجري } أي في فلكه فالشمس تقطع فلكها في سنة كاملة والقمر في شهر كامل وهما يجريان هكذا إلى نهاية الحياة الدنيا فيخسف القمر وتنكدر الشمس وقوله: { يدبر الأمر } أي يقضي ما يشاء في السماوات والأرض ويدبر أمر مخلوقاته بالإماتة والإحياء والمنع والإعطاء كيف يشاء وحده لا شريك له في ذلك. وقوله: { يفصل الآيات } أي القرآنية بذكر القصص وضرب الأمثال وبيان الحلال والحرام كل ذلك ليهيئكم ويعدكم للإيمان بلقاء ربكم فتؤمنوا به وتعبدوا الله وتوحدوه في عبادته فتكملوا في أرواحكم واخلاقكم وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم. وقوله تعالى: { وهو الذي مد الأرض } أي بسطه { وجعل فيها رواسى } أي جبالا ثوابت { وأنهارا } أي وأجرى فيها أنهارا { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } أي نوعين وضربين فالرمان منه الحلو ومنه الحامض والزيتون منه الأصفر والأسود، والتين منه الأبيض والأحمر وقوله: { يغشى اليل النهار } أي يغطي سبحانه وتعالى النهار بالليل لفائدتكم لتناموا وتستريح أبدانكم من عناء النهار.
وقوله { إن في ذلك } أي المذكور في هذه الآية الكريمة من مد الأرض وجعل الرواسي فيها واجراء الأنهار، وخلق أنواع الثمار واغشاء الليل النهار، في كل هذا المذكور { لآيات } أي علامات ودلائل واضحات على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته وعلى وجوب عبادته وتوحيده وعلى الإيمان بوعده ووعيده، ولقائه وما أعد من نعيم لأوليائه وعذاب لأعدائه، وقوله تعالى: { وفي الأرض قطع متجاورات } أي بقاع من الأرض بعضها إلى جنب بعض متلاحقات هذه تربتها طيبة وهذه تربتها خبيثة ملح سبخة وفي الأرض أيضا جنات أي بساتين من أعناب وفيها زرع ونخيل { صنوان } النخلتان والثلاث في أصل واحد، { وغير صنوان } كل نخلة قائمة على أصلها، وقوله: { يسقى } أي تلك الأعناب والزروع والنخيل { بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } وهو ما يؤكل منها فهذا حلو وهذا حامض وهذا لذيذ وهذا سمج، وقوله: { إن في ذلك } أي المذكور من القطع المتجاورات مع اختلاف الطيب وعدمه وجنات الأعناب والنخيل وسقيها بماء واحد واختلاف طعومها وروائحها وفؤائدها { لآيات } علامات ودلائل باهرات على وجوب الإيمان بالله وتوحيده ولقائه، ولكن { لقوم يعقلون } أما الذين فقدوا عقولهم لاستيلاء المادة عليها واستحكام الشهوة فيها فإنهم لا يدركون ولا يفهمون شيئا فكيف إذا يرون دلائل وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته فيؤمنون به ويعبدونه ويتقربون إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي الإلهي ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
2- تقرير عقيدة التوحيد وأنه لا إله إلا الله.
3- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا.
4- فضيلة التفكر في الآيات الكونية.
5- فضيلة العقل للاهتداء به إلى معرفة الحق واتباعه للإسعاد والإكمال.
[13.5-9]
شرح الكلمات:
وإن تعجب: أي يأخذك العجب من إنكارهم نبوتك والتوحيد.
فعجب: أي فأعجب منه إنكارهم للبعث والحياة الثانية مع وضوح الأدلة وقوة الحجج.
لفي خلق جديد: أي نرجع كما كنا بشرا أحياء.
الأغلال في أعناقهم: أي موانع من الإيمان والاهتداء في الدنيا، وأغلال تشد بها أيديهم إلى أعناقهم في الآخرة.
بالسيئة: أي بالعذاب.
قبل الحسنة: أي الرحمة وما يحسن بهم من العاقبة والرخاء والخصب.
المثلاث: أي العقوبات واحدها مثلة التي قد أصابت المكذبين في الأمم الماضية.
لولا أنزل عليه: أي هلا أنزل، ولولا أداة تحضيض كهلا.
آية من ربه: أي معجزة كعصا موسى وناقة صالح مثلا.
ولكل قوم هاد: أي نبي يدعوهم إلى ربهم ليعبدوه وحده ولا يشركون به غيره.
ما تحمل كل أنثى: أي من ذكر أو أنثى واحدا أو أكثر أبيض أو أسمر.
وما تغيض الأرحام: أي تنقص من دم الحيض، وما تزداد منه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى الإيمان بالتوحيد والنبوة المحمدية والبعث يوم القيامة للحساب والجزاء، فقوله تعالى في الآية الأولى [5] { وإن تعجب } يا نبينا من عدم إيمانهم برسالتك وتوحيد ربك فعجب أكبر هو عدم إيمانهم بالبعث الآخر، إذ قالوا في إنكار وتعجب: { أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد } أي يحصل لنا بعد الفناء والبلى، قال تعالى مشيرا إليهم مسجلا الكفر عليهم ولازمه وهو الهداية كالتقليد الأعمى والكبر والمجاحدة والعناد، وفي الآخرة أغلال توضع في أعناقهم من حديد تشد بها أيديهم إلى أعناقهم، { وأولئك أصحاب النار } أي أهلها { هم فيها خالدون } أي ماكثون ابدا لا يخرجون منها بحال من الأحوال.
وقوله تعالى في الآية الثانية [6] { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } يخبر تعالى رسوله مقررا ما قال أولئك الكافرون بربهم ولقائه ونبي الله وما جاء به، ما قالوه استخفافا واستعجالا وهو طلبهم العذاب الدنيوي، اذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخوفهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فهم يطالبون به كقول بعضهم:
فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم
[الأنفال: 32] قبل طلبهم الحسنة وهذا لجهلهم وكفرهم، وإلا لطالبوا بالحسنة التي هي العافية والرخاء والخصب قبل السيئة التي هي الدمار والعذاب.
وقوله تعالى: { وقد خلت من قبلهم المثلات } أي والحال أن العقوبات قد مضت في الأمم من قبلهم كعقوبة الله لعاد وثمود وأصحاب الأيكة والمؤتفكات فما لهم يطالبون بها استبعادا لها واستخفافا بها أين ذهبت عقولهم؟ وقوله تعالى: { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } وهو ظاهر مشاهد اذ لو كان يؤاخذ بالظلم لمجرد وقوعه فلم يغفر لأصحابه لما ترك على الأرض من دابة، وقوله: { وإن ربك لشديد العقاب } أي على من عصاه بعد أن أنذره وبين له ما يتقي فلم يتق ما يوجب له العذاب من الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى في الآية الثالثة [7] { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه }! يخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن قيل الكافرين بالتوحيد والبعث والنبوة: { لولا } أي هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية من ربه كعصا موسى وناقة صالح، حتى نؤمن بنبوته ونصدق برسالته، فيرد تعالى عليهم بقوله: { إنمآ أنت منذر } والمنذر المخوف من العذاب وليس لازما أن تنزل معه الآيات، وعليه فلا تلتفت إلى ما يطالبون به من الآيات، واستمر على دعوتك فإن لكل قوم هاديا وأنت هادي هذه الأمة، وداعيها إلى ربها فادع واصبر.
وقوله تعالى في الآية الرابعة [8] { الله يعلم ما تحمل كل أنثى } أي من ذكر أو أنثى واحدا أو أثنين أبيض أو أسمر سعيدا أو شقيا، وقوله: { وما تغيض الأرحام وما تزداد } أي ويعلم ما تغيض الأرحام من دماء الحيض وما تزداد منها إذ غيضها ينقص من مدة الحمل وازديادها يزيد في مدة الحمل فقد تبلغ السنة أو أكثر، وقوله: { وكل شيء عنده بمقدار } أي وكل شيء في حكمه وقضائه وتدبيره بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص في ذات ولا صفة ولا حال، ولا زمان ولا مكان، وقوله: { عالم الغيب والشهادة } أي كل ما غاب عن الخلق، وما لم يغب مما يشاهدونه أي العليم بكل شيء، وقوله: { الكبير المتعال } أي الذي لا أكبر منه وكل كبير أمامه صغير المتعال على خلقه المنزه عن الشريك والشبيه والصاحبة والولد هذا هو الله وهذه صفاته فهل يليق بعاقل أن ينكر استحقاقه للعبادة دون سواه؟ فهل يليق بعاقل أن ينكر عليه أن يوحي بما شاء على من يشاء من عباده؟ فهل يليق بعاقل أن ينكر على من هذه قدرته وعلمه أن يحيي العباد بعد أن يميتهم ليسألهم عن كسبهم ويحاسبهم عليه ويجزيهم به؟ اللهم لا إذا فالمنكرون على الله ما دعاهم إلى الإيمان به لا يعتبرون عقلاء وإن طاروا في السماء وغاصوا في الماء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أصول العقيدة الثلاثة: التوحيد والنبوة البعث والجزاء الآخر.
2- صوارف الإيمان والتي هي كالأغلال هي التقليد الأعمى، والكبر والعناد.
3- عظيم قدرة الله تعالى وسعة علمه.
4- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
[13.10-13]
شرح الكلمات:
وسارب بالنهار: أي ظاهر في سربه أي طريقه.
له معقبات: أي ملائكة تتعقبه بالليل والنهار.
من أمر الله: أي بأمر الله تعالى وعن إذنه وأمره.
لا يغير ما بقوم: أي من عافية ونعمة إلى بلاء وعذاب.
ما بأنفسهم: من طهر وصفاء بالإيمان والطاعات إلى الذنوب والآثام.
وما لهم من دونه من وال: أي وليس لهم من دون الله من يلبي أمرهم فيدفع عنهم العذاب.
من خيفته: أي من الخوف منه وهيبته وجلاله.
وهو شديد المحال: أي القوة والمماحلة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر جلال الله وعظيم قدرته وسعة علمه، قال تعالى في هذه الآية: { سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به } فالله يعلم السر والجهر وأخفى { ومن هو مستخف باليل } يمشي في ظلامه ومن هو { وسارب بالنهار } أي يمشي في سربه وطريقه مكشوفا معلوما لله تعالى، وقوله تعالى: { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } جائز أن يعود الضمير في " له " على من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، فيكون المراد من المعقبات الحرس والجلاوزة الذين يحرسون السلطان من أمر الله تعالى في نظرهم، ولكن إذا أراده الله بسوء فلا مرد له وماله من دون الله من وال يتولى حمايته والدفاع عنه، وجائز أن يعود على الله تعالى ويكون المراد من المعقبات الملائكة الحفظة والكتبة للحسنات والسيئات ويكون معنى من أمر الله أي بأمره تعالى وإذنه، والمعنى صحيح في التوجيهين للآية وإلى الأول ذهب ابن جرير وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين، وقوله تعالى: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه ماضية فيهم وهي أنه تعالى لا يزيل نعمة أنعم بها على قوم من عافية وأمن ورخاء بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طهارة وصفاء بسبب ارتكابهم للذنوب وغشيانهم للمعاصي نتيجة الإعراض عن كتاب الله وإهمال شرعه وتعطيل حدوده والانغماس في الشهوات والضرب في سبيل الضلالات، وقوله تعالى: { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } هذا إخبار منه تعالى بأنه إذا أراد بقوم أو فرد أو جماعة سوءا ما أي يسوءهم من بلاء وعذاب فلا مرد له بحال من الأحوال بل لا بد وأن يمسهم، ولا يجدون من دون الله من وال يتولى صرف العذاب عنهم، أما من الله تعالى فإنهم اذا أنابوا إليه واستغفروه وتابوا إليه فإنه تعالى يكشف عنهم السوء، ويصرف عنهم العذاب، وقوله تعالى: { هو الذي يريكم البرق خوفا } من الصواعق من جهة وطمعا في المطر من جهة اخرى { وينشىء السحاب الثقال } أي وهو الذي ينشئ أي يبدء السحاب الثقال الذي يحمل الأمطار { ويسبح الرعد بحمده } أي وهو الذي يسبح الرعد بحمده وهو ملك موكل بالسحاب يقول: سبحان الله وبحمده، وقوله: { والملائكة من خيفته } أي خيفة الله وهيبته وجلاله فهي لذلك تسبحه أي تنزهه عن الشريك والشبيه والولد بألفاظ يعلمها الله تعالى، وقوله تعالى: { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشآء وهم يجدلون في الله } أي في وجوده وصفاته وتوحيده وطاعته { وهو شديد المحال } هذه الآية نزلت فعلا في رجل بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يدعوه إلى الإسلام فقال الرجل الكافر لمن جاء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رسول الله؟ وما الله أمن ذهب هو أم من فضة أم من نحاس؟ فنزلت عليه صاعقة أثناء كلامه فذهبت بقحف رأسه، ومعنى شديد المحال أي القوة والاخذ والبطش.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- سعة علم الله تعالى.
2- الحرس والجلاوزة لمن يستخدمهم لحفظه من أمر الله تعالى لن يغنوا عنه من أمر الله شيئا.
3- تقرير عقيدة ان لكل فرد ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار منهم الكرام الكاتبون، ومنهم الحفظة للإنسان من الشياطين والجان.
4- بيان سنة أن النعم لا تزول إلا بالمعاصي.
5- استحباب قول سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عند سماع الرعد لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة.
[13.14-16]
شرح الكلمات:
له دعوة الحق: أي لله تعالى الدعوة الحق أي فهو الإله الحق الذي لا إله إلا هو.
ليبلغ فاه: أي الماء فمه.
إلا في ضلال: أي في ضياع لا حصول منه على طائل.
بالغدو والآصال: أي بالبكر جمع بكرة، والعشايا جمع عشية.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد بالأدلة والبراهين، وقال تعالى: { له دعوة الحق } أي لله سبحان وتعالى الدعوة الحق وهي أنه الإله الحق الذي لا إله إلا هو، أما غيره فإطلاق لفظ الإله إطلاق باطل، فالأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله إطلاق لفظ إله عليه إطلاق باطل، والدعوة إلى عبادته باطلة، أما الدعوة الحق فإنها لله وحده.
وقوله تعالى: { والذين يدعون من دونه } أي من دون الله من سائر المعبودات { لا يستجيبون لهم بشيء } أي لا يجيبونهم بإعطائهم شيئا مما يطلبون منهم { إلا كباسط كفيه إلى المآء } أي إلا كاستجابة من بسط يديه أي فتحهما ومدهما إلى الماء والماء في قعر البئر فلا كفاه تصل إلى الماء ولا الماء يصل إلى كفيه وهو عطشان ويظل كذلك حتى يهلك عطشا، هذا مثل من يعبد غير الله تعالى بدعاء أو ذبح أو نذر أو خوف أو رجاء فهو محروم الاستجابة خائب في مسعاه ولن تكون له عاقبة إلا النار والخسران وهو معنى قوله تعالى { وما دعآء الكافرين إلا في ضلال } أي بطلان وخسران، وقوله تعالى: { ولله يسجد من في السماوات } أي الملائكة { والأرض } أي من مؤمن يسجد طوعا، ومنافق أي يسجد كرها، { وظلالهم } تسجد أيضا { بالغدو } أوائل النهار، { والآصال } أواخر النهار، ومعنى الآية الكريمة: إذا لم يسجد الكافرون أي لم ينقادوا لعبادة الله وحده تعالى فإن لله يسجد من في السماوات من الملائكة، ومن في الأرض من الجن والإنس المؤمنون يسجدون طائعين والكافرون يسجدون إذا أكرهوا على السجود والمنافقون يسجدون مكرهين، وظلالهم تسجد في البكر والعشايا كما أنهم منقادون لقضاء الله تعالى وحكمه فيهم لا يستطيعون الخروج عنه بحال فهو الذي خلقهم وصورهم كما شاء ورزقهم ما شاء ويميتهم متى شاء فأي سجود وخضوع وركوع أظهر من هذا؟ وقوله تعالى: { قل من رب السموت والأرض } أي من خالقهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما؟ وأمر رسوله أن يسبقهم إلى الجواب { قل الله } اذ لا جواب لهم إلا هو، وبعد أن أقروا بأن الرب الحق هو الله، امر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم موبخا مقرعا { أفاتخذتم من دونه أوليآء } أي شركاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فضلا عن أن يملكوا لكم نفعا أو يدفعون عنكم ضرا فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون، ومبالغة في البيان وإقامة للحجة والبرهان على وجوب التوحيد وبطلان الشرك والتنديد أمر رسوله أن يقول لهم: { هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور }؟ والجواب قطعا لا إذا فكيف يستوي المؤمن والكافر، وكيف يستوي الهدى والضلال، فالمؤمن يعبد الله على بصيرة على علم أنه خالقه ورازقه يعلم سره ونجواه يجيبه إذا دعاه أرسل إليه رسوله وأنزل عليه كتابه، والكافر المشرك يعبد مخلوقا من مخلوقات الله لا تملك لنفسها فضلا عن عابديها نفعا ولا ضرا لا تسمع نداء ولا تجيب دعاء، المؤمن يعبد الله بما شرع له من عبادات وبما طلبت منه من طاعات وقربات، والكافر المشرك يعبد الباطل بهواه، ويسلك الغي في الحياة.
وقوله: { أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم } أي بل جعلوا لله شركاء فخلقت تلك الشركاء مخلوقات كخلق الله فتشابه الخلق على المشركين فعبدوها ظنا منهم أنها خلقت كخلق الله؟ والجواب لا فإنها لم تخلق ولا تستطيع خلق ذبابة فضلا عن غيرها إذا فكيف تصح عبادتها وهي لم تخلق شيئا، وقوله تعالى: { قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } أي قل أيها الرسول للمشركين عند اعترافهم بأن آلهتهم لم تخلق شيئا قل لهم: الله خالق كل شيء وهو الواحد الذي لا شريك له ولا ند ولا مثل، القهار لكل جبار والمذل لكل معاند كفار، هو المستحق للعبادة الواجب له الطاعة، الإيمان به هدى والكفر به ضلال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دعوة الحق لله وحده فهو المعبود بحق لا إله غيره ولا رب سواه.
2- حرمان المشركين من دعائهم وسائر عباداتهم.
3- الخلق كلهم يسجدون لله طوعا أو كرها إذ الكل خانع خاضع لحكم الله وتدبيره فيه.
4- مشروعية السجود للقارئ والمستمع إذا بلغ هذه الآية { وظلالهم بالغدو والآصال } ويستحب أن يكون طاهرا مستقبلا القبلة، ويكبر عند الخفض والرفع ولا يسلم.
5- بطلان الشرك إذ لا دليل عليه من عقل ولا نقل.
6- وجوب العبادة لله تعالى.
[13.17-18]
شرح الكلمات:
فسالت أودية بقدرها: أي بمقدار مائها الذي يجري فيها.
زبدا رابيا: أي غثاء عاليا إذ الزبد هو وضر غليان الماء أو جريانه في الأنهار.
ومما يوقدون عليه في النار: أي كالذهب والفضة والنحاس.
ابتغاء حلية أو متاع: أي طلبا لحلية من ذهب أو فضة أو متاع من الأواني.
زبد مثله: أي مثل زبد السيل.
فأما الزبد: أي زبد السيل أو زبد ما أوقد عليه النار.
فيذهب جفاء: أي باطلا مرميا بعيدا إذ هو غثاء ووضر لا خير فيه.
فيمكث في الأرض: أي يبقى في الأرض زمنا ينتفع به الناس.
للذين استجابوا لربهم الحسنى: أي للذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة.
لم يستجيبوا: أي لم يؤمنوا به ولم يطيعوه.
لافتدوا به: أي من العذاب.
سوء الحساب: وهي المؤاخذة بكل ذنب عملوه لا يغفر لهم منه شيء.
وبئس المهاد: أي الفراش الذي أعدوه لأنفسهم وهو جهنم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالكفر والشرك ففي هذه الآية الكريمة ضرب الله تعالى مثلا للحق والباطل، للحق في بقائه، والباطل في اضمحلاله وتلاشيه فقال: { أنزل } أي الله { من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها } أي بحسب كبرها وصغرها لأن الوادي قد يكون كبيرا وقد يكون صغيرا، فاحتمل السيل أي حمل سيل الماء في الوادي زبدا رابيا أي غثاء ووضرا عاليا على سطح الماء، هذا مثل مائي، ومثل ناري قال فيه عز وجل: { ومما يوقدون عليه في النار } أي ومما يوقد عليه الصاغة والحدادون { ابتغآء حلية } أي طلبا للحلية، { أو متاع } أي طلبا لمتاع يتمتع به كالأواني إذ الصائغ أو الحداد يضع الذهب أو الفضة أو النحاس في البوتقة وينفخ عليها بالكير فيعلو ما كان فاسدا غير صالح على صورة الزبد وما كان صالحا يبقى في البوتقة وهو الذي يصنع منه الحلية والمتاع، وقوله تعالى: { كذلك } أي المذكور من الأمور الأربعة مثلي الحق وهما الماء والجوهر ومثلي الباطل وهما زبد الماء وزبد الجوهر { فأما الزبد فيذهب جفآء } أي باطلا مرميا به يرميه السيل إلى ساحل الوادي فيعلق بالأشجار والأحجار ويرميه الصائغ عن بوتقته، وأما ما ينفع الناس من الماء للسقي والري فيمكث في الأرض، وكذا ما ينفع من الحلي والمتاع يبقى في بوتقة الصائغ والحداد وقوله تعالى: { كذلك يضرب الله الأمثال } أي مثل هذا المثل الذي ضربه للحق في بقائه والباطل في ذهابه وتلاشيه وإن علا وطغا في بعض الأوقات، { يضرب } أي بين الأمثال، ليعلموا فيؤمنوا ويهتدوا فيكملوا ويسعدوا.
هذا ما تضمنته الآية الأولى [17] وأما الآية الثانية [18] فقد أخبر تعالى بوعد له ووعيد أما وعده فلأهل طاعته بأن لهم الحسنى الجنة وأما وعيده فلأهل معصيته وهو أسوأ وعيد وأشده، فقال تعالى في وعده: { للذين استجابوا لربهم الحسنى } وقال في وعيده: { والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا } أي من مال ومتاع { ومثله معه } أيضا لافتدوا به من العذاب الذي تضمنه هذا الوعيد الشديد، ويعلن عن الوعيد فيقول: { أولئك } أي الأشقياء { لهم سوء الحساب } وهو أن يحاسبوا على صغيرة وكبيرة في أعمالهم ولا يغفر لهم منها شيء { ومأواهم جهنم } أي مقرهم ومكان إيوائهم { وبئس المهاد } أي الفراش جهنم لهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- ثبات الحق، واضمحلال الباطل سنة من سنن الله تعالى.
3- بيان وعد الله للمستجيبين له بالإيمان والطاعة وهي الجنة.
4- بيان وعيد الله لمن لم يستجب له بالإيمان والطاعة.
[13.19-24]
شرح الكلمات:
كمن هو أعمى: أي لا يرى الحق ولا يعلمه ولا يؤمن به.
أولوا الألباب: أي أصحاب العقول.
يصلون ما أمر الله به أن يوصل: أي من الإيمان والتوحيد والأرحام.
ويدرءون بالحسنة: أي يدفعون بالحلم الجهل، وبالصبر الأذى.
عقبى الدار: أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة.
جنات عدن: أي جنات إقامة دائمة.
معنى الآيات:
لقد تضمنت هذه الآيات مقارنة ومفاضلة بين شخصيتين: الأولى شخصية مؤمن صالح كحمزة بن عبدالمطلب والثانية شخصية كافر فاسد كأبي جهل المخزومي وبين ما لهما من جزاء في الدار الآخرة، مع ذكر صفات كل منهما، تلك الصفات المقتضية لجزائهما في الدار الآخرة قال تعالى: { أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق } فيؤمن به بعد العلم ويستقيم على منهجه في عقيدته وعبادته ومعاملاته وسلوكه كله. هذه الشخصية الأولى { كمن هو أعمى } لم يعلم الحق ولم يؤمن به ولم يعمل بما أنزل إلى الرسول من الشرع.
والجواب قطعا أنهما لا يستويان ولا يكونان في ميزان العدل والحق متساويين وقوله تعالى: { إنما يتذكر أولوا الألباب } أي يتعظ بمثل هذه المقارنة أصحاب العقول المدركة للحقائق، والمفرقة بين المتضادات كالحق والباطل والخير والشر والنافع والضار. وقوله تعالى: { الذين يوفون } هذا مشروع في بيان صفاتهم المقتضية إنعامهم وإكرامهم نذكر لهم ثماني صفات هي كالتالي: (1) الوفاء بالعهود وعدم نقضها: { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } إذ لا دين لمن لا عهد له. (2) وصل ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان والإسلام والإحسان والأرحام: { والذين يصلون مآ أمر الله به أن يوصل }. (3) خشية الله المقتضية لطاعته: { ويخشون ربهم }. (4) الخوف من سوء الحساب يوم القيامة المقتضي لمحاسبة النفس على الصغيرة والكبيرة: { ويخافون سوء الحساب }. (5) الصبر طلبا لمرضاة الله على الطاعات وعن المعاصي، وعلى البلاء: { والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم }. (6) إقامة الصلاة وهي أداؤها في أوقاتها جماعة بكامل الشروط والأركان والسنن والآداب: { وأقاموا الصلاة }. (7) الانفاق مما رزقهم الله في الزكاة والصدقات الواجبة والمندوبة: { وأنفقوا مما رزقناهم }. (8) دفع السيئة بالحسنة فيدرءون سيئة الجهل عليهم بحسنة الحلم، وسيئة الأذى بحسنة الصبر.
وقوله تعالى: { أولئك لهم عقبى الدار } اي العاقبة المحمودة وفسرها بقوله { جنات عدن } أي إقامة لا ظعن منها يدخلونها هم { ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } والصلاح هنا الإيمان والعمل الصالح. وقوله: { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } هذا عند دخولهم الجنة تدخل عليهم الملائكة تهنئهم بسلامة الوصول وتحقيق المأمول وتسلم عليهم قائلة: { سلام عليكم بما صبرتم } أي بسبب صبركم والإيمان والطاعة { فنعم عقبى الدار }. هذه تهنئة الملائكة لهم وأعظم بها تهنئة وأبرك بها بركة اللهم اجعلني منهم ووالدي وأهل بيتي والمسلمين أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المؤمن حي يبصر ويعلم ويعمل والكافر ميت أعمى لا يعلم ولا يعمل.
2- الاتعاظ بالمواعظ يحصل لذي عقل راجح سليم.
3- فضل هذه الصفات الثمانية المذكورة في هذه الآيات. أولها الوفاء بعهد الله وآخرها درء السيئة بالحسنة.
4- تفسير عقبى الدار وأنها الجنة.
5- بيان أن الملائكة تهنئ أهل الجنة عند دخولهم وتسلم عليهم.
[13.25-29]
شرح الكلمات:
والذين ينقضون عهد الله: أي يحلونه ولا يلتزمون به فلم يعبدوا ربهم وحده.
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل: أي من الإيمان والأرحام.
ويفسدون في الأرض: أي بترك الصلاة ومنع الزكاة، وبارتكاب السيئات وترك الحسنات.
لهم اللعنة: أي البعد من رحمة الله تعالى.
ولهم سوء الدار: أي جهنم وبئس المهاد.
ويقدر: أي يضيق ويقتر.
إلا متاع: قدر يسير يتمتع به زمنا ثم ينقضي.
طوبى لهم وحسن مآب: أي لهم طوبى شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو دار السلام.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { والذين ينقضون } الآيات، هذا هو الطرف المقابل أو الشخصية الثانية وهو من لم يعلم ولم يؤمن كأبي جهل المقابل لحمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه ذكر تعالى هنا صفاته الموجبة لعذابه وحرمانه فذكر له ولمن على شاكلته الصفات التالية:
(1) نقض العهد فلم يعبدوا الله ولم يوحدوه وهو العهد الذي أخذ عليهم في عالم الأرواح: { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه }.
(2) قطع ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان وصلة الأرحام: { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل }.
(3) الإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي: { ويفسدون في الأرض } بهذه الصفات استوجبوا هذا الجزاء، قال تعالى: { أولئك لهم اللعنة } أي البعد من الرحمة { ولهم سوء الدار } أي جهنم وبئس المهاد، وقوله تعالى: { الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه وهي أنه يبسط الرزق أي يوسعه على من يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر ويضيق ويقتر على من يشاء ابتلاء هل يصبر أو يجزع، وقد يبسط الرزق لبعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك، وقد يضيق على بعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك، فلن يكون الغنى دالا على رضى الله، ولا الفقر دالا على سخطه تعالى على عباده، وقوله { وفرحوا بالحياة الدنيا } أي فرح أولئك الكافرون بالحياة الدنيا لجهلهم بمقدارها وعاقبتها وسوء آثارها وما الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وهم أهل الإيمان به وطاعته إلا متاع قليل ككف التمر أو قرص الخبز يعطاه الراعي غذاء له طول النهار ثم ينفذ، وقوله تعالى في الآية [27]: { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } فقد تقدم مثل هذا الطلب من المشركين وهو مطالبة المشركين النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون له آية كناقة صالح أو عصا موسى ليؤمنوا به وهم في ذلك كاذبون فلم يحملهم على هذا الطلب الا الاستخفاف والعناد وإلا آيات القرآن أعظم من آية الناقة والعصا، فلذا قال تعالى لرسوله: { قل إن الله يضل من يشآء } إضلاله ولو رأى وشاهد ألوف الآيات { ويهدي إليه من أناب } ولو لم ير آية واحدة إلا أنه أناب إلى الله فهداه إليه وقبله وجعله من أهل ولايته، وقوله تعالى في الآية [28] { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله } أولئك الذين أنابوا إليه تعالى إيمانا وتوحيدا فهداهم إليه صراطا مستقيما هؤلاء تطئمن قلوبهم أي تسكن وتستأنس بذكر الله وذكر وعده وذكر صالحي عباده محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقوله تعالى: { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } أي قلوب المؤمنين أما قلوب الكافرين فإنها تطمئن لذكر الدنيا وملاذها وقلوب المشركين تطمئن لذكر أصنامهم، وقوله تعالى { الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب } إخبار من الله تعالى بما أعد لأهل الإيمان والعمل الصالح وهو طوبى حال من الحسن الطيب يعجز البيان عن وصفها أو شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو الجنة دار السلام والنعيم المقيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الاتصاف بصفات أهل الشقاء وهي نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي.
2- بيان أن الغنى والفقر يتمان حسب علم الله تعالى امتحانا وابتلاء فلا يدلان على رضا الله ولا على سخطه.
3- حقارة الدنيا وضآلة ما فيها من المتاع.
4- فضل ذكر الله وسكون القلب إليه.
5- وعد الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح بطوبى وحسن المآب.
[13.30-32]
شرح الكلمات:
كذلك أرسلناك: أي مثل ذلك الإرسال الذي أرسلنا به رسلنا أرسلناك.
لتتلو عليهم: أي لتقرأ عليهم القرأن تذكيرا وتعليما ونذارة وبشارة.
وهم يكفرون بالرحمن: إذ قالوا وما الرحمن وقالوا لا رحمن إلا رحمان اليمامة.
سيرت به الجبال: أي نقلت من أماكنها.
أو قطعت به الأرض: أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا.
أو كلم به الموتى: أي أحيوا وتكلموا.
أفلم ييأس: أي يعلم.
قارعة: أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والحزن وتهلكهم وتستأصلهم.
أو تحل قريبا من دارهم: أي القارعة أو الجيش الإسلامي.
فأمليت: أي أمهلت وأخرت مدة طويلة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير أصول العقائد: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء الآخر ففي الآية الأولى من هذا السياق وهي قوله تعالى : { كذلك أرسلناك } فقرر نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله كذلك أي الإرسال الذي أرسلنا من قبلك أنت إلى أمة قد خلت من قبلها أمم، وبين فائدة الإرسال فقال: { لتتلوا عليهم الذي أوحينآ إليك } وهو الرحمة والهدى والشفاء { وهم يكفرون بالرحمن } الرحمن الذي أرسلك لهم بالهدى ودين الحق لإكمالهم وإسعادهم يكفرون به، إذا فقل أنت أيها الرسول هو ربي لا إله إلا هو أي لا معبود بحق إلا هو عليه توكلت وإليه متاب أي توبتي ورجوعي فقرر بذلك مبدأ التوحيد بأصدق عبارة وقوله تعالى في الآية الثانية [31] { ولو أن قرآنا } الخ: لا شك أن مشركي مكة كانوا طالبوه بما ذكر في هذه الآية إذ قالوا إن كنت رسولا فادع لنا ربك فيسر عنا هذه الجبال التي تكتنف وادينا فتتسع أرضنا للزراعة والحراثة وقطع أرضنا فأخرج لنا منها العيون والأنهار وأحيي لنا فلانا وفلانا حتى نكلمهم ونسألهم عن صحة ما تقول وتدعي بأنك نبي فقال تعالى: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } أي لكان هذا القرأن، ولكن ليست الآيات هي التي تهدي بل لله الأمر جميعا يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولما صرفهم الله تعالى عن الآيات الكونية لعلمه تعالى أنهم لو أعطاهم إياها لما آمنوا عليها فيحق عليهم عذاب الإبادة كالأمم السابقة، وكان من المؤمنين من يود الآيات الكونية ظنا منه أن المشركين لو شاهدوا آمنوا وانتهت المعركة الدائرة بين الشرك والتوحيد قال تعالى: { أفلم ييأس الذين آمنوا } أي يعلموا { أن لو يشآء الله لهدى الناس جميعا } بالآيات وبدونها فليترك الأمر له سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقوله تعالى: { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا } أي من الشرك والمعاصي { قارعة } أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والفزع ونفوسهم بالهم والحزن وذلك كالجدب والمرض والقتل والأسر { أو تحل قريبا من دارهم } أي يحل الرسول بجيشه الإسلامي ليفتح مكة حتى يأتي وعد الله بنصرك أيها الرسول عليهم والآية عامة فيمن بعد قريش ويكون الوعيد متناولا أمم الكفر عامة وها هي ذي الحروب تقرعهم كل قرن مرة ومرتين والحرب الذرية على أبوابهم ولا يزال أمرهم كذلك حتى يحل الجيش الإسلامي قريبا من دارهم ليدخلوا في دين الله أو يهلكوا، { إن الله لا يخلف الميعاد } وقد أنجز ما وعد قريشا، وفي الآية الأخيرة [32] يخبر تعالى رسوله مسليا إياه عما يجد من تعب وألم من صلف المشركين وعنادهم فيقول له: { ولقد استهزئ برسل من قبلك } أي كما استهزئ بك فصبروا فاصبر أنت، { فأمليت للذين كفروا } أي أمهلتهم وأنظرتهم حتى قامت الحجة عليهم ثم أخذتهم فلم أبق منهم أحدا { فكيف كان عقاب } أي كان شديدا عاما واقعا موقعه، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك يا رسولنا إذا لم يتوبوا ويسلموا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد.
2- لا توكل إلا على الله، ولا توبة لأحد إلا إليه.
3- عظمة القرآن الكريم وبيان فضله.
4- إطلاق لفظ اليأس والمراد به العلم.
5- توعد الرب تعالى الكافرين بالقوارع في الدنيا إلى يوم القيامة.
6- الله جل جلالة يملي ويمهل ولكن لا يهمل بل يؤاخذ ويعاقب.
[13.33-35]
شرح الكلمات:
أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت: أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت ويجازيها بعملها.
قل سموهم: أي صفوهم له من هم؟
أم تنبونه بما لا يعلم: أي أتخبرونه بما لا يعلمه؟
بظاهر من القول: أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع.
أشق: أي أشد.
واق: أي مانع يمنعهم من العذاب.
مثل الجنة: أي صفتها التي نقصها عليك.
أكلها دائم وظلها: أي ما يؤكل فيها دائم لا يفنى وظلها دائم لا ينسخ.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد بقوله تعالى: { أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت } أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت من خير وشر ومجازيها كمن لا يحفظ ولا يرزق ولا يعلم ولا يجزي وهو الأصنام، إذا فبطل تأليهها ولم يبق إلا الإله الحق الله الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه ، وقوله تعالى: { وجعلوا لله شركآء } أي يعبدونهم معه { قل سموهم } أي قل لهم يا رسولنا سموا لنا تلك الشركاء صفوهم بينوا من هم؟ { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } أي أتنبئون الله بما لا يعلم في الأرض؟ { أم بظاهر من القول } أي بل بظاهر من القول أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع.
وقوله تعالى: { بل زين للذين كفروا مكرهم } أي قولهم الكاذب وافتراؤهم الماكر فبذلك صدوا عن السبيل سبيل الحق وصرفوا عنه فلم يهتدوا إليه، { ومن يضلل الله فما له من هاد } وقوله تعالى: { لهم عذاب في الحياة الدنيا } بالقتل والأسر، { ولعذاب الآخرة أشق } أي أشد من عذاب الدنيا مهما كان { وما لهم من الله من واق } أي وليس لهم من دون الله من يقيهم فيصرفه عنهم ويدفعه حتى لا يذوقوه، وقوله تعالى: { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي لما ذكر عذاب الآخرة لأهل الكفر والفجور ذكر نعيم الآخرة لأهل الإيمان والتقوى، فقال: { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي صفة الجنة ووصفها بقوله: { تجري من تحتها الأنهار أكلها دآئم وظلها } دائم كذلك فطعامها لا ينفذ، وظلها لا يزول ولا ينسخ بشمس كظل الدنيا، وقوله: { تلك } أي الجنة { عقبى الذين اتقوا } أي ربهم فآمنوا به وعبدوه ووحدوه وأطاعوه في أمره ونهيه، { وعقبى الكافرين النار } والعقبى بمعنى العاقبة في الخير والشر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد إذ الأصنام لا تحفظ ولا ترزق ولا تحاسب ولا تجزي، والله هو القائم على كل نفس فهو الإله الحق وما عداه فآلهة باطلة لا حقيقة لها إلا مجرد أسماء.
2- استمرار الكفار على كفرهم هو نتيجة تزيين الشيطان لهم ذلك فصدهم عن السبيل.
3- ميزة القرآن الكريم في الجمع بين الوعد والوعيد إذ بهما تمكن هداية الناس.
[13.36-39]
شرح الكلمات:
والذين آتيناهم الكتاب: أي كعبد بن سلام ومن آمن من اليهود.
يفرحون بما أنزل إليك: أي يسرون به لأنهم مؤمنون صادقون ولأنه موافق لما عندهم.
ومن الأحزاب: أي من اليهود والمشركين.
من ينكر بعضه : أي بعض القرآن فالمشركون أنكروا لفظ الرحمن وقالوا لا رحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب.
وكذلك أنزلناه حكما عربيا: أي بلسان العرب لتحكم به بينهم.
لكل أجل كتاب: أي لكل مدة كتاب كتبت فيه المدة المحددة.
يمحو الله ما يشاء: أي يمحو من الأحكام وغيرها ويثبت ما يشاء فما محاه هو المنسوخ وما أبقاه هو المحكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير أصول العقيدة: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، فقوله تعالى: { والذين آتيناهم الكتاب } كعبدالله بن سلام يفرحون بما أنزل إليك وهو القرآن وفي هذا تقرير للوحي وإثبات له، وقوله { ومن الأحزاب } ككفار اهل الكتاب والمشركين { من ينكر بعضه } فاليهود أنكروا أغلب ما في القرآن من الأحكام ولم يصدقوا إلا بالقصص، والمشركون أنكروا " الرحمن " وقالوا لا رحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب عليه لعائن الله، وقوله تعالى: { قل إنمآ أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به } أي أمرني ربي أن أعبده ولا أشرك به، إليه تعالى أدعو الناس أي إلى الإيمان به وإلى توحيده وطاعته، { وإليه مآب } أي رجوعي وإيابي وفي هذا تقرير للتوحيد، وقوله تعالى: { وكذلك أنزلناه حكما عربيا } أي وكهذا الإنزال للقرآن أنزلناه بلسان العرب لتحكم بينهم به، وفي هذا تقرير للوحي الإلهي والنبوة المحمدية، وقوله: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جآءك من العلم } بأن وافقتهم على مللهم وباطلهم في اعتقادهم، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وإنما الخطاب من باب... إياك أعني واسمعي يا جارة... { ما لك من الله من ولي ولا واق } أي ليس لك من دون الله من ولي يتولى أمر نصرك وحفظك، ولا واق يقيك عذاب الله إذا اراده بك لاتباعك أهل الباطل وتركك الحق وأهله، وقوله تعالى: { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية } فلا معنى لما يقوله المبطلون: لم يتخذ محمد أزواجا ولم تكون له ذرية؟ وهو يقول أنه نبي الله ورسوله، فإن الرسل قبلك من نوح وإبراهيم إلى موسى وداوود وسليمان الكل كان لهم أزواج وذرية، ولما قالوا
لولا أنزل عليه آية
[الرعد: 7، 27] رد الله تعالى عليهم بقوله: { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } فالرسل كلهم مربوبون لله مقهورون لا يملكون مع الله شيئا فهو المالك المتصرف ان شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وقوله: { لكل أجل كتاب } أي لكل وقت محدد يعطي الله تعالى فيه أو يمنع كتاب كتب فيه ذلك الأجل وعين فلا فوضى ولا أنف، وقوله: { يمحوا الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب } رد على قولهم لم يثبت الشيء ثم يبطله كاستقبال بيت المقدس ثم الكعبة وكالعدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشرة أيام فأعلمهم أن الله تعالى ذو إرادة ومشيئة لا تخضعان لإرادة الناس ومشيئاتهم فهو تعالى يمحو ما يشاء من الشرائع والأحكام بحسب حاجة عباده ويثبت كذلك ما هو صالح لهم نافع، { وعنده أم الكتاب } أي الذي حوى كل المقادير فلا يدخله تبديل ولا تغيير كالموت والحياة والسعادة والشقاء، وفي الحديث:
" رفعت الأقلام وجفت الصحف "
رواه مسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي والنبوة.
2- تقرير عقيدة التوحيد.
3- تقرير أن القضاء والحكم في الإسلام مصدره الأول القرآن الكريم ثم السنة لبيانها للقرآن، ثم القياس المأذون فيه فإجماع الأمة لاستحالة اجتماعها على غير ما يحب الله تعالى ويرضى به.
4- التحذير من اتباع أصحاب البدع والأهواء والملل والنحل الباطلة.
5- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
6- بيان النسخ في الأحكام بالكتاب والسنة.
[13.40-43]
شرح الكلمات:
نعدهم: أي من العذاب.
أو نتوفينك: أي قبل ذلك.
ننقصها من أطرافها: أي بلدا بعد بلد بالفتح ودخول الإسلام فيها وانتهاء الشرك منها.
لا معقب لحكمه: أي لا راد له بحيث لا يتعقب حكمه فيبطل.
ومن عنده علم الكتاب: من مؤمني اليهود والنصارى.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك } أي إن أريتك بعض الذي نعد قومك من العذاب فذاك، وإن توفيتك قبل ذلك فليس عليك إلا البلاغ فقد بلغت وعلينا الحساب فسوف نجزيهم بما كانوا يكسبون، فلا تأس أيها الرسول ولا تضق ذرعا بما يمكرون، وقوله { أولم يروا } أي المشركون الجاحدون الماكرون المطالبون بالآيات على صدق نبوة نبينا { أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } أي نفتحها للإسلام بلدا بعد بلد أليس ذلك آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة دعوته، وقوله: { والله يحكم لا معقب لحكمه } أي والله جل جلاله يحكم في خلقه بما يشاء فيعز ويذل ويعطي ويمنع وينصر ويهزم، ولا معقب لحكمه أي ليس هناك من يعقب على حكمه فيبطله فإذا حكم بظهور الإسلام وإدبار الكفر فمن يرد ذلك على الله، وقوله: { وهو سريع الحساب } إذا حاسب على كسب فحسابه سريع يجزي الكاسب بما يستحق دون بطء ولا تراخ وقوله تعالى: { وقد مكر الذين من قبلهم } أي وقد مكرت أقوام قبل قريش وكفار مكة فكيف كان عاقبة مكرهم؟ إنها دمارهم أجمعين، أما يخشى رؤساء الكفر في مكة من عاقبة كهذه؟ وقوله: { فلله المكر جميعا } أي إذا فلا عبرة بمكرهم ولا قيمة له فلا يرهب ولا يلتفت إليه وقوله: { يعلم ما تكسب كل نفس } من خير وشر فأين مكر من لا يعلم من مكر من يعلم كل شيء فسوف يصل بالممكور به إلى حافة الهلاك وهو لا يشعر، أفلا يعي هذا كفار قريش فيكفوا عن مكرهم برسول الله ودعوته، وقوله تعالى: { وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار } أي سيعلم المشركون خصوم التوحيد يوم القيامة لمن عقبى الدار أي العاقبة الحميدة لمن دخل الجنة وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه أو لمن دخل النار وهم دعاة الشرك والكفر وأتباعهم، وقوله تعالى: { ويقول الذين كفروا لست مرسلا } أي يواجهونك بالإنكار عليك والجحود لنبوتك ورسالتك قل لهم يا رسولنا الله شهيد بيني وبينكم وقد شهد لي بالرسالة وأقسم لي عليها مرات في كلامه مثل
يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين
[يس: 1-3] وكفى بشهادة الله شهادة، { ومن عنده علم الكتاب } الأول التوراة والإنجيل وهم مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي والنجاشي وتميم الداري وغيرهم .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- انتصار الإسلام وانتشاره في ظرف ربع قرن أكبر دليل على أنه حق.
2- أحكام الله تعالى لا ترد، ولا يجوز طلب الاستئناف على حكم من أحكام الله تعالى في كتابه أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
3- شهادة الله أعظم شهادة، فلا تطلب بعدها شهادة إذا كان الخصام بين مؤمنين.
4- فضل العالم على الجاهل، إذ شهادة مؤمني أهل الكتاب تقوم بها الحجة على من لا علم لهم من المشركين.
[14 - سورة ابراهيم]
[14.1-5]
شرح الكلمات:
الر: هذا أحد الحروف المقطعة تكتب الر وتقرأ ألف لام را والتفويض فيها أسلم وهو قول الله أعلم بمراده بذلك.
كتاب: أي هذا كتاب عظيم.
أنزلناه إليك: يا محمد صلى الله عليه وسلم.
من الظلمات: أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
العزيز الحميد: أي المحمود بآلائه.
عن سبيل الله: أي الإسلام.
عوجا: أي معوجة.
بآياتنا: أي المعجزات التسع: العصا، اليد، الطوفان، الجراد، القمل، الضفادع، الدم، والطمس والسنين ونقص الثمرات.
وذكرهم بأيام الله: أي ببلائه ونعمائه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { الر } الله أعلم بمراده وقوله: { كتاب أنزلناه } أي هذا كتاب عظيم القدر أنزلناه إليك يا رسولنا لتخرج الناس من الظلمات أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم الشرعي، وذلك { بإذن ربهم } أي بتوفيقه ومعونته { إلى صراط العزيز الحميد } أي إلى طريق العزيز الغالب الحميد أي المحمود بآلائه وافضلاته على عباده وسائر مخلوقاته { الله الذي له ما في السموت وما في الأرض } خلقا وملكا وتصريفا وتدبيرا، هذا هو الله صاحب الصراط الموصل إلى الإسعاد والإكمال البشري، والكافرون معرضون بل ويصدون عنه فويل لهم من عذاب شديد، الكافرون { الذين يستحبون الحياة الدنيا } أي يفضلون الحياة الدنيا فيعملون للدنيا ويتركون العمل للاخرة لعدم إيمانهم بها { ويصدون } أنفسهم وغيرهم أيضا { عن سبيل الله } أي الإسلام { ويبغونها عوجا } أي معوجة إنهم يريدون من الإسلام أن يوافقهم في أهوائهم وما يشتهون حتى يقبلوه ويرضوا به دينا قال تعالى: { أولئك في ضلال بعيد } إنهم بهذا السلوك المتمثل في إيثار الدنيا على الآخرة والصد عن الإسلام، ومحاولة تسخير الإسلام لتحقيق أطماعهم وشهواتهم في ضلال بعيد لا يمكن لصاحبه أن يرجع منه إلى الهدى، وقوله تعالى في الآية [4] من هذا السياق { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } أي بلغتهم التي يتخاطبون بها ويتفاهمون لحكمة أن يبين لهم، والله بعد ذلك يضل من يشاء إضلاله حسب سنته في الإضلال ويهدي من يشاء كذلك { وهو العزيز } الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده { الحكيم } الذي يضع كل شيء في موضعه فلذا هو لا يضل إلا من رغب في الإضلال وتكلف له وأحبه وآثره، وتنكر للهدى وحارب المهتدين والداعين إلى الهدى، وليس من حكمته تعالى أن يضل من يطلب الهدى ويسعى إليه ويلتزم طريقه ويحبه ويحب أهله، وقوله تعالى: { ولقد أرسلنا موسى } أي موسى نبي بني إسرائيل { بآياتنآ } أي بحججنا وأدلتنا الدالة على رسالته والهادية إلى ما يدعو إليه وهي تسع آيات منها اليد والعصى { أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور } أي أخرج قومك من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، { وذكرهم بأيام الله } أي وقلنا له: ذكرهم بأيام الله وهي بلاؤه ونعمه إذ أنجاهم من عذاب آل فرعون وأنعم عليهم بمثل المن والسلوى، وذلك ليحملهم على الشكر لله بطاعته وطاعة رسوله، وقوله تعالى: { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } أي إن في ذلك التذكير بالبلاء والنعماء لدلالات يستدل بها على إفضال الله وإنعامه الموجب للشكر، ولكن الذين يجدون تلك الدلالات في التذكير هم أهل الصبر والشكر بل هم الكثيروا الصبر والشكر، وأما غيرهم فلا يرى في ذلك دلالة ولا علامة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إقامة الحجة على المكذبين بالقرآن الكريم، إذ هو مؤلف من الحروف المقطعة مثل الر وطسم والم وحم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله بل بسورة مثله.
2- بيان أن الكفر ظلام، والإيمان نور.
3- بيان الحكمة في إرسال الله تعالى الرسل بلغات أقوامهم.
4- تقرير أن الذي يخلق الهداية هو الله وأما العبد فليس له أكثر من الكسب .
5- فضيلة التذكير بالخير والشر ليشكر الله ويتقى.
6- فضيلة الصبر والشكر.
[14.6-9]
شرح الكلمات:
وإذ قال موسى: أي اذكر إذ قال موسى.
يسومونكم: يذيقونكم.
ويستحيون نساءكم: أي يستبقونهن.
بلاء من ربكم عظيم: أي ابتلاء واختبار، ويكون الخير والشر.
وإذ تأذن ربكم: أي أعلم ربكم.
بالبينات: بالحجج الواضحة على صدقهم في دعوة النبوة والتوحيد والبعث الاخر.
فردوا أيديهم في أفواههم: أي فرد الأمم أيديهم في أفواههم أي أشاروا إليهم أن اسكتوا.
مريب: موقع في الريبة.
معنى الآيات:
{ وإذ قال موسى لقومه } أي اذكر يا رسولنا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل { اذكروا نعمة الله عليكم } أي لتشكروها بتوحيده وطاعته، فإن من ذكر شكر وبين لهم نوع النعمة وهي إنجاؤهم من فرعون وملائه إذ كانوا يعذبونهم بالاضطهاد والاستعباد، فقال: { يسومونكم سوء العذاب } أي يذيقونكم سوء العذاب وهو أسوأه وأشده، { ويذبحون أبنآءكم } أي الأطفال المولودين، لأن الكهنة أو رجال السياسة قالوا لفرعون: لا يبعد أن يسقط عرشك وتزول دولتك على أيدي رجل من بني إسرائيل فأمر بقتل المواليد فور ولادتهم فيقتلون الذكور ويستبقون الإناث للخدمة ولعدم الخوف منهن وهو معنى قوله: { ويستحيون نسآءكم } وقوله تعالى: { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } فهو بالنظر إلى كونه عذابا بلاء بالشر، وفي كونه نجاة منه، بلاء بالخير، وقوله تعالى: { وإذ تأذن ربكم } هذا من قول موسى لبني إسرائيل أي أذكر لهم إذ أعلم ربكم مقسما لكم { لئن شكرتم } نعمي بعبادتي وتوحيدي فيها وطاعتي وطاعة رسولي بامتثال الأوامر واجتناب النواهي { لأزيدنكم } في الإنعام والإسعاد { ولئن كفرتم } فلم تشكروا نعمي فعصيتموني وعصيتم رسولي أي لأسلبنها منكم وأعذبكم بسلبها من أيديكم { إن عذابي لشديد } فاحذروه واخشوني فيه، وقوله تعالى: { وقال موسى } أي لبني إسرائيل { إن تكفروا أنتم } نعم الله فلم تشكروها بطاعته { ومن في الأرض جميعا } وكفرها من في الأرض جميعا { فإن الله لغني } عن سائر خلقه لا يفتقر إلى أحد منهم { حميد } أي محمود بنعمه على سائر خلقه، وقوله: { ألم يأتكم } هذا قول موسى لقومه وهو يعظهم ويذكرهم: { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم } أي لا يعلم عددهم ولا يحصيهم { إلا الله جآءتهم رسلهم بالبينت } أي بالحجج والبراهين على صدق دعوتهم وما جاء به من الدين الحق ليعبد الله وحده ويطاع وتطاع رسله فيكمل الناس بذلك ويسعدوا، وقوله: { فردوا أيديهم } أي ردت الأمم المرسل إليهم أيديهم إلى أفواههم تغيظا على أنبيائهم وحنقا، أو أشاروا إليهم بالسكوت فأسكتوهم ردا لدعوة الحق التي جاؤوا بها، وقالوا لهم: { إنا كفرنا بمآ أرسلتم به } أي بما جئتهم به من الدين الإسلامي والدعوة إليه، { وإنا لفي شك مما تدعوننآ إليه مريب } أي موقع في الريبة التي هي قلق النفس واضطرابها لعدم سكونها للخبر الذي يلقى إليها، هذا وما زال السياق طويلا وينتهي بقوله تعالى:
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد
[إبراهيم: 15].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية التذكير بنعم الله لنشكر ولا نكفر.
2- وعد الله تعالى بالمزيد من النعم لمن شكر نعم الله عليه.
3- كفر النعم سبب زوالها.
4- بيان غنى الله تعالى المطلق على سائر خلقه فالناس أن شكروا شكروا لأنفسهم وإن كفروا كفروا على أنفسهم أي شكرهم ككفرهم عائد على أنفسهم.
5- التذكير بقصص السابقين وأحوال الغابرين مشروع وفيه فوائد عظيمة.
[14.10-14]
شرح الكلمات:
أفي الله شك: أي لا شك في وجود الله ولا في توحيده، إذ الاستفهام إنكاري.
إلى أجل مسمى: أي إلى أجل الموت.
بسلطان مبين: بحجة ظاهرة تدل على صدقكم.
يمن على من يشاء: أي بالنبوة والرسالة على من يشاء لذلك.
وقد هدانا سبلنا: أي طرقه التي عرفناه بها وعرفنا عظيم قدرته وعز سلطانه.
لنخرجنكم من أرضنا: أي من ديارنا أو لتعودون في ديننا.
لمن خاف مقامي: أي وقوفه بين يدي يوم القيامة للحساب والجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ما ذكر به موسى قومه بقوله:
ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح...
[إبراهيم: 9] فقوله تعالى: { قالت رسلهم } أي قالت الرسل إلى أولئك الأمم الكافرة { أفي الله شك }؟ أي كيف يكون في توحيد الله شك وهو فاطر السماوات والأرض، فخالق السماوات والأرض وحده لا يعقل أن يكون له شريك في عبادته، أنه لا إله إلا هو وقوله: { يدعوكم } إلى الإيمان والعمل الصالح الخالي من الشرك { ليغفر لكم من ذنوبكم } وهو كل ذنب بينكم وبين ربكم من كبائر الذنوب وصغائرها أما مظالم الناس فردوها إليهم تغفر لكم وقوله: { ويؤخركم إلى أجل مسمى } أي يؤخر العذاب عنكم لتموتوا بآجالكم المقدرة لكم، وقوله: { قالوا } أي قالت الأمم الكافرة لرسلهم { إن أنتم إلا بشر مثلنا } أي ما أنتم إلا بشر مثلنا، { تريدون أن تصدونا } أي تصرفونا { عما كان يعبد آبآؤنا } من آلهتنا أي أصنامهم وأوثانهم التي يدعون أنها آلهة، وقولهم: { فأتونا بسلطان مبين } قال الكافرون للرسل ائتونا بسلطان مبين أي بحجة ظاهرة تدل على صدقكم أنكم رسل الله إلينا فأجابت الرسل قائلة ما أخبر تعالى به عنهم بقوله: { قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم } أي ما نحن إلا بشر مثلكم فما لا تستطيعونه أنتم لا نستطيعه نحن { ولكن الله يمن على من يشآء } أي إلا أن الله يمن على من يشاء بالنبوة فمن علينا بها فنحن ننبئكم بما أمرنا الله ربنا وربكم أن ننبئكم به كما نأمركم وندعوكم لا من تلقاء أنفسنا ولكن بما أمرنا أن نأمركم به وندعوكم إليه، { وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله } أي بإرادته وقدرته فهو ذو الإرادة التي لا تحد والقدرة التي لا يعجزها شيء ولذا توكلنا عليه وحده وعليه { فليتوكل المؤمنون } فإنه يكفيهم كل ما يهمهم، ثم قالت الرسل وهي تعظ اقوامها بما تقدم: { وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا } أي طرقنا التي عرفناه بها وعرفنا عظمته وعزة سلطانه فأي شيء يجعلنا لا نتوكل عليه وهو القوي العزيز { ولنصبرن على مآ آذيتمونا } بألسنتكم وأيديكم متوكلين على الله حتى ينتقم الله تعالى لنا منكم، { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } إذ هو الكافل لكل من يثق فيه ويفوض أمره إليه متوكلا عليه وحده دون سواه ، وقوله تعالى: { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن في ملتنا } هذا إخبار منه تعالى على ما قالت الأمم الكافرة لرسلها: قالوا موعدين مهددين بالنفي والإبعاد من البلاد لكل من يرغب عن دينهم ويعبد غير آلهتهم: { لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن في ملتنا } أي ديننا الذي نحن عليه وهذا أوحى الله تعالى إلى رسله بما أخبر تعالى به: { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم } قال لنهلكن الظالمين ولم يقل لنهلكنهم إشارة إلى علة الهلاك وهي الظلم الذي هو الشرك والإفساد ليكون ذلك عظة للعالمين، وقوله تعالى: { ذلك } أي الإنجاء للمؤمنين والإهلاك للظالمين جزاء { لمن خاف مقامي } أي الوقوف بين يدي يوم القيامة { وخاف وعيد } على ألسنة رسلي بالعذاب لمن كفر بي وأشرك في عبادتي ومات على غير توبة إلي من كفره وشركه وظلمه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بطلان الشك في وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ووجوب عبادته وحده لذلك لكثرة الأدلة وقوة الحجج، وسطوع البراهين.
2- بيان ما كان أهل الكفر يقابلون به رسل الله والدعاة إليه سبحانه وتعالى وما كانت الرسل ترد به عليهم.
3- وجوب التوكل على الله تعالى، وعدم صحة التوكل على غيره إذ لا كافي إلا الله.
4- وجوب الصبر على الأذى في سبيل الله وانتظار الفرج بأخذ الظالمين.
5- عاقبة الظلم وهي الخسران والدمار لا تتبدل ولا تتخلف وإن طال الزمن.
[14.15-20]
شرح الكلمات:
واستفتحوا: أي طلب الرسل الفتح لهم أي النصر على أقوامهم الظالمين.
وخاب: أي خسر وهلك.
كل جبار عنيد: أي ظالم يجبر الناس على مراده عنيد كثير العناد.
من ماء صديد: أي هو ما يخرج سائلا من أجواف أهل النار مختلطا من قيح ودم وعرق.
يتجرعه ولا يكاد يسيغه: أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته ولا يقارب ازدراده لقبحه ومراراته.
ويأتيه الموت من كل مكان: أي لشدة ما يحيط به من العذاب فكل أسباب الموت حاصلة ولكن لا يموت.
أعمالهم كرماد: أي الصالحة منها كصلة الرحم وبر الوالدين وإقراء الضيف وفك الأسير والفاسدة كعبادة الأصنام بالذبح لها والنذر والحلف والعكوف حولها كرماد.
لا يقدرون مما كسبوا على شيء: أي لا يحصلون من أعمالهم التي كسبوها على ثواب وإن قل لأنها باطلة بالشرك.
وما ذلك على الله بعزيز: أي بصعب ممتنع عليه.
معنى الآيات:
هذا آخر حديث ما ذكر به موسى قومه من أنباء الأمم السابقة على بني إسرائيل، قال تعالى في الإخبار عنهم: { واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد } أي واستفتح الرسل أي طلبوا من الله تعالى أن يفتح عليهم بنصر على أعدائه وأعدائهم واستجاب الله لهم، { وخاب كل جبار عنيد } أي خسر وهلك كل ظالم طاغ معاند للحق وأهله، وقوله: { من ورآئه جهنم } أي أمامه جهنم تنتظره سيدخلها بعد هلاكه ويعطش ويطلب الماء فتسقيه الزبانية { من مآء صديد } أي وهو صديد أهل النار وهو ما يخرج من قيح ودم وعرق، { يتجرعه } ، أي يبتلعه جرعة بعد أخرى لمرارته { ولا يكاد يسيغه } أي يدخله جوفه الملتهب عطشا لقبحه ونتنه ومرارته وحرارته، وقوله تعالى: { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } أي ويأتي هذا الجبار العنيد والذي هو في جهنم يقتله الظمأ فيسقى بالماء الصديد يأتيه الموت لوجود أسبابه وتوفرها من كل مكان إذ العذاب محيط به من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت لأن الله تعالى لم يشأ ذلك قال تعالى:
لا يموت فيها ولا يحيا
[الأعلى: 13] وقال:
لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها
[فاطر: 36] ومن وراء ذلك العذاب الذي هو فيه { عذاب } أي لون آخر من العذاب { غليظ } أي شديد لا يطاق، وقوله تعالى: { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } أي شديد هبوب الريح فيه { لا يقدرون مما كسبوا } أي من أعمال في الدنيا { على شيء } أي من الثواب والجزاء والحسن عليها، هذا مثل أعمالهم الصالحة كأنواع الخير والبر والطالحة كالشرك والكفر وعبادة غير الله مما كانوا يرجون نفعه، الكل يذهب ذهاب رماد حملته الريح وذهبت به، مشتدة في يوم عاصف شديد هبوب الريح فيه.
وقوله تعالى: { ذلك هو الضلال البعيد } أي ذلك الذي دل عليه المثل هو الضلال البعيد لمن وقع فيه إذ ذهب كل عمله سدى بغير طائل فلم ينتفع بشيء منه وأصبح من الخاسرين.
وقوله تعالى: { ألم تر أن الله خلق السموت والأرض بالحق } أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله خلق السماوات والأرض بالحق أي من أجل الإنسان ليذكر الله تعالى ويشكره فإذا تنكر لربه فكفر به وأشرك غيره في عبادته عذبه بالعذاب الأليم الذي تقدم وصفه في هذا السياق لأن الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض عبثا وباطلا بل خلقهما وخلق ما فيهما من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن ترك الذكر والشكر عذبه أشد العذاب وأدومه وأبقاه، وقوله تعالى: { إن يشأ يذهبكم } أيها الناس المتمردون على طاعته المشركون به { ويأت بخلق جديد } غيركم يعبدونه ويوحدونه { وما ذلك على الله بعزيز } أي بممتنع ولا متعذر لأن الله على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إنجاز وعد لله لرسله في قوله:
فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين
[إبراهيم: 13] الآية.
2- خيبة وخسران عامة أهل الشرك والكفر والظلم.
3- عظم عذاب يوم القيامة وشدته.
4- بطلان أعمال المشركين والكافرين وخيبتهم فيها إذ لا ينتفعون بشيء منها.
5- عذاب أهل الكفر والشرك والظلم لازم لأنهم لم يذكروا ولم يشكروا والذكر والشكر علة الوجود كله فلما عبثوا بالحياة استحقوا عذابا أبديا.
[14.21-23]
شرح الكلمات:
وبرزوا لله جميعا: أي برزت الخلائق كلها لله وذلك يوم القيامة.
إنا كنا لكم تبعا: أي تابعين لكم فيما تعتقدون وتعملون.
فهل أنتم مغنون عنا: أي دافعون عنا بعض العذاب.
ما لنا من محيص: أي من ملجأ ومهرب أو منجا.
لما قضي الأمر: بإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
ما أنا بمصرخكم: أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب والكرب.
تجري من تحتها الأنهار: أي من تحت قصورها وأشجارها الأنهار الأربعة: الماء واللبن والخمر والعسل.
معنى الآيات:
في هذه الآيات عرض سريع للموقف وما بعده من استقرار أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة يقرر مبدأ الوحي والتوحيد والبعث الآخر بأدلة لا ترد، قال تعالى: { وبرزوا لله جميعا } أي خرجت البشرية من قبورها مؤمنوها وكافروها صالحوها وفاسدوها { فقال الضعفاء } أي الأتباع { للذين استكبروا } أي الرؤساء والموجهون للناس بما لديهم من قوة وسلطان { إنا كنا لكم تبعا } أي أتباعا في عقائدكم وما تدينون به، { فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء }؟ أي فهل يمكنكم أن ترفعوا عنا بعض العذاب بحكم تبعيتنا لكم فأجابوهم بما أخبر تعالى به عنهم: { قالوا لو هدانا الله لهديناكم } اعترفوا الآن أن الهداية بيد الله وأقروا بذلك، ولكنا ضللنا فأضللناكم { سوآء علينآ أجزعنآ } اليوم { أم صبرنا ما لنا من محيص } أي من مخرج من هذا العذاب ولا مهرب، وهنا يقوم إبليس خطيبا فيهم بما أخبر تعالى عنه بقوله: { وقال الشيطان } أي إبليس عدو بني آدم { لما قضي الأمر } بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النار النار { إن الله وعدكم وعد الحق } بأن من آمن وعمل صالحا مبتعدا عن الشرك والمعاصي أدخله جنته وأكرمه في جواره، وأن من كفر وأشرك وعصى أدخله النار وعذبه عذاب الهون في دار البوار { ووعدتكم } بأن وعد الله ووعيده ليس بحق ولا واقع { فأخلفتكم } فيما وعدتكم به، وكنت في ذلك كاذبا عليكم مغررا بكم، { وما كان لي عليكم من سلطان } أي من قوة مادية أكرهتكم على اتباعي ولا معنوية ذات تأثير خارق للعادة أجبرتكم بها على قبول دعوتي { إلا أن دعوتكم } أي لكن دعوتكم { فاستجبتم لي } إذا { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم } أي بمزيل صراخكم بما أغيثكم به من نصر وخلاص من هذا العذاب { ومآ أنتم } أيضا { بمصرخي } ، أي بمغيثي { إني كفرت بمآ أشركتمون من قبل } إذ كل عابد لغير الله في الواقع هو عابد للشيطان إذ هو الذي زين له ذلك ودعاه إليه، و { إن الظالمين لهم عذاب أليم } أي المشركين لهم عذاب أليم موجع، وقوله تعالى: { وأدخل الذين آمنوا } أي وأدخل الله الذين آمنوا أي صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به رسوله { وعملوا الصالحات } وهي العبادات التي تعبد الله بها عباده فشرعها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم { جنات } بساتين { تجري من تحتها الأنهار } أي من خلال قصورها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل { خالدين فيها } لا يخرجون منها ولا يبغون عنها حولا، وقوله تعالى: { بإذن ربهم } أي أن ربهم هو الذي أذن لهم بدخولها والبقاء فيها أبدا، وقوله: { تحيتهم فيها سلام } أي السلام عليكم يحييهم ربهم وتحييهم الملائكة ويحيي بعضهم بعضا بالسلام وهي كلمة دعاء بالسلامة من كل العاهات والمنغصات وتحية بطلب الحياة الأبدية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن التقليد والتبعية لا تكون عذرا لصاحبها عند الله تعالى.
2- بيان أن الشيطان هو المعبود من دون الله تعالى إذ هو الذي دعا إلى عبادة غير الله وزينها للناس.
3- تقرير لعلم الله بما لم يكن كيف يكون إذ ما جاء في الآيات من حوار لم يكن بعد ولكنه في علم الله كائن كما هو وسوف يكون كما جاء في الآيات لا يتخلف منه حرف واحد.
4- وعيد الظالمين بأليم العذاب.
5- العمل لا يدخل الجنة إلا بوصفه سببا لا غير، وإلا فدخول الجنة يكون بإذن الله تعالى ورضاه.
[14.24-30]
شرح الكلمات:
كلمة طيبة: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كشجرة طيبة: هي النخلة.
كلمة خبيثة: هي كلمة الكفر.
كشجرة خبيثة: هي الحنظل.
اجتثت: أي اقتلعت جثتها أي جسمها وذاتها.
بالقول الثابت: هو لا إله إلا الله.
وفي الآخرة: أي في القبر فيجيب الملكين عما يسألانه عنه حيث يسالانه عن ربه ودينه ونبيه.
بدلوا نعمة الله كفرا: أي بدلوا التوحيد والإسلام بالجحود والشرك.
دار البوار: أي جهنم.
وجعلوا لله أندادا: أي شركاء.
معنى الآيات:
الآيات في تقرير التوحيد والبعث والجزاء، قوله تعالى: { ألم تر } أيها الرسول أي ألم تعلم { كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة } هي كلمة الإيمان يقولها المؤمن { كشجرة طيبة } وهي النخلة { أصلها ثابت } في الأرض { وفرعها } عال { في السمآء } ، { تؤتي أكلها } تعطي أكلها أي ثمرها الذي يؤكل منها كل حين بلحا وبسرا ومنصفا ورطبا وتمرا وفي الصباح والمساء { بإذن ربها } أي بقدرته وتسخيره فكلمة الإيمان لا إله إلا الله محمد رسول الله تثمر للعبد أعمالا صالحة كل حين فهي في قلبه والأعمال الصالحة الناتجة عنها ترفع إلى الله عز وجل، وقوله تعالى: { ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون } أي كما ضرب هذا المثال للمؤمن والكافر في هذا السياق يضرب الأمثال للناس مؤمنهم وكافرهم لعلهم يتذكرون أي رجاء أن يتذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويعملوا الصالحات فينجوا من عذاب الله، وقوله: { ومثل كلمة خبيثة } هي كلمة الكفر في قلب الكافر { كشجرة خبيثة } هي الحنظل مرة ولا خير فيها ولا أصل لها ثابت ولا فرع لها في السماء { اجتثت } أي اقتلعت واستؤصلت { من فوق الأرض ما لها من قرار } أي لاثبات لها ولا تثمر إلا ما فيها من مرارة وسوء طعم وعدم بركة وقوله تعالى: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } هذا وعد من الله تعالى لعباده المؤمنين الصادقين بأنه يثبتهم على الإيمان مهما كانت الفتن والمحن حتى يموتوا على الإيمان { وفي الآخرة } أي في القبر إذ هو عتبة الدار الآخرة عندما يسألهم الملكان عن الله وعن الدين والنبي من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبتهم بالقول الثابت وهو الإيمان وأصله لا إله إلا الله محمد رسول الله والعمل الصالح الذي هو الإسلام وقوله تعالى: { ويضل الله الظالمين } مقابل هداية المؤمنين فلا يوفقهم للقول الثابت حتى يموتوا على الكفر فيهلكوا ويخسروا، وذلك لإصرارهم على الشرك ودعوتهم إليه وظلم المؤمنين وأذيتهم من أجل إيمانهم، وقوله تعالى: { ويفعل الله ما يشآء } تقرير لإرادته الحرة فهو عز وجل يثبت من يشاء ويضل من يشاء فلا اعتراض عليه ولا نكير مع العلم أنه يهدي ويضل بحكم عالية تجعل هدايته كإضلاله رحمة وعدلا.
وقوله تعالى: { ألم تر } أي ألم ينته إلى علمك أيها الرسول { إلى الذين بدلوا نعمت الله } التي هي الإسلام الذي جاءهم به رسول الله بما فيه من الهدى والخير فكذبوا رسول الله وكذبوا بما جاء به ورضوا بالكفر وأنزلوا بذلك قومهم الذين يحثونهم على الكفر ويشجعونهم على التكذيب أنزلوهم { دار البوار } فهلك من هلك في بدر كافرا إلى جهنم، ودار البوار هي جهنم يصلونها أي يحترقون بحرها ولهيبها { وبئس القرار } أي المقر الذي أحلوا قومهم فيه، وقوله تعالى: { وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله } أي جعل أولئك الذين بدلوا نعمة الله كفرا وهو كفار مكة لله أندادا أي شركاء عبدوها وهي اللات والعزى وهبل ومناة وغيرها من آلهتهم الباطلة، جعلوا هذه الأنداد ودعوا إلى عبادتها ليضلوا ويضلوا غيرهم عن سبيل الله التي هي الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى وجواره الكريم، وقوله تعالى: { قل تمتعوا } أي بما أنتم فيه من متاع الحياة الدنيا { فإن مصيركم } أي نهاية أمركم { إلى النار } حيث تصيرون إليها بعد موتكم إن أصررتم على الشرك والكفر حتى متم على ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- المقارنة بين الإيمان والكفر، وكلمة التوحيد وكلمة الكفر وما يثمره كل واحد من هذه الأصناف من خير وشر.
3- بشرى المؤمن بتثبيت الله تعالى له على إيمانه حتى يموت مؤمنا وبالنجاة من عذاب القبر حيث يجيب منكرا ونكيرا على سؤالهما إياه بتثبيت الله تعالى له.
4- الأمر في قوله تعالى تمتعوا ليس للإباحة ولا للوجوب وإنما هو للتهديد والوعيد.
[14.31-34]
شرح الكلمات:
لا بيع فيه ولا خلال: هذا يوم القيامة لا بيع فيه ولا فداء ولا مخالة تنفع ولا صداقة.
الفلك: أي السفن فلفظ الفلك دال على متعدد ويذكر ويؤنث.
دائبين: جاريين في فلكهما لا يفتران أبدا حتى نهاية الحياة الدنيا.
لظلوم كفار: كثير الظلم لنفسه ولغيره، كفار عظيم الكفر هذا ما لم يؤمن ويهتد فإن آمن واهتدى سلب هذا الوصف منه.
معنى الآيات:
لما أمر الله تعالى رسوله أن يقول لأولئك الذين بدلوا نعمة الله كفرا
قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار
[إبراهيم: 30] أمر رسوله أيضا أن يقول للمؤمنين.. يقيموا الصلاة وينفقوا من أموالهم سرا وعلانية ليتقوا بذلك عذاب يوم القيامة الذي توعد به الكافرون فقال: { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } أي يؤدوها على الوجه الذي شرعت عليه فيتموا ركوعها وسجودها ويؤدوها في أوقاتها المعينة لها وفي جماعة وعلى طهارة كاملة مستقبلين بها القبلة حتى تثمر لهم زكاة أنفسهم وطهارة أرواحهم { وينفقوا } ويوالوا الإنفاق في كل الأحيان { سرا وعلانية } ، { من قبل أن يأتي يوم } وهو يوم القيامة { لا بيع فيه ولا خلال } لا شراء فيحصل المرء على ما يفدي به نفسه من طريق البيع، ولا خلة أي صداقة تنفعه ولا شفاعة إلا بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى { الله الذي خلق السموت والأرض } أي أنشأهما وابتدأ خلقهما { وأنزل من السمآء مآء } هو ماء الأمطار { فأخرج به من الثمرات } والحبوب { رزقا لكم } تعيشون به وتتم حياتكم عليه { وسخر لكم الفلك } أي السفن { لتجري في البحر بأمره } أي بإذنه وتسخيره تحملون عليها البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وتركبونها كذلك { وسخر لكم الأنهار } الجارية بالمياه العذبة لتشربوا وتسقوا مزارعكم وحقولكم { وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين } لا يفتران أبدا في جريهما وتنقلهما في بروجهما لمنافعكم التي لا تتم إلا على ضوء الشمس وحرارتها ونور القمر وتنقله في منازله { وسخر لكم اليل والنهار } الليل لتسكنوا فيه وتستريحوا والنهار لتعملوا فيه وتكسبوا أرزاقكم { وآتاكم من كل ما سألتموه } مما أنتم في حاجة إليه لقوام حياتكم، هذا هو الله المستحق لعبادتكم رغبة فيه ورهبة منه، هذا هو المعبود الحق الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له وليس تلك الأصنام والأوثان التي تعبدونها وتدعون إلى عبادتها حتى حملكم ذلك على الكفر والعناد بل والظلم والشر والفساد.
وقوله تعالى { وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها } أي بعد أن عدد الكثير من نعمه أخبر أنه لا يمكن للإنسان أن يعد نعم الله عليه ولا أن يحصيها عدا بحال من الأحوال، وقرر حقيقة في آخر هذه الموعظة والذكرى وهي أن الإنسان إذا حرم الإيمان والهداية الربانية { لظلوم } أي كثير الظلم كفور كثير الكفر عظيمه، والعياذ بالله تعالى من ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإكثار من الصدقات لاتقاء عذاب النار.
2- جواز صدقة العلن كصدقة السر وإن كانت الأخيرة أفضل.
3- التعريف بالله عز وجل إذ معرفة الله تعالى هي التي تثمر الخشية منه تعالى.
4- وجوب عبادة الله تعالى وبطلان عبادة غيره.
5- وصف الإنسان بالظلم والكفر وشدتهما ما لم يؤمن ويستقيم على منهج الإسلام.
[14.35-41]
شرح الكلمات:
هذا البلد آمنا: أي اجعل مكة بلدا آمنا يأمن كل من دخله.
واجنبني: بعدني.
أن نعبد الأصنام: عن أن نعبد الأصنام.
أضللن كثيرا من الناس: أي بعبادتهم لها.
من تبعني فإنه مني: أي من اتبعني على التوحيد فهو من أهل ملتي وديني.
من ذريتي: أي من بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر.
بواد غير ذي زرع: أي مكة إذ لا مزارع فيها ولا حولها يومئذ.
تهوي إليهم: تحن إليهم وتميل رغبة في الحج والعمرة.
على الكبر إسماعيل وإسحاق: أي مع الكبر إذ كانت سنه يومئذ تسعا وتسعين سنة وولد له إسحاق وسنه مائة واثنتا عشرة سنة.
ولوالدي: هذا قبل أن يعرف موت والده على الشرك.
يوم يقوم الحساب: أي يوم يقوم الناس للحساب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وقد تضمنت هذه الآيات ذلك، فقوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم } أي اذكر إذ قال إبراهيم فكيف يذكر ما لم يوح الله تعالى إليه بذلك ففسر هذا نبوة رسول الله ونزول الوحي إليه، وقوله: { رب اجعل هذا البلد ءامنا } أي ذا أمن فيأمن من دخله على نفسه وماله والمراد من البلد مكة.
وقوله: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } فيه تقرير للتوحيد الذي هو عبادة الله وحده ومعنى اجنبني أبعدني أنا وأولادي وأحفادي وقد استجاب الله تعالى له فلم يكن في أولاده وأولاد أولاده مشرك، وقوله: { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } تعليل لسؤاله ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها، واضلال الناس كان بعبادتهم لها فضلوا في أودية الشرك، وقوله: { فمن تبعني } أي من أولادي { فإنه مني } أي على ملتي وديني، { ومن عصاني } فلم يتبعني على ملة الإسلام إن تعذبه فذاك وإن تغفر له ولم تعذبه { فإنك غفور رحيم } ، وقوله: { ربنآ إني أسكنت من ذريتي } أي من بعض ذريتي وهو إسماعيل مع أمه هاجر { بواد غير ذي زرع } هو مكة إذ ليس فيها ولا حولها زراعة يومئذ وإلى آماد بعيدة وأزمنة عديدة { عند بيتك المحرم } قال هذا بإعلام من الله تعالى له أنه سيكون له بيت في هذ الوادي ومعنى المحرم أي الحرام وقد حرمه تعالى فمكة حرام إلى يوم القيامة لا يصاد صيدها ولا يختلي خلاها ولا تسفك فيها دماء ولا يحل فيها قتال، وقوله: { ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم } هذا دعاء بأن ييسر الله تعالى عيش سكان مكة ليعبدوا الله تعالى فيها بإقام الصلاة، فإن قلوب بعض الناس عندما تهفوا إلى مكة وتميل إلى الحج والعمرة تكون سببا في نقل الأرزاق والخيرات إلى مكة، وقوله: { وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } دعاء آخر بأن يرزق الله بنيه من الثمرات ليشكروا الله تعالى على ذلك فوجود الأرزاق والثمرات موجبة للشكر، إذ النعم تقتضي شكرا، وقوله: { ربنآ إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السمآء } أراد به أن ما سأل ربه فيه من كل ما سأل إنما هو من باب إظهار العبودية لله والتخشع لعظمته والتذلل لعزته والافتقار إلى ما عنده، وإلا فالله أعلم بحاله وما يصلحه هو وبنيه، وما هم في حاجة إليه لأنه تعالى يعلم كل شيء ولا يخفى عنه شيء في الأرض ولا في السماء.
. وقوله: { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعآء } أراد به حمد الله وشكره على ما أنعم به عليه حيث رزقه إسماعيل وإسحاق على كبر سنه، والإعلام بأن الله تعالى سميع دعاء من يدعوه وينيب إليه، وقوله: { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي } أيضا من يقيم الصلاة، لأن الصلاة هي علة الحياة كلها إذ هي الذكر والشكر فمتى أقام العبد الصلاة فأداها بشروطها وأركانها كان من الذاكرين الشاكرين، ومتى تركها العبد كان من الناسين الغافلين وكان من الكافرين، وأخيرا ألح على ربه في قبول دعائه وسأل المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الناس للحساب وذلك يوم القيامة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل مكة وشرفها وأنها حرم آمن أي ذو أمن.
2- الخوف من الشرك لخطره وسؤال الله تعالى الحفظ من ذلك.
3- علاقة الإيمان والتوحيد أولى من علاقة الرحم والنسب.
4- أهمية إقام الصلاة وأن من لم يرد أن يصلي لا حق له في الغذاء ولذا يعدم إن أصر على ترك الصلاة.
5- بيان استجابة دعاء إبراهيم عليه السلام فيما سأل ربه تعالى فيه.
6- وجوب حمد الله وشكره على ما ينعم به على عبده.
7- مشروعية الاستغفار للنفس وللمؤمنين والمؤمنات.
8- تقرير عقيدة البعث والحساب والجزاء.
[14.42-46]
شرح الكلمات:
عما يعمل الظالمون: أي المشركون من أهل مكة وغيرهم.
ليوم تشخص فيه الأبصار: أي تنفتح فلا تغمض لشدة ما ترى من الأهوال.
مهطعين مقنعي رؤوسهم: أي مسرعين إلى الداعي الذي دعاهم إلى الحشر، رافعي رؤوسهم.
وأفئدتهم هواء: أي فارغة من العقل لشدة الخوف والفزع.
نجب دعوتك: أي على لسان رسولك فنعبدك ونوحدك ونتبع الرسل.
ما لكم من زوال: أي عن الدنيا إلى الآخرة.
وقد مكروا مكرهم: أي مكرت قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه.
وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال: أي لم يكن مكرهم بالذي تزول منه الجبال فإنه تافه لا قيمة له فلا تعبأ به ولا تلتفت إليه.
معنى الآيات:
في هذا السياق الكريم تقوية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر ليواصل دعوته إلى ربه إلى أن ينصرها الله تعالى وتبلغ المدى المحدد لها والأيام كانت صعبة على رسول الله وأصحابه لتكالب المشركين على أذاهم، وازدياد ظلمهم لهم فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } من قومك إنه إن لم ينزل بهم نقمته ولم يحل بهم عذابه إنما يريد أن يؤخرهم { ليوم تشخص فيه الأبصار } أي تنفتح فلا تغمض ولا تطرف لشدة الأهوال وصعوبة الأحوال، { مهطعين } أي مسرعين { مقنعي رءوسهم } أي حال كونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم أي رافعين رؤوسهم مسرعين للداعي الذي دعاهم إلى المحشر، قال تعالى:
واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب
[ق: 41] { لا يرتد إليهم طرفهم } أي لا تغمض أعينهم من الخوف { وأفئدتهم } أي قلوبهم { هوآء } أي فارغة من الوعي والإدراك لما أصابها من الفزع والخوف ثم أمر تعالى رسوله في الآية [44] بإنذار الناس مخوفا لهم من عاقبة أمرهم إذا استمروا على الشرك بالله والكفر برسوله وشرعه، { يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا } أي أشركوا بربهم، وآذوا عباده المؤمنين { ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب } أي يطلبون الإنظار والإمهال { نجب دعوتك } أي نوحدك ونطيعك ونطيع رسولك، فيقال لهم: توبيخا وتقريعا وتكذيبا لهم: { أولم تكونوا أقسمتم } أي حلفتم { من قبل ما لكم من زوال } أي أطلبتم الآن التأخير ولم تطلبوه عندما قلتم ما لنا من زوال ولا ارتحال من الدنيا إلى الآخرة، { وسكنتم في مسكن الذين ظلموا أنفسهم } بالشرك والمعاصي { وتبين لكم } أي عرفتم { كيف فعلنا بهم } أي بإهلاكنا لهم وضربنا لكم الأمثال في كتبنا وعلى ألسنة رسلنا فيوبخون هذا التوبيخ ولا يجابون لطلبهم ويقذفون في الجحيم، وقوله تعالى: { وقد مكروا مكرهم } أي وقد مكر كفار قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قرروا حبسه مغللا في السجن حتى الموت أو قتله، أو نفيه وعزموا على القتل ولم يستطيعوه { وعند الله مكرهم } أي علمه ما أرادوا به، وجزاؤهم عليه، وقوله: { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } أي ولم يكن مكرهم لتزول منه الجبال فإنه تافه لا وزن له ولا اعتبار فلا تحفل به أيها الرسول ولا تلتفت، فإنه لا يحدث منه شيء، وفعلا قد خابوا فيه أشد الخيبة .
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تأخير العذاب عن الظلمة في كل زمان ومكان لم يكن غفلة عنهم، وإنما هو تأخيرهم إلى يوم القيامة أو إلى أن يحين الوقت المحدد لأخذهم.
2- بيان أهوال يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه حتى يتمنى الظالمون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا ويوحدوا ربهم في عبادته.
3- التنديد بالظلم وبيان عقاب الظالمين بذكر أحوالهم.
4- تقرير جريمة قريش في ائتمارها على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[14.47-52]
شرح الكلمات:
إن الله عزيز: أي غالب لا يحال بينه وبين مراده بحال من الأحوال.
ذو انتقام: أي صاحب انتقام ممن عصاه وعصى رسوله.
يوم تبدل الأرض: أي اذكر يا رسولنا للظالمين يوم تبدل الأرض.
وبرزوا لله: أي خرجوا من القبور لله ليحاسبهم ويجزيهم.
مقرنين: أي مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم.
في الأصفاد: الأصفاد جمع صفد وهو الوثاق من حبل وغيره.
سرابيلهم: أي قمصهم التي يلبسونها من قطران.
هذا بلاغ: أي هذا القرآن بلاغ للناس.
أولوا الألباب: أصحاب العقول.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهم يعانون من صلف المشركين وظلمهم وطغيانهم فيقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } إنه كما لم يخلف رسله الأولين لا يخلفك أنت، إنه لا بد منجز لك ما وعدك من النصر على أعدائك فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم. { إن الله عزيز } أي غالب لا يغلب على أمره ما يريده لا بد واقع { ذو انتقام } شديد ممن عصاه وتمرد على طاعته وحارب أولياءه، واذكر { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموت } كذلك { وبرزوا } أي ظهروا بعد خروجهم من قبورهم في طريقهم إلى المحشر إجابة منهم لدعوة الداعي وقد برزوا { لله الواحد القهار } ، { وترى المجرمين يومئذ } يا رسولنا تراهم { مقرنين في الأصفاد } مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى أعناقهم، هؤلاء هم المجرمون اليوم بالشرك والظلم والشر والفساد أجرموا على أنفسهم أولا ثم على غيرهم ثانيا سواء ممن ظلموهم وآذوهم أو ممن دعوهم إلى الشرك وحملوهم عليه، الجميع قد أجرمو في حقهم، { سرابيلهم } قمصانهم التي على أجسامهم { من قطران } وهو ما تدهن به الإبل: مادة سوداء محرقة للجسم أو من نحاس إذ قرئ من قطرآن أي من نحاس أحمي عليه حتى بلغ المنتهى في الحرارة { وتغشى وجوههم النار } أي وتغطي وجوههم النار بلهبها، هؤلاء هم المجرمون في الدنيا بالشرك والمعاصي، وهذا هو جزاؤهم يوم القيامة، فعل تعالى هذا بهم { ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب } فما بين أن وجدوا في الدنيا وبين أن انتهوا إلى نار جهنم واستقروا في أتون جحيمها إلا كمن دخل مع باب وخرج مع آخر، وأخيرا يقول تعالى: { هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب } أي هذا القرآن بلاغ للناس من رب الناس قد بلغه إليهم رسول رب الناس { ولينذروا به } أي بما فيه من العظات والعبر والعرض لألوان العذاب وصنوف الشقاء لأهل الإجرام والشر والفساد، { وليعلموا } أي بما فيه من الحجج والدلائل والبراهين { أنما هو إله واحد } أي معبود واحد لا ثاني له وهو الله جل جلاله، فلا يعبدوا معه غيره إذ هو وحده الرب والإله الحق، وما عداه فباطل، { وليذكر أولوا الألباب } أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول المدركة الواعية فيعملوا على إنجاء أنفسهم من غضب الله وعذابه، وليفوزوا برحمته ورضوانه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان صدق وعد الله من وعدهم من رسله وأوليائه.
2- بيان أحوال المجرمين في العرض وفي جهنم.
3- بيان العلة في المعاد الآخر وهو الجزاء على الكسب في الدنيا.
4- قوله تعالى في آخر آية من هذه السورة: { هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب } هذه الآية صالحة لأن تكون عنوانا للقرآن الكريم إذ دلت على مضمونة كاملا مع وجازة اللفظ وجمال العبارة، والحمد لله أولا وآخرا.
[15 - سورة الحجر]
[15.1-5]
شرح الكلمات:
الر: الله أعلم بمراده بذلك، تكتب الر. ويقرأ: ألف، لام، را.
تلك آيات الكتاب: الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف المقطعة تلك آيات الكتاب أي القرآن.
يود: يحب ويرغب متمنيا أن لو كان من المسلمين.
ويتمتعوا: أي بالملذات والشهوات.
ويلههم الأمل: أي بطول العمر وبلوغ الأوطار وإدراك الرغائب الدنيوية.
إلا ولها كتاب معلوم: أي أجل محدود لإهلاكها.
ما تسبق من أمة أجلها: أي لا يتقدم أجلها المحدد لها ومن زائدة للتأكيد.
معنى الآيات:
بما أن السورة مكية فإنها تعالج قضايا العقيدة وأعظمها التوحيد والنبوة والبعث. قوله تعالى: { الر }: الله أعلم بمراده به، ومن فؤائد هذه الحروف المقطعة تنبيه السامع وشده بما يسمع من التلاوة، إذ كانوا يمنعون سماعه خشية التأثر به، فكانت هذه الفواتح التي لم يألفوا مثلها في كلامهم تشدهم إلى سماع ما بعدها من القرآن، وقوله: { تلك آيات الكتاب } من الجائز القول: الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف الر، والم، طس، حم عسق. { تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } المبين: المبين للحق والباطل والهدى والضلال وقوله تعالى: { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين }: يخبر تعالى أن يوما سيأتي هو يوم القيامة عندما يرى الكافر المسلمين يدخلون الجنة ويدخل هو النار يود يومئذ متمنيا أن لو كان من المسلمين. وقد يحدث الله تعالى ظروفا في الدنيا وأمورا يتمنى الكافر فيها لو كان من المسلمين. وقوله تعالى: { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } أي اتركهم يا رسولنا، أي اترك الكافرين يأكلوا ما شاءوا من الأطعمة، ويتمتعوا بما حصل لهم من الشهوات والملذات، ويلههم الأمل عن التفكير في عاقبة أمرهم. إذ همهم طول أعمارهم، وتحقيق أوطارهم، فسوف يعلمون إذا ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون أنهم كانوا في الدنيا مخطئين بإعراضهم عن الحق ودعوة الحق والدين الحق وقوله: { ومآ أهلكنا من قرية } أي من أهل قرية بعذاب الإبادة والاستئصال { إلا ولها كتاب } ، أي لها أجل مكتوب في كتاب محدد اليوم والساعة. وقوله {... ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } أي بناء على كتاب المقادير فإن أمة كتب الله هلاكها لا يمكن أن يتقدم هلاكها قبل ميقاته المحدد، ولا أن يستأخر عنه ولو ساعة. وفي هذا تهديد وتخويف لأهل مكة وهو يحاربون دعوة الحق ورسول الحق لعل قريتهم قد كتب لها كتاب وحدد لها أجل وهم لا يشعرون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- القرآن الكريم مبين لكل ما يحتاج في إسعاد الإنسان وإكماله.
2- إنذار الكافرين وتحذيرهم من مواصلة كفرهم وحربهم للإسلام فإن يوما سيأتي يتمنون فيه أن لو كانوا مسلمين.
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر فما من شيء إلا وسبق به علم الله وكتبه عنده في كتاب المقادير الحياة كالموت، والربح كالخسارة، والسعادة كالشقاء، جميع ما كان وما هو كائن وما سيكون سبق به علم الله وكتب في اللوح المحفوظ.
[15.6-11]
شرح الكلمات:
نزل عليه الذكر: أي القرآن الكريم.
لو ما تأتينا بالملائكة: أي هلا تأتينا بالملائكة تشهد لك أنك نبي الله.
وما كانوا إذا منظرين: أي ممهلين، بل يأخذهم العذاب فور نزول الملائكة.
إنا نحن نزلنا الذكر: أي القرآن.
في شيع الأولين: أي في فرق وطوائف الأولين.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } أي قال الكافرون المنكرون للوحي والنبوة { إنك لمجنون } أي غير عاقل وإلا لما ادعيت النبوة. وفي قولهم هذا استهزاء ظاهر بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو ثمرة ظلمة الكفر التي في قلوبهم وقوله: { لو ما تأتينا بالملائكة } لو ما هنا بمعنى هلا التحضيضية أي هلا تأتينا بالملائكة نراهم عيانا يشهدون لك بأنك رسول الله { إن كنت من الصادقين } في دعواك النبوة والرسالة فأت بالملائكة تشهد لك. قال تعالى { ما ننزل الملائكة إلا بالحق } أي نزولا ملتبسا بالحق. أي لا تنزل الملائكة إلا لإحقاق الحق وإبطال الباطل لا لمجرد تشهي الناس ورغبتهم ولو نزلت الملاكئة ولم يؤمنوا لنزل بهم العذاب فورا { وما كانوا إذا منظرين } أي ممهلين بل يهلكون في الحال. وقوله تعالى في الآية [9] { إنا نحن نزلنا الذكر } أي القرآن { وإنا له لحافظون } أي من الضياع ومن الزيادة والنقصان لأنه حجتنا على خلقنا إلى يوم القيامة. أنزلنا الذكر هدى ورحمة وشفاء ونورا. هم يريدون العذاب والله يريد الرحمة. مع أن القرآن نزلت به الملائكة، والملائكة إن نزلت ستعود إلى السماء ولم يبق ما يدل على الرسالة إلا القرآن ولكن القوم لا يريدون أن يؤمنوا وليسوا في ذلك الكفر والعناد وحدهم بل سبقتهم طوائف وأمم أرسل فيهم فكذبوا وجاحدوا وهو قوله تعالى: { ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } أي في فرقهم وأممهم { وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } لأن علة المرض واحدة إذا فلا تيأس يا رسول الله ولا تحزن بل اصبر وانتظر وعد الله لك بالنصر فإن وعده حق:
كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز
[المجادلة: 21].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان يلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من استهزاء وسخرية من المشركين.
2- مظهر من مظاهر رحمة الله بالإنسان، يطلب نزول العذاب والله ينزل الرحمة.
3- بيان حفظ الله تعالى للقرآن الكريم من الزيادة والنقصان ومن الضياع.
4- بيان سنة الله تعالى في الأمم والشعوب وهي أنهم ما يأتيهم من رسول ينكر عليهم مألوفهم ويدعوهم إلى جديد من الخير والهدى إلا وينكرون ويستهزءون.
[15.12-18]
شرح الكلمات:
كذلك نسلكه: أي التكذيب بالقرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد خلت سنة الأولين: أي مضت سنة الأمم السابقة.
فظلوا فيه يعرجون: أي يصعدون.
إنما سكرت: أي سدت كما يسكر النهر أو الباب.
في السماء بروجا: أي كواكب ينزلها الشمس والقمر.
شيطان رجيم: أي مرجوم بالشهب.
شهاب مبين: كوكب يرجم به الشيطان يحرقه أو يمزقه أو يخبله أي يفسده.
معنى الآيات:
ما زال السياق في المكذبين للنبي المطالبين بنزول الملائكة لتشهد للرسول بنبوته حتى يؤمنوا بها. قال تعالى: { كذلك نسلكه } أي التكذيب في قلوب المجرمين من قومك، كما سلكناه حسب سنتنا في قلوب من كذبوا الرسل من قبلك فسلكه { في قلوب المجرمين } من قومك فلا يؤمنون بك ولا بالذكر الذي أنزل عليك، وقوله تعالى: { وقد خلت سنة الأولين } أي مضت وهي تعذيب المكذبين للرسل المستهزئين بهم لأنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم. وقوله تعالى: { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا } أي الملائكة أو المكذبون { فيه } أي في ذلك الباب { يعرجون } أي يصعدون طوال النهار طالعين هابطين ولقالوا في المساء { إنما سكرت أبصارنا } أي منعت من النظر الحقيقي فلم نر الملائكة ولم نرى السماء { بل نحن قوم مسحورون } فأصبحنا نرى أشياء لا حقيقة لها، وقوله تعالى: { ولقد جعلنا في السماء بروجا } أي كواكب هي منازل للشمس والقمر ينزلان بها وعلى مقتضاها يعرف عدد السنين والحساب. وقوله: { وزيناها } أي السماء بالنجوم { للناظرين } فيها من الناس. وقوله: { وحفظناها } أي السماء الدنيا { من كل شيطان رجيم } أي مرجوم ملعون. وقوله: { إلا من استرق السمع } إلا مارد من الشياطين طلع إلى السماء لاستراق السمع من الملائكة لينزل بالخبر إلى وليه من الكهان من الناس { فأتبعه شهاب } من نار { مبين } أي يبين أثره في الشيطان إما بإخباله وإفساده وإما بإحراقه. هذه الآيات وهي قوله تعالى: { ولقد جعلنا في السماء بروجا } إلى آخر ما جاء في هذا السياق الطويل، القصد منه إظهار قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وكلها مقتضية لإرسال الرسول وإنزال الكتاب لهداية الناس إلى عبادة ربهم وحده عبادة يكملون عليها ويسعدون في الدنيا والآخرة، ولكن المكذبين لا يعلمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في المكذبين المعاندين وهي أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
2- مطالبة المكذبين المجرمين بالآيات كرؤية الملائكة لا معنى لها إذ القرآن أكبر آية ولم يؤمنوا به فلذا لو فتح باب من السماء فظلوا فيه يعرجون لما آمنوا.
3- بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته فيما حملت الآيات من مظاهر لذلك، بدءا من قوله: { ولقد جعلنا في السماء بروجا } إلى الآية السابعة والعشرين من هذا السياق الكريم.
[15.19-25]
شرح الكلمات:
والأرض مددناها: أي بسطناها.
وألقينا فيها رواسي: أي جبالا ثوابت لئلا تتحرك الأرض.
موزون: أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى.
معايش: جمع معيشة أي ما يعيش عليه الإنسان من الأغذية .
ومن لستم له برازقين: كالعبيد والإماء والبهائم.
وما ننزله إلا بقدر معلوم: أي المطر.
وأرسلنا الرياح لواقح: أي تلقح السحاب فيمتلئ ماء، كما تنقل مادة اللقاح من ذكر الشجر إلى أنثاه.
وما أنتم له بخازنين: أي لا تملكون خزائنه فتمنعونه أو تعطونه من تشاءون.
المستقدمين منكم والمستأخرين: أي من هلكوا من بني آدم إلى يومكم هذا والمستأخرين ممن هم أحياء وممن لم يوجدوا بعد إلى يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبات الإيمان به وعبادته وتوحيده والتقرب إليه بفعل محابه وترك مساخطه. قوله تعالى: { والأرض مددناها } أي بسطناها { وألقينا فيها رواسي } أي جبالا ثوابت تثبت الأرض حتى لا تتحرك أو تميد بأهلها فيهلكوا، { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى. وقوله: { وجعلنا لكم فيها معايش } عليها تعيشون وهي أنواع الحبوب والثمار وغيرها، وقوله: { ومن لستم له برازقين } بل الله تعالى هو الذي يرزقه وإياكم من العبيد والإماء والبهائم. وقوله: { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } أي ما من شيء نافع للبشرية هي في حاجة إليه لقوام حياتها عليه إلا عند الله خزائنه، ومن ذلك الأمطار، لكن ينزله بقدر معلوم حسب حاجة المخلوقات وما تتوقف عليه مصالحها، وهو كقوله:
بيده الملك وهو على كل شيء قدير
[الملك: 1] وكقوله:
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشآء إنه بعباده خبير بصير
[الشورى: 27] وقوله: { وأرسلنا الرياح لواقح } أي تلقح السحاب فتمتلئ ماء، { فأنزلنا من السمآء ماء } بقدرتنا وتدبيرنا { فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين } أي لا تملكون خزائنه فتمنعونه من تشاوءن وتعطونه من تشاءون بل الله تعالى هو المالك لذلك، فينزله على أرض قوم ويمنعه آخرين. وقوله: { وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ولقد علمنا المستقدمين منكم } أي الذين ماتوا من لدن آدم { ولقد علمنا المستأخرين } ممن هم أحياء ومن لم يوجدوا وسيوجدون ويموتون إلى يوم القيامة، الجميع علمهم الله، وغيره لا يعلم فلذا استحق العبادة وغيره لا يستحقها، وقوله { وإن ربك } أيها الرسول { هو يحشرهم } أي إليه يوم القيامة ليحاسبهم ويجازيهم، وهذا متوقف على القدرة والحكمة والعلم، والذي أحياهم ثم أماتهم قادر على إحيائهم مرة أخرى والذي علمهم قبل خلقهم وعلمهم بعد خلقهم قادر على حشرهم والحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه لا يخلقهم عبثا بل خلقهم ليبلوهم ثم ليحاسبهم ويجزيهم إنه هو الحكيم العليم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته المتجلية فيما يلي:
أ- خلق الأرض ومدها وإلقاء الجبال فيها. إرسال الرياج لواقح للسحب.
ب- إنبات النباتات بموازين دقيقة. إحياء المخلوقات ثم إماتتها.
ج- إنزال المطر بمقادير معينة. علمه تعالى بمن مات ومن سيموت.
2- تقرير التوحيد ان من هذه آثار قدرته هو الواجب أن يعبد وحده دون سواه.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هذا الكلام كلام الله أوحاه إليه صلى الله عليه وسلم.
[15.26-33]
شرح الكلمات:
ولقد خلقنا الإنسان: أي آدم عليه السلام.
من صلصال من حمإ مسنون: أي طين يابس له صلصلة من حمإ أي طين أسود متغير.
من نار السموم: نار لا دخان لها تنفذ في المسام وهي ثقب الجلد البشري.
فإذا سويته: أي أتممت خلقه.
فقعوا له ساجدين: أي خروا له ساجدين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته. قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان } أي آدم { من صلصال } أي طين يابس يسمع له صوت الصلصلة. { من حمإ مسنون } أي طين أسود متغير الريح، هذا مظهر من مظاهر القدرة والعلم، وقوله: { والجآن خلقناه من قبل } من قبل خلق آدم والجان هو أبو الجن خلقناه { من نار السموم } ونار السموم نار لا دخان لها تنفذ في مسام الجسم... وقوله { وإذ قال ربك } أي اذكر يا رسولنا إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة لآدم، إذ المعبود هو الآمر المطاع وهو الله تعالى. فسجدوا { إلا إبليس أبى } أي امتنع أن يكون مع الساجدين. وقوله: { قال يإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين } أي أي شيء حصل لك حتى امتنعت أن تكون من جملة الساجدين من الملائكة؟ فأظهر اللعين سبب امتناعه وهو حسده لآدم واستكباره، فقال { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون }. وفي الآيات التالية جواب الله تعالى ورده عليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أصل خلق الإنسان وهو الطين، والجان وهو لهب النار.
2- فضل السجود، إذ أمر تعالى به الملائكة فسجدوا أجمعون الا إبليس.
3- ذم الحسد وأنه شر الذنوب وأكثرها ضررا.
4- ذم الكبر وأنه عائق لصاحبه عن الكمال في الدنيا والسعادة في الآخرة.
5- فضل الطين على النار لأن من الطين خلق آدم ومن النار خلق إبليس.
[15.34-44]
شرح الكلمات:
قال فاخرج منها: أي من الجنة.
فإنك رجيم: أي مرجوم مطرود ملعون.
إلى يوم الوقت المعلوم: أي وقت النفخة الأولى التي تموت فيها الخلائق كلها.
بما أغويتني: أي بسبب إغوائك لي أي إضلالك وإفسادك لي.
المخلصين: أي الذين استخلصتهم لطاعتك فإن كيدي لا يعمل فيهم.
هذا صراط علي مستقيم: أي هذا طريق مستقيم موصل إلي وعلي مراعاته وحفظه.
لها سبعة أبواب: أي أبواب طبقاتها السبع التي هي جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { فاخرج منها } هذا جواب عن قول إبليس،
لم أكن لأسجد لبشر
[الحجر: 33]. الآية إذا فاخرج منها أي من الجنة { فإنك رجيم } أي مرجوم مطرود مبعد، { وإن عليك } لعنتي أي غضبي وإبعادي لك من السماوات { إلى يوم الدين } أي إلى يوم القيامة وهو يوم الجزاء. فقال اللعين ما أخبر تعالى به عنه: { قال رب فأنظرني } أي أمهلني لا تمتني { إلى يوم يبعثون } فأجاب الرب تعالى بقوله: { فإنك من المنظرين } أي الممهلين { إلى يوم الوقت المعلوم } وهو فناء بني آدم حيث لم يبق منهم أحد وذلك عند النفخة الأولى. فلما سمع اللعين ما حكم به الرب تعالى عليه قال ما أخبر الله عنه بقوله: { قال رب بمآ أغويتني } أي بسبب إغوائك { لأزينن لهم في الأرض } أي الكفر والشرك وكبائر الذنوب، و { ولأغوينهم } أي لأضلنهم { أجمعين } { إلا عبادك منهم المخلصين } فاستثنى اللعين من استخلصهم الله تعالى لطاعته وأكرمهم بولايته وهم الذين لا يستبد بهم غضب ولا تتحكم فيهم شهوة ولا هوى. وقوله تعالى: { قال هذا صراط علي مستقيم } أي هذا طريق مستقيم إلي أرعاه وأحفظه وهو { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } { وإن جهنم } لموعدك وموعد أتباعك الغاوين أجمعين { لها سبعة أبواب } إذ هي سبع طبقات لكل طبقة باب فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة، وهو معنى قوله تعالى: { لكل باب منهم جزء مقسوم } أي نصيب معين وطبقاتها هي: جهنم، لظى، الحطمة، السعير، سقر، الجحيم، الهاوية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمان إبليس من التوبة لاستمرار غضب الله عليه إلى يوم القيامة.
2- استجاب الله لشر خلقه وهو إبليس فمن الجائز أن يستجيب الله دعاء الكافر لحكمة يريدها الله تعالى.
3- أمضى سلاح يغوي به إبليس بني آدم هو التزين للأشياء حتى ولو كانت دميمة قبيحة يصيرها بوسواسه زينة حسنة حتى يأتيها الآدمي.
4- عصمة الرسل وحفظ الله للأولياء حتى لا يتلوثوا بأوضار الذنوب.
5- طريق الله مستقيم إلى الله تعالى يسلكه الناس حتى ينتهوا إلى الله سبحانه فيحاسبهم ويجزيهم بكسبهم الخير بالخير والشر بالشر.
7- بيان أن لجهنم طبقات واحدة فوق أخرى ولكل طبقة بابها فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة لا غير.
[15.45-56]
شرح الكلمات:
إن المتقين: أي الذين خافوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم من العبادات.
ونزعنا ما في صدروهم من غل: أي حقد وحسد وعداوة وبغضاء.
على سرر متقابلين: أي ينظر بعضهم إلى بعض ما داموا جالسين وإذا انصرفوا دارت بهم الأسرة فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.
لا يمسهم فيها نصب: أي تعب.
العذاب الأليم: أي الموجع شديد الإيجاع.
ضيف إبراهيم: هم ملائكة نزلوا عليه وهم في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم كان من بينهم جبريل وكانوا في صورة شباب من الناس.
إنا منكم وجلون: اي خائفون وذلك لما رفضوا أن يأكلوا.
بغلام عليم: أي بولد ذي علم كثير هو إسحاق عليه السلام.
فيم تبشرون: أي تعجب من بشارتهم مع كبره بولد.
من القانطين: أي الآيسين.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى جزاء اتباع إبليس الغاوين، ناسب ذكر جزاء عباد الرحمن أهل التقوى والإيمان فقال تعالى مخبرا عما أعد لهم من نعيم مقيم: { إن المتقين } أي الله بترك الشرك والمعاصي { في جنات وعيون } يقال لهم { ادخلوها بسلام آمنين } أي حال كونكم مصحوبين بالسلام آمنين من الخوف والفزع. وقوله { ونزعنا ما في صدورهم من غل } أي لم يبق الله تعالى في صدور أهل الجنة ما ينغص نعيمها، أو يكدر صفوها كحقد أو حسد أو عداوة أو شحناء. وقوله: { إخونا على سرر متقبلين } لما طهر صدورهم مما من شأنه أن ينغص أو يكدر، أصبحوا في المحبة لبعضهم بعضا أخوانا يضمهم مجلس واحد يجلسون فيه على سرر متقابلين وجها لوجه، وإذا أرادوا الإنصراف إلى قصورهم تدور بهم الأسرة فلا ينظر أحدهم إلى قفا أخيه. وقوله تعالى: { لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين } فيه الإخبار بنعيمين: نعيم الراحة الأبدية إذ لا نصب ولا تعب في الجنة ونعيم البقاء والخلد فيها إذ لا يخرجون منها أبدا، وفي هذا تقرير لمعتقد البعث والجزاء بأبلغ عبارة وأوضحها. وقوله تعالى: { نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } أي خبر يا رسولنا عبادنا المؤمنين الموحدين أن ربهم غفور لهم إن عصوه وتابوا من معصيتهم. رحيم بهم فلا يعذبهم. { وأن عذابي هو العذاب الأليم } ونبئهم أيضا أن عذابي هو العذاب الأليم فليحذروا معصيتي بالشرك بي، أو مخالفة أوامري وغشيان محارمي. وقوله تعالى: { ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما } أي سلموا عليه فرد عليهم السلام وقدم لهم قرى الضيف وكان عجلا حنيذا، كما تقدم في هود وعرض عليهم الأكل فامتنعوا وهنا قال: { إنا منكم وجلون } أي خائفون، وكانوا جبريل وميكائيل وإسرافيل في صورة لشباب حسان. فلما أخبرهم بخوفه منهم، لأن العادة أن النازل على الإنسان إذا لم يأكل طعامه دل ذلك على أنه يريد به سوء.
{ قالوا لا توجل } أي لا تخف، { إنا نبشرك بغلام عليم } أي بولد ذي علم كثير. فرد إبراهيم قائلا بما أخبر تعالى عنه بقوله: { قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون } أي هذه البشارة بالولد على كبر سني أو عجيب، فلما تعجب من البشارة وظهرت عليه علامات الشك والتردد في صحة الخبر قالوا له: { بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين } أي الآيسين. وهنا ورد عليهم قائلا نافيا القنوط عنه لأن القنوط حرام. { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضآلون } أي الكافرون بقدرة الله ورحمته لجهلهم بربهم وصفاته المتجلية في رحمته لهم وإنعامه عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نعيم الجنة، وأن نعيمها جسماني روحاني معا دائم أبدا.
2- صفاء نعيم الجنة من كل ما ينغصه أو يكدره.
3- وعد الله بالمغفرة لمن تاب من أهل الإيمان والتقوى من موحديه.
4- وعيده لأهل معاصيه إذا لم يتوبوا إليه قبل موتهم.
5- مشروعية الضيافة وأنها من خلال البر والكرم.
6- حرمة القنوط واليأس من رحمة الله تعالى.
[15.57-66]
شرح الكلمات:
قال فما خطبكم: أي ما شأنكم؟
إلى قوم مجرمين: هم قوم لوط عليه السلام.
إنا لمنجوهم أجمعين: أي لإيمانهم وصالح أعمالهم.
الغابرين: أي الباقين في العذاب.
قوم منكرون: أي لا أعرفكم.
بما كانوا فيه يمترون: أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم.
حيث تؤمرون: أي إلى الشام حيث أمروا بالخروج إليه.
وقضينا إليه ذلك الأمر: أي فرغنا إلى لوط من ذلك الامر، وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن ضيف إبراهيم، وها هو ذا قد سألهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله: { قال فما خطبكم أيها المرسلون } أي ما شأنكم أيها المرسلون من قبل الله تعالى إذ هم ملائكته؟ { قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين } أي على أنفسهم، وعلى غيرهم وهم اللوطيون لعنهم الله. وقوله تعالى: { إلا آل لوط } أي آل بيته والمؤمنين معه، { إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنآ } أي قضينا { إنها لمن الغابرين } أي الباقين في العذاب، أي قضى الله وحكم بإهلاكها في جملة من يهلك لأنها كافرة مثلهم، إلى هنا انتهى الحديث مع إبراهيم وانتقلوا إلى مدينة لوط عليه السلام قال تعالى { فلما جآء آل لوط المرسلون } أي انتهوا إليهم ودخلوا عليهم الدار قال لوط عليه السلام لهم { إنكم قوم منكرون } أي لا أعرفكم وأجابوه قائلين: نحن رسل ربك جئناك بما كان قومك فيه يمترون أي يشكون وهو عذابهم العاجل جزاء كفرهم وإجرامهم، { وآتيناك بالحق } الثابت الذي لا شك فيه { وإنا لصادقون } فيما أخبرناك به وهو عذاب قومه المجرمين. وعليه { فأسر بأهلك بقطع من اليل } أي أسر بهم في جزء من الليل، { واتبع أدبارهم } أي امش وراءهم وهم أمامك { ولا يلتفت منكم أحد } بأن ينظر وراءه، أي حتى لا يرى ما يسوءه عند نزول العذاب بالمجرمين، وقوله { وامضوا حيث تؤمرون } أي يأمركم ربكم وقد أمروا بالذهاب إلى الشام، وقوله تعالى: { وقضينآ إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلآء مقطوع مصبحين } أي وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين، أي أنهم مهلكون عن آخرهم في الصباح الباكر ما أن يطلع الصباح حتى تقلب بهم الأرض ويهلكوا عن آخرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالإجرام وبيان عقوبة المجرمين.
2- لا قيمة للنسب ولا للمصاهرة ولا عبرة بالقرابة إذا فصل الكفر والإجرام بين الأنساب والأقرباء فامرأة لوط هلكت مع الهالكين ولم يشفع لها أنها زوجة نبي ورسول عليه السلام.
3- مشروعية المشي بالليل لقطع المسافات البعيدة.
4- مشروعية مشي المسئول وكبير القوم وراء الجيش والقافلة لتفقد أحوالهم، والاطلاع على من يتخلف منهم لأمر، وكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
5- كراهية الإشفاق على الظلمة الهالكين، لقوله: ولا يلتفت منكم أحد أي: بقلبه.
[15.67-79]
شرح الكلمات:
وجاء أهل المدينة يستبشرون: أي مدينة سدوم، أي فرحين بإتيانهم الفاحشة.
واتقوا الله ولا تخزون: أي لا تذلوني في انتهاك حرمة ضيفي.
أولم ننهك عن العالمين: أي عن إجارتك لهم واستضافتك.
لفي سكرتهم يعمهون: أي غوايتهم، وشدة غلمتهم التي أزالت عقولهم، يترددون.
مشرقين: أي وقت شروق الشمس.
من سجيل: أي طين طبخ بالنار.
لآيات للمتوسمين: أي الناظرين المعتبرين.
لبسبيل مقيم: أي طريق قريش إلى الشام مقيم دائم ثابت.
أصحاب الأيكة: أي قوم شعيب عليه السلام، والأيكة غيضة شجر بقرب مدين.
وإنهما لبإمام مبين: أي قوم لوط، وأصحاب الأيكة لبطريق مبين واضح.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع لوط عليه السلام وضيفه من الملائكة من جهة، وقوم لوط من جهة، قال تعالى: { وجآء أهل المدينة } أي مدينة سدوم وأهلها سكانها من اللوطيين، وقوله { يستبشرون } أي فرحين مسرورين لطمعهم في إتيان الفاحشة، فقال لهم لوط ما أخبر الله تعالى به: { قال إن هؤلآء } يشير إلى الملائكة { ضيفي فلا تفضحون } أي فيه أي بطلبكم الفاحشة، { واتقوا الله } أي خافوه { ولا تخزون } أي تهينوني وتذلوني. فأجابوا بما أخبر تعالى به عنهم: { قالوا أو لم ننهك عن العالمين } أي أتقول ما تقول ولم تذكر أنا نهيناك عن استضافة أحد من الناس أو تجيره، فأجابهم لوط عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه: { قال هؤلآء بناتي إن كنتم فاعلين } أي هؤلاء بناتي فتزوجوهن إن كنتم فاعلين ما آمركم به أو أرشدكم إليه. وقوله تعالى: { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } أي وحياتك يا رسولنا، إنهم أي قوم لوط { لفي سكرتهم } غوايتهم التي أذهبت عقولهم فهبطوا إلى درك أسفل من درك الحيوان، { يعمهون } أي حيارى يترددون، { فأخذتهم الصيحة مشرقين } أي صيحة جبريل عليه السلام مشرقين مع إشراق الشمس. وقوله تعالى { وأمطرنا عليهم } فوق ذلك { حجارة من سجيل } أي من طين مطبوخ بالنار.. وقوله تعالى: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } أي إن في ذلك المذكور من تدمير مدن كاملة بما فيها لآيات وعبر وعظات للمتوسمين أي الناظرين نظر تفكر وتأمل لمعرفة الأشياء بسماتها وعلاماتها. وقوله تعالى: { وإنها لبسبيل مقيم } أي وإن تلك القرى الهالكة لبطريق ثابت باق يمر به أهل مكة في أسفارهم إلى الشام. وقوله: { إن في ذلك لآية للمؤمنين } أي لعبرة للمؤمنين فلا يقدمون على محارم الله، ولا يرتكبون معاصيه. وقوله تعالى: { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين }. هذه إشارة خاطفة إلى قصة شعيب عليه السلام مع قومه أصحاب الأيكة، والأيكة الفيضة من الشجر الملتف.. وكانت منازلهم بها وكانوا مشركين وهو الظلم في قوله { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين } لأنفسهم بعبادة غير الله تعالى، وقوله تعالى: { فانتقمنا منهم } أي أهلكناهم بحر شديد يوم الظله وسيأتي الحديث عنهم في سورة الشعراء قال تعالى هناك فأخذهم عذاب يوم الظله إنه كان عذاب يوم عظيم.
وقوله: { وإنهما لبإمام مبين } الإمام الطريق لأن الناس يمشون فيه وهو أمامهم، ومبين واضح. والضمير في قوله وإنهما عائد على قوم لوط، وقوم شعيب وهم أصحاب الأيكة لا أصحاب مدين لأنه أرسل إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين، والطريق طريق قريش إلى الشام، والقصد من ذكر هذا وعظ قريش وتذكرهم، فهل يتعظون ويتذكرون؟
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إهلاك قوم لوط.
2- إنكار الفاحشة وأنها أقبح فاحشة تعرفها الإنسانية هي إتيان الذكور.
3- بيان دفاع لوط عليه السلام عن ضيفه حتى فداهم ببناته.
4- شرف النبي صلى الله عليه وسلم حيث أقسم الله تعالى بحياته في قوله { لعمرك }.
5- الحث على نظر التفكير والإعتبار والتفرس فإنه أنفع للعقل البشري.
6- بيان نقمة الله تعالى من الظالمين للاعتبار والإتعاظ.
7- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذه الأخبار لن تكون إلا عن وحي إلهي.
[15.80-88]
شرح الكلمات:
أصحاب الحجر: هم قوم صالح ومنازلهم بين المدينة النبوية والشام.
وآتيناهم آياتنا: أي في الناقة وهي أعظم آية.
ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون: من بناء الحصون وجمع الأموال.
الصفح الجميل: أي أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه وهذا قبل الأمر بقتالهم.
سبعا من المثاني: هي آيات سورة الفاتحة السبع.
أزواجا منهم: أي أصنافا من الكفار.
واخفض جناحك: أي ألن جانبك للمؤمنين.
معنى الآيات:
هذا شروع في موجز قصة أخرى هي قصة أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح، قال تعالى: { ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين } وفي هذا موعظة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كذبه قومه من أهل مكة فليصبر على تكذيبهم فقد كذبت قبلهم أقوام. وقال تعالى { المرسلين } ولم يكذبوا إلا صالحا باعتبار أن من كذب رسولا فقد كذب عامة الرسل، لأن دعوة الرسل واحدة وهي أن يعبد الله وحده بما شرع لإكمال الإنسان وإسعاده في الحالتين. وقوله { وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين } إن المراد من الآيات القائمة بالناقة منها أنها خرجت من صخرة، وأنها تشرب ماء البلد يوما، وأنها تقف أمام كل بيت ليحلب أهله منها ما شاءوا، وإعراضهم عنها، عدم إيمانهم وتوبتهم إلى الله تعالى بعد أن آتاهم ما طلبوا من الآيات. وقوله { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا } أي كانوا يتخذون بالنحت بيوتا داخل الجبال يسكنوها شتاء آمنين من أن تسقط عليهم لقوتها ومن أن ينالهم برد أو حر لوقايتها لهم، وقوله تعالى { فأخذتهم الصيحة مصبحين } وذلك صيحة اليوم الرابع وهو يوم السبت فهلكوا أجمعين، { فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } من المال والعتاد وبناء الحصون بل هلكوا ولم ينج منهم أحد إلا من آمن وعمل صالحا فقد نجاه الله تعالى مع نبيه صالح عليه السلام. وقوله تعالى: { وما خلقنا السموت والأرض وما بينهمآ إلا بالحق } أي إلا من أجل أن أذكر وأشكر، فلذا من كفر بي فلم يذكرني وعصاني فلم يشكرني أهلكته. لأني لم أخلق هذا الخلق العظيم لهوا وباطلا وعبثا. وقوله: { وإن الساعة لآتية } أي حتما لا محالة وثم يجزي كل بما كسب فلا تحزن على قومك ولا تجزع منهم فإن جزاءهم لازم وآت لا بد، فاصبر واصفح عنهم وهو معنى قوله تعالى { فاصفح الصفح الجميل } أي الذي لا جزع معه. وقوله { إن ربك هو الخلاق العليم } خلق كل شيء وعلم بما خلق فعلى كثرة المخلوقات يعلم نياتها، وأعمالها، وأحوالها، ولا يخفى عليه شيء من أمرها وسيعيدها كما بدأها ويحاسبها ويجزيها بما كسبت. وهذا من شأنه أن يساعد الرسول صلى الله عليه وسلم على الصبر والثبات على دعوته حتى ينصرها الله تعالى في الوقت الذي حدده لها.
وقوله تعالى: { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } أي أعطيناك سورة الفاتحة أم القرآن وأعطيناك القرآن العظيم وهو خير عظيم لا يقادر قدره. إذا { لا تمدن عينيك } متطلعا { إلى ما متعنا به أزواجا منهم } أي أصنافا من رجالات قريش. فما آتيناك خير مما هم عليه من المال والحال التي يتمتعون فيها بلذيذ الطعام والشراب. وقوله: { ولا تحزن عليهم } إن هم لم يؤمنوا بك ولم يتابعوك على ما جئت به، فإن أمرهم إلى الله تعالى، وأمره تعالى أن يلين جانبه لأصحابه المؤمنين فقال: { واخفض جناحك للمؤمنين } فحسبك ولاية الله لك فذر المكذبين أولي النعمة، وتعايش مع المؤمنين، ولين جانبك لهم، واعطف عليهم فإن الخير فيهم وليس في أولئك الأغنياء الأثرياء الكفرة الفجرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إذا أراد الله هلاك أمة فإن قوتها المادية لا تغني عنها شيئا.
2- لم يخلق الله الخلق عبثا بل خلقه ليعبد بالذكر والشكر، فمن عبده نجا، ومن أعرض عن ذكره وترك عبادته أذاقه عذاب الخزي في الدنيا والآخرة أو في الآخرة وهو أشد وأخزى.
3- بيان أن الصفح الجميل هو الذي لا جزع معه.
4- بيان أن من أوتي القرآن لم يؤت أحد مثله من الخير قط.
5- فضل الفاتحة إذ هي السبع المثاني.
6- على الدعاة إلى الله أن لا يلتفتوا إلى ما في أيدي الناس من مال ومتاع، فإن ما آتاهم الله من الإيمان والعلم والتقوى خير مما آتى أولئك من المال والمتاع.
7- استحباب لين الجانب للمؤمنين والعطف عليهم والرحمة لهم.
[15.89-99]
شرح الكلمات:
النذير المبين: المبين النذارة.
على المقتسمين: أي الذين قسموا كتاب الله فقالوا فيه شعر، وقالوا سحر، وقالوا كهانة.
جعلوا القرآن عضين: هم المقسمون للقرآن وجعلوه عضين جمع عضة وهي القطعة والجزء من الشيء.
فاصدع بما تؤمر: أي اجهر به وأعرضه كما أمرك ربك.
يضيق صدرك بما يقولون : أي من الاستهزاء بك والتكذيب لك.
حتى يأتيك اليقين: أي الموت، أي إلى أن تتوفى وأنت تعبد ربك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه ما ينبغي أن يكون عليه فأمره تعالى بقوله: { وقل إني أنا النذير المبين } أي أعلن لقومك بأنك النذير البين النذارة لكم يا قوم أن ينزل بكم عذاب الله إن أصررتم على الشرك والعناد والكفر، وقوله: { كمآ أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين } انذركم عذابا كالذي أنزله الله وينزله على المقتسمين الذين قسموا التوراة والإنجيل فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وهم اليهود والنصارى، والمقتسمين الذين تقاسموا أن يبيتوا صالحا فأنزل الله بهم عقوبته والمقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين أي أجزاء فقالوا فيه شعر وسحر وكهانة، المقتسمين الذين قسموا طرق مكة وجعلوها نقاط تفتيش يصدون عن سبيل الله كل ما جاء يريد الإسلام وهؤلاء كلهم مقتسمون وحل بهم عذاب الله ونقمته. وقوله تعالى: { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } يقسم الجبار تبارك وتعالى لرسوله أنه ليسألنهم يوم القيامة عما كانوا يعملون ويجزيهم به فلذا لا يهولنك أمرهم واصبر على أذاهم. وقوله { فاصدع بما تؤمر } أي أجهر بدعوة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وما تؤمر ببيانه والدعوة إليه أو التنفير منه، { وأعرض عن المشركين } ولا تبال بهم، وقوله: { إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون } والمراد بهؤلاء المستهزئين الذين واعد تعالى بكفاية رسوله شرهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث كلهم ماتوا بآفات مختلفة في أمد يسير، عليهم لعائن الله تعالى، وقوله تعالى: { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } أي من الاستهزاء بك والسخرية، ومن المبالغة في الكفر والعناد فنرشدك إلى ما يخفف عنك الألم النفسي { فسبح بحمد ربك } أي قل سبحان الله وبحمده أي أكثر من هذا الذكر { وكن من الساجدين } أي المصلين إذ لا سجود إلا في الصلاة أو تلاوة القرآن، إذا فافزع عند الضيق إلى الصلاة فلذا كان صلى الله عليه وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة، وقوله: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أي واصل العبادة وهي الطاعة في غاية الذل والخضوع لله تعالى حتى يأتيك اليقين الذي هو الموت فإن القبر أول عتبة الآخرة وبموت الإنسان ودخوله في الدار الآخرة أصبح إيمانه يقينا محضا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الإختلاف في كتاب الله تعالى على نحو ما اختلف فيه أهل الكتاب.
2- مشروعية الجهر بالحق وبيانه لا سيما إذا لم يكن هناك اضطهاد.
3- فضل التسبيح بجملة: سبحان الله وبحمده ومن قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر وهذا مروي في الصحيح.
4- مشروعية صلاة الحاجة فمن حزبه أمر أو ضاق به فليصل صلاة يفرج الله تعالى بها ما به أو يقضي حاجته إن شاء وهو العليم الحكيم.
[16 - سورة النحل]
[16.1-7]
شرح الكلمات:
أتى أمر الله: أي دنا وقرب أمر الله بعذابكم أيها المشركون فلا تستعجلون.
ينزل الملائكة بالروح: أي بالوحي الذي به حياة الأرواح والمراد من الملائكة جبريل.
خلق الإنسان من نطفة: أي قطرة من المني.
دفء ومنافع: أي ما تستدفئون به، ومنافع من العسل واللبن واللحم والركوب.
حين تريحون: أي حين تردونها من مراحها.
وحين تسرحون: أي وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها أي الأماكن التي تسرح فيها.
إلا بشق الأنفس: أي بجهد الأنفس ومشقة عظيمة.
معنى الآيات:
لقد استعجل المشركون بمكة العذاب وطالبوا به غير مرة فأنزل الله تعالى قوله: { أتى أمر الله } أي بعذابكم أيها المستعجلون له. لقد دنا منكم وقرب فالنضر بن الحارث القائل:
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم
[الأنفال: 32] جاءه بعد سنيات قلائل فهلك ببدر صبرا، إلى جهنم، وعذاب يوم القيامة لمن استعجله قد قرب وقته ولذا عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه وقرب مجيئه فلا معنى لاستعجاله فلذا قال الله تعالى: { فلا تستعجلوه } وقوله { سبحانه وتعالى عما يشركون } أي تنزه وتقدس عما يشركون به من الآلهة الباطلة إذ لا إله حق إلا هو: وقوله { ينزل الملائكة بالروح من أمره } أي بإرادته وإذنه { على من يشآء من عباده }. أي ينزل جبريل عليه السلام بالوحي على من يشاء من عباده وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقوله { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } أي بأن انذروا أي خوفوا المشركين عاقبة شركهم فإن شركهم باطل سيجر عليهم عذابا لا طاقة لهم به، لأنه لا إله إلا الله، وكل الآلهة دونه باطلة. إذا فاتقوا الله بترك الشرك والمعاصي وإلا تعرضتم للعذاب الأليم. في هاتين الآيتين تقرير للوحي والنبوة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير التوحيد أيضا وقوله تعالى في الآيات التالية: { خلق السموت والأرض بالحق تعالى عما يشركون } استدلال على وجوب التوحيد وبطلان الشرك فالذي خلق السماوات والأرض بقدرته وعلمه وحده دون ما معين له ولا مساعد حق أن يعبد، لا تلك الآلهة الميتة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق { تعالى عما يشركون } أي تنزه وتقدس تعالى عما يشركون به من أصنام وأوثان. وقوله: { خلق الإنسان من نطفة } أي من أضعف شيء وأحقره قطرة المني خلقه في ظلمات ثلاث وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا حتى إذا رباه وأصبح رجلا إذا هو خصم لله يجادل ويعاند، ويقول من يحيي العظام وهي رميم. وقوله تعالى { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } فهذه مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرحمة وهي الموجبة لعبادته تعالى وترك عبادة ما سواه.
فالأنعام وهي الإبل والبقر والغنم خلقها الله تعالى لبني آدم ولم يخلقها لغيرهم، لهم فيها دفء إذ يصنعون الملابس والفرش والأغطية من صوف الغنم ووبر الإبل ولهم فيها منافع كاللبن والزبدة والسمن والجبن والنسل حيث تلد كل سنة فيتنفعون بأولادها. ومنها يأكلون اللحوم المختلفة فالمنعم بهذه النعم هو الواجب العبادة دون غيره من سائر مخلوقاته وقوله: { ولكم فيها جمال } أي منظر حسن جميل حين تريحونها عشية من المرعى إلى المراح { وحين تسرحون } أي تخرجونها صباحا من مراحها إلى مراعيها، فهذه لذة روحية ببهجة المنظر. وقوله { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } أي إلا بجهد النفس والمشقة العظيمة. فالإبل في الصحراء كالسفن في البحر تحمل الأثقال من بلد إلى بلد وقد تكون المسافة بعيدة لا يصلها الإنسان إلا بشق النفس وبذل الجهد والطاقة، لولا الإبل سفن الصحراء ومثل الإبل الخيل والبغال والحمير في حمل الأثقال. فالخالق لهذه الأنعام هو ربكم لا إله إلا هو فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وقوله تعالى: { إن ربكم } أي خالقكم ورازقكم ومربيكم وإلهكم الحق الذي لا إله لكم غير لرؤوف رحيم، ومظاهر رحمته ورأفته ظاهره في كل حياة الإنسان فلولا لطف الله بالانسان ورحمته له لما عاش ساعة في الحياة الدنيا فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قرب يوم القيامة فلا معنى لاستعجاله فإنه آت لا محالة، وكل أت قريب.
2- تسمية الوحي بالروح من أجل أنه يحيى القلوب، كما تحيى الأجسام بالأرواح.
3- تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر بذكر مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرأفة والرحمة.
[16.8-13]
شرح الكلمات:
ويخلق ما لا تعلمون: من سائر الحيوانات ومن ذلك السيارات والطائرات والقطر.
وعلى الله قصد السبيل: أي تفضلا منه وامتنانا ببيان السبيل القاصده وهي الإسلام.
ومنها جائر: أي عادل عن القصد وهو سائر الملل كاليهودية والنصرانية.
ومنه شجر: أي وبسببه يكون الشجر وهو هنا عام في سائر النباتات.
فيه تسيمون: ترعون مواشيكم.
مسخرات بأمره: أي بإذنه وقدرته.
وما ذرأ لكم في الأرض: أي خلق لكم في الأرض من الحيوان والنباتات المختلفة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته إذ قال تعالى: { والخيل والبغال والحمير } أي خلقها وهو خالق كل شيء لعله ركوبهم إياها إذ قال: { لتركبوها وزينة } أي ولأجل أن تكون زينة لكم في حياتكم وقوله { ويخلق ما لا تعلمون } أي مما هو مركوب وغير مركوب من مخلوقات عجيبة ومن المركوب هذه السيارات على اختلافها والطائرات والقطر السريعة والبطيئة هذا كله إفضاله وإنعامه على عباده فهل يليق بهم أن يكفروه ولا يشكروه؟ وهل يليق بهم أن يشركوا في عبادته سواه. وقوله { وعلى الله قصد السبيل } ومن إفضاله وإنعامه الموجب لشكره ولعبادته دون غيره أن بين السبيل القاصد الموصل إلى رضاه وهو الإسلام، في حين أن ما عدا الإسلام من سائر الملل كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها سبل جائره عن العدل والقصد سالكوها ضالون غير مهتدين إلى كمال ولا إلى إسعاد هذا معنى قوله تعالى { وعلى الله قصد السبيل } وقوله { ولو شآء لهداكم أجمعين } أي لو تعلقت بإرادته هداية الناس أجمعين لهداهم أجمعين وذلك لكمال قدرته وعلمه، إلا أن حكمته لم تقتض هداية لكل الناس فهدى من رغب في الهداية وأضل من رغب في الضلال. ومن مظاهر ربوبيته الموجبة لألوهيته أي عبادته ما جاء في الآيات التالية [10، 11، 12، 13، 14، 15] إذ قال تعالى: { هو الذي أنزل من السماء مآء لكم منه شراب } تشربون منه وتتطهرون، { ومنه } أي من الماء الذي أنزل من السماء شجر لأن الشجرة والمراد به هنا سائر النباتات يتوقف وجوده على الماء وقوله { فيه تسيمون } أي في ذلك النبات ترعون مواشيكم. يقال سام الماشية أي ساقها إلى المرعى ترعى وسامت الماشية أي رعت بنفسها. وقوله تعالى: { ينبت لكم به } أي بما أنزل من السماء من ماء { الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات } كالفواكه والخضر على اختلافها إذ كلها متوقفة على الماء. وقوله { إن في ذلك } أي المذكور من نزول الماء وحصول المنافع الكثيرة به { لآية } أي علامة واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضية لعبادته وترك عبادة غيره.
ولكن { لقوم يتفكرون } فيتعظون. أما أشباه البهائم الذين لا يفكرون في شيء فلا يجدون آية ولا شبه آية في الكون كله وهو يعشيون فيه. وقوله تعالى: { وسخر لكم اليل والنهار } الليل للسكون والراحة، والنهار للعمل ابتغاء الرزق وتسخيرهما كونهما موجودين باستمرار لا يفترقان أبدا إلى أن يأذن الله بانتهائهما وقوله: { والشمس والقمر } أي سخرهما كذلك للانتفاع بضوء الشمس وحرارتها، وضوء القمر لمعرفة عدد السنين والحساب، وقوله { والنجوم مسخرات بأمره } كذلك ومن فوائد النجوم الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر وكونها زينة وجمالا للسماء التي هي سقف دارنا هذه.. وقوله { إن في ذلك } المذكور من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم { لآيات } عدة يستدل بها على الخالق وعلى وجوب عبادته وعلى توحيده فيها، ولكن { لقوم يعقلون } أي الذين يستخدمون طاقة عقولهم في فهم الأشياء وإدراك أسرارها وحقائقها أما أشباه البهائم والمجانين الذين لا يفكرون ولا يتعقلون ولا يعقلون، فليس لهم في الكون كله آية واحدة يستدلون بها على ربهم ورحمته بهم وواجب شكره عليهم وقوله تعالى: { وما ذرأ لكم في الأرض } أي وما خلق لكم في الأرض من إنسان وحيوان ونبات { مختلفا ألوانه } وخصائصه وشيانه ومنافعه وآثاره { إن في ذلك } الخلق العجيب { لآية } أي دلالة واضحة على وجود الخالق عز وجل ووجوب عبادته وترك عبادة غيره ولكن { لقوم يذكرون } فيتعظون فينتبهون إلى ربهم فيعبدونه وحده بامتثال أمره واجتناب نهيه فيكملون على ذلك ويسعدون في الحياتين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كون الخيل والبغال والحمير خلقت للركوب والزينة لا ينفي منفعة أخرى فيها وهي أكل لحوم الخيل لثبوت السنة بإباحة لحوم الخيل، ومنع لحوم البغال والحمير كما في الصحيحين.
2- الإسلام هو السبيل التي بينها الله تعالى فضلا منه ورحمة وما عداه فهي سبل جائرة عن العدل والحق.
3- فضيلة التفكر والتذكر والتعقل وذم أضدادها لأن الآيات الكونية كالآيات القرآنية إذا لم يتفكر فيها العبد لا يهتدي إلى معرفة الحق المنشود وهو معرفة الله تعالى ليعبده بالذكر والشكر وحده دون سواه.
[16.14-19]
شرح الكلمات:
حلية تلبسونها: هي اللؤلؤ والمرجان.
مواخر فيه: أي تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة وبالبخار اليوم.
من فضله: أي من فضل الله تعالى بالتجارة.
أن تميد بكم: أي تميل وتتحرك فيخرب ما عليها ويسقط.
لا تحصوها: أي عدا فتضبطوها فضلا عن شكرها للمنعم بها عز وجل.
ما تسرون وما تعلنون: من المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن أذاه علانية هذا بالنسبة إلى أهل مكة، إذ الخطاب يتناولهم أولا ثم اللفظ عام فالله يعلم كل سر وعلانية في أي أحد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته تلك المظاهر الموجبة لتوحيده وعبادته وشكره وذكره قال تعالى: { وهو الذي سخر البحر } وهو كل ماء غمر كثير عذبا كان أو ملحا وتسخيره تيسير الغوص فيه وجرى السفن عليه. وقوله { لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } بيان لعلة تسخير البحر وهي ليصيد الناس منه السمك يأكلونه، ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان حلية لنسائهم. وقوله: { وترى الفلك مواخر فيه } أي وترى أيها الناظر إلى البحر ترى السفن تمخر الماء أي تشقه ذاهبة وجائية. وقوله: { ولتبتغوا } أي سخر البحر والفلك لتطلبوا الرزق بالتجارة بنقل البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وذلك كله من فضل الله وحوله { ولعلكم تشكرون } أي كي تشكروا الله تعالى. أي سخر لكم ذلك لتحصلوا على الرزق من فضل الله فتأكلوا وتشكروا الله على ذلك والشكر يكون بحمد الله والاعتراف بنعمته وصرفها في مرضاته وقوله: { وألقى في الأرض رواسي } أي ألقى في الأرض جبالا ثوابت { أن تميد بكم } كي لا تميد بكم، وميدانها ميلها وحركتها إذ لو كانت تتحرك لما استقام العيش عليها والحياة فيها. وقوله { وأنهارا } أي وأجرى لكهم أنهارا في الأرض كالنيل والفرات وغيرهما { وسبلا } أي وشق لكم طرقا { لعلكم تهتدون } إلى منازلكم في بلادكم وقوله { وعلامات } أي وجعل لكم علامات للطرق وأمارات كالهضاب والأودية والأشجار وكل ما يستدل به على الطريق والناحية، وقوله { وبالنجم } أي وبالنجوم { هم يهتدون } فركاب البحر لا يعرفون وجهة سيرهم في الليل إلا بالنجوم وكذا المسافرون في الصحارى والوهاد لا يعرفون وجهة سفرهم إلا بالنجوم وذلك قبل وجود آلة البوصلة البحرية ولم توجد إلا على ضوء النجم وهدايته وقوله في الآية [17] { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } هذا تأنيب عظيم لأولئك الذين يصرون على عبادة الأصنام ويجادلون عليها ويجالدون فهل عبادة من يخلق ويرزق ويدبر حياة الإنسان وهو الله رب العالمين كعبادة من لا يخلق ولا يرزق ولا يدير؟ فمن يسوي من العقلاء بين الحي المحيي الفعال لما يريد واهب الحياة كلها وبين الأحجار والأوثان؟ فلذا وبخهم بقوله { أفلا تذكرون } فتذكرون فتعرفون أن عبادة الأصنام باطلة وأن عبادة الله حق فتتوبوا إلى ربكم وتسلموا له قبل أن يأتيكم العذاب.
وقوله تعالى: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ } بعدما عدد في هذه الآيات من النعم الكثيرة أخبر أن الناس لو أرادوا أن يعدوا نعم الله ما استطاعوا عدها فضلا عن شكرها، ولذا قال { إن الله لغفور رحيم } ولولا أنه كذلك ليؤاخذهم على تقصيرهم في شكر نعمه عليهم ولسلبها منهم عند كفرها وعدم الاعتراف بالمنعم بها عز وجل وقوله تعالى: { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } هذه آخر مظاهر القدرة والعلم والحكمة والنعمة في هذا السياق الكريم فالله وحده يعلم سر الناس وجهرهم فهو يعلم إذا حاجاتهم وما تتطلبه حياتهم، فإذا عادوه وكفروا به فكيف يأمنون على حياتهم ولما كان الخطاب في سياق دعوة مشركي مكة إلى الإيمان والتوحيد فالآية إخطار لهم بأن الله عليم بمكرهم برسوله وتبييت الشر له وأذاهم له بالنهار. فهي تحمل التهديد والوعيد لكفار مكة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان العلة في الرزق وأنها الشكر فالله سبحانه وتعالى يرزق ليشكر.
2- إباحة أكل الحوت وكل دواب البحر.
3- لا زكاة في اللؤلؤ والمرجان لأنه من حلية النساء.
4- المقارنه بين الحي الخلاق العليم، وبين الأصنام الميتة المخلوقة لتقرير بطلان عبادة غير الله تعالى لأن من يخلق ليس كمن يخلق.
5- عجز الإنسان عن شكر نعم الله تعالى يتطلب منه أن يشكر ما يمكنه منها وكلمة (الحمد لله) تعد رأس الشكر والاعتراف بالعجز عن الشكر من الشكر، والشكر صرف النعم فيما من أجله أنعم الله تعالى بها.
[16.20-25]
شرح الكلمات:
وهم يخلقون: أي يصورون من الحجارة وغيرها.
وما يشعرون إيان يبعثون: أي وما تشعر الأصنام ولا تعلم الوقت الذي تبعث فيه وهو يوم القيامة. ولا يبعث فيه عابدوها من دون الله .
قلوبهم منكرة: أي جاحدة للوحدانية والنبوة والبعث والجزاء.
وهو مستكبرون: لظلمة قلوبهم بالكفر يتكبرون.
لا جرم: أي حقا.
أساطير الأولين: أي أكاذيب الأولين.
ليحملوا أوزارهم: أي ذنوبهم يوم القيامة.
ألا ساء ما يزرون: أي بئس ما يحملون من الأوزار.
معنى الآيات:
في هذا السياق مواجهة صريحة للمشركين بعد تقدم الأدلة على اشراكهم وضلالهم فقوله تعالى: { والذين يدعون من دون الله } أي تعبدونهم أيها المشركون { أموات غير أحيآء } أي هم أموات إذ لا حياة لهم ودليل ذلك أنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون، وقوله { وما يشعرون أيان يبعثون } أي لا يعلمون متى يبعثون كما أنكم أنتم أيها العابدون لهم لا تشعرون متى تبعثون. فكيف تصح عبادتهم وهم أموات ولا يعلمون متى يبعثون للاستنطاق والاستجواب والجزاء على الكسب في هذه الحياة، وقوله { إلهكم إله واحد } هذه النتيجة العقلية التي لا ينكرها العقلاء وهي أن المعبود واحد لا شريك له، وهو الله جل جلاله، إذ هو الخالق الرازق المدبر المحي المميت ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى، وما عداه فلا يخلق ولا يرزق ولا يدبر ولا يحيي ولا يميت فتأليهه سفه وضلال، وبعد تقرير ألوهية الله تعالى وإثباتها بالمنطق السليم قال تعالى: { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون } ذكر علة الكفر لدى الكافرين والفساد عند المفسدين وهي تكذيبهم بالبعث الآخر إذ لا يستقيم عبد على منهج الحق والخير وهو لا يؤمن باليوم الآخر يوم الجزاء على العمل في الحياة الدنيا، فأخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة لكل ما يسمعون من الحق الذي يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبينه آيات القرأن الكريم، وهم مع إنكار قلوبهم لما يسمعون من الحق مستكبرون عن قبول الحق والإذعان له، وقوله تعالى: { لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين } أي حقا ان الله يعلم ما يسر أولئك المكذبون بالآخرة وما يعلنون وسيحصى ذلك عليهم ويجزيهم به لا محالة في يوم كانوا به يكذبون.. ويا للحسرة ويا للندامة!! وهذا الجزاء كان بعذاب النار متسبب عن بغض الله للمستكبرين وعدم حبه لهم، وقوله تعالى: { وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } يخبر تعالى عن أولئك المنكرة قلوبهم للوحي الإلهي وما جاء به رسول الله هؤلاء المستكبرون كانوا إذا سئلوا عن القرآن من قبل من يريد أن يعرف ممن سمع بالدعوة المحمدية فجاء من بلاد يتعرف عليها قالوا: { أساطير الأولين } أخبار كاذبة عن الأولين مسطره عند الناس فهو يحكيها ويقول بها، وبذلك يصرفون عن الإسلام ويصدون عن سبيل الله، قال تعالى: { ليحملوا أوزارهم } أي تبعة آثامهم وتبعة آثام من صدوهم عن سبيل الله كاملة غير منقوصة يوم القيامة، وهم لا يعلمون ذلك ولكن الحقيقة هي: أن من دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار من عملها شيء، وكذا من دعا إلى هدى فله أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر به شيء، وقوله تعالى: { ألا سآء ما يزرون } أي قبح الوزر الذي يزرونه فإنه قائدهم إلى النار موبقهم في نار جهنم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بطلان الشرك وتقرير التوحيد.
2- التكذيب باليوم الآخر والبعث والجزاء هو سبب كل شر وفساد يأتيه العبد.
3- التنديد بجريمة الاستكبار عن الحق والإذعان له.
4- بيان إثم وتبعة من يصد عن سبيل الله بصرف الناس عن الإسلام.
5- بيان تبعة من يدعو إلى ضلالة فإنه يتحمل وزر كل من عمل بها.
[16.26-34]
شرح الكلمات:
من قبلهم: أي من قبل كفار قريش بمكة كالنمرود وغيره.
فأتى الله بنيانهم: أي قصد إليه ليدمره فسلط عليه الريح والزلزلة فسقط من أسسه.
وخر عليهم السقف: أي سقط لتداعي القواعد وسقوطها.
كنتم تشاقون فيهم: أي تخالفون المؤمنين فيهم بعبادتكم إياهم وجدالكم عنه، وتشاقون الله بمخالفتكم إياه بترك عبادته إياها.
وقال الذين أوتوا العلم: أي الأنبياء والمؤمنون.
ظالمي أنفسهم: بالشرك والمعاصي.
فألقوا السلم: أي استسلموا وانقادوا.
فلبئس مثوى المتكبرين: مثوى المتكبرين: أي قبح منزل المتكبرين في جهنم مثلا .
وقيل للذين اتقوا: أي اتقوا الشرك والمعاصي.
للذين أحسنوا: أي أعمالهم وأقوالهم ونياتهم فأتوا بها وفق مراد الله تعالى.
حسنة: أي الحياة الطيبة حياة العز والكرامة.
ولنعم دار المتقين: أي الجنة دار السلام.
طيبين: أي الأرواح بما زكوها به من الإيمان والعمل الصالح. وبما أبعدوها عنه من الشرك والمعاصي.
يقولون سلام عليكم: أي يقول لهم ملك الموت " عزرائيل " وأعوانه.
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة: أي لقبض أرواحهم وعند ذلك يؤمنون.
أو يأتي أمر ربك: أي بالعذاب أو بقيام الساعة وحشرهم إلى الله عز وجل.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون: أي نزل بهم العذاب وأحاط بهم وقد كانوا به يستهزئون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع كفار قريش في تذكيرهم وتبصرهم بما هم فيه من الجهالة والضلالة. فيقول تعالى: { قد مكر الذين من قبلهم } أي من قبل مكر كفار قريش وذلك كالنمرود وفرعون وغيرهم من الجبابرة الذين تطاولوا على الله عز وجل ومكروا برسلهم، فالنمرود ألقى بإبراهيم في النار، وفرعون قال ذروني اقتل موسى وليدع ربه.. وقوله: { فأتى الله بنيانهم من القواعد } أي أتاه أمر الله بهدمه وإسقاطه على الظلمة الطغاة { فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون }. وذهب باطلهم وزال مكرهم. ألم يتعظ بهذا كفرة قريش وهم يمكرون بنبيهم ويبيتون له السوء بالقتل أو النفي أو الحبس؟ وقوله تعالى: { ثم يوم القيامة يخزيهم } أي يهينهم ويذلهم ويوبخهم بقوله: { أين شركآئي الذين كنتم تشاقون فيهم } أي أصنامكم وأوثانكم الذين كنتم تخالفوني بعبادتكم إياهم دوني كما تشاقون أوليائي المؤمنين أي تخالفونهم بذلك وتحاربونهم فيه. وهنا يقول الأشهاد والذين أوتوا العلم من الأنبياء والعلماء الربانيين: { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } أي إن الذل والهون والدون على الكافرين. وقوله تعالى: { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } بالشرك والمعاصي ومن جملة المعاصي ترك الهجرة والبقاء بين ظهراني الكافرين والفساق المجرمين حيث لا يتمكن المؤمن من عبادة الله تعالى بترك المعاصي والقيام بالعبادات. وقوله { فألقوا السلم } أي عند معاينتهم ملك الموت وأعوانه أي استسلموا وانقادوا وحاولوا الإعتذار بالكذب وقالوا { ما كنا نعمل من سوء } فترد عليهم الملائكة قائلين: { بلى } أي كنتم تعملون السوء { إن الله عليم بما كنتم تعملون } ويقال لهم أيضا { فادخلوا أبواب جهنم } أي أبواب طبقاتها { خالدين فيها فلبئس } جهنم { مثوى } أي مقاما ومنزلا { المتكبرين } عن عبادة الله وحده.
وقوله تعالى: { وقيل للذين اتقوا } أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه في أمره ولا نهيه وأطاعوا رسوله كذلك: { ماذا أنزل ربكم } أي إذا سألهم من أتى مكة يتعرف على ما بلغه من دعوة الإسلام فيقولون له: { خيرا } أي أنزل خيرا لأن القرآن خير وبالخير نزل بخلاف تلاميذ المشركين يقولون أساطير الأولين كما تقدم في هذا السياق.
كما ذكر تعالى جزاء الكافرين وما يلقونه من العذاب في نار جهنم وهم الذين أساءوا في هذه الحياة الدنيا إلى أنفسهم بشركهم بالله ومكرهم وظلمهم للمؤمنين، ذكر جزاء المحسنين. فقال: { للذين أحسنوا } أي آمنوا وعملوا الصالحات متبعين شرع الله في ذلك فأخلصوا عبادتهم لله تعالى ودعوا الناس إلى عبادة الله وحثوهم على ذلك فكانوا بذلك محسنين لأنفسهم ولغيرهم لهؤلاء الذين أحسنوا في الدنيا { حسنة } وهي الحياة الطيبة حياة الطهر والعزة والكرامة، ولدار الآخرة خير لهم من دار الدنيا مع ما فيها من حسنة وقوله تعالى: { ولنعم دار المتقين } ثناء ومدح لتلك الدار الآخرة لما فيها من النعيم المقيم وإضافتها إلى المتقين باعتبار أنهم أهلها الجديرون بها إذ هي خاصة بهم ورثوها بإيمانهم وصالح أعمالهم بتركهم الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: { جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشآؤون } هو وصف وبيان لدار المتقين فأخبر أنها جنات جمع جنة وهي البستان المشتمل على الأشجار والأنهار والقصور وما لذ وطاب من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب وقوله تعالى: { لهم فيها ما يشآؤون } هذا نهاية لإكرام والإنعام إذ كون العبد يجد كل ما يشتهي ويطلب هو نعيم لا مزيد عليه وقوله تعالى: { كذلك يجزي الله المتقين } أي كهذا الجزاء الحسن العظيم يجزي الله المتقين في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } أي طاهري الأرواح لأرواحهم ريح طيبة ثمرة إيمانهم وصالح أعمالهم ونتيجة بعدهم عما يدنس أنفسهم من أوضار الشرك وعفن المعاصي وقوله: { يقولون } أي تقول لهم المكلائكة وهم ملك الموت وأعوانه { سلام عليكم } تحييهم وفي ذلك بشارة لهم برضا ربهم وجواره الكريم. { ادخلوا الجنة } بأرواحهم اليوم وبأجسامهم غدا يوم القيامة. وقوله { بما كنتم تعملون } أي بسبب ما كنتم تعملونه من الطاعات والمسابقة في الخيرات بعد عمل قلوبكم بالايمان واليقين والحب في الله والبغض فيه عز وجل والرغبة والتوكل عليه. هذا ما تضمنته الآيات [31، 32] وأما الآيات بعد ذلك فيقول الله مستبطئا إيمان قريش وتوبتهم بعد تلك الحجج والبراهين والدلائل والبينات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب التوحيد وبطلان الشرك وعلى الإيمان باليوم الآخر.
{ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } أي ما ينظرون بعد هذا إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم { أو يأتي أمر ربك } بإبادتهم واستئصالهم، إذ لم يبق ما ينتظرونه إلا أحد هذين الأمرين وكلاهما مر وشر لهم. وقوله تعالى: { كذلك فعل الذين من قبلهم } من كفار الأمم السابقة فحلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فأهلكهم. { وما ظلمهم الله } تعالى في ذلك أبدا { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بإصرارهم على الشرك والعناد والمجاحدة والمكابرة { فأصابهم سيئات } أي جزاء سيئات { ما عملوا } من الكفر والظلم { وحاق بهم } أي نزل بهم وأحاط بهم { ما كانوا به يستهزئون } إذ كانت رسلهم إذا خوفتهم من عذاب الله سخروا منهم واستهزأوا بالعذاب واستخفوا به حتى نزل بهم والعياذ بالله تعالى.
من هداية الآيات:
1- سوء عاقبة المكر وأنه يحيق بأهله لا محالة والمراد به المكر السيء.
2- بيان خزي الله تعالى يوم القيامة لأهل الشرك به والمعاصي له ولرسوله.
3- فضل أهل العلم إذ يتخذ منهم شهداء يوم القيامة ويشمتون بأهل النار.
4- بيان استسلام الظلمة عند الموت وانهزامهم وكذبهم.
5- تقرير معتقد البعث والحياة الآخرة بأروع أسلوب وأحكمه وأمتنه.
6- إطلاق لفظ خير على القرآن وهو حق خير فالذي أوتي القرآن أوتي الخير كله، فلا ينبغي أن يرى أحدا من أهل الدنيا خيرا منه وإلا سخط نعمة الله تعالى عليه.
7- سعادة الدارين لأهل الإحسان وهم أهل الإيمان والإسلام والإحسان في إيمانهم بالإخلاص وفي إسلامهم بموافقة الشرع ومراقبة الله تعالى في ذلك.
8- بشرى أهل الإيمان والتقوى عند الموت، وعند القيام من القبور بالنعيم المقيم في جوار رب العالمين.
9- إعمال القلوب والجوارح سبب في دخول الجنة وليست ثمنا لها لغلائها، وإنما الأعمال تزكي النفس وتطهر الروح وبذلك يتأهل العبد لدخول الجنة.
10- ما ينتظر المجرمون بإصرارهم على الظلم والشر والفساد إلا العذاب، عاجلا أو آجلا فهو نازل بهم حتما مقضيا إن لم يبادروا إلى التوبة الصادقة.
[16.35-40]
شرح الكلمات:
وقال الذين أشركوا: هم كفار قريش ومشركوها.
ولا حرمنا من دونه من شيء: كالسوائب والبحائر والوصائل والحامات.
فهل على الرسل إلا البلاغ: أي ما على الرسل إلا البلاغ فالإستفهام للنفي.
واجتنبوا الطاغوت: أي عبادة الأصنام والأوثان.
حقت عليه الضلالة: أي وجبت في علم الله أزلا.
جهد أيمانهم: أي غايتها حيث بذلوا جهدهم فيها مبالغة منهم.
بلى وعدا عليه حقا: أي بلى يبعث من يموت وقد وعد به وعدا وأحقه حقا. فهو كائن لا محالة.
يختلفون فيه: أي بين المؤمنين من التوحيد والشرك.
أنهم كانوا كاذبين: أي في قولهم " لا نبعث بعد الموت ".
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحجاج مع مشركي قريش فيقول تعالى مخبرا عنهم { وقال الذين أشركوا } أي مع الله آلهة أخرى وهي أصنامهم كهبل واللات والعزى وقالوا لو شاء الله عدم إشراكنا به ما أشركنا نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا من دون تحريمه شيئا فهل قالوا هذا إيمانا بمشيئة الله تعالى، أو قالوه استهزاء وسخرية دفاعا عن شركهم وشرعهم الباطل في التحريم والتحليل بالهوى، والأمران محتملان. والرد عليهم بأمرين أولهما ما دام الله قد نهاهم عن الشرك والتشريع فإن ذلك أكبر دليل على تحريمه تعالى لشركهم ومحرماتهم من السوائب والبحائر وغيرها وثانيهما كونه لم يعذبهم عليها بعد ليس دليلا على رضاه بها بدليل أن من سبقهم من الأمم والشعوب الكافرة قالوا قولتهم هذه محتجين به على باطلهم فلم يلبثوا حتى أخذهم الله، فدل ذلك قطعا على عدم رضاه بشركهم وشرعهم إذ قال تعالى في سورة الأنعام ردا على هذه الشبهة كذلك قال الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي عذاب انتقامنا منهم لما كذبوا رسلنا وافتروا علينا. وقوله تعالى: { كذلك فعل الذين من قبلهم } من الأمم السابقة قالوا هؤلاء لرسلهم وفعلوا فعلهم حتى أخذهم الله بالعذاب. وقوله { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } أي ليس على الرسول إكراه المشركين على ترك الشرك ولا إلزامهم بالشرع وإنما عليه أن يبلغهم أمر الله تعالى ونهيه لا غير. فلذا كان في الجملة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يبلغ دعوة ربه وينصره على أعدائه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق [35] وقوله في الآية الثانية [36] { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فأخبر تعالى بأنه ما أخلى أمة من الأمم من إرسال رسول إليها لهدايتها وبيان سبيل نجاتها وتحذيرها من طرق غوايتها وهلاكها. كما أخبر عن وحدة الدعوة بين الرسل وهي لا إله إلا الله المفسرة بعبادة الله تعالى وحده، واجتناب الطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله مما دعا الشيطان إلى عبادته بالتزيين والتحسين عن طريق الوسواس من جهة ومن طريق أوليائه من الناس من جهة أخرى.
وقوله تعالى: { فمنهم } أي من الأمم المرسل إليهم { من هدى الله } فعرف الحق واعتقده وعمل به فنجا وسعد، { ومنهم من حقت عليه الضلالة } أزلا في كتاب المقادير لأنه أصر على الضلال وجادل عنه وحارب من أجله باختياره وحريته فحرمه الله لذلك التوفيق فضل ضلالا لا أمل في هدايته. وقوله تعالى: { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أمر لكفار قريش المجادلين بالباطل المحتجين على شركهم وشرعهم الباطل أمر لهم أن يسيروا في الأرض جنوبا أو شمالا فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين أمثالهم من أمة عاد في الجنوب وثمود في الشمال، ومدين ولوط وفرعون في الغرب. وقوله تعالى في تسلية رسوله والتخفيف من الهم عنه: { إن تحرص } يا رسولنا { على هداهم } أي هدايتهم إلى الحق { فإن الله لا يهدي من يضل } فخفف على نفسك وهون عليها فلا تأسف ولا تحزن وادع إلى ربك في غير حرص يضر بك وقوله { لا يهدي من يضل } أي لا يقدر أحد أن يهدي من أضله الله، لأن اضلال الله تعالى يكون على سنن خاصة لا تقبل التبديل ولا التغيير لقوة سلطانه وسعة عمله. وقوله { وما لهم من ناصرين } أي وليس لأولئك الضلال الذين أضلهم الله حسب سنته من ناصرين ينصرونهم على ما سينزل بهم من العذاب وما سيحل بهم من خسران وحرمان، وقوله تعالى في الآية [38] { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } اخبار عن قول المشركين والمكذبين باليوم الآخر أصحاب القلوب المنكرة، ومعنى { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } أي حلفوا أشد الأيمان إذ كانوا في الأمور التافهة يحلفون بآلهتهم وآبائهم. وإذا كان الأمر ذا خطر وشأن أقسموا بالله وبالغوا في الإقسام حتى يبلغوا جهد أيمانهم والمحلوف عليه هو أنهم إذا ماتوا لا يبعثون أحياء فيحاسبون ويجزون فرد الله تعالى عليهم بقوله { بلى } أي تبعثون وعد الله حقا فلا بد ناجز { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فلذا ينفون البعث وينكرونه لجهلهم بأسرار الكون والحياة وعلل الوجود والعمل فيه فلذا أشار الله تعالى إلى بعض تلك العلل في قوله: { ليبين لهم الذي يختلفون فيه } فلولا البعث الآخر ما عرف المحق من المبطل في هذه الحياة والخلاف سائد ودائم بين الناس. هذا أولا. وثانيا: { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } في اعتقاداتهم وأعمالهم ونفيهم الحياة الثانية للجزاء على العمل في دار العمل هذه أما استبعادهم البعث بعد الموت نظرا إلى وسائلهم ووسائطهم الخاصة بهم فقد أخبرهم تعالى بأن الأمر ليس كما تقدرون أنتم وتفكرون: إنه مجرد ما تتعلق إرادتنا بشيء نريد أن يكون، نقول له كن فيكون فورا، والبعث الآخر من ذلك، هذا ما دل عليه قوله في الآية [40] { إنما قولنا لشيء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون } ولا يقولن قائل كيف يخاطب غير الموجود فيأمره ليوجد فإن الله تعالى إذا أراد شيئا علمه أولا ثم قال له كن فهو يكون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الرد على شبهة المشركين في احتجاجهم بالمشيئة الإلهية.
2- تفسير لا إله إلا الله.
3- التحذير من تعمد الضلال وطلبه والحرص عليه فإن من طلب ذلك وأضله الله لا ترجى هدايته.
4- بيان بعض الحكم في البعث الآخر.
5- لا يستعظم على الله خلق شيء وإيجاده، لانه يوجد بكلمة التكوين فقط.
[16.41-44]
شرح الكلمات:
والذين هاجروا في الله: أي خرجوا من مكة في سبيل الله نصرة لدينه وإقامته بين الناس.
لنبوئنهم في الدنيا حسنة: أي لننزلنهم دارا حسنة هي المدينة النبوية هذا بالنسبة لمن نزلت فيهم الآية.
الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون: أي على أذى المشركين وهاجروا متوكلين على ربهم في دار هجرتهم.
فاسألوا أهل الذكر: أي ايها الشاكون فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فاسألوا أهل التوراة والإنجيل لإزالة شككم ووقوفكم على الحقيقة وأن ما جاء به محمد حق وأن الرسل قبله كلهم كانوا بشرا مثله.
بالبينات والزبر: أي أرسلناهم بشرا بالبينات والزبر لهداية الناس.
وأنزلنا إليك الذكر: أي القرآن.
لتبين للناس ما نزل إليهم: علة لإنزال الذكر إذ وظيفة الرسل، البيان.
معنى الآيات:
إنه بعد اشتداد الأذى على المؤمنين لعناد المشركين وطغيانهم، أذن الله تعالى على لسان رسوله للمؤمنين بالهجرة من مكة إلى الحبشة ثم إلى المدينة فهاجر رجال ونساء فذكر تعالى ثناء عليهم وتشجيعا على الهجرة من دار الكفر فقال عز وجل { والذين هاجروا في الله } أي في ذات الله ومن أجل عبادة الله ونصرة دينه { من بعد ما ظلموا } أي من قبل المشركين { لنبوئنهم } أي لننزلهم ولنسكننهم { في الدنيا حسنة } وهي المدينة النبوية ولنرزقنهم فيها رزقا حسنا هذا بالنسبة لمن نزلت فيهم الآية، وإلا فكل من هاجر في الله ينجز له الرب هذا الوعد كما قال تعالى:
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مرغما كثيرا وسعة
[النساء: 100] أي في العيش والرزق { ولأجر الآخرة } المعد لمن هاجر في سبيل الله { أكبر لو كانوا يعلمون }. هذا ترغيب في الهجرة وتشجيع للمتباطئين على الهجرة وقوله: { الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } بيان لحالهم وثناء عليهم بخير لأنهم صبروا أولا على الأذى في مكة لما أذن لهم بالهجرة هاجروا متوكلين على الله تعالى مفوضين أمورهم إليه، واثقين في وعده. هذا ما دلت عليه الآيتان [41]، [42]. وأما الآية الثالثة [43] والرابعة من هذا السياق فهما تقرير حقيقة علمية بعد إبطال شبهة المشركين القائلين كيف يرسل الله محمدا رسولا وهو بشر مثلنا لم يرسل ملكا.. وهو ما أخبر الله تعالى في قوله { ومآ أرسلنا من قبلك } أي من الرسل { إلا رجالا } لا ملائكة { نوحي إليهم } بأمرنا وقوله: { فاسألوا } أيها المشركون المنكرون أن يكون الرسول بشرا، اسألوا أهل الذكر وهو الكتاب الأول أي أسألوا علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى هل كان الله تعالى يرسل الرسل من غير البشر { إن كنتم لا تعلمون } فإنهم يخبرونكم. وما موسى ولا عيسى إلا بشر، وقوله: { بالبينات والزبر } أي أرسلنا أولئك الرسل من البشر بالبينات أي الحجج والدلائل الدالة على وجوب عبادتنا وترك عبادة من سوانا. والزبر أي الكتب. ثم يقول تعالى لرسوله: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } وفي هذا تقرير لنبوته وقوله: { ولعلهم يتفكرون } فيعرفون صدق ما جئتهم به فيؤمنوا. ويتوبوا إلى ربهم فينجوا ويسعدوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الهجرة ووجوبها عند اضطهاد المؤمن وعدم تمكنه من عبادة الله تعالى.
2- وجوب سؤال أهل العلم على كل من لا يعلم أمور دينه من عقيدة وعبادة وحكم.
3- السنة لا غنى عنها لأنها المبينة لمجمل القرآن والموضحة لمعانيه.
[16.45-50]
شرح الكلمات:
مكروا السيئات: أي مكروا المكرات السيئات فالسيئات وصف للمكرات التي مكروها.
في تقلبهم: أي في البلاد مسافرين للتجارة وغيرها.
على تخوف: أي تنقص.
يتفيئوا ظلاله: أي تتميل من جهة إلى جهة.
سجدا لله: أي خضعا لله كما أراد منهم.
داخرون: أي صاغرون ذليلون.
من فوقهم: من أعلى منهم إذ هو تعالى فوق كل شيء ذاتا وسلطانا وقهرا.
ما يؤمرون: أي ما يأمرهم ربهم تعالى به.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تخويف المشركين وتذكيرهم لعلهم يرجعون بالتوبة من الشرك والجحود للنبوة والبعث والجزاء. قال تعالى: { أفأمن الذين مكروا } المكرات { السيئات } من محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم والشرك والتكذيب بالنبوة والبعث وظلم المؤمنين وتعذيب بعضهم، أفامنوا { أن يخسف الله بهم الأرض } من تحتهم فيقرون في أعماقها، { أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون } ولا يتوقعون من ريح عاصف تعصف بهم أو وباء يشملهم أو قحط يذهب بمالهم. وقوله تعالى: { أو يأخذهم في تقلبهم } أي في تجارتهم وأسفارهم ذاهبين آيبين من بلد إلى بلد. { فما هم بمعجزين } له تعالى لو أراد أخذهم وإهلاكهم. وقوله تعالى: { أو يأخذهم على تخوف } أي تنقص بأن يهلكهم واحدا بعد واحد أو جماعة بعد جماعة حتى لا يبقى منهم أحدا، وقد أخذ منهم ببدر من أخذ وفي أحد. وقوله تعالى: { فإن ربكم لرؤوف رحيم } تذكير لهم برأفته ورحمته إذ لولاهما لأنزل بهم نقمته وأذاقهم عذابه بدون إنظار لتوبة أو إمهال لرجوع إلى الحق. وقوله تعالى: { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء } من شجر وجبل وإنسان وحيوان { يتفيؤا ظلاله } بالصباح والمساء { عن اليمين والشمآئل } " جمع شمال " { سجدا لله } خضعا بظلالهم { وهم داخرون } أي صاغرون ذليلون. أما يكفيهم ذلك دلالة على خضوعهم لله وذلتهم بين يديه، فيؤمنوا به ويعبدونه ويوحدوه فينجوا من عذابه ويفوزوا برحمته. وقوله تعالى: { ولله يسجد ما في السموت وما في الأرض من دآبة } أي ولله لا لغيره يسجد بمعنى يخضع وينقاد لما يريده الله تعالى من إحياء أو إماتة أو صحة أو مرض أو خير أو غيره من دابة من كل ما يدب من كائن على هذه الأرض { والملائكة } على شرفهم يسجدون { وهم لا يستكبرون } عن عبادة ربهم { يخافون ربهم من فوقهم } إذ هو العلي الأعلى وكل الخلق تحته. { ويفعلون ما يؤمرون } فلا يعصون ربهم ما أمرهم. إذا كان هذا حال الملائكة فما بال هؤلاء المشركين يلجون في الفساد والاستكبار والجحود والمكابرة وهم أحقر سائر المخلوقات، وشر البريات إن بقوا على كفرهم وشركهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الأمن من مكر الله.
2- كل شيء ساجد لله، أي خاضع لما يريده منهم، إلا أن السجود الطوعي الاختياري هو الذي يثاب عليه العبد، أما الطاعة اللا إرادية فلا ثواب فيها ولا عقاب.
3- فضل السجود الطوعي الاختياري.
4- مشروعية السجود عند هذه الآية: إذا قرأ القارئ أو المستمع: { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } ، عليه أن يسجد إن كان متطهرا إلى القبلة إن أمكن ويسبح في السجود ويكبر في الخفض والرفع ولا يسلم، ولا يسجد عند طلوع الشمس ولا عند غروبها.
[16.51-56]
شرح الكلمات:
لا تتخذوا إلهين: أي تعبدونهما إذ ليس لكم إلا إله واحد.
وله ما في السماوات والأرض: أي خلقا وملكا، إذا فما تعبدونه مع الله هو لله ولم يأذن بعبادته.
وله الدين واصبا: أي خالصا دائما واجبا.
فإليه تجأرون: أي ترفعون أصواتكم بدعائه طالبين الشفاء منه.
فتمتعوا فسوف تعلمون: تهديد على كفرهم وشركهم ونسيانهم دعاء الله تعالى.
ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا: أي يجعلون لآلهتهم نصيبا من الحرث والأنعام.
عما كنتم تفترون: أي تختلفون بالكذب وتفترون على الله عز وجل.
معنى الآيات:
بعد إقامة الحجج على التوحيد وبطلان الشرك أخبرهم أن الله ربهم رب كل شيء قد قال لهم: أيها الناس { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } فلفظ اثنين توكيد للفظ إلهين أي لا تعبدوا إلهين بل اعبدوا إلها واحدا وهو الله إذ ليس من إله إلا هو فكيف تتخذون إلهين والحال أنه { إله واحد } لا غير وهو الله الخالق الرازق المالك، ومن عداه من مخلوقاته كيف تسوى به وتعبد معه؟ وقوله تعالى: { فإياي فارهبون } أي ارهبوني وحدي ولا ترهبوا سواي إن بيدي كل شيء، وليس لغيري شيء فأنا المحيي المميت، الضار النافع، يوبخهم على رهبتهم غيره سبحانه وتعالى من لا يستحق أن يرهب لعجزه وعدم قدرته على أن ينفع أو يضر. وقوله تعالى: { وله ما في السموت والأرض } برهان على بطلان رهبة غيره أو الرغبة في سواه ما دام له ما في السماوات والأرض خلقا وملكا. وقوله { وله الدين واصبا } أي العبادة والطاعة دائما ثابتا واجبا، ألا لله الدين الخالص. وقوله تعالى: { أفغير الله تتقون } يوبخهم على خوف سواه وهو الذي يجب أن يرهب ويخاف لأنه الملك الحق القادر على إعطاء النعم وسبلها، فكيف يتقى من لا يملك ضرا ولا نفعا ويعصى من بيده كل شيء وإليه مرد كل شيء، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن. وقوله { وما بكم من نعمة فمن الله } يخبرهم تعالى بالواقع الذي يتنكرون له فيخبرهم أنه ما بهم من نعمة جلت أو صغرت من صحة أو مال أو ولد فهي من الله تعالى خالقهم وواهبهم حياتهم، وليست من أحد غيره، ودلل على ذلك شعورهم الفطري وهو أنهم إذا مسهم الضر من فقر أو مرض أو تغير حال كخوف غرق في البحر فإنهم يرفعون أصواتهم إلى أعلاها مستغيثين بالله سائلينه أن يكشف ضرهم أو ينجيهم من هلكتهم المتوقعة لهم فقال عزوجل: { ثم إذا مسكم الضر فإليه } دون غيره { تجأرون } برفع أصواتكم بالدعاء والإستغاثة به سبحانه وتعالى وقوله: { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق } كبير { منكم بربهم يشركون } فيعبدون غيره بأنواع العبادات متناسين الله الذي كشف ضرهم وأنجاهم من هلكتهم.
وقوله: { ليكفروا بمآ آتيناهم } أي ليؤول أمرهم إلى كفران ونسيان ما آتاهم الله من نعم وما أنجاهم من محن. أفهكذا يكون الجزاء؟ أينعم بكل أنواع النعم وينجي من كل كرب ثم ينسى له ذلك كله، ويعبد غيره؟ بل ويحارب دينه ورسوله؟ إذا { فتمتعوا } أيها الكافرون { فسوف تعلمون } عاقبة كفركم وإعراضكم عن طاعة الله وذكره وشكره. وقوله تعالى: { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم } وهذا ذكر لعيب آخر من عيوبهم وباطل من باطلهم أنهم يجعلون لأوثانهم التي لا يعلمون عنها شيئا من نفع أو ضر أو إعطاء أو منع أو إماتة أو إحياء يجعلونها لها طاعة للشيطان نصيبا وحظا من أموالهم يتقربون به إليها فسيبوا لها السوائب، وبحروا لها البحائر من الأنعام، وجعلوا لها من الحرث والغرس كذلك كما جاء ذلك في سورة الأنعام والمائدة قبلها: وقوله تعالى: { تالله لتسألن عما كنتم تفترون } أقسم الجبار لهم تهديدا لهم وتوعدا أنهم سيسألون يوم القيامة عما كانوا يفترون أي من هذا التشريع الباطل حيث يحرمون ويحللون ويعطون آلهتهم ما شاءوا وسوف يوبخهم عليه ويجزيهم به جهنم وبئس المهاد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بعبادة الله تعالى وحده.
2- وجوب الرهبة من الله دون سواه.
3- وجوب الدين لله إذ هو الإله الحق دون غيره.
4- كل نعمة بالعبد صغرت أو كبرت فهي من الله سبحانه وتعالى.
5- تهديد المشركين إن أصروا على شركهم وعدم توبتهم.
6- التنديد بالمشركين وتشريعهم الباطل بالتحليل والتحريم والإعطاء والمنع.
[16.57-62]
شرح الكلمات:
ويجعلون لله البنات: إذ قالوا الملائكة بنات الله.
ولهم ما يشتهون: أي الذكور من الأولاد.
ظل وجهه مسودا: أي متغيرا بالسواد لما عليه من كرب.
وهو كظيم: أي ممتلئ بالغم.
أم يدسه في التراب: أي يدفن تلك المولودة حية وهو الوأد.
مثل السوء: أي الصفة القبيحة.
ولله المثل الأعلى: أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله.
أن لهم الحسنى: أي الجنة إذ قال بعضهم ولئن رجعت إلى ربي أن لي عنده للحسنى.
وأنهم مفرطون: أي مقدمون إلى جهنم متروكون فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أخطاء المشركين في اعتقادهم وسلوكهم فقال تعالى: { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } وهذا من سوء أقوالهم وأقبح اعتقادهم حيث ينسبون إلى الله تعالى البنات، إذ قالوا الملائكة بنات الله في الوقت الذي يكرهون نسبة البنات إليهم، حتى إذا بشر أحدهم بأنثى بأن أخبر بأنه ولدت له بنت ظل نهاره كاملا في غم وكرب { وجهه مسودا وهو كظيم } ممتلئ بالغم والهم. { يتوارى } أي يستتر ويختفي عن أعين الناس خوفا من المعرة، وذلك { من سوء ما بشر به } وهو البنت وهو في ذلك بين أمرين إزاء هذا المبشر به: إما أن يمسكه. أن يبقيه في بيته بين أولاده { على هون } أي مذلة وهوان، وإما أن { يدسه في التراب } أي يدفنه حيا وهو الوأد المعروف عندهم. قال تعالى منددا بهذا الإجرام: { ألا سآء ما يحكمون } في حكمهم هذا من جهة نسبة البنات لله وتبرئهم منها، ومن جهة وأد البنات أو إذلالهن، قبح حكمهم الجاهلي هذا من حكم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [57] وهي قوله: { ويجعلون لله البنات } حيث قالوا الملائكة بنات الله { سبحانه } أي نزه تعالى نفسه عن الولد والصاحبة فلا ينبغي أن يكون له ولد ذكرا كان أو أنثى لأنه رب كل شيء ومليكه فما الحاجة إلى الولد إذا؟ والآية الثانية [58] وهي قوله تعالى: { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا } أي أقام النهار كله مسود الوجه من الغم { وهو كظيم } أي ممتلئ بالغم والهم، { يتوارى من القوم من سوء ما بشر به } أي من البنت { أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا سآء ما يحكمون } وقوله تعالى: { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } يخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم منكروا البعث الآخر لهم المثل السوء أي الصفة السوء وذلك لجهلهم وظلمة نفوسهم لأنهم لا يعملون خيرا ولا يتركون شرا، لعدم إيمانهم بالحساب والجزاء فهؤلاء لهم الصفة السوأى في كل شيء. { ولله المثل الأعلى } أي الصفة الحسنى وهو أنه لا إله إلا الله منزه عن النقائص رب كل شيء ومالكه، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا شريك له ولا ند له ولا ولد وقوله: { وهو العزيز الحكيم } ثناء على نفسه بأعظم وصف العزة والقهر والغلبة لكل شيء والحكمة العليا في تدبيره وتصريفه شؤون عباده، وحكمه وقضائه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقوله تعالى في الآية [61] { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها } أي على الأرض { من دآبة } أي نسمة تدب على الأرض من إنسان أو حيوان فهذه علة عدم مؤاخذة الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم يفسدون ويجرمون وهذا الإهمال تابع لحكم عالية أشار إلى ذلك بقوله: { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } أي وقت معين محدد قد يكون نهاية عمر كل أحد، وقد يكون نهاية الحياة كلها فإذا جاء ذلك الأجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون عنه أخرى ثم يجزيهم بأعمالهم السيئة بمثلها وما هو عز وجل بظلام للعبيد.
وآخر آية في هذا السياق [62] تضمنت التنديد بسوء حال الذين لا يؤمنون بالآخرة وذلك أنهم لجهلهم بالله وقبح تصورهم لظلمه نفوسهم أنهم يجعلون لله تعالى ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء وسب الرسول وازدرائه، ومع هذا يتبجحون بالكذب بأن لهم الحسنى أي الجنة يوم القيامة. فرد تعالى على هذا الافتراء والهراء السخيف بقوله: { لا جرم } أي حقا وصدقا ولا محالة { أن لهم النار } بدل الجنة { وأنهم مفرطون } إليها مقدمون متروكون فيها أبدا. هذا ما تضمنته الآية في قوله تعالى: { ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون } وإن قرئ مفرطون باسم الفاعل فهم حقا مفرطون في الشر والفساد والكفر والضلال والانحطاط إلى أبعد حد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان الحال الإجتماعية التي كان عليها المشركون وهي كراهيتهم للبنات خوف العار.
2- بيان جهلهم بالرب تعالى فهم يؤمنون به ويجهلون صفاته حتى نسبوا إليه الولد والشريك.
3- بيان العلة في ترك الظلمة يتمادون زمنا في الظلم والشر والفساد.
4- بيان سوء اعتقاد الذين لا يؤمنون بالآخرة وهو أنهم ينسبون الى نفوسهم الحسنى ويجعلون لله ما يكرهون من البنات والشركاء وسب الرسل وامتهانهم.
[16.63-66]
شرح الكلمات:
تالله: أي والله.
أرسلنا إلى أمم من قبلك: أي رسلا.
فزين لهم الشيطان أعمالهم: فكذبوا لذلك الرسل.
فهو وليهم اليوم: أي الشيطان هو وليهم أي في الدنيا.
إن في ذلك لآية: أي دلالة واضحة على صحة عقيدة البعث الآخر.
لآية لقوم يسمعون: أي سماع تدبر وتفهم.
لعبرة: أي دلالة قوية يعبر بها من الجهل إلى العلم لأن العبرة من العبور.
من بين فرث: أي ثفل الكرش، أي الروث الموجود في الكرش.
لبنا خالصا: أي ليس فيه شيء من الفرث ولا الدم، لا لونه ولا رائحته ولا طعمه.
معنى الآيات:
يقسم الله تعالى بنفسه لرسوله فيقول بالله يا رسولنا { لقد أرسلنآ } رسلا { إلى أمم من قبلك } كانوا مشركين كافرين كأمتك { فزين لهم الشيطان أعمالهم } فقاوموا رسلنا وحاربوهم وأصروا على الشرك والكفر فتولاهم الشيطان، لذلك { فهو وليهم اليوم } أي في الدنيا { ولهم } في الآخرة { عذاب أليم } ، والسياق الكريم في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذا قال تعالى في الآية الثانية: { ومآ أنزلنا عليك الكتاب } أي لإرهاقك وتعذيبك ولكن لأجل أن تبين للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد والشرك والهدى والضلال. كما أنزلنا الكتاب هدى يهتدى به المؤمنون إلى سبل سعادتهم ونجاحهم، ورحمة تحصل لهم بالعمل به عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا وحكما، فيعيشون متراحمين تسودهم الأخوة والمحبة وتغشاهم الرحمة والسلام.
بعد هذه التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عاد السياق إلى الدعوة إلى التوحيد وعقيدة البعث والجزاء بعد تقرير النبوة المحمدية بقوله تعالى: { تالله لقد أرسلنآ } الآية فقال تعالى: { والله أنزل من السمآء مآء فأحيا به الأرض بعد موتهآ } الماء هو ماء المطر وحياة الارض بالنبات والزرع بعدما كانت ميتة لا نبات فيها وقوله { إن في ذلك } المذكور من إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بعد موتها { لآية } واضحة الدلالة قاطعة على وجوده تعالى وقدرته، وعلمه ورحمته كما هو آية على البعث بعد الموت من باب أولى. وقوله تعالى: { وإن لكم في الأنعام لعبرة } أي حالا تعبرون بها من الجهل إلى العلم... من الجهل بقدرة الله ورحمته ووجوب عبادته بذكره وشكره إلى العلم بذلك والمعرفة به فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا.. وبين وجه العبرة العظيمة فقال: { نسقيكم مما في بطونه } أي بطون المذكور من الأنعام { من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين } فسبحان ذي القدرة العجيبة والعلم الواسع والحكمة التي لا يقادر قدرها.. اللبن يقع بين الفرث والدم، فينتقل الدم إلى الكبد فتوزعه على العروق لبقاء حياة الحيوان، واللبن يساق إلى الضرع، والفرث يبقى أسفل الكرش، ويخرج اللبن خالصا من شائبة الدم وشائبة الفرث فلا يرى ذلك في لون اللبن ولا يشم في رائحته ولا يوجد في طعمه بدليل أنه سائغ للشاربين، فلا يغص به شارب ولا يشرق به، حقا! أانها عبرة من أجل العبر تنقل صاحبها إلى نور العلم والمعرفة بالله في جلاله وكماله، فتورثه محبة الله وتدفعه إلى طاعته والتقرب إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن الله يقسم بنفسه وبما شاء من خلقه.
2- بيان أن الله أرسل رسلا إلى أمم سبقت وأن الشيطان زين لها أعمالها فخذلها.
3- تقرير النبوة وتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم من جراء ما يلقاه من المشركين.
4- بيان مهمة رسول الله وأنها بيان ما أنزل الله تعالى لعباده من وحيه في كتابه.
5- بيان كون القرآن الكريم هدى ورحمة للمؤمنين الذين يعملون به.
6- دليل البعث والحياة الثانية إحياء الأرض بعد موتها فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأموات بعد فنائهم وبلاهم.
[16.67-70]
شرح الكلمات:
ومن ثمرات النخيل والأعناب: أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا أي خمرا ورزقا حسنا أي والتمر والزبيب والخل والدبس الرزق الحسن.
وأوحى ربك إلى النحل: أي ألهمها أن تفعل ما تفعله بإلهام منه تعالى.
ومما يعرشون: أي يبنون لها.
سبل ربك ذللا: أي طرق ربك مذللة فلا يعسر عليك السير فيها ولا تضلين عنها.
شراب: أي عسل.
فيه شفاء للناس: أي من الأمراض إن شرب بنية الشفاء، أو بضميمته إلى عقار آخر.
إلى أرذل العمر: أي أخسه من الهرم والخرف، والخرف فساد العقل.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده والمقررة لعقيدة النبوة والبعث الآخر. قال تعالى في معرض بيان ذلك بأسلوب الامتنان المقتضي للشكر { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا } ورزقا حسنا أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا أي شرابا مسكرا. وهذا كان قبل تحريم الخمر { ورزقا حسنا } وهو الزبيب والخل من العنب والتمر والدبس العسل من النخل وقوله { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } أي أن فيما ذكرنا لكم لآية أي دلالة واضحة على قدرتنا وعلمنا ورحمتنا لقوم يعقلون الأمور ويدركون نتائج المقدمات، فذو القدرة والعلم والرحمة هو الذي يستحق التأليه والعبادة.. وقوله: { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون } هذا مظهر آخر عظيم من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته يتجلى بإعلامه حشرة النحل كيف تلد العسل وتقدمه للإنسان فيه دواء من كل داء، فقوله { وأوحى ربك } أيها الرسول { إلى النحل } بأن ألهمها { أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر } أيضا بيوتا، { ومما يعرشون } أي ومما يعرش الناس لك أي يبنون لك، اتخذي من ذلك بيوتا لك إذ النحلة تتخذ لها بيتا داخل العريش الذي يعرش لها تبنيه بما تفرزه من الشمع وقوله تعالى: { ثم كلي من كل الثمرات } أي ألهمها أن تأكل من كل ما تحصل عليه من الثمرات من الأشجار والنباتات أي من أزهارها ونوارها وقوله لها { فاسلكي سبل ربك ذللا } بإلهام منه تسلك ما سخر لها وذلك من الطرق فتنتقل من مكان إلى آخر تطلب غذاءها ثم تعود إلى بيوتها لا تعجز ولا تضل وذلك بتذليل الله تعالى وتسخيره لها تلك الطرق فلا تجد فيها وعورة ولا تنساها فتخطئها. وقوله تعالى { يخرج من بطونها } أي بطون النحل { شراب } أي عسل يشرب { مختلف ألوانه } ما بين أبيض وأحمر وأسود، أو أبيض مشرب بحمرة أو يضرب إلى صفرة. وقوله تعالى: { فيه شفآء للناس } أي من الأدواء، هذا التذكير في قوله شفاء دال على بعض دون بعض جائز هذا حتى يضم إليه بعض الأدوية أو العقاقير الأخرى، أما مع النية أي أن يشرب بنية الشفاء من المؤمن فإنه شفاء لكل داء وبدون ضميمة أي شيء آخر له.
وفي حديث الصحيح وخلاصته أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استطلاق بطن أخيه أي مشي بطنه عليه فقال له اسقه عسل، فسقاه فعاد فقال ما أراه زاده إلا استطلاقا فعاد فقال مثل ما قال أولا ثلاث مرات وفي الرابعة او الثالثة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن اخيك اسقه العسل فسقاه فقام كأنما نشط من عقال. وقوله تعالى { إن في ذلك } أي المكذور من إلهام الله تعالى للنحل وتعليمها كيف تصنع العسل ليخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس لدلالة واضحة على علم الله وقدرته ورحمته وحكمته المقتضية عبادته وحده وتأليهه دون سواه ولكن لقوم يتفكرون في الأشياء وتكوينها وأسبابها ونتائجها فيهتدون إلى المطلوب منهم وهو أن يذكروا فيتعظوا فيتوبوا إلى خالقهم ويسلموا له بعبادته وحده دون سواه وقوله تعالى في الآية الأخرى [70] { والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا } هذه آية أخرى أجل وأعظم في الدلالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته، وهي موجبة لعبادته وحده وملزمة بالإيمان بالبعث الآخر فخلق الله تعالى لنا وحده وهو واحد ونحن لا يحصى لنا عد، ثم إماتته لنا موتا حقيقيا يقبض أرواحنا ولا يستطيع أحد أن لا يموت ولا يتوفى أبدا ثم من مظاهر الحكمة أن يتوفانا من أجال مختلفة اقتضها الحكمة لبقاء النوع واستمرار الحياة إلى نهايتها. فمن الناس من يموت طفلا ومنهم من يموت شابا، وكلها حسب حكمة الابتلاء والتربية الإلهية، وآية أخرى ان منا من يرد إلى أرذل عمره، أي أردأه وأخسه فيهرم ويخرف فيفقد ما كان له من قوة بدن وعقل ولا يستطيع أحد أن يخلصه من ذلك إلا الله، مظهر قدرة ورحمة أرأيتم لو شاء الله أن يرد الناس كلهم إلى أرذل العمر ولو في قرن أو قرنين من السنين فكيف تصبح حياة الناس يؤمئذ؟ وقوله: { إن الله عليم قدير } تقرير لعلمه وقدرته ، إذ ما نتج وما كان ما ذكره من خلقنا ووفاتنا ورد بعضنا إلى أرذل العمر إلا بقدرة قادر وعلم عالم وهو الله العليم القدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان منة الله تعالى على العباد بذكر بعض أرزاقهم لهم ليشكروا الله على نعمه.
2- بيان آيات الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته في خلق شراب الإنسان وغذائه ودوائه.
3- فضيلة العقل والتعقل والفكر والتفكر.
4- تقرير عقيدة الإيمان باليوم الآخر الدال عليه القدرة والعلم الإلهيين، إذ من خلق وأمات لا يستنكر منه أن يخلق مرة أخرى ولا يميت.
[16.71-74]
شرح الكلمات:
فضل بعضكم على بعض في الرزق: أي فمنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم المالك ومنكم المملوك.
برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم: أي بجاعلي ما رزقناهم شركة بينهم وبين مماليكهم من العبيد.
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا: إذ حواء خلقت من آدم وسائر النساء من نطف الرجال.
وحفدة: أي خدما من زوجه وولد وولد ولد وخادم وختن.
أفبالباطل يؤمنون: أي بعبادة الأصنام يؤمنون.
رزقا من السماوات والأرض: أي بإنزال المطر من السماء، وإنبات النبات من الأرض.
معنى الآيات:
ما زال السياق العظيم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد. فقوله تعالى: { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } فمنكم من أغناه ومنكم من أفقره أيها الناس، وقد يكون لأحدكم أيها الأغنياء عبيد مملوكين له، لم لا يرضى أن يشرك عبيده في أمواله حتى يكونوا فيها سواء لا فضل لأحدهما على الآخر؟ والجواب أنكم تقولون في استنكار عجيب كيف أسوي مملوكي في رزقي فأصبح وإياه سواء؟ هذا لا يعقل أبدا! إذا كيف جوزتم إشراك آلهتكم في عبادة ربكم وهي مملوكة له تعالى إذ هو خالقها وخالقكم ومالك جميعكم؟ فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون؟ وقوله تعالى: { أفبنعمة الله يجحدون }؟ حقا إنهم جحدوا نعمة العقل أولا فلم يعترفوا بها فلذا لم يفكروا بعقولهم، ثم جحدوا نعمة الله عليهم في خلقهم ورزقهم فلم يعبدوه بذكره وشكره وعبدوا غيره من أصنام وأوثان لا تملك ولا تضر ولا تنفع. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [71] أما الآية الثانية فيقول تعالى فيها مقررا إنعامه تعالى على المشركين بعد توبيخهم على إهمال عقولهم في الآية الأولى وكفرهم بنعم ربهم فيقول: { والله } أي وحده { جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات } أي جعل لكم من أنفسكم أزواجا أي بشريات من جنسكم تسكنون إليهن وتتفاهمون معهن وتتعاونون بحكم الجنسية الآدمية وهي نعمة عظمى، وجعل لكم من أولئك الأزواج بنين بطريق التناسل والولادة وحفدة أيضا والمراد من الحفدة كل من يحفد أي يسرع في خدمتك وقضاء حاجتك من زوجتك وولدك وولد ولدك وختنك أي صهرك، وخادمك إذ الكل يحفدون لك أي يسارعون في خدمتك بتسخير الله تعالى لك، وثالثا { ورزقكم من الطيبات } أي حلال الطعام والشراب على اختلافه وتنوع مذاقه وطعمه ولذته. هذا هو الله الذي تدعون إلى عبادته وحده فتكفرون فأصبحتم بذلك تؤمنون بالباطل وهي الأصنام وعبادتها، وتكفرون بالمنعم ونعمه ولذا استحقوا التوبيخ والتقريع فقال تعالى: { أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون }؟ إذ عدم عبادتهم للمنعم عز وجل هو عين كفرانهم بنعمة الله تعالى. وقوله { ويعبدون من دون الله } أي أصناما لا تملك لهم { رزقا من السموت } بإنزال المطر، { والأرض } بإنبات الزروع والثمار شيئا ولو قل ولا يستطيعون شيئا من ذلك لعجزهم القائم بهم لأنهم تماثيل منحوتة من حجر أو خشب وفي هذا من التنبيه لهم على خطأهم ما لا يقادر قدره.
وقوله تعالى: { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي ينهاهم تعالى عن ضرب الأمثال لله باتخاذ الأصنام آلهة بإطلاق لفظ إله عليها، والله لا مثل له، وباعتقاد أنها شافعة لهم عند الله وأنها تقربهم إليه تعالى، وأنها واسطة بمثابة الوزير للأمير إلى غير ذلك، فنهاهم عن ضرب هذه الأمثال لله تعالى لأنه عز وجل يعلم أن لا مثل له ولا مثال، بل هو الذي لا إله إلا هو تعالى عن الشبيه والمثيل والنظير، وهم لا يعلمون فلذا هم متحيرون متخبطون في ظلمات الشرك وأودية الضلال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قطع دابر الشرك في المثل الذي حوته الآية الأولى: { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق }.
2- وجوب شكر الله تعالى على نعمه وذلك بذكره وشكره وإخلاص ذلك له.
3- قبح كفر النعم وتجاهل المنعم بترك شكره عليها.
4- التنديد بمن يضربون لله الأمثال وهم لا يعلمون باتخاذ وسائط له تشبيها لله تعالى بعباده فهم يتوسطون بالأولياء والأنبياء بدعائهم والاستغاثة بهم بوصفهم مقربين إلى الله تعالى يستجيب لهم، ولا يستجيب لغيرهم.
[16.75-78]
شرح الكلمات:
ضرب الله مثلا: أي هو عبدا مملوكا الخ..
عبدا مملوكا: أي ليس بحر بل هو عبد مملوك لغيره.
هل يستوون: أي العبيد العجزة والحر المتصرف، والجواب: لا يستوون قطعا.
وضرب الله مثلا: أي هو رجلين الخ..
أبكم: أي ولد أخرس وأصم لا يسمع.
لا يقدر على شيء: أي لا يفهم ولا يفهم غيره.
ولله غيب السماوات والأرض: أي ما غاب فيهما.
وما أمر الساعة: أي أمر قيامها، وذلك بإماتة الأحياء وإحيائهم مع من مات قبل وتبديل صور الأكوان كلها.
الأفئدة: أي القلوب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقريرالتوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك والتنفير منه وقد تقدم أن الله تعالى جهل المشركين في ضرب الأمثال له وهو لا مثل له ولا نظير، وفي هذا السياق ضرب تعالى مثلين وهو العليم الخبير.. فالأول قال فيه: { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا } أي غير حر من أحرار الناس، { لا يقدر على شيء } إذ هو مملوك لا حق له في التصرف في مال سيده إلا بإذنه، فلذا فهو لا يقدر على إعطاء أو منع شيء، هذا طرف المثل، والثاني { ومن رزقناه منا رزقا حسنا } صالحا واسعا { فهو ينفق منه سرا وجهرا } ليلا ونهارا لأنه حر التصرف بوصفه مالكا { هل يستوون }؟ الجواب لا يستويان... إذا { الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } والمثل مضروب للمؤمن والكافر، فالكافر أسير للأصنام عبد لها لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، لا يعمل في سبيل الله ولا ينفق لأنه لا يؤمن بالدار الآخرة، والجزاء فيها، وأما المؤمن فهو حر يعمل بطاقة الله فينفق في سبيل الله سرا وجهرا يبتغي الآخرة والمثوبة من الله، ذا علم وإرادة، لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا هو سبحانه وتعالى. وقوله { وضرب الله مثلا رجلين } هو المثال الثاني في هذا السياق وقد حوته الآية الثانية [76] فقال تعالى فيه { وضرب الله مثلا } هو { رجلين أحدهمآ أبكم } ولفظ الأبكم قد يدل على الصمم فالغالب أن الأبكم لا يسمع { لا يقدر على شيء } فلا يفهم غيره لأنه أصم ولا يفهم غيره لأنه أبكم، { وهو كل على مولاه } أي ابن عمه أو من يتولاه من أقربائه يقومون بإعاشته ورعايته لعجزه وضعفه وعدم قدرته على شيء. وقوله: { أينما يوجهه لا يأت بخير } أي أينما يوجهه مولاه وابن عمه ليأتي بشيء لا يأتي بخير، وقد يأتي بشر، أما النفع والخير فلا يحصل منه شيء.
وهذا مثل الأصنام التي تعبد من دون الله إذ هي لا تسمع ولا تبصر فلا تفهم ما يقال لها، ولا تفهم عابديها شيئا وهي محتاجة إليهم في صنعها ووضعها وحملها وحمايتها.
وقوله تعالى { هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } وهو الله تعالى يأمر بالعدل أي بالتوحيد والاستقامة في كل شيء، وهو قائم على كل شيء، وهو على صراط مستقيم يدعو الناس إلى سلوكه لينجوا ويسعدوا في الدارين، فالجواب، لا يستويان بحال، فكيف يرضى المشركون بعبادة وولاية الأبكم الذي لا يقدر على شيء ويتركون عبادة السميع البصير، القوي، القدير، الذي يدعوهم إلى كمالهم وسعادتهم في كلتا حياتهم، أمر يحمل على العجب، ولكن لا عجب مع أقدار الله وتدابير الحكيم العليم.
وقوله تعالى في الآية [77] { ولله غيب السموت والأرض } وحده يعلم ما غاب عنا فيهما فهو يعلم من كتبت له السعادة ومن حكم عليه بالشقاوة، ومن يهتدي ومن لا يهتدي، والجزاء آت بإتيان الساعة { ومآ أمر الساعة } أي إتيانها { إلا كلمح البصر أو هو أقرب } إذ لا يتوقف أمرها إلا على كلمة { كن } فقط فتنتهي هذه الحياة بكل ما فيها، وتأتي الحياة الأخرى وقد تبدلت صور الأشياء كلها { إن الله على كل شيء قدير } ومن ذلك قيام القيامة، ومجيء الساعة. وقوله تعالى: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } حقيقة لا تنكر، الله الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا بعد أن صورنا في الأرحام ونمانا حتى صرنا بشرا ثم أذن بإخراجنا، فأخرجنا، وخرجنا لا نعلم شيئا قط، هذه آية القدرة الإلهية والعلم الإلهي والتدبير الإلهي، فهل للأصنام شيء من ذلك، والجواب لا، لا وثانيا جعل الله تعالى لنا الأسماع والأبصار والأفئدة نعمة أخرى، إذ لو لا ذلك ما سمعنا ولا أبصرنا ولا عقلنا وما قيمة حياتنا يومئذ، إذ العدم خير منها. وقوله: { لعلكم تشكرون } كشف كامل عن سر هذه النعمة وهي أنه جعلنا نسمع ونبصر ونعقل ليكلفنا فيأمرنا وينهانا فنطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وذلك شكره منا مع ما في ذلك الشكر من خير. إنه إعداد للسعادة في الدارين. فهل من متذكر يا عباد الله؟!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال وهو تشبيه حال بحال على أن يكون ضارب المثل عالما.
2- بيان مثل المؤمن في كماله والكافر في نقصانه.
3- بيان مثل الأصنام في جمودها وتعب عبدتها عليها في الحماية وعدم انتفاعهم بها. ومثل الرب تبارك وتعالى في عدله، ودعوته إلى الإسلام وقيامه على ذلك مع استجابة دعاء أوليائه، ورعايتهم، وعلمه بهم وسمعه لدعائهم ونصرتهم في حياتهم وإكرامهم والإنعام عليهم في كلتا حياتهم. ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
[16.79-83]
شرح الكلمات:
مسخرات في جو السماء: أي مذللات في الفضاء بين السماء والأرض وهو الهواء.
ما يمسكهن: أي عند قبض أجنحتها وبسطها إلا الله تعالى بقدرته وسننه في خلقه.
من بيوتكم سكنا: أي مكانا تسكنون فيه وتخلدون للراحة.
من جلود الأنعام بيوتا: أي خياما وقبابا.
يوم ظعنكم: أي ارتحالكم في أسفاركم.
أثاثا ومتاعا إلى حين: كبسط وأكسية تبلى وتتمزق وترمى.
ظلالا ومن الجبال أكنانا: أي ما تستظلون به من حر الشمس، وما تسكنون به في غيران الجبال.
وسرابيل: أي قمصانا تقيكم الحر والبرد.
وسرابيل تقيكم بأسكم: أي دروعا تقيكم الضرب والطعان في الحرب.
لعلكم تسلمون: أي رجاء أن تسلموا له قلوبكم ووجوهكم فتعبدوه وحده.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك وتركه فيقول تعالى: { ألم يروا إلى الطير مسخرت في جو السمآء ما يمسكهن إلا الله } فإن في خلق الطير على اختلاف أنواعه وكثرة أفراده، وفي طيرانه في جو السماء، أي في الهواء وكيف يقبض جناحيه وكيف يبسطها ولا يقع على الأرض فمن يمسكه غير الله بما شاء من تدبيره في خلقه وأكوانه إن في ذلك المذكور لآيات عدة تدل على الخالق وقدرته وعلمه وتوجب معرفته والتقرب إليه وطاعته بعبادته وحده، كما تدل على بطلان تأليه غيره وعبادة وسواه، وكون الآيات لقوم يؤمنون هو باعتبار أنهم أحياء القلوب يدركون ويفهمون بخلاف الكافرين فإنهم أموات القلوب فلا إدراك ولا فهم لهم، فلم يكن لهم في ذلك آية.. وقوله: { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا } أي موضع سكون وراحة، { وجعل لكم من جلود الأنعام } الإبل والبقر والغنم { بيوتا } أي خياما وقبابا { تستخفونها } أي تجدونها خفيفة المحمل { يوم ظعنكم } أي ارتحالكم في أسفاركم وتنقلاتكم { ويوم إقامتكم } في مكان واحد كذلك. وقوله: { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ } أي جعل لكم منه { أثاثا } كالبسط الفرش والأكسية { ومتاعا } أي تتمتعون بها إلى حين بلاها وتمزقها وقوله: { والله جعل لكم مما خلق } من أشياء كثيرة { ظلالا } تستظلون بها من حر الشمس { وجعل لكم من الجبال أكنانا } تكنون فيها أنفسكم من المطر والبرد أو الحر وهي غيران وكهوف في الجبال { وجعل لكم سرابيل } قمصان { تقيكم الحر } والبرد { وسرابيل } هي الدروع { تقيكم بأسكم } في الحرب تتقون بها ضرب السيوف وطعن الرماح. أليس الذي جعل لكم هذه كلها أحق بعبادتكم وطاعتكم، وهكذا { يتم نعمته عليكم } فبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه ليعدكم للإسلام فتسلموا. وهنا وبعد هذا البيان الواضح والتذكير البليغ يقول لرسوله { فإن تولوا } أي أعرضوا عما ذكرتهم به فلا تحزن ولا تأسف اذ ليس عليك هداهم { فإنما عليك البلاغ المبين } وقد بلغت وبينت.
فلا عليك بعد شيء من التبعة والمسؤولية. وقوله: { يعرفون نعمت الله } أي نعمة الله عليهم كما ذكرناهم بها { ثم ينكرونها } فيعبدون غير المنعم بها { وأكثرهم الكافرون } أي الجاحدون المكذبون بنبوتك ورسالتك والإسلام الذي جئت به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا ينتفع بالآيات إلا المؤمنون لحياة قلوبهم، أما الكافرون فهم في ظلمة الكفر لا يرون شيئا من الآيات ولا يبصرون.
2- مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته ونعمه تتجلى في هذه الآيات الأربع ومن العجب أن المشركين كالكافرين عمي لا يبصرون شيئا منها وأكثرهم الكافرون.
3- مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست هداية القلوب وإنما هي بيان الطريق بالبلاغ المبين.
[16.84-89]
شرح الكلمات:
ويوم نبعث: أي اذكر يوم نبعث.
شهيدا: هو نبيها.
لا يؤذن للذين كفروا: أي بالاعتذار فيتعذرون.
ولا هم يستعتبون: أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل ما يرضي الله عنهم.
وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم: أي الذين كانوا يعبدونهم من دون الله كالأصنام والشياطين.
فألقوا إليهم القول: أي ردوا عليهم قائلين لهم إنكم لكاذبون.
وألقوا إلى الله يومئذ السلم: أي ذلوا له وخضعوا لحكمه واستسلموا.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ومعنى ضل غاب.
عذابا فوق العذاب: أنه عقارب وحيات كالنخل الطوال والبغال الموكفة.
ونزلنا عليك الكتاب: أي القرآن.
تبيانا لكل شيء: أي لكل ما بالأمة من حاجة إليه في معرفة الحلال والحرام والحق والباطل والثواب والعقاب.
معنى الآيات:
انحصر السياق الكريم في هذه الآيات الست في تقرير البعث والجزاء مع النبوة فقوله تعالى: { ويوم نبعث } أي اذكر يا رسولنا محمد يوم نبعث { من كل أمة } من الأمم { شهيدا } هو نبيها الذي نبئ فيها وأرسل إليها { ثم لا يؤذن للذين كفروا } أي بالاعتذار فيعتذرون { ولا هم يستعتبون } أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل يرضي الله عنهم أي اذكر هذا لقومك، علهم يذكرون فيتعظون، فيتوبون، فينجون ويسعدون. وقوله في الآية الثانية [85] { وإذا رأى الذين ظلموا العذاب } أي يوم القيامة { فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون } أي يمهلون. اذكر هذا أيضا تذكيرا وتعليما، واذكر لهم { وإذا رأى الذين أشركوا شركآءهم } في عرصات القيامة أو في جهنم صاحوا قائلين { ربنا } أي يا ربنا { هؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك } أي نعبدهم بدعائهم والإستغاثة بهم، { فألقوا إليهم القول } فورا { إنكم لكاذبون }. { وألقوا إلى الله يومئذ السلم } أي الإستسلام فذلوا لحكمه { وضل عنهم ما كانوا يفترون } في الدنيا من ألوان الكذب والترهات كقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وأنهم ينجون من النار بشفاعتهم، وأنهم وسيلتهم إلى الله كل ذلك ضل أي غاب عنهم ولم يعثروا منه على شيء. وقوله تعالى: { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } غيرهم بالدعوة إلى الكفر وأسبابه والحمل عليه أحيانا بالترهيب والترغيب { زدناهم عذابا فوق العذاب } الذي استوجبوه بكفرهم. ورد أن هذه الزيادة من العذاب أنها عقارب كالبغال الدهم، وأنها حيات كالنخل الطوال والعياذ بالله تعالى من النار وما فيها من أنواع العذاب، وقوله تعالى: { ويوم نبعث } أي اذكر يا رسولنا يوم نبعث { في كل أمة شهيدا } أي يوم القيامة { عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء } أي على من أرسلت إليهم من أمتك.
فكيف يكون الموقف إذ تشهد على أهل الإيمان بالإيمان وعلى أهل الكفر بالكفر. وعلى أهل التوحيد بالتوحيد، وعلى أهل الشرك بالشرك إنه لموقف صعب تعظم فيه الحسرة وتشتد الندامة.. وقوله تعالى في خطاب رسوله مقررا نبوته والوحي إليه { ونزلنا عليك الكتاب } أي القرآن { تبيانا لكل شيء } الأمة في حاجة إلى معرفته من الحلال والحرام والأحكام والأدلة { وهدى } من كل ضلال { ورحمة } خاصة بالذين يعملون به ويطبقونه على أنفسهم وحياتهم فيكون رحمة عامة بينهم { وبشرى للمسلمين } أي المنقادين لله في أمره ونهيه بشرى لهم بالأجر العظيم والثواب الجزيل يوم القيامة، وبالنصر والفوز والكرامة في هذه الدار. وبعد إنزالنا عليك هذا الكتاب فلم يبق من عذر لمن يريد أن يعتذر يوم القيامة ولذا ستكون شهادتك على أمتك أعظم شهادة وأكثرها أثرا على نجاة الناجين وهلاك الهالكين ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث الآخر بما لا مزيد عليه لكثرة ألوان العرض لما يجرى في ذلك اليوم.
2- براءة الشياطين والأصنام الذين أشركهم الناس في عبادة الله من المشركين بهم والتبرؤ منهم وتكذيبهم.
3- زيادة العذاب لمن دعا إلى الشرك والكفر وحمل الناس على ذلك.
4- لا عذر لأحد بعد أن أنزل الله تعالى القرآن تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
[16.90-93]
شرح الكلمات:
العدل: الإنصاف ومنه التوحيد.
الإحسان: أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة الله تعالى.
وإيتاء ذي القربى: أي إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر.
عن الفحشاء: الزنا.
يعظكم: أي يأمركم وينهاكم.
تذكرون: أي تتعظون.
توكيدها: أي تغليظها.
نقضت غزلها: أي أفسدت غزلها بعد ما غزلته.
من بعد قوة: أي أحكام له وبرم.
أنكاثا: جمع نكث وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام.
كالتي نقضت غزلها: هي حمقاء مكة وتدعى ريطة بنت سعد بن تيم القرشية.
دخلا بينكم: الدخل ما يدخل في الشيء وهو ليس منه للإفساد والخديعة.
أربى من أمة: أي أكثر منها عددا وقوة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { إن الله يأمر بالعدل } أي أن الله يأمر في الكتاب الذي أنزله تبيانا لكل شيء، يأمر بالعدل وهو الإنصاف ومن ذلك أن يعبد الله بذكره وشكره لأنه الخالق المنعم وتترك عبادة غيره لأن غيره لم يخلق ولم يرزق ولم ينعم بشيء. ولذا فسر هذا اللفظ بلا إله إلا الله، { والإحسان } وهو أداء الفرائض واجتناب المحرمات مع مراقبة الله تعالى في ذلك حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقانا وجودة والإجتناب خوفا من الله حياء منه، وقوله { وإيتآء ذي القربى } أي ذوي القرابات حقوقهم من البر والصلة. هذا مما أمر الله تعالى به في كتابه، ومما ينهى عنه الفحشاء وهو الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه وفحش حتى البخل { والمنكر } وهو كل ما أنكر الشرع وأنكرته الفطر السليمة والعقول الراجحة السديدة، وينهى عن البغي وهو الظلم والاعتداء ومجاوزة الحد في الأمور كلها، وقوله { لعلكم تذكرون } أي أمر بهذا في كتابه رجاء أن تذكروا فتتعظوا فتمتثلوا الأمر وتجتنبوا النهي. وبذلك تكملون وتسعدون. ولذا ورد أن هذه الآية: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } إلى { تذكرون } هي أجمع آية في كتاب الله للخير والشر. وهي كذلك فما من خير إلا وأمرت به ولا من شر إلا ونهت عنه. وقوله تعالى { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } أمر من الله تعالى لعبادة المؤمنين بالوفاء بالعهود فعلى كل مؤمن بايع إماما أو عاهد أحدا على شيء أن يفي له بالعهد ولا ينقصه.
" إذ لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له "
كما في الحديث الشريف.. وقوله تعالى { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } الأيمان جمع يمين وهو الخلف بالله وتوكيدها تغليظها بالألفاظ الزائدة { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } اي وكيلا، أي أثناء حلفكم به تعالى، فقد جعلتموه وكيلا، فهذه الآية حرمت نقض الأيمان وهو نكثها وعدم الإلتزام بها بالحنث فيها لمصالح مادية. وقوله تعالى { إن الله يعلم ما تفعلون } فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها.
وقوله تعالى { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها } ، وهي امرأة بمكة حمقاء تغزل ثم تنكث غزلها وتفسده بعد إبرامه وإحكامه فنهى الله تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء. وقوله تعالى: { تتخذون أيمانكم دخلا بينكم } أي إفسادا وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها، ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرمتم من عهد وميثاق وتعاهدون جماعة أخرى لأنها أقوى وتنتفعون بها أكثر. هذا معنى قوله تعالى { أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي جماعة أكثر من جماعة رجالا وسلاحا أو مالا ومنافع. وقوله تعالى: { إنما يبلوكم الله به } أي يختبركم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الأيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم أولا تفعلوا إيثارا للدنيا عن الآخرة، { وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } ثم يحكم بينكم ويجزيكم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.. وقوله تعالى { ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة } على التوحيد والهداية لفعل.. ولكن اقتضت حكمته العالية أن يهدي من يشاء هدايته لأنه رغب فيها وطلبها، ويضل من يشاء إضلاله لأنه رغب في الضلال وطلبه وأصر عليه بعد النهي عنه. وقوله تعالى: { ولتسألن } أي سؤال توبيخ وتأنيب { عما كنتم تعملون } من سوء وباطل، ولازم ذلك الجزاء العادل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسئية فلا يجزى إلا بمثلها وهم لا يظلمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أجمع آية للخير والشر في القرآن وهي آية { إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. } الآية [90].
2- وجوب العدل والإحسان وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة.
3- تحريم الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه من الفواحش الظاهرة والباطنة.
4- تحريم البغي وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله.
5- وجوب الوفاء بالعهود وحزمة نقضها.
6- حرمة نقض الأيمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين.
7- من بايع أميرا أو عاهد احدا يجب عليه الوفاء ولا يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبدا.
[16.94-97]
شرح الكلمات:
دخلا بينكم: أي لأجل الإفساد والخديعة.
وتذوقوا السوء: أي العذاب.
ما عندكم ينفد: يفنى وينتهي.
وهو مؤمن: أي والحال أنه عندما عمل صالحا كان مؤمنا، إذ بدون إيمان لا عمل يقبل.
حياة طيبة: في الدنيا بالقناعة والرزق الحلال وفي الآخرة هي حياة الجنة.
بأحسن ما كانوا يعملون: أي يجزيهم على كل أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب الأحسن فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تربية المؤمنين أهل القرآن الذي هو تبيان كل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقال تعالى { ولا تتخذوا أيمانكم دخلا } أي خديعة { بينكم } لتتوصلوا بالأيمان إلى غرض دنيوي سافل، { فتزل قدم بعد ثبوتها } بأن يقع أحدكم في كبيرة من هذا النوع، يحلف بالله بقصد الخداع والتضليل فتذوقوا السوء في الدنيا بسبب صدكم عن سبيل الله من تعاهدونهم أو تبايعونهم وتعطونهم أيمانكم وعهودكم ثم تنقضوها فهؤلاء ينصرفون عن الإسلام ويعرضون عنه بسبب ما رأوا منكم من النقض والنكث، وتتحملون وزر ذلك، ويكون لكم العذاب العظيم يوم القيامة. فإياكم والوقوع في مثل هذه الورطة، فاحذروا أن تزل قدم أحدكم عن الإسلام بعد أن رسخت فيه. وقوله: { ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا } وكل ما في الدنيا قليل وقوله تعالى إنما عند الله هو خير لكم قطعا، لأن ما عندكم من مال أو متاع ينفد أي يفنى، { وما عند الله باق } لانفاذ له، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني، وقوله تعالى: { ولنجزين الذين صبروا } على عهودهم { أجرهم } على صبرهم { بأحسن ما كانوا يعملون } أي يضاعف لهم الأجر فيعطيهم سائر أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب أفضلها وأكملها حتى يكون أجر النافلة، كأجر الفريضة وهذا وعد من الله تعالى لمن يصبر على إيمانه وإسلامه ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ووعد ثان في قوله: { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } إلا أن أصحاب هذا الوعد هم أهل الإيمان والعمل الصالح، الإيمان الحق الذي يدفع إلى العمل الصالح، ولازم ذلك أنهم تخلوا عن الشرك والمعاصي، هؤلاء وعدهم ربهم بأنه يحييهم في الدنيا حياة طيبة لا خبث فيها قناعة وطيب طعام وشراب ورضا، هذا في الدنيا وفي الآخرة الجنة والجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه من كل نوع، من الصلاة كأفضل صلاة وفي الصدقات بأفضل صدقة وهكذا. { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وآتنا ما وعدتهم إنك بر رحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ الأيمان طريقا إلى الغش والخديعة والإفساد.
2- ما عند الله خير مما يحصل عليه الإنسان بمعصيته الرحمن من حطام الدنيا.
3- عظم أجر الصبر على طاعة الله تعالى فعلا وتركا.
4- وعد الصدق لمن آمن وعمل صالحا من ذكر وأنثى بالحياة الطبية في الدنيا والآخرة.
[16.98-102]
شرح الكلمات:
فإذا قرأت القرآن: أي أردت أن تقرأ القرآن.
فاستعذ بالله من الشيطان : أي قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لحمايتك من وسواسه.
إنه ليس له سلطان: أي قوة وتسلط على إفساد الذين آمنوا وإضلالهم، ما داموا متوكلين على الله.
وإذا بدلنا آية مكان آية: أي بنسخها وإنزاله آية أخرى غيرها لمصلحة العباد.
قل نزله روح القدس: أي جبريل عليه السلام.
ليثبت الذين آمنوا: أي على إيمانهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هداية المسلمين وتكميلهم، فقوله تعالى: { فإذا قرأت القرآن } يا محمد أنت أو أحد من المؤمنين أتباعك { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } أي إذا كنت قارئا عازما على القراءة فقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن ذلك يقيك من وسواسه الذي قد يفسد عليك تلاوتك، وقوله: { إنه ليس له } أي للشيطان { سلطان } يعني تسلط وغلبة وقهر { على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } وهذه بشرى خير للمؤمنين { إنما سلطانه على الذين يتولونه } بطاعته والعمل بتزيينه للشر والباطل، { والذين هم به مشركون }. هؤلاء هم الذين يتسلط الشيطان عليهم فيغويهم ويضلهم حتى يهلكهم. وقوله تعالى: { وإذا بدلنآ آية مكان آية } أي نسخنا حكما بحكم آخر بآية أخرى قال المشركون المكذبون بالوحي الإلهي { إنمآ أنت } يا محمد { مفتر } تقول بالكذب والخرص، أي يقول اليوم شيئا ويقول غدا خلافه. وقوله تعالى: { والله أعلم بما ينزل } فإنه ينزله لمصلحة عباده فينسخ ويثبت لأجل مصالح المؤمنين. وعلم الله تعالى رسوله كيف يرد على هذه الشبهة وقال له { قل نزله روح القدس من ربك بالحق } فلست أنت الذي تقول ما تشاء وإنما هو وحي الله وكلامه ينزل به جبريل عليه السلام من عند ربك بالحق الثابت عند الله الذي لا يتبدل ولا يتغير، وذلك لفائدة تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وإسلامهم. فكلما نزل قرآن ازداد المؤمنون إيمانا فهو كالغيث ينزل على الأرض كلما نزل ازدادت حياتها نضرة وبهجة فكذلك نزول القرآن تحيا به قلوب المؤمنين، وهو أي القرآن هدى من كل ضلالة. وبشرى لكل المسلمين بفلاح الدنيا وفوز الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحباب الاستعاذة عند قراءة القرآن بلفظ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
2- بيان أنه لا تسلط للشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم.
3- بيان أن سلطان الشيطان على أوليائه العاملين بطاعته المشركين بربهم.
4- بيان أن القرآن فيه الناسخ والمنسوخ.
5- بيان فائدة نزول القرآن بالناسخ والمنسوخ وهي تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وهدى من الضلالة وبشرى للمسلمين بالفوز والفلاح في الدارين.
[16.103-109]
شرح الكلمات:
بشر: يعنون قينا (حدادا) نصرانيا في مكة.
لسان الذي يلحدون إليه: أي يميلون إليه.
وهذا لسان عربي: أي القرآن فكيف يعلمه أعجمي.
إلا من أكره: أي على التلفظ بالكفر فتلفظ به.
ولكن من شرح بالكفر صدرا: أي فتح صدره الكفر وشرحه له فطابت نفسه له.
وأولئك هم الغافلون: أي عما يراد بهم.
لا جرم: أي حقا.
هم الخاسرون: أي لمصيرهم إلى النار خالدين فيها أبدا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين الذين اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالافتراء فقال تعالى: { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر } أي يعلم محمدا بشر أي إنسان من الناس، لا أنه وحي يتلقاه من الله. قال تعالى في الرد على هذه الفرية وإبطالها { لسان الذي يلحدون إليه } أي يميلون إليه بأنه هو الذي يعلم محمد لسانه { أعجمي } لأنه عبد رومي، { وهذا } أي القرآن { لسان عربي مبين } ذو فصاحة وبلاغة وبيان فكيف يتفق هذا مع ما يقولون أنهم يكذبون لا غير، وقوله تعالى { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله } وهي نور وهدى وحجج قواطع، وبرهان ساطع { لا يهديهم الله } إلى معرفة الحق وسبيل الرشد لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية وصدوا عن سبيل العرفان وقوله { ولهم عذاب أليم } أي جزاء كفرهم بآيات الله. وقوله { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون } أي إنما يختلق الكذب ويكذب فعلا الكافر بآيات الله لأنه لا يرجو ثواب الله ولا يخاف عقابه، فلذا. لا يمنعه شيء عن الكذب، أما المؤمن فإنه يرجو ثواب الصدق ويخاف عقاب الكذب فلذا هو لا يكذب أبدا، وبذا تعين أن النبي لم يفتر الكذب وإنما يفتري الكذب اولئك المكذبون بآيات الله وهم حقا الكاذبون. وقوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره } على التلفظ بالكفر { وقلبه مطمئن بالإيمان } لا يخامره شك ولا يجد اضطرابا ولا قلقا فقال كلمة الكفر لفظا فقط، فهذا كعمار بن ياسر كانت قريش تكرهه على كلمة الكفر فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في قولها بلسانه ولكن المستحق للوعيد الآتي { من شرح بالكفر صدرا } أي رضي بالكفر وطابت نفسه وهذا وأمثاله { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } أي باءوا بغضب الله وسخطه ولهم في الآخرة عذاب عظيم، وعلل تعالى لهذا الجزاء العظيم بقوله { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } بكفرهم بالله وعدم إيمانهم به لما في ذلك من التحرر من العبادات، فلا طاعة ولا حلال ولا حرام، وقوله تعالى: { وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } هذا وعيد منه تعالى سبق به علمه وأن القوم الكافرين يحرمهم التوفيق للهداية عقوبة لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه.
وقوه تعالى: { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } وعلى سمعهم وأبصارهم أولئك الذين توعدهم الله بعدم هدايتهم هم الذين طبع على قلوبهم فهم لا يفهمون { وسمعهم } فهم لا يسمعون المواعظ ودعاء الدعاة إلى الله تعالى { وأبصارهم } فهم لا يبصرون آيات الله وحججه في الكون، وما حصل لهم من هذه الحال سببه الإعراض المتعمد وإيثار الحياة الدنيا، والعناد، والمكابرة، والوقوف في وجه دعوة الحق والصد عنها. وقوله { وأولئك هم الغافلون } أي عما خلقوا له، وعما يراد لهم من نكال في الآخرة وعذاب أليم، وقوله تعالى { لا جرم } أي حقا { أنهم في الآخرة هم الخاسرون } المغبونون حيث وجدوا أنفسهم في عذاب أليم دائم لا يخرجون منه ولا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دفاع الله تعالى عن رسوله ودرء كل تهمة توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- المكذبون بآيات الله يحرمون هداية الله، لأن طريق الهداية هو الإيمان بالقرآن. فلما كفروا به فعلى أي شيء يهتدون.
3- المؤمنون لا يكذبون لإيمانهم بثواب الصدق وعقاب الكذب، ولكن الكافرين هم الذين يكذبون لعدم ما يمنعهم من الكذب إذ لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا.
4- الرخصة في كلمة الكفر في حال التعذيب بشرط اطمئنان القلب إلى الإيمان وعدم انشراح الصدر بكلمة الكفر.
5- إيثار الدنيا على الآخرة طريق الكفر وسبيل الضلال والهلاك.
[16.110-113]
شرح الكلمات:
هاجروا: أي إلى المدينة.
من بعد ما فتنوا: أي فتنهم المشركون بمكة فعذبوهم حتى قالوا كلمة الكفر مكرهين.
إن ربك من بعدها: أي من بعد الهجرة والجهاد والصبر على الإيمان والجهاد.
لغفور رحيم: أي غفور لهم رحيم بهم.
يوم تأتي: أي اذكر يا محمد يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها.
مثلا قرية: هي مكة.
رزقها رغدا: أي واسعا.
فكفرت بأنعم الله: أي بالرسول والقرآن والأمن ورغد العيش.
فأذاقها الله لباس الجوع: أي بسبب قحط أصابهم حتى أكلوا العهن لمدة سبع سنين.
والخوف: حيث أصبحت سرايا الإسلام تغزوهم وتقطع عنهم سبل تجارتهم.
معنى الآيات:
بعدما ذكر الله تعالى رخصة كلمة الكفر عند الإكراه وبشرط عدم انشراح الصدر بالكفر ذكر مخبرا عن بعض المؤمنين، تخلفوا عن الهجرة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أرادوا الهجرة منعتهم قريش وعذبتهم حتى قالوا كلمة الكفر، ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا وجاهدوا وصبروا فأخبر الله تعالى عنهم بأنه لهم مغفرته ورحمته، فلا يخافون ولا يحزنون فقال تعالى { ثم إن ربك } أيها الرسول { للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } أي عذبوا { ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } أي غفور لهم رحيم بهم.
وقوله تعالى: { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } أي اذكر ذلك واعظا به المؤمنين أي تخاصم طالبة النجاة لنفسها { وتوفى كل نفس ما عملت } أي من خير أو شر { وهم لا يظلمون } لأن الله عدل لا يجوز في الحكم ولا يظلم، وقوله تعالى: { وضرب الله مثلا قرية } ، أي مكة { كانت آمنة } من غارات الأعداء { مطمئنة } لا ينتابها فزع ولا خوف، لما جعل الله تعالى في قلوب العرب من تعظيم الحرم وسكانه، { يأتيها رزقها رغدا } أي واسعا { من كل مكان } حيث يأتيها من الشام واليمن في رحلتيهما في الصيف والشتاء { فكفرت بأنعم الله } وهي تكذيبها برسول الله صلى الله عليه وسلم وإنكارها للتوحيد، وإصرارها على الشرك وحرب الإسلام { فأذاقها الله لباس الجوع } فدعا عليهم الرسول اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف السبع الشداد، فأصابهم القحط سبع سنوات فجاعوا حتى أكلوا الجيف والعهن، وأذاقها لباس الخوف إذ أصبحت سرايا الإسلام تعترض طريق تجارتها بل تغزوها في عقر دارها، وقوله تعالى { بما كانوا يصنعون } أي جزاهم الله بالجوع والخوف بسبب صنيعهم الفاسد وهو اضطهاد المؤمنين بعد كفرهم وشركهم وإصرارهم على ذلك. وقوله تعالى: { ولقد جآءهم رسول منهم } هو محمد صلى الله عليه وسلم { فكذبوه } أي جحدوا رسالته وأنكروا نبوته وحاربوا دعوته { فأخذهم العذاب } عذاب الجوع والخوف والحال أنهم { ظالمون } أي مشركون وظالمون لأنفسهم حيث عرضوها بكفرهم إلى عذاب الجوع والخوف.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الهجرة والجهاد والصبر، وما تكفر هذه العبادات من الذنوب وما تمحو من خطايا.
2- وجوب التذكير باليوم الآخر وما يتم فيه من ثواب وعقاب للتجافي عن الدنيا والإقبال على الآخرة.
3- استحسان ضرب الأمثال من أهل العلم.
4- كفر النعم بسبب زوالها والانتقام من أهلها.
5- تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في ما جاء به، ولو بالإعراض عنه وعدم العمل به يجر البلاء والعذاب.
[16.114-118]
شرح الكلمات:
فكلوا: أي أيها الناس.
حلالا طيبا: أي غير حرام ولا مستقذر.
واشكروا نعمة الله عليكم: أي بعبادته وبالانتهاء إلى ما أحل لكم عما حرمه عليكم.
إن كنتم إياه تعبدون: أي إن كنتم تعبدونه وحده فامتثلوا أمره، فكلوا مما أحل لكم وذروا ما حرم عليكم.
الميتة: أي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير تذكية شرعية.
والدم: أي الدم المسفوح السائل لا المختلط باللحم والعظم.
وما أهل لغير الله به: أي ما ذكر عليه غير اسم الله تعالى.
غير باغ ولا عاد: أي غير باغ على أحد، ولا عاد أي متجاوز حد الضرورة.
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: أي لا تحللوا ولا تحرموا بألسنتكم كذبا على الله فتقولوا هذا حلال وهذا حرام بدون تحليل ولا تحريم من الله تعالى.
وعلى الذين هادوا: أي اليهود.
حرمنا ما قصصنا عليك من قبل: أي في سورة الأنعام.
معنى الآيات:
امتن الله عز وجل على عباده، فأذن لهم أن يأكلوا مما رزقهم من الحلال الطيب ويشكروه على ذلك بعبادته وحده وهذا شأن من يعبد الله تعالى وحده، فإنه يشكره على ما أنعم به عليه، وقوله تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به } فلا تحرموا ما لم يحرم عليكم كالسائبة والبحيرة والوصيلة التي حرمها المشركون افتراء على الله وكذبا. وقوله { فمن اضطر } منكم أي خاف على نفسه ضرر الهلاك بالموت لشدة الجوع وكان { غير باغ } على أحد ولا معتد ما أحل له إلى ما حرم عليه فليأكل ما يدفع به غائلة الجوع ولا إثم عليه { فإن الله غفور رحيم } فيغفر للمضطر كما يغفر للتائب ويرحم المضطر فيأذن له في الأكل دفعا للضرر رحمة به كما يرحم من أناب إليه.
وقوله: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } أي ينهاهم عن التحريم والتحليل من تلقاء أنفسهم بأن يصفوا الشيء بأنه حلال أو حرام لمجرد قولهم بألسنتهم الكذب: هذا حلال وهذا حرام كما يفعل المشركون فحللوا وحرموا بدون وحي إلهي ولا شرع سماوي. ليؤول قولهم وصنيعهم ذلك إلى الإفتراء على الله والكذب عليه. مع أن الكاذب على الله لا يفلح أبدا لقوله { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل } وإن تمتعوا قليلا في الدنيا بمال أو ولد أو عزة وسلطان فإن ذلك متاع قليل جدا ولا يعتبر صاحبه مفلحا ولا فائزا. فإن وراء ذلك العذاب الآخروي الأليم الدائم الذي لا ينقطع. وقوله تعالى: { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } يخاطب الله تعالى رسوله فيقول: كما حرمنا على هذه الأمة المسلمة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، حرمنا على اليهود ما قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام.
إذ قال تعالى
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايآ أو ما اختلط بعظم
[الآية: 146]. وحرم هذا الذي حرم عليهم بسبب ظلم منهم فعاقبهم الله فحرم عليهم هذه الطيبات التي أحلها لعباده المؤمنين. ولذا قال تعالى { وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- يجب مقابلة النعم بالشكر فمن غير العدل أن يكفر العبد نعم الله تعالى عليه فلا يشكره عليها بذكره وحمده وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه.
2- بيان المحرمات من المطاعم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله.
3- بيان الرخصة في الأكل من المحرمات المذكورة لدفع غائلة الموت.
4- حرمة التحريم والتحليل بغير دليل شرعي قطعي لا ظني إلا ما غلب على الظن تحريمه.
5- حرمة الكذب على الله وأن الكاذب على الله لا يفلح في الآخرة وفلاحه في الدنيا جزيء قليل لا قيمة له.. هذا إن أفلح.
6- قد يحرم العبد النعم بسبب ظلمه فكم حرمت أمة الإسلام من نعم بسبب ظلمها في عصور انحطاطها.
[16.119-124]
شرح الكلمات:
ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة: أي ثم إن ربك غفور رحيم للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا.
من بعدها: أي من بعد الجهالة والتوبة.
إن إبراهيم كان أمة: أي إماما جامعا لخصال الخير كلها قدوة يقتدى به في ذلك.
قانتا لله حنيفا: أي مطيعا لله حنيفا: مائلا إلى الدين القيم الذي هو الإسلام.
اجتباه: أي ربه اصطفاه للخلة بعد الرسالة والنبوة.
وآتيناه في الدنيا حسنة: هي الثناء الحسن من كل أهل الأديان السماوية.
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه: أن اليهود أمروا بتعظيم الجمعة فرفضوا وأبوا إلا السبت ففرض الله عليهم ذلك وشدد لهم فيه عقوبة لهم.
معنى الآيات:
بعدما نددت الآيات في سياق طويل بالشرك وإنكار البعث والنبوة من قبل المشركين الجاحدين المعاندين، وقد أوشك سياق السورة على الانتهاء فتح الله تعالى باب التوبة لهم وقال: { ثم إن ربك } أي بالمغفرة والرحمة { للذين عملوا السوء بجهالة } فأشركوا بالله غيره وأنكروا وحيه وكذبوا بلقائه { ثم تابوا من بعد ذلك } فوحدوه تعالى بعبادته وأقروا بنبوة رسوله وآمنوا بلقائه واستعدوا له بالصالحات { وأصلحوا } ما كانوا قد أفسدوه من قلوبهم وأعمالهم وأحوالهم { إن ربك من بعدها } من بعد هذه التوبة والأوبة الصحيحة { لغفور رحيم } بهم. فكانت بشرى لهم على لسان كتاب ربهم. وقوله تعالى: { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } إنه لما كان من شبه المشركين أنهم على دين أبيهم إبراهيم باني البيت وشارع المناسك ومحرم الحرم، واليهود والنصارى كذلك يدعون أنهم على ملة إبراهيم فأصر الجميع على أنه متبع لملة إبراهيم وأنه على دينه ورفضوا الإسلام بدعوى ما هم عليه هو دين الله الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام، ومن باب إبطال الباطل وإزاحة ستار الشبه وتنقية الحق لدعوة الحق والدين الحق ذكر تعالى جملة من حياة إبراهيم الروحية والدينية كمثال حي ناطق لكل عاقل إذا نظر إليه عرف هل هو متبع لإبراهيم يعيش على ملته أو هو على غير ذلك. فقال تعالى { إن إبراهيم كان أمة } أي إماما صالحا جامعا لخصال الخير، يقتدي به كل راغب في الخير. هذا أولا وثانيا أنه كان قانتا أي مطيعا لربه فلا يعصي له أمرا ولا نهيا ثالثا لم يك من المشركين بحال من الأحوال بل هو بريء من الشرك وأهله، ورابعا كان شاكرا لأنعم الله تعالى عليه أي صارفا نعم الله عليه فيما يرضي الله، خامسا اجتباه ربه أي اصطفاه لرسالته وخلته لأنه أحب الله أكثر من كل شيء فتخلل حب الله قلبه فلم يبق لغيره في قلبه مكان.
فخاله الله أي بادله خلة بخلة فكان خليل الرحمن. سادسا وهداه إلى صراط مستقيم الذي هو الإسلام، سابعا وآتاه في الدنيا حسنة وهي الثناء الحسن والذكر الجميل من جميع أهل الأديان الإلهية الأصل. ثامنا وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين قال الله تعالى فيهم: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهي منزلة من أشرف المنازل وأسماها. تاسعا مع جلالة قدر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته أمره الله تعالى أن يتبع ملة إبراهيم حنيفا.
هذا هو إبراهيم فمن أحق بالنسبة إليه، المشركون؟ لا! اليهود؟ لا، النصارى؟ لا! المسلمون الموحدون؟ نعم نعم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأكرمنا يوم تكرمهم.
وقالى تعالى: { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } فيه دليل على بطلان دعوى اليهود أنهم على ملة إبراهيم ودينه العظيم، إذ تعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم، وإنما سببه أن الله تعالى أوحى إلى أحد أنبيائهم أن يأمر بني إسرائيل بتعظيم الجمعة فاختلفوا في ذلك وآثروا السبت عنادا ومكابرة فكتب الله عليهم تعظيم السبت. وقوله { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } فيه وعيد لهم وأنه سيجزيهم سوءا على تمردهم على أنبيائهم واختلافهم عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- باب التوبة مفتوح لكل ذي ذنب عظم أو صغر على شرط صدق التوبة بالإقلاع الفوري والندم والاستغفار الدائم وإصلاح الفاسد.
2- تقرير التوحيد والإعلان عن شأن إبراهيم عليه السلام وبيان كمالاته وإنعام الله عليه.
3- بيان أن سبت اليهود هو من نقم الله عليهم لا من نعمه وأفضاله عليهم.
[16.125-128]
شرح الكلمات:
إلى سبيل ربك: أي إلى طاعته إذ طاعة الله موصلة إلى رضوانه وإنعامه فهي سبيل الله.
بالحكمة: أي بالقرآن والمقالة المحكمة الصحيحة ذات الدليل الموضح للحق.
والموعظة الحسنة: هي مواعظ القرآن، والقول الرقيق الحسن.
وجادلهم بالتي هي أحسن: أي بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها.
لهو خير للصابرين: أي خير من الإنتقام عاقبة.
ولا تك في ضيق مما يمكرون: أي لا تهتم بمكرهم، ولا يضيق صدرك به.
مع الذين اتقوا: أي اتقوا الشرك والمعاصي.
والذين هم محسنون: أي في طاعة الله، ومعيته تعالى هي نصره وتأييده لهم في الدنيا.
معنى الآيات:
يخاطب الرب تعالى رسوله تشريفا وتكليفا: { ادع إلى سبيل ربك } أي إلى دينه وهو الإسلام سائر الناس، وليكن دعاؤك { بالحكمة } التي هي القرآن الكريم الحكيم { والموعظة الحسنة } وهي مواعظ القرآن وقصصه وأمثاله، وترغيبه وترهيبه، { وجدلهم بالتي هي أحسن } أي خاصمهم بالمخاصمة التي هي أحسن وهي الخالية من السب والشتم والتعريض بالسوء، فإن ذلك أدعى لقبول الخصم الحق وما يدعي إليه، وقوله تعالى: { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } من الناس { وهو أعلم بالمهتدين } وسيجزيهم المهتدي بهداه، والضال بضلاله، كما هو أعلم بمن ضل واهتدى أزلا. فهون على نفسك ولا تشطط في دعوتك فتضر بنفسك، والأمر ليس إليك. بل لربك يهدي من يشاء ويضل من يشاء وما عليك إلا الدعوة بالوصف الذي وصف لك، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وقوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } لا أكثر، { ولئن صبرتم } وتركتم المعاقبة { لهو } أي صبركم { خير } لكم من المعاقبة على الذنب والجناية، وقوله تعالى: { واصبر } على ترك ما عزمت عليه أيها الرسول من التمثيل بالمشركين جزاء تمثيلهم بعمك حمزه، فأمره بالصبر ولازمه ترك المعاقبة والتمثيل معا، وقوله: { وما صبرك إلا بالله } أي إلا بتوفيقه وعونه، فكن مع ربك تستمد منه الصبر كما تستمد منه العون والنصر، وقوله تعالى: { ولا تحزن عليهم } أي على عدم اهتدائهم إلى الحق والأخذ به والسير في طريقه الذي هو الإسلام { ولا تك في ضيق } نفسي يؤلمك { مما يمكرون } بك فإن الله تعالى كافيك مكرهم وشرهم إنه معك فلا تخف ولا تحزن لأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنت منهم. وقوله { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } يخبر تعالى رسوله والمؤمنين أنه عز وجل بنصره وتأييده ومعونته وتوفيقه مع الذين اتقوا الشرك والمعاصي فلم يتركوا فرائض دينه، ولم يفشوا محارمه والذين هم محسنون في طاعة ربهم إخلاصا في النية والقصد، وأداء على نحو ما شرع الله وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الدعوة إلى الله تعالى أي إلى الإسلام وهو واجب كفائي، إذا قامت به جماعة أجزأ ذلك عنهم.
2- بيان أسلوب الدعوة وهو أن يكون بالكتاب والسنة وأن يكون خاليا من العنف والغلظة والشدة، وأن تكون المجادلة بالتي هي أحسن من غيرها.
3- جواز المعاقبة بالأخذ بقدر ما أخذ من المرء، وتركها صبرا واحتسابا أفضل.
4- معية الله تعالى ثابتة لأهل التقوى والإحسان، وهي معية نصر وتأييد وتسديد.
[17 - سورة الإسراء]
[17.1]
شرح الكلمات:
سبحان: أي تنزه وتقدس عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وهو الله جل جلاله.
بعبده: أي بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
من المسجد الحرام: أي الذي بمكة.
إلى المسجد الأقصى: أي الذي ببيت المقدس.
من آياتنا: أي من عجائب قدرتنا ومظاهرها في الملكوت الأعلى.
معنى الآية الكريمة:
نزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما نسب إليه المشركون من الشركاء والبنات وصفات المحدثين، فقال: { سبحان الذى أسرى بعبده } أي محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني { ليلا من المسجد الحرام } أي بالليل من المسجد الحرام بمكة إذ أخرج من بيت أم هانئ وغسل قلبه بماء زمزم وحشي إيمانا وحكمة، ثم أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بيت المقدس، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه جمع الله تعالى له الأنبياء في المسجد الأقصى وصلى بهم إماما فكان بذلك إمام الأنبياء وخاتمهم ثم عرج به إلى السماء سماء بعد سماء يجد في كل سماء مقربيها إلى أن انتهى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ثم عرج به إلى أن انتهى إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وقوله تعالى: { الذي باركنا حوله } أي حول المسجد الأقصى معنى حوله خارجة وذلك بالأشجار والأنهار والثمار أما داخله فالبركة الدينية بمضاعفة الصلاة فيه أي أجرها إذ الصلاة فيه بخمسمائة صلاة أجرا ومثوبة وقوله تعالى { لنريه من آياتنآ } تعليل للاسراء والمعراج وهو أنه تعالى أسرى بعبده وعرج به ليريه من عجائب صنعه في مخلوقاته في الملكوت الأعلى، وليكون ما علمه من طريق الوحي قد علمه بالرؤية والمشاهدة. وقوله تعالى { إنه هو السميع البصير } يعني تعالى نفسه بأنه هو السميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم فاقتضت حكمته هذا الاسراء العجيب ليزداد الذين آمنوا إيمانا وليرتاب المرتابون ويزدادون كفرا وعنادا.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- تقرير عقيدة الإسراء والمعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم بالروح والجسد معا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم إلى السماوات العلى، إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وأوحى إليه تعالى ما أوحى وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس.
2- شرف المساجد الثلاثة: الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى أما المسجدان الحرام والأقصى فقد ذكرا بالنص وأما مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكر بالإشارة والإيماء إذ قول الأقصى يقتضي قصيا، فالقصي هو المسجد النبوي والأقصى هو مسجد بيت المقدس.
3- بيان الحكمة في الإسراء والمعراج وهي أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه ما كان آمن به وعلمه من طريق الوحي فأصبح الغيب لدى رسول الله شهادة.
[17.2-6]
شرح الكلمات:
وآتينا موسى الكتاب: أي التوراة.
وجعلناه هدى: أي جعلنا الكتاب أو موسى هدى أي هاديا لبني إسرائيل.
وكيلا: أي حفيظا أو شريكا.
من حملنا: أي في السفينة.
وقضينا: أي أعلمناهم قضاء نافيهم.
في الكتاب: أي التوراة.
علوا كبيرا: أي بغيا عظيما.
أولاهما: أي أولى المرتين.
فجاسوا خلال: أي ترددوا جائين ذاهبين وسط الديار يقتلون ويفسدون.
وعدا مفعولا: أي منجزا لم يتخلف.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه هو الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وأنه هو الذي آتى موسى الكتاب أي التوراة فهو تعالى المتفضل على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بالإسراء به والمعراج وعلى موسى بإعطائه الكتاب ليكون هدى وبيانا لبني إسرائيل فهو متفضل أيضا على بني إسرائيل فله الحمد وله المنة.
وقوله: { وجعلناه } أي الكتاب { هدى } أي بيانا لبني إسرائيل يهتدون إلى سبل الكمال والإسعاد وقوله: { ألا تتخذوا من دوني وكيلا } أي آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل من أجل ألا يتخذوا من غيري حفيظا لهم يشركونه بي بالتوكل عليه وتفويض أمرهم إليه ناسين لي وأنا ربهم وولي نعمتهم. وقوله تعالى: { ذرية من حملنا مع نوح } أي يا ذرية من حملنا مع نوح اشكروني كما شكرني نوح على انجائي إياه في السفينة مع أصحابه فيها، إنه أي نوحا { كان عبدا شكورا } فكونوا أنتم مثله فاشكروني بعبادتي ووحدوني ولا تتركوا طاعتي ولا تشركوا بي سواي.
وقوله تعالى { وقضينآ إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا } يخبر تعالى بأنه أعلم بني إسرائيل بقضائه فيهم وذلك في كتابهم التوراة أنهم يفسدون في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب، ويعلون في الأرض بالجراءة على الله وظلم الناس { علوا كبيرا } أي عظيما. ولا بد أن ما قضاه واقع وقوله تعالى: { فإذا جآء وعد أولاهما } أي وقت المرة الأولى { بعثنا عليكم عبادا لنآ أولي بأس شديد } أي قوة وبطش في الحرب شديد، وتم هذا لما أفسدوا وظلموا بانتهاك حدود الشرع والإعراض عن طاعة الله تعالى حتى قتلوا نبيهم " أرميا " عليه السلام وكان هذا على يد الطاغية جالوت فغزاهم من أرض الجزيرة ففعل بهم مع جيوشه ما أخبر تعالى به في قوله: { فجاسوا خلال الديار } ذاهبين جائين قتلا وفتكا وإفسادا نقمة الله على بني إسرائيل لإفسادهم وبغيهم البغي العظيم.
ووقوله تعالى: { وكان وعدا مفعولا } أي ما حصل لهم في المرة الأولى من الخراب والدمار ومن أسبابه كان بوعد من الله تعالى منجزا فوفاة لهم، لأنه قضاه وأعلمهم به في كتابهم. وقوله: { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } أي بعد سنين طويلة وبنو إسرائيل مضطهدون مشردون نبتت منهم نابتة وطالبت بأن يعين لهم ملكا يقودهم إلى الجهاد وكان ذلك كما تقدم في سورة البقرة جاهدوا وقتل داود جالوت وهذا معنى { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } وقوله: { وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا } أي رجالا في الحروب وكثرت أموالهم وأولادهم وتكونت لهم دولة سادت العالم على عهد داود وسليمان عليهما السلام.
هداية الآيات:
1- بيان إفضال الله تعالى على الأمتين الإسلامية والإسرائيلية.
2- بيان سر إنزال الكتب وهو هداية الناس إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها.
3- وجوب شكر الله تعالى على نعمه إذ كان نوح عليه السلام إذا أكل الأكلة قال الحمد لله، وإذا شرب الشربة قال الحمد لله، وإذا لبس حذاءه قال الحمد لله وإذا قضى حاجة قال الحمد لله فسمى عبدا شكورا وكذا كان رسول الله والصالحون من أمته إلى اليوم.
4- ما قضاه الله تعالى كائن، وما وعد به ناجز، والإيمان بذلك واجب.
5- التنديد بالإفساد والظلم والعلو في الأرض، وبيان سوء عاقبتها.
[17.7-8]
شرح الكلمات:
إن أحسنتم: أي طاعة الله وطاعة رسوله بالإخلاص فيها وبأدائها على الوجه المشروع لها.
أحسنتم لأنفسكم: أي أن الأجر والمثوبة والجزاء الحسن يعود عليكم لا على غيركم.
وإن أسأتم: أي في الطاعة فإلى أنفسكم سوء عاقبة الإساءة.
وعد الآخرة: أي المرة الآخرة المقابلة للأولى وقد تقدمت.
ليسوءوا وجوهكم: اي يقبحوها بالكرب واسوداد الحزن وهم الذل.
وليدخلوا المسجد: أي بيت المقدس.
وليتبروا ما علوا تتبيرا: أي وليدمروا ما غلبوا عليه من ديار بني إسرائيل تدميرا.
وإن عدتم عدنا: أي وإن رجعتم إلى الفساد والمعاصي عدنا بالتسليط عليكم.
حصيرا: أي محبسا وسجنا وفراشا يجلسون عليها فهي من فوقهم ومن تحتهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل فبعد أن أخبرهم تعالى بما حكم به عليهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا. وأنه إذا جاء مقيات أولى المرتين بعث عليهم عبادا أشداء أقوياء وهم جالوت وجنوده فقتلوهم وسبوهم، أنه تعالى رد لهم الكرة عليهم فانتصروا عليهم وقتل داود جالوت وتكونت لهم دولة عظيمة كانت أكثر الدول رجالا وأوسعها سلطانا وذلك لرجوعهم إلى الله تعالى بتطبيق كتابه والتزام شرائعه وهناك قال تعالى لهم: { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } أي إن أحسنتم باتباع الحق والتزام الطاعة لله ورسوله بفعل المأمورات واجتناب المنهيات والأخذ بسنن الله تعالى في الاصلاح البشري وإن أسأتم بتعطيل الشريعة والانغماس في الملاذ والشهوات فإن نتائج ذلك عائدة على أنفسكم حسب سنة الله تعالى:
من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا
[النساء: 123]. وقوله تعالى: { فإذا جآء وعد الآخرة } أي وقتها المعين لها، وهي المرة الآخرة بعد الأولى بعث أيضا عليهم عبادا له وهم بختنصر وجنوده بعثهم عليهم ليسودوا وجوههم بما يصيبونهم به من الهم والحزن والمهانة والذل { وليدخلوا المسجد } أي بيت المقدس كما دخلوه أول مرة { وليتبروا } أي يدمروا ما علو أي ما غلبوا عليه من ديارهم { تتبيرا } أي تدميرا كاملا وتحطيما تاما وحصل لهم هذا لما قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام وكثيرا من العلماء وبعد أن ظهر فيهم الفسق وفي نسائهم التبرج والفجور واتخاذ الكعب العالي. كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { عسى ربكم أن يرحمكم } فهذا خير عظيم لهم لو طلبوه بصدق لفازوا به ولكنهم أعرضوا عنه وعاشوا على التمرد على الشرع والعصيان لله ورسله. وقوله وإن عدتم عدنا أي وإن عدتم إلى الفسق والفجور عدنا بتسليط من نشاء من عبادنا فانجزهم الله تعالى ما وعدهم فسلط عليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فاجلى بني قينقاع وبني النضير من المدينة وقتل بني قريضة كما سلط عليهم ملوك أروبا فطاردوهم وساموهم الخسف وأذاقوهم سوء العذاب في قرون طويلة وقوله تعالى: { وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا } أي إن كان عذاب الدنيا بالتسلط على الظالمين وسلبهم حريتهم وإذاقتهم عذاب القتل والأسر والتشريد فإن عذاب الآخرة هو الحبس والسجن في جهنم تكون حصيرا للكافرين لا يخرجون منها للكافرين أي الذين يكفرون شرائع الله ونعمه عليهم بتعطيل الأحكام وتضييع الفرائض وإهمال السنن والانغماس في الملاذ والشهوات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صدق وعد الله تعالى.
2- تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذه الأنباء لا يقصها إلا نبي يوحى إليه.
3- تقرير قاعدة
من عمل صلحا فلنفسه ومن أسآء فعليها
[فصلت: 46، الجاثية: 15].
4- وجوب الرجاء في الله وهو انتظار الفرج والخير منه وإن طال الزمن.
5- قد يجمع الله تعالى للكافرين بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وكذا الفاسقون من المؤمنين.
[17.9-12]
شرح الكلمات:
للتي هي أقوم: أي للطريقة التي هي أعدل وأصوب.
أن لهم أجرا كبيرا: إنه الجنة دار السلام.
أعتدنا لهم عذابا أليما: إنه عذاب النار يوم القيامة.
ويدع الإنسان بالشر: أي على نفسه وأهله إذا هو ضجر وغضب.
وكان الإنسان عجولا: أي سريع التأثر بما يخطر على باله فلا يتروى ولا يتأمل.
آيتين: أي علامتين دالتين على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته.
فمحونا آية الليل: أي طمسنا نورها بالظلام الذي يعقب غياب الشمس.
مبصرة: أي يبصر الإنسان بها أي بسبب ضوء النهار فيها.
عدد السنين والحساب: أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها كالأيام والأسابيع والشهور.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن هذا القرآن الكريم الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يهدي بما فيه من الدلائل والحجج والشرائع والمواعظ للطريقة والسبيل التي هي أقوم أي أعدل واقصد من سائر الطرق والسبيل إنها الدين القيم الإسلام سبيل السعادة والكمال في الدارين، { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات } أي ويبشر القرآن الذين آمنوا بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض والنوافل بعد تركهم الكبائر والمعاصي بأن لهم أجرا كبيرا ألا وهو الجنة، كما يخبر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن الله تعالى أعد أي هيأ لهم عذابا أليما في جهنم.
وقوله تعالى { ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير } يخبر تعالى عن الإنسان في ضعفه وقلة إدراكه لعواقب الأمور من أنه إذا ضجر أو غضب يدعو على نفسه وأهله بالشر غير مفكر في عاقبة دعائه لو استجاب الله تعالى له. يدعو بالشر دعاءه بالخير أي كدعائه بالخير، وقوله: { وكان الإنسان عجولا } أي كثير العجلة يستعجل في الأمور كلها هذا طبعه ما لم يتأدب بآداب القرآن ويتخلق بأخلاقه فإن هو استقام على منهج القرآن تبدل طبعه وأصبح ذا توأدة وحلم وصبر وأناة. وقوله تعالى: { وجعلنا اليل والنهار آيتين } أي علامتين على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا، وقوله { فمحونآ آية اليل } أي بطمس نورها، وجعلنا آية النهار مبصرة أي مضيئة وبين علة ذلك بقوله: { لتبتغوا فضلا من ربكم } أي لتطلبوا رزقكم بالسعي والكسب في النهار، هذا من جهة ومن جهة أخرى { ولتعلموا عدد السنين والحساب } أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها كالأيام والأسابيع والشهور. لتوقف مصالحكم الدينية والدنيوية على ذلك. وقوله تعالى: { وكل شيء فصلناه تفصيلا } أي وكل شيء يحتاج إليه في كمال الإنسان وسعادته بيناه تبيينا أي في هذا الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل القرآن الكريم، بهدايته إلى الإسلام الذي هو سبيل السعادة للإنسان.
2- الوعد والوعيد بشارة المؤمنين العاملين للصالحات، ونذارة الكافرين باليوم الآخر.
3- بيان طبع الإنسان قبل تهذيبه بالآداب القرآنية والأخلاق النبوية.
4- كون الليل والنهار آيتين تدلان على الله تعالى وتقرران علمه وقدرته وتدبيره.
5- مشروعية علم الحساب وتعلمه.
[17.13-17]
شرح الكلمات:
طائره: أي عمله وما قدر له من سعادة وشقاء.
في عنقه: أي ملازم له لا يفارقه حتى يفرغ منه.
عليك حسيبا: أي كفى نفسك حاسبا عليك.
ولا تزر وازرة وزر أخرى: أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى.
مترفيها: منعميها من أغنياء ورؤساء.
فحق عليها القول: أي بالعذاب.
وكم أهلكنا: أي أهلكنا كثيرا.
من القرون: أي من أهل القرون السابقة.
خبيرا بصيرا: أي عليما بصيرا بذنوب العباد.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه عز وجل لعظيم قدرته، وسعة علمه، وحكمته في تدبيره ألزم كل إنسان ما قضى به له من عمل وما يترتب على العمل من سعادة أو شقاء في الدارين، الزمه ذلك بحيث لا يخالفه ولا يتأخر عنه بحال حتى كأنه مربوط بعنقه. هذا معنى قوله تعالى: { وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه }. وقوله تعالى: { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } أي وفي يوم القيامة يخرج الله تعالى لكل إنسان كتاب عمله فيلقاه منشورا أي مفتوحا أمامه. ويقال له: إقرأ كتابك الذي أحصى لك عملك كله فلم يغادر منه صغيرة ولا كبيرة. وقوله: { كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } أي يكفيك نفسك حاسبا لأعمالك محصيا لها عليك أيها الإنسان. وقوله تعالى: { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } ، أي بعد هذا الإعلام والبيان ينبغي أن يعلم أن من اهتدى اليوم فآمن بالله ورسوله، ولقاء الله، ووعده ووعيده وعمل صالحا وتخلى عن الشرك والمعاصي فإنما عائد ذلك له، هو الذي ينجو من العذاب، ويسعد في دار السعادة، وإن من ضل طريق الهدى فكذب ولم يؤمن، وأشرك ولم يوحد، وعصى ولم يطع فإن ذلك الضلال عائد عليه، هو الذي يشقى به ويعذب في جهنم دار العذاب والشقاء. وقوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } الوزر الإثم والذنب والوازرة الحاملة له لتؤخذ به ومعنى الكلام ولا تحمل يوم القيامة نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل كل نفس تتحمل مسئوليتها بنفسها، والكلام تقرير لقوله: { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها }. وقوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } أي لم يكن من شأن الله تعالى وهو العدل الرحيم أن يهلك أمة بعذاب إبادة واستئصال قبل أن يبعث فيها رسولا يعرفها بربها وبمحابه ومساخطه، ويأمرها بفعل المحارب وترك المساخط التي هي الشرك والمعاصي. وقوله تعالى: { وإذآ أردنآ أن نهلك قرية } أي أهل قرية { أمرنا مترفيها } أي أمرنا منعميها من أغنياء ورؤساء وأشراف من أهل الحل والعقد أمرناهم بطاعتنا بإقامة الشرع وأداء الفرائض والسنن واجتناب كبائر الإثم والفواحش فلم يستجيبوا للأمر ولا للنهي وهو معنى { ففسقوا فيها فحق عليها القول } أي وجب عليها العذاب { فدمرناها تدميرا } أي أهلكناها إهلاكا كاملا، وهذا الكلام بيان لقوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } إذ الرسول يأمر وينهى بإذن الله تعالى فإن لم يطع استوجب الناس العذاب فعذبوا.
وقوله تعالى: { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } هو تقرير لهذا الحكم أيضا إذ علمنا تعالى أن ما أخبر به كان واقعا بالفعل فكثيرا من الأمم أهلكها من بعد هلاك قوم نوح كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وآل فرعون.. وقوله: { وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا }: فإن القول وإن تضمن علم الله تعالى بذنوب عباده فإن معناه الوعيد الشديد والتهديد الأكيد، فإنه تعالى لا يرضى باستمرار الجرائم والآثام إنه يمهل لعل القوم يستفيقون، لعل الفساق يكفون، ثم إذا استمروا بعد الإعلام إليهم والتنديد بذنوبهم والتخويف بظلمهم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ألا فليحذر ذلك المصرون على الشرك والمعاصي!!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3- تقرير العدالة الإلهية يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا.
4- بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم غير أنها لا تهلك إلا بعد الإنذار والإعذار إليها.
5- التحذير من كثرة التنعم والترف فإنه يؤدي إلى الفسق بترك الطاعة ثم يؤدي الفسق إلى الهلاك والدمار.
[17.18-22]
شرح الكلمات:
العاجلة: أي الدنيا لسرعة انقضائها.
يصلاها مذموما مدحورا: أي يدخلها ملوما مبعدا من الجنة.
وسعى لها سعيها: أي عمل لها العمل المطلوب لدخولها وهو الإيمان والعمل الصالح.
كان سعيهم مشكورا: أي عملهم مقبولا مثابا عليه من قبل الله تعالى.
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء: أي كل فريق من الفريقين نعطي.
وما كان عطاء ربك محظورا: أي لم يكن عطاء الله في الدنيا محظورا أي ممنوعا عن أحد.
كيف فضلنا بعضهم على بعض: أي في الرزق والجاه.
لا تجعل مع الله إلها آخر: أي لا تعبد مع الله تعالى غيره من سائر المعبودات الباطلة.
فتقعد ملوما مخذولا: أي فتصير مذموما من الملائكة والمؤمنين مخذولا من الله تعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في أخبار الله تعالى الصادقة والمتضمنة لأنواع من الهدايات الإلهية التي لا يحرمها إلا هالك، فقال تعالى في الآية الكريمة [18] { من كان يريد العاجلة } أي الدنيا { عجلنا له فيها ما نشآء } ، لا ما يشاؤه العبد، وقوله { لمن نريد } لا من يريد غيرنا فالأمر كله لنا، { ثم } بعد ذلك { جعلنا له جهنم يصلاها مذموما } أي ملوما { مدحورا } أي مطرودا من رحمتنا التي هي الجنة دار الأبرار أي المطيعين الصادقين. وقوله تعالى في الآية الثانية [19] { ومن أراد الآخرة } يخبر تعالى أن من أراد الآخرة أي سعادة الآخرة { وسعى لها سعيها } أي عمل لها عملها اللائق بها وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح الموافق لما شرع الله في كتابه وعلى لسان رسوله، واجتنب الشرك والمعاصي وقوله { وهو مؤمن } قيد في صحة العمل الصالح أي لا يقبل من العبد صلاة ولا جهاد إلا بعد إيمانه بالله وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله وأخبر به من الغيب.
وقوله { فأولئك } أي المذكورون بالإيمان والعمل الصالح { كان سعيهم مشكورا } أي كان عملهم متقبلا يثابون عليه بالجنة ورضوان الله تعالى. وقوله تعالى: { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطآء ربك وما كان عطآء ربك محظورا } أي أن كلا من مريدي الدنيا ومريدي الآخرة يمد الله هؤلاء وهؤلاء من عطائه أي فضله الواسع فالكل يأكل ويشرب ويكتسي بحسب ما قدر له من الضيق والوسع ثم يموت وثم يقع التفاضل بحسب السعي الفاسد أو الصالح وقوله { وما كان عطآء ربك محظورا } يعني أن من أراد الله إعطاءه شيئا لا يمكن لأحد أن يصرفه منه ويحرمه منه بحال من الأحوال وقوله تعالى: { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } أي انظر يا رسولنا ومن يفهم خطابنا كيف فضلنا بعض الناس على بعض في الرزق الذي شمل الصحة والعافية والمال والذرية والجاه، فإذا عرفت هذا فاعرف أن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا وذلك عائد إلى فضل الله أولا ثم إلى الكسب صلاحا وفسادا وكثرة وقلة كما هي الحال أيضا في الدنيا فبقدر كسب الإنسان الصالح للدنيا يحصل عليها ولو كان كافرا لقوله تعالى من سورة هود
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون
[هود: 15] أي لا ينقصون ثمرات عملهم لكونهم كفارا مشركين.
وقوله تعالى: { لا تجعل مع الله إلها آخر } أي لا تجعل يا رسولنا مع الله إلها آخر تؤمن به وتعبده وتقرر إلهيته دوننا فإنك ان فعلت - وحاشاه أن يفعل لأن الله لا يريد له ذلك { فتقعد مذموما مخذولا } أي ملوما يلومك المؤمنون والملائكة مخذولا من قبل ربك لا ناصر لك والسياق وإن كان في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المراد به كل إنسان فالله تعالى ينهى عبده أن يعبد معه غيره فيترتب على ذلك شقاؤة والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كلا الدارين السعادة فيها أو الشقاء متوقف على الكسب والعمل هذه سنة الله تعالى في العباد.
2- سعي الدنيا التجارة والفلاحة والصناعة.
3- سعي الآخرة الإيمان وصالح الأعمال والتخلية عن الشرك والمعاصي.
4- يعطي الله تعالى الدنيا من يحب ومن لا يحب وعطاؤه قائم على سنن له في الحياة يجب معرفتها والعمل بمقتضاها لمن أراد الدنيا والآخرة.
5- ما أعطاه الله لا يمنعه أحد فوجب التوكل على الله والإعراض عما سواه.
6- تحريم الشرك والوعيد عليه بالخلود في نار جهنم.
[17.23-27]
شرح الكلمات:
وقضى ربك: أي أمر وأوصى.
وبالوالدين إحسانا: أي وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وذلك ببرورهما.
فلا تقل لهما أف: أي تبا أو قبحا أو خسرانا.
ولا تنهرهما: أي ولا تزجرهما بالكلمة القاسية.
قولا كريما: جميلا لينا.
جناح الذل: أي ألن لهما جانبك وتواضع لهما.
كان للأوابين: أي الرجاعين إلى الطاعة بعد المعصية.
وآت ذا القربى: أي أعط أصحاب القرابات حقوقهم من البر والصلة.
ولا تبذر تبذيرا: أي ولا تنفق المال في غير طاعة الله ورسوله.
لربه كفورا: أي كثير الكفر كبيره لنعم ربه تعالى، فكذلك المبذر أخوه.
معنى الآيات:
لما حرم الله تعالى الشرك ونهى عنه رسوله بقوله
لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا
[الإسراء: 17] أمر بالتوحيد فقال: { وقضى ربك } أي حكم وأمر ووصى { ألا تعبدوا إلا إياه } أي بأن لا تعبدوا إلا الله عز وجل، وقوله تعالى: { وبالوالدين إحسانا } أي وأوصى بالوالدين وهما الأم والأب إحسانا وهو برهما وذلك بإيصال الخير إليهما وكف الأذى عنهما، وطاعتهما في غير معصية الله تعالى. وقوله تعالى: { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما } أي إن يبلغ سن الكبر عندك واحد منهما الأب أو الأم أو يكبران معا وأنت حي موجود بينهما في هذه الحال يجب أن تخدمهما خدمتهما لك وأنت طفل فتغسل بولهما وتطهر نجاستهما وتقدم لهما ما يحتاجان إليه ولا تتضجر أو تتأفف من خدمتهما كما كانا هما يفعلان ذلك معك وأنت طفل تبول وتخرأ وهما يغسلان وينظفان ولا يتضجران أو يتأففان، وقوله: { ولا تنهرهما } أي لا تزجرهما بالكلمة العالية النابية { وقل لهما قولا كريما } أي جميلا سهلا لينا يشعران معه بالكرامة والإكرام لهما وقوله تعالى: { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } أي ألن لهما وتطامن وتعطف عليهما وترحم. وادع لهما طوال حياتك بالمغفرة والرحمة إن كانا موحدين وماتا على ذلك لقوله تعالى:
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى
[التوبة: 113] وهو معنى قوله تعالى: { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } ، وقوله تعالى: { ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا }.
يخبر تعالى بأنه أعلم بنا من أنفسنا فمن كان يضمر عدم الرضا عن والديه والسخط عليهما فالله يعلمه منه، ومن كان يضمر حبهما واحترامهما والرضا بهما وعنهما فالله تعالى يعلمه ويجزيه به فالمحسن يجزيه بالإحسان والمسيء يجزيه بالإساءة، وقوله { إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا } بحكم ضعف الإنسان فإنه قد يضمر مرة السوء لوالديه أو تبدر منه البادرة السيئة من قول أو عمل وهو صالح مؤد لحقوق الله تعالى وحقوق والديه وحقوق الناس فهذا العبد الصالح يخبر تعالى أنه غفور له متى آب إلى الله تعالى مستغفرا مما صدر منه نادما عليه.
وقوله تعالى: { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } هذا أمر الله للعبد المؤمن بايتاء قرابته حقوقهم من البر والصلة وكذا المساكين وهم الفقراء الذين مسكنتهم الفاقة وأذلهم الفقر فهؤلاء أمر تعالى المؤمن باعطائهم حقهم من الإحسان إليهم بالكساء أو الغذاء والكلمة الطيبة، وكذا ابن السبيل وهو المسافر يعطي حقه من الضيافة والمساعدة على سفره إن احتاج إلى ذلك مع تأمينه وإرشاده إلى طريقه. وقوله تعالى { ولا تبذر تبذيرا } أي ولا تنفق مالك ولا تفرقه في غير طاعة الله تعالى. وقوله { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } لأنهم بتبذيرهم المال في المعاصي كانوا عصاة لله فاسقين عن أمره وهذه حال الشياطين فتشابهوا فكانوا إخوانا، وقوله إن الشيطان كان لربه كفورا لأنه عصى الله تعالى وكفر نعمه عليه ولم يشكره بطاعته فالمبذر للمال في المعاصي فسق عن أمر ربه ولم يشكر نعمه عليه فهو إذا شيطان فهل يرضى عبد الله المسلم أن يكون شيطانا؟
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب عبادة الله تعالى وحده ووجوب بر الوالدين، وهو الإحسان بهما، وكف الأذى عنهما، وطاعتهما في المعروف.
2- وجوب الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة.
3- وجوب مراقبة الله تعالى وعدم إضمار أي سوء في النفس.
4- من كان صالحا وبدرت منه البادرة وتاب منها فإن الله يغفر له ذلك.
5- وجوب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة، وكذا المساكين وابن السبيل.
6- حرمة التبذير وحقيقته إنفاق المال في المعاصي والمحرمات.
[17.28-33]
شرح الكلمات:
وإما تعرضن عنهم: أي عن المذكورين من ذي القربى والمساكين وابن السبيل فلم تعطهم شيئا.
ابتغاء رحمة من ربك ترجوها: أي طلبا لرزق ترجوه من الله تعالى.
قولا ميسورا: أي لينا سهلا بأن تعدهم بالعطاء عند وجود الرزق.
مغلولة إلى عنقك: أي لا تمسك عن النفقة كأن يدك مربوطة إلى عنقك فلا تستطيع أن تعطي شيئا.
ولا تبسطها كل البسط: أي ولا تنفق كل ما بيدك ولم تبق شيئا.
فتقعد ملوما: أي يلومك من حرمتهم من الإنفاق.
محسورا: أي منقطعا عن سيرك في الحياة إذ لم تبق لك شيئا.
يبسط الرزق ويقدر: أي يوسعه، ويقدر أي يضيقه امتحانا وابتلاء .
خشية إملاق: أي خوف الفقر وشدته.
خطئا كبيرا: أي إثما عظيما.
فاحشة وساء سبيلا: أي خصلة قبيحة شديدة القبح، وسبيلا بئس السبيل.
لوليه سلطان: أي لوارثه تسلطا على القاتل.
فلا يسرف في القتل: أي لا يقتل غير القاتل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في وصايا الرب تبارك وتعالى والتي هي حكم أوحاها الله تعالى إلى رسوله للاهتداء بها، والكمال والإسعاد عليها. فقوله تعالى: { وإما تعرضن عنهم ابتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا } أي إن أعرضت عن قرابتك أو عن مسكين سألك أو ابن سبيل احتاج اليك ولم تجد ما تعطيهم فأعرضت عنهم بوجهك أيها الرسول { فقل لهم قولا ميسورا } أي سهلا لينا وهو العدة الحسنة كقولك إن رزقي الله سأعطيك أو عما قريب سيحصل لي كذا وأعطيك وما أشبه ذلك من الوعد الحسن، فيكون ذلك عطاء منك عاجلا لهم يسرون به، ولا يحزنون. وقوله تعالى: { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } أي لا تبخل بما آتاك الله فتمنع ذوي الحقوق حقوقهم كأن يدك مشدودة إلى عنقك فلا تستطيع أن تنفق، وقوله: { ولا تبسطها كل البسط } أي تفتح يديك بالعطاء فتخرج كل ما بجيبك أو خزانتك فلا تبق شيئا لك ولأهلك. وقوله: { فتقعد ملوما محسورا } أي إن أنت أمسكت ولم تنفق لامك سائلوك إذ لم تعطهم، وإن أنت أنفقت كل شيء عندك انقطعت بك الحياة ولم تجد ما تواصل به سيرك في بقية عمرك فتكون كالبعير الذي أعياه السير فانقطع عنه وترك محسورا في الطريق لا يستطيع صاحبه رده إلى أهله، ولا مواصلة السير عليه إلى وجهته. وقوله: { إن ربك يبسط الرزق لمن يشآء } أي يوسع على من يشاء امتحانا له أيشكر أم يكفر ويقدر لمن يشاء أي يضيق على من يشاء ابتلاء له أيصبر أم يضجر ويسخط، { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } فلذا هو يوسع ويضيق بحسب علمه وحكمته، إذ من عباده من لا يصلحه إلا السعة، ومنهم من لا يصلحه إلا الضيق، وقوله تعالى: { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } أي ومما حكم به وقضى ووصى { ولا تقتلوا أولادكم } أي أطفالكم { خشية إملاق } أي مخافة الفاقة والفقر، إذ كان العرب يئدون البنات خشية العار ويقتلون الأولاد الذكور كالإناث مخافة الفاقة فأوصى تعالى بمنع ذلك وقال متعهدا متكفلا برزق الأولاد وآبائهم فقال: { نحن نرزقهم وإياكم } وأخبر تعالى أن قتل الأولاد { كان خطئا كبيرا } أي إثما عظيما فكيف يقدم عليه المؤمن؟.
وقوله: { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا } أي ومن جملة ما حكم به ووصى أن لا تقربوا أيها المؤمنون الزنا مجرد قرب منه قبل فعله، لأن الزنا كان في حكم الله فاحشة أي خصلة قبيحة شديدة القبح ممجوجة طبعا وعقلا وشرعا، وساء طريق هذه الفاحشة سبيلا أي بئس الطريق الموصل إلى الزنا طريقا للآثار السيئة والنتائج المدمرة التي تترتب عليه أولها أذية المؤمنين في أعراضهم وآخرها جهنم والاصطلاء بحرها والبقاء فيها أحقابا طويلة. وقوله: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } أي ومما حكم تعالى به وأوصى أن لا تقتلوا أيها الؤمنون النفس التي حرم الله أي قتلها إلا بالحق، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحق الذي تقتل به نفس المؤمن وهو واحدة من ثلاث: القتل العمد العدوان، الزنا بعد الإحصان، الكفر بعد الإيمان. وقوله { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } أي من قتل له قتيل ظلما وعدوانا أي غير خطأ فقد أعطاه تعالى سلطة كاملة على قاتل وليه إن شاء قتله وإن شاء أخذ دية منه، وإن شاء عفا عنه لوجه الله تعالى: وقوله: { فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } أي لا يحل لولي الدم أي لمن قتل له قتيل أن يسرف في القتل فيقتل بدل الواحد أكثر من واحد أو بدل المرأة رجلا. أو يقتل غير القاتل، وذلك أن الله تعالى أعطاه سلطة تمكنه من قتل قاتله فلا يجوز أن يقتل غير قاتله كما كانوا في الجاهلية يفعلون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- العدة الحسنة تقوم مقام الصدقة لمن لم يجد ما يتصدق به على من سأله.
2- حرمة البخل، والإسراف معا وفضيلة الاعتدال والقصد.
3- تجلي حكمة الله تعالى في التوسعة على أناس، والتضيق على آخرين.
4- حرمة قتل الأولاد بعد الولادة أو إجهاضا قبلها خوفا من الفقر أو العار.
5- حرمة مقدمات الزنا كالنظر بشهوة والكلام مع الأجنبية ومسها وحرمة الزنا وهو أشد.
6- حرمة قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق والحق قتل عمد عدوانا، وزنا بعد إحصان، وكفر بعد إيمان.
[17.34-39]
شرح الكلمات:
إلا بالتي هي أحسن: أي ألا بالخصلة التي هي أحسن من غيرها وهي تنميته والإنفاق عليه منه بالمعروف.
حتى يبلغ أشده: أي بلوغه سن التكليف وهو عاقل رشيد.
وأوفوا بالعهد: أي إذا عاهدتم الله أو العباد فأوفوا بما عاهدتم عليه.
إن العهد كان مسئولا: أي عنه وذلك بأن يسأل العبد يوم القيامة لم نكثت عهدك؟
أوفوا الكيل: أي اتموه ولا تنقصوه.
بالقسطاس المستقيم: أي الميزان السوي المعتدل.
وأحسن تاويلا: أي مآلا وعاقبة.
ولا تقف: أي ولا تتبع.
والفؤاد: أي القلب.
كان عنه مسئولا: أي عن كل واحد من هذه الحواس الثلاث يوم القيامة.
مرحا: أي ذا مرح بالكبر والخيلاء.
لن تخرق الأرض: أي لن تثقبها أو تشقها بقدميك.
من الحكمة: أي التي هي معرفة المحاب لله تعالى للتقرب بها إليها ومعرفة المساخط لتتجنبها تقربا إليه تعالى بذلك.
ملوما مدحورا: أي تلوم نفسك على شركك بربك مبعدا من رحمة الله تعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان ما قضى به الله تعالى على عباده المؤمنين ووصاهم به فقال تعالى: { ولا تقربوا } أي أيها المؤمنون { مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } اي بالفعلة التي هي أجمل وذلك بأن تتصرفوا فيه بالتثمير له والإصلاح فيه، والإنفاق منه على اليتيم بالمعروف أما أن تقربوه لتأكلوه إسرافا وبدارا فلالا. وقوله: حتى يبلغ أشده أي حتى يبلغ سن الرشد فتحاسبوه وتعطوه ماله يتصرف فيه حسب المشروع من التصرفات المالية. وقوله تعالى: { وأوفوا بالعهد } أي ومما أوصاكم به أن توفوا بعهودكم التي بينكم وبين ربكم وبينكم وبين سائر الناس مؤمنهم وكافرهم فلا يحل لكم أن لا توفوا بالعهد وأنتم قادرون على الوفاء بحال من الأحوال. وقوله { إن العهد كان مسؤولا } تأكيد للنهي عن نكث العهد إذ أخبر تعالى أن العبد سيسأل عن عهده الذي لم يف به يوم القيامة، ومثل العهد سائر العقود من نكاح وبيع وإيجار وما إلى ذلك لقوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود
[المائدة: 1] أي العهود، وقوله: { وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم } هذا مما أمر الله تعالى وهو إيفاء الكيل والوزن أي توفيتهما وعدم بخسهما ونقصهما شيئا ولو يسيرا ما دام في الإمكان عدم نقصه، أما ما يعسر التحرز منه فهو من العفو لقوله تعالى:
لا نكلف نفسا إلا وسعها
[الأنعام: 152، الأعراف: 42]. وقوله { ذلك خير وأحسن تأويلا } أي ذلك الوفاء والتوفية في الكيل والوزن خير لبراءة الذمة وطيب النفس به وأحسن تاويلا أي عاقبة إذ يبارك الله تعالى في ذلك المال بأنواع من البركات لا يعلمها الا هو عز وجل. ومن ذلك أجر الآخرة وهو خير فإن من ترك المعصية وهو قادر عليها أثابه الله تعالى على ذلك بأحسن ثواب، وقوله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم } أي لا تتبع بقول ولا عمل ما لا تعلم، ولا تقل رأيت كذا وأنت لم تر، ولا سمعت كذا وأنت لم تسمع.
وقوله تعالى: { إن السمع والبصر والفؤاد } أي القلب { كل أولئك كان عنه مسؤولا } أي لا تقف ما ليس لك به علم، لأن الله تعالى سائل هذه الأعضاء يوم القيامة عما قال صاحبها أو عمل فتشهد عليه بما قال أو عمل مما لا يحل له القول فيه أو العمل. ومعنى أولئك أي تلك المذكورات من السمع والبصر والفؤاد، وقوله تعالى: { ولا تمش في الأرض مرحا } أي خيلاء وتكبرا أي مما حرم تعالى وأوصى بعدم فعله المشي في الأرض مرحا أي تكبرا واختيالا، لأن الكبر حرام وصاحبه لا يدخل الجنة، وقوله { إنك لن تخرق الأرض } أي برجليك أيها المتكبر لأن المتكبر يضرب الأرض برجليه اعتزازا واهتزازا، ولن تبلغ الجبال طولا مهما تعاليت وتطاولت فإنك كغيرك من الناس لا تخرق الأرض أي تثقبها أو تقطعها برجليك ولا تبلغ علو الجبال فلذا أترك مشية الخيلاء والتكبر، لأن ذلك معيب ومنقصة ولا يأتيه إلا ذو حماقة وسفه. وقوله تعالى: { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } أي كل ذلك المأمور به والمنهي عنه من قوله تعالى:
وقضى ربك
[الإسراء: 23] إلى قوله { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } سيئة كالتبذير والبخل وقتل الأولاد والزنا وقتل النفس وأكل مال اليتيم، وبخس الكيل والوزن، والقول بلا علم كالقذف وشهادة الزور، والتكبر كل هذا الشيء مكروه عند الله تعالى إذا فلا تفعله يا عبدالله وما كان من حسن فيه كعبادة الله تعالى وحده وبر الوالدين والإحسان إلى ذوي القربى والمساكين وابن سبيل والعدة الحسنة فكل هذا الحسن هو عند الله حسن فأته يا عبدالله ولا تتركه ومن قرأ كنافع كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها فإنه يريد ما اشتملت عليه الآيات من التبذير والبخل وقتل النفس إلى آخر المنهيات.
وقوله تعالى: { ذلك ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة } أي ذلك الذي بينا لك يا رسولنا من الأخلاق الفاضلة والخلال الحميدة التي أمرناك بالأخذ بها والدعوة إلى التمسك بها، ومن الخلال القبيحة والخصال الذميمة التي نهيناك عن فعلها وحرمنا عليك إتيانها مما أوحينا إليك في كتابنا هذا من أنواع الحكم وضروب العلم والمعرفة، فلله الحمد وله المنة.
وقوله: { ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا } هذه أم الحكم بدأ بها السياق وختمه بها تقريرا وتأكيدا إذ تقدم قوله تعالى:
لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا
[الإسراء: 22]. والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كل أحد معني به فأي إنسان يشرك بربه أحدا من خلقه في عبادته فقد جعله إلها مع الله، ولا بد أن يلقى في جهنم ملوما من نفسه مدحورا مبعدا من رحمة به التي هي الجنة. وهذا إذا مات قبل أن يتوب فيوحد ربه في عباداته. إذ التوبة إذا صحت جبت ما قبلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة مال اليتيم أكلا أو إفسادا أو تضييعا وإهمالا.
2- وجوب الوفاء بالعهود وسائر العقود.
3- وجوب توفية الكيل والوزن وحرمة بخس الكيل والوزن.
4- حصول البركة لمن يمتثل أمر الله في كيله ووزنه.
5- حرمة القول أو العمل بدون علم لما يفضي إليه ذلك من المفاسد ولأن الله تعالى سائل كل الجوارح ومستشهدها على صاحبها يوم القيامة.
6- حرمة الكبر ومقت المتكبرين.
7- إنتظام هذا السياق لخمس وعشرين حكمة الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها، والتفريط فيها هو سبب خسران الدنيا والآخرة.
[17.40-44]
شرح الكلمات:
أفأصفاكم: الاستفهام للتوبيخ والتقريع ومعنى أصفاكم خصكم بالبنين واختارهم لكم.
ولقد صرفنا في هذا القرآن: أي بينا فيه من الوعد والوعيد والأمثال والعظات والأحكام والعبر.
ليذكروا: أي ليذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويطيعوا.
لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا: أي لطلبوا طريقا إلى الله تعالى للتقرب إليه وطلب المنزلة عنده.
ومن فيهن: أي في السماوات من الملائكة والأرض من إنسان وجان وحيوان.
وإن من شيء إلا يسبح: أي وما من شيء إلا يسبح بحمده من سائر المخلوقات.
حليما غفورا: حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على معصيتكم إياه وعدم طاعتكم له.
معنى الآيات:
يقول تعالى مقرعا موبخا للمشركين الذين يئدون البنات ويكرهونهن ثم هم يجعلون الملائكة إناثا { أفأصفاكم ربكم بالبنين } أي أخصكم بالبنين { واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما } أيها المشركون إذ تجعلون لله ما تكرهون افترء وكذبا على الله تعالى، وقوله تعالى: { ولقد صرفنا في هذا القرآن } أي من الحجج والبينات والأمثال والمواعظ الشيء الكثير من أجل أن يذكروا فيذكروا ويتعظوا فيبينوا إلى ربهم فيوحدونه وينزهونه عن الشريك والولد، ولكن ما يزيدهم القرآن وما فيه من البينات والهدى إلا نفورا وبعدا عن الحق. وذلك لغلبة التقليد عليهم، والعناد والمكابرة والمجاحدة. وقوله تعالى: { قل لو كان معه آلهة كما يقولون } أي قل يا نبينا لهؤلاء المشركين المتخذين لله أندادا يزعمون أنها آلهة مع الله قل لهم لو كان مع الله آلهة كما تقولون وإن كان الواقع يكذبكم إذ ليس هناك آلهة مع الله ولكن على فرض أنه لو كان مع الله آلهة { لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } أي لطلبوا طريقا إلى ذي العرش سبحانه وتعالى يلتمسون فيها رضاه ويطلبون القرب منه والزلفى إليه لجلاله وكماله، وغناه وحاجتهم وافتقارهم إليه. ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه أن يكون معه آلهة فقال { سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا }. وقوله: { تسبح له السموت السبع والأرض ومن فيهن } فأخبر تعالى منزها نفسه مقدسا ذاته عن الشبيه والشريك والولد والعجز، فأخبر أنه لعظمته وكماله تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن بكلمة.. سبحان الله وبحمده { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } كما أخبر أنه ما من شيء من المخلوقات إلا ويسبح بحمده بلسان قاله وحاله معا فيقول سبحان الله وبحمده وقوله: { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } لاختلاف الألسنة واللغات. وقوله إن كان أي الله { حليما }: أي لا يعاجل بالعقوبة من عصاه { غفورا } يغفر ذنوب وزلات من تاب إليه وأناب طالبا مغفرته ورضاه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة القول على الله تعالى بالباطل ونسبة النقص إليه تعالى كاتخاذه ولدا أو شريكا.
2- مشروعية الاستدلال بالعقليات، على إحقاق الحق وإبطال الباطل.
3- فضيلة التسبيح وهو قول: سبحان الله وبحمده حتى إن من قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت في الكثرة مثل زبد البحر.
4- كل المخلوقات في العوالم كلها تسبح الله تعالى أي تنزهه عن الشريك والولد والنقص والعجز ومشابهة الحوادث إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
5- حلم الله يتجلى في عدم تعجيل عقوبة من عصاه ولولا حلمه لعجل عقوبة مشركي مكة وأكابر مجرميها. ولكن الله أمهلهم حتى تاب أكثرهم.
[17.45-48]
شرح الكلمات:
حجابا مستورا: أي ساترا فلا يسمعون كلام الله تعالى.
وجعلنا على قلوبهم أكنة: أي أغطية على القلوب فلا تعي ولا تفهم.
وفي آذانهم وقرا: أي ثقلا فلا يسمعون القرآن ومواعظه.
ولو على أدبارهم نفورا: أي فرارا من السماع حتى لا يسمعوا.
بما يستمعون به: أي بسببه وهو الهزء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وإذ هم نجوى: أي يتناجون بينهم يتحدثون سرا.
رجلا مسحورا: أي مغلوبا على عقله مخدوعا.
ضربوا لك الأمثال: أي قالوا ساحر، وقالوا كاهن وقالوا شاعر.
فضلوا: أي عن الهدى فلا يستطيعون سبيلا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وإذا قرأت القرآن } يخبر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إنه إذ قرأ القرآن على المشركين ليدعوهم به إلى الله تعالى ليؤمنوا به ويعبدوه وحده جعل الله تعالى بينه وبين المشركين حجابا ساترا، أو مستورا لا يرى وهو حقا حائل بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يسمعوا القرآن الذي يقرأ عليهم فلا ينتفعون به. وهذا الحجاب ناتج عن شدة بغضهم للرسول صلى الله عليه وسلم وكراهيتهم لدعوته فهم لذلك لا يرونه ولا يسمعون قراءته. وقوله تعالى: { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } جمع كنان وهو الغطاء حتى لا يصل المعنى المقروء من الآيات إلى قلوبهم فيفقهوه، وقوله: { وفي ءاذانهم وقرا } أي وجعل تعالى في آذان أولئك المشركين الخصوم ثقلا في آذانهم فلا يسمعون القرآن الذي يتلى عليهم، وهذا كله من الحجاب الساتر والأكنة، والوقر في الآذان عقوبة من الله تعالى لهم حرمهم بها من الهداية بالقرآن لسابقة الشر لهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ببغضهم للرسول وما جاء به وحربهم له ولما به من التوحيد والدين الحق، وقوله تعالى: { وإذا ذكرت ربك في القرءان وحده } بأن قلت لا إله إلا الله، أو ما أفهم معنى لا إله إلا الله ولى المشركون على أدبارهم نفورا من سماع التوحيد لحبهم الوثنية وتعلق قلوبهم بالشرك.
وقوله تعالى { نحن أعلم بما يستمعون به } يقول تعالى لرسوله نحن أعلم بما يستمع به المشركون أي بسبب أنهم يستمعون من أجل الاستهزاء بك والسخرية منك ومما تتلوه لا أنهم يستمعون للعلم والمعرفة ولطلب الحق والاهتداء إليه. وقوله: { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } أي يناجي بعضهم بعضا { إذ يقول الظالمون } أي المشركون { إن تتبعون } أي لا تتبعون { إلا رجلا مسحورا } أي مخدوعا مغلوبا على أمره، فكيف تتبعونه إذا؟.
وقوله تعالى: { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } أي انظر يا رسولنا كيف ضرب لك وهؤلاء المشركون المعاندون الأمثال فقالوا عنك: ساحر، شاعر، وكاهن ومجنون فضلوا في طريقهم { فلا يستطيعون سبيلا } إنهم عاجزون عن الخروج من حيرتهم هذه التي أوقعهم فيها كفرهم وعنادهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة حبك الشيء يعمى ويصم: فإن الحجاب المذكور في الآية وكذا الأكنة والثقل في الآذان هذه كلها حالت دون سماع القرآن من أجل بغضهم للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن وما جاء به عن الدعوة إلى التوحيد.
2- بيان مدى كراهية المشركين للتوحيد وكلمة الإخلاص لا إله إلا الله.
3- بيان مدى ما كان عليه المشركون من السخرية والاستهزاء بالرسول والقرآن.
4- بيان اتهامات المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم بالسحر مرة والكهانة ثانية والجنون ثالثا بحثا عن الخلاص من دعوة التوحيد فلم يعثروا على شيء كما قال تعالى: { فضلوا فلا يستطيعون سبيلا }.
[17.49-52]
شرح الكلمات:
وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا: الاستفهام للإنكسار والاستبعاد والرفات الأجزاء المتفرقة.
مما يكبر في صدوركم: أي يعظم عن قبول الحياة في اعتقادكم.
فطركم: خلقكم.
فسينغضون: أي يحركون رؤوسهم تعجبا.
متى هو؟: الاستفهام للاستهزاء أي متى هذا البعث الذي تعدنا.
يوم يدعوكم: أي يناديكم من قبوركم على لسان إسرافيل.
فتستجيبون: أي تجيبون دعوته قائلين سبحانك اللهم وبحمدك.
وتظنون إن لبثتم إلا قليلا: وتظنون أنكم ما لبثتم في قبوركم إلا قليلا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير العقيدة ففي الآيات قبل هذه كان تقرير التوحيد والوحي وفي هذه الآيات تقرير البعث والجزاء الآخر ففي الآية [47] يخبر تعالى عن إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له بقوله: { وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا } أي أجزاء متفرقة كالحطام { أءنا لمبعوثون خلقا جديدا } وفي الآية الثانية [48] يأمر تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم كونوا ما شئتم فإن الله تعالى قادر على إحيائكم وبعثكم للحساب والجزاء وهو قوله تعالى؟ قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم أي مما يعظم في نفوسكم أن يقبل الحياة كالموت مثلا فإن الله تعالى سيحييكم ويبعثكم. وقوله تعالى: { فسيقولون من يعيدنا }؟ يخبر تعالى رسوله أن منكري البعث سيقولون له مستبعدين البعث: من يعيدنا وعلمه الجواب فقال له قل الذي فطركم أي خلقكم أول مرة وهو جواب مسكت فالذي خلقكم ثم أماتكم هو الذي يعيدكم كما بدأكم وهو أهون عليه. وقوله تعالى { فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو }؟ يخبر تعالى رسوله بما سيقوله منكروا البعث له فيقول تعالى { فسينغضون } أي يحركون إليك رؤوسهم خفضا ورفعا استهزاء ويقولون: { متى هو }؟ أي متى البعث أي في أي يوم هو كائن. وقوله تعالى: { قل عسى أن يكون قريبا } علمه تعالى كيف يجيب المكذبين. وقوله { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } أي يكون بعثكم الذي تنكرونه يوم يدعوكم بأمر الله تعالى إسرافيل من قبوركم فتستجيبون أي فتجيبونه بحمد الله { وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } أي ما لبثتم في قبوركم إلا قليلا من اللبث وذلك لما تعاينون من الأهوال وتشاهدون من الأحوال المفزعة المرعبة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء وبيان حتميتها.
2- بيان ما كان عليه المشركون من شدة إنكارهم للبعث الآخر.
3- تعليم الله تعالى لرسوله كيف يجيب المنكرين المستهزئين بالتي هي أحسن.
4- بيان الأسلوب الحواري الهادي الخالي من الغلظة والشدة.
5- استقصار مدة اللبث في القبور مع طولها لما يشاهد من أهوال البعث.
[17.53-55]
شرح الكلمات:
التي هي أحسن: أي الكلمة التي هي أحسن من غيرها للطفها وحسنها.
ينزغ: أي يفسد بينهم.
عدوا مبينا: أي بين العداوة ظاهرها.
ربكم أعلم بكم: هذه هي الكلمة التي هي أحسن.
وما أرسلناك عليهم وكيلا: أي فيلزمك إجبارهم على الإيمان.
فضلنا بعض النبيين: أي بتخصيص كل منهم بفضائل أو فضيلة خاصة به.
وآتينا داود زبورا: أي كتابا هو الزبور هذا نوع من التفضيل.
معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية أهل مكة، من طريق الحوار والمجادلة وحدث أن بعض المؤمنين واجه بعض الكافرين أثناء الجدال بغلظة لفظ كأن توعده بعذاب النار فأثار ذلك حفائظ المشركين فأمر تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين إذا خاطبوا المشركين أن لا يغلظوا لهم القول فقال تعالى: { وقل لعبادي } أي المؤمنين { يقولوا التي هي أحسن } من الكلمات لتجد طريقا إلى قلوب الكافرين، وعلل لذلك تعالى فقال { إن الشيطان ينزغ بينهم } الوسواس فيفسد العلائق التي كان في الامكان التوصل بها إلى هداية الضالين، وذلك أن الشيطان كان وما زال للإنسان عدوا مبينا أي بين العداوة ظاهرها فهو لا يريد للكافر أن يسلم، ولا يريد للمسلم أن يؤجر ويثاب في دعوته. وقوله تعالى: { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم } فيتوب عليكم فتسلموا. { أو إن يشأ يعذبكم } بأن يترككم تموتون على شرككم فتدخلوا النار. مثل هذا الكلام ينبغي أن يقول المؤمنون للكافرين لا أن يصدروا الحكم عليهم بأنهم أهل النار والمخلدون فيها فيزعج ذلك المشركين فيتمادوا في العناد والمكابرة. وقوله تعالى: { ومآ أرسلناك عليهم وكيلا }. يقول تعالى لرسوله إنا لم نرسلك رقيبا عليهم فتجبرهم على الإسلام وإنما أرسلناك مبلغا دعوتنا إليهم بالأسلوب الحسن وهدايتهم إلينا، وفي هذا تعليم للمؤمنين كيف يدعون الكافرين إلى الإسلام. وقوله تعالى: { وربك أعلم بمن في السموت والأرض } يخبر تعالى لرسوله والمؤمنين ضمنا أنه تعالى أعلم بمن في السماوات والأرض فضلا عن هؤلاء المشركين فهو أعلم بما يصلحهم وأعلم بما كتب لهم أو عليهم من سعادة أو شقاء، وأسباب ذلك من الإيمان أو الكفر، وعليه فلا تحزنوا على تكذيبهم ولا تيأسوا من إيمانهم، ولا تتكلفوا ما لا تطيقون في هدايتهم فقولوا التي هي أحسن واتركوا أمر هدايتهم لله تعالى هو ربهم وأعلم بهم وقوله تعالى: { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داوود زبورا } ، يخبر تعالى عن إنعامه بين عباده فالذي فاضل بين النبيين وهو أكمل الخلق وأصفاهم فهذا فضله بالخلة كإبراهيم وهذا بالتكليم كموسى، وهذا بالكتاب الحافل بالتسابيح والمحامد والعبر والمواعظ كداود، وأنت يا محمد بمغفرته لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وبإرسالك إلى الناس كافة إلى غير ذلك من الإفضالات وإذا تجلت هذه الحقيقة لكم وعرفتم أن الله أعلم بمن يستحق الهداية وبمن يستحق الضلالة، وكذا الرحمة والعذاب ففوضوا الأمر إليه، وادعوا عباده برفق ولين وبالتي هي أحسن من غيرها من الكلمات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- النهي عن الكلمة الخشنة المسيئة إلى المدعو إلى الإسلام.
2- بيان أن الشيطان يسعى للإفساد دائما فلا يمكن من ذلك بالكلمات المثيرة للغضب والحاملة على اللجج والخصومة الشديدة.
3- بيان نوع الكلمة التي هي أحسن مثل { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم }.
4- بيان أن الله تعالى أعلم بخلقه فهو يهب كل عبد ما أهله له حتى إنه فاضل بين أنبيائه ورسله عليهم السلام في الكمالات الروحية والدرجات العالية.
[17.56-60]
شرح الكلمات:
فلا يملكون: أي لا يستطيعون.
كشف الضر: أي إزالته بشفاء المريض.
ولا تحويلا: أي للمرض من شخص مريض إلى آخر صحيح ليمرض به.
يدعون: أي ينادونهم طالبين منهم أو متوسلين بهم.
يبتغون إلى ربهم الوسيلة: أي يطلبون القرب منه باالطاعات وأنواع القربات.
كان محذورا: أي يحذره المؤمنون ويحترسون منه بترك معاصي الله تعالى.
في الكتاب مسطورا: أي في كتاب المقادير الذي هو اللوح المحفوظ مكتوبا.
أن نرسل بالآيات: أي بالآيات التي طلبها أهل مكة كتحويل الصفا إلى جبل ذهب. أو إزالة جبال مكة لتكون أرضا زراعية وإجراء العيون فيها.
إلا أن كذب بها الأولون: إذ طالب قوم صالح بالآية ولما جاءتهم كفروا بها فأهلكهم الله تعالى.
الناقة مبصرة: أي وأعطينا ثمود قوم صالح الناقة آية مبصرة واضحة بينة.
فظلموا بها: أي كفروا بها وكذبوا فأهلكهم الله تعالى.
إلا تخويفا: إلا من أجل تخويف العباد بأنا إذا أعطيناهم الآيات ولم يؤمنوا أهلكناهم.
أحاط بالناس: أي قدرة وعلما فهم في قبضته وتحت سلطانه فلا تخفهم.
وما جعلنا الرؤيا: هي ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج عن عجائب خلق الله تعالى.
والشجرة الملعونة: هي شجرة الزقوم الوارد لفظها في الصافات والدخان.
ونخوفهم: بعذابنا في الدنيا بالإهلاك والإبادة وفي الآخرة بالزقوم والعذاب الأليم.
فما يزيدهم: أي التخويف إلا طغينانا وكفرا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد فيقول تعالى لرسوله قل يا محمد صلى الله عليه وسلم لأولئك المشركين أدعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله سبحانه وتعالى فإنهم لا يملكون أن يكشفوا الضر عن مريض ولا يستطيعون تحويله عنه إلى آخر عدو له يريد أن يمسه الضر لأنهم أصنام وتماثيل لا يسمعون ولا يبصرون فضلا على أن يستجيبوا دعاء من دعاهم لكشف ضر أو تحويله إلى غيره، هذا ما دلت عليه الآية الأولى [54] { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا }.
وقوله تعالى: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه }. يخبرهم تعالى بأن أولئك الذين يعبدونهم من الجن أو الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين هم أنفسهم يدعون ربهم ويتوسلون للحصول على رضاه. بشتى أنواع الطاعات والقربات فالذي يعبد لا يعبد، والذي يتقرب إلى الله بالطاعات لا يتقرب إليه وإنما يتقرب إلى من هو يتقرب إليه ليحظى بالمنزلة عنده، وقوله { ويرجون رحمته ويخافون عذابه } ، أي أن أولئك الذين يدعوهم الجهال من الناس ويطلبون منهم قضاء حاجاتهم هم أنفسهم يطلبون الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه. لأن عذابه تعالى كان وما زال يحذره العقلاء، لأنه شديد لا يطاق.
فكيف يدعى ويرجى ويخاف من هو يدعو ويرجو ويخاف لو كان المشركون يعقلون.
وقوله تعالى: { وإن من قرية } أي مدينة من المدن { إلا نحن مهلكوها } أي بعذاب إبادة قبل يوم القيامة، { أو معذبوها عذابا شديدا } بمرض أو قحط أو خوف من عدو { كان ذلك في الكتاب مسطورا } أي مكتوبا في اللوح المحفوظ، فلذا لا يستعجل أهل مكة العذاب فإنه إن كان قد كتب عليهم فإنه نازل بهم لا محالة وإن لم يكن قد كتب عليهم فلا معنى لاستعجاله فإنه غير واقع بهم وهم مرجون للتوبة أو لعذاب يوم القيامة وقوله تعالى: { وما منعنآ أن نرسل بالآيات } أي بالمعجزات وخوارق العادات { إلا أن كذب بها } أي بالمعجزات الأولون من الأمم فأهلكناهم بتكذيبهم بها، فلو أرسلنا نبينا محمدا بمثل تلك الآيات وكذبت بها قريش لأهلكهم، وهو تعالى لا يريد أهلاكهم بل يريد هدايتهم ليهتدي على أيديهم خلقا كثيرا من العرب والعجم والأبيض والأصفر فسبحان الله العليم الحكيم وقوله تعالى { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } أي آية مبصرة أي مضيئة بينة فظلموا بها أي كذبوا بها فعقروها فظلموا بذلك أنفسهم وعرضوها لعذاب الإبادة فأبادهم الله فأخذتهم الصيحة وهم ظالمون هذا دليل على أن المانع من الإرسال بالآيات هو ما ذكر تعالى في هذه الآية وقوله تعالى: { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } يخبر تعالى أنه ما يرسل الرسل مؤيدين بالآيات التي هي المعجزات والعبر والعظات إلا لتخويف الناس عاقبة الكفر والعصيان لعلهم يخافون فيؤمنون ويطيعون قوله تعالى { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } أي اذكر يا محمد إذ قلنا لك بواسطة وحينا هذا إن ربك أحاط بالناس. فهم في قبضته وتحت قهره وسلطانه فلا ترهبهم ولا تخش منهم أحدا فإن الله ناصرك عليهم، ومنزل نقمته بمن تمادى في الظلم والعناد، وقوله تعالى: { وما جعلنا الرءيا التي أريناك } يريد رؤيا الإسراء والمعراج حيث أراه الله من آياته وعجائب صنعه وخلقه، ما أراه { إلا فتنة للناس } أي لأهل مكة اختبارا لهم هل يصدقون أو يكذبون، إذ ليس لازما لتقرير نبوتك وإثبات رسالتك وفضلك أن نريك الملكوت الأعلى وما فيه من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة.
وقوله تعالى: { والشجرة الملعونة } أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن الكريم وهي شجرة الزقزم وأنها
تخرج في أصل الجحيم
[الصافات: 64] إلا فتنة كذلك لأهل مكة حيث قالوا كيف يصح وجود نخلة ذات طلع في وسط النار، كيف لا تحرقها النار قياسا للغائب على الشاهد وهو قياس فاسد، وقوله تعالى { ونخوفهم } بالشجرة الملعونة وأنها
طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم
[الدخان: 44-46] وبغيرها من أنواع العذاب الدنيوي والأخروي، وما يزيدهم ذلك إلا طغيانا كبيرا أي ارتفاعا وتكبرا عن قول الحق والاستجابة له لما سبق في علم الله من خزيهم وعذابهم فاصبر أيها الرسول وامض في دعوتك فإن العاقبة لك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بالحكم على عدم استجابة الآلهة المدعاة لعابديها.
2- بيان حقيقة عقلية وهي أن دعاء الأولياء والاستغاثة بهم والتوسل إليهم بالذبح والنذر هو أمر باطل ومضحك في نفس الوقت، إذ الأولياء كانوا قبل موتهم يطلبون الوسيلة إلى ربهم بأنواع الطاعات والقربات ومن كان يعبد لا يعبد. ومن كان يتقرب يتقرب إليه، ومن كان يتوسل لا يتوسل إليه بل يعبد الذي كان يعبد ويتوسل إلى الذي كان يتوسل إليه ويتقرب إلى الذي كان يتقرب إليه، وهو الله سبحانه وتعالى.
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
4- بيان المانع من عدم إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم الآيات على قريش.
5- بيان علة الإسراء والمعراج، وذكر شجرة الزقوم في القرآن الكريم.
[17.61-65]
شرح الكلمات:
لمن خلقت طينا: أي من الطين.
أرأيتك: أي أخبرني.
كرمت علي: أي فضلته علي بالأمر بالسجود له.
لأحتنكن: لأستولين عليهم فأقودهم إلى الغواية كالدابة إذا جعل الرسن في حنكها، تقاد حيث شاء راكبها!.
اذهب: أي منظرا إلى وقت النفخة الأولى.
جزاء موفورا: أي وافرا كاملا.
بصوتك: أي بدعائك إياهم إلى طاعتك ومعصيتي بأصوات المزامير والأغاني واللهو.
وأجلب عليهم: أي صح فيهم بركبانك ومشاتك.
وشاركهم في الأموال: بحملهم على أكل الربا وتعاطيه.
والأولاد: بتزيين الزنا ودفعهم إليه.
وعدهم: أي بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء.
إلا غرورا: أي باطلا.
ليس لك عليهم سلطان: أي إن عبادي المؤمنين ليس لك قوة تتسلط عليهم بها.
وكفى بربك وكيلا: أي حافظا لهم منك أيها العدو.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم } أي اذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين الجهلة الذين أطاعوا عدوهم وعدو أبيهم من قبل، وعصوا ربهم، اذكر لهم كيف صدقوا ظن إبليس فيهم، واذكر لهم { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم } فامتثلوا أمرنا { فسجدوا إلا إبليس } قال منكرا أمرنا، مستكبرا عن آدم عبدنا { أأسجد لمن خلقت طينا }؟ أي لمن خلقته من الطين لأن آدم خلقه الله تعالى من أديم الأرض عذبها وملحها ولذا سمى آدم آدم ثم قال في صلفه وكبريائه { أرأيتك } أي أخبرني أهذا { الذي كرمت علي }؟! قال هذا استصغار لآدم واستخفافا بشأنه، { لئن أخرتن } أي وعزتك لئن أخرت موتي { إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته } أي لأستولين عليهم وأسوقهم إلى أودية الغواية والضلال حتى يهلكوا مثلي { إلا قليلا } منهم ممن تستخلصهم لعبادتك فأجابه الرب تبارك وتعالى: { قال اذهب } أي منظرا وممهلا إلى وقت النفخة الأولى وقوله تعالى: { فمن تبعك منهم } أي عصاني وأطاعك { فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا } أي وافرا كاملا.
وقوله تعالى: { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } قال هذا لإبليس بعد أن أنظره إلى يوم الوقت المعلوم أذن له في أن يعمل ما استطاع في إضلال أتباعه، { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } أي واستخفف منهم بدعائك إلى الباطل بأصوات المزامير والأغاني وصور الملاهي وأنديتها وجمعياتها، { وأجلب عليهم } أي صح على خيلك ورجلك الركبان والمشاة وسقهم جميعا على بني آدم لإغوائهم وإضلالهم { وشاركهم في الأموال } بحملهم على الربا وجمع الأموال من الحرام وفي { والأولاد } بتزيين الزنا وتحسين الفجور وعدهم بالأماني الكاذبة وبأن لا بعث يوم القيامة ولا حساب ولا جزاء قال تعالى: { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } أي باطلا وكذبا وزورا. وقوله تعالى: { إن عبادي } أي المؤمنين بي، المصدقين بلقائي ووعدي ووعيدي ليس لك عليهم قوة تتسلط عليهم بها، { وكفى بربك وكيلا } أي حافظا لهم: منك فلا تقدر على إضلالهم ولا إغوائهم يا عدوي وعدوهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية التذكير بالأحداث الماضية للتحذير من الوقوع في الهلاك.
2- ذم الكبر وأنه من شر الصفات.
3- تقرير عداوة إبليس والتحذير منها.
4- بيان مشاركة إبليس أتباعه في أموالهم وأولادهم ونساءهم.
5- بيان أن أصوات الأغاني والمزامير والملاهي وأندية الملاهي وجمعياتها الجميع من جند إبليس الذي يحارب به الآدمي المسكين الضعيف .
6- بيان حفظ الله تعالى لأوليائه، وهم المؤمنون المتقون، وجعلنا الله تعالى منهم وحفظنا بما يحفظهم به إنه بر كريم.
[17.66-70]
شرح الكلمات:
يزجي لكم الفلك: أي يسوقها فتسير فيه.
لتبتغوا من فضله: أي لتطلبوا رزق الله بالتجارة من إقليم إلى آخر.
وإذا مسكم الضر: أي الشدة والبلاء والخوف من الغرق.
ضل من تدعون إلا إياه: أي غاب عنكم من كنتم تدعونهم من آلهتكم.
أعرضتم: أي عن دعاء الله وتوحيده في ذلك.
أو يرسل عليكم حاصبا: أي ريحا ترمي بالحصباء لشدتها.
ثم لا تجدوا لكم وكيلا: أي حافظا منه أي من الخسف أو الريح الحاصب.
قاصفا من الريح: أي ريحا شديدة تقصف الأشجار وتكسرها لقوتها.
علينا به تبيعا: أي نصيرا ومعينا يتبعنا ليثأر لكم منا.
ولقد كرمنا بني آدم: أي فضلناهم بالعلم والنطق واعتدال الخلق.
حملناهم في البر والبحر: في البر على البهائم والبحر على السفن.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه. فقوله تعالى: { ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله } يخبرهم تعالى بأن ربهم الحق الذي يجب أن يعبدوه ويطيعوه بعد أن يؤمنوا هو الذي { يزجي لكم الفلك } أي السفينة { في البحر } أي يسوقها فتسير بهم في البحر إلى حيث يريدون من أجل أن يطلبوا رزق الله لهم بالتجارة من إقليم لآخر. هذا هو إلهكم الحق، أما الأصنام والأوثان فهي مخلوقة لله مربوية له، لا تملك لنفسها فضلا عن غيرها، نفعا ولا ضرا.
وقوله تعالى: { إنه كان بكم رحيما } ومن رحمته تعالى تسخيره البحر لهم وإزجاء السفن وسوقها فيه ليحصلوا على أقواتهم عن طريق السفر والتجارة. وقوله تعالى: { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } يذكرهم بحقيقة واقعة لهم وهي أنهم إذا ركبوا في الفلك وأصابتهم شدة من مرض أو ضلال طريق أو عواصف بحرية اضطربت لها السفن وخافوا الغرق دعوا الله وحده ولم يبق من يدعوه سواه تعالى لكنهم إذا نجاهم من الهلكة التي خافوها ونزلوا بشاطئ السلامة أعرضوا عن ذكر الله وذكروا آلهتهم ونسوا ما كانوا يدعونه وهو الله من قبل { وكان الإنسان كفورا } هذا طبعه وهذه حاله سرعة النسيان، وشدة الكفران وقوله تعالى: وهو يخاطبهم لهدايتهم { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر } يقرعهم على إعراضهم فيقول { أفأمنتم } الله تعالى { أن يخسف بكم } جانب الأرض الذي نزلتموه عند خروجكم من البحر { أو يرسل عليكم حاصبا } أي ريحا شديدة تحمل الحصباء فيهلككم كما أهلك عادا { ثم لا تجدوا لكم } من غير الله { وكيلا } يتولى دفع العذاب عنكم ويقول: { أم أمنتم } الله تعالى { أن يعيدكم فيه } أي في البحر { تارة أخرى } أي مرة أخرى { فيرسل عليكم قاصفا من الريح } أي ريحا شديدة تقصف الأشجار وتحطمها { فيغرقكم بما كفرتم } أي بسبب كفركم كما أغرق آل فرعون { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } أي تابعا يثأر لكم منا ويتبعنا مطالبا بما نلنا منكم من العذاب.
فما لكم إذا لا تؤمنون وتوحدون وبالباطل تكفرون. وقوله تعالى: { ولقد كرمنا بني ءادم } أي فضلناهم بالنطق والعقل والعلم واعتدال الخلق { وحملناهم في البر والبحر } على ما سخرنا لهم من المراكب { ورزقناهم من الطيبات } أي المستلذات من اللحوم والحبوب والفواكه والخضر والمياه العذبة الفرات. وقوله تعالى: { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } فالآدميون أفضل من الجن وسائر الحيوانات، وخواصهم أفضل من الملائكة، وعامة الملائكة أفضل من عامة الآدميين ومع هذا فإن الآدمي إذا كفر ربه وأشرك في عبادته غيره، وترك عبادته، وتخلى عن محبته ومراقبته أصبح شر الخليقة كلها. قال تعالى:
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيهآ أولئك هم شر البرية
[البينة: 6].
من هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تعريف الله تعالى بذكر صفاته الفعلية والذاتية.
2- تذكير المشركين بحالهم في الشدة والرخاء حيث يعرفون الله في الشدة ويخلصون له الدعاء، وينكرونه في الرخاء ويشركون به سواه.
3- تخويف المشركين بأن الله تعالى قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصبا من الريح فيهلكهم أو يردهم إلى البحر مرة أخرى ويرسل عليهم قاصفا من الريح فيغرقهم بسبب كفرهم بالله، وعودتهم إلى الشرك بعد دعائه تعالى والتضرع إليه حال الشدة.
4- بيان منن الله تعالى على الإنسان وأفضاله عليه في تكريمه وتفضيله.
5- حال الرخاء أصعب على الناس من حال الشدة بالقحط والمرض، أو غيرهما من المصائب.
6- الإعلان عن كرامة الآدمي وشرفه على سائر المخلوقات الأرضية.
[17.71-77]
شرح الكلمات:
بإمامهم: أي الذي كانوا يقتدون به ويتبعونه في الخير أو الشر.
فتيلا: أي مقدار فتيل وهو الخيط الذي يوجد وسط النواة.
ومن كان في هذه أعمى: من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله تعالى الدالة على وجوده وعلمه وقدرته، فلم يؤمن به ولم يعبده فهو في الآخرة أشد عمى وأضل سبيلا.
وإن كادوا: أي قاربوا.
ليفتنونك: أي يستنزلونك عن الحق، أي يطلبون نزولك عنه.
لتفتري علينا غيره: أي لتقول علينا افتراء غير الذي أوحينا إليك.
إذا لاتخذوك خليلا: أي لو فعلت الذي طلبوا منك فعله لاتخذوك خليلا لهم.
ضعف الحياة وضعف الممات: أي لعذبناك عذاب الدنيا مضاعفا وعذاب الآخرة كذلك.
ليستفزونك من الأرض: أي ليستخفونك من الأرض أرض مكة.
لا يلبثون خلافك: أي لا يبقون خلفك أي بعدك إلا قليلا ويهلكهم الله.
سنة من قد أرسلنا من قبلك: أي لو أخرجوك لعذبناهم بعد خروجك بقليل، سنتنا في الأمم.
ولا تجد لسنتنا تحويلا: أي عما جرت به في الأمم السابقة.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله في تقرير عقيدة البعث والجزاء، اذكر يا رسولنا { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } الذي كانوا يقتدون به ويتبعونه فيتقدم ذلك الإمام ووراءه أتباعه وتوزع الكتب عليهم واحدا واحدا فمن أعطى كتابه بيمينه تشريفا له وتكريما، فأولئك الذين أكرموا بإعطائهم كتبهم بأيمانهم، يقرأون كتابهم ويحاسبون بما فيه { ولا يظلمون } أي لا ينقصون مقدار فتيل لا تنقص حسناتهم، ولا بزيادة سيئاتهم. واذكر هذا لهم تعظهم به لعلهم يتعظون، وقوله تعالى: { ومن كان في هذه } أي الدنيا { أعمى } لا يبصر هذه الحجج والآيات والدلائل وأصر على الشرك، والتكذيب والمعاصي { فهو في الآخرة أعمى } أي أشد عمى { وأضل سبيلا } فلا يرى طريق النجاة ولا يسلكه حتى يقع في جهنم. وقوله: { وإن كادوا ليفتنونك } أي يصرفونك { عن الذي أوحينآ إليك } من توحيدنا والكفر بالباطل وأهله. { لتفتري علينا غيره } أي لتقول علينا غير الحق الذي أوحيناه إليك، وإذا لو فعلت بأن وافقتهم على ما طلبوا منك، من الإغضاء على شركهم والتسامح معهم إقرارا لباطلهم، ولو مؤقتا، { لاتخذوك خليلا } لهم وكانوا أولياء لك، وذلك أن المشركين في مكة والطائف، واليهود في المدينة كانوا يحاولون جهدهم أن يستنزلوا الرسول على شيء من الحق الذي يأمر به ويدعو إليه مكرا منهم وخديعة سياسية إذ لو وافقهم على شيء لطالبوا بآخر، ولقالوا قد رجع إلينا، فهو إذا يتقول، وليس بالذي يوحى إليه بدليل قبوله منا كذا وكذا وتنازله عن كذا وكذا، وقوله تعالى: { ولولا أن ثبتناك } أي على الحق حيث عصمناك { لقد كدت } أي قاربت { تركن } أي تميل { إليهم شيئا قليلا } بقبول بعض اقتراحاتهم { إذا } أي لو ملت إليهم، وقبلت منهم ولو شيئا يسيرا { لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } ، أي لضاعفنا عليك العذاب في الدنيا والآخرة ثم لا تجد لك نصيرا ينصرك إذا نحن خذلناك وعذبناك وقوله تعالى في حادثة أخرى وهي أنهم لما فشلوا في المحاولات السلمية أرادوا استعمال القوة فقرروا إخراجه من مكة بالموت أو الحياة فأخبر تعالى رسوله بذلك إعلاما وإنذارا، فقال: { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض } أرض مكة { ليخرجوك منها وإذا } أي لو فعلوا لم يلبثوا بعد إخراجك إلا زمنا قليلا ونهلكهم كما هي سنتنا في الأمم السابقة التي أخرجت أنبياءها أو قتلتهم هذا معنى قوله تعالى: { وإن كادوا ليستفزونك } أي يستخفونك { من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا } اي عما جرت به في الأمم السابقة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الترغيب في الاقتداء بالصالحين ومتابعتهم والترهيب من الاقتداء بأهل الفساد ومتابعتهم.
2- عدالة الله تعالى في الموقف بإقامة الحجة على العبد وعدم ظلمه شيئا.
3- عمى الدنيا عن الحق وشواهده سبب عمى الآخرة وموجباته من السقوط في جهنم.
4- حرمة الركون أي الميل لأهل الباطل بالتنازل عن شيء من الحق الثابت إرضاء لهم.
5- الوعيد الشديد لمن يرضى أهل الباطل تملقا لهم طمعا في دنياهم فيترك الحق لأجلهم.
6- إمضاء سنن الله تعالى وعدم تخلفها بحال من الأحوال.
[17.78-84]
شرح الكلمات:
لدلوك الشمس: أي زوالها من كبد السماء ودحوضها إلى جهة الغرب.
إلى غسق الليل: أي إلى ظلمة الليل، إذ الغسق الظلمة.
وقرآن الفجر: صلاة الصبح.
كان مشهودا: تشهده الملائكة، ملائكة الليل وملائكة النهار.
فتهجد به: أي بالقرآن.
نافلة: أي زائدة عن الغرض وهي التهجد بالليل.
مقاما محمودا: هو الشفاعة العظمى يوم القيامة حيث يحمده الأولون والآخرون.
أدخلني مدخل صدق: أي المدينة، إدخالا مرضيا لا أرى فيه مكروها.
وأخرجني مخرج صدق: أي من مكة إخراجا لا ألتفت بقلبي إليها.
وقل جاء الحق وزهق الباطل: أي عند دخولك مكة فاتحا لها بإذن الله تعالى.
زهق الباطل: أي ذهب واضمحل.
أعرض ونأ بجانبه: أعرض عن الشكر فلم يشكر، ونأ بجانبه: أي ثنى عطفه متبخترا في كبرياء.
على شاكلته: أي طريقته ومذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلال.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض الهائل لتلك الأحداث الجسام أمر تعالى رسوله بإقام الصلاة فإنها مأمن الخائفين، ومنار السالكين، ومعراج الأرواح إلى ساحة الأفراح فقال: { أقم الصلاة لدلوك الشمس } أي لأول دلوكها وهو ميلها من كبد السماء إلى الغرب وهو وقت الزوال ودخول وقت الظهر، وقوله { إلى غسق اليل } أي إلى ظلمته، ودخلت صلاة العصر فيما بين دلوك الشمس وغسق الليل، ودخلت صلاة المغرب وصلاة العشاء في غسق الليل الذي هو ظلمته، وقوله: { وقرآن الفجر } أي صلاة الصبح وهذه هي الصلوات الخمس المفروضة على أمة الإسلام، النبي وأتباعه سواء وقوله { إن قرآن الفجر كان مشهودا } يعني محضورا، تحضره ملائكة النهار لتنصرف ملائكة الليل، لحديث الصحيح
" يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار... "
وقوله { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } أي صلاة زائدة على الفرائض الخمس وهي قيام الليل، وهو واجب عليه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، وعلى أمته مندوب إليه، مرغوب فيه.
وقوله: { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } عسى من الله تعالى تفيد الوجوب، ولذا فقد أخبر تعالى رسوله مبشرا إياه بأن يقيمه يوم القيامة { مقاما محمودا } يحمده عليه الأولون والآخرون. وهو الشفاعة العظمى حيث يتخلى عنها آدم فمن دونه.. حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: أنالها، أنالها، ويأذن له ربه فيشفع للخليقة في فضل القضاء، ليدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وتستريح الخليقة من عناء الموقف وطوله وصعوبته.
وقوله تعالى: { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق }. هذه بشارة أخرى أن الله تعالى أذن لرسوله بالهجرة من تلقاء نفسه لا بإخراج قومه وهو كاره. فقال له: قل في دعائك ربي أدخلني المدينة دار هجرتي { مدخل صدق } بحيث لا أرى فيها مكروها، وأخرجني من مكة يوم تخرجني { مخرج صدق } غير ملتفت إليها بقلبي شوقا وحنينا إليها.
{ واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } أي وسلني أن أجعل لك من لدني سلطانا نصيرا لك على من بغاك بسوء، وكادك بمكر وخديعة، وحاول منعك من إقامة دينك، ودعوتك إلى ربك، وقوله تعالى: { وقل جآء الحق وزهق الباطل } هذه بشارة أخرى بأن الله تعالى سيفتح له مكة، ويدخلها ظافرا منتصرا وهو يكسر الأصنام حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين صنما! ويقول جاء الحق وزهق الباطل أي ذهب الكفر واضمحل. { إن الباطل كان زهوقا }. لا بقاء له ولا ثبات إذا صاول الحق، ووقف في وجهه، وجائز أن يكون المراد بالحق، القرآن وبالباطل الكذب والافتراء، وجائز أن يكون الحق الإسلام والباطل الكفر والشرك وأعم من ذلك، أن الحق هو كل ما هو طاعة الله عز وجل، والباطل كل طاعة للشيطان من الشرك والظلم وسائر المعاصي. وقوله تعالى: { وننزل من القرآن ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين } أي وننزل عليك يا رسولنا محمد من القرآن ما هو شفاء أي ما يستشفى به من مرض الجهل والضلال والشك والوساوس ورحمة للمؤمنين دون الكافرين، لأن المؤمنين يعملون به فيرحمهم الله تعالى بعملهم بكتابة، وأما الكافرون، فلا رحمة لهم فيه، لأنهم مكذبون به تاركون للعمل بما فيه. وقوله { ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } أي ولا يزيد القرآن الظالمين وهم المشركون المعاندون الذين أصروا على الباطل عنادا ومكابرة، هؤلاء لا يزيدهم ما ينزل من القرآن ويسمعونه إلا خسارا لازدياد كفرهم وظلمهم وعنادهم. وقوله تعالى: { وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا } يخبر الله تعالى عن الإنسان الكافر المحروم من نور الإيمان وهداية الإسلام أنه إذا أنعم عليه بنعمة النجاة من الهلاك وقد أشرف عليه بغرق أو مرض أو جوع أو نحوه، أعرض عن ذكر الله ودعائه كما كان يدعوه في حال الشدة، ونأى بجانبه أي بعد عنا فلا يلتفت إلينا بقلبه، وذهب في خيلائه وكبريائه وقوله تعالى: { وإذا مسه الشر كان يئوسا } أي قنوطا. هذا هو الكافر، ذو ظلمة النفس لكفره وعصيانه، إذا مسه الشر من جوع أو مرض أو خوف أحاط به كان يؤوسا أي كثير اليأس والقنوط تامهما، لعدم إيمانه بالله ورحمته وقدرته على إنجائه وخلاصه.
وقوله تعالى: { قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } أي قل يا رسولنا للمشركين، كل منا ومنكم يعمل عل طريقته ومذهبه بحسب حاله هداية وضلالا. والله تعالى ربكم أعلم بمن هو أهدى منا ومنكم سبيلا. ويجزي الكل بحسب عمله وسلوكه. وهذه كلمة مفاصلة قاطعة، للنزاع الناجم عن كون كل يدعي أنه على الحق وأن دينه أصوب، وطريقته أمثل وسبيله أجدى وأنفع.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب إقامة الصلاة وبيان أوقاتها المحددة لها.
2- الترغيب في النوافل، وخاصة التهجد أي " نافلة الليل ".
3- تقرير الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم.
4- ضعف الباطل وسرعة تلاشيه إذا صاوله الحق ووقف في وجهه.
5- القرآن شفاء لأمراض القلوب عامة ورحمة بالمؤمنين خاصة.
6- بيان طبع المرء الكافر وبيان حال الضعف الملازم له.
7- تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كيف يتخلصون من الجدال الفارغ والحوار غير المثمر.
[17.85-89]
شرح الكلمات:
يسألونك عن الروح: أي يسألك المشركون بواسطة أهل الكتاب عن الروح الذي يحيا به البدن.
من أمر ربي: أي من شأنه وعلمه الذي استأثر به ولم يعلمه غيره.
لنذهبن بالذي أوحينا إليك: أي القرآن بأن نمحوه من الصدور والمصاحف لفعلنا.
لك به علينا وكيلا: يمنع ذلك منا ويحول دون ما أردناه منك.
إلا رحمة من ربك: أي لكن أبقيناه عليك رحمة من ربك فلم نذهب به.
بمثل هذا القرآن: من الفصاحة والبلاغة والمحتوى من الغيوب والشرائع والأحكام.
ظهيرا: أي معينا ونصيرا.
صرفنا: بينا للناس مثلا من جنس كل مثل ليتعظوا به فيؤمنوا ويوحدوا.
فأبى أكثر الناس: أي أهل مكة إلا كفورا أي جحودا للحق وعنادا فيه.
معنى الآيات:
يقول تعالى: { ويسألونك عن الروح } إذ قد سأله المشركون عن الروح وعن أصحاب الكهف، وذي القرنين بإيعاز من يهود المدينة فأخبره تعالى: بذلك وعلمه الرد عليهم فقال: { قل الروح من أمر ربي } وعلمه الذي لا يعلمه إلا هو، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا لأن سؤالهم هذا ونظائره دال على إدعائهم العلم فأعلمهم أن ما أوتوه من العلم إلا قليل بجانب علم الله تعالى وقوله تعالى: { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } هذا امتنان من الله على رسوله الذي أنزل عليه القرأن شفاء ورحمة للمؤمنين بأنه تعالى قادر على محوه من صدره. وسطره، فلا تبقى منه آية ثم لا يجد الرسول وكيلا له يمنعه من فعل الله به ذلك ولكن رحمة منه تعالى لم يشأ ذلك بل يبقيه إلى قرب قيام الساعة حجة الله على عباده وآية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق رسالته، وليس هذا بأول إفضال من الله تعالى على رسوله، بل فضل الله عليه كبير، ولنذكر من ذلك طرفا وهو عموم رسالته، كونه خاتم الأنبياء، العروج به إلى الملكوت الأعلى، إمامته للأنبياء الشفاعة العظمى، والمقام المحمود.
وقوله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } لا شك أن هذا الذي علم الله رسوله أن يقوله له سبب وهو ادعاء بعضهم أنه في إمكانه أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي هو آية صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبذلك تبطل الدعوى، وينتصر باطلهم على الحق. فأمر تعالى رسوله أن يرد على هذا الزعم الباطل بقوله: قل يا رسولنا لهؤلاء الزاعمين الإتيان بمثل هذا القرآن لئن اجتمعت الإنس والجن متعاونين متظاهرين على الاتيان بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ذلك لأنه وحي الله وكتابه، وحجته على خلقه.
وكفى. فكيف إذا يمكن للإنس والجن أن يأتوا بمثله؟!
وقوله: { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن } أي بينا مثلا من جنس كل مثل من أجل هداية الناس وإصلاحهم علهم يتذكرون فيتعظون، فيؤمنون ويوحدون فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي جحودا بالحق، وإنكارا للقرآن وتكذيبا به وبما جاء فيه من الحق والهدى والنور، لما سبق القضاء الإلهي من امتلاء جهنم بالغاوين وجنود إبليس أجمعين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- علم الروح مما استأثر الله تعالى به.
2- ما علم أهل العلم إلى علم الله تعالى إلا كما يأخذ الطائر بمنقاره من ماء المحيط.
3- حفظ القرآن في الصدور والسطور إلى قرب الساعة.
4- عجز الإنس والجن عن الإتيان بقرآن كالقرآن الكريم.
5- لما سبق في علم الله من شقاوة الناس تجد أكثرهم لا يؤمنون.
[17.90-95]
شرح الكلمات:
ينبوعا: عينا لا ينضب ماؤها فهي دائمة الجريان.
جنة: بستان كثير الأشجار.
كسفا: قطعا جمع كسفة كقطعة.
قبيلا: مقابلة لنراهم عيانا.
من زخرف: من ذهب.
ترقى: تصعد في السماء.
مطمئنين: ساكنين في الأرض لا يبرحون منها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والبعث وتقرير ذلك. فقال تعالى مخبرا عن قيلهم لرسول الله وهم يجادلون في نبوته: فقالوا: { لن نؤمن لك } أي لن نتابعك على ما تدعو إليه من التوحيد والنبوة لك والبعث والجزاء لنا { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } أي عينا يجري ماؤها على وجه الأرض لا ينقطع { أو تكون لك جنة } أي بستان من نخيل وعنب، { فتفجر الأنهار خلالها } أي خلال الأشجار تفجيرا، { أو تسقط السمآء كما زعمت علينا كسفا } أي قطعا، { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } أي مقابلة نراهم معاينة، { أو يكون لك بيت من زخرف } أي من ذهب تسكنه بيننا { أو ترقى في السمآء } أي تصعد بسلم ذي درج في السماء، { ولن نؤمن لرقيك } إن أنت رقيت { حتى تنزل علينا كتابا } من عند الله { نقرؤه } يأمرنا فيه بالإيمان بك واتباعك! هذه ست طلبات كل واحدة اعتبروها آية متى شاهدوها زعموا أنهم يؤمنون، والله يعلم أنهم لا يؤمنون، فلذا لم يستجب لهم وقال لرسوله: قل يا محمد لهم: { سبحان ربي } متعجبا من طلباتهم { هل كنت إلا بشرا رسولا }؟! أي هل كنت غير بشر رسول؟ وإلا كيف يطلب مني هذا الذي طلبوا، إن ما تطلبونه لا يقدر عليه عبد مأمور مثلي، وإنما يقدر عليه رب عظيم قادر، يقول للشيء كن... فيكون! وأنا ما ادعيت ربوبية، وإنما أصرح دائما بأني عبدالله ورسوله إليكم لأبلغكم رسالته بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه وتؤمنوا بالبعث الآخر وتعملوا له بالطاعات وترك المعاصي. وقوله تعالى: { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى } أي وما منع أهل مكة أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى على يد رسولهم { إلا أن قالوا } أي إلا قولهم { أبعث الله بشرا رسولا }؟ منكرين على الله أن يبعث رسولا من البشر!
وقوله تعالى: { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السمآء ملكا رسولا } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين أن يكون الرسول بشرا، المتعجبين من ذلك، قل لهم: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكنين في الأرض لا يغادرونها لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا يهديهم بأمرنا ويعلمهم ما يطلب منهم فعله بإذننا لأنهم يفهمون عنه لرابطة الجنس بينهم والتفاهم الذي يتم لهم. ولذا بعثنا إليكم رسولا من جنسكم تفهمون ما يقول لكم يقدر على إفهامكم والبيان لكم فكيف إذا تنكرون الرسالة للبشر وهي أمر لا بد منه؟!
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- بيان شدة عناد مشركي قريش، وتصلبهم وتحزبهم إزاء دعوة التوحيد.
3- بيان سخف عقول المشركين برضاهم للألوهية بحجر وإنكارهم الرسالة للبشر!
4- تقرير أن التفاهم حسب سنة الله لا يتم إلا بين المتجانسين فإذا اختلفت الأجناس فلا تفاهم إلا أن يشاء الله فلا يتفاهم إنسان مع حيوان أو جان.
[17.96-99]
شرح الكلمات:
شهيدا: على أني رسول الله إليكم وقد بلغتكم وعلى أنكم كفرتم وعاندتم.
فلن تجد لهم أولياء: أي يهدونهم.
على وجوههم: أي يمشون على وجوههم.
عميا وبكما وصما: لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون.
كلما خبت: أي سكن لهبها زدناهم سعيرا أي تلهبا واستعارا.
وقالوا: أي منكرين للبعث.
مثلهم: أي أناسا مثلهم.
أجلا: وقتا محددا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية إذ يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قل لأولئك المنكرين أن يكون الرسول بشرا، { كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } على أني رسوله وأنتم منكرون علي ذلك.
إنه تعالى كان وما زال { بعباده خبيرا } أي ذا خبرة تامة بهم { بصيرا } بأحوالهم يعلم المحق منهم من المبطل، والصادق من الكاذب وسيجزي كلا بعدله ورحمته.
وقوله تعالى: { ومن يهد الله فهو المهتد } يخبر تعالى أن الهدايه بيده تعالى فمن يهده الله فهو المهتدي بحق، { ومن يضلل فلن تجد لهم أوليآء من دونه } أي يهدونهم بحال من الأحوال، وفي هذا الكلام تسلية للرسول وعزاء في قومه المصرين على الجحود والانكار لرسالته.
وقوله: { ونحشرهم يوم القيامة } أي أولئك المكذبين الضالين الذين ماتوا على ضلالهم وتكذيبهم فلم يتوبوا نحشرهم يوم القيامة، يمشون على وجوههم حال كونهم عميا لا يبصرون، بكما لا ينطقون، صما لا يسمعون وقوله تعالى: { مأواهم جهنم } أي محل استقرارهم في ذلك اليوم جهنم الموصوفة بأنها { كلما خبت } أي سكن لهبها عنهم زادهم الله سعيرا أي تلهبا واستعارا. وقوله تعالى: { ذلك جزآؤهم } أي ذلك العذاب المذكور جزاؤهم بأنهم كفروا بآيات الله أي بسبب كفرهم بآيات الله. وقولهم إنكارا للبعث الآخر واستبعادا له: { أءذا كنا عظاما ورفاتا } أي ترابا { أءنا لمبعوثون خلقا جديدا } ورد الله تعالى على هذا الاستبعاد منهم للحياة الثانية فقال: { أولم يروا } أي أينكرون البعث الآخر؟ ولم يروا بعيون قلوبهم { أن الله الذي خلق السموت والأرض قادر على أن يخلق مثلهم }؟؟! بلى إنه لقادر لو كانوا يعلمون!
وقوله تعالى: { وجعل لهم أجلا } أي وقتا محدودا معينا لهلاكهم وعذابهم { لا ريب فيه } وهم صائرون إليه لا محالة، وقوله: { فأبى الظالمون إلا كفورا } أي مع هذا البيان والاستدلال العقلي أبى الظالمون إلا الجحود والكفران ليحق عليهم كلمة العذاب فيذوقوه والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عظم شهادة الله تعالى ووجوب الاكتفاء بها.
2- الهداية والاضلال بيد الله فيجب طلب الهداية منه والاستعاذة به من الضلال.
3- فظاعة عذاب يوم القيامة إذ يحشر الظالمون يمشون على وجودهم كالحيات وهم صم بكم عمي والعياذ بالله تعالى من حال أهل النار.
4- جهنم جزاء الكفر بآيات الله والانكار للبعث والجزاء يوم القيامة.
5- دليل البعث عقلي كما هو نقلي فالقادر على البدء، قادر عقلا على الإعادة بل الاعادة - عقلا - أهون من البدء للخلق من لا شيء.
[17.100-104]
شرح الكلمات:
خزائن رحمة ربي: أي من المطر والأرزاق.
لأمسكتم: أي منعتم الانفاق.
خشية الإنفاق: خوف النفاد.
قتورا: أي كثير الاقتار أي البخل والمنع للمال.
تسع آيات بينات: أي معجزات بينات أي واضحات وهو اليد والعصا والطمس إلخ.
مسحورا: أي مغلويا على عقلك، مخدوعا.
ما أنزل هؤلاء: أي الآيات التسع.
مثبورا: هالكا بانصرافك عن الحق والخير.
فأراد أن يستفزهم: أي يستخفهم ويخرجهم من ديار مصر.
اسكنوا الأرض: أي أرض القدس والشام.
الآخرة: أي الساعة.
لفيفا: أي مختلطين من أحياء وقبائل شتى.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، قل يا محمد لأولئك الذين يطالبون بتحويل جبل الصفا إلى ذهب، وتحويل المنطقة حول مكة إلى بساتين من نخيل وأعناب تجري الأنهار من خلالها، قل لهم، لو كنتم أنتم تملكون الخزائن رحمة ربي من الأموال والأرزاق لأمسكتم بخلابها ولم تنفقوها خوفا من نفاذها إذ هذا طبعكم، وهو البخل، { وكان الإنسان } قبل هدايته وإيمانه { قتورا } أي كثير التقتير بخلا وشحا نفسيا ملازما له حتى يعالج هذا الشح بما وضع الله تعالى من دواء نافع جاء بيانه في سورة المعارج من هذا الكتاب الكريم.
وقوله تعالى: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } أي، ولقد أعطينا موسى بن عمران نبي بني إسرائيل تسع آيات وهي: اليد، والعصا والدم، وانفلاق البحر، والطمس على أموال آل فرعون، والطوفان والجراد والقمل والضفادع، فهل آمن عليها آل فرعون؟! لا، إذا، فلو أعطيناك ما طالب به قومك المشركون من الآيات الست التي اقترحوها وتقدمت في هذه السياق الكريم مبينة، ما كانوا ليؤمنوا بها، ومن هنا فلا فائدة من إعطائك إياها.
وقوله تعالى: { فسئل بني إسرائيل } أي سل يا نبينا علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره، إذ جاءهم موسى بطالب فرعون بإرسالهم معه ليخرج بهم إلى بلاد القدس، وأرى فرعون الآيات الدالة على صدق نبوته ورسالته وأحقية ما يطالب به فقال له فرعون: { إني لأظنك يموسى مسحورا } أي ساحرا لإظهارك ما أظهرت من هذه الخوارق، ومسحورا بمعنى مخدوعا مغلوبا على عقلك فتقول الذي تقول مما لا يقوله العقلاء فرد عليه موسى بقوله بما أخبر تعالى به في قوله { لقد علمت } أي فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السماوات أي خالقها ومالكها والمدبر لها { بصآئر } أي آيات واضحات مضيئات هاديات لمن طلب الهداية، فعميت عنها وأنت تعلم صدقها { وإني لأظنك يفرعون مثبورا }! أي من أجل هذا أظنك يا فرعون ملعونا، من رحمة الله مبعدا مثبورا هالكا. فلما أعيته أي فرعون الحجج والبينات لجأ إلى القوة، { فأراد أن يستفزهم من الأرض } أي يستخفهم من أرض مصر بالقتل الجماعي استئصالا لهم، أو بالنفي والطرد والتشريد، فعامله الرب تعالى بنقيض، قصده فأغرقه الله تعالى هو وجنوده أجمعين، وهو معنى قوله تعالى: { فأغرقناه ومن معه } أي من الجنود { جميعا } وقوله تعالى: { وقلنا من بعده } أي من بعد هلاك فرعون وجنوده لبني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام { اسكنوا الأرض } أي أرض القدس والشام إلى نهاية آجالكم بالموت.
{ فإذا جآء وعد الآخرة } أي يوم القيامة بعثناكم أحياء كغيركم، { جئنا بكم لفيفا } أي مختلطين من أحياء وقبائل وأجناس شتى لا ميزة لأحد على آخر، حفاة عراة لفصل القضاء ثم الحساب والجزاء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الشح من طبع الإنسان إلا أن يعالجه بالإيمان والتقوى فيقيه الله منه.
2- الآيات وحدها لا تكفي لهداية الإنسان بل لا بد من توفيق إلهي.
3- مظاهر قدرة الله تعالى وانتصاره لأوليائه وكبت أعدائه.
4- بيان كيفية حشر الناس يوم القيامة لفيفا أخلاطا من قبائل وأجناس شتى.
[17.105-109]
شرح الكلمات:
وبالحق أنزلناه: أي القرآن.
وبالحق نزل: أي نزل ببيان الحق في العبادات والعقائد والأخبار والمواعظ والحكم والأحكام.
وقرآنا فرقناه: أن نزلناه مفرقا في ظرف ثلاث وعشرين سنة لحكمة اقتضت ذلك.
على مكث: أي على مهل وتؤده ليفهمه المستمع إليه.
ونزلناه تنزيلا: أي شيئا فشيئا حسب مصالح الأمة لتكمل به ولتسعد عليه.
أوتوا العلم من قبله: أي مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي.
للأذقان سجدا: أي سجدا على وجوههم، ومن سجد على وجهه فقد خر على ذقنه ساجدا.
إن كان وعد ربنا لمفعولا: منجزا، واقعا، فقد أرسل النبي الأمي الذي بشرت به كتبه وأنزل عليه كتابه.
معنى الآيات:
يقول تعالى: { وبالحق أنزلناه } أي ذلك الكتاب الذي جحد به الجاحدون، وكذب به المشركون أنزلناه بالحق الثابت حيث لا شك أنه كتاب الله ووحيه إلى رسوله، { وبالحق نزل } فكل ما جاء فيه ودعا إليه وأمر به. وأخبر عنه من عقائد وتشريع وأخبار ووعد ووعيد كله حق ثابت لا خلاف فيه ولا ريبة منه. وقوله تعالى: { ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا } أي لم نرسلك لخلق الهداية في قلوب عبادنا ولا لإجبارهم بقوة السلطان على الإيمان بنا وتوحيدنا، وإنما أرسلناك للدعوة والتبليغ { مبشرا } من أطاعنا بالجنة ومنذرا من عصانا مخوفا من النار. وفي هذا تقرير لرسالته صلى الله عليه وسلم ونبوته وقوله تعالى: { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } أي أنزلنا القرآن وفرقناه في خلال ثلاث وعشرين سنة لحكمة منا اقتضت ذلك وقوله { لتقرأه على الناس على مكث } آيات بعد آيات ليكون ذلك أدعى إلى فهم من يسمعه ويستمع إليه، وقوله تعالى: { ونزلناه تنزيلا } أي شيئا فشيئا حسب مصالح العباد وما تتطلبه تربيتهم الروحية والانسانية ليكملوا به، عقولا وأخلاقا وأرواحا ويسعدوا به في الدارين وقوله تعالى: { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } أي قل يا رسولنا للمنكرين للوحي القرآني من قومك، آمنوا به أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم به كعدمه لا يغير من واقعه شيئا فسوف يؤمن به ويسعد عليه غيركم إن لم تؤمنوا أنتم به وهاهم أولاء الذين أوتوا العلم من قبله من علماء أهل الكتابين اليهود والنصارى قد آمنوا به، يريد أمثال عبدالله بن سلام وسلمان الفارسي والنجاشي أصحم الحبشي وإنهم { إذا يتلى عليهم } أي يقرأ عليهم { يخرون للأذقان سجدا } أي يخرون ساجدين على أذقانهم ووجوههم ويقولون حال سجودهم { سبحان ربنآ } أي تنزيها له أن يخلف وعده إذ وعد أنه يبعث نبي آخر الزمان وينزل عليه قرآنا، { إن كان وعد ربنا لمفعولا } إقرارا منهم بالنبوة المحمدية والقرآن العظيم، أي ناجزا إذ وعد بإرسال النبي الخاتم وإنزال الكتاب عليه فأنجز ما وعد، وهكذا وعد ربنا دائما ناجز لا يتخلف، وقوله { ويخرون للأذقان يبكون } أي عندما يسمعون القرآن لا يسجدون فحسب بل يخرون يبكون ويزيدهم سماع القرآن وتلاوته خشوعا في قلوبهم واطمئنانا في جوارحهم لأنه الحق سمعوه من ربهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- القرآن حق من الله وما نزل به كله الحق.
2- الندب إلى ترتيل القرآن لا سيما عند قراءته على الناس لدعوتهم إلى الله تعالى.
3- تقرير نزول القرآن مفرقا في ثلاث وعشرين سنة.
4- تقرير النبوة المحمدية بنزول القرآن وإيمان من آمن به من أهل الكتاب.
5- بيان حقيقة السجود وأنه وضع الوجه على الأرض .
6- مشروعية السجود للقارئ أو المستمع وسنية ذلك عند قراءة هذه الآية وهي { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } فيخر ساجدا مكبرا في الخفض وفي الرفع قائلا: الله أكبر ويسبح ويدعو في سجوده بما يشاء.
[17.110-111]
شرح الكلمات:
ادعوا الله أو ادعوا الرحمن: أي سموه بأيهما ونادوه بكل واحد منهما الله أو الرحمن.
أيا ما تدعوا: أي إن تدعوه بأيهما فهو حسن لأن له الأسماء الحسنى وهذان منها.
ولا تجهر بصلاتك: أي بقراءتك في الصلاة كراهة أن يسمعها المشركون فيسبوك ويسبوا القرآن ومن أنزله.
ولا تخافت بها: أي ولا تسر به إسرارا حتى ينتفع بقراءتك أصحابك الذين يصلون وراءك بصلاتك.
وابتغ بين ذلك سبيلا: أي اطلب بين السر والجهر طريقا وسطا.
لم يتخذ ولدا: كما يقول الكافرون.
ولم يكن له شريك: كما يقول المشركون.
ولم يكن له ولي من الذل: أي لم يكن له ولي ينصره من أجل الذل إذ هو العزيز الجبار مالك الملك ذو الجلال والإكرام.
وكبره تكبيرا: أي عظمه تعظيما كاملا عن اتخاذ الولد والشريك والولي من الذل.
معنى الآيات:
كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه يا الله. يا رحمن، يا رحمن يا رحيم فسمعه المشركون وهم يتصيدون له أية شبهة ليثيروها ضده فلما سمعوه يقول: يا الله، يا رحمن قالوا: أنظروا إليه كيف يدعو إلهين وينهانا عن ذلك فأنزل الله تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } أي قل لهم يا نبينا ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فالله هو الرحمن الرحيم { أيا ما تدعوا } منهما الله أو الرحمن فهو الله ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى وقوله تعالى: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } أي وسطا بين السر والجهر، وذلك أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوا قارئه ومن أنزله، فأمر الله تعالى رسوله والمؤمنون تابعون له إذا قرأوا في صلاتهم أن لا يجهروا حتى لا يسمع المشركون قراءتهم ولا يسروا حتى لا يحرم سماع القرآن من يصلي وراءهم فأمر رسول الله بالتوسط بين الجهر والسر.
وقوله تعالى: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا }. أي أمر الله تعالى الرسول أن يحمد الله الذي لم يتخذ ولدا كما زعم ذلك بعض العرب، إذ قالوا الملائكة بنات الله! وكما زعم ذلك اليهود إذ قالوا عزير بن الله والنصارى إذ قالوا عيسى بن الله! { ولم يكن له شريك في الملك } كما قال المشركون من العرب: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك!
{ ولم يكن له ولي من الذل } كما قال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذل الله!
{ وكبره } أنت أو عظمه يا رسولنا تعظيما من أن يكون له وصف النقص والافتقار والعجز.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إن لله الأسماء الحسنى وهي مائة اسم إلا اسما واحدا فيدعى الله تعالى وينادى بأيها، وكلها حسنى كما قال تعالى في سورة الأعراف:
ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها
[الآية: 180].
2- بيان ما كان عليه المشركون في مكة من بغض للرسول والقرآن والمؤمنين..
3- مشروعية الأخذ بالاحتياط للدين كما هو للدنيا.
4- وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه وتنزيهه عن كل عجز ونقص.
5- هذه الآية { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل } تسمى آية العز هكذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[18 - سورة الكهف]
[18.1-6]
شرح الكلمات:
الحمد لله: الحمد الوصف بالجميل، والله علم على ذات الرب تعالى.
الكتاب: القرآن الكريم.
ولم يجعل له عوجا: أي ميلا عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه.
قيما: أي ذا اعتدال لا إفراط فيه ولا تفريط في كل ما حواه ودعا إليه من التوحيد والعبادة والآداب والشرائع والأحكام.
بأسا شديدا: عذابا ذا شدة وقسوة وسوء عذاب في الآخرة.
من لدنه: من عنده سبحانه وتعالى.
أجرا حسنا: أي الجنة إذ هي أجر المؤمنين العاملين بالصالحات.
كبرت كلمة: أي عظمت فرية وهي قولهم الملائكة بنات الله.
إن يقولون إلا كذبا: أي ما يقولون إلا كذبا بحتا لا واقع له من الخارج.
باخع نفسك: قاتل نفسك كالمنتحر.
بهذا الحديث أسفا: أي بالقرآن من أجل الأسف الذي هو الحزن الشديد.
معنى الآيات:
أخبر تعالى في فاتحة سورة الكهف بأنه المستحق للحمد، وأن الحمد لله وذكر موجب ذلك، وهو إنزاله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الفخم العظيم وهو القرآن العظيم الكريم فقال: { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } وقوله تعالى، { ولم يجعل له عوجا } أي ولم يجعل لذلك الكتاب العظيم عوجا أي ميلا عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانية فهو كلام مستقيم محقق للآخذ به كل سعادة وكمال في الحياتين. وقوله { قيما } أي معتدلا خاليا من الإفراط والتفريط قيما على الكتب السابقة مهيمنا عليها الحق فيها ما أحقه والباطل ما أبطله.
وقوله { لينذر بأسا شديدا من لدنه } أي أنزل الكتاب الخالي من العوج القيم من أجل أن ينذر الظالمين من أهل الشرك والمعاصي عذابا شديدا في الدنيا والآخرة ينزل بهم من عند ربهم الذين كفروا به وأشركوا وعصوه وكذبوا رسوله وعصوه. ومن أجل أن يبشر بواسطته أيضا { المؤمنين الذين يعملون الصالحات } أي يخبرهم بما يسرهم ويفرح قلوبهم وهو أن لهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وقوله تعالى: { وينذر } بصورة خاصة أولئك المتقولين على الله المفترين عليه بنسبتهم الولد إليه فقالوا: { اتخذ الله ولدا } وهم اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله! هذا ما دل عليه قوله تعالى: { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا } وهو قول توارثوه لا علم لأحد منهم به، وإنما هو مجرد كذب يتناقلونه بينهم لذا قبح الله قولهم هذا وعجب منه العقلاء، فقال: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } أي عظم قولهم { اتخذ الله ولدا } كلمة قالوها تخرج من أفواههم لا غير إذ لا واقع لها أبدا، وقرر الانكار عليهم فقال: { إن يقولون إلا كذبا } أي ما يقولون إلا الكذب البحت الذي لا يعتمد على شيء من الصحة البتة.
وقوله { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } يعاتب الله تعالى رسوله ويخفف عنه ما يجده في نفسه من الحزن على عدم إيمان قومه واشتدادهم في الكفر والتكذيب وما يقترحونه عليه من الآيات أي فلعلك يا رسولنا قاتل نفسك على إثر رفض قومك للإيمان بك وبكتابك وما جئت به من الهدى، حزنا عليهم، وجزعا منهم، فلا تفعل واصبر لحكم ربك فإنه منجز وعده لك بالنصر على قومك المكذبين لك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب حمد الله تعالى على آلائه وعظيم نعمه.
2- لا يحمد إلا من له ما يقتضي حمده، وإلا كان المدح كذبا وزورا.
3- عظم شأن القرآن الكريم وسلامته من الافراط والتفريط والانحراف في كل ما جاء به.
4- بيان مهمة القرآن وهي البشارة لأهل الإيمان والإنذار لأهل الشرك والكفران.
5- التنديد بالكذب على الله ونسبة ما لا يليق بجلاله وكماله إليه كالولد ونحوه.
6- تحريم الانتحار وقتل النفس من الحزن أو الخوف ونحوه من الغضب والحرمان.
[18.7-12]
شرح الكلمات:
صعيدا جرزا: أي ترابا لا نبات فيه، فالصعيد هو التراب والجرز الذي لا نبات فيه.
الكهف: النقب الواسع في الجبل والضيق منه يقال له " غار ".
والرقيم: لوح حجري رقمت فيه أسماء أصحاب الكهف.
أوى الفتية إلى الكهف: اتخذوه مأوى لهم ومنزلا نزلوا فيه.
الفتية: جمع فتى وهم شبان مؤمنون.
هيئ لنا من أمرنا رشدا: أي ييسر لنا طريق رشد وهداية.
فضربنا على آذانهم: أي ضربنا على آذانهم حجابا يمنعهم من سماع الأصوات والحركات.
سنين عددا: أي أعواما عدة.
ثم بعثناهم: أي من نومهم بمعنى أيقظناهم.
أحصى لما لبثوا: أي أضبط لأوقات بعثهم في الكهف.
أمدا: أي مدة محدودية معلومة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } من حيوان وأشجار ونبات وأنهار وبحار، وقوله { لنبلوهم } أي لنختبرهم { أيهم أحسن عملا } أي أيهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا وقوله: { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } أي وإنا لمخربوها في يوم، من الأيام بعد عمارتها ونضارتها وزينتها نجعلها { صعيدا جرزا } أي ترابا لا نبات فيه، إذا فلا تحزن يا رسولنا ولا تغتم مما تلاقيه من قومك فإن مآل الحياة من أجلها عادوك وعصوننا إلى أن تصبح صعيدا جرزا. وقوله تعالى: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا } أي أظننت أيها النبي أن أصحاب الكهف أي الغار في الكهف والرقيم وهو اللوح الذي كتبت عليه ورقم أسماء أصحاب الكهف وأنسابهم وقصتهم { كانوا من آياتنا عجبا } أي كان أعجب من آياتنا في خلق ومخلوقات، السماوات والأرض بل من مخلوقات الله ما هو أعجب بكثير. وقوله: { إذ أوى الفتية إلى الكهف } هذا شروع في ذكر قصتهم العجيبة، أي اذكر للسائلين لك عن قصة هؤلاء الفتية، إذ أووا إلى الغار في الكهف فنزلوا فيه، واتخذوه مأوى لهم ومنزلا هروبا من قومهم الكفار أن يفتنوهم في دينهم وهم سبعة شبان ومعهم كلب لهم فقالوا سائلين ربهم: { ربنآ آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا } أي أعطنا من عندك رحمة تصحبنا في هجرتنا هذه للشرك والمشركين { وهيىء لنا من أمرنا رشدا } أي ويسر لنا من أمرنا في فرارنا من ديار المشركين خوفا على ديننا { رشدا } أي سدادا وصلاحا ونجاة من أهل الكفر والباطل، قال ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآيات وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفتية إلى الكهف الذي ذكر الله في كتابه فقال بعضهم: كان سبب ذلك أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى وكان لهم ملك عابد وثن دعاهم إلى عبادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم أو يقتلهم فاستخفوا منه في الكهف وقوله تعالى: { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا } أي فضربنا على آذانهم حجابا يمنعهم من سماع الأصوات والحركات فناموا في كهفهم سنين معدودة أي ثلاثمائة وتسع سنين، وكانوا يتقلبون بلطف الله وتدبيره لهم من جنب إلى جنب حتى بعثهم من نومهم وهذا استجابة الله تعالى لهم إذ دعوه قائلين: { ربنآ آتنا من لدنك رحمة } وقوله تعالى: { ثم بعثناهم } أي من نومهم ورقادهم { لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا } أي في الكهف { أمدا } أي لنعلم علم مشاهدة ولينظر عبادي فيعلموا أي الطائفتين اللتين اختلفتا في قدر لبثهم في الكهف كانت أحصى لمدة لبثهم في الكهف حيث اختلف الناس إلى حزبين حزب يقول لبثوا في كهفهم كذا سنة وآخر يقول لبثوا إلى مدى أي غاية كذا من السنين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان العلة في وجود الزينة على هذه الأرض، وهي الابتلاء والاختبار للناس ليظهر الزاهد فيها، العارف بتفاهتها وسرعة زوالها، وليظهر الراغب فيها المتكالب عليها الذي عصى الله من أجلها.
2- تقرير فناء كل ما على الأرض حتى تبقى صعيدا جرزا وقاعا صفصفا لا يرى فيها عوج ولا أمت.
3- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بإجابة السائلين عن أصحاب الكهف بالايجاز والتفصيل.
4- تقرير التوحيد ضمن قصة أصحاب الكهف إذ فروا بدينهم خوفا من الشرك والكفر.
5- استجابة الله دعاء عباده المؤمنين الموحدين حيث استجاب للفتية فآواهم الغار ورعاهم حتى بعثهم بعد تغير الأحوال وتبدل العباد والبلاد.
[18.13-16]
شرح الكلمات:
نبأهم بالحق: أي خبرهم العجيب بالصدق واليقين.
وزنادهم هدى: أي إيمانا وبصيرة في دينهم ومعرفة ربهم حتى صبروا على الهجرة.
وربطنا على قلوبهم: أي شددنا عليها فقويت عزائمهم حتى قالوا كلمة الحق عند سلطان جائر.
لن ندعوا من دونه إلها: لن نعبد من دونه إلها آخر.
لولا يأتون عليهم بسلطان: أي هلا يأتون بحجة قوية تثبت صحة عبادتهم.
على الله كذبا: أي باتخاذ آلهة من دونه تعالى يدعوها ويعبدها.
فأووا إلى الكهف: أي انزلوا في الكهف تستترون به على أعين أعدائكم المشركين.
ينشر لكم ربكم من رحمته: أي يبسط من رحمته عليكم بنجاتكم مما فررتم منه.
ويهيء لكم من أمركم: وييسر لكم من أمركم الذي أنتم فيه من الغم والكرب.
مرفقا: أي ما ترتفقون به وتنتفعون من طعام وشراب وإواء.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى موجز قصة أصحاب الكهف أخذ في تفصيلها { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } أي نحن رب العزة والجلال نقص عليك أيها الرسول خبر أصحاب الكهف بالحق الثابت الذي لا شك فيه { إنهم فتية } ، جمع فتى { آمنوا بربهم } أي صدقوا بوجوده ووجوب عبادته وتوحيده فيها وقوله { وزدناهم هدى } أي هداية إلى معرفة الحق من محاب الله تعالى ومكارهه.
وقوله تعالى: { وربطنا على قلوبهم } أي قوينا عزائمهم بما شددنا على قلوبهم حتى قاموا وقالوا على رؤوس الملأ وأمام ملك كافر { ربنا رب السموت والأرض } أي ليس لنا رب سواه، لن ندعو من دونه إلها مهما كان شأنه، إذ لو اعترفنا بعبادة غيره لكنا قد قلنا إذا شططا من القول وهو الكذب والغلو فيه وقوله تعالى: { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة } يخبر تعالى عن قيل الفتية لما ربط الله على قلوبهم إذ قاموا في وجه المشركين الظلمة وقالوا: { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين } أي هلا يأتون عليهم بسلطان بين أي بحجة واضحة تثبت عبادة هؤلاء الأصنام من دون الله؟ ومن أين ذلك والحال أنه لا إله إلا الله؟!
وقوله تعالى: { فمن أظلم ممن افترى } ينفي الله عز وجل أن يكون هناك أظلم ممن افترى على الله كذبا باتخاذ آلهة يعبدها معه باسم التوسل بها وشعار التشفع والتقرب إلى الله زلفى بواسطتها!! وقوله تعالى عن قيل أصحاب الكهف لبعضهم: { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله } من الأصنام والأوثان { فأووا إلى الكهف } أي فصيروا إلى غار الكهف المسمى " بنجلوس " { ينشر لكم ربكم من رحمته } أي يبسط لكم من رحمته بتيسيره لكم المخرج من الأمر الذي رميتم به من الكافر " دقينوس " { ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } أي ما ترتفقون به من طعام وشراب وأمن في مأواكم الجديد الذي أويتم إليه فرارا بدينكم واستخفائكم من طالبكم المتعقب لكم ليفتنكم في دينكم أو يقتلكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر قصة أصحاب الكهف.
2- تقرير زيادة الإيمان ونقصانه.
3- فضيلة الجرأة في الحق والتصريح به ولو أدى إلى القتل أو الضرب أو السجن.
4- تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله على لسان أصحاب الكهف.
5- بطلان عبادة غير الله لعدم وجود دليل عقلي أو نقلي عليها.
6- الشرك ظلم وكذب والمشرك ظالم مفتر كاذب.
7- تقرير فرض الهجرة في سبيل الله.
8- فضيلة الالتجاء إلى الله تعالى وطلب حمايته لعبده وكفاية الله من لجأ إليه في صدق.
[18.17-18]
شرح الكلمات:
تزاور: أي تميل.
تقرضهم: تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم.
في فجوة منه: متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها.
من آيات الله: أي دلائل قدرته.
أيقاظا: جمع يقظ أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة.
بالوصيد: فناء الكهف.
رعبا: منعهم الله بسببه من الدخول عليهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض قصة أصحاب الكهف يقول تعالى في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم } أي تميل عنه ذات اليمين { وإذا غربت تقرضهم } أي تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم ذات الشمال. وقوله تعالى: { وهم في فجوة منه } أي متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها، وقوله { ذلك من آيات الله } أي وذلك المذكور من ميلان الشمس عنهم إذا طلعت وقرضها لهم إذا غربت من دلائل قدرة الله تعالى ورحمته بأوليائه ولطفه بهم، وقوله تعالى: { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } يخبر تعالى أن الهداية بيده وكذلك الإضلال فليطلب العبد من ربه الهداية إلى صراطه المستقيم، وليستعذ به من الضلال المبين، إذ من يضله الله لن يوجد له ولي يرشده بحال من الأحوال، وقوله تعالى: { وتحسبهم أيقاظا وهم رقود } أي أنك إذا نظرت إليهم تظنهم أيقاظا أي منتبهين لأن أعينهم متفتحة وهم رقود نائمون لا يحسون بأحد ولا يشعرون، وقوله تعالى: { ونقلبهم ذات اليمين } أي جهة اليمين { وذات الشمال } أي جهة الشمال حتى لا تعدو التربة على أجسادهم فتبليها. وقوله { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } أي: وكلبهم الذي خرج معهم، وهو كلب صيد { باسط ذراعيه بالوصيد } أي: بفناء الكهف. وقوله تعالى : { لو اطلعت عليهم } أي لو شاهدتهم وهم رقود وأعينهم مفتحة { لوليت منهم فرارا } لرجعت فارا منهم { ولملئت منهم رعبا } أي خوفا وفزعا، ذلك أن الله تعالى ألقى عليهم من الهيبة والوقار حتى لا يدنو منهم أحد ويمسهم بسوء إلى أن يوقظهم عند نهاية الأجل الذي ضرب لهم، ليكون أمرهم آية من آيات الله الدالة على قدرته وعظيم سلطانه وعجيب تدبيره في خلقه.
من هداية الآيات:
1- بيان لطف الله تعالى بأوليائه بإكرامهم في هجرتهم إليه.
2- تقرير أن الهداية بيد الله فالمهتدي من هداه الله والضال من أضله الله ولازم ذلك طلب الهداية من الله، والتعوذ به من الضلال لأنه مالك ذلك.
3- بيان عجيب تدبير الله تعالى وتصرفه في مخلوقاته فسبحانه من إله عظيم عليم حكيم.
[18.19-21]
شرح الكلمات:
كذلك بعثناهم: أي كما أنمناهم تلك النومة الطويلة الخارقة للعادة بعثناهم من رقادهم بعثا خارقا للعادة أيضا فكان في منامهم آية وفي إفاقتهم آية.
كم لبثتم: أي في الكهف نائمين.
يوما أو بعض يوم: لأنهم دخلوا الكهف صباحا واستيقظوا عشية.
بورقكم: بدراهم الفضة التي عندكم.
إلى المدينة: أي المدينة التي كانت تسمى أفسوس وهي طرسوس اليوم.
أزكى طعاما: أي أي أطعمة المدينة أحل أي أكثر حلية.
وليتلطف: أي يذهب يشتري الطعام ويعود في لطف وخفاء.
يرجموكم: أي يقتلوكم رميا بالحجارة.
أعثرنا عليهم: أطلعنا عليهم أهل بلدهم.
ليعلموا: أي قومهم أن البعث حق للأجساد والأرواح معا.
إذ يتنازعون: أي الكفار قالوا ابنوا عليهم أي حولهم بناء يسترهم.
فقالوا: أي المؤمنون والكافرون في شأن البناء عليهم.
وقال الذين غلبوا على أمرهم: وهم المؤمنون لنتخذن حولهم مسجدا يصلى فيه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أصحاب الكهف فقوله تعالى: { وكذلك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم } أي كما أنمناهم ثلاثمائة سنة وتسعا وحفظنا أجسادهم وثيابهم من البلى ومنعناهم من وصول أحد إليهم، وهذا من مظاهر قدرتنا وعظيم سلطاننا بعثناهم من نومهم الطويل ليتساءلوا بينهم فقال قائل منهم مستفهما كم لبثتم يا إخواننا فأجاب بعضهم قائلا { لبثنا يوما أو بعض يوم } لأنهم آووا إلى الكهف في الصباح وبعثوا من رقادهم في المساء وأجاب بعض آخر بقول مرض للجميع وهو قوله: { ربكم أعلم بما لبثتم } فسلموا الأمر إليه، وكانوا جياعا فقالوا لبعضهم { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه } يشيرون إلى عملة من فضة كانت معهم { إلى المدينة } وهي أفسوس التي خرجوا منها هاربين بدينهم، وقوله: { فلينظر أيهآ أزكى طعاما فليأتكم برزق منه } أي فلينظر الذي تبعثونه لشراء الطعام أي أنواع الأطعمة أزكى أي أطهر من الحرام والاستقذار { فليأتكم برزق منه } لتأكلوه سدا لجوعكم وليتلطف في شرائه وذهابه وإيابه حتى لا يشعر بكم أحدا وعلل لقوله هذا بقوله { إنهم إن يظهروا عليكم } أي يطلعوا { يرجموكم } أو يقتلوكم رجما بالحجارة { أو يعيدوكم في ملتهم } ملة الشرك بالقسر والقوة. { ولن تفلحوا إذا أبدا } أي ولن تفلحوا بالنجاة من النار ودخول الجنة إذا أنتم عدتم للكفر والشرك.. فكفرتم وأشركتم بربكم.
وقوله تعالى: { وكذلك أعثرنا عليهم } أي وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة وبعثناهم ليتساءلوا بينهم فيزدادوا إيمانا ومعرفة بولاية الله تعالى وحمايته لأوليائه { أعثرنا عليهم } أهل مدينتهم الذين انقسموا إلى فريقين فريق يعتقد أن البعث حق وأنه بالأجسام والأرواح، وفريق يقول البعث الآخر للأرواح دون الأجسام كما هي عقيدة النصارى إلى اليوم، فأنام الله الفتية وبعثهم وأعثر عليهم هؤلاء القوم المختلفين فاتضح لهم أن الله قادر على بعث الناس أحياء أجساما وأرواحا كما بعث أصحاب الكهف وهو معنى قوله تعالى: { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا } أي أولئك المختلفون في شأن البعث أن وعد الله حق وهو ما وعد به الناس من أنه سيبعثهم بعد موتهم يوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم.
{ وأن الساعة لا ريب فيها } وقوله تعالى: { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } أي أعثرناهم عليهم في وقت كان أهل البلد يتنازعون في شأن البعث والحياة الآخرة هل هي بالأجسام والأرواح أو بالأرواح دون الأجسام. فتبين لهم بهذه الحادثة أن البعث حق وأنه بالأجسام والأرواح معا. وقوله تعالى: { فقالوا ابنوا عليهم بنيانا } واتركوهم في الكهف أي سدوا عليهم باب الكهف واتركوهم فيه لأنهم بعد أن عثروا عليهم ماتوا { ربهم أعلم بهم } وبحالهم.
وقوله تعالى: { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا } أي قال الذين غلبوا على أمر الفتية لكون الملك كان مسلما معهم { لنتخذن عليهم مسجدا } أي للصلاة فيه وفعلا بنوة على مقربة من فم الغار بالكهف.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.
2- وحوب طلب الحلال في الطعام والشراب وغيرهما.
3- الموت على الشرك والكفر مانع من الفلاح يوم القيامة أبدا.
4- تقرير معتقد البعث والجزاء الذي ينكره أهل مكة.
5- مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم
" لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "
وقوله
" إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة "
(في الصحيحين).
6- مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم
" لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع "
إذ قد بنى المسلمون على قبور الأولياء والصالحين المساجد. بعد القرون المفضلة حتى أصبح يندر وجود مسجد عتيق خال من قبر أو قبور.
[18.22-26]
شرح الكلمات:
رجما بالغيب: أي قذفا بالظن غير يقين علم.
ما يعلمهم إلا قليل: أي من الناس.
فلا تمار فيهم: لا تجادل في عدتهم.
ولا تستفت فيهم منهم أحدا: أي من أهل الكتاب، الاستفتاء: الاستفهام والسؤال.
إلا أن يشاء الله: أي إلا أن تقول إن شاء الله.
لأقرب من هذا رشدا: هداية وأظهر دلالة على نبوتي من قصة أصحاب الكهف.
له غيب السماوات والأرض: أي علم غيب السماوات والأرض وهو ما غاب فيهما.
أبصر به وأسمع: أي أبصر بالله وأسمع به صيغة تعجب! والأصل ما أبصره وما أسمعه.
ما لهم من دونه من ولي: أي ليس لأهل السماوات والأرض من دون الله أي من ناصر.
ولا يشرك في حكمه أحدا: لأنه غني عما سواه ولا شريك له.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أصحاب الكهف يخبر تعالى بأن الخائضين في شأن أصحاب الكهف سيقول بعضهم بأنهم ثلاثة رابعهم كلبهم ويقول بعض آخر هم خمسة سادسهم كلبهم { رجما بالغيب } أي قذفا بالغيب من غير علم يقيني، ويقول بعضهم هم سبعة وثامنهم كلبهم، ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لأصحابه تلك الأقوال: { ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل } أي ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس قال ابن عباس أنا من ذلك القليل فعدتهم سبعة وثامنهم كلبهم ولعله فهم ذلك من سياق الآية إذ ذكر تعالى أن الفريقين الأول والثاني قالوا ما قالوه من باب الرجم بالغيب لا من باب العلم والمعرفة، وسكت عن الفريق الثالث، فدل ذلك على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم والله أعلم. وقوله تعالى { فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا } أي ولا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالا بينا لينا بذكرك ما قصصنا عليك دون تكذيب لهم، ولا موافقة لهم. وقوله تعالى { ولا تستفت فيهم } أي في أصحاب الكهف { منهم } أي من أهل الكتاب { أحدا } وذلك لأنهم يعلمون عدتهم وإنما يقولون بالخرص والتخمين لا بالعلم واليقين. وقوله تعالى: { ولا تقولن لشاىء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشآء الله } أي لا تقل يا محمد في شأن تريد فعله مستقبلا أي سأفعل كذا إلا أن تقول إن شاء الله، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سأله وفد قريش بإيعاز من اليهود عن المسائل الثلاث: الروح، وأصحاب الكهف وذي القرنين، قال لسائليه: أجيبكم غدا انتظارا للوحي ولم يقل إن شاء الله، فأدبه ربه تعالى بانقطاع الوحي عنه نصف شهر، وأنزل هذه السورة وفيها هذا التأديب له صلى الله عليه وقوله: { واذكر ربك إذا نسيت } أي إذا نسيت الاستثناء الذي علمناك فاذكره ولو بعد حين لتخرج من الحرج.
أما الكفارة فلازمة إلا أن يكون الاستثناء متصلا بالكلام وقوله تعالى: { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا } أي وقل بعد النسيان والاستثناء المطلوب منك { عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا } أي لعل الله تعالى أن يهديني فيسددني لأسد ما وعدتكم أن أخبركم به مما هو أظهر دلالة على نبوتي مما سألتموني عنه اختبارا لي. وقوله تعالى { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا } يخبر تعالى أن الفتية لبثوا في كهفهم رقودا من ساعة دخلوه إلى أن أعثر الله عليهم قومهم ثلاثمائة سنين بالحساب الشمسي وزيادة تسع سنين بالحساب القمري.
وقوله: { قل الله أعلم بما لبثوا } رد به على من قال من أهل الكتاب إن الثلاثمائة والتسع سنين هي من ساعة دخولهم الكهف إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأبطل الله هذا بتقرير الثلثمائة والتسع أولا وبقوله { الله أعلم بما لبثوا } ثانيا وبقوله: { له غيب السموت والأرض } أي ما غاب فيهما، ثالثا، وبقوله: { أبصر به وأسمع } أي ما أبصره بخلفه وما أسمعه لأقوالهم حيث لا يخفى عليه شيء من أمورهم وأحوالهم خامسا، وقوله { ما لهم } أي لأهل السماوات والأرض من دونه تعالى { من ولي } أي ولا ناصر { ولا يشرك في حكمه أحدا } لغناه عما سواه ولعدم وجود شريك له بحال من الأحوال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان اختلاف أهل الكتاب وعدم ضبطهم للأحداث التاريخية.
2- بيان عدد فتية أصحاب الكهف وأنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
3- من الأدب مع الله تعالى أن لا يقول العبد سأفعل كذا مستقبلا إلا قال بعدها إن شاء الله.
4- من الأدب من نسي الاستثناء أن يستثني ولو بعد حين فإن حلف لا ينفعه الاستثناء إلا إذا كان متصلا بكلامه.
5- تقرير المدة التي لبثها الفتية في كهفهم وهي ثلاث مائة وتسع سنين بالحساب القمري.
[18.27-31]
شرح الكلمات:
واتل ما أوحي إليك من الكتاب: أي اقرأ القرآن تعبدا ودعوة وتعليما.
لا مبدل لكلماته: أي لا مغير لكلمات الله في ألفاظها ولا معانيها وأحكامها.
ملتحدا: أي ملجأ تميل إليه إحتماءا به.
واصبر نفسك: أي إحبسها.
يريدون وجهه: أي طاعته ورضاه، لا عرضا من عرض الدنيا.
ولا تعد عيناك عنهم: أي لا تتجاوزهم بنظرك إلى غيرهم من أبناء الدنيا.
تريد زينة الحياة الدنيا: أي بمجالستك الأغنياء تريد الشرف والفخر.
من أغفلنا قلبه: أي جعلناه غافلا عما يجب عليه من ذكرنا وعبادتنا.
وكان أمره فرطا: أي ضياعا وهلاكا.
أحاط بهم سرادقها: حائط من نار أحيط بهؤلاء المعذبين في النار.
بماء كالمهل: أي كعكر الزيت أي الدردي وهو ما يبقى في أسفل الإناء ثخنا رديئا.
من سندس واستبرق: أي مارق من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه أي من الديباج.
معنى الآيات:
بعد نهاية الحديث عن أصحاب الكهف أمر تعالى رسوله بتلاوة كتابه فقال: { واتل } أي وقرأ { مآ أوحي إليك من كتاب ربك } تعبدا ودعوة للناس إلى ربهم به وتعليما للمؤمنين بما جاء فيه من الهدى.
وقوله: { لا مبدل لكلماته } أي لا تتركن تلاوته والعمل به والدعوة إليه فتكون من الهالكين فإن ما وعد ربك به المعرضين عنه المكذبين به كائن حقا وواقع صدقا فإن ربك { لا مبدل لكلماته } المشتملة على وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ممن كفروا به وكذبوا بكتابه فلم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه.
وقوله تعالى: { ولن تجد من دونه ملتحدا } أي إنك إن لم تتل كتابه الذي أوحاه إليك وتعمل بما فيه فنالك ما أوعد به الكافرين المعرضين عن ذكره. { ولن تجد من دونه ملتحدا } أي موئلا تميل إليه وملجأ تحتمي به وإذا كان مثل هذا الوعيد الشديد يوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم فغيره ممن تركوا تلاوة القرآن والعمل به فلا أقاموا حدوده ولا أحلوا حلاله ولا حرموا حرامه أولى بهذا الوعيد وهو حائق بهم لا محالة إن لم يتوبوا قبل موتهم وقوله تعالى: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } نزل هذا التوجيه للرسول صلى الله عليه وسلم عندما عرض عليه المشركون إبعاد أصحابه الفقراء كبلال وصهيب وغيرهما ليجلسوا إليه ويسمعوا منه فنهاه ربه عن ذلك وأمره أن يحبس نفسه مع أولئك الفقراء المؤمنين { الذين يدعون } ربهم في صلاتهم في الصباح والمساء لا يريدون بصلاتهم وتسبيحهم ودعائهم عرضا من أعراض الدنيا وإنما يريدون رضا الله ومحبته بطاعته في ليلهم ونهارهم.
وقوله تعالى: { ولا تعد عيناك عنهم } أي لا تتجاوز ببصرك هؤلاء المؤمنين الفقراء إلى أولئك الأغنياء تريد مجالستهم للشرف والفخر وقوله { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } فجعلناه غافلا عن ذكرنا وذكر وعدنا ووعيدنا ليكون من الهالكين لعناده وكبريائه وظلمه.
{ وكان أمره فرطا } أي ضياعا وهلاكا، وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق { وقل الحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر } أي هذا الذي جئت به وأدعوا إليه من الايمان والتوحيد والطاعة لله بالعمل الصالح هو { الحق من ربكم } أيها الناس. { فمن شآء } الله هدايته فآمن وعمل صالحا فقد نجاه ومن لم يشأ الله هدايته فبقي على كفره فلم يؤمن فقد خاب وخسر.
وقوله: { إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها } أي جدرانها النارية، { وإن يستغيثوا } من شدة العطش { يغاثوا بمآء كالمهل } رديئا ثخنا { يشوي الوجوه } إذا أدناه الشارب من وجهه ليشرب شوى جلده ووجهه ولذا قيل فيه ذم له. { بئس الشراب وسآءت } أي جهنم { مرتفقا } في منزلها وطعامها وشرابها إذ كله سوء وعذاب هذا وعيد من اختار الكفر على الإيمان وأما وعد من آمن وعمل صالحا وقد تضمنته الآيتان [31-32] إذ قال تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } هذا حكمنا الذي لا تبديل له وبين تعالى أجرهم على إيمانهم وإحسان أعمالهم فقال: { أولئك لهم جنات عدن } أي إقامة دائمة { تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرآئك } وهي الأسرة بالحجلة. ثم أثنى الله تعالى على نعيمهم الذي أعده لهم بقوله: { نعم الثواب } الذي أثيبوا به { وحسنت } الجنة في حليها وثيابها وفرشها وأسرتها وطعامها وشرابها وحورها ورضوان الله فيها { وحسنت مرتفقا } يرتفقون فيه وبه، جعلنا الله من أهلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان خيبة وخسران المعرضين عن كتاب الله فلم يتلوه ولم يعملوا بما جاء فيه من شرائع وأحكام.
2- الترغيب في مجالسة أبناء الآخرة وهم الفقراء الصابرون وترك أبناء الدنيا والإعراض عما هم فيه.
3- على الداعي إلى الله تعالى أن يبين الحق، والناس بعد بحسب ما كتب لهم أو عليهم.
4- الترغيب والترهيب بذكر جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين.
5- عذاب النار شر عذاب، ونعيم الجنة، نعم النعيم ولا يهلك على الله إلا هالك.
[18.32-38]
شرح الكلمات:
واضرب لهم مثلا: أي اجعل لهم مثلا هو رجلين... الخ.
جنتين: أي بستانين.
وحففناهما بنخل: أي أحطناهما بنخل.
آتت أكلها: أي أعطت ثمارها وهو ما يؤكل.
ولم تظلم منهم شيئا: أي ولم تنقص منه شيئا بل أتت به كاملا ووافيا.
خلالهما نهرا: أي خلال الأشجار والنخيل نهرا جاريا.
وهو يحاوره: أي يحادثه ويتكلم معه.
وأعز نفرا: أي عشيرة ورهطا.
تبيد: أي تفنى وتذهب.
خيرا منها منقلبا: أي مرجعا في الآخرة.
أكفرت بالذي خلقك من تراب؟!: الاستفهام للتوبيخ والخلق من تراب باعتبار الأصل هو آدم.
من نطفة: أي مني.
ثم سواك: أي عدلك وصيرك رجلا.
لكنا: أي لكن أنا، حذفت الألف وأدغمت النون في النون فصارت لكنا.
هو الله ربي: أي أنا أقول الله ربي.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم واضرب لأولئك المشركين المتكبرين الذين اقترحوا عليك أن تطرد الفقراء المؤمنين من حولك حتى يجلسوا إليك ويسمعوا منك { واضرب لهم } أي اجعل لهم مثلا: { رجلين } مؤمنا وكافرا { جعلنا لأحدهما } وهو الكافر { جنتين من أعناب وحففناهما بنخل } أي أحطناهما بنخل، { وجعلنا بينهما } أي بين الكروم والنخيل { زرعا } { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا } أي لم تنقص منه شيئا { وفجرنا خلالهما نهرا } ليسقيهما. { وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره } أي في الكلام يراجعه، ويفاخره: { أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا } أي عشيرة ورهطا، قال هذا فخرا وتعاظما. { ودخل جنته } والحال أنه { ظالم لنفسه } بالكفر والكبر وقال: { مآ أظن أن تبيد هذه } يشير إلى جنته { أبدا } أي لا تفنى. { ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي } كما تقول أنت { لأجدن خيرا منها } أي من جنتي { منقلبا } أي مرجعا إن قامت الساعة وبعث الناس وبعثت معهم. هذا القول من هذا الرجل هو ما يسمى بالغرور النفسي الذي يصاب به أهل الشرك والكبر. وهنا قال له صاحبه المسلم { وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب } وهو الله عز وجل حيث خلق أباك آدم من { تراب ثم من نطفة } أي ثم خلقك أنت من نطفة أي من مني { ثم سواك رجلا } وهذا توبيخ من المؤمن للكافر المغرور ثم قال له: { لكنا هو الله ربي } أي لكن أنا أقول هو الله ربي، { ولا أشرك بربي أحدا } من خلقه في عبادته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال للوصول بالمعاني الخفية إلى الأذهان.
2- بيان صورة مثالية لغرس بساتين النخل والكروم.
3- تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء.
4- التنديد بالكبر والغرور حيث يفضيان بصاحبهما إلى الشرك والكفر.
[18.39-44]
شرح الكلمات:
ما شاء الله: أي يكون وما لم يشأ لم يكن.
حسبانا من السماء: أي عذابا ترمى به فتؤول إلى أرض ملساء دحضا لا يثبت عليها قدم.
أو يصبح ماؤها غورا: أي غائرا في أعماق الأرض فلا يقدر على استنباطه وإخراجه.
وأحيط بثمره: أي هلكت ثماره، فلم يبق منها شيء.
يقلب كفيه: ندما وحسرة على ما أنفق فيها من جهد كبير ومال طائل.
وهي خاوية على عروشها: أي ساقطة على أعمدتها التي كان يعرش بها للكرم، وعلى جدران مبانيها.
فئة: جماعة من الناس قوية كعشيرته من قومه.
هنالك: أي حين حل العذاب بصاحب الجنتين أي يوم القيامة.
الولاية: أي الملك والسلطان الحق لله تعالى.
خير ثوابا وخير عقبا: أي الله تعالى خير من يثيب وخير من يعقب أي يجزي بخير.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في المثل المضروب للمؤمن الفقير والكافر الغني فقد قال المؤمن للكافر ما أخبر تعالى به في قوله: { ولولا إذ دخلت جنتك } أي هلا إذ دخلت بستانك قلت عند تعجبك من حسنه وكماله { ما شآء الله } أي كان { لا قوة إلا بالله } أي لا قوة لأحد على فعل شيء أو تركه إلا بإقدار الله تعالى له وإعانته عليه قلل هذا المؤمن نصحا للكافر وتوبيخا له. ثم قال له { إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا } اليوم { فعسى ربي } أي فرجائي في الله { أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها } أي على جنة الكافر { حسبانا من السمآء } أي عذابا ترمى به. { فتصبح صعيدا زلقا }: أي ترابا أملس لا ينبت زرعا ولا يثبت عليه قدم. { أو يصبح مآؤها غورا } الذي تسقى به غائرا في أعماق الأرض فلن تقدر على إستخراجه مرة أخرى، وهو معنى { فلن تستطيع له طلبا }.
وقوله تعالى: في الآيات [40]، [41]، [42] يخبر تعالى أن رجاء المؤمن قد تحقق إذ قد أحيط فعلا ببستان الكافر فهلك ما فيه من ثمر { فأصبح يقلب كفيه } ندما وتحسرا { على مآ أنفق فيها } من جهد ومال في جنته { وهي خاوية على عروشها } أي ساقطة على أعمدة الكرم التي كان يعرشها للكرم أي يحمله عليها كما سقطت جدران مبانيها على سقوفها وهو يتحسر ويتندم ويقول: { يليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له } جماعة قوية تنصره { من دون الله وما كان } المنهزم { منتصرا } لأن من خذله الله لا ناصر له. قال تعالى: في نهاية المثل هو أشبه بقصة { هنالك } أي يوم القيامة { الولاية } أي القوة والملك والسلطان { لله } أي المعبود { الحق } لا لغيره من الأصنام والأحجار { هو } تعالى { خير ثوابا } أي خير من يثيب على الإيمان والعمل الصالح.
{ وخير عقبا } أي خير يعقب أي يجزي بحسن العواقب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مآل المؤمنين كصهيب وسلمان وبلال، وهو الجنة ومآل الكافرين كأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وهو النار.
2- استحباب قول من أعجبه شيء: { ما شآء الله لا قوة إلا بالله } فإنه لا يرى فيه مكروها إن شاء الله.
3- استجابة الله تعالى لعباده المؤمنين وتحقيق رجائهم فيه سبحانه وتعالى.
4- المخذول من خذله الله تعالى فإنه لا ينصر أبدا.
5- الولاية بمعنى الموالاة النافعة للعبد هي موالاة الله تعالى لا موالاة غيره.
6- الولاية بمعنى الملك والسلطان لله يوم القيامة ليست لغيره إذ الملك والأمر كلاهما لله تعالى.
[18.45-46]
شرح الكلمات:
المثل: الصفة المعجبة.
هشيما: يابسا متفتتا.
تذروه الرياح: أي تنثره الرياح وتفرقه لخفته ويبوسته.
مقتدرا: أي كامل القدرة لا يعجزه شيء.
زينة الحياة الدنيا: أي يتجمل بما فيها.
والباقيات الصالحات: هي الأعمال الصالحة من سائر العبادات والقربات.
وخير أملا: أي ما يأمله الإنسان وينتظره من الخير.
معنى الآيات:
هذا مثل آخر مضروب أي مجعول للحياة الدنيا حيث اغتر بها الناس وخدعتهم فصرفتهم عن الله تعالى ربهم فلم يذكروه ولم يشكروه فاستوجبوا غضبه وعقابه.
قال تعالى: في خطاب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: { واضرب لهم } أي لأولئك المغرورين بالمال والسلطان { مثل الحياة الدنيا } أي صفتها الحقيقية التي لا تختلف عنها بحال { كمآء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض } فزها وازدهر واخضر وأنظر، فأعجب أصحابه، وأفرحهم وسرهم ما يأملون منه. وفجأة أتاه أمر الله برياح لاحفة، محرقة، { فأصبح هشيما } أي يابسا متهشما متكسرا { تذروه الرياح } هنا وهناك { وكان الله على كل شيء مقتدرا } أي قادرا كامل القدرة، فأصبح أهل الدنيا مبلسين أيسين من كل خير.
وقوله تعالى: { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } إنه بعد أن ضرب المثل للحياة الدنيا التي غرت أبناءها فأوردتهم موارد الهلاك أخبر بحقيقة أخرى، يعلم فيها عباده لينتفعوا بها، وهي أن { المال والبنون } أو الأولاد { زينة الحياة الدنيا } لا غير أي يتجمل بهما ساعة ثم يبيدان ويذهبان، فلا يجوز الاغترار بهما، بحيث يصبحان هم الإنسان في هذه الحياة فيصرفانه عن طلب سعادة الآخرة بالإيمان وصالح الأعمال، هذا جزء الحقيقة في هذه الآية، والجزء الثاني هو أن { والباقيات الصالحات } والمراد بها أفعال البر وضروب العبادات ومنها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أي هذه { خير عند ربك ثوابا } أي جزاء وثمارا، يجنيه العبد من الكدح المتواصل في طلب الدنيا مع الإعراض عن طلب الآخرة، { وخير أملا } يأمله الإنسان من الخير ويرجوه ويرغب في تحصيله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان حقارة الدنيا وسوء عاقبتها.
2- تقرير أن المال والبنين لا يعدوان كونهما زينة، والزينة سريعة الزوال وهما كذلك فلا يجوز الاغترار بهما، وعلى العبد أن يطلب ما يبقى على ما يفنى وهو الباقيات الصالحات من أنواع البر والعبادات من صلاة وذكر وتسبيح وجهاد. ورباط، وصيام وزكاة.
[18.47-49]
شرح الكلمات:
نسير الجبال: أي تقتلع من أصولها وتصير هباء منبثا.
بارزة: ظاهرة إذ فنى كل ما كان عليها من عمران.
فلم نغادر: لم نترك منهم أحدا.
موعدا: أي ميعادا لبعثكم أحياء للحساب والجزاء.
ووضع الكتاب: كتاب الحسنات وكتاب السيئات فيؤتاه المؤمن بيمينه والكافر بشماله..
مشفقين: خائفين.
يا ويلتنا: أي يا هلكتنا احضري هذا أوان حضورك.
لا يغادر صغيرة: أي لا يترك صغيرة من ذنوبنا ولا كبيرة إلا جمعها عدا.
ما عملوا حاضرا: مثبتا في كتابهم، مسجلا فيها.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى مآل الحياة الدنيا وأنه الفناء والزوال ورغب في الصالحات وثوابها المرجو يوم القيامة، ناسب ذكر نبذة عن يوم القيامة، وهو يوم الجزاء على الكسب في الحياة الدنيا قال تعالى: { ويوم نسير الجبال } أي اذكر { ويوم نسير } أي تقتلع من أصولها وتصير هباء منبثا، { وترى الأرض بارزة } ظاهرة ليس عليها شيء، فهي قاع صفصف { وحشرناهم } أي جمعناهم من قبورهم للموقف { فلم نغادر منهم أحدا } أي لم نترك منهم أحدا كائنا من كان، { وعرضوا على ربك } أيها الرسول صفا وقوفا أذلاء، وقيل لهم توبيخا وتقريعا: { لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } لا مال معكم ولا سلطان لكم بل حفاة عراة غرلا، جمع أغرل، وهو الذي لم يختتن.
وقوله تعالى: { بل زعمتم } أي ادعيتم كذبا أنا لا نجمعكم ليوم القيامة، ولن نجعل لكم موعدا فها أنتم مجموعون لدينا تنتظرون الحساب والجزاء، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما فيه، وقوله تعالى في الآية { ووضع الكتاب } يخبر تعالى عن حال العرض عليه فقال: { ووضع الكتاب } أي كتاب الحسنات والسيئات وأعطى كل واحد كتابه فالمؤمن يأخذه بيمينه والكافر بشماله، { فترى المجرمين } في تلك الساعة { مشفقين } أي خائفين { مما فيه } أي في الكتاب من السيآت { ويقولون يويلتنا } ندما وتحسرا ينادون يا ويلتهم وهي هلاكهم قائلين: { مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة } من ذنوبنا { إلا أحصاها } أي أثبتها عدا.
وقوله تعالى: في آخر العرض { ووجدوا ما عملوا حاضرا } أي من خير وشر مثبتا في كتابهم، وحوسبوا به، وجوزوا عليه { ولا يظلم ربك أحدا } بزيادة سيئة على سيئاته أو بنقص حسنة من حسناته، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرضها على مسامع المنكرين لها.
2- يبعث الإنسان كما خلقه الله ليس معه شيء، حافيا عاريا لم يقطع منه غلفة الذكر.
3- تقرير عقيدة كتب الأعمال في الدنيا وإعطائها أصحابها في الآخرة تحقيقا للعدالة الإلهية.
4- نفي الظلم عن الله تعالى وهو غير جائز عليه لغناه المطلق وعدم حاجته إلى شيء.
[18.50-53]
شرح الكلمات:
اسجدوا لآدم: أي حيوه بالسجود كما أمرتكم طاعة لي.
إلا إبليس: أي الشيطان أبى السجود ورفضه وهو معنى { ففسق عن أمر ربه } أي خرج عن طاعته، ولم يكن من الملائكة، بل كان من الجن، لذا أمكنه أن يعصي ربه!
أفتتخذونه وذريته أولياء؟: الاستفهام للاستنكار، ينكر تعالى على بني آدم اتخاذ الشيطان وأولاده أولياء يطاعون ويوالون بالمحبة والمناصرة، وهم لهم عدو، عجبا لحال بني آدم كيف يفعلون ذلك!؟.
بئس للظالمين بدلا: قبح بدلا طاعة إبليس وذريته عن طاعة الله ورسوله.
المضلين عضدا: أي ما كنت متخذ الشياطين من الإنس والجن أعوانا في الخلق والتدبير، فكيف تطيعونهم وتعصونني.
موبقا: أي واديا من أودية جهنم يهلكون فيه جميعا هذا إذا دخلوا النار، أما ما قبلها فالموبق، حاجز بين المشركين، وما كانوا يعبدون بدليل قوله: { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها }.
مواقعوها: أي واقعوان فيها ولا يخرجون منها أبدا.
ولم يجدوا عنها مصرفا: أي مكانا غيرها ينصرفون إليه لينجوا من عذابها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في إرشاد بني آدم وتوجيههم إلى ما ينجيهم من العذاب ويحقق لهم السعادة في الدارين، قال تعالى في خطاب رسوله واذكر لهم { وإذ قلنا للملائكة } وهم عبادنا المكرمون { اسجدوا لأدم } فامتثلوا أمرنا وسجدوا إلا إبليس. لكن إبليس الذي يطيعه الناس اليوم كان من الجن وليس من الملائكة لم يسجد، ففسق بذلك عن أمرنا وخرج عن طاعتنا. { أفتتخذونه } أي أيصح منكم يا بني آدم أن تتخذوا عدو أبيكم وعدو ربكم وعدوكم أيضا وليا توالونه وذريته بالطاعة لهم والاستجابة لما يطلبون منكم من أنواع الكفر والفسق { بئس للظالمين } أنفسهم { بدلا } طاعة الشيطان وذريته وولايتهم عن طاعة الله ورسوله وولايتهما.
وقوله تعالى: { مآ أشهدتهم خلق السموت والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا } يخبر تعالى بأنه المنفرد بالخلق والتدبير ليس له وزير معين فكيف يعبد الشيطان وذريته، وأنا الذي خلقتهم وخلقت السماوات والأرض وخلقت هؤلاء الذين يعبدون الشيطان، ولم أكن { متخذ المضلين } وهم الشياطين من الجن والإنس الذين يضلون عبادنا عن طريقنا الموصل إلى رضانا وجنتنا، أي لم أكن لأجعل منهم معينا لي يعضدني ويقوي أمري وخلاصة ما في الآية أن الله تعالى ينكر على الناس عبادة الشياطين وهي طاعتهم وهم مخلوقون وهو خالقهم وخالق كل شيء.
وقوله تعالى: { ويوم يقول نادوا شركآئي الذين زعمتم } أي أذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين المعرضين عن عبادة الله إلى عبادة عدوه الشيطان، أذكر لهم يوم يقال لهم في عرصات القيامة { نادوا شركآئي الذين } أشركتموهم في عبادتي زاعمين أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم فيخلصونكم من عذابنا.
قال تعالى { فدعوهم } يا فلان!! يا فلان... { فلم يستجيبوا لهم } إذ لا يجرؤ أحد ممن عبد من دون الله أن يقول رب هؤلاء كانوا يعبدونني. قال تعالى: { وجعلنا بينهم موبقا } أي حاجزا وفاصلا من عداوتهم لبعضهم. وحتى لا يتصل بعضهم ببعض في عرصات القيامة. وقوله تعالى: { ورأى المجرمون النار } أي يؤتى بها تجر بالسلاسل حتى تبرز لأهل الموقف فيشاهدونها وعندئذ يظن المجرمون أي يوقنوا { أنهم مواقعوها } أي داخلون فيها. { ولم يجدوا عنها مصرفا } أي مكانا ينصرفون إليه لأنهم محاطون بالزبانية، والعياذ بالله من النار وعذابها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عداوة إبليس وذريته لبني آدم.
2- العجب من بني آدم كيف يطيعون عدوهم ويعصون ربهم!!
3- لا يستحق العبادة العبادة أحد سوى الله عز وجل لأنه الخالق لكل مبعود مما عبد من سائر المخلوفات.
4- بيان خزي المشركين يوم القيامة حيث يطلب إليهم أن يدعوا شركاءهم لاغاثتهم فيدعونهم فلا يستجيبون لهم.
5- جمع الله تعالى المشركين وما كانوا يعبدون من الشياطين في موبق واحد في جهنم وهو وادي من شر أودية جهنم وأسوأها.
[18.54-59]
شرح الكلمات:
صرفنا: أي بينا وكررنا البيان.
من كل مثل: المثل الصفة المستغربة العجيبة.
جدلا: أي مخاصمة بالقول.
سنة الأولين: أي العذاب بالإبادة الشاملة والاستئصال التام.
قبلا: عيانا ومشاهدة.
ليدحضوا به الحق: أي يبطلوا به الحق.
هزوا: أي مهزوءا به.
أكنة: أغطية.
وفي آذانهم وقرا: أي ثقلا فهم لا يسمعون.
موئلا: أي مكانا يلجأون إليه.
لمهلكهم موعدا: أي وقتا معينا لإهلاكهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان حجج الله تعالى على عباده ليؤمنوا به ويعبدوه وحده فينجوا من عذابه ويدخلوا دار كرامته فقال تعالى: { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل } أي ضربنا فيه الأمثال الكثيرة وبينا فيه الحجج العديدة، { صرفنا في هذا القرآن } من الوعد والوعيد ترغيبا وترهيبا، وقابلوا كل ذلك بالجحود والمكابرة، { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } فأكثر هم الإنسان يصرفه في الجدل والخصومات حتى لا يذعن للحق ويسلم به ويؤديه إن كان عليه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى: [54] أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن الناس ما منعهم { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى } وهو بيان طريق السعادة والنجاة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الكفر والشرك وسوء الأعمال { ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين } بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة، { أو يأتيهم } عذاب يوم القيامة معاينة وهو معنى قوله تعالى: { أو يأتيهم العذاب قبلا } وحينئذ لا ينفع الإيمان. وقوله تعالى: { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } أي دعاة هداة يبشرون من آمن وعمل صالحا بالجنة وينذرون من كفر، وعمل سوءا بالنار. فلم نرسلهم جبارين ولم نكلفهم بهداية الناس أجمعين، لكن الذين كفروا يتعامون عن هذه الحقيقة ويجادلون { ليدحضوا به الحق }. { واتخذوا } آيات الله وحججه { ومآ أنذروا } به من العذاب اللازم لكفرهم وعنادهم اتخذوه سخرية وهزءا يهزءون به ويسخرون منه وبذلك أصبحوا من أظم الناس. وهو ما قررته الآية [57] إذ قال تعالى فيها: { ومن أظلم ممن ذكر بآيت ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه } أي من الإجرام والشر والشرك. اللهم إنه لا أحد أظلم من هذا الإنسان الكافر العنيد. ثم ذكر تعالى سبب ظلم وإعراض ونسيان هؤلاء الظلمة المعرضين الناسين وهو أنه تعالى حسب سنته فيمن توغل في الشر والظلم والفساد يجعل على قلبه كنانا يحيطه به فيصبح لا يفقه شيئا. ويجعل في أذنيه ثقلا فلا يسمع الهدى. ولذا قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا } أي بعد ما جعل على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر { أبدا }.
وقوله تعالى: { وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا } أي لو يؤاخذ هؤلاء الظلمة المعرضين { لعجل لهم العذاب } ، ولكن مغفرته ورحمته تأبيان ذلك وإلا لعجل لهم العذاب فأهلكهم أمامكم وأنتم تنظرون.
ولكن { لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا } يئلون إليه ولا ملجأ يلجأون إليه. ويرجح أن يكون يكون ذلك يوم بدر لأن السياق في الظلمة المعاندين المحرومين من هداية الله كأبي جهل وعقبة ابن أبي معيط والأخنس بن شريق، هذا أولا. وثانيا قوله تعالى: { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا } يريد أهل القرى من قوم هود وقوم صالح وقوم لوط. { وجعلنا لمهلكهم موعدا } أي لهلاكهم موعدا محددا فكذلك هؤلاء المجرمون من قريش، وقد أهلكهم ببدر ولعنهم إلى الأبد.
هداية الآيات:
1- لقد أعذر الله تعالى إلى الناس بما يبين في كتابه من الحجج وما ضرب فيه من الأمثال.
2- بيان غريزة الجدل في الإنسان والمخاصمة.
3- بيان مهمة الرسل وهي البشارة والنذارة وليست إكراه الناس على الإيمان.
4- بيان عظم ظلم من يذكر بالقرآن فيعرض ويواصل جرائمه ناسيا ما قدمت يداه.
5- بيان سنة الله في أن العبد إذا واصل الشر والفساد يحجب عن الإيمان والخير ويحرم الهداية أبدا حتى يهلك كافرا ظالما فيخلد في العذاب المهين.
[18.60-69]
شرح الكلمات:
وإذ قال موسى لفتاه: أي أذكر إذ قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف عليه السلام.
مجمع البحرين: أي حيث ألتقى البحران بحر فارس وبحر الروم.
حقبا: الحقب الزمن وهو ثمانون سنة والجمع أحقاب.
سبيله في البحر سربا: أي طريقه في البحر سربا أي طريقا كالنفق.
فلما جاوزا: أي المكان الذي فيه الصخرة ومنه اتخذ الحوت طريقه في البحر سربا.
في البحر عجبا: أي عجبا لموسى حيث تعجب من إحياء الحوت واتخاذه في البحر طريقا كالنفق في الجبل.
قصصا: أي يتتبعان آثار أقدامهما.
عبدا من عبادنا: هو الخضر عليه السلام.
مما علمت رشدا: أي ما هو رشاد إلى الحق ودليل على الهدى.
ما لم تحط به خبرا: أي علما.
ولا أعصي لك أمرا: أي انتهى إلى ما تأمرني به وإن لم يكن موافقا هواي.
معنى الآيات:
هذه قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وهي تقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتؤكدها. إذ مثل هذا القصص الحق لا يتأتى لأحد أن يقصه ما لم يتلقه وحيا من الله عزوجل. قال تعالى: { وإذ قال موسى } أي أذكر يا رسولنا تدليلا على توحيدنا ولقائنا ونبوتك. إذ قال موسى بن عمران نبينا إلى بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون { لا أبرح } أي سائرا { حتى أبلغ مجمع البحرين } حيث أرشدني ربي إلى لقاء عبد هناك من عباده هو أكثر مني علما حتى أتعلم منه علما ازيده على علمي، { أو أمضي حقبا } أي أواصل سيري زمنا طويلا حتى أظفر بهذا العبد الصالح لأتعلم عنه. قوله تعالى: { فلما بلغا مجمع بينهما } أي بين البحرين وهما بحر الروم وبحر فارس عند باب المندب حيث التقى البحر الأحمر والبحر الهندي. أو البحر الأبيض والأطلنطي عند طنجة والله أعلم بأيها أراد. وقوله { نسيا حوتهما } أي نسي الفتى الحوت، إذ هو الذي كان يحمله، ولكن نسب النسيان إليهما جريا على المتعارف من لغة العرب، وهذا الحوت قد جعله الله تعالى علامة لموسى على وجود الخضر حيث يفقد الحوت، إذ القصة كما في البخاري تبتدئ بأن موسى خطب يوما في بنى إسرائيل فأجاد وأفاد فأعجب به شاب من بني إسرائيل فقال له: هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟ فقال: لا. فأوحى إليه ربه فورا بلى عبدنا خضر، فتاقت نفسه للقياه للتعلم عنه، فسأل ربه ذلك، فأرشده إلى مكان لقياه وهو مجمع البحرين، وجعل له الحوت علامة فأمره أن يأخذ طعامه حوتا وأعلمه أنه إذا فقد الحوت فثم يوجد عبدالله خضر ومن هنا لما بلغا مجمع البحرين واستراحا فنام موسى والفتى شبه نائم وإذا بالحوت يخرج من المكتل (وعاء) ويشق طريقه إلى البحر فينجاب عنه البحر فيكون كالطاق أو النفق آية موسى.
ويغلب النوم على يوشع فينام فلما استراحا قاما مواصلين سيرهما ونسي الفتى وذهب من نفسه خروج الحوت من المكتل ودخوله في البحر لغلبة النوم فلما مشيا مسافة بعيدة وشعرا بالجوع وقد جاوزا المنطقة التي هي مجمع البحرين قال موسى للفتى { آتنا غدآءنا } وعلل ذلك بقوله: { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } أي تعبا. هنا قال الفتى لموسى ما قص الله تعالى: قال مجيبا لموسى { أرأيت } أي أتذكر { إذ أوينآ إلى الصخرة } التي استراحا عندها { فإني نسيت الحوت } وقال كالمعتذر، { ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله } أي طريقه { في البحر عجبا } أي حيي بعد موت ومشى حتى انتهى إلى البحر وانجاب له البحر فكان كالسرب فيه أي النفق فأجابه موسى بما قص تعالى: { قال ذلك ما كنا نبغ } وذلك لأن الله تعالى جعل لموسى فقدان الحوت علامة على مكان الخضر الذي يوجد فيه { فارتدا } أي رجعا { على آثارهما قصصا } أي يتتبعان آثار أقدامهما { فوجدا } خضرا كما قال تعالى: { فوجدا عبدا من عبادنآ } وهو خضر { آتيناه رحمة من عندنا } أي نبوة { وعلمناه من لدنا علما } وهو علم غيب خاص به { قال له موسى } مستعطفا له { هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا } أي مما علمك الله رشدا أي رشادا يدلني على الحق وتحصل لي به هداية فأجابه خضر بما قال تعالى: { قال إنك لن تستطيع معي صبرا } يريد أنه يرى منه أمورا لا يقره عليها وخضر لا بد يفعلها فيتضايق موسى لذلك ولا يطيق الصبر، وعلل له عدم استطاعته الصبر بقوله { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا } أي علما كاملا. فأجابه موسى وقد صمم على الرحلة لطلب العلم مهما كلفه الثمن فقال { ستجدني إن شآء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا } أي سأنتهي إلى ما تأمرني وإن لم يكن موافقا لما أحب وأهوى.
هداية الآيات:
1- عتب الله تعالى على رسوله يا موسى عليه السلام عندما سئل هل هناك من هو أعلم منك فقال لا وكان المفروض أن يقول على الأقل الله أعلم. فعوقب لذلك فكلف هذه الرحلة الشاقة.
2- استحباب الرفقة في السفر، وخدمة التلميذ للشيخ، إذ كان يوشع يخدم موسى بحمل الزاد.
3- طروء النسيان على الانسان مهما كان صالحا.
4- مراجعة الصواب بعد الخطأ خير من التمادي على الخطأ { فارتدا على آثارهما قصصا }؟
5- تجلي قدرة الله تعالى في إحياء الحوت بعد الموت، وانجياب الماء عليه حتى كان كالطاق فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا.
وبه استدل موسى أي بهذا العجب على مكان خضر فوجده هناك.
6- استحباب طلب المزيد من العلم مهما كان المرء عالما وهنا أورد الحديث التالي وهو خير من قنطار ذهبا لمن حفظه وعمل به وهو قول ابن عباس رضي الله عنه قال سأل موسى ربه: قال رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبيدك أقضى؟ قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: أي رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علم نفسه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، وللأثر بقية ذكره ابن جرير عند تفسير هذه الآيات.
[18.70-74]
شرح الكلمات:
ذكرا: أي بيانا وتفصيلا لما خفي عليك.
لقد جئت شيئا إمرا: أي فعلت شيئا منكرا.
لا ترهقني: أي لا تغشني بما يعسر علي ولا أطيق حمله فتضيق علي صحبتي إياك.
نفسا زكية: أي طاهرة لم تتلوث روحها بالذنوب.
بغير نفس: أي بغير قصاص.
نكرا: الأمر الذي تنكره الشرائع والعقول من سائر المناكر! وهو المنكر الشديد النكارة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار الذي بين موسى عليه السلام والعالم الذي أراد أن يصحبه لطلب العلم منه وهو خضر. قوله تعالى: { قال } أي خضر { فإن اتبعتني } مصاحبا لي لطلب العلم { فلا تسألني عن شيء } أفعله مما لا تعرف له وجها شرعيا { حتى أحدث لك منه ذكرا } أي حتى أكون أنا الذي يبين لك حقيقته وما جهلت منه. وقوله تعالى: { فانطلقا } أي بعد رضا موسى بطلب خضر انطلقا يسيران في الأرض فوصلا ميناء من المواني البحرية، فركبا سفينة كان خضر يعرف أصحابها فلم يأخذوا منهما أجر الإركاب فلما أقلعت السفينة، وتوغلت في البحر أخذ خضر فأسا فخرق السفينة، فجعل موسى يحشو بثوب له الخرق ويقول: { أخرقتها لتغرق أهلها } على انهما حملانا بدون نول { لقد جئت شيئا إمرا } أي أتيت يا عالم منكرا فظيعا فأجابه خضر بما قص تعالى: { قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا } فأجاب موسى بما ذكر تعالى عنه: { قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا } أي لا تعاقبني بالنسيان فإن الناسي لا حرج عليه. وكانت هذه من موسى نسيانا حقا ولا تغشني بما يعسر علي ولا أطيقه فاتضايق من صحبتي إياك.
قال تعالى: { فانطلقا } بعد نزولهما من البحر إلى البر فوجدا غلاما جميلا وسيما يلعب مع الغلمان فأخذه خضر جانبا وأضجعه وذبحه فقال له موسى بما أخبر تعالى عنه: { أقتلت نفسا زكية بغير نفس } زاكية طاهرة لم يذنب صاحبها ذنبا تتلوث به روحه ولم يقتل نفسا يستوجب بها القصاص { لقد جئت شيئا نكرا } أي أتيت منكرا عظيما بقتلك نفسا طاهرة ولم تذنب ولم تكن هذه نسيانا من موسى بل كان عمدا أنه لم يطق فعل منكر كهذا لم يعرف له وجها ولا سببا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز الاشتراط في الصحبة وطلب العلم وغيرهما للمصلحة الراجحة.
2- جواز ركوب السفن في البحر.
3- مشروعية إنكار المنكر على من علم أنه منكر.
4- رفع الحرج عن الناس.
5- مشروعية القصاص وهو النفس بالنفس.
[18.75-78]
شرح الكلمات:
قال ألم أقل لك: أي قال خصر لموسى عليهما السلام.
بعدها: أي بعد هذه المرة.
فلا تصاحبني: أي لا تتركني أتبعك.
من لدني عذرا: أي من قبلي " جهتي " عذرا في عدم مصاحبتي لك.
أهل قرية: مدينة أنطاكية.
استطعما أهلها: أي طلبا منهم الطعام الواجب للضيف.
يريد أن ينقض: أي قارب السقوط لميلانه.
فأقامه: أي الخضر بمعنى أصلحه حتى لا يسقط.
أجرا: أي جعلا على إقامته وإصلاحه.
هذا فراق بيني وبينك: أي قولك هذا { لو شئت لتخذت عليه أجرا } هو نهاية الصحبة وبداية المفارقة.
بتأويل: أي تفسير ما كنت تنكره على حسب علمك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في محاورة الخضر مع موسى عليهما السلام، فقد تقدم إنكار موسى على الخضر قتله الغلام بغير نفس، ولا جرم إرتكبه، وبالغ موسى في إنكاره إلى أن قال:
لقد جئت شيئا نكرا
[الكهف: 74] فأجابه خضر بما أخبر تعالى به في قوله: { ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا } لما سألتني الصحبة للتعليم، فأجاب موسى بما أخبر تعالى به في قوله: { قال إن سألتك عن شيء بعدها } أي بعد هذه المرة { فلا تصاحبني } أي اترك صحبتي فإنك { قد بلغت من لدني } أي من جهتي وقبلي عذرا في تركك إياي.
قال تعالى: { فانطلقا } في سفرهما { حتى إذآ أتيآ أهل قرية } " أي مدينة " قيل إنها انطاكية ووصلاها في الليل والجو بارد فاستطعما أهلها أي طلبا منهم طعام الضيف الواجب له { فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها } أي في القرية { جدارا يريد أن ينقض } أي يسقط فأقامة الخضر وأصلحه فقال موسى له: { لو شئت لتخذت عليه أجرا } أي جعل مقابل إصلاحه، لا سيما أن أهل هذه القرية لم يعطونا حقنا من الضيافة. وهنا قال الخضر لموسى: { هذا فراق بيني وبينك } لانك تعهدت إنك إذا سألتني بعد حادثة قتل الغلام عن شيء أن لا تطلب صحبتي وها أنت قد سألتني، فهذا وقت فراقك إذا { سأنبئك } أي أخبرك { بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بما التزم به الإنسان لآخر.
2- وجوب الضيافة لمن استحقها.
3- جواز التبرع بأي خير أو عمل إبتغاء وجه الله تعالى.
[18.79-82]
شرح الكلمات:
المساكين: جمع مسكين وهو الضعيف العاجز عن الكسب.
يعملون في البحر: أي يؤجرون سفينتهم للركاب.
أعيبها: أي أجعلها معيبة حتى لا يرغب فيها.
غصبا: أي قهرا.
أن يرهقهما طغيانا وكفرا: أي يغشاهما: ظلما وجحودا.
وأقرب رحما: أي رحمة إذ الرحم والرحمة بمعنى واحد.
وما فعلته عن أمري: أي عن اختيار مني بل بأمر ربي جل جلاله وعظم سلطانه.
معنى الآيات:
هذا آخر حديث موسى والخضر عليهما السلام، فقد واعد الخضر موسى عندما أعلن له عن فراقه أن يبين له تأويل مالم يستطع عليه صبرا، وهذا بيانه قال تعالى " حكاية عن الخضر " { أما السفينة } التي خرقتها وأنكرت علي ذلك { فكانت لمساكين يعملون في البحر } يؤجرون سفينتهم بما يحصل لهم بعض القوت { فأردت أن أعيبها } لا لأغرق أهلها، { وكان ورآءهم ملك } ظالم { يأخذ كل سفينة } صالحة { غصبا } أي قهرا وإنما أردت أن أبقيها لهم إذ الملك المذكور لا يأخذ إلا السفن الصالحة { وأما الغلام } الذي قتلت وأنكرت علي قتله { فكان أبواه مؤمنين فخشينآ } إن كبر { أن يرهقهما } أي يغشيهما { طغيانا وكفرا فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة } أي طهرا وصلاحا { وأقرب رحما } أي رحمة وبرا بهما فلذا قتلته، { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما } أي سن الرشد { ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } أي كان ذلك رحمة { وما فعلته عن أمري } أي عن إرادتي وإختياري بل كان بأمر ربي وتعليمه. { ذلك } أي هذا { تأويل ما لم تسطع عليه صبرا }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ضروب من خفي ألطاف الله تعال فعلى المؤمن أن يرضى بقضاء الله تعالى وإن كان ظاهره ضارا.
2- بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه بما ظاهره عذاب ولكن في باطنه رحمة.
3- مراعاة صلاح الأباء في إصلاح حال الأبناء.
4- كل ما أتاه الخضر كان بوحي إلهي وليس هو مما يدعيه جهال الناس ويسمونه بالعلم اللدني وأضافوه إلى من يسمونهم الأولياء، وقد يسمونه كشفا، ويؤكد بطلان هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الخضر قال لموسى: أنا على علم مما علمني ربي وأنت على علم مما علمك الله وإن علمي وعلمك إلى علم الله إلا كما يأخذ الطائر بمنقاره من البحر.
[18.83-93]
شرح الكلمات:
ويسألونك: أي كفار قريش بتعليم يهود لهم.
ذي القرنين: الإسكندر باني الإسكندرية المصرية الحميري أحد الملوك التبابعة وكان عبدا صالحا.
سأتلوا عليكم منه ذكرا: سأقص عليكم من حاله خيرا يحمل موعظة وعلما.
مكنا له في الأرض: بالحكم والتصرف في ممالكها.
من كل شيء سببا: أي يحتاج إليه سببا موصلا إلى مراده.
فأتبع سببا: أي فأتبع السبب سببا آخر حتى انتهى إلى مراده.
تغرب في عين حمئة: ذات حماة وهي الطين الأسود وغروبها إنما هو نظر العين وإلا فالشمس في السماء والبحر في الأرض.
قوما: أي كافرين.
عذابا نكرا: أي عظيما فظيعا.
يسرا: أي لينا من القول سهلا من العمل.
قوم لم نجعل لهم من دونها سترا: القوم هم الزنج ولم يكن لهم يومئذ ثياب يلبسونها ولا منازل يسكنونها وإنما لهم أسراب في الأرض يدخلون فيها.
كذلك: أي الأمر كما قلنا لك ووصفنا.
بين السدين: السدان جبلان شمال شرق بلاد الترك سد ذو القرنين ما بينهما فقيل فيهما سدان.
قوما لا يكادون يفقهون قولا: لا يفهمون كلام من يخاطبهم إلا بشدة وبطء وهم يأجوج ومأجوج.
معنى الآيات:
هذه قصة العبد الصالح ذي القرنين الحميري التبعي على الراجح من أقوال العلماء، وهو الأسكندر باني الأسكندرية المصرية، ولأمر ما لقب بذي القرنين، وكان قد تضمن سؤال قريش النبي صلى الله عليه وسلم بإيعاذ من يهود المدينة ذا القرنين إذ قالوا لقريش سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فإن أجابكم عنها فإنه نبي، وإلا فهو غير نبي فروا رأيكم فيه فكان الجواب عن الروح في سورة الإسراء وعن الفتية وذي القرنين في سورة الكهف هذه وقد تقدم الحديث التفصيلي عن أصحاب الكهف في أول السورة وهذا بدء الحديث المتضمن للإجابة عن الملك ذي القرنين عليه السلام قال تعالى: { ويسألونك } يا نبينا { عن ذي القرنين قل } للسائلين من مشركي قريش { سأتلوا عليكم منه ذكرا } أي سأقرأ عليكم من أمره وشأنه العظيم ذكرا خبرا يحمل الموعظة والعلم والمعرفة: وقوله تعالى: { إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا } هذه بداية الحديث عنه فأخبر تعالى أنه مكن له في الأرض بالملك والسلطان، وأعطاه من كل شيء يحتاج إليه في فتحه الأرض ونشر العدل والخير فيها سببا يوصله إلى ذلك، وقوله { فأتبع سببا } حسب سنة الله في تكامل الأشياء فمن صنع إبرة وتابع الأسباب التي توصل بها إلى صنع الإبرة فإنه يصنع المسلة، وهكذا تابعه بين أسباب الغزو والفتح والسير في الأرض { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } وهي على ساحل المحيط الأطلنطي، وكونها تغرب فيها هو بحسب رأي العين، وإلا فالشمس في السماء والعين الحمئة والمحيط إلى جنبها في الأرض وقوله تعالى: { ووجد عندها } أي عند تلك العين في ذلك الإقليم المغربي { قوما } أي كافرين غير مسلمين فأذن الله تعالى له في التحكم والتصرف فيهم إذ يسر له أسباب الغلبة عليهم وهو معنى قوله تعالى: { قلنا يذا القرنين } وقد يكون نبيا ويكون قوله الله تعالى هذا له وحيا وهو { إمآ أن تعذب } بالأسر والقتل، { وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا } وهذا بعد حربهم والتغلب عليهم فأجاب ذو القرنين ربه بما أخبر تعالى به: { أما من ظلم } أي بالشرك والكفر { فسوف نعذبه } بالقتل والأسر، { ثم يرد إلى ربه } بعد موته { فيعذبه عذابا نكرا } أي فظيعا أليما.
{ وأما من آمن وعمل صالحا } أي أسلم وحسن إسلامه { فله جزآء } على إيمانه وصالح أعماله { الحسنى } أي الجنة في الآخرة { وسنقول له من أمرنا يسرا } فلا نغلظ له في القول ولا نكلفه ما يشق عليه ويرهقه.
وقوله تعالى: { ثم أتبع سببا } أي ما تحصل عليه من القوة فتح المغرب استخدمه في مواصلة الغزو والفتح في المشرق { حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم } بدائيين لم تساعدهم الأرض التي يعشيون عليها على التحضر فلذا هم لا يبنون الدور ولا يلبسون الثياب، ولكن يسكنون الكهوف والمغارات والسراديب وهو ما دل عليه قوله تعالى: { لم نجعل لهم من دونها } أي الشمس { سترا }. وقوله تعالى: { كذلك } أي القول الذي قلنا والوصف الذي وصفنا لك من حال ذي القرنين { وقد أحطنا بما لديه } من قوة وأسباب مادية وروحية { خبرا } أي علما كاملا. وقوله تعالى: { ثم أتبع } أي ذو القرنين { سببا } أي واصل طريقه في الغزو والفتح { حتى إذا بلغ بين السدين } وهما جبلان بأقصى الشمال الشرقي للأرض بنى ذو القرنين بينهما سدا عظيما حال به دون غزو يأجوج ومأجوج للإقليم المجاور لهم، وهم القوم الذين قال تعالى عنهم { وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا } فلا يفهمون ما يقال لهم ويخاطبون به إلا بشدة وبطء كبير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ هذا جواب آخر أسئلة قريش الثلاثة. قرأه عليهم قرآنا موحى به إليه.
2- إتباع السبب السبب ويصل به ذو الرأي والإرادة إلى تحقيق ما هو كالمعجزات.
3- قول: ذو القرنين: { أما من ظلم..... الخ } يجب أن يكون مادة دستورية يحكم به الأفراد والجماعات لصدقها وإجابيتها وموافقتها لحكم الله تعالى ورضاه، ومن الأسف أن يعكس هذا القول السديد والحكم الرشيد فيصبح أهل الظلم مكرمين لدى الحكومات، وأهل الإيمان والإستقامة مهانين!!
4- بيان وجود أمم بدائية إلى عهد ما بعد ذي القرنين لا يلبسون ثيابا ولا يسكنون سوى الكهوف والمغارات ويوجد في البلاد الكيئية إلى الآن قبائل لا يرتدون الثياب، وإنما يضعون على فروجهم خيوط وسيور لا غير.
5- تقرير أن هذا الملك الصالح قد ملك الأرض فهو أحد أربعة حكموا الناس شرقا وغربا.
[18.94-101]
شرح الكلمات:
يأجوج ومأجوج: قبيلتان من أولاد يافث بن نوح عليه السلام والله أعلم.
نجعل لك خرجا: أي جعلا مقابل العمل.
سدا: السد بالفتح والضم الحاجز المانع بين شيئين.
ردما: حاجزا حصينا وهو السد.
زبر الحديد: جمع زبرة قطعة من حديد على قدر الحجرة التي يبنى بها.
بين الصدفين: أي صدف الجبلين أي جانبهما.
قطرا: القطر النحاس المذاب.
فما اسطاعوا أن يظهروه: أي عجزوا عن الظهور فوقه لعلوه وملاسته.
نقبا: أي فتح ثغرة تحت تحته ليخرجوا معها.
جعله دكا: أي ترابا مساويا للأرض.
وتركنا بعضهم: أي يأجوج ومأجوج أي يذهبون ويجيئون في اضطراب كموج البحر.
أعينهم في غطاء عن ذكري: أي عن القرآن لا يفتحون أعينهم فيما تقرأه عليهم بغضا له أو أعين قلوبهم وهي البصائر فهي في أكنة لا تبصر الحق ولا تعرفه.
لا يستطيعون سمعا: لبغضهم للحق والداعي إليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حديث ذي القرنين إذ شكا إليه سكان المنطقة الشمالية الشرقية من الأرض، بما أخبر تعالى به عنهم إذ قال: { قالوا يذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } أي بالقتل والأكل والتدمير والتخريب، { فهل نجعل لك خرجا } أي أجرا { على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } أي حاجزا قويا لا يصلون معه إلينا. فأجابهم ذو القرنين بما أخبر الله تعالى به في قوله: { قال ما مكني فيه ربي } من المال القوة والسلطان { خير } أي من جعلكم وخرجكم { فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما } أي أي سدا قويا وحاجزا مانعا { آتوني زبر الحديد } أي قطع الحديد كل قطعة كاللبنة المضروبة ، فجاءوا به إليه فأخذ يضع الحجارة وزبر الحديد ويبني حتى ارتفع البناء فساوى بين الصدفين جانبي الجبلين، وقال لهم { انفخوا } أي النار على الحديد { حتى إذا جعله نارا } قال آتوني بالنحاس المذاب أفرغ عليه قطرا فأتوه به فأفرغ عليه من القطر ما جعله كأنه صفيحة واحدة من نحاس { فما اسطاعوا } أي يأجوج ومأجوج { أن يظهروه } أي يعلوا فوقه، { وما استطاعوا له نقبا } أي خرقا فلما نظر إليه وهو جبل شامخ وحصن حصين قال هذا من رحمة ربي أي من أثر رحمة ربي علي وعلى الناس وأردف قائلا { فإذا جآء وعد ربي } وهو خروج يأجوج ومأجوج عند قرب الساعة { جعله دكآء } أي ترابا مساويا للأرض، { وكان وعد ربي حقا } وهذا مما وعد به وأنه كائن لا محالة قال تعالى: { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } أي مختلطين مضطربين إنسهم وجنهم { ونفخ في الصور } نفخة البعث { فجمعناهم } للحساب والجزاء { جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا } حقيقيا يشاهدونها فيه من قرب، ثم ذكر ذنب الكافرين وعلة عرضهم على النار فقال: وقوله الحق: { الذين كانت أعينهم في غطآء عن ذكري } أي أعين قلوبهم وهي البصائر فلذا هم لا ينظرون في آيات الله الكونية فيستدلون بها على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها، ولا في آيات الله القرآنية فيهتدون بها إلى أنه لا إله إلا الله ويعبدونه بما تضمنته الآيات القرآنية، { وكانوا لا يستطيعون سمعا } للحق ولما يدعوا إليه رسل الله من الهدى والمعروف.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الجعالة للقيام بالمهام من الأعمال.
2- فضيلة التبرع بالجهد الذاتي والعقلي.
3- مشروعية التعاون على ما هو خير، أو دفع للشر.
4- تقرير وجود أمة يأجوج ومأجوج وأن خروجهم من أشراط الساعة.
5- تقرير البعث والجزاء.
[18.102-106]
شرح الكلمات:
أفحسب الذين كفروا: الاستفهام للتقريع والتوبيخ.
أن يتخذوا عبادي: كالملائكة وعيسى بن مريم والعزير وغيرهم.
أولياء: أربابا يعبدوهم بأنواع من العبادات.
نزلا: النزل: ما يعد للضيف من قرى وهو طعامه وشرابه ومنامه.
ضل سعيهم: أي بطل عملهم وفسد عليهم فلم ينتفعوا به.
يحسنون صنعا: أي بعمل يجازون عليه بالخير وحسن الجزاء.
بآيات ربهم: أي بالقرآن وما فيه من دلائل التوحيد والأحكام الشرعية.
ولقائه: أي كفروا بالبعث والجزاء.
وزنا: أي لا نجعل لهم قدرا ولا قيمة بل نزدريهم ونذلهم.
ذلك: أي أولئك جزاؤهم جهنم وأطلق لفظ ذلك بدل أولئك، لأنهم بكفرهم وحبوط أعمالهم أصبحوا غثاء كغثاء السيل لا خير فيه ولا وزن له فحسن أن يشار إليه بذلك.
معنى الآيات:
ينكر تعالى على المشركين شركهم ويوبخهم مقرعا لهم على ظنهم أن اتخاذهم عباده من دونه أولياء يعبدونهم كالملائكة حيث عبدهم بعض العرب والمسيح حيث عبده النصارى، والعزير حيث عبده بعض اليهود، لا يغضبه تعالى ولا يعاقبهم عليه. وكيف لا يغضبه ولا يعاقبهم عليه وقد أعد جهنم للكافرين نزلا أي دار ضيافة لهم فيها طعامهم وفيها شرابهم وفيها فراشهم كما قال تعالى
لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش
[الأعراف: 41] هذا ما دلت عليه الآية الأولى [102] وهي قوله تعالى { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أوليآء إنآ أعتدنا جهنم للكافرين نزلا }. وقوله تعالى في الآية الثانية [103] يخبر تعالى بأسلوب الاستفهام للتشويق للخبر فيقول { قل هل ننبئكم } أيها المؤمنون { بالأخسرين أعمالا } إنهم { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } أي عملا، ويعرفهم فيقول { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم } فلم يؤمنوا بها، وبلقاء ربهم فلم يعملوا العمل الذي يرضيه عنهم ويسعدهم به وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي شرعه الله لعباده المؤمنين به يتقربون به إليه. فلذلك حبطت أعمالهم لأنها شرك وكفر وشر وفساد، { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } إذ لا قيمة لهم ولا لأعمالهم الشركية الفاسدة الباطلة فإن أحدهم لا يزن جناح بعوضة لخفته.
وأخيرا أعلن تعالى عن حكمه فيهم وعليهم فقال { ذلك } أي المذكور من غثاء الخلق { جزآؤهم جهنم } وعلل للحكم فقال: { بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا } أي بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات ربهم وبرسله فكان الحكم عادلا، والجزاء موافقا والحمد الله رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير شرك من يتخذ الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء آلهة يعبدوهم تحت شعار التقرب إلى الله تعالى والاستشفاع بهم والتوسل إلى الله تعالى بحبهم والتقرب إليهم.
2- تقرير هلاك أصحاب الأهواء الذين يعبدون الله تعالى بغير ما شرع ويتوسلون إليه بغير ما جعله وسيلة لرضاه وجنته. كالخوارج والرهبان من النصارى والمبتدعة الروافض والإسماعيلية، والنصيرية والدروز ومن إليهم من غلاة المبتدعة في العقائد والعبادات والأحكام الشرعية.
3- لا قيمة ولا ثقل ولا وزن لعمل لا يوافق رضا الله تعالى وقبوله له، كما وزن عند الله تعالى لصاحبه، وإن مات خوفا من الله أو شوقا إليه.
[18.107-110]
شرح الكلمات:
كانت لهم: أي جزاء إيمانهم وعملهم الصالح.
الفردوس نزلا: هو وسط الجنة وأعلاها ونزلا منزل إكرام وإنعام.
لا يبغون عنها حولا: أي لا يطلبون تحولا منها لأنها لا خير منها أبدا.
لو كان البحر: أي ماؤه مدادا.
قبل أن تنفد كلمات ربي: أي قبل أن تفرغ.
لنفد البحر: أي ولم تنفذ هي أي لم تفرغ.
يرجو لقاء ربه: يأمل وينتظر البعث والجزاء يوم القيامة حيث يلقى ربه تعالى.
ولا يشرك بعبادة ربه أحدا: أي لا يرائي بعمله أحدا ولا يشرك في عبادة الله تعالى غيره تعالى.
معنى الآيات:
بعدما ذكر تعالى جزاء أهل الشرك والأهواء وأنه جهنم ناسب ذكر جزاء أهل الإيمان والتقوى التي هي عمل الصالحات واجتناب المحرمات فقال: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله، ووعد لأوليائه، ووعيده لأعدائه من أهل الشرك والمعاصي، وعملوا الصالحات فأدوا الفرائض والواجبات وسارعوا في النوافل والخيرات هؤلاء { كانت لهم } في علم الله وحكمه { جنات الفردوس } أي بساتين الفردوس منزلا ينزلونه ودار كرامة يكرمون فيها وينعمون، والفردوس أعلى الجنة وأوسطها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم واصفا لها ومرغبا فيها وقد ارتادها وانتهى إلى مستوى فوقها ليلة الإسراء والمعراج قال:
" إن سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى، ومنه تفجر أنهار الجنة "
، كما في الصحيح، وقوله تعالى { خالدين فيها لا يبغون عنها حولا } أي ماكثين فيها أبدا لا يطلبون متحولا عنها إذ نعيمها لا يمل وسعادتها لا تنقص، وصفوها لا يكدر وسرورها لا ينغص بموت ولا بمرض ولا نصب ولا تعب جعلني الله ومن قال أمين من أهلها. آمين. وقوله تعالى: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } تضمنت هذه الآية ردا على اليهود الذين لما نزل قول الله تعالى
ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا
[الإسراء: 85] في الرد عليهم لما سألوا عن الروح بواسطة وفد قريش إليهم. فقالوا: أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل الله تعالى قل لو كان البحر مدادا الآية ردا عليهم وإبطالا لمزاعمهم فأعلمهم وأعلم كل من يدعي العلم الذي ما فوقه علم بأنه لو كان ماء البحر مدادا وكان كل غصن وعود في أشجار الدنيا كلها قلما، وكتب بهما لنفد ماء البحر وأغصان الشجر ولم تنفد كلمات ربي التي تحمل العلوم والمعارف الإلهية وتدل عليها وتهدي إليها فسبحان الله وبحمده، سبحانه الله العظيم سبحان الله الذي انتهى إليه علم كل شيء وهو على كل شيء قدير.
وقوله تعالى: { قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنمآ إلهكم إله واحد }. يأمر تعالى رسوله بأن يقول للمشركين الذين يطلبون منه المعجزات كالتي أوتى موسى وعيسى: إنما أنا بشر مثلكم لا أقدر على ما لا تقدرون عليه أنتم، والفرق بيننا هو أنه يوحى إلي الأمر من ربي وأنتم لا يوحى إليكم يوحى إلي أنما إلهكم أي معبودكم الحق وربكم الصدق هو إله واحد الله ربكم ورب آبائكم الأولين. وقوله { فمن كان يرجوا } أي يأمل وينتظر { لقآء ربه } خوفا منه وطمعا فيه { فليعمل عملا صالحا } وهو مؤمن موقن، { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } فإن الشرك محبط للعمل مبطل له، وبهذا يكون رجاءه صادقا وانتظاره صالحا صائبا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان أفضل الجنان وهو الفردوس الأعلى.
3- علم الله غير متناهي لأن كلماته غير متناهية.
4- تقرير صفة الكلام لله تعالى.
5- تقرير بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس روحا ولا نورا فحسب كما يقول الغلاة الباطنية.
6- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.
7- تقرير أن الرياء شرك لما ورد أن الآية نزلت في بيان حكم المرء يجاهد يريد وجه الله ويرغب أن يرى مكانه بين الناس، يصلي ويصوم ويحب أن يثنى عليه بذلك.
[19 - سورة مريم]
[19.1-7]
شرح الكلمات:
كهيعص: هذه من الحروف المقطعة تكتب كهيعص وتقرأ كاف، هاء يا عين صاد. ومذهب السلف أن يقال فيها: الله أعلم بمراده بذلك.
ذكر رحمة ربك: أي هذا ذكر رحمة ربك.
نادى ربه: أي قال: يا رب ليسأله الولد.
نداء خفيا: أي سر بعدا عن الرياء.
وهن العظم مني: أي رق وضعف لكبر سني.
واشتعل الرأس شيبا: أي انتشر الشيب في شعر رأسي انتشارا النار في الحطب.
ولم أكن بدعائك رب شقيا: أي إنك لم تخيبني فيما دعوتك فيه قبل فلا تخيبني اليوم فيما أدعوك فيه.
وإني خفت الموالي: أي خشيت بني عمي أن يضيعوا الدين بعد موتي.
إمرأتي عاقرا: لا تلد واسمها أشاع وهي أخت حنة أم مريم.
فهب لي من لدنك وليا: أي ارزقني من عندك ولدا.
ويرث من آل يعقوب: أي جدي يعقوب العلم والنبوة.
واجعله رب رضيا: أي مرضيا عندك.
سميا: أي مسمى يحيى.
معنى الآيات:
أما قوله تعالى: كهيعص فإن هذا من الحروف المقطعة والراجح أنها من المتشابه الذي نؤمن به ونفوض فهم معناه لمنزله سبحانه وتعالى فنقول: { كهيعص } الله أعلم بمراده به.
وأما قوله تعالى: { ذكر رحمت ربك عبده زكريآ } فإن معناه: مما تتلو عليك في هذا القرآن يا نبينا فيكون دليلا على نبوتك ذكر رحمة ربك التي رحم بها عبده زكريا حيث كبرت سنه، وامرأته عاقر لا يولد لها ورغب في الولد لمصلحة الدعوة الإسلامية إذ لا يوجد من يخلفه فيها إذا مات نظرا إلى أن الموجود من بني عمه ومواليه ليس بينهم كفؤ لذلك بل هم دعاة إلى السوء فنادى ربه نداء خفيا قائلا: { رب إني وهن العظم مني } أي رق وضعف، { واشتعل الرأس شيبا } أي شاب شعر رأسي لكبر سني، { ولم أكن بدعآئك رب شقيا } أي في يوم من الأيام بمعنى أنك عودتني الاستجابة لما أدعوك له ولم تحرمني استجابة دعائي فأشقى به دون الحصول على رغبتي. { وإني } يا ربي قد { خفت الموالي } أن يضيعوا هذه الدعوة دعوة الحق التي هي عبادتك بما شرعت وحدك لا شريك لك، وذلك بعد موتي { فهب لي من لدنك } أي من عندك تفضلا به علي إذ الأسباب غير متوفرة للولد: المرأة عاقر وأنا شيخ كبير هرم، { وليا } أي ولدا يلي أمر هذه الدعوة بعد وفاتي فيرثني فيها { ويرث من آل يعقوب } جدي ما تركوه بعدهم من دعوة أبيهم وهي الحنيفية عبادة الله وحده لا شريك له { واجعله رب رضيا } أي واجعل الولد الذي تهبني يا ربي { رضيا } أي عبدا صالحا ترضاه لحمل رسالة الدعوة إليك، فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله: { يزكريآ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا } أي من سمي باسمه يحيى قط.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره بهذا الذي أخبر به عن زكريا عليه السلام.
2- استحباب السرية في الدعاء لأنه أقرب إلى الاستجابة.
3- وجود العقم في بعض النساء.
4- قدرة الله تعالى فوق الأسباب إن شاء تعالى أوقف الأسباب وأعطى بدونها.
5- تقرير مبدأ أن الأنبياء لا يورثون فيما يخلفون من المال كالشاه والبعير وإنما يورثهم الله أولادهم في النبوة والعلم والحكمة.
[19.8-15]
شرح الكلمات:
أنى يكون لي غلام؟: أي من أي وجه وجهة يكون لي ولد.
عتيا: أي يبست مفاصلي وعظامي.
آية: أي علامة تدلني على حمل امرأتي.
سويا: أي حال كونك سوي الخلق ما بك عليه خرس.
من المحراب: المصلى الذي يصلي فيه وهو المسجد.
فأوحى إليهم: أومأ إليهم وأشار عليهم.
وآتيناه الحكم صبيا: الحكم والحكمة بمعنى واحد وهما الفقه في الدين ومعرفة أسرار الشرع.
وحنانا من لدنا: أي عطفا على الناس موهوبا له من عندنا.
وزكاة: أي طهارة من الذنوب والآثام.
جبارا عصيا: أي متعاليا لا يقبل الحق عصيا لا يطيع أمر الله عز وجل وأمر والديه.
وسلام عليه: أي أمان له من الشيطان أن يمسه بسوء يوم يولد، وأمان له من فتاني القبر يوم يموت، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حيا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر رحمة الله عبده زكريا إنه لما بشره ربه تعالى بيحيى قال: ما أخبر به تعالى عنه في قوله: { قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا } أي من أي وجه وجهة يأتيني الولد أمن إمرأة غير أمرأتي، أم منها ولكن تهبني قوة على مباضعتها وتجعل رحمها قادرة على العلوق، لأني كما تعلم يا ربي قد بلغت من الكبر حدا يبس فيه عظمي ومفاصلي وهو العتى كما أن امرأتي عاقر لا يولد لها. فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله عزوجل: { قال كذلك } أي الأمر كما قلت يا زكريا، ولكن { قال ربك هو علي هين } أي إعطاؤك الولد على ما أنت عليه من الضعف والكبر وامرأتك من العقر سهل يسير لا صعوبة فيه ويدلك على ذلك أني { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } ، فكما قدر ربك على خلقك ولم تك شيئا فهو قادر على هبتك الولد على ضعفك وعقر امرأتك وهنا طالب زكريا ربه بأن يجعل له علامة تدله على وقت حمل امرأته بالولد فقال ما أخبر به تعال في قوله: { قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } فأعطاه تعالى علامة على وقت حمل امراته بالولد وهي أنه يصبح يوم بداية الحمل لا يقدر على الكلام وهو سوي البدن ما به خرس ولا مرض يمنعه من الكلام، { فخرج على قومه من المحراب } أي المصلى الذي يصلي فيه { فأوحى إليهم } أي أومأ وأشار إليهم { أن سبحوا بكرة وعشيا } أي اذكروا الله في هذين الوقتين بالصلاة والتسبيح. وهنا علم بحمل امرأته إذ إمتناعه عن الكلام مع سلامة جسمه وحواسه آية على بداية الحمل، وقوله تعالى: { ييحيى خذ الكتاب بقوة } هذا قول الله تعالى للغلام بعد بلوغه ثلاث سنين أمره الله تعالى أن يتعلم التوراة ويعمل بها بقوة جد وحزم وقوله { وآتيناه الحكم صبيا } أي وهبناه الفقه في الكتاب ومعرفة أسرار الشرع وهو صبي لم يبلغ سن الاحتلام.
وقوله تعالى { وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا } أي ورحمة منا به ومحبة له آتيناه الحكم صبيا كما أنه عليه السلام كان ذا حنان على أبويه وغيرهما من المسلمين وقوله { وزكاة } أي طهارة من الذنوب باستعمال بدنه في طاعة ربه عزوجل { وكان تقيا } أي خائفا من ربه فلا يعصه بترك فريضة ولا يفعل حرام.
وقوله تعالى: { وبرا بوالديه } أي محسنا بهما مطيعا لهما لا يؤذيهما أدنى أذى وقوله { ولم يكن جبارا عصيا } أي لم يكن عليه السلام مستكبرا ولا ظالما، ولا متمردا عاصيا لربه ولا لأبويه وقوله: { وسلام عليه يوم ولد } أي أمان له من الشيطان يوم ولد، وأمان له من فتاني القبر يوم يموت، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حيا، فسبحان الله ما أعظم فضله وأجزل عطاءه على أوليائه، اللهم أمنا كما أمنته فإنك ذو فضل عظيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- طلب معرفة السبب الذي يتأتى به الفعل غير قادح في صاحبه فسؤال زكريا عن الوجه الذي يأتي به الولد، كسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى.
2- جواز طلب العلامات الدالة على الشيء للمعرفة.
3- آية عجيبة أن يصبح زكريا لا يتكلم فيفهم غيره بالإشارة فقط.
4- فضل التسبيح في الصباح والمساء.
5- وجوب أخذ القرآن بجد وحزم وحفظا وعملا بما فيه.
6- صدق قول أهل العلم من حفظ القرآن في سن ما قبل البلوغ فقد أوتي الحكم صبيا.
7- وجوب البر بالوالدين ورحمتهما والحنان عليهما والتواضع لهما.
[19.16-21]
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب: أي القرآن مريم أي خبرها وقصتها.
مريم: هي بنت عمران والدة عيسى عليه السلام.
إذا انتبذت: أي حين اعتزلت أهلها باتخاذها مكانا خاصا تخلو فيه بنفسها.
شرقيا: أي شرق الدار التي بها أهلها.
حجابا: أي ساترا يسترها عن أهلها وذويها.
روحنا: جبريل عليه السلام.
بشرا سويا: أي تام الخلق حتى لا تفزع ولا تروع منه.
إن كنت تقيا: أي عاملا بإيمانك وتقواك لله فابتعد عني ولا تؤذني.
غلاما زكيا: ولدا طاهرا لم يتلوث بذنب قط.
ولم يمسسني بشر: أي لم أتزوج.
ولم أك بغيا: أي زانية.
قال كذلك: أي الأمر كذلك وهو خلق غلام منك من غير أب.
هو علي هين: ما هو إلا أن ينفخ رسولنا في كم درعك حتى يكون الولد.
ولنجعله آية للناس: أي عل عظيم قدرتنا.
ورحمة منا: أي وليكون الولد رحمة بمن آمن به واتبع ما جاء به.
أمرا مقضيا: أي حكم الله به وفرغ منه فهو كائن حتما لا محالة.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة مريم عليها السلام إذ قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { واذكر في الكتاب } أي القرآن الكريم { مريم } أي نبأها وخبرها ليكون ذلك دليلا على نبوتك وصدقك في رسالتك وقوله { إذ انتبذت } أي اعتزلت { من أهلها } هذا بداية القصة وقوله { مكانا شرقيا } أي موضعا شرقي دار قومها وشرق المسجد، ولذا اتخذ النصارى المشرق قبلة لهم في صلاتهم ولا حجة لهم في ذلك إلا الابتداع وإلا فقبلة كل مصلي لله الكعبة بيت الله الحرام قوله تعالى: { فاتخذت من دونهم } أي من دون أهلها { حجابا } ساترا لها عن أعينهم، ولما فعلت ذلك أرسل الله تعالى إليها جبريل في صورة بشر سوي الخلقة معتدلها، فدخل عليها فقالت ما قص الله تعالى في كتابه { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } أي أحتمي بالرحمن الذي يرحم الضعيفات مثلي إن كنت مؤمنا تقيا فاذهب عني ولا تروعني أو تمسني بسوء. فقال لها جبريل عليه السلام ما أخبر تعالى به وهو { قال إنمآ أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } أي طاهرا لا يتلوث بذنب قط . فأجابت بما أخبر تعالى عنها في قوله: { أنى يكون لي غلام } أي من أي وجه يأتيني الولد، { ولم يمسسني بشر } أي وأنا لم أتزوج، { ولم أك بغيا } أي ولم أك زانية، فأجابها جبريل بما أخبر تعالى به في قوله: { قال كذلك } أي الأمر كما قلت ولكن ربك قال: { هو علي هين } أي خلقه بدون أب من نكاح أو سفاح، لأنه هين علينا من جهة، { ولنجعله آية للناس } دالة على قدرتنا على خلق آدم بدون أب ولا أم، والبعث الآخر من جهة أخرى، وقوله تعالى { ورحمة منا وكان أمرا مقضيا } أي ولنجعل الغلام المبشر به رحمة منا لكل من آمن به واتبع طريقته في الإيمان والاستقامة وكان هذا الخلق للغلام وهبته لك أمرا مقضيا أي حكم الله فيه وقضى به فهو كائن لا محالة ونفخ جبريل في جيب قميصها فسرت النفخة في جسمها فحملت به كما سيأتي بيانه في الآيات التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان شرف مريم وكرامتها على ربها.
2- فضيلة العفة والحياء.
3- كون الملائكة يتشكلون كما أذن الله تعالى لهم.
4- مشروعية التعوذ بالله من كل ما يخاف من إنسان أو جان.
5- التقوى مانعة من فعل الأذى بالناس أو إدخال الضرر عليهم.
6- خلق عيسى آية مبصرة تتجلى فيها قدرة الله تعالى على الخلق بدأ وإعادة.
[19.22-26]
شرح الكلمات:
فانتبذت به: فاعتزلت به.
مكانا قصيا: أي بعيدا من أهلها.
فأجاءها المخاض: أي ألجأها الطلق واضطرها وجع الولادة.
إلى جذع النخلة: لتعتمد عليها وهي تعاني من آلام الولادة.
نسيا منسيا: أي شيئا متروكا لا يعرف ولا يذكر.
فناداها من تحتها: أي عيسى عليه السلام بعدما وضعته.
تحتك سريا: أي نهرا يقال له سري.
رطبا جنيا: الرطب الجني: ما طاب وصلح للإجتناء.
فكلي واشربي: أي كل من الرطب واشربي من السري.
وقري عينا: أي وطيبي نفسا وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني.
نذرت للرحمن صوما: أي إمساكا عن الكلام وصمتا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة مريم إنه بعد أن بشرها جبريل بالولد وقال لها وكان أمرا مقضيا ونفخ في كم درعها أو جيب قميصها فحملته فورا { فانتبذت به مكانا قصيا } أي فاعتزلت به في مكان بعيد { فأجآءها المخاض } أي ألجأها وجع النفاس { إلى جذع النخلة } لتعتمد عليه وهي تعاني من آلام الطلق وأوجاعه، ولما وضعته قالت متأسفة متحسرة ما أخبر تعالى به: { قالت يليتني مت قبل هذا } أي الوقت الذي أصبحت فيه أم ولد، { وكنت نسيا منسيا } أي شيئا متروكا لا يذكر ولا يعرف وهنا { فناداها } عيسى عليه السلام { من تحتهآ ألا تحزني } يحملها على الصبر والعزاء وقوله تعالى: { قد جعل ربك تحتك سريا } أي نهر ماء يقال له سري، { وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي } أي كلي من الرطب واشربي من ماء النهر، { وقري عينا } أي طيبي نفسا وافرحي بولدك، { فإما ترين من البشر أحدا } أي فسألك عن حالك أو عن ولدك فلا تكلميه واكتفي بقولك { إني نذرت للرحمن صوما } أي صمتا { فلن أكلم اليوم إنسيا } هذا كله من قول عيسى لها أنطقه الله كرامة لها ليذهب عنها حزنها وألمها النفسي من جراء الولادة وهي بكر لم تتزوج.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من مظاهر قدرة الله تعالى حملها ووضعها في خلال ساعة من نهار.
2- إثبات كرامات الله لأوليائه إذ أكرم الله تعالى مريم بنطق عيسى ساعة وضعه فأرشدها وبشرها وأذهب عنها الألم والحزن، وأثمر لها نخلة فأرطبت وأجرى لها النهر بعد يبسه.
3- تقرير نظام الأسباب التي في مكنة الإنسان القيام بها فإن الله تعالى قد أثمر لمريم النخلة إذ هذا لا يمكنها القيام به ثم أمرها أن تحرك النخلة من جذعها ليتساقط عليها الرطب الجني إذ هذا في استطاعتها.
4- مشروعية النذر إلا أنه بالامتناع عن الكلام منسوخ في الإسلام.
[19.27-33]
شرح الكلمات:
فأتت به: أي بولدها عيسى عليه وعليها السلام.
جئت شيئا فريا: أي عظيما حيث أتيت بولد من غير أب.
يا أخت هارون: أي يا أخت الرجل الصالح هارون.
امرأ سوء: أي رجلا يأتي الفواحش .
فأشارت إليه: أي إلى عيسى وهو في المهد.
آتاني الكتاب: أي الإنجيل باعتبار ما يكون مستقبلا.
مباركا أينما كنت: أي حيثما وجدت كانت البركة في ومعي ينتفع الناس بي.
وبرا بوالدتي: أي محسنا بها مطيعا لها لا ينالها مني أدنى أذى.
جبارا شقيا: ظالما متعاليا ولا عاصيا لربي خارجا عن طاعته.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة مريم مع قومها: إنها بعد أن تماثلت للشفاء حملت ولدها وأتت به قومها وما أن رأوهما حتى قال قائلهم: { يمريم لقد جئت شيئا فريا } أي أمرا عظيما وهو إتيانك بولد من غير أب. { يأخت هارون } نسبوها إلى عبد صالح يسمى هارون: { ما كان أبوك } عمران { امرأ سوء } يأتي الفواحش { وما كانت أمك } " حنة " { بغيا } أي زانية فكيف حصل لك هذا وأنت بنت البيت الطاهر والأسرة الشريفة. وهنا أشارت إلى عيسى الرضيع في قماطته أي قالت لهم سلوه يخبركم الخبر وينبئكم بالحق، لأنها علمت أنه يتكلم لما سبق أن ناداها ساعة وضعه من تحتها وقال لها ما ذكر تعالى في الآيات السابقة. فردوا عليها مستخفين بها منكرين عليها متعجبين منها: { كيف نكلم من كان في المهد صبيا }؟ فأنطق الله عيسى الرضيع فأجابهم بما أخبر تعالى عنه في قوله: { قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بولدتي ولم يجعلني جبارا شقيا } فأجابهم بكل ما كتب الله وأنطقه به، وكان عيسى كما أخبر عن نفسه لم ينقص من ذلك شيئا كان عبدا لله وأنزل عليه الإنجيل ونبأه وأرسله إلى بني إسرائيل وكان مباركا يشفي المرضى ويحيى الموتى بإذن الله تنال البركة من صحبته وخدمته والإيمان به وبمحبته وكان مقيما للصلاة مؤديا للزكاة طوال حياته وما كان ظالما ولا متكبرا عاتيا ولا جبارا عصيا. فعليه كما أخبر السلام أي الأمان التام يوم ولد فلم يقربه شيطان ويوم يموت فلا يفتن قبره ويوم يبعث حيا فلا يحزنه الفزع الأكبر، ويكون من الآمنين السعداء في دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعبودية عيسى ونبوته عليهما السلام.
2- آية نطق عيسى في المهد وإخباره بما أولاه الله من الكمالات.
3- وجوب بر الوالدين بالاحسان بهما وطاعتهما والمعروف وكف الأذى عنهما.
4- التنديد بالتعالي والكبر والظلم والشقاوة التي هي التمرد والعصيان.
[19.34-40]
شرح الكلمات:
ذلك عيسى ابن مريم: أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو عيسى بن مريم.
قول الحق: أي وهو قول الحق الذي أخبر تعالى به.
يمترون: يشكون.
ما كان لله أن يتخذ من ولد: أي ليس من شأن الله أن يتخذ ولدا وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
سبحانه: أي تنزيها له عن الولد والشريك والشبيه والنظير.
صراط مستقيم: أي طريق مستقيم لا يضل سالكه.
فاختلف الأحزاب: أي في شأن عيسى فقال اليهود هو ساحر وابن زنا، وقالت النصارى هو الله وابن الله تعالى عما يصفون.
من مشهد يوم عظيم: هو يوم القيامة.
أسمع بهم وأبصر: أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة عند معاينة العذاب.
وأنذرهم يوم الحسرة: أي خوفهم بما يقع في يوم القيامة من الحسرة والندامة وذلك عندما يشاهدون أهل الجنة قد ورثوا منازلهم فيها وهم ورثوا منازل أهل الجنة في النار فتعظم الحسرة ويشتد الندم.
معنى الآيات:
بعد أن قص الله تعالى قصة مريم من ساعة أن اتخذت من دون أهلها حجابا معتزلة أهلها منقطعة إلى ربها إلى أن أشارت إلى عيسى وهو في مهده فتكلم فقال: إني عبد الله، فبين تعالى أن جبريل بشرها، وأنه نفخ في كم درعها فحملت بعيسى وأنه ولد في ساعة من حمله وأنها وضعته تحت جذع النخلة وأنه ناداها من تحتها: أن لا تحزني، وأرشدها إلى القول الذي تفول لقومها إذا سألوها عن ولادتها المولود بدون أب، وهو أن تشير إليه تطلب منهم أن يسألوه وسألوه فعلا فأجاب بأنه عبد الله وأنه آتاه الكتاب وجعله نبيا ومباركا وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيا وأنه بر بوالدته، ولم يكن جبارا شقيا فأشار تعالى إلى هذا بقوله في هذه الآية [34] { ذلك } أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو { عيسى ابن مريم } ، وما أخبرتكم به هو { قول الحق الذي فيه يمترون } أي يشكون إذ قال اليهود في عيسى أنه ابن زنا وانه ساحر وقال النصارى هو الله وابن الله وثالث ثلاثة حسب فرقهم وطوائهم المتعددة وقوله تعالى: { ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه } ينفي تعالى عنه اتخاذ الولد وكيف يصح ذلك له أو ينبغي وهو الغني عما سواه والمفتقر إليه كل ما عداه، وأنه يقول للشيء كن فيكون فعيسى عليه السلام كان بكلمة الله تعالى له كن فكان وهو معنى قوله تعالى { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون }. وقد نزه تعالى نفسه عن الولد والشريك والشبيه والنظير، والافتقار والحاجة إلى مخلوقاته بقوله: سبحانه أي تنزيها له عن صفات المحدثين وقوله تعالى: { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم }.
هذا من قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل أخبرهم أنه عبد الله وليس بابن لله ولا بإله مع الله وأخبرهم أن الله تعالى هو ربه وربهم فليعبدوه جميعا بما شرع لهم ولا يعبدون معه غيره إذ لا إله لهم إلا هو سبحانه وتعالى، وأعلمهم أن هذا الاعتقاد الحق والعبادة بما شرع الله هو الطريق المفضي بسالكه إلى السعادة ومن تنكب عنه وسلك طريق الشرك والضلال أفضى به إلى الخسران وقوله تعالى في الآية [37] { فاختلف الأحزاب من بينهم } أي في شأن عيسى فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله ومن قائل هو وامه الهين من دون الله والقائلون بهذه المقالات كفروا بها فتوعدهم الله تعالى بالعذاب الأليم فقال { فويل للذين كفروا } بنسبتهم الولد والشريك لله، والويل واد في جهنم فهم إذا داخلوها لا محالة، وقوله { من مشهد يوم عظيم } يعني به يوم القيامة وهو يوم ذو أهوال وشدائد لا يقادر قدرها.
وقوله تعالى في الآية [38] { أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا } يخبر تعالى أن هؤلاء المتعامين اليوم عن الحق لا يريدون أن يبصروا آثاره الدالة عليه فيؤمنوا ويوحدوا ويعبدوا، والمتصاممين عن سماع الحجج والبراهين وتوحيد الله وتنزيهه عن الشريك والولد هؤلاء يوم يقدمون عليه تعالى في عرصات القيامة يصبحون أقوى ما يكون أبصارا وسمعا، ولكن حين لا ينفعهم سمع ولا بصر، وقوله تعالى: { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } يخبر تعالى أن أهل الشرك والكفر وهم الظالمون في ضلال مبين أي عن طريق الهدى وهو سبب عدم إبصارهم للحق وسماعهم لحججه التي جاءت بها رسل الله ونزلت بها كتبه.
وقوله تعالى في آية [39] { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون } يأمر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأن ينذر الكفار والمشركين أي يخوفهم عاقبة شركهم وكفرهم وضلالهم يوم القيامة حيث تشتد فيه الحسرة وتعظم الندامة وذلك عندما يتوارث الموحدون مع المشركين فالموحدون يرثون منازل المشركين في الجنة، والمشركون يرثون منازل الموحدين في النار، وعندما يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار، وينادي مناد يا أهل الجنة خلود فلا موت؟ ويا أهل النار خلود فلا موت عندها تشتد الحسرة ويعظم الندم هذا معنى قوله تعالى { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة } عما حكم عليهم به من الخلود في نار جهنم { وهم لا يؤمنون } بالبعث ولا بما يتم فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم. وقوله تعالى: { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون } يخبر تعالى عن نفسه بأنه الوارث للأرض ومن عليها ومعنى هذا أنه حكم بفناء، هذه المخلوقات وأن يوما سيأتي يفنى فيه كل من عليها، والجميع سيرجعون إليه ويقفون بين يديه ويحاسبهم بما كتبت أيديهم ويجزيهم به، ولذا فلا تحزن أيها الرسول وامض في دعوتك تبلغ عن ربك ولا يضرك تكذيب المكذبين ولا شرك المشركين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن عيسى عبد الله ورسوله، وليس كما قال اليهود، ولا كما قالت النصارى.
2- استحالة اتخاذ الله الولد الذي يقول للشيء كن فيكون .
3- تقرير التوحيد على لسان عيسى عليه السلام.
4- الإخبار بما عليه النصارى من خلاف في شأن عيسى عليه السلام.
5- بيان سبب الحسرة يوم القيامة وهو الكفر بالله والشرك به.
6- تقرير فناء الدنيا، ورجوع الناس إلى ربهم بعد بعثهم وهو تقرير لعقيدة البعث والجزاء التي تعالجها السور المكية في القرآن الكريم.
[19.41-45]
شرح الكلمات:
اذكر في الكتاب: أي في القرآن.
إنه كان صديقا: أي كثير الصدق بالغ الحد الأعلى فيه.
يا أبت: يا أبي وهو آزر.
صراطا سويا: أي طريقا مستقيما لا اعوجاج فيه يفضي بك إلى الجنة.
لا تعبد الشيطان: أي لا تطعه في دعوته إياك إلى عبادة ألأصنام.
عصيا: أي عاصيا لله تعالى فاسقا عن أمره.
فتكون للشيطان وليا: أي قريبا منه قرينا له فيها أي النار.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة إبراهيم الخليل عليه السلام مع والده آزر عليه لعائن الرحمن قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { واذكر } يا نبينا { في الكتاب } أي القرآن الكريم { إبراهيم } خليلنا { إنه كان صديقا } أي صادقا في أقواله وأعماله بالغا مستوى عظيما في الصدق { نبيا } من أنبيائنا فهو جدير بالذكر في القرآن ليكون قدوة صالحة للمؤمنين. واذكره { إذ قال لأبيه } آزر { يأبت لم تعبد } أي تسأله بالدعاء والتقرب بأنواع القربات ما لا يسمع ولا يبصر من الأصنام أي لا يبصرك ولا يسمعك { ولا يغني عنك شيئا } لا يدفع عنك ضرا ولا يجلب لك نفعا فأي حاجة لك إلى عبادته { يأبت إني قد جآءني من العلم } أي من قبل ربي تعالى { ما لم يأتك } أنت { فاتبعني } فيما أعتقده وأعمله وأدعو إليه { أهدك صراطا سويا } أي مستقيما يفضي بك إلى السعادة والنجاة، { يأبت لا تعبد الشيطان } أي بطاعته فيما يدعوك إليه من عبادة غير الله تعالى من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعطي ولا تمنع، { إن الشيطان كان للرحمن عصيا } أي عاصيا أمره فأبى طاعته وفسق عن أمره. { يأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن } إن أنت بقيت على شركك وكفرك ولم تتب منهما حتى مت فيمسك عذاب من الرحمن { فتكون } أي بذلك { للشيطان وليا } أي قريبا منه قرينا له في جهنم فتهلك وتخسر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بالدعوة إليه.
2- كمال إبراهيم بذكره في الكتاب.
3- بطلان عبادة غير الله تعالى.
4- عبادة الأوثان والأصنام وكل عبادة لغير الله تعتبر عبادة للشيطان لأنه الآمر بها والداعي إليها.
[19.46-50]
شرح الكلمات:
لئن لم تنته: أي عن التعرض لها وعيبها.
لأرجمنك: بالحجارة أو بالقول القبيح فاحذرني.
واهجرني مليا: أي سليما من عقوبتي.
سلام عليك: أي أمنة مني لك أن أعاودك فيما كرهت مني.
إنه كان بي حفيا: أي لطيفا بي مكرما لي يجيبني لما أدعوه له.
عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا: بل يجيب دعائي ويعطني مسألتي.
فلما اعتزلهم: بأن هاجر إلى أرض القدس وتركهم.
وهبنا له إسحاق ويعقوب: أي وهبنا له ولدين يأنس بهما مجازاة منا له على هجرته قومه.
ووهبنا لهم من رحمتنا: خيرا كثيرا المال والولد بعد النبوة والعلم.
لسان صدق عليا: أي رفيعا بأن يثنى عليهم ويذكرون بأطيب الخصال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة إبراهيم مع أبيه آزر إنه بعد تلك الدعوة الرحيمة بالألفاظ الطيبة الكريمة التي وجهها إبراهيم لأبيه آزر ليؤمن ويوحد فينجو ويسعد قال آزر رادا عليه بعبارات خالية من الرحمة والأدب بل ملؤها الغلظة والفظاظة والوعيد والتهديد وهي ما أخبر به تعالى عنه في قوله: في الآية [46] { قال أراغب أنت عن آلهتي يإبراهيم } أي أكاره لها تعيبها، { لئن لم تنته } أي عن التعرض لها بأي سوء { لأرجمنك } بأبشع الألفاظ وأقبحها، { واهجرني مليا } أي وابعد عني ما دمت معافى سليم البدن سويه قبل أن ينالك مني ما تكره. كان هذا رد آزر الكافر المشرك. فيما أجاب إبراهيم المؤمن الموحد أجاب بما أخبر تعالى به عنه في قوله في آية [47] { قال سلام عليك } أي أمان لك مني يا أبتاه فلا أعاودك فيما كرهت مني قط وسأقابل إساءتك بإحسان { سأستغفر لك ربي } أي أطلب منه أن يهديك للإيمان والتوحيد فتتوب فيغفر لك { إنه كان } سبحانه وتعالى { بي حفيا } لطيفا بي مكرما لي لا يخيبني فيما أدعوه فيه.
وقوله تعالى حكاية عن قيل إبراهيم: { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } أي أذهب بعيدا عنكم تاركا لكم ولما تعبدون من دون الله من أصنام وأوثان، { وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعآء ربي شقيا } أي رجائي في ربي كبير أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام. قال تعالى مخبرا عنه فلما حقق ما واعدهم به من هجرته لديارهم إلى ديار القدس تاركا أباه وأهله وداره كافأناه بأحسن حيث أعطيناه ولدين يأنس بهما في وحشته وهما إسحاق ويعقوب وكلا منهما جعلناه نبيا رسولا، ووهبنا لجميعهم وهم ثلاثة الوالد إبراهيم وولداه إسحاق ويعقوب بن إسحاق عليهم السلام من رحمتنا الخير العظيم من المال والولد والرزق الحسن هذا معنى قوله تعالى: { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب } وهو ابن ولده إسحاق { وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا }.
وقوله تعالى عنهم { وجعلنا لهم لسان صدق عليا } هذا إنعام آخر مقابل الهجرة في سبيل الله حيث جعل الله تعالى لهم لسان الصدق في الآخرة فسائر أهل الأديان الإلهية يثنون على إبراهيم وذريته بأطيب الثناء وأحسنه وهو لسان الصدق العلي الرفيع الذي حظى به إبراهيم وولديه إكراما من الله تعالى وإنعاما عليهم جزاء صدق إبراهيم وصبره وبالتالي هجرته للأصنام وعابديها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الفرق بين ما يخرج من فم المؤمن الموحد من طيب القول وسلامة اللفظ ولين الجانب والكلام، وبين ما يخرج من فم الكافر المشرك من سوء القول وقبح اللفظ وقسوة الجانب وفظاظة الكلام.
2- مشروعية المتاركة والموادعة وهو أن يقال للسيء من الناس سلام عليك وهو لا يريد بذلك تحيته ولكن تركه وما هو فيه.
3- مشروعية الهجرة وبيان فضلها وهجرة إبراهيم هذه أول هجرة كانت في الأرض.
4- الترغيب في حسن الأحدوثة بأن يكون للمرء حسن ثناء بين الناس لما يقدم من جميل وما يورث من خير وإفضال.
[19.51-53]
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب: أي في القرآن تشريفا وتعظيما.
موسى: أي ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام.
مخلصا: أي مختارا مصطفى على قراءة فتح اللام " مخلصا " وموحدا لربه مفردا إياه بعبادته بالغا في ذلك أعلى المقامات على قراءة كسر اللام.
جانب الطور: الطور جبل بسيناء بين مدين ومصر.
وقربناه نجيا: أي أدنيناه إدناء تشريف وتكريم مناجيا لنا مكلما من قبلنا.
أخاه هارون نبيا: إذ سأل ربه لأخيه الرسالة فأعطاه فنبأه وأرسله معه إلى فرعون.
معنى الآيات:
هذا موجز قصة موسى عليه السلام قال تعالى في ذلك وهو يخاطب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم { واذكر } في هذه السلسلة الذهبية من عباد الله الصالحين أهل التوحيد واليقين موسى ابن عمران أنه جدير بالذكر في القرآن وعلة ذلك في قوله تعالى: { إنه كان مخلصا } أي مختارا مصطفى للإبلاغ عنا عبادنا ما خلقناهم لأجله وهو ذكرنا وشكرنا ذكرنا بالسنتهم وقلوبهم وشكرهم لنا بجوارحهم وذلك بعبادتنا وحدنا دون من سوانا، وكان موسى كذلك، وقوله تعالى: { وكان رسولا نبيا } أي ومن افضالنا عليه وإكرامنا له أن جعلناه نبيا رسولا نبأناه وأرسلناه إلى فرعون وملائه، { وناديناه } وهو في طريقه من مدين إلى مصر في جانب الطور الأيمن حيث نبأناه وأرسلناه وبذلك { وقربناه نجيا } فصار يناجينا فنسمعه كلامنا ونسمع كلامه وأعظم بهذا التكريم من تكريم، وقوله: { ووهبنا له من رحمتنآ أخاه هارون نبيا } هذا إنعام آخر من الله تعالى على موسى النبي إذ سأل ربه أن يرسل معه أخاه هارون إلى فرعون فبرحمة من الله تعالى استجاب له ونبأ هارون وأرسله معه رسولا وما كان هذا إلا برحمة خاصة إذ النبوة لا تطلب ولا يتوصل إليها بالاجتهاد في العبادة ولا بالدعاء والصراعة إذ هي هبة إلهية خاصة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإخلاص، وهو إرادة الله تعالى بالعبادة ظاهرا وباطنا.
2- إثبات صفة الكلام والمناجاة لله تعالى.
3- بيان إكرام الله تعالى وإنعامه على موسى إذ أعطاه ما لم يعط أحدا من العالمين باستجابة دعائه بأن جعل أخاه هارون رسولا نبيا.
4- تقرير أن كل رسول نبيا والعكس لا أي ليس كل نبي رسولا.
[19.54-58]
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب إسماعيل: أي اذكر في القرآن تشريفا وتعظيما إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام.
صادق الوعد: لم يخلف وعد قط.
بالصلاة والزكاة: أي بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
مرضيا: أي رضى الله تعالى قوله وعمله ليقينه وإخلاصه.
إدريس: هو جد أبي نوح عليه السلام.
ورفعناه مكانا عليا: إلى السماء الرابعة.
إسرائيل: أي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وممن هدينا واجتبينا: أي من جملة من هديناهم لطريقنا واجتبيناهم بنبوتنا.
إذا تتلى عليهم آيات الرحمن: أي تقرأ عليهم وهم يستمعون إليها.
سجدا وبكيا: جمع ساجد وباك أي ساجدين وهم يبكون.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكرت من ذكرت من مريم وابنها وإبراهيم وموسى اذكر كذلك إسماعيل فإنه { كان صادق الوعد } لم يخلف وعدا قط وكان ينتظر الموعود الليالي حتى يجئ وهو قائم في مكانه ينتظره، { وكان رسولا نبيا } نبأة تعالى بمكة المكرمة إذ عاش بها وأرسله إلى قبيلة جرهم العربية ومنها تزوج وأنجب وكان من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: { وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة } المراد من الأهل أسرته وقومه من قبيلة جرهم والمراد من الصلاة إقامتها ومن الزكاة أداؤها، وهذا مما أعلى شأنه ورفع قدره فاستحق ذكره في القرآن العظيم، وقوله: { وكان عند ربه مرضيا } موجب آخر لإكرامه والإنعام عليه بذكره في القرآن الكريم في سلسلة الأنبياء والمرسلين، ومعنى { وكان عند ربه مرضيا } أي أقواله وأفعاله كلها كانت مقبولة مرضية فكان بذلك هو مرضيا من قبل ربه عزوجل. وقوله تعالى { واذكر في الكتاب إدريس } وهو جد أبي نوح واستوجب الذكر في القرآن لأنه { كان صديقا } كثير الصدق مبالغا فيه حتى إنه لم يجر على لسانه كذب قط، وصديقا في أفعاله وما يأتيه فلم يعرف غير الصدق في قول ولا عمل وكان نبيا من أنبياء الله، وقوله { ورفعناه مكانا عليا } إلى السماء الرابعة في حياته كما رفع تعالى عيسى ورفع محمد إلى ما فوق السماء السابعة. وقوله تعالى: { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ءادم } كإدريس، { وممن حملنا مع نوح } أي في الفلك كإبراهيم، { ومن ذرية إبراهيم } كإسحاق وإسماعيل، { وإسرائيل } أي ومن ذرية إسرائيل كموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى، { وممن هدينا } لمعرفتنا وطريقنا الموصل إلى رضانا وذلك بعبادتنا والاخلاص لنا فيها { واجتبينآ } لوحينا وحمل رسالتنا. وقوله { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } أي أولئك الذين هديناهم واجتبينا من اجتبينا منهم. والاجتباء الأختبار والاصطفاء بأخذ الصفوة { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن } الحاملة للعظات والعبر والدلائل والحجج { خروا سجدا } لله ربهم { وبكيا } عما يرون من التقصير أو التفريط في جنب ربهم جل وعظم سلطانه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة إذ الذي نبأ هؤلاء وأرسلهم لا ينكر عليه أن ينبئ محمدا ويرسله.
2- فضيلة الأمر بالصلاة والزكاة.
3- فضيلة الوفاء بالوعد والصدق في القول والعمل.
4- سنية السجود لمن تلا هذه الآية أو تليت وهو يستمع إليها. { خروا سجدا وبكيا }
5- فضيلة البكاء حال السجود فقد كان عمر إذا تلا هذه الآية سجد ثم يقول هذا السجود فأين البكي يعني البكاء.
[19.59-63]
شرح الكلمات:
خلف: أي عقب سوء.
أضاعوا الصلاة: أهملوها فتركوها فكانوا بذلك كافرين.
اتبعوا الشهوات: انغمسوا في الذنوب والمعاصي كالزنا وشرب الخمر.
يلقون غيا : أي واديا في جهنم يلقون فيه.
ولا يظلمون شيئا: أي لا ينقصون شيئا من ثواب حسناتهم.
جنات عدن: أي إقامة دائمة.
بالغيب : أي وعدهم بها وهي غائبة عن أعينهم لغيابهم عنها إذ هي في السماء وهم في الأرض.
مأتيا: أي موعوده وهو ما يعد به عباده آتيا لا محالة.
لغوا: أي فضل الكلام وهو ما لا فائدة فيه.
بكرة وعشيا: أي بقدرهما في الدنيا وإلا فالجنة ليس فيها شمس فيكون فيها نهار وليل.
من كان تقيا: أي من كان في الحياة الدنيا تقيا لم يترك الفرائض ولم يغش المحارم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { فخلف من بعدهم خلف } يخبر تعالى عن أولئك الصالحين ممن اجتبى وهدى من النبيين وذرياتهم، إنه خلف من بعدهم خلف سوء كان من شأنهم أنهم { أضاعوا الصلوة } فمنهم من أخرها عن أوقاتها ومنهم من تركها { واتبعوا الشهوت } فانغمسوا في حمأة الرذائل فشربوا الخمور وشهدوا الزور وأكلوا الحرام ولهوا ولعبوا وزنوا وفجروا، بعد ذهاب أولئك الصالحين كما هو حال النصارى واليهود اليوم وحتى كثير من المسلمين، فهؤلاء الخلف السوء يخبر تعالى أنهم { فسوف يلقون غيا } بعد دخولهم نار جهنم. والغي: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بئر في جهنم وعن ابن مسعود أنه واد في جهنم، والكل صحيح إذ البئر توجد في الوادي وكثيرا ما توجد الآبار في الأودية.
وقوله تعالى: { إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا } أي لكن من تاب من هذا الخلف السوء وآمن أي حقق إيمانه وعمل صالحا فأدى الفرائض وترك غشيان المحارم. فأولئك أي فهؤلاء التائبون المنيبون { يدخلون الجنة } مع سلفهم الصالح، { ولا يظلمون شيئا } أي ولا ينقصون ولا يبخسون شيئا من ثواب أعمالهم.
وقوله تعالى: { جنات عدن } أي بساتين إقامة أبدية { التي وعد الرحمن عباده بالغيب } أي وعدهم بها وهي غائبة عنهم لم يروها لأنها في السماء وهم في الأرض.
وقوله: { إنه كان وعده مأتيا } أي كونهم ما رأوها غير ضار لأن ما وعد به الرحمن لا يتخلف أبدا لا بد من الحصول عليه ومعنى مأتيا يأتيه صاحبه قطعا.
وقوله تعالى في الآية [62] { لا يسمعون فيها لغوا } يخبر تعالى أن أولئك التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ودخلوا الجنة لا يسمعون فيها أي في الجنة لغوا وهو الباطل من القول وما لا خير فيه من الكلام اللهم إلا السلام فإنهم يتلقونه من الملائكة فيسمعونه منهم وهو من النعيم الروحاني في الجنة دار النعيم.
وقوله تعالى: { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } أي ولهم طعامهم فيها وهو ما تشتهيه أنفسم من لذيذ الطعام والشراب { بكرة وعشيا } أي في وقت الغداة في الدنيا وفي وقت العشي في الدنيا إذ لا ليل في الجنة ولا نهار، وإنما هي أنوار وجائز إذا وصل وقت الغداء أو العشاء تغير الأنوار من لون إلى آخر أو تغلق الأبواب وترخى الستائر ويكون ذلك علامة على وقت الغداء والعشاء.
وقوله تعالى: { تلك الجنة } آية [63] يشير تعالى إلى الجنة دار السلام تلك الجنة العالية { التي نورث من عبادنا من كان تقيا } منهم، أما الفاجر فإن منزلته فيها نورثها المتقي كما أن منزل التقي في النار نورثه فاجرا من الفجار، إذ هذا معنى التوارث: هذا يرث هذا وذاك يرث ذا، إذ ما من إنسان إلا وله منزلة في الجنة ومنزل في النار فمن آمن وعمل صالحا دخل الجنة ونزل في منزلته، ومن كفر وأشرك وعمل سوءا دخل النار ونزل في منزله فيها، ويورث الله تعالى الأتقياء منازل الفجار التي كانت لهم في الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بخلف السوء وهو من يضيع الصلاة ويتبع الشهوات.
2- الوعيد الشديد لمن ينغمس في الشهوات ويترك الصلاة فيموت على ذلك.
3- باب التوبة مفتوح والتوبة مقبولة من كل من أرادها وتاب.
4- بيان نعيم الجنة دار المتقين الأبرار.
5- تقرير مبدأ التوارث بين أهل الجنة وأهل النار.
6- بيان أن ورثة الجنة هم الأتقياء، وأن ورثة النار هم الفجار.
[19.64-65]
شرح الكلمات:
وما نتنزل: التنزل النزول وقتا بعد وقت.
إلا بأمر ربك: أي إلا بإذنه لنا في النزول على من يشاء.
له ما بين أيدينا: أي مما هو مستقبل عن أمر الآخرة.
وما خلفنا: أي ما مضى من الدنيا.
وما بين ذلك: مما لم يمض من الدنيا إلى يوم القيامة أي له علم ذلك كله.
وما كان ربك نسيا: أي ذا نسيان فإنه تعالى لا ينسى فكيف ينساك ويتركك؟.
رب السماوات والأرض: أي مالكهما والمتصرف فيهما.
واصطبر لعبادته: أي أصبر وتحمل الصبر في عبادته حتى الموت.
هل تعلم له سميا: أي لا سمي له ولا مثل ولا نظير فهو الله أحد، لم يكن له كفوا أحد.
معنى الآيتين:
لنزول هاتين الآيتين سبب وهو ما روى واستفاض أن الوحي تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم والذي يأتي بالوحي جبريل عليه السلام فلما جاء بعد بطء قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فأنزل الله تعالى قوله: جوابا لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم { وما نتنزل } أي نحن الملائكة وقتا بعد وقت على من يشاء ربنا { إلا بأمر ربك } أيها الرسول أي إلا بإذنه لنا فليس لأحد منا أن ينزل من سماء إلى سماء أو إلى أرض إلا بإذن ربنا عزوجل، { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } أي له أمر وعلم ما بين أيدينا أي ما أمامنا من أمور الآخرة وما خلفنا أي مما مضى من الدنيا علما وتدبيرا، وما بين ذلك إلى يوم القيامة علما وتدبيرا، وما كان ربك عز وجل يا رسول الله ناسيا لك ولا تاركا فإنه تعالى لم يكن النسيان وصفا له فينسى.
وقوله تعالى: { رب السموت والأرض وما بينهما } يخبر تعالى رسوله بأنه تعالى مالك السماوات والأرض وما بينهما والمتصرف فيهما فكل شيء له وبيده وفي قبضته وعليه { فاعبده } أيها الرسول بما أمرك بعبادته به { واصطبر لعبادته } أي تحمل لها المشاق، فإنه لا إله إلا هو، ف { هل تعلم له سميا } أي نظيرا أو مثيلا والجواب لا: إذا فاعبده وحده وتحمل في سبيل ذلك ما استطعت تحمله. فإنه لا معبود بحق إلا هو إذ كل ما عداه مربوب له خاضع لحكمه وتدبيره فيه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير سلطان الله على كل الخلق وعلمه بكل الخلق وقدرته على كل ذلك.
2- استحالة النسيان على الله عزوجل.
3- تقرير ربوبية الله تعالى للعالمين، وبذلك وجبت له الألوهية على سائر العالمين.
4- وجوب عبادة الله تعالى ووجوب الصبر عليها حتى الموت.
5- نفي الشبيه والمثل والنظير لله إذ هو الله أحد لم يكن له كفوا أحد.
[19.66-72]
شرح الكلمات:
ويقول الإنسان : أي الكافر بلقاء الله تعالى.
ولم يك شيئا: أي قبل خلقه فلا ذات له ولا اسم ولا صفة.
جثيا: أي جاثمين على ركبهم في ذل وخوف وحزن.
من كل شيعة: أي طائفة تعاونت على الباطل وتشيع بعضها لبعض فيه.
عتيا: أي تكبرا عن عبادته وظلما لعباده.
أولى بها صليا: أي أحق بها اصطلاء واحتراقا وتعذيبا في النار.
إلا واردها: أي مارا بها إن وقع بها هلك، وإن مر ولم يقع نجا.
حتما مقضيا: أي أمرا قضى به الله تعالى وحكم به وحتمه فهو كائن لا بد.
فيها جثيا: أي في النار جاثمين على ركبهم بعضهم إلى بعض.
معنى الآيات:
الآيات في سياق تقرير عقيدة البعث والجزاء يقول تعالى قوله وقوله الحق: { ويقول الإنسان } أي المنكر للبعث والدار الآخرة وقد يكون القائل أبي بن خلف أو العاص بن وائل وقد يكون غيرهما إذ هذه قولة كل من لا يؤمن بالآخرة يقول: { أءذا ما مت لسوف أخرج حيا } يقول هذا استنكارا وتكذبيا قال تعالى: رادا على هذا الإنسان قولته الكافرة { أولا يذكر الإنسن } أي المنكر للبعث الآخر { أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } أيكذب بالبعث وينكره ولا يذكر خلقنا له من قبل، ولم يك شيئا.
أليس الذي قدر على خلقه قبل أن يكون شيئا قادرا على إعادة خلقه مرة أخرى أليست الإعادة أهون من الخلق الأول والإيجاد من العدم، ثم يقسم الله تبارك وتعالى لرسوله على أنه معيدهم كما كانوا ويحشرهم جميعا مع شياطينهم الذين يضلونهم ثم يحضرنهم حول جهنم جثيا على ركبهم أذلاء صاغرين. هذا معنى قوله تعالى في الآية [68] { فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا }.
وقوله تعالى: { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا } يخبر تعالى بعد حشرهم إلى ساحة فصل القضاء أحياء مع الشياطين الذين كانوا يضلونهم، يحضرهم حول جهنم جثيا، ثم يأخذ تعالى من كل طائفة من تلك الطوائف التي أحضرت حول جهنم وهي جاثية تنتظر حكم الله تعالى فيها أيهم كان أشد على الرحمن عتيا أي تمردا عن طاعته وتكبرا عن الإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده وهو معنى قوله تعالى في الآية [69] { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا } وقوله تعالى: { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا } يخبر تعالى بعلمه بالذين هم أجدر وأحق بالاصطلاء بعذاب النار، وسوف يدخلهم النار قبل غيرهم ثم يدخل باقيهم بعد ذلك وهو معنى قوله عزوجل: { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا }.
وقوله: { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } ، فإنه يخبر عز وجل عن حكم حكم به وقضاء قضى به وهو أنه ما من واحد منا معشر بني آدم إلا وارد جهنم وبيان ذلك كما جاء في الحديث أن الصراط جسر يمد على ظهر جهنم والناس يمرون فوقه فالمؤمنون يمرون ولا يسقطون في النار والكافرون يمرون فيسقطون في جهنم، وهو معنى قوله في الآية [72] { ثم ننجي الذين اتقوا } أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه بترك واجب ولا بارتكاب محرم { ونذر الظالمين } بالتكبر والكفر وغشيان الكبائر من الذنوب { فيها جثيا } أي ونترك الظالمين فيها أي جهنم جاثمين على ركبهم يعانون أشد أنواع العذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بالحشر والاحضار حول جهنم والمرور على الصراط.
2- تقرير معتقد الصراط في العبور عليه إلى الجنة.
3- تقديم رؤساء الضلال وأئمة الكفر إلى جهنم قبل الأتباع الضالين.
4- تقرير حتمية المرور على الصراط.
5- بيان نجاة الأتقياء، وهلاك الفاجرين الظالمين بالشرك والمعاصي.
[19.73-76]
شرح الكلمات:
آياتنا بينات: أي آيات القرآن البينات الدلائل الواضحات الحجج.
خير مقاما: نحن أم أنتم والمقام المنزل ومحل الإقامة والمراد هنا المنزلة.
وأحسن نديا: أي ناديا وهو مجتمع الكرام ومحل المشورة وتبادل الآراء.
أحسن أثاثا ورئيا: أي مالا ومتاعا ومنظرا.
إما العذاب وإما الساعة: أي بالقتل والأسر وأما الساعة القيامة المشتملة على نار جهنم.
من هو شر مكانا: أي منزلة.
وأضعف جندا: أي أقل أعوانا.
وخير مردا: أي ما يرد إليه ويرجع وهو نعيم الجنة .
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة والتوحيد والبعث الآخر يقول تعالى { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينت } أي وإذا قرئت على كفار قريش المنكرين للتوحيد والنبوة المحمدية والبعث والجزاء يوم القيامة إذا قرأ عليهم رسول الله أو أحد المؤمنين من أصحابه بعض الآيات من القرآن البينات في معانيها ودلائلها على التوحيد والنبوة والبعث { قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا } ، وقولهم هذا هو رد فعل لا غير، إذ أنهم لما يسمعون الآيات تحمل الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين مثلهم لا يجدون ما يخففون به ألم نفوسهم فيقولون هذا الذي أخبر تعالى به عنهم { أي الفريقين } أي فريق المؤمنين أو فريق الكافرين خير مقاما أي منزلا ومسكنا وأحسن نديا أي ناديا ومجتمعا يجتمع فيه، لأنهم يقارنون بين منازل فقراء المؤمنين ودار الأرقم بن أبي الأرقم التي يجتمع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وبين دور ومنازل أبي سفيان وأغنياء مكة ونادي قريش وهو مجلس شوراهم فرد تعالى عليهم بقوله: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا } أي لا ينبغي أن يغرهم هذا الذين يتبجحون به ويتطاولون فإنه لا يدوم لهم ما داموا يحاربون دعوة الحق والقائمين عليها فكم من أهل قرون أهلكناهم لما ظلموا وكانوا أحسن من هؤلاء مالا ومتاعا ومناظر حسنة جميلة.
وقوله تعالى: { قل من كان في الضللة فليمدد له الرحمن مدا } أي اذكر لهم سنتنا في عبادنا يا رسولنا وهي أن من كان في ضلالة الشرك والظلم والمكابرة والعناد فإن سنة الرحمن فيه أن يمد له بمعنى يمهله ويملي له استدراجا حتى إذا انتهوا إلى ما حدد لهم من زمن يؤخذون فيه بالعذاب جزاء كفرهم وظلمهم وعنادهم وهو إما عذاب دنيوي بالقتل والأسر ونحوهما أو عذاب الآخرة بقيام الساعة حيث يحشرون إلى جهنم عميا وبكما وصما جزاء التعالي والتبجح بالكلام وهو معنى قوله تعالى: { حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا } أي شر منزلة وأقل ناصرا أهم الكافرون أم المؤمنون، ولكن حين لا ينفع العلم.
إذ التدارك أصبح غير ممكن وإنما هي الحسرة والندامة لا غير.
وقوله تعالى: { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } أي إذا كان تلاوة الآيات البينات تحمل المشركين على العناد والمكابرة وذلك لظلمة كفرهم فيزدادون كفرا وعنادا فإن المؤمنين المهتدين يزدادون بها هداية لأنها تحمل لهم الهدى في كل جملة وكلمة منها وهم لإشراق نفوسهم بالإيمان يرون ما تحمل الآيات من الدلائل والحجج والبراهين فيزداد إيمانهم وتزداد هدايتهم في السير في طريق السعادة والكمال بأداء الفرائض واجتناب المناهي.
وقوله تعالى: { والباقيات الصالحات خير عند ربك } أيها الرسول { ثوابا وخير مردا } في هذه الآية تسلية للرسول والمؤمنين بأن ما يتبجح به المشركون من المال والمتاع وحسن الحال لا يساوي شيئا أمام الإيمان وصالح الأعمال لأن المال فان، والصالحات باقية فثواب الباقيات الصالحات من العبادات والطاعات خير من كل متاع الدنيا وخير مردا أي مردودا على صاحبها إذ هو الجنة دار السلام والتكريم والإنعام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكشف عن نفسيات الكافرين وهي الإعتزاز بالمال والقوة إذا اعتز المؤمنون بالإيمان وثمراته في الدنيا والآخرة من حسن العاقبة.
2- بيان سنة الله تعالى في إمهال الظلمة والإملاء لهم استدراجا لهم حتى يهلكوا خاسرين.
3- بيان سنة الله تعالى في زيادة إيمان الؤمنين عند سماع القرآن الكريم، أو مشاهدة أخذ الله تعالى للظالمين.
4- بيان فضيلة الباقيات الصالحات ومنها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[19.77-80]
شرح الكلمات:
الذي كفر بآياتنا: هو العاص بن وائل.
لأوتين مالا وولدا: يريد في الآخرة.
أطلع الغيب: أي فعرف أنه يعطى مالا وولدا يوم القيامة.
كلا: ردع ورد فإنه لم يطلع الغيب ولم يكن له عند الله عهدا.
ونمد له من العذاب مدا: أي نضاعف له العذاب يوم القيامة.
ونرثه ما يقول: أي نسلبه ما تبجح به من المال والولد ويبعث فردا ليس معه مال ولا ولد.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم معجبا له { أفرأيت الذي كفر بآياتنا } اي كذب بالوحي وما يدعوا له من التوحيد والبعث والجزاء وترك الشرك والمعاصي. وهو العاص بن وائل المسمى أبو عمرو بن العاص. { وقال لأوتين مالا وولدا } قال هذا لخباب بن الأرت حينما طالبه بدين له عليه فأبى أن يعطيه استصغارا له لأنه قين " حدادا " وقال له لا أعطيكه حتى تكفر بمحمد فقال له خباب والله ما أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث فقال له العاص إذا أنا مت ثم بعثت كما تقول ثم جئتني ولي مال وولد قضيتك دينك فأكذبه الله تعالى ورد عليه قوله بقوله عز وجل: { أطلع الغيب } فعرف أن له يوم القيامة مالا وولدا. { أم اتخذ عند الرحمن عهدا } بذلك بأن سيعطيه مالا وولدا يوم القيامة { كلا } لم يطلع على الغيب ولم يكن له عند الرحمن عهدا. وقوله تعالى: { سنكتب ما يقول } من الكذب والإفتراء ونحاسبه به ونضاعف له العذاب به العذاب وهو معنى قوله تعالى: { ونمد له من العذاب مدا } ، وقوله تعالى: { ونرثه ما يقول ويأتينا فردا } أي ونسلبه ما يقول من المال والولد حيث يموت ويترك ذلك أو ينصر رسوله على قومه فيسلبهم المال والولد. ويأتينا في عرصات القيامة للحساب فردا لا مال معه ولا ولد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكشف عن نفسيات الكافرين لا سيما إذا كانوا أقوياء بمال أو لد أو سلطان فإنهم يعيشون على الغطرسة منه والاستعلاء وتجاهل الفقراء واحتقارهم.
2- تقرير البعث والحساب والجزاء.
3- مضاعفة العذاب على الكافرين الظالمين بعد كفرهم.
4- تقرير معنى آية: إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون.
[19.81-87]
شرح الكلمات:
ليكونوا لهم عزا: أي منعة لهم وقوة يشفعون لهم عند الله حتى لا يعذبوا.
سيكفرون بعبادتهم: أي يوم القيامة يجحدون أنهم كانوا يعبدونهم.
ضدا: أي أعداء لهم وأعوانا عليهم.
تؤزهم أزا: أي تزعجهم إزعاجا وتحركهم حراكا شديدا نحو الشهوات والمعاصي.
وفدا: أي راكبين على النجب تحوطهم الملائكة حتى ينتهوا إلى ربهم فيكرمهم.
إلى جهنم وردا: أي يساق المجرمون كما تساق البهائم مشاة عطاشا.
عهدا: هو شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
معنى الآيات:
يخبر تعالى منددا المشركين فيقول: { واتخذوا من دون الله آلهة } أي معبودات من الأصنام فعبدوها بأنواع من العبادات، { ليكونوا لهم } - في نظرهم الفاسد - { عزا } أي شفعاء لهم عندنا يعزون بواسطتهم ولا يهانون، { كلا } أي ليس الأمر كما يظنون { سيكفرون بعبادتهم } وذلك يوم القيامة حيث ينكرون أنهم أمروهم بعبادتهم، { ويكونون عليهم ضدا } أي خصوما، ومن ذلك قولهم.
وقال شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون
[يونس: 28] وقولهم.
بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون
[سبأ: 41].
وقوله تعالى في الآية الثانية [83] { ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } يقول تعالى لرسوله ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أنا أرسلنا الشياطين أي شياطين الجن والإنس على الكافرين بنا وبآياتنا ورسولنا ولقائنا تؤزهم أزا أي تحركهم بشدة نجو الشهوات والجرائم والمفاسد، وتزعجهم إلى ذلك بالإغراء إزعاجا كبيرا. أي فلا تعجب من حال مسارعتهم إلى الشر والفساد ولا تعجل عليهم بمطالبتنا بهلاكهم إنما نعد لهم كل أعمالهم ونحصيها عليهم حتى أنفاسهم على كل ذلك ونجزيهم به. هذا معنى قوله تعالى: { فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا }.
وقوله تعالى في الآية [85] { يوم نحشر المتقين } أي أذكر يا رسولنا نحشر المتقين { إلى الرحمن وفدا }. والمتقون هم أهل الإيمان بالله وطاعته وتوحيده ومحبته وخشيته وطاعة رسوله ومحبته وفدا أي راكبين على النجائب من النوق عليها رحال الذهب إلى الرحمن إلى جوار الرحمن عز وجل في دار المتقين الجنة دار الأبرار والسلام.
وقوله تعالى: { ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا }: أي ونسوق المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي مشاة على أرجلهم عطاشا يساقون سوق البهائم إلى جهنم وبئس الورد المورود جهنم.
وقوله تعالى { لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } أخبر تعالى أن المشركين المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي فدسوها لا يملكون الشفاعة يوم القيامة لا يشفع بعضهم في بعض كالمتقين ولا يشفع لهم أحد أبدا لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا بالإيمان به وبطاعته بأداء الفرائض وترك المحرمات يملك إن شاء الله الشفاعة بأن يشفعه الله في غيره إكراما له أو يشفع فيه غيره إكراما للشافع أيضا وإنعاما على المشفوع له.
كما أن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله المتبرئين من حولهم وقوتهم إلى الله الراجين ربهم يمكلون الشفاعة إن دخلوا النار بذنوبهم فيخرجون منها شفاعة من أراد الله أن يشفعه فيهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- براءة سائر المعبودات من دون الله من عابديها يوم القيامة خزيا لهم وإحقاقا للعذاب عليهم.
2- لا عجب مما يشاهد من مسارعة الكافرين إلى الشر والفساد والشهوات لوجود شياطين تحركهم بعنف إلى ذلك وتدفعهم إليه.
3- لا ينبغي طلب العذاب العاجل لأهل الظلم لأنهم كلما ازدادوا ظلما ازداد عذابهم شدة يوم القيامة إذ كل شيء محصى عليهم حتى أنفاسهم محاسبون عليه ومجزيون به.
4- بيان كرامة المتقين، ومهانة المجرمين.
[19.88-95]
شرح الكلمات:
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا: أي قال العرب الملائكة بنات الله وقال النصارى عيسى ابن الله.
جئتم شيئا إدا: أي منكرا عظيما.
يتفطرن: يتشققن من عظم هذا القول وشدة قبحه.
وتخر الجبال هدا: أي تسقط وتتهدم وتنهدم.
أن دعوا للرحمن ولدا: أي من أجل إدعائهم أن للرحمن عز وجل ولدا.
ولا ينبغي: أي لا يصلح ولا يليق به ذلك لأنه رب كل شيء ومليكه.
إلا آتي الرحمن عبدا: أي خاضعا منقادا كائنا من كان.
فردا: أي ليس معه شيء لا مال ولا سلطان ولا ناصر.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مقولات أهل الشرك والجهل والرد عليها من قبل الحق تبارك وتعالى قال تعالى مخبرا عنهم: { وقالوا } أي أولئك الكافرون { اتخذ الرحمن ولدا } إذ قالت بعض القبائل العربية الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله. يقول تعالى لهم بعد أن ذكر قولهم { لقد جئتم شيئا إدا } أي أتيتم بشيء منكر عظيم، { تكاد السموت يتفطرن منه } أي يتشققن منه لقبح هذا القول وسوئه، { وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } أي تسقط لعظم هذا القول لأنه مغضب للجبار عز وجل ولولا حلمه ورحمته لمس الكون كله عذاب أليم. وقوله: { أن دعوا للرحمن ولدا } أي أن نسبوا للرحمن ولدا، { وما ينبغي للرحمن } أي لا يصلح له ولا يليق بجلاله وكماله الولد، لأن الولد نتيجة شهوة بهيمية عارمة تدفع الذكر إلى إتيان الأنثى فيكون بإذن الله الولد، والله عز وجل منزه عن مشابهته لمخلوقاته وكيف يشبههم وهو خالقهم وموجدهم من العدم؟
وقوله تعالى { إن كل من في السموت والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } هذا برهان على بطلان قولة الكافرين الجاهلين، إذ الذي ما من أحد في السماوات أو في الأرض من ملائكة وإنس وجن إلا آتي الرحمن عبدا خاضعا ذليلا منقادا يوم القيامة كيف يعقل اتخاذه ولدا، إذ الولد يطلب للحاجة إليه، والغنى عن كل خلقه ما هي حاجته إلى عبد من عباده يقول هذا ولدي اللهم إنا نبرؤا إليك مما يقوله الجاهلون بك الضالون عن طريق هدايتك.
وقوله تعالى: { لقد أحصاهم وعدهم عدا } أي علمهم واحدا واحدا فلو كان بينهم إله معه أو ولد له لعلمه، فهذا برهان آخر على بطلان تلك الدعوة الجاهلية الباطلة الفاسدة وقوله: { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } هذا رد على أولئك الذين يدعون أنهم إن بعثوا يكون لهم المال والولد والشفيع والنصير. فأخبر تعالى أنه ما من أحد إلا ويأتيه يوم القيامة فردا ليس معه شافع ولا ناصر، ولا مال ولا سلطان.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- عظم الكذب على الله بنسبة الولد أو الشريك إليه أو القول عليه بدون علم.
2- بيان أن كل المخلوقات من أجلها إلى أحقرها ليس فيها غير عبد لله فنسبة الإنسان أو الجان أو الملك إلى الله تعالى هي عبد لرب مالك قاهر عزيز حكيم.
3- بيان إحاطة الله بخلقه ومعرفته لعددهم فلا يغيب عن علمه أحد منهم، ولا يتخلف عن موقف القيامة فرد منهم إذ الكل يأتي الله تعالى يوم القيامة فردا.
[19.96-98]
شرح الكلمات:
ودا: أي حبا فيعيشون متحابين فيما بينهم ويحبهم ربهم تعالى.
فإنما يسرناه بلسانك: أي يسرنا القرآن أي قراءته وفهمه بلغتك العربية.
قوما لدا: أي ألداء شديدوا الخصومة والجدل بالباطل وهم كفار قريش.
وكم أهلكنا: أي كثيرا من أهل القرون من قبلهم أهلكناهم.
هل تحس منهم من أحد: أي هل تجد منهم أحدا.
أو تسمع لهم ركزا: أي صوتا خفيا والجواب لا لأن الاستفهام إنكاري.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن الذين بالله وبرسوله وبوعد الله ووعيده فتخلوا عن الشرك والكفر وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض وكثير من النوافل هؤلاء يخبر تعالى أنه سيجعل لهم في قلوب عباده المؤمنين محبة وودا وقد فعل سبحانه وتعالى فأهل الإيمان والعمل الصالح متحابون متوادون، وهذا التوادد بينهم ثمرة لحب الله تعالى لهم. وقوله تعالى: { فإنما يسرناه } أي هذا القرآن الذي كذب به المشركون سهلنا قراءته عليك إذ أنزلناه بلسانك { لتبشر به المتقين } من عبادنا المؤمنين وهم الذين اتقوا عذاب الله بالإيمان وصالح الأعمال بعد ترك الشرك والمعاصي، { وتنذر به قوما لدا } وهم كفار قريش وكانوا ألداء أشداء في الجدل والخصومة، وقوله تعالى: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } أي وكثيرا من أهل القرون السابقة لقومك أهلكناهم لما كذبوا رسلنا وحاربوا دعوتنا { هل تحس منهم من أحد } فتراه بعينك أو تمسه بيدك، { أو تسمع لهم ركزا } أي صوتا خفيا اللهم لا فهلا يذكر هذا قومك فيتعظوا فيتوبوا إلى ربهم بالإيمان به وبرسوله ولقائه ويتركوا الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أعظم بشرى تحملها الآية الأولى وهي حب الله وأوليائه لمن آمن وعمل صالحا.
2- بيان كون القرآن ميسرا أن نزل بلغة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل البشارة لأهل الإيمان والعمل الصالح والنذارة لأهل الشرك والمعاصي.
3- إنذار العتاة والطغاة من الناس أن يحل بهم ما حل بمن قبلهم من هلاك ودمار والواقع شاهد أين أهل القرون الأولى؟
[20 - سورة طه]
[20.1-8]
شرح الكلمات:
طه: أي يا رجل.
إلا تذكرة: أي يتذكر بالقرآن من يخشى عقاب الله عز وجل.
على العرش استوى: أي ارتفع عليه وعلا.
وما تحت الثرى: الثرى التراب الندي يريد ما هو أسفل الأرضين السبع.
وأخفى: أي من السر، وهو ما علمه الله وقدر وجوده وهو كائن ولكن لم يكن بعد.
الحسنى: الحسنى مؤنث الأحسن المفضل على الحسن.
معنى الآيات:
قوله تعالى { طه } لفظ طه جائز أن يكون من الحروف المقطعة، وجائز أن يكون معناه يا رجل ورجح الأمر ابن جرير لوجوده في لغة العرب طه بمعنى يا رجل وعلى هذا فمعنى الكلام يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ردا على النضر بن الحارث الذي قال إن محمدا شقي بهذا القرآن الذي أنزل عليه لما فيه من التكاليف فنفى الحق عز وجل ذلك وقال { مآ أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى } وإنما أنزلناه ليكون تذكرة ذكرى يذكر بها من يخشى ربه فيقبل على طاعته متحملا في سبيل ذلك كل ما قد يلاقي في طريقه من أذى قومه المشركين بالله الكافرين بكتابه والمكذبين لرسوله، وقوله: { تنزيلا ممن خلق الأرض والسموت العلى } أي هذا القرآن الذي ما أنزلناه لتشقى به ولكن تذكرة لمن يخشى نزل تنزيلا من الله الذي خلق الأرض والسماوات العلى: { الرحمن على العرش استوى } أي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما الذي استوى على عرشه استواء يليق به يدبر أمر مخلوقاته، الذي { له ما في السموت وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } من الأرضين السبع. وقوله { وإن تجهر بالقول } أيها الرسول أو تسر { فإنه يعلم السر وأخفى } من السر، وهو ما قدره الله وهو واقع في وقته المحدد له فعلمه تعالى ولم يعلمه الإنسان بعد. وقوله: { الله لا إله إلا هو } أي الله المعبود بحق الذي لا معبود بحق سواه { له الأسمآء الحسنى } التي لا تكون إلا له، ولا تكون لغيره من مخلوقاته. وهكذا عرف تعالى عباده به ليعرفوه فيخافونه ويحبونه فيؤمنون به ويطيعونه فيكملون على ذلك ويسعدون فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال نظرية أن التكاليف الشرعية شاقة ومرهقة للعبد.
2- تقرير عقيدة الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
3- تقرير الصفات الإلهية كالاستواء ووجوب الإيمان بها بدون تأويل أو تعطيل أو تشبيه بل إثباتها على الوجه الذي يليق بصاحبها عز وجل.
4- تقرير ربوبية الله لكل شيء.
5- تقرير التوحيد وإثبات أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى.
[20.9-16]
شرح الكلمات:
هل أتاك: قد أتاك فالاستفهام للتحقيق.
حديث موسى: أي خبره وموسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل.
إذ رأى نارا: أي حين رؤيته نارا.
لأهله: زوجته بنت شعيب ومن معها من خادم أو ولد.
آنست نارا: أي أبصرتها من بعد.
بقبس: القبس عود في رأسه نار.
على النار هدى: أي ما يهديني الطريق وقد ضل الطريق إلى مصر.
فلما أتاها: أي النار وكانت في شجرة من العوسج ونحوه تتلألؤ نورا لا نارا.
نودي يا موسى: أي ناداه ربه قائلا له يا موسى....!
المقدس طوى: طوى اسم للوادي المقدس المطهر.
اخترتك: من قومك لحمل رسالتي إلى فرعون وبني إسرائيل.
فاستمع لما يوحى: أي إليك وهو قوله تعالى: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا }.
لذكري: أي لأجل أن تذكرني فيها.
أكاد أخفيها: أي أبالغ في إخفائها حتى لا يعلم وقت مجيئها أحد.
بما تسعى: أي سعيها في الخير أو في الشر.
فتردى: أي تهلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد ففي نهاية الآية السابقة [8] كان قوله تعالى
الله لا إله إلا هو له الأسمآء الحسنى
تقريرا للتوحيد وإثباتا له وفي هذه الآية [9] يقرره تعالى عن طريق الإخبار عن موسى، وأن أول ما أوحاه إليه من كلامه كان إخباره بأنه لا إله إلا هو أي لا معبود غيره وأمره بعبادته. فقال تعالى: { وهل أتاك } أي يا نبينا { حديث موسى إذ رأى نارا } ، وكان في ليلة مظلمة شاتية وزنده الذي معه لم يقدح له نارا { فقال لأهله } أي زوجته ومن معها وقد ضلوا طريقهم لظلمة الليل، { امكثوا } اي ابقوا هنا فقد آنست نارا أي أبصرتها { لعلي آتيكم منها بقبس } فنوقد به نارا تصطلون بها أي تستدفئون بها، { أو أجد على النار هدى } أي أجد حولها ما يهدينا طريقنا الذي ضللناه.
وقوله تعالى: { فلمآ أتاها } أي أتى النار ووصل إليها وكانت شجرة تتلألؤ نورا { نودي يموسى } أي ناداه ربه تعالى قائلا يا موسى { إني أنا ربك } أي خالقك ورازقك ومدبر أمرك { فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى } وذلك من أجل أن يتبرك بملامسة الوادي المقدس بقدميه. وقوله تعالى { وأنا اخترتك } أي لحمل رسالتي إلى من أرسلك إليهم. { فاستمع لما يوحى } أي إليك وهو: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } أي أنا الله المعبود بحق ولا معبود بحق غيري وعليه فاعبدني وحدي، { وأقم الصلاة لذكري } ، أي لأجل أن تذكرني فيها وبسببها. فلذا من لم يصل لم يذكر الله تعالى وكان بذلك كافرا لربه تعالى. وقوله { إن الساعة آتية } أي إن الساعة التي يقوم فيها الناس أحياء من قبورهم للحساب والجزاء آتية لا محالة.
من أجل مجازاة العباد على أعمالهم وسعيهم طوال أعمارهم من خير وشر، وقوله: { أكاد أخفيها } أي أبالغ في إخفائها حتى أكاد أخفيها عن نفسي. وذلك لحكمة أن يعمل الناس ما يعملون وهم لا يدرون متى يموتون ولا متى يبعثون فتكون أعمالهم بإراداتهم لا إكراه عليهم فيها فيكون الجزاء على أعمالهم عادلا، وقوله: { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } ينهى تعال موسى أن يقبل صد صاد من المنكرين للبعث متبعي الهوى عن الإيمان بالبعث والجزاء والتزود بالأعمال الصالحة لذلك اليوم العظيم الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت وهو لا يظلمون، فإن من لا يؤمن بها ولا يتزود لها يردى أي يهلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
2- تقرير التوحيد وإثباته، وأن الدعوة إلى لا إله إلا الله دعوة كافة الرسل.
3- إثبات صفة الكلام لله تعالى.
4- مشروعية التبرك بما جعله الله تعالى مباركا، والتبرك التماس البركة حسب بيان الرسول وتعليمه.
5- وجوب إقام الصلاة وبيان علة ذلك وهو ذكر الله تعالى.
6- بيان الحكمة في إخفاء الساعة مع وجوب اتيانها وحتميته.
[20.17-24]
شرح الكلمات:
وما تلك بيمينك يا موسى: الاستفهام للتقرير به ليرتب عليه المعجزة وهي انقلابها حية.
أتوكأ عليها: أي أعتمد عليها.
وأهش بها على غنمي: أخبط بها ورق الشجر فيتساقط فتأكله الغنم.
ولي فيها مآرب أخرى: أي حاجات أخرى كحمل الزاد بتعليقه فيها ثم حمله على عاتقه، وقتل الهوام.
حية تسعى: أي ثعبان عظيم، تمشي على بطنها بسرعة كالثعبان الصغير المسمى بالجان.
سيرتها الأولى: أي إلى حالتها الأولى قبل أن تنقلب حية.
إلى جناحك: أي إلى جنبك الأيسر تحت العضد إلى الإبط.
بيضاء من غير سوء: أي من غير برص تضيء كشعاع الشمس.
إذهب إلى فرعون: أي رسولا إليه.
إنه طغى: تجاوز الحد في الكفر حتى ادعى الألوهية.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع موسى وربه تعالى إذ سأله الرب تعالى وهو أعلم به وبما عنده قائلا: { وما تلك بيمينك يموسى }؟ يسأله ليقرر بأن ما بيده عصا من خشب يابسة، فإذا تحولت إلى حية تسعى علم أنها آية له أعطاه إياها ربه ذو القدرة الباهرة ليرسله إلى فرعون وملائه. وأجاب موسى ربه قائلا: { هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي } يريد يخبط بها الشجر اليابس فيتساقط الورق فتأكله الغنم { ولي فيها مآرب } أي حاجات { أخرى } كحمل الزاد والماء يعلقه بها ويضعه على عاتقه كعادة الرعاة وقد يقتل بها الهوام الضارة كالعقرب والحية. فقال له ربه عز وجل { ألقها يموسى فألقاها } من يده { فإذا هي حية تسعى } أي ثعبان عظيم تمشي على بطنها كالثعبان الصغير المسمى بالجان فخاف موسى منها وولى هاربا فقال له الرب تعالى: { خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى } أي نعيدها عصا كما كانت قبل تحولها إلى حية وفعلا أخذها فإذا هي عصاه التي كانت بيمينه. ثم أمره تعالى بقوله: { واضمم يدك } أي اليمنى { إلى جناحك } الأيسر { تخرج بيضآء من غير سوء } أي برص وفعل فضم تحت عضده إلى إبطه ثم استخرجها فإذا هي تتلألؤ كأنها فلقة قمر، أو كأنها الثلج بياضا أو أشد، وقوله تعالى { آية أخرى } أي آية لك دالة على رسالتك أخرى إذ الأولى هي انقلاب العصا إلى حية تسعى كأنها جان. وقوله تعالى: { لنريك من آياتنا الكبرى } أي حولنا لك العصا حية وجعلنا يدك تخرج بيضاء من أجل أن نريك من دلائل قدرتنا وعظيم سلطاننا. وقوله تعالى: { اذهب إلى فرعون إنه طغى } لما اراه من عجائب قدرته أمره أن يذهب إلى فرعون رسولا إليه يأمره بعبادة الله وحده وأن يرسل معه بني إسرائيل ليخرج بهم إلى أرض المعاد بالشام وقوله { إنه طغى } أي تجاوز قدره، وتعدى حده كبشر إذ أصبح يدعي الربوبية والألوهية إذ فقال:
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24] وقال:
ما علمت لكم من إله غيري
[القصص: 38]، فأي طغيان أكبر من هذا الطغيان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذه الأخبار لا تصح إلا ممن يوحى إليه.
2- استحباب تناول الأشياء غير المستقذرة باليمين.
3- مشروعية حمل العصا.
4- سنة رعي الغنم للأنبياء.
5- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله في المعارك.
6- آية موسى في انقلاب العصا حية وخروج اليد البيضاء كأنها الثلج أو شعاع شمس.
7- بيان الطغيان: وهو ادعاء العبد ما ليس له كالألوهية ونحوها.
[20.25-35]
شرح الكلمات:
اشرح لي صدري: أي وسعه لأتحمل الرسالة.
ويسر لي أمري: أي سهله حتى أقوى على القيام به.
واحلل عقدة من لساني: أي حبسة حتى أفهم من أخاطب.
اشدد به أزري: أي قوي به ظهري.
وأشركه في أمري: أي اجعله نبيا كما نبأتني.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في حديث موسى عليه السلام مع ربه سبحانه وتعالى إنه بعد أن أمر الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون ليدعوه إلى عبادة الله وحده وإرسال بني إسرائيل مع موسى ليذهب به إلى أرض القدس قال موسى عليه السلام لربه تعالى { اشرح لي صدري } لأتحمل أعباء الرسالة { ويسر لي أمري } أي سهل مهمتي علي وارزقني العون عليها فإنها صعبة شاقة. { واحلل عقدة من لساني } تلك العقدة التي نشأت بسبب الجمرة التي ألقاها في فمه بتدبير الله عزوجل حيث عزم فرعون على قتله لما وضعه في حجره يلاعبه فأخذ موسى بلحية فرعون ونتفها فغضب فقالت له آسية إنه لا يعقل لصغر سنه وقالت له تختبره بوضع جواهر في طبق وجمر في طست ونقدمهما له فإن أخذ الجواهر فهو عاقل ودونك افعل به ما شئت، وإن أخذ الجمر فهو غير عاقل فلا تحفل به ولا تغتم لفعله، وقدم لموسى الطبق والطست فمد يده إلى الطست بتدبير الله فأخذ جمرة فكانت سبب هذه العقدة فسأل موسى ربه أن يحلها من لسانه ليفصح إذا خاطب فرعون وبين فيفهم قوله، وبذلك يؤدي رسالته. هذا معنى قوله: { واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي }.
وقوله تعالى فيما أخبر عن موسى { واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي } أي طلب من الله تعالى أن يجعل له من أخيه هارون معينا على تبليغ الرسالة وتحمل أعبائها. وقوله: { اشدد به أزري } أي قو به ظهري. وقوله: { وأشركه في أمري } وذلك بتنبئته وإرساله ليكون هارون نبيا رسولا. وعلل موسى عليه الصلاة والسلام لطلبه هذا بقوله: { كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا } ، وقوله { إنك كنت بنا بصيرا } أي أنك كنت ذا بصر بنا لا يخفى عليك شيء من أمرنا وهذا من موسى توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه وما طلبه من ربه توسل إليه بعلمه تعالى به وبأخيه وبحالهما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب اللجأ إلى الله تعالى في كل ما يهم العبد.
2- مشروعية الأخذ بالأهبة والاستعداد لما يعتزم العبد القيام به.
3- فضيلة التسبيح والذكر، والتوسل بأسماء الله وصفاته.
[20.36-41]
شرح الكلمات:
قد أوتيت سؤلك: أي مسؤولك من انشراح صدرك وتيسير أمرك وانحلال عقدة لسانك، وتنبئة أخيك.
ولقد مننا عليك مرة أخرى: أي أنعمنا عليك مرة أخرى قبل هذه.
ما يوحى: أي في شأنك وهو قوله: أن اقذفيه الخ.
في التابوت: أي الصندوق.
فاقذفيه في اليم: أي في نهر النيل .
ولتصنع على عيني: تربى بمرأى مني ومحبة وإرادة.
على من يكفله: ليكمل له رضاعه.
وقتلت نفسا : هو القبطي الذي قتلته بمصر وهو بيت فرعون.
فنجيناك من الغم: إذا استغفرتنا فغفرنا لك وأئتمروا بك ليقتلوك فنجيناك منهم.
وفتناك فتونا: أي اختبرناك اختبارا وابتليناك ابتلاء عظيما.
جئت على قدر: أي جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون.
واصطنعتك لنفسي: أي أنعمت عليك بتلك النعم اجتباء منا لك لتحمل رسالتنا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حديث موسى مع ربه تعالى فقد تقدم أن موسى عليه السلام سأل ربه أمورا لتكون عونا له على حمل رسالته فأجابه تعالى بقوله: في هذه الآية [36] { قال قد أوتيت سؤلك يموسى } أي قد أعطيت ما طلبت، { ولقد مننا عليك مرة أخرى } أي قبل هذه الطلبات وهي أنه لما أمر فرعون بذبح أبناء بني إسرائيل { إذ أوحينآ إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت } أي في الصندوق { فاقذفيه في اليم } أي نهر النيل { فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له } فهذه النجاة نعمة، ونعمة أخرى تضمنها قوله تعالى: { وألقيت عليك محبة مني } أي أضفيت عليك محبتي فأصبح من يراك يحبك، ونعمة أخرى وهي: من أجل أن تربى وتغذى على مرأى مني وإرادة لي أرجعتك بتدبيري إلى أمك لترضعك وتقر عينها ولا تحزن على فراقك، وهو ما تضمنه قوله تعالى: { إذ تمشي أختك } فتقول: { هل أدلكم على من يكفله } لكم أي لارضاعه وتربيته. { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن } ، ونعمة أخرى وهي أعظم إنجاؤنا لك من الغم الكبير بعد قتلك النفس وائتمار آل فرعون على قتلك { فنجيناك من الغم } من القتل وغفرنا لك خطيئة القتل. وقوله تعالى: { وفتناك فتونا } أي ابتليناك ابتلاء عظيما وها هي ذي خلاصته في الأرقام التالية:
1- حمل أمك بك في السنة التي يقتل فيها أطفال بني إسرائيل.
2- إلقاء أمك بك في اليم.
3- تحريم المراضع عليك حتى رجعت إلى أمك.
4- أخذك بلحية فرعون وهمه بقتلك.
5- قتلك القبطي وائتمار آل فرعون بقتلك.
6- إقامتك في مدين وما عانيت من آلام الغربة.
7- ضلالك الطريق بأهلك وما أصابك من الخوف والتعب.
هذه بعض ما يدخل تحت قوله تعالى: { وفتناك فتونا } وقوله { فلبثت سنين في أهل مدين } ترعى غنم شعيب عشرا من السنين { ثم جئت } من مدين إلى طور سينا { على قدر } منا مقدر ووعد محدد ما كنت تعلمه حتى لاقيته.
واصطنعتك لنفسي أي خلقتك وربيتك وابتليتك واتيت بك على موعد قدرته لأحملك عبء الرسالة إلى فرعون وبني إسرائيل: إلى فرعون لتدعوه إلى عبادتنا وإرسال بني إسرائيل معك إلى أرض المعاد. وإلى بني إسرائيل لهدايتهم وإصلاحهم وإعدادهم للإسعاد والإكمال في الدارين إن هم آمنوا واستقاموا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر لطف الله تعالى وحسن تدبيره في خلقه.
2- مظاهر اكرام الله تعالى ولطفه بعبده ورسوله موسى عليه السلام.
3- آية حب الله تعالى لموسى، وأثر ذلك في حب الناس له.
4- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره في كتابه بمثل هذه الأحداث في قصص موسى عليه السلام.
[20.42-48]
شرح الكلمات:
بآياتي: أي بالمعجزات التي آتيتك كالعصا واليد وغيرها.
ولا تنيا في ذكري: أي لا تفترا ولا تقصرا في ذكري فإنه سر الحياة وعونكما على أداء رسالتكما.
إنه طغى: تجاوز قدره بادعائه الألوهية والربوبية.
قولا لينا: أي خاليا من الغلظة والعنف.
لعله يتذكر: أي فيما تقولان فيهتدي إلى معرفتنا فيخشانا فيؤمن ويسلم ويرسل معكما بني إسرائيل.
يفرط علينا: أي يعجل بعقوبتنا قبل أن ندعوه ونبين له.
أو أن يطغى: أي يزداد طغيانا وظلما.
أسمع وأرى: أي أسمع ما تقولانه وما يقال لكما، وأرى ما تعملان وما يعمل لكما.
فأرسل معنا بني إسرائيل: أي لنذهب بهم إلى أرض المعاد أرض أبيهم إبراهيم.
بآية: أي معجزة تدل على صدقنا في دعوتنا وأنا رسولا ربك حقا وصدقا.
والسلام على من اتبع الهدى: أي النجاة من العذاب في الدارين لمن آمن واتقى، إذ الهدى إيمان وتقوى.
من كذب وتولى: أي كذب بالحق ودعوته وأعرض عنهما فلم يقبلهما.
معنى الكلمات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن موسى مع ربه تبارك وتعالى فقد أخبره تعالى في الآية السابقة أنه صنعه لنفسه، فأمره في هذه الآية بالذهاب مع أخيه هارون مزودين بآيات الله وهي حججه التي أعطاهما من العصا واليد البيضاء. ونهاهما عن التواني في ذكر الله بأن يضعفا في ذكر وعده ووعيده فيقصرا في الدعوة إليه تعالى فقال: { اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري } وبين لهما الى من يذهبا وعلة فقال: { اذهبآ إلى فرعون إنه طغى } أي تجاوز قدره وتعدى حده من إنسان يعبد الله إلى إنسان كفار ادعى أنه رب وإله، وعلمهما اسلوب الدعوة فقال لهما: { فقولا له قولا لينا } أي خاليا من الغلظة والجفا وسوء الإلقاء وعلل لذلك فقال { لعله يتذكر أو يخشى } أي رجاء أن يتذكر معاني كلامكما وما تدعوانه إليه فيراجع نفسه فيؤمن ويهتدي أو يخشى العذاب إن بقي على كفره وظلمه فيسلم لكما بني إسرائيل ويرسلهم معكما، فأبدى موسى وأخوه هارون تخوفا فقال ما أخبر تعالى به عنهما في قوله: { قالا ربنآ إننا نخاف أن يفرط علينآ } أي يعجل بعقوبتنا بالضرب أو القتل، { أو أن يطغى } أي يزداد طغيانا وظلما. فطمأنهما ربهما عز وجل بأنه معهما بنصره وتأييده وهدايته إلى كل ما فيه عزهما فقال لهما: { لا تخافآ } أي من فرعون وملائه: { إنني معكمآ أسمع وأرى } أسمع ما تقولان لفرعون وما يقول لكما. وأرى ما تعملان من عمل وما يعمل فرعون وإني أنصركما عليه فأحق عملكما وأبطل عمله. فاتياه إذا ولا تترددا فقولا أي لفرعون { إنا رسولا ربك } أي إليك { فأرسل معنا بني إسرائيل } لنخرج بهما حيث أمر الله، { ولا تعذبهم } بقتل رجالهم واستحياء نسائهم واستعمالهم في أسوء الأعمال وأحطها، { قد جئناك بآية من ربك } أي بحجة من ربك دالة على أنا رسولا ربك إليك وأنه يأمرك بالعدل والتوحيد وينهاك عن الظلم والكفر ومنع بني إسرائيل من الخروج إلى أرض المعاد معنا.
{ والسلام على من اتبع الهدى } أي واعلم يا فرعون أن الأمان والسلامة يحصلان لمن اتبع الهدى الذي جئناك به، فاتبع الهدى تسلم، وإلا فأنت عرضة للمخاوف والهلاك والدمار وذلك لأنه { قد أوحي إلينآ } أي أوحى إلينا ربنا، { إنا أن العذاب على من كذب } بالحق الذي جئناك به { وتولى } عنه فأعرض عنه ولم يقبله كبرياء وعنادا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم شأن الذكر بالقلب واللسان والجوارح أي بالطاعة فعلا وتركا.
2- وجوب مراعاة الحكمة في دعوة الناس إلى ربهم.
3- تقرير معية الله تعالى مع أوليائه وصالحي عباده بنصرهم وتأييدهم.
4- تقرير أن السلامة من عذاب الدنيا والآخرة هي من نصيب متبعي الهدى.
5- شرعية إتيان الظالم وأمره ونهيه والصبر على أذاه.
6- عدم المؤاخذة على الخوف حيث وجدت أسبابه.
[20.49-55]
شرح الكلمات:
أعطى كل شيء خلقه: أي خلقه الذي هو عليه متميز به عن غيره.
ثم هدى: أي الحيوان منه إلى طلب مطعمه ومشربه ومسكنه ومنكحه.
قال فما بال القرون الأولى: أي قال فرعون لموسى ليصرفه عن ادلائه بالحجج حتى لا يفتضح فما بال القرون الأولى كقوم نوح وعاد وثمود في عبادتهم الأوثان؟
قال علمها عند ربي: أي علم أعمالهم وجزائهم عليها عند ربي دعنا من هذا فإنه لا يعنينا.
في كتاب لا يضل ربي: أي أعمال تلك الأمم في كتاب محفوظ عند ربي وسيجزيهم بأعمالهم إن ربي لا يخطىء ولا ينسى فإن عذب أو أخر العذاب فإن ذلك لحكمة اقتضت منه ذلك.
مهادا وسلك لكم فيها سبلا: مهادا، فراشا وسلك: سهل، وسبلا طرقا.
أزواجا من نبات شتى: أزواجا: أصنافا: شتى: مختلفة الألوان والطعوم.
إن في ذلك لآيات: لدلائل واضحات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته.
لأولي النهى: أي أصحاب العقول لأن النهية العقل وسمي نهية لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح كالشرك والمعاصي.
منها خلقناكم: أي من الأرض وفيها نعيدكم بعد الموت ومنها نخرجكم عند البعث يوم القيامة.
تارة أخرى: أي مرة أخرى إذ الأولى كانت خلقا من طين الأرض وهذه إخراجا من الأرض.
معنى الآيات:
السياق الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام وفرعون إذ وصل موسى وأخوه إلى فرعون ودعواه إلى الله تعالى ليؤمن به ويعبده وبأسلوب هادئ لين كما أمرهما الله تعالى: فقالا له:
والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى
[طه: 47-48] ولم يقولا له لا سلام عليك، ولا أنت مكذب ومعذب. وهنا قال لهما فرعون ما أخبر به تعالى في قوله: { قال فمن ربكما يموسى }؟ أفرد اللعين موسى بالذكر لإدلائه عليه بنعمة التربية في بيته ولأنه الرسول الأول فأجابه موسى بما أخبر تعالى به بقوله: { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } أي كل مخلوق خلقه الذي هو عليه متميز به من شكل ولون وصفة وذات ثم هدى الأحياء من مخلوقاته إلى طلب رزقها من طعام وشراب، وطلب بقائها بما سن لها وهداها إليه من طرق التناسل إبقاء لأنواعها. وهنا وقد أفحم موسى فرعون وقطع حجته بما ألهمه الله من علم وبيان قال فرعون صارفا موسى عن المقصود خشية الفضيحة من الهزيمة أمام ملائه قال: { فما بال القرون الأولى } أخبرنا عن قوم نوح وهود وصالح وقد كانوا يعبدون الأوثان. وعرف موسى أن اللعين يريد صرفه عن الحقيقة فقال له ما أخبر تعالى به في قوله: { علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } فإن ما سألت عنه لا يعنينا فعلم حال تلك الأمم الخالية عند ربي في لوح محفوظ عنده وسيجزيها بعملها، وما عجل لها من العقوبة أو أخر إنما لحكمة يعلمها فإن ربي لا يخطئ ولا ينسى وسيجزي كلا بكسبه.
ثم أخذ موسى يصف ربه ويعرفهم به وهي فرصة سنحت فقال { الذي جعل لكم الأرض مهدا } أي فراشا مبسوطة للحياة عليها { وسلك لكم فيها سبلا } أي سهل لكم للسير عليا طرقا تمكنكم من الوصول إلى حاجاتكم فوقها، { وأنزل من السمآء مآء } وهو المطر المكون للأنهار والمغذي الممد للآبار. هذا هو ربي وربكم فاعرفوه واعبدوه ولا تعبدوا معه سواه. وقوله تعالى: { فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى } أي بالمطر أزواجا أي أصنافا من نبات شتى أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخصائص. كان هذا من قول الله تعالى تتميما لكلام موسى وتذكيرا لأهل مكة المتجاهلين لله وحقه في التوحيد. وقوله: { كلوا وارعوا أنعامكم } أي مما ذكرنا لكم من أزواج النبات وارعوا إبلكم وأغنامكم وسائر بهائمكم واشكروا لنا هذا الإنعام بعبادتنا وترك عبادة غيرنا. وقوله تعالى: { إن في ذلك لآيات لأولي النهى } أي إن في ذلك المذكور من إنزال المطر وإنبات النبات لتغذية الإنسان والحيوان لدلالات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وأنه بذلك مستحق للعبادة دون سواه إلا أن هذه الدلائل لا يعقلها إلا أصحاب العقول وذوو النهى فهم الذي يستدلون بها علم معرفة الله ووجوب عبادته وترك عبادة غيره. وقوله تعالى: { منها } أي من الأرض التي فيها حياة النبات والحيوان خلقناكم أي بخلق أصلكم الأول وهو آدم، وفيها نعيدكم بالموت فتقبرون أحياء للحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو العذاب المهين بحسب صفات نفوسكم فذو النفس الطاهرة ينعم وذو النفس الخبيثة من الشرك والمعاصي يعذب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تعين إجابة السائل ولتكن بالعلم الصحيح النافع.
2- تقرير مبدأ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
3- تنزه الرب تعالى عن الخطأ والنسيان.
4- الاستدلال بالآيات الكونية على الخالق عزوجل وقدرته وألوهيته.
5- احترام العقول وتقديرها لأنها تعقل صاحبها دون الباطل والشر.
6- تسمية العقل نهية لأنه ينهى صاحبه عن القبائح.
[20.56-60]
شرح الكلمات:
أريناه آياتنا كلها: أي أبصرناه حججنا وأدلتنا على حقيقة ما أرسلنا به رسولينا موسى وهارون إليه كلها فرفضها وأبى أن يصدق بأنهما رسولين إليه من رب العالمين.
من أرضنا: أي أرض مصر التي فرعون ملك عليها.
بسحرك يا موسى: يشير إلى العصا واليد البيضاء.
مكانا سوى: أي مكان عدل بيننا وبينك ونصف، صالحا للمباراة بحيث يكون ساحة كبرى مكشوفة مستوية يرى ما فيها كل ناظر إليها.
يوم الزينة: أي يوم عيد يتزينون فيه ويقعدون عن العمل.
وأن يحشر الناس ضحى: أي وأن يؤتى بالناس من كل أنحاء البلاد للنظر في المباراة.
فتولى فرعون: أي انصرف من مجلس الحوار بينه وبين موسى وهارون في كبرياء وإعراض.
فجمع كيده: أي ذوى كيده وقوته من السحرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار بين موسى وهارون من جهة وفرعون وملائه من جهة أخرى فقال تعالى: { ولقد أريناه } أي أرينا فرعون { آياتنا كلها } أي أدلتنا وحججنا على أن موسى وهارون رسولان من (قبلنا) أرسلناهما إليه، فكذب برسالتهما وأبى الاعتراف بهما، وقال ما أخبر تعالى به عنه: { قال أجئتنا } أي يا موسى { لتخرجنا من أرضنا } أي منازلنا وديارنا ومملكتنا { بسحرك } الذي انقلبت به عصاك حية تسعى، { فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا } نتقابل فيه، { لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى } عدلا بيننا وبينك يكون من الاعتدال والاتساع بحيث كل من ينظر إليه يرى ما يجرى فيه من المباراة بيننا وبينك. فأجاب موسى بما أخبر تعالى به عنه فقال: { موعدكم يوم الزينة } وهو يوم عيد للأقباط يتجملون فيه ويقعدون عن العمل، { وأن يحشر الناس ضحى } أي في يوم يجمع فيه الناس ضحى للتفرج في المباراة من كل أنحاء الممكلة وهنا تولى فرعون بمعنى انصرف من مجلس المحاورة وكله كبر وعناد فجمع قواته من السحرة لإنفاذ كيده في موسى وهارون. وفي الآيات التالية تظهر الحقيقة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان كبر فرعون وصلفه وطغيانه.
2- للسحر آثار وله مدارس يتعلم فيها ورجال يحذقونه ويعلمونه.
3- مشروعية المبارزة والمباراة لإظهار الحق وإبطال الباطل.
4- مشروعية اختيار المكان والزمان اللائق للقتال والمباراة ونحوهما.
[20.61-66]
شرح الكلمات:
ويلكم: دعاء عليهم معناه: ألزمكم الله الويل وهو الهلاك.
فيسحتكم بعذاب: أي يهلككم بعذاب من عنده.
فتنازعوا أمرهم: أي في شأن موسى وهارون أي هل هما رسولان أو ساحران.
وأسروا النجوى: وهي قولهم: إن هذان لساحران يريدان الخ...
بطريقتكم المثلى: أي ويغلبا على طريقة قومكم وهما أشرافهم وساداتهم.
فأجمعوا كيدكم: أي أحكموا أمر كيدكم حتى لا تختلفوا فيه.
قد أفلح من استعلى: أي قد فاز من غلب.
إما أن تلقي: أي عصاك.
فخيل إليه أنها تسعى: أي فخيل إلى موسى أنها حية تسعى، لأنهم طلوها بالزئبق فلما ضربت الشمس عليها اضطربت واهتزت فخيل إلى موسى أنها تتحرك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام والسحرة الذين جمعهم فرعون للمباراة فأخبر تعالى عن موسى أنه قال لهم مخوفا إياهم علهم يتوبون: { ويلكم لا تفتروا على الله كذبا } أي لا تتقولوا على الله فتنسبوا إليه ما هو كذب { فيسحتكم بعذاب } أي يهلككم بعذاب إبادة واستئصال، { وقد خاب من افترى } أي خسر من كذب على الله أو على الناس. ولما سمعوا كلام موسى هذا اختلفوا فيما بينهم هل صاحب هذا الكلام ساحر أو هو كلام رسول من في السماء؟ وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله:
{ فتنازعوا أمرهم بينهم } وقوله { وأسروا النجوى } أي أخفوا ما تناجوا به بينهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله: { إن هذان لساحران } أي موسى وهارون { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } أي دياركم المصرية، { ويذهبا بطريقتكم المثلى } أي باشرافكم وساداتكم من بني إسرائيل وغيرهم فيتابعوهما على ما جاءا به ويدينون بدينهما، وعليه فأجمعوا أمركم حتى لا تختلفوا فيما بينكم، { ثم ائتوا صفا } واحدا متراصا، { وقد أفلح اليوم من استعلى } أي غلب، وهذا بعد أن اتفقوا على أسلوب المباراة قالوا بأمر فرعون: { يموسى إمآ أن تلقي } عصاك، وإما أن نلقي نحن فنكون أول من ألقى. فقال لهم موسى: { بل ألقوا } ، فالقوا عندئذ { فإذا حبالهم وعصيهم } وكانت ألوفا فغطت الساحة وهي تتحرك وتضطرب لأنها مطلية بالزئبق فلما سخنت بحر الشمس صارت تتحرك وتضطرب الأمر الذي خيل فيه لموسى أنها تسعى (باقي الحديث في الآيات بعد).
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الكذب على الله تعالى، وإنه ذنب عظيم يسبب دمار الكاذب وخسرانه.
2- من مكر الإنسان وخداعه أن يحول القضية الدينية البحتة إلى سياسة خوفا من التأثير على النفوس فتؤمن وتهتدي إلى الحق.
3- معية الله تعالى لموسى وهارون تجلت في تصرفات موسى إذ الإذن لهم بالإلقاء أولا من الحكمة وذلك أن الذي يبقى في نفوس المتفرجين والنظارة هو المشهد الأخير والكلمة الأخيرة التي تقال.. لا سيما في موقف كهذا.
[20.67-71]
شرح الكلمات:
فأوجس في نفسه خيفة: أي أحس بالخوف في نفسه.
أنت الأعلى: أي الغالب المنتصر.
تلقف: أي تبتلع بسرعة ما صنع السحرة من تلك الحبال والعصي.
كيد ساحر: أي كيد سحر لا بقاء له ولا ثبات.
لا يفلح الساحر: أي لا يفوز بمطلوبه حيثما كان.
فألقي السحرة سجدا: أي ألقوا بأنفسهم ورؤوسهم على الأرض ساجدين.
إنه لكبيركم: أي لمعلمكم الذي علمكم السحر.
من خلاف: أي يد يمنى مع رجل يسرى.
في جذوع النخل: أي على أخشاب النخل.
أينا أشد عذابا وأبقى: يعني نفسه - لعنه الله - ورب موسى أشد عذابا وأدومه على مخالفته وعصيانه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المباراة التي بين موسى عليه السلام وسحرة فرعون إنه لما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم وتحركت واضطربت وامتلأت بها الساحة شعر موسى بخوف في نفسه فأوحى إليه ربه تعالى في نفس اللحظة: { لا تخف إنك أنت الأعلى } أي الغالب القاهر لهم.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [67] فأوجس في نفسه خيفة موسى والثانية [68] { قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى } وقوله تعالى: { وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا } أي تبتلع بسرعة وعلل لذلك فقال: { إنما صنعوا كيد ساحر } أي هو مكر وخدعة من ساحر { ولا يفلح الساحر حيث أتى } أي لا يفوز الساحر بما أراد ولا يظفر به أبدا لأنه مجرد تخيلات يريها غيره. وليس لها حقيقة ثابتة لا تتحول ولما شاهد السحرة ابتلاع العصا لكل حبالهم وعصيتهم عرفوا أن ما جاء به موسى ليس سحرا وإنما هو معجزة سماوية ألقوا بأنفسهم على الأرض ساجدين لله رب العالمين لما بهر نفوسهم من عظمة المعجزة وقالوا في وضوح { آمنا برب هارون وموسى }. وهنا صاح فرعون مزمجرا مهددا ليتلافى في نظره شر الهزيمة فقال للسحرة { آمنتم له قبل أن ءاذن لكم } بذلك { إنه لكبيركم } أي معلمكم العظيم { الذي علمكم السحر } فتواطأتهم معه على الهزيمة . { فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } تعذيبا وتنكيلا فاقطع يمين أحدكم مع يسرى رجليه، أو العكس { ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي لأشدنكم على أخشاب النخل وأترككم معلقين عبرة ونكالا لغيركم { ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى } أي أدومه: رب موسى الذي آمنتم به أو أنا " فرعون عليه لعائن الله ".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الشعور بالخوف والإحساس به عند معاينة أسبابه لا يقدح في الإيمان.
2- تقرير أن ما يظهر السحرة من تحويل الشيء إلى آخر إنما هو مجرد تخييل لا حقيقة له.
3- حرمة السحر لأنه تزوير وخداع.
4- قوة تأثير المعجزة في نفس السحرة لما ظهر لهم من الفرق بين الآية والسحر.
5- شجاعة المؤمن لا يرهبها خوف بقتل ولا بصلب.
[20.72-76]
شرح الكلمات:
لن نؤثرك: أي لن نفضلك ونختارك.
والذي فطرنا: أي خلقنا ولم نكن شيئا.
فاقض ما أنت قاض: أي اصنع ما قلت إنك تصنعه بنا.
والله خير وأبقى: أي خير منك ثوابا إذا أطيع وأبقى منك عذابا إذا عصى.
مجرما: مجرما أي على نفسه مفسدا لها بآثار الشرك والكفر والمعاصي.
جزاء من تزكى: أي ثواب من تتطهر من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع فرعون والسحرة المؤمنين أنه لما هددهم فرعون بالقتل والصلب على جذوع النخل لإيمانهم بالله وكفرهم به وهو الطاغوت قالوا له ما أخبر تعالى به عنهم في هذه الآية [72] { قالوا لن نؤثرك } يا فرعون { على ما جآءنا من البينات } الدلائل والحجج القاطعة على أن رب موسى وهارون هو الرب الحق الذي تجب عبادته وطاعته فلن نختارك على الذي خلقنا فنؤمن بك ونكفر به لن يكون هذا أبدا واقض ما أنت عازم على قضائه علينا من القتل والصلب. { إنما تقضي هذه الحياة الدنيآ } في هذه الحياة الدنيا لما لك من السلطان فيها أما الآخرة فسوف يقضى عليك فيها بالخلد في العذاب المهين.
وأكدوا إيمانهم في غير خوف ولا وجل فقالوا: { إنآ آمنا بربنا } أي خالقنا ورازقنا ومدبر أمرنا { ليغفر لنا خطايانا } أي ذنوبنا ، { ومآ أكرهتنا عليه من السحر } أي من تعلمه والعمل به، ونحن لا نريد ذلك ولا شك أن فرعون كان قد ألزمهم بتعلم السحر والعمل به من أجل محاربة موسى وهارون لما رأى من معجزة العصا واليد. وقولهم { والله خير وأبقى } أي خير ثوابا وجزاء حسنا لمن آمن به وعمل صالحا، وأبقى عذابا لمن كفر به وآمن بغيره وعصاه. هذا ما دلت عليه الآيتان [72] و [73].
أما الآية الثالثة [74] وهي قوله تعالى: { إنه من يأت ربه مجرما } أي على نفسه بإفسادها بالشرك والمعاصي { فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى } فيستريح من العذاب فيها، { ولا يحيى } حياة يسعد فيها.
وقولهم { ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات } أي مؤمنا به كافرا بالطاغوت قد عمل بشرائعه فأدى الفرائض واجتنب المناهي { فأولئك لهم } جزاء إيمانهم وعملهم الصالح { الدرجات العلى جنات عدن } أي في جنات عدن { تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } لا يموتون ولا يخرجون منها، { وذلك جزآء من تزكى } أي تتطهر بالإيمان وصالح الأعمال بعد تخليه عن الشرك والخطايا والذنوب. لا شك أن هذا العلم الذي عليه السحرة كان قد حصل لهم من طريق دعوة موسى وهارون إذ أقاموا بينهم زمنا طويلا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يؤثر الكفر على الإيمان والباطل على الحق والخرافة على الدين الصحيح إلا أحمق جاهل.
2- تقرير مبدأ أن عذاب الدنيا يتحمل ويصبر عليه بالنظر إلى عذاب الآخرة.
3- الاكراه نوعان: ما كان بالضرب الذي لا يطاق يغفر لصاحبه وما كان لمجرد تهديد ومطالبة فإنه لا يغفر إلا بالتوبة الصادقة وإكراه السحرة كان من النوع الآخر.
4- بيان جزاء كل من الكفر والمعاصي، والإيمان والعمل الصالح في الدار الآخرة.
[20.77-82]
شرح الكلمات:
أن أسر بعبادي: أي سر ليلا من أرض مصر.
طريقا في البحر يبسا: طريقا في وسط البحر يابسا لا ماء فيه.
لا تخاف دركا: أي لا تخش أن يدركك فرعون، ولا تخشى غرقا.
فغشيهم من اليم: أي فغطاهم من ماء البحر ما غطاهم حتى غرقوا فيه.
وأضل فرعون قومه: أي بدعائهم إلى الإيمان به والكفر بالله رب العالمين.
وما هدى: أي لم يهدهم كما وعدهم بقوله:
ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد
[غافر: 29].
جانب الطور الأيمن: أي لأجل إعطاء موسى التوراة التي فيها نظام حياتهم دينا ودنيا.
المن والسلوى: المن: شيء أبيض كالثلج، والسلوى طائر يقال له السماني.
ولا تطغوا فيه: أي بالإسراف فيه، وعدم شكر الله تعالى عليه.
ثم اهتدى: أي بالاستقامة على الإيمان والتوحيد والعمل الصالح حتى الموت.
معنى الآيات:
إنه بعد الجدال الطويل والخصومة الشديدة التي دامت زمنا غير قصير وأبى فيها فرعون وقومه قبول الحق والإذعان له أوحى تعالى إلى موسى عليه السلام بما أخبر به في قوله عز وجل: { ولقد أوحينآ إلى موسى } وبأي شيء أوحى إليه. بالسرى ببني إسرائيل وهو قوله تعالى { ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادي } قوله { فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا } أي اجعل لهم طريقا في وسط البحر، وذلك حاصل بعد ضربه البحر بالعصي فانفلق البحر فرقتين والطريق وسطه يابسا لا ماء فيه حتى اجتاز بنو إسرائيل البحر، ولما تابعهم فرعون ودخل البحر بجنود أطبق الله تعالى عليهم البحر فأغرقهم أجمعين، بعد أن نجى موسى وبني إسرائيل، وهو معنى قوله تعالى: { فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم } أي من ماء البحر { ما غشيهم } أي الشيء العظيم من مياه البحر. وقوله لموسى { لا تخاف دركا ولا تخشى } أي لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك ولا تخشى غرقا في البحر.
وقوله تعالى: { وأضل فرعون قومه وما هدى } إخبار منه تعالى أن فرعون أضل أتباعه حيث حرمهم من الإيمان بالحق واتباع طريقه، ودعاهم إلى الكفر بالحق وتجنب طريقه فاتبعوه على ذلك فضلوا وما اهتدوا، وكان يزعم أنه ما يهديهم إلا سبيل الرشاد وكذب.
وقوله تعالى: { يبني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم } أي فرعون، { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } أي مع نبينا موسى لانزال التوراة لهدايتكم وحكمهم بشرائعها، وأنزلنا عليكم المن والسلوى غذاء لكم في التيه، { كلوا من طيبات ما رزقناكم } أي قلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلال الطعام والشراب، { ولا تطغوا فيه } بترك الحلال إلى الحرام وبالأسراف في تناوله وبعدم شكر الله تعالى، وقوله تعالى: { فيحل عليكم غضبي } أي أن أنتم طغيتم فيه.
{ ومن يحلل عليه غضبي } أي ومن يجب عليه غضبي { فقد هوى } أي في قعر جهنم وهلك.
وقوله تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } يعدهم تعالى بأن يغفر لمن تاب منهم ومن غيرهم وعمل صالحا أي أدى الفرائض واجتنب المناهي ثم استمر على ذلك ملازما له حتى مات.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا القصص لا يقصه إلا بوحي إليه إذ لا سبيل إلى معرفته إلا من طريق الوحي الإلهي.
2- آية انفلاق البحر ووجود طريق يابس فيه لبني إسرائيل حتى اجتازوه دالة على جود الله تعالى وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته.
3- تذكير اليهود المعاصرين للدعوة الإسلامية بإنعام الله تعالى على سلفهم لعلهم يشكرون فيتوبون فيسلمون.
4- تحريم الإسراف والظلم، وكفر النعم.
5- الغضب صفة لله تعالى كما يليق ذلك بجلاله وكماله لا صفات المحدثين.
[20.83-89]
شرح الكلمات:
وما أعجلك: أي شيء جعلك تترك قومك وتأتي قبلهم.
هم على أثري: أي آتون بعدي وليسوا ببعيدين مني.
وعجلت إليك ربي لترضى: أي استعجلت المجيء إليك طلبا لرضاك عني.
قد فتنا قومك: أي ابتليناهم أي بعبادة العجل.
وأضلهم السامري: أي عن الهدى الذي هو الإسلام إلى الشرك وعبادة غير الرب تعالى.
غضبان أسفا: أي شديد الغضب والحزن.
وعدا حسنا: أي بأن يعطيكم التوراة فيها نظام حياتكم وشريعة ربكم لتكملوا عليها وتسعدوا.
أفطال عليكم العهد: أي مدة الموعد وهي ثلاثون يوما قبل أن يكملها الله تعالى أربعين يوما.
بملكنا: أي بأمرنا وطاقنا، ولكن غلب علينا الهوى فلم نقدر على انجاز الوعد بالسير وراءك.
أوزارا: أي أحمالا من حلي نساء الأقباط وثيابهن.
فقذفناها: أي ألقيناها في الحفرة بأمر هارون عليه السلام.
ألقى السامري: السامري هو موسى بن ظفر من قبيلة سامرة الإسرائيلية، وما ألقاه هو التراب الذي أخذه من تحت حافر فرس جبريل ألقاه أي قذفه على الحلي.
عجلا جسدا: أي ذا جثة.
له خوار: الخوار صوت البقر.
فنسي: أي موسى ربه هنا وذهب يطلبه.
ألا يرجع إليهم قولا: أنه لا يكلمهم إذا كلموه لعدم نطقه بغير الخوار.
معنى الآيات:
بعد أن نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وملائه حيث اجتاز بهم موسى البحر وأغرق الله فرعون وجنوده أخبرهم موسى أن ربه تعالى قد أمره أن يأتيه ببني إسرائيل وهم في طريقهم إلى أرض المعاد إلى جبل الطور ليؤتيهم التوراة فيها شريعتهم ونظام حياتهم دنيا ودينا وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن، واستعجل موسى في المسير إلى الموعد فاستخلف أخاه هارون على بني إسرائيل ليسير بهم وراء موسى ببطء حتى يلحقوا به عند جبل الطور، وحدث أن بني إسرائيل فتنهم السامري بضع العجل ودعوتهم إلى عبادته وترك المسير وراء موسى عليه السلام فقوله تعالى: { ومآ أعجلك عن قومك يموسى } هو سؤال من الله تعالى لموسى ليخبره بما جرى لقومه بعده وهو لا يدري فلما قال تعالى لموسى: { ومآ أعجلك } عن المجئ وحدك دون بني إسرائيل مع أن الأمر أنك تأتي معهم أجاب موسى بقوله { هم أولاء على أثري } آتون بعدي، وعجلت المجيء إليك لترضى عني. هنا أخبره تعالى بما حدث لقومه فقال عز وجل: { فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري } أي بصنع العجل لهم ودعوتهم إلى عبادته بحجة أنه الرب تعالى وأن موسى لم يهتد إليه. ولما انتهت المناجاة وأعطى الله تعالى موسى الألواح التي فيه التوراة { فرجع موسى إلى قومه غضبن أسفا } أي حزينا إلى قومه فقال لهم لما بما أخبر تعالى عنه بقوله: { قال يقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا } فذكرهم بوعد الله تعالى لهم بإنجائهم من آل فرعون وإكرامهم بالملك والسيادة موبخا لهم على خطيئتهم بتخلفهم عن السير وراءه وانشغالهم بعبادة العجل والخلافات الشديدة بينهم، وقوله { أفطال عليكم العهد } أي لم يطل فالمدة هي ثلاثون يوما فلم تكتمل حتى فتنتم وعبدتم غير الله تعالى، قوله { أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم } أي بل أردتم بصنيعكم الفاسد أن يجب عليكم غضب من ربكم فحل بكم، { فأخلفتم موعدي } بعكوفكم على عبادة العجل وترككم السير على أثري لحضور موعد الرب تعالى الذي واعدكم.
وقوله تعالى { قالوا مآ أخلفنا موعدك بملكنا } هذا ما قاله قوم موسى كالمعتذرين به إليه فزعموا أنهم ما قدروا على عدم إخلاف الموعد لغلبة الهوى عليهم فلم يطيقوا السير وراءه مع وجود العجل وما ضللهم به السامري من أنه هو إلههم وأن موسى أخطأ الطريق إليه. هذا معنى قولهم: { مآ أخلفنا موعدك بملكنا } أي بأمرنا وقدرتنا إذ كنا مغلوبين على أمرنا.
وقولهم: { ولكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم فقذفناها } هذا بيان لوجه الفتنة وسببها وهي أنهم لما كانوا خارجين من مصر استعار نساؤهم حليا من نساء القبط بدعوى عيد لهم، وأصبحوا خارجين مع موسى في طريقهم إلى القدس، وتم إنجاؤهم وإغراق فرعون ولما نزلوا بالساحل استعجل موسى موعد ربه وتركهم تحت إمرة هارون أخيه على أن يواصلوا سيرهم وراء موسى إلى جبل الطور غير أن موسى الملقب بالسامري استغل الفرصة وقال لنساء بني إسرائيل هذا الحلي الذي عندكن لا يحل لكن أخذه إذ هي ودائع كيف تستحلونها وحفر لهم حفرة وقال ألقوها فيها وأوقد فيها النار لتحترق ولا ينتفع بها بعد، هذا ما دل عليه قولهم { ولكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم } أي قوم فرعون فقذفناها أي في الحفرة التي أمر بها السامري وقوله تعالى { فكذلك ألقى السامري } هو من جملة قول بني إسرائيل لموسى فكما ألقينا الحلي في الحفرة ألقى السامري ما معه من التراب الذي أخذه من تحت حافر فرس جبريل، فصنع السامري العجل فأخرجه لهم عجلا جسدا له خوار أي صوت فقال بعضهم لبعض هذا إلهكم وإله موسى الذي ذهب إلى موعده فنسي وضل الطريق إليه فاعبدوه حتى يأتي موسى. قال تعالى موبخا إياهم { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا } إذا كلموه، { ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } فكيف يعقلون أنه إله وهو لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يعطيهم إذا طلبوه، ولا ينصرهم إذا استنصروه ولكنه الجهل والضلال واتباع الهوى. والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
1- ذم العجلة وبيان آثارها الضارة فاستعجال موسى الموعد وتركه قومه وراءه كان سببا في أمر عظيم وهو عبادة العجل وما تترتب عليها من آثار جسام.
2- مشروعية طلب رضا الله تعالى ولكن بما يحب أن يتقرب به إليه.
3- مشروعية الغضب لله تعالى والحزن على ترك عبادته بمخالفة أمره ونهيه.
4- مشروعية استعارة الحلي للنساء والزينة، وحرمة جحدها وأخذها بالباطل.
5- وجوب استعمال العقل واستخدام الفكر للتمييز بين الحق والباطل، والخير والشر.
[20.90-94]
شرح الكلمات:
فتنتم به: أي ابتليتم به أي بالعجل.
لن نبرح عليه عاكفين: أي لن نزال عاكفين على عبادته.
إذ رأيتهم ضلوا: أي بعبادة العجل واتخاذه إلها من دون الله تعالى.
لا تأخذ بلحيتي: حيث أخذ موسى من شدة غضبه بلحية أخيه وشعر رأسه يجره إليه يعذله ويلوم عليه.
ولم ترقب قولي: أي ولم تنتظر قولي فيما رأيته في ذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الذي دار بين موسى وقومه بعد رجوعه إليهم من المناجاة فقوله تعالى: { ولقد قال لهم هارون من قبل } أي من قبل رجوع موسى قال لهم أثناء عبادتهم العجل يا قوم إن العجل ليس إلهكم ولا إله موسى وإنما هو فتنة فتنتم به ليرى الله تعالى صبركم على عبادته ولزوم طاعة رسوله، وليرى خلاف ذلك فيجزى كلا بما يستحق وقال لهم: { وإن ربكم الرحمن } الذي شاهدتم آثار رحمته في حياتكم كلها فاذكروها { فاتبعوني } في عبادة الله وحده وترك عبادة غيره { وأطيعوا أمري } فإني خليفة موسى الرسول فيكم فأجاب القوم الضالون بما أخبر تعالى عنهم بقوله: { قالوا لن نبرح عليه عاكفين } أي لن نزول عن عبادته والعكوف حوله { حتى يرجع إلينا موسى }. ولما سمع موسى من قومه ما سمع التفت إلى هارون قائلا معاتبا عاذلا لائما { يهرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا } أي بعبادة العجل { ألا تتبعن } أي بمن معك من المسلمين وتترك المشركين، { أفعصيت أمري } ، ومن شدة الوجد وقوة اللوم والعذل أخذ بشعر رأس أخيه بيمينه وأخذ بلحيته بيساره وجره إليه وهو يعاتبه ويلوم عليه فقال هارون: { يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } إن لي عذرا في عدم متابعتك وهو أني خشيت إن أنا أتيتك ببعض قومك وهم المسلمون وتركت بعضا آخر وهو عباد العجل { أن تقول فرقت بين بني إسرآءيل } وذلك لا يرضيك. { ولم ترقب قولي } أي ولم تنظر قولي فيما رأيت في ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- معصية الرسول تؤدي إلى فتنة العاص في دينه ودنياه.
2- جواز العذل والعتاب للحبيب عند تقصيره فيما عهد به إليه.
3- جواز الاعتذار لمن اتهم بالتقصير وإن حقا.
4- قد يخطئ المجتهد في اجتهاده وقد يصيب.
[20.95-98]
شرح الكلمات:
فما خطبك: أي ما شأنك وما هذا الأمر العظيم الذي صدر منك.
بصرت بما لم يبصروا به: أي علمت من طريق الإبصار والنظر ما لم يعلموا به لأنهم لم يروه.
قبضة من أثر الرسول: أي قبضت قبضة من تراب أثر حافر فرس الرسول جبريل عليه السلام.
فنبذتها: أي ألقيتها وطرحتها على الحلى المصنوع عجلا.
سولت لي نفسي: أي زينت لي هذا العمل الذي هو صنع العجل.
أن تقول لا مساس: أي اذهب تائها في الأرض طول حياتك وأنت تقول لا مساس أي لا يمسني أحد ولا أمسه لما يحصل من الضرر العظيم لمن تمسه أو يمسك.
إلهك: أي العجل.
ظلت: أي ظللت طوال الوقت عاكفا عليه.
في اليم نسفا: أي في البحر ننسفه بعد إحراقه وجعله كالنشارة نسفا.
إنما إلهكم الله: أي لا معبود إلا الله الذي لا إله إلا هو.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار بين موسى وقومه فبعد لومه أخاه وعذله له التفت إلى السامري المنافق إذ هو من عباد البقر وأظهر الإسلام في بني إسرائيل، ولما اتيحت له الفرصة عاد إلى عبادة البقر فصنع العجل وعبده ودعا إلى عبادته فقال له: في غضب { قال فما خطبك يسامري } أي ما شأنك وما الذي دعاك إلى فعلك القبيح الشنيع هذا فقال السامري كالمعتذر { بصرت بما لم يبصروا به } أي علمت ما لم يعلمه قومك { فقبضت قبضة من أثر } حافز فرس { الرسول فنبذتها } في الحلي المصنوع عجلا فخار كما تخور البقر. { وكذلك سولت لي نفسي } ذلك أي زينته لي وحسنته ففعلته، وهنا أجابه موسى عليه السلام بما أخبر تعالى به في قوله: { قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس } أي لك مدة حياتك أن تقول لمن أراد أن يقربك لا مساس أي لا تمسني ولا أمسك لتتيه طول عمرك في البرية مع السباع والحيوان عقوبة لك على جريمتك، ولا شك أن فراره من الناس وفرار الناس منه لا يكون مجرد أنه لا يرقب في ذلك، لعله قيل إنها الحمى فإذا مس أحد حما معا أي أصابتهما الحمى معا كأنه أسلاك كهربائية مكشوفة من مسها تكهرب منها. وقوله له: { وإن لك موعدا لن تخلفه } ، أي ذاك النفي والطرد عذاب الدنيا، وإن لك عذابا آخر يوم القيامة في موعد لن تخلفه أبدا فهو آت وواقع لا محالة.
وقوله: أي موسى للسامري: { وانظر إلى إلهك } المزعوم { الذي ظلت عليه عاكفا } تعبده لا تفارقه، والله { لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا } وفعلا حرقه ثم جعله كالنشارة وذره في البحر تذرية حتى يعثر له على أثر، ثم قال لأولئك الذين عبدوا العجل المغرر بهم المضللين: { إنمآ إلهكم } الحق الذي تجب له العبادة والطاعة { الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما } أي وسع علمه كل شيء فهو عليم بكل شيء وقدير على كل شيء وما عداه فليس له ذلك وما لم يكن ذا قدرة على شيء وعلم بكل شيء فكيف يعبد ويطاع.
.؟!
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاستنطاق للمتهم والاستجواب له.
2- ما سولت النفس لأحد ولا زينت له شيئا إلا تورط فيه إن هو عمل بما سولته له،
3- قد يجمع الله تعالى للعبد ذي الذنب العظيم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
4- مشروعية هجران المبتدع ونفيه وطرده فلا يسمح لأحد بالاتصال به والقرب منه.
5- كسر الأصنام والأوثان والصور وآلات اللهو والباطل الصارفة عن عباد الله تعالى.
[20.99-104]
شرح الكلمات:
كذلك: أي كما قصصنا عليك هذه القصة قصة موسى وفرعون وموسى وبني إسرائيل نقص عليك من أنباء الرسل.
من لدنا ذكرا: أي قرآنا وهو القرآن الكريم.
من أعرض عنه: أي لم يؤمن به ولم يقرأه ولم يعمل به.
وزرا: أي حملا ثقيلا من الآثام.
يوم ينفخ في الصور: أي النفخة الثانية وهي نفخة البعث، والصور هو القرن.
زرقا: أي عيونهم زرق ووجوههم سود آية أنهم أصحاب الجحيم.
يتخافتون بينهم: أي يخفضون أصواتهم يتسارون بينهم من شدة الهول.
أمثلهم طريقة : أي أعدلهم رأيا في ذلك، وهذا كله لعظم الموقف وشدة الهول والفزع.
معنى الآيات:
بعد نهاية الحديث بين موسى وفرعون، وبين موسى وبني إسرائيل قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { كذلك نقص عليك } أي كما قصصنا عليك ما قصصنا من نبأ موسى وفرعون وخبر موسى وبني إسرائيل نقص عليك { من أنبآء ما قد سبق } أي أحداث الأمم السابقة ليكون ذلك آية نبوتك ووحينا إليك، وعبرة وذكرى للمؤمنين. وقوله تعالى: { وقد آتيناك من لدنا ذكرا } أي وقد أعطيناك تفضلا منا ذكرا وهو القرآن العظيم يذكر به العبد ربه ويهتدي به إلى سبيل النجاة والسعادة، وقوله { من أعرض عنه } أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه { فإنه يحمل يوم القيامة وزرا } أي إثما عظيما لأنه لم يعمل صالحا وكل عمله كان سيئا لكفره وعدم إيمانه، { خالدين فيه } أي في ذلك الوزر في النار، وقوله { وسآء لهم يوم القيامة حملا } أي قبح ذلك الحمل حملا يوم القيامة إذ صاحبه لا ينجو من العذاب بل بطرح معه في جهنم يخلد فيها وقوله { يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين } أي المكذبين بالدين الحق العاملين بالشرك والمعاصي { يومئذ } أي يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية { زرقا } أي الأعين مع اسوداد الوجوه وقوله: { يتخافتون بينهم } أي يتهامسون بينهم يسأل بعضهم بعضا كما لبثتم في الدنيا وفي القبور فيقول البعض: { إن لبثتم إلا عشرا } أي ما لبثتم إلا عشر ليال، وقوله تعالى: { نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة } أي أعدلهم رأيا { إن لبثتم إلا يوما } ، وهذا التقال للزمن الطويل سببه هول القيامة وعظم ما يشاهدون فيها من ألوان الفزع والعذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يقص تعالى عليه أنباء ما قد سبق بعد قصه عليه أنباء موسى وفرعون بالحق، وايتائه القرآن الكريم.
2- كون القرآن ذكرا للذاكرين لما يحمل من الحجج والدلائل والبراهين.
3- سوء حال المجرمين يوم القيامة، الذين أعرضوا عن القرآن الكريم.
4- عظم أهوال يوم القيامة حتى يتقال معها المرء مدة الحياة الدنيا التي هي آلاف الأعوام.
[20.105-112]
شرح الكلمات:
يسألونك عن الجبال: أي المشركون عن الجبال كيف تكون يوم القيامة.
فقل ينسفها ربي نسفا: أي يفتتها ثم تذروها الرياح فتكون هباء منبثا.
قاعا صفصفا: أي مستويا.
عوجا ولا أمتا: اي لا ترى فيها انخفاضا ولا ارتفاعا.
الداعي: أي إلى المحشر يدعوهم إليه للعرض على الرب تعالى.
وخشعت الأصوات: أي سكنت فلا يسمع إلا الهمس وهو صوت الأقدام الخفي.
ورضي له قولا: بأن قال لا إله إلا الله من قلبه صادقا.
ولا يحيطون به علما: الله تعالى ما بين أيدي الناس وما خلفهم، وهم لا يحيطون به علما.
وعنت الوجوه للحي القيوم: أي ذلت وخضعت للرب الحي الذي لا يموت.
من حمل ظلما: أي جاء يوم القيامة يحمل أوزار الظلم وهو الشرك.
ظلما ولا هضما: أي لا يخاف ظلما بأن يزاد في سيئاته ولا هضما بأن ينقص من حسناته.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله: { ويسألونك } أي المشركين من قومك المكذبين بالبعث والجزاء { عن الجبال } عن مصيرها يوم القيامة فقل له: { ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } أي أجبهم بأن الله تعالى يفتتها ثم ينسفها فتكون هباء منبثا، فيترك أماكنها قاعا صفصفا أي أرضا مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا أي لا انخفاضا ولا ارتفاعا. وقوله { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا } أي يوم تقوم القيامة فينشرون يدعوهم الداعي هلموا إلى أرض المحشر فلا يميلون عن صوته يمنة ولا يسرة وهو معنى لا عوج له. وقوله تعالى: { وخشعت الأصوات للرحمن } أي ذلت وسكنت { فلا تسمع إلا همسا } وهو صوت خفي كأصوات خفاف الإبل إذا مشت وقوله تعالى: { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا } أي يخبر تعالى إنهم يوم جمعهم للمحشر لفصل القضاء لا تنفع شفاعة أحد أحدا إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة، ورضي له قولا أي وكان المشفوع فيه من أهل التوحيد أهل لا إله إلا الله وقوله { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما } أي يعلم ما بين أيدي أهل المحشر أي ما يسيحكم به عليهم من جنة أو نار، وما خلفهم مما تركوه من أعمال في الدنيا، وهم لا يحيطون به عز وجل علما، فلذا سيكون الجزاء عادلا رحيما، وقوله: { وعنت الوجوه للحي القيوم } أي ذلت وخضعت كما يعنو بوجهه الأسير، والحي القيوم هو الله جل جلاله وقوله تعالى: { وقد خاب } أي خسر { من حمل ظلما } ألا وهو الشرك والعياذ بالله وقوله تعالى: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن } والحال أنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والبعث الآخر فهذا لا يخاف ظلما بالزيادة في سيآته، ولا هضما بنقص من حسناته، وهي عدالة الله تعالى تتجلى في موقف الحساب والجزاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان جهل المشركين في سؤالهم عن الجبال.
2- تقرير مبدأ البعث الآخر.
3- لا شفاعة لغير أهل التوحيد فلا يشفع مشرك، ولا يشفع لمشرك.
4- بيان خيبة المشركين وفوز الموحدين يوم القيامة.
[20.113-115]
شرح الكلمات:
وكذلك أنزلنا: أي مثل ذلك الإنزال أنزلنا قرآنا عربيا أي بلغة العرب ليفهموه.
وصرفنا فيه من الوعيد: أي من أنواع الوعيد، وفنون العذاب الدنيوي والأخروي .
أو يحدث لهم ذكرا: أي بهلاك الأمم السابقة فيتعظون فيتوبون ويسلمون.
فتعالى الله الملك الحق: أي عما يقول المفترون ويشرك المشركون.
ولا تعجل بالقرآن: أي بقرءاته.
من قبل أن يقضى إليك وحيه: أي من أن يفرغ جبريل من قراءته عليك.
عهدنا إلى آدم: أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة.
فنسي: أي عهدنا وتركه.
ولم نجد له عزما: أي حزما وصبرا عما نهيناه عنه.
معنى الآيات:
يقول تعالى { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا } أي ومثل ما أنزلنا من تلك الآيات المشتملة على الوعد والوعيد أنزلنا القرآن بلغة العرب ليفهموه ويهتدوا به { وصرفنا فيه من الوعيد } أي بينا فيه من أنواع الوعيد وكررنا فنون العذاب الدنيوي والأخروي لعل قومك أيها الرسول يتقون ما كان سببا في إهلاك الأمم السابقة وهو الشرك والتكذيب والمعاصي { أو يحدث لهم ذكرا } أي يوجد لهم ذكرا في أنفسهم فيتعظون فيتوبون من الشرك والتكذيب للرسول ويطيعون ربهم فيكملون ويسعدون هذا ما دلت عليه الآية الأولى [113].
وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى { فتعلى الله الملك الحق } فإن الله تعالى يخبر عن علوه من سائر خلقه وملكه لهم وتصرفه فيهم وقهره لهم، ومن ثم فهو منزه عن الشريك والولد وعن كل نقص يصفه به المفترون الكذابون.
وقوله: { ولا تعجل بالقرءان من قبل أن يقضى إليك وحيه } يعلم تعالى رسوله كيفية تلقي القرآن عن جبريل عليه السلام فيرشده إلى أنه لا ينبغي أن يستعجل في قراءة الآيات ولا في إملائها على أصحابها ولا في الحكم بها حتى يفرغ جبريل من قراءتها كاملة عليه وبيان مراد الله تعالى منها في إنزالها عليه. وطلب إليه أن يسأله المزيد من العلم بقوله: { وقل رب زدني علما } ، وفيه إشعار بأنه دائما في حاجة إلى المزيد، ولذا فلا يستعجل ولكن يتريث ويتمهل، وهذا علماء أمته أحوج إليه منه صلى الله عليه وسلم فالاستعجال في الفتيا وفي إصدار الحكم كثيرا ما يخطئ صاحبهما.
وقوله تعالى: { ولقد عهدنآ إلى ءادم من قبل فنسي ولم نجد له عزما } يقول تعالى مخبرا رسوله والمؤمنين ولقد وصينا آدم من قبل هذه الأمم التي أمرناها ونهيناها فلم يطع أكثرها وصيناه بأن لا يطيع عدوه إبليس وأن لا يأكل من الشجرة فترك وصيتنا ناسيا لها غير مبال بها وأطاع عدوه وأكل من الشجرة، ولم نجد له عزما بل ضعف أمام الإغراء والتزيين فلم يحفظ العهد ولم يصبر على الطاعة، فكيف إذا بغير آدم من سائر ذرياته فلذا ينبغي أن لا تأسى ولا تحزن على عدم إيمان قومك بك واستجابتهم لدعوتك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الحكمة من إنزال القرآن باللسان العربي وتصريف الوعيد فيه.
2- إثبات علو الله تعالى وقهره لعباده وملكه لهم وتنزهه عن الولد والشريك وكل نقص يصفه به المبطلون.
3- استحباب التريث والتأني في قراءة القرآن وتفسيره وإصدار الحكم والفتيا منه.
4- الترغيب في طلب العلم والمزيد من التحصيل العلمي وإشعار النفس بالجهل والحاجة إلى العلم.
5- التسلية بنسيان آدم وضعف قلبه أمام الإغراء الشيطاني.
[20.116-122]
شرح الكلمات:
وإذ قلنا للملائكة: أي اذكر قولنا للعظة والاعتبار.
إلا إبليس أبى: أي امتنع من السجود لكبر في نفسه إذ هو ليس من الملائكة وإنما هو أبو الجان كان مع الملائكة يعبد الله معهم.
عدو لك ولزوجك: أي حواء ومعنى عدو أنه لا يحب لكما الخير بل يريد لكما الشر.
فتشقى: أي بالعمل في الأرض إذ تزرع وتحصد وتطحن وتخبز حتى تتغذى.
لا تظمأ فيها ولا تضحى: أي لا تعطش ولا يصيبك حر شمس الضحى المؤلم في الأرض.
شجرة الخلد: أي التي يخلد من أكل منها.
وملك لا يبلى: أي لا يفنى ولا يبيد ولازم ذلك الخلود.
فبدت لهما سواءتهما: أي ظهر لكل منها قبل صاحبه ودبره فاستاءا لذلك.
وطفقا يخصفان: أي أخذا وجعلا يلزقان ورق الشجر عليهما سترا لسوءاتهما.
فغوى: أي بالأكل من الشجرة المنهي عنها.
فاجتباه ربه فتاب عليه: أي اختاره لولايته فهداه للتوبة فتاب ليكون عبدا صالحا.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ضعف آدم عليه السلام حيث عهد الله إليه بعدم طاعة إبليس حتى لا يخرجه هو وزوجه من الجنة، وأن آدم نسي العهد فأكل من الشجرة ناسب ذكر قصة آدم بتمامها ليكون موعظة للمتقين وهدى للمؤمنين فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم واذكر { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم } وسجودهم عبادة لله تعالى وتحية لآدم لشرفه وعلمه. فامتثلت الملائكة أمر الله { فسجدوا } كلهم أجمعون { إلا إبليس أبى } أن يسجد لما داخله من الكبر ولأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن إلا أنه كان يتعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [116].
وقوله تعالى { فقلنا يآءادم } أي بعد أن تكبر إبليس عن السجود لآدم نصحنا آدم وقلنا له { إن هذا } أي إبليس { عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } أي فلا تطيعانه فإن طاعته تكون سبب إخراجكما من الجنة ومتى خرجتما منها شقيتما، ووجه الخطاب إلى آدم في قوله تعالى: فتشقى لأن المراد من الشقاء هنا العمل كالزرع والحصاد وغيرهما مما هو ضروري للعيش خارج الجنة والزوج هو المسئول عن إعاشة زوجته فهو الذي يشقى دونها، وقوله تعالى لآدم { إن لك ألا تجوع فيها } أي في الجنة { ولا تعرى } ، { وأنك لا تظمأ فيها } أي لا تعطش { ولا تضحى } أي لا تتعرض لحر شمس ضحى كما هي في الأرض والخطاب وإن كان لآدم فحواء تابعة له بحكم رئاسة الزوج على زوجته، ومن الأدب خطاب الرجل دون امرأته إذ هي تابعة له وقوله تعالى: { فوسوس إليه الشيطان } أي ناداه من طريق الوسوسة.
{ يآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } فقبل منه ذلك آدم واستجاب لوسوسته فأكلت حواء أولا ثم أكل آدم وهو قوله تعالى { فأكلا منها } فترتب على ذلك انكشاف سوءاتهما لهما بذهاب النور الساتر لهما بسبب المعصية لله تعالى وقوله تعالى { وطفقا يخصفان عليهما } من ورق الشجر أي فأخذا يشدان ورق الشجر على عوراتهما سترا لهما لأن منظر العورة يسوء الآدمي ولذلك سميت العورة سوءة وهكذا عصى آدم ربه باستجابته لوسواس عدوه وأكله من الشجرة فبذلك غوى، إلا أن ربه تعالى اجتباه أي نبيا وقربه وليا { فتاب عليه وهدى } وهداه للعمل بطاعته ليكون من جملة أصفيائه وصالح عباده. والحمد لله ذي الإنعام والإفضال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر مثل هذا القصص الذي لا يعلم إلا بالوحي الإلهي.
2- تقرير عداوة إبليس لبني آدم.
3- بيان أن الجنة لا نصب فيها ولا تعب، وإنما ذلك في الأرض.
4- التحذير من أخطار الاستجابة لوسوسة إبليس فإنها تردى صاحبها.
5- ضعف المرأة وقلة عزمها فقد أكلت قبل آدم فسهلت عليه المعصية.
6- كون المرأة تابعة للرجل وليس لها أن تستقل بحال من الأحوال.
7- حرمة كشف العورات ووجوب سترها.
8- إثبات نبوة آدم وتوبة الله عليه وقبولها منه وهدايته إلى العمل بمحابه وترك مكارهه.
[20.123-127]
شرح الكلمات:
قال اهبطا منها جميعا: أي آدم وحواء من الجنة وإبليس سبق أن أبلس وهبط.
بعضكم لبعض عدو: أي آدم وحواء وذريتهما عدو لإبليس وذريته، وإبليس وذريته عدو لآدم وحواء وذريتهما.
فإما يأتينكم مني هدى: أي فإن يأتيكم مني هدى وهو كتاب ورسول.
فمن اتبع هداي: أي الذي أرسلت به رسولي وهو القرآن.
فلا يضل: أي في الدنيا.
ولا يشقى: في الآخرة.
ومن أعرض عن ذكري: أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه.
معيشة ضنكا: أي ضيقة تضيق بها نفسه ولم يسعد بها ولو كانت واسعة.
أعمى: أي أعمى البصر لا يبصر.
وقد كنت بصيرا: أي ذا بصر في الدنيا وعند البعث.
قال كذلك: أي الأمر كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكما نسيتها تنسى في جهنم.
وكذلك نجزي من أسرف: أي وكذلك الجزاء الذي جازينا به من نسي آياتنا نجزي من أسرف في المعاصي ولم يقف عند حد، ولم يؤمن بآيات ربه سبحانه وتعالى.
أشد وأبقى: أي أشد من عذاب الدنيا وأدوم فلا ينقضي ولا ينتهي.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة آدم إنه لما أكل آدم وحواء من الشجرة وبدت لهما سواءتهما وعاتبهما ربهما بقوله في آية غير هذه
ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكمآ إن الشيطآن لكما عدو مبين
[الأعراف: 22]. وأنزل على آدم كلمة التوبة فقالها مع زوجه فتاب الله عليهما لما تم كل ذلك قال { اهبطا منها } أي من الجنة { جميعا } إذ إبليس العدو قد ابلس من قبل وطرد من الجنة فهبطوا جميعا. وقوله { فإما يأتينكم مني هدى } أي بيان عبادتي تحمله كتبي وتبينه رسلي، { فمن اتبع هداي } فآمن به وعمل بما فيه { فلا يضل } في حياته { ولا يشقى } في آخرته { ومن أعرض عن ذكري } أي فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه { فإن له } أي جزاء منا له { معيشة ضنكا } أي ضيقة تضيق بها نفسه فلم يشعر بالغبطة والسعادة وإن اتسع رزقه كما يضيق عليه قبره ويشقى فيه طيلة حياة البرزخ، ويحشر يوم القيامة أعمى لا حجة له ولا بصر يبصر به. وقد يعجب لحاله ويسأل ربه { لم حشرتني أعمى وقد كنت } في الدنيا وفي البعث { بصيرا } فيجيبه ربه تعالى: { كذلك } أي الأمر كذلك كنت بصيرا وأصبحت أعمى لأنك { أتتك آياتنا } تحملها كتبنا وتبينها رسلنا { فنسيتها } أي تركتها ولم تلتفت إليها معرضا عنها فاليوم تترك في جهنم منسيا كذلك وقوله تعالى في الآية الآخرة [127] { وكذلك نجزي من أسرف } في معاصينا فلم يقف عند حد ولم يؤمن بآيات ربه فنجعل له معيشة ضنكا في حياته الدنيا وفي البرزخ { ولعذاب الآخرة أشد } من عذاب الدنيا { وأبقى } أي أدوم حيث لا ينقضي ولا ينتهي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عداوة الشيطان للإنسان.
2- عدة الله تعالى لمن آمن بالقرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في حياته ولا يشقى في آخرته.
3- بيان جزاء من أعرض عن القرآن في الدنيا والآخرة.
4- التنديد بالإسراف في الذنوب والمعاصي مع الكفر بآيات الله، وبيان جزاء ذلك.
[20.128-132]
شرح الكلمات:
أفلم يهد لهم: أي أفلم يبين لهم.
من القرون: أي من أهل القرون.
لآيات لأولي النهى: أي أصحاب العقول الراجحة إذ النهية العقل.
ولولا كلمة سبقت: أي بتأخير العذاب عنهم.
لكان لزاما: أي العذاب لازما لا يتأخر عنهم بحال.
ما يقولون: من كلمات الكفر، ومن مطالبتهم بالآيات.
ومن آناء الليل: أي ساعات الليل واحدها إني أو إنو.
لعلك ترضى: أي رجاء أن تثاب الثواب الحسن الذي ترضى به.
إلى ما متعنا به أزواجا منهم: أي رجالا منهم من الكافرين.
زهرة الحياة الدنيا: أي زينة الحياة الدنيا وقيل فيها زهرة لأنها سرعان ما تذبل وتذوى.
لنفتنهم فيه: أي لنبتليهم في ذلك أيشكرون أم يكفرون.
والعاقبة للتقوى: العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى.
معنى الآيات:
بعد ذكر قصة آدم عليه السلام وما تضمنته من هداية الآيات قال تعالى { أفلم يهد } لأهل مكة المكذبين المشركين أي أغفلوا فلم يهد لهم أي يتبين { كم أهلكنا قبلهم من القرون } أي إهلاكنا للعديد من أهل القرون الذين هم يمشون في مساكنهم ذاهبين جائين كثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات أهلكناهم بكفرهم ومعاصيهم فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا فينجوا ويسعدوا. وقوله تعالى: { إن في ذلك } المذكور من الإهلاك للقرون الأولى { لآيات } أي دلائل واضحة على وجوب الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما، { لأولي النهى } أي لأصحاب العقول أما الذين لا عقول لهم لأنهم عطلوها فلم يفكروا بها فلا يكون في ذلك آيات لهم. وقوله تعالى { ولولا كلمة سبقت من ربك } بأن لا تموت نفس حتى تستوفي أجلها، وأجل مسمى عند الله في كتاب المقادير لا يتبدل ولا يتغير لكان عذابهم لازما لهم لما هم عليه من الكفر والشرك والعصيان. وعليه { فاصبر } يا رسولنا { على ما يقولون } من أنك ساحر وشاعر وكاذب وكاهن من كلمات الكفر، واستعن على ذلك بالصلاة ذات الذكر والتسبيح { قبل طلوع الشمس } وهو صلاة الصبح { وقبل غروبها } وهو صلاة العصر { ومن آنآء الليل } أي ساعات الليل وهما صلاتا المغرب والعشاء، { وأطراف النهار } وهو صلاة الظهر لأنها تقع بين طرفي النهار أي نصفه الأول ونصفه الثاني وذلك عند زوال الشمس، لعلك بذلك ترضى بثواب الله تعالى لك.
وقوله تعالى { ولا تمدن عينيك } أي لا تتطلع ناظرا { إلى ما متعنا به أزواجا منهم } أشكالا في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم { زهرة الحياة الدنيا } أي من زينة الحياة الدنيا { لنفتنهم فيه } أي لنختبرهم في ذلك الذي متعناهم به من زينة الحياة الدنيا وقوله تعالى: { ورزق ربك } أي ما لك عند الله من أجر ومثوبة { خير وأبقى } خيرا في نوعه وأبقى في مدته، واختيار الباقي على الفاني مطلب العقلاء.
وقوله تعالى: { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } أي من أزواجك وبناتك وأتباعك المؤمنين بالصلاة ففيها الملاذ وفيها الشفاء من آلام الحاجة والخصاصية واصطبر عليها واحمل نفسك على الصبر على إقامتها. وقوله { لا نسألك رزقا } أي لا نكلفك مالا تعطيناه ولكن تكلف صلاة فأدها على أكمل وجوهها. { نحن نرزقك } أي رزقك علينا، { والعاقبة للتقوى } أي العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى من عبادنا وهم الذين يخشوننا فيؤدون ما أوجبنا عليهم ويجتنبون ما حرمنا عليهم رهبة منا ورغبة فينا. هؤلاء لهم أحسن العواقب ينتهون إليها نصر في الدنيا وسعادة في الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ العاقل من اعتبر بغيره.
2- بيان فضيلة العقل وشرف صاحبه وانتفاعه به.
3- وجوب الصبر على دعوة الله والاستعانة على ذلك بالصلاة.
4- بيان أوقات الصلوات الخمس والحصول على رضى النفس بثوابها.
5- وجوب عدم تعلق النفس بما عند أهل الكفر من مال ومتاع لأنهم ممتحنون به.
6- وجوب الرضا بما قسم الله للعبد من رزق إنتظارا لرزق الآخرة الخالد الباقي.
7- وجوب الأمر بالصلاة بين الأهل والأولاد والمسلمين والصبر على ذلك.
8- فضل التقوى وكرامة أصحابها وفوزهم بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
9- إقام الصلاة بين أفراد الأسرة المسلمة ييسر الله تعالى به أسباب الرزق وتوسعته عليهم.
[20.133-135]
شرح الكلمات:
لولا: أي هلا فهي أداة تحضيض وحث على وقوع ما يذكر بعدها.
بآية من ربه: أي معجزة تدل على صدقه في نبوته ورسالته.
بينة ما في الصحف الأولى: أي المشتمل عليها القرآن العظيم من أنباء الأمم الماضية وهلاكهم بتكذيبهم لرسلهم.
من قبله: من قبل إرسالنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وإنزالنا كتابنا القرآن.
من قبل أن نذل ونخزى: أي من قبل أن يصينبا الذل والخزي يوم القيامة في جهنم.
متربص: أي منتظر ما يؤول إليه الأمر.
فستعلمون: أي يوم القيامة.
الصراط السوي: أي الدين الصحيح وهو الإسلام.
ومن اهتدى: أي ممن ضل نحن أم أنتم.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع المشركين طلبا لهدايتهم فقال تعالى مخبرا عن أولئك المشركين الذين متع الله رجالا منهم بزهرة الحياة الدنيا أنهم أصروا على الشرك والتكذيب { وقالوا لولا يأتينا بآية } أي هلا يأتينا محمد بمعجزة كالتي أتى بها صالح وموسى وعيسى بن مريم تدل على صدقه في نبوته ورسالته إلينا. فقال تعالى رادا عليهم قولتهم الباطلة: { أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى }؟ أيطالبون بالآيات وقد جاءتهم بينة ما في الصحف الأولى بواسطة القرآن الكريم فعرفوا ما حل بالأمم التي طالبت بالآيات ولما جاءتهم الآيات كذبوا بها فأهلكهم الله بتكذيبهم فما يؤمن هؤلاء المشركين المطالبين بالآيات أنها لو جاءتهم ما آمنوا بها فأهلكوا كما أهلك المكذبين من قبلهم.
وقوله تعالى في الآية الثانية [134] { ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله } أي من قبل إرسالنا محمد وإنزالنا الكتاب عليه لقالوا للرب تعالى إذا وقفوا بين يديه: { ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك } فيما تدعونا إليه من التوحيد والإيمان والعمل الصالح وذلك من قبل أن نذل هذا الذل ونخزى هذا الخزي في نار جهنم. فإن كان هذا قولهم لا محالة فلم لا يؤمنون ويتبعون آيات الله فيعملون بما جاء فيها من الهدى قبل حلول العذاب بهم؟ وفي الآية الأخيرة قال تعالى لرسوله بعد هذا الإرشاد الذي أرشدهم إليه { قل كل متربص } أي كل منا متربص أي منتظر ما يؤول إليه الأمر { فتربصوا }. فستعلمون في نهاية الأمر وعندما توقفون في عرصات القيامة { من } هم { أصحاب الصراط السوي } الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام الدين الحق، { ومن اهتدى } إلى سبيل النجاة والسعادة ممن ضل ذلك فخسر وهلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المطالبة بالآيات سنة متبعة للأمم والشعوب عندما تعرض عن الحق وتتنكر للعقل وهدايته.
2- الذلة والخزي تصيب أهل النار يوم القيامة لما فرطوا فيه من الإيمان والعمل الصالح.
3- في الآية إشادة إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: " يحتج به على الله يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير، فيقول المغلوب على عقله لم تجعل لي عقلا انتفع به، ويقول الهالك في الفترة لم يأتني رسول ولا نبي ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك إليك، وقرأ صلى الله عليه وسلم { لولا أرسلت إلينا رسولا } ويقول الصبي الصغير كنت صغيرا لا أعقل.
قال فترفع لهم نار ويقال لهم: ردوها قال فيردها من كان في علم الله أنه سعيد، ويتلكأ عنها من كان في علم الله أنه شقي فيقول إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم ". رواه ابن جرير عند تفسير هذه الآية { ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا }.
[21 - سورة الأنبياء]
[21.1-6]
شرح الكلمات:
اقترب للناس حسابهم: أي قرب زمن حسابهم وهو يوم القيامة.
وهم في غفلة: أي عما هم صائرون إليه.
معرضون: أي عن التأهب ليوم الحساب بصالح الأعمال بعد ترك الشرك والمعاصي.
من ذكر من ربهم محدث: أي من قرآن نازل من ربهم محدث جديد النزول.
وهم يلعبون: أي ساخرين مستهزئين.
لاهية قلوبهم: مشغولة عنه بما لا يغني من الباطل والشر والفساد.
وأسروا النجوى: أي أخفوا مناجاتهم بينهم.
أضغاث أحلام: أي أخلاط رآها في المنام.
بل افتراه: أي اختلقه وكذبه ولم يوح إليه.
أفهم يؤمنون: أي لا يؤمنون فالاستفهام للنفي.
معنى الآيات:
يخبر تعالى فيقول وقوله الحق: { اقترب للناس حسابهم } أي دنا وقرب وقت حسابهم على أعمالهم خيرها وشرها { وهم في غفلة } عما ينتظرهم من حساب وجزاء { معرضون } عما يدعون إليه من التأهب ليوم الحساب بترك الشرك والمعاصي والتزود بالإيمان وصالح الأعمال. وقوله تعالى: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } أي ما ينزل الله من قرآن يعظهم به ويذكرهم بما فيه { إلا استمعوه وهم يلعبون } أي استمعوه وهم هازئون ساخرون لاعبون غير متدبرين له ولا متفكرين فيه. وقوله تعالى: { لاهية قلوبهم } أي مشغولة عنه منصرفة عما تحمل الآيات المحدثة النزول من هدى ونور، { وأسروا النجوى الذين ظلموا } وهم المشركون قالوا في تناجيهم بينهم: { هل هذآ إلا بشر مثلكم } أي ما محمد إلا إنسان مثلكم فكيف تؤمنون به وتتابعونه على ما جاء به، إنه ما هو إلا ساحر { أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } ما لكم أين ذهبت عقولكم؟ قال تعالى لرسوله: { قال ربي يعلم القول في السمآء والأرض وهو السميع.... } لأقوال عباده { العليم } بأعمالهم فهو تعالى سميع لما تقولون من الكذب عليم بصدقي وحقيقة ما أدعوكم إليه.
وقوله تعالى: { بل قالوا } أي أولئك المتناجون الظالمون { أضغاث أحلام } أي قالوا في القرآن يأتيهم من ربهم محدث لهم؛ ليهتدوا به قالوا فيه أضغاث أي أخلاط رؤيا منامية وليس بكلام الله ووحيه، { بل افتراه } انتقلوا من قول إلى آخر لحيرتهم { بل هو شاعر } أي صلى الله عليه وسلم وما يقوله ليس من جنس الشعر الذي ذكر أشياء لا واقع لها ولا حقيقة. وقوله تعالى عنه: { فليأتنا بآية كمآ أرسل الأولون } أي إن كان رسولا كما يدعي وليس بشاعر ولا ساحر فليأتنا بآية أي معجزة كآية صالح أو موسى أو عيسى كما أرسل بها الأنبياء الأولون. قال تعالى: { مآ آمنت قبلهم من قرية } أي أهل قرية { أهلكناهآ } بالعذاب لما جاءتها الآية فكذبت أفهم يؤمنون أي لا يؤمنون إذ شأنهم شأن غيرهم، فلذا لا معنى لإعطائهم الآية من أجل الإيمان ونحن نعلم أنهم لا يؤمنون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قرب الساعة.
2- بيان ما كان عليه المشركون من غفلة ولهو وإعراض، والناس اليوم أكثر منهم في ذلك.
3- بيان حيرة المشركين إزاء الوحي الإلهي والنبي صلى الله عليه وسلم.
4- المعجزات لم تكن يوما سببا في هداية الناس بل كانت سبب إهلاكهم إذ هذا طبع الإنسان إذا لم يرد الإيمان والهداية فإنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.
[21.7-10]
شرح الكلمات:
قبلك: يا محمد.
أهل الذكر: أي الكتاب الأول وهم أهل الكتاب.
جسدا: أي أجسادا آدمية.
الوعد: أي الذي واعدناهم.
المسرفين : أي في الظلم والشرك والمعاصي.
كتابا: هو القرآن العظيم.
فيه ذكركم: أي ما تذكرون به ربكم وما تذكرون به من الشرف بين الناس.
معنى الآيات:
كانت مطالب قريش من اعتراضاتهم تدور حول لم يكون الرسول بشرا، ولم يكون رسولا ويأكل الطعام لم لا يكون له كنز أو جنة يأكل منها، لم لا يأتينا بآية كما أرسل بها الأولون، وهكذا. قال قتادة قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم " وإذا كان ما تقوله حقا ويسرك أن نؤمن فحول لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال إن شئت كان لبذس سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا " أي ينزل بهم العذاب فورا " وإن شئت استأنيت بقومك، قال بل استأني بقومي فأنزل الله
مآ آمنت قبلهم من قرية أهلكناهآ أفهم يؤمنون
[الأنبياء: 6].
وقوله تعالى: { ومآ أرسلنا قبلك } يا رسولنا { إلا رجالا نوحي إليهم } ما نريد إبلاغه عبادنا من أمرنا ونهينا. { فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } أي فليسأل قومك أهل الكتاب من قبلهم وهم أحبار اليهود ورهبان النصارى إن كانوا لا يعلمون فإنهم يعلمون أن الرسل من قبلهم لم يكونوا إلا بشرا. وقوله تعالى: { وما جعلناهم } أي الرسل { جسدا } أي أجسادا ملائكية أو بشرية لا يأكل أصحابها الطعام بل جعلناهم أجسادا آدمية تفتقر في بقاء حياتها إلى الطعام والشراب فلم يعترض هؤلاء المشركون على كون الرسول بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ وقوله تعالى: { ثم صدقناهم } أي أولئك الرسل { الوعد } الذي وعدناهم وهو أنا إذا آتينا أقوامهم ما طالبوا به من المعجزات ثم كذبوا ولم يؤمنوا أهلكناهم { فأنجيناهم ومن نشآء } أي أنجينا رسلنا ومن آمن بهم واتبعهم، وأهلكنا المكذبين المسرفين في الكفر والعناد والشرك والشر والباطل.
وقوله تعالى: { لقد أنزلنآ إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون }؟ يقول تعالى لأولئك المشركين المطالبين بالآيات التي قد تكون سبب هلاكهم ودمارهم { لقد أنزلنآ إليكم } لهدايتكم وإصلاحكم ثم إسعادكم { كتابا } عظيم الشأن { فيه ذكركم } أي ما تذكرون به وتتعظون فتهتدون إلى سبيل سلامتكم وسعادتكم، فيه ذكركم بين الأمم والشعوب لأنه نزل بلغتكم الناس لكم فيه تبع وهو شرف أي شرف لكم. أتشتطون في المكايدة والعناد فلا تعقلون، ما خير لكم مما هو شر لكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن الرسل لا يكونون إلا بشرا ذكورا لا إناثا.
2- تعين سؤال أهل العلم في كل ما لا يعلم إلا من طريقهم، من أمور الدين والآخرة.
3- ذم الإسراف في كل شيء وهو كالغلو في الشرك والظلم.
4- القرآن ذكر يذكر به الله تعالى لما فيه من دلائل التوحيد وموعظة لما فيه من قصص الأولين وشرف أي شرف لمن آمن به وعمل بما فيه من شرائع وآداب وأخلاق.
[21.11-15]
شرح الكلمات:
وكم قصمنا: أي وكثيرا من أهل القرى قصمناهم بإهلاكهم وتفتيت أجسامهم.
كانت ظالمة: أي كان أهلها ظالمين.
يركضون: أي فارين هاربين.
إلى ما أترفتم فيه: أي من وافر الطعام والشراب والمسكن والمركب.
تسألون: أي عن شيء من دنياكم على عادتكم.
تلك دعواهم: أي دعوتهم التي يرددونها وهي: { يويلنآ إنا كنا ظالمين }.
حصيدا خامدين: أي لم يبق منهم قائم فهم كالزرع المحصود خامدين لا حراك لهم كالنار إذا أخمدت.
معنى الآيات:
يقول تعالى منذرا قريشا أن يحل بها ما حل بغيرها ممن أصروا على التكذيب والعناد { وكم قصمنا } أي أهلكنا وأبدنا إبادة كاملة { من قرية } أي أهل قرية { كانت ظالمة } أي كان أهلها ظالمين بالشرك والمعاصي والمكابرة والعناد، { وأنشأنا بعدها قوما آخرين } هم خير من أولئك الهالكين. وقوله تعالى: { فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون } أي فلما أحس أولئك الظالمون { بأسنآ } أي شعروا به وأدركوه بحواسهم بأسماعهم وأبصارهم { إذا هم منها } من تلك القرية يركضون هاربين فرارا من الموت. والملائكة تقول لهم توبيخا لهم وتقريعا: لا تركضوا هاربين { وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه } نعمتم فيه من وافر الطعام والشراب والكساء والمسكن والمركب { لعلكم تسألون } على العادة عن شيء من أموركم وأمور دنياكم، فكان جوابهم ما أخبر تعالى به عنهم: { قالوا يويلنآ } أي يا هلاكنا أحضر هذا أو آن حضورك إنا كنا ظالمين أنفسنا بالشرك والمعاصي والتكذيب والعناد. قال تعالى: { فما زالت تلك دعواهم } أي ما زال قولهم { يويلنآ إنا كنا ظالمين } تلك دعوتهم التي يرددونها { حتى جعلناهم حصيدا خامدين } أي مجتثين من أصولهم ساقطين في الأرض خامدين لا حراك لهم كالنار إذا أخمدت فلم يبق لها لهيب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالظلم وأعلى درجاته الشرك بالله.
2- جواز الاستهزاء بالمشرك الظالم إذا حل به العذاب تقريعا له وتوبيخا.
3- لا تنفع التوبة عند معاينة العذاب لو طلبها الهالكون.
4- شدة الهول ورؤية العذاب قد تفقد صاحبها رشده وصوابه فيهذر ولا يدري ما يقول.
[21.16-20]
شرح الكلمات:
لاعبين: أي عابثين لا مقصد حسن لنا في ذلك.
لهوا: أي زوجة وولدا.
من لدنا: أي من عندنا من الحور العين أو الملائكة.
بل نقذف بالحق: أي نرمي بالحق على الباطل.
فيدمغه: أي يشج رأسه حتى تبلغ الشجة دماغه فيهلك.
فإذا هو زاهق: أي ذاهب مضمحل.
ولكم الويل مما تصفون: أي ولكم العذاب الشديد من أجل وصفكم الكاذب للديان بأن له زوجة وولدا وللرسول بأنه ساحر ومفتر.
ولا يستحسرون: أي لا يعيون ولا يتعبون فيتركون التسبيح.
لا يفترون: عن التسبيح لأنه منهم كالنفس منا لا يتعب أحدنا من التنفس ولا يشغله عنه شيء.
معنى الآيات:
كونه تعالى يهلك الأمم الظالمة بالشرك والمعاصي دليل أنه لم يخلق الإنسان والحياة لعبا وعبثا بل خلق الإنسان وخلق الحياة ليذكر ويشكر فمن أعرض عن ذكره وترك شكره أذاقه بأساءه في الدنيا والآخرة وهذا ما دلت عليه الآية السابقة وقررته الآية وهي قوله تعالى: { وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما لعبين } أي عابثين لا قصد حسن لنا بل خلقناهما بالحق وهو وجوب عبادتنا بالذكر والشكر لنا وقوله تعالى: { لو أردنآ أن نتخذ لهوا } أي صاحبة أو ولدا كما يقول المبطلون من العرب القائلون بأن الله أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة وكما يقول ضلال النصارى أن الله اتخذ مريم زوجة فولدت له عيسى الابن، تعالى الله عما يأفكون فرد تعالى هذا الباطل بالمعقول من القول فقال لو أردنا أن نتخذ لهوا نتلهى به من صاحبة وولد لاتخذنا من لدنا من الحور العين والملائكة ولكنا لم نرد ذلك ولا ينبغي لنا إنا نملك كل من في السماوات ومن في الأرض عبيدا لنا فكيف يعقل اتخاذ مملوك لنا ولدا ومملوكة زوجة والناس العجزة الفقراء لا يجيزون ذلك فالرجل لا يجعل مملوكته زوجة له ولا عبده ولدا بحال من الأحوال وقوله تعالى: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } فتلك الأباطيل والترهات تنزل حجج القرآن عليها فتدمغها فإذا هي ذاهبة مضمحلة لا يبقى منها شيء { ولكم الويل } أيها الكاذبون مما تصفون الله بالزوجة والولد والشريك والرسول بالسحر والشعر والكهانة والكذب العذاب لازم لكم من أجل كذبكم وافترائكم على ربكم ورسوله. وقوله تعالى: { وله من في السموت والأرض } برهان آخر على بطلان دعوى أن له تعالى زوجة وولدا فالذي يملك من في السماوات ومن في الأرض غني عن الصاحبة والولد إذا الكل له ملكا وتصرفا. وقوله: { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } برهان آخر { يسبحون اليل والنهار لا يفترون } أي فكيف يفتقر إلى الزوجة والولد، ومن عنده من الملائكة وهم لا يحصون عدا يعبدونه لا يستكبرون عن عبادته ولا يملون منها ولا يتعبون من القيام بها، يسبحونه الليل والنهار، والدهر كله { لا يفترون } أي لا يسأمون فيتركون التسبيح فترة بعد فترة للاستراحة، إنهم في تسبيحهم وعدم سآمتهم منه وعدم انشغالهم عنه كالآدميين في تنفسهم وطرف أعينهم هل يشغل عن التنفس شاغل أو عن طرف العين آخر وهل يسأم الإنسان من ذلك والجواب لا، فكذلك الملائكة يسبحون الليل والنهار ولا يفترون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تنزه الرب تعالى عن اللهو واللعب والصاحبة والولد.
2- حجج القرآن هي الحق متى رمى بها الباطل دمغته فذهب واضمحل.
3- إقامة البراهين العقلية على إبطال الباطل أمر محمود، وقد يكون لا بد منه.
4- بيان غنى الله المطلق عن كل مخلوقاته.
5- بيان حال الملائكة في عبادتهم وتسبيحهم لله تعالى.
[21.21-25]
شرح الكلمات:
أم اتخذوا آلهة من الأرض: أي من معادنها كالذهب والفضة والنحاس والحجر.
هم ينشرون: أي يحيون الأموات إذ لا يكون إلها حقا إلا من يحيي الموتى.
لو كان فيهما: أي في السماوات والأرض.
لفسدتا: أي السماوات والأرض لأن تعدد الآلهة يقتضي التنازع عادة وهو يقضي بفساد النظام.
فسبحان الله: أي تنزيه لله عما لا يليق بحلاله وكماله.
رب العرش: أي خالقه ومالكه والمختص به.
عما يصفون: أي الله تعالى من صفات النقص كالزوجة والولد والشريك.
لا يسأل عما يفعل: إذ هو الملك المتصرف، وغيره يسأل عن فعله لعجزه وجهله وكونه مربوبا.
قل هاتوا برهانكم: أي على ما اتخذتم من دونه من آلهة ولا برهان لهم على ذلك فهم كاذبون.
هذا ذكر من معي: أي القرآن ذكر أمتي.
وذكر من قبلي: أي التوارة والإنجيل وغيرهما من كتب الله الكل يشهد أنه لا إله إلا الله.
لا يعلمون الحق: أي توحيد الله ووجوبه على العباد فلذا هم معرضون.
فاعبدون: أي وحدوني في العبادة فلا تعبدوا معي غيري إذ لا يستحق العبادة سواي.
معنى الآيات:
يوبخ تعالى المشركين على شركهم فيقول: { أم اتخذوا آلهة من الأرض } أي من أحجارها ومعادنها آلهة { هم ينشرون } أي يحيون الموتى، والجواب كلا إنهم لا يحيون والذي لا يحيي الموتى لا يستحق الألوهية بحال من الأحوال. هذا ما دل عليه قوله تعالى: { أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون } وفي الآية الثانية [22] يبطل تعالى دعواهم في اتخاذ آلهة مع الله فيقول: { لو كان فيهمآ } أي في السماوات والأرض آلهة غير الله تعالى لفسدتا لأنه تعدد الآلهة يقتضي التنازع والتمانع هذا يريد أن يخلق كذا وهذا لا يريده هذا يريد أن يعطى كذا وذاك لا يريده فيختل نظام الحياة وتفسد، ومن هنا كان انتظام الحياة هذه القرون العديدة دالا على وحدة الخالق الواجب الوجود الذي تجب له العبادة وحده دون من سواه، فلذا نزه تعالى نفسه عن الشريك وما يصفه به المبطلون من الزوجة والولد فقال: { فسبحان الله رب العرش عما يصفون } وقرر ألوهيته وربوبيته المطلقة بقوله: { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } فالذي يفعل ولا يسأل لعلمه وقدرته وملكه هو الإله الحق والذي يسأل عن عمله لم فعلت ولم تركت ويحاسب عليه ويجزي به لن يكون إلا عبدا مربوبا، وقوله في توبيخ آخر للمشركين: أم اتخذوا من دونه عز وجل آلهة يعبدونها؟ قل لهم يا رسولنا هاتوا برهانكم على صدق دعواكم في أنها آلهة، ومن أين لهم البرهان على احقاق الباطل؟ وقوله تعالى: { هذا ذكر من معي } أي من المؤمنين وهو القرآن الكريم به يذكرون الله ويعبدونه وبه يتعظون { وذكر من قبلي } أي التوراة والإنجيل هل في واحد منها ما يثبت وجود آلهة مع الله تعالى.
والجواب لا. إذا فما هي حجة هؤلاء المشركين على صحة دعواهم، والحقيقة أن المشركين جهلة لا يعرفون منطقا ولا برهانا فلذا هم معرضون وهذا ما دل عليه قوله تعالى: { بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون } فليسوا أهلا لمعرفة الأدلة والبراهين لجهلهم فلذا هم معرضون عن قبول التوحيد وتقرير أدلته وحججه وبراهينه.
وقوله تعالى: { ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } فلو كان المشركون يعلمون هذا لما أشركوا وجادلوا عن الشرك، ولكنهم جهلة مغررون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- من أخص صفات الإله أن يخلق ويرزق ويحيي ويميت فإن لم يكن كذلك فليس بإله.
2- وحدة النظام دالة على وحدة المنظم، ووحدة الوجود دالة على وحدة الموجد وهذا برهان التمانع الذي يقرر منطقيا وجود الله ووجوب عبادته وحده.
3- لا برهان على الشرك أبدا، ولا يصح في الذهن وجود دليل على صحة عبادة غير الله تعالى.
4- القرآن والتوراة وكل كتب الله متضافرة على تقرير توحيد الله تعالى.
5- تقرير توحيد الله تعالى وإبطال الشرك والتنديد بالمشركين.
[21.26-29]
شرح الكلمات:
ولدا: أي من الملائكة حيث قالوا الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
سبحانه: تنزيه له تعالى عن اتخاذ الولد .
بل عباد مكرمون: هم الملائكة، ومن كان عبدا لا يكون ابنا ولا بنتا.
لا يسبقونه بالقول: أي لا يقولون حتى يقول هو وهذا شأن العبد لا يتقدم سيده بشيء.
وهم بأمره يعملون: أي فهم مطيعون متأدبون لا يعملون إلا بإذنه لهم.
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى: أي إلا لمن رضي تعالى أن يشفع له.
مشفقون: أي خائفون.
من دونه: أي من دون الله كإبليس عليه لعائن الله.
كذلك نجزي الظالمين: أي لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
بعد أن أبطلت الآيات السابقة الشرك ونددت بالمشركين جاءت هذه الآيات في إبطال باطل آخر للمشركين وهو نسبتهم الولد لله تعالى فقال تعالى عنهم { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا } وهو زعمهم أن الملائكة بنات الله فنزه تعالى نفسه عن هذا النقص فقال { سبحانه } وأبطل دعواهم وأضرب عنها فقال { بل عباد مكرمون } أي فمن نسبوهم لله بنات له هم عباد له مكرمون عنده ووصفهم تعالى تعالى بقوله: { لا يسبقونه بالقول } فهم لكمال عبوديتهم لا يقولون حتى يقول هو سبحانه وتعالى، وهم يعملون بأمره فلا يقولون ولا يعملون إلا بعد إذنه لهم، وأخبر تعالى أنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم فعلمه عز وجل محيط بهم ولا يشفعون لأحد من خلقه إلا لمن ارتضى أن يشفع له فقال تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وزيادة على ذلك أنهم { من خشيته مشفقون } خائفون، وعلى فرض أن أحدا منهم قال إني إله من دون الله فإن الله تعالى يجزيه بذلك القول جهنم وكذلك الجزاء نجزي الظالمين أي أنفسهم بالشرك والمعاصي، وبهذا بطلت فرية المشركين في جعلهم الملائكة بنات لله وفي عبادتهم ليشفعوا لهم عنده تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال نسبة الولد إلى الله تعالى من قبل المشركين وكذا اليهود والنصارى.
2- بيان كمال عبودية الملائكة لله تعالى وكمال أدبهم وطاعتهم لربهم سبحانه وتعالى.
3- بطلان دعوى المشركين في شفاعة الملائكة لهم، إذ الملائكة لا يشفعون إلا لمن رضي الله تعالى أن يشفعوا له.
4- تقرير وجود شفاعة يوم القيامة ولكن بشروطها وهي أن يكون الشافع قد أذن له بالشفاعة، وأن يكون المشفوع له من أهل التوحيد فأهل الشرك لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
[21.30-33]
شرح الكلمات:
كانتا رتقا: أي كتلة واحدة منسدة لا انفتاح فيها.
ففتقناهما: أي جعلنا السماء سبع سماوات والأرض سبع أرضين.
رواسي: أي جبالا ثابتة.
أي تميد بهم: أي تتحرك فتميل بهم.
فجاجا سبلا: أي طرقا واسعة يسلكونها تصل بهم إلى حيث يريدون.
لعلهم يهتدون: إلى مقاصدهم في أسفارهم.
وهم عن آياتها: من الشمس والقمر والليل والنهار معرضون.
كل في فلك يسبحون: الفلك كل شيء دائر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد ووجوب تنزيه الله تعالى عن صفات النقص والعجز فقال تعالى: { أولم ير الذين كفروا } أي الكافرون بتوحيد الله وقدرته وعلمه ووجوب عبادته إلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته في هذه المخلوقات العلوية والسفلية فالسماوات والأرض كانتا كتلة واحدة من سديم فخلق الله تعالى منها السماوات والأرضين كما أن السماء تتفتق بإذنه تعالى عن الأمطار، والأرض تتفتق عن النباتات المختلفة الألوان والروائح والطعوم والمنافع، وأن كل شيء حي في هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات هو من الماء أليست هذه كلها دالة على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها؟
فماللناس لا يؤمنون؟ هذا ما دل عليه قوله تعالى في الآية الأولى [30] { أولم ير الذين كفروا أن السموت والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من المآء كل شيء حي أفلا يؤمنون }؟ وقوله تعالى: { وجعلنا في الأرض رواسي } أي جبالا ثوابت كيلا تميد أي تتحرك وتضطرب بسكانها، { وجعلنا فيها } أي في الأرض { فجاجا سبلا } أي طرقا سابلة للسير فيها { لعلهم يهتدون } أي كي يهتدوا إلى مقاصدهم في أسفارهم، وقوله: { وجعلنا السمآء سقفا محفوظا } من السقوط ومن الشياطين. وقوله: { وهم عن آياتها } من الشمس والقمر والليل والنهار إذ هذه آيات قائمة بها { معرضون } أي لا يفكرون فيها فيهتدوا إلى معرفة الحق عز وجل ومعرفة ما يجب له من العبادة والتوحيد فيها، وقوله: { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } أي كل من الشمس والقمر في فلك خاص به يسبح الدهر كله، والفلك عبارة عن دائرة كفلكة المغزل يدور فيها الكوكب من شمس وقمر ونجم يسبح فيها لا يخرج عنها إذ لو خرج يحصل الدمار الشامل للعوالم كلها، فسبحان العليم الحكيم، هذه كلها مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية وهي موجبة للتوحيد مقررة له، ولكن المشركين عنها معرضون لا يفكرون ولا يهتدون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده والإيمان به وطاعته.
2- بيان الحكمة من خلق الجبال الرواسي.
3- بيان دقة النظام الإلهي، وعظيم العلم والحكمة له سبحانه وتعالى.
4- إعراض أكثر الناس عن آيات الله في الآفاق كإعراضهم عن آياته القرآنية هو سبب جهلهم وشركهم وشرهم وفسادهم.
[21.34-38]
شرح الكلمات:
الخلد: أي البقاء في الدنيا.
ذائقة الموت: أي مرارة مفارقة الجسد.
ونبلوكم: أي نختبركم.
بالشر والخير: فالشر كالفقر والمرض، والخير كالغنى والصحة.
فتنة: أي لأجل الفتنة لننظر أتصبرون وتشكرون أم تجزعون وتكفرون.
إن يتخذونك إلا هزوا: أي ما يتخذونك إلا هزوا أي مهزوءا بك.
يذكر آلهتكم: أي يعيبها.
بذكر الرحمن هم كافرون: حيث أنكروا اسم الرحمن لله تعالى وقالوا: ما الرحمن؟
خلق الإنسان من عجل: حيث خلق الله آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة على عجل، فورث بنوه طبع العجلة عنه.
سأوريكم آياتي: أي سأريكم ما حملته آياتي من وعيد لكم بالعذاب في الدنيا والآخرة.
معنى الآيات:
كأن المشركين قالوا شامتين إن محمدا سيموت، وقالوا نتربص به ريب المنون فأخبر تعالى أنه لم يجعل لبشر من قبل نبيه ولا من بعده الخلد حتى يخلد هو صلى الله عليه وسلم فكل نفس ذائقة الموت، ولكن إن مات رسوله فهل المشركون يخلدون والجواب لا، إذا فلا وجه للشماتة بالموت لو كانوا يعقلون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [34] { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } وقوله تعالى: { كل نفس ذآئقة الموت } أي كل نفس منفوسة ذائقة مرارة الموت بمفارقة الروح للبدن، والحكمة في ذلك أن يتلقى العبد بعد الموت جزاء عمله خيرا كان أو شرا، دل عليه قوله بعد: { ونبلوكم بالشر والخير } من غنى وفقر ومرض وصحة وشدة ورخاء { فتنة } أي لأجل فتنتكم أي اختباركم ليرى الصابر الشاكر والجزع الكافر. وقوله تعالى: { وإلينا ترجعون } أي بعد الموت للحساب والجزاء على كسبكم خيره وشره.
وقوله تعالى: { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا } يخبر تعالى رسوله بأن المشركين إذا رأوه ما يتخذونه إلا هزوا وذلك لجهلهم بمقامه وعدم معرفتهم فضله عليهم وهو حامل الهدى لهم، وبين وجه استهزائهم به صلى الله عليه وسلم بقوله: { أهذا الذي يذكر آلهتكم } أي بعيبها وانتقاصها، قال تعالى: { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } أي عجبا لهم يتألمون لذكر ألهتم بسوء وهي محط السوء فعلا، ولا يتألمون لكفرهم بالرحمن ربهم إلا رحمن اليمامة.
وقوله تعالى: { خلق الإنسان من عجل } قال تعالى هذا لما استعجل المشركون العذاب وقالوا للرسول والمؤمنين: { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } فأخبر تعالى أن الاستعجال من طبع الإنسان الذي خلق عليه، وأخبرهم أنه سيريهم آياته فيهم بإنزال العذاب بهم وأراهم ذلك في بدر الكبرى وذلك في قوله { سأوريكم آياتي فلا تستعجلون } أي فلا داعي إلى الاستعجال وقوله تعالى { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } أخبر تعالى عن قيلهم للرسول والمؤمنين وهم يستعجلون العذاب: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ وهذا عائد إلى ما فطر عليه الإنسان من العجلة من جهة، وإلى جهلهم وكفرهم من جهة أخرى وإلا فالعاقل لا يطالب بالعذاب بل يطالب بالرحمة والخير، لا بالعذاب والشر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال ما شاع من أن الخضر حي مخلد لا يموت لنفيه تعالى ذلك عن كل البشر.
2- بيان العلة من وجود خير وشر في هذه الدنيا وهي الاختبار.
3- بيان ما كان عليه المشركون من الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
4- تقرير حقيقة أن الإنسان مطبوع على العجلة فلذا من غير طبعه بالتربية فأصبح ذا أناة وتؤدة كان من أكمل الناس وأشرفهم .
[21.39-43]
شرح الكلمات:
لا يكفون: أي لا يمنعون ولا يدفعون النار عن وجوههم.
بل تأتيهم بغتة: أي تأتيهم القيامة بغتة أي فجأة.
فتبهتهم : أي تحيرهم.
ولا هم ينظرون : أي يمهلون ليتوبوا.
وحاق بهم: أي نزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزءون.
من يكلؤكم: أي من يحفظكم ويحرسكم.
من الرحمن: أي من عذابه إن أراد إنزاله بكم.
بل هم عن ذكر ربهم معرضون: أي هم عن القرآن معرضون فلا يستمعون إليه ولا يفكرون فيه.
ولا هم منا يصحبون: أي لا يجدون من يجيرهم من عذابنا.
معنى الآيات:
يقول تعالى { لو يعلم الذين كفروا } المستعجلون بالعذاب المطالبون به حين أي الوقت الذي يلقون فيه في جهنم والنار تأكل وجوههم وظهورهم، ولا يستطيعون أن يمنعوا أنفسهم منها ولا هم ينصرون بمن يدفع العذاب عنهم لو علموا هذا وأيقنوا به لما طالبوا بالعذاب ولا استعجلوا يومه وهو يوم القيامة، هذا ما دل عليه قوله تعالى: { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون } وقوله تعالى: { بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون } أي أن القيامة لا تأتيهم على علم منهم بوقتها وساعتها فيمكنهم بذلك التوبة، وإنما تأتيهم { بغتة } أي فجأة { فتبهتهم } أي فتحيرهم { فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون } أي يمهلون ليتوبوا من الشرك والمعاصي فينجوا من عذاب النار، وقوله تعالى: { ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } وهو العذاب هذا القول للرسول صلى الله عليه وسلم تعزية له وتسلية ليصبر على ما يلاقيه من استهزاء قريش به واستعجالهم العذاب، إذ حصل مثله للرسل قبله فصبروا حتى نزل العذاب بالمستهزئين بالرسل عليهم السلام.
وقوله تعالى: { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } يأمر تعالى رسوله أن يقول للمطالبين بالعذاب المستعجلين له: { من يكلؤكم بالليل والنهار } أي من يجيركم من الرحمن إن أراد أن يعذبكم، أنه لا أحد يقدر على ذلك إذا فلم لا تتوبون إليه بالإيمان والتوحيد والطاعة له ولرسوله، وقوله: { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } إن علة عدم استجابتهم للحق هي إعراضهم عن القرآن الكريم وتدبر آياته وتفهم معانيه وقوله: { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا } ينكر تعالى أن يكون للمشركين آلهة تمنعهم من عذاب الله متى نزل بهم ويقرر أن آلهتهم لا تستطيع نصرهم { ولا هم منا يصحبون } أي وليس هناك من يجيرهم من عذاب الله من آلهتهم ولا من غيرها فلا يقدر أحد على إجارتهم من عذاب الله متى حل بهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن الساعة لا تأتي إلا بغتة.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان عليه الرسل من قبله وما لاقوه من أممهم.
4- بيان عجز آلهة المشركين عن نصرتهم بدفع العذاب عنهم متى حل بهم.
5- بيان أن علة إصرار المشركين على الشرك والكفر هو عدم إقبالهم على تدبر القرآن الكريم وتفكرهم في آياته وما تحمله من هدى ونور.
[21.44-47]
شرح الكلمات:
متعنا هؤلاء وآباءهم: أي بما أنعمنا عليهم من الخيرات.
حتى طال عليهم العمر: فانغروا بذلك.
ننقصها من أطرافها: أي بالفتح على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين.
إنما أنذركم بالوحي: أي بأخبار الله تعالى التي يوحيها إلي وليس هناك شيء من عندي.
نفحة: أي وقعة من عذاب خفيفة.
يا ويلنا إنا كنا ظالمين: أي يقولون يا ويلنا أي يا هلاكنا.
إنا كنا ظالمين: أي بالشرك والتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم.
الموازين القسط: أي العادلة.
فلا تظلم نفس شيئا: لا بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة.
مثقال حبة: أي زنة حبة من خردل.
وكفى بنا حاسبين: أي محصين لكل شيء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إبطال دعاوي المشركين فقال تعالى: { بل متعنا هؤلاء } بما أنعمنا عليهم هم وآباؤهم فظنوا أن آلهتهم هي الحافظة لهم بل الله هو الحافظ حتى طال عليهم العمر فانغروا بذلك. { أفلا يرون أنا نأتي الأرض } أرض الجزيرة بلادهم { ننقصها من أطرافهآ } بدخول أهلها في الإسلام بلدا بعد بلد. { أفهم الغالبون }؟ الله هو الغالب حيث مكن لرسوله والمؤمنين وفتح عليهم، ثم أمر رسوله أن يقول لهم أيها المكذبون إنما أنذركم العذاب وأخوفكم من عاقبة شرككم بالوحي الإلهي لا من تلقاء نفسي، وقوله تعالى: { ولا يسمع الصم الدعآء إذا ما ينذرون } فالصم لحبهم الباطل الذي هم عليه لا يسمعون الدعاء إذا ما ينذرون وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم فحبهم للشرك وآلهته جعلهم لا يسمعون فاستوى انذارهم وعدمه وقوله تعالى: { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك } أي وقعة خفيفة من العذاب لصاحوا يدعون بالويل على أنفسهم قائلين { يويلنآ إنا كنا ظالمين } فكيف بهم إذا وضعت الموازين العدل ليوم القيامة حيث لا تظلم نفس شيئا وإن قل وإن كان مثقال حبة من حسنة أو سيئة أتينا بها ووزناها { وكفى بنا حاسبين } أي محصين لأعمال العباد لعلمنا المحيط بكل شيء وقدرتنا التي لا يعجزها شيء.. ألا فلنتق الله أيها العقلاء!!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- طول العمر والرزق الواسع كثيرا ما يسبب الغرور لصاحبه.
2- حب الشيء يعمي صاحبه حتى لا يرى إلا ما أحبه ويصمه بحيث لا يسمع إلا ما أحبه.
3- بيان ضعف الإنسان وأن أدنى عذاب ينزل به لا يتحمله ويصرخ داعيا يا هلاكاه.
4- تقرير البعث والحساب والجزاء.
[21.48-50]
شرح الكلمات:
الفرقان: التوراة لأنها فارقة بين الحق والباطل كالقرآن.
وضياء: أي يهدي إلى الحق في العقائد والشرائع.
وذكرا: أي موعظة.
يخشون ربهم بالغيب: أي يخافون ربهم وهم لا يرونه في الدنيا فلا يعصونه بترك واجب ولا بفعل حرام.
وهم من الساعة مشفقون: أي وهم من أهوال يوم القيامة وعذابه خائفون.
وهذا ذكر مبارك: أي القرآن الكريم تنال بركته قارئه والعامل به.
أفأنتم له منكرون: الاستفهام للتوبيخ يوبخ تعالى من أنكر أن القرآن كتاب الله.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه آتى موسى وهارون الفرقان أي الحق الذي فرق بين حق موسى وهارون وبين باطل فرعون، كما فرق بين التوحيد والشرك يوم بدر يوم الفرقان وآتاهما التوراة ضياء يستضاء بها في معرفة الحلال والحرام والشرائع والأحكام وذكرا أي موعظة للمتقين، ووصف المتقين بصفتين: الأولى أنهم يخشون ربهم أي يخافونه بالغيب أي وهم لا يرونه والثانية: أنهم مشفقون من الساعة أي مما يقع فيها من أهوال وعذاب وقوله تعالى:
{ وهذا ذكر مبارك } يشير إلى القرآن الكريم ويصفه بالبركة فبركته لا ترفع فكل من قرأه وعمل بما فيه نالته بركته قراءة الحرف الواحد منه بعشر حسنات لا تنقضي عجائبه ولاتكتنه أسراره ولا تكتشف كل حقائقه، هدى لمن استهدى، وشفاء لمن استشفى وقوله تعالى: { أفأنتم له منكرون } يوبخ به العرب الذين آمنوا بكتاب اليهود إذ كانوا يسألونهم عما في كتابهم، وكفروا بالقرآن الذي هو كتابهم فيه ذكرهم وشرفهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إظهار منة الله تعالى على موسى وقومه ومحمد وأمته بإنزال التوراة على موسى والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
2- بيان صفات المتقين وهم الذين يخشون ربهم بالغيب فلا يعصونه بترك واجب ولا بفعل محرم: وهم دائما في اشفاق وخوف من يوم القيامة.
3- الإشادة بالقرآن الكريم حيث أنزله تعالى مباركا.
4- توبيخ وتقريع من يفكر بالقرآن وينكر ما فيه من الهدى والنور.
[21.51-58]
شرح الكلمات:
رشده: أي هداه بمعرفة ربه والإيمان به ووجوب طاعته والتقرب إليه.
التماثيل: جمع تمثال وهو الصورة المصنوعة على شبه إنسان أو حيوان.
التي أنتم لها عاكفون: أي مقبلون عليها ملازمون لها تعبدا.
أم أنت من اللاعبين: أي الهازلين غير الجادين فيما يقولون أو يفعلون.
ربكم رب السماوات: أي المستحق للعبادة مالك السماوات والأرض.
الذي فطرهن: أي أنشأهن خلقا وإيجادا على غير مثال سابق.
لأكيدن أصنامكم: أي لأحتالن على كسر أصنامكم وتحطيمها.
جذاذا: فتاتا وقطعا صغيرة.
إلا كبيرا لهم: إلا أكبر صنم لهم فإنه لم يكسره.
لعلهم إليه يرجعون: كي يرجعوا إليه فيؤمنوا بالله ويوحدوه بعد أن يظهر لهم عجز آلهتهم.
معنى الآيات:
على ذكر ما من به تعالى على موسى وهارون ومحمد صلى الله عليه وسلم من إيتائه إياهم التوراة والقرآن ذكر أنه امتن قبل ذلك على إبراهيم فآتاه رشده في صباه فعرفه به وبجلاله وكماله ووجوب الإيمان به تعالى وعبادته وحده، وإن عبادة من سواه باطلة، فقال تعالى: { ولقد آتينآ إبراهيم رشده من قبل } وقوله: { وكنا به عالمين } أي بأهليته للدعوة والقيام بها لما علمناه { إذ قال } أي في الوقت الذي قال لأبيه أي آزر، وقومه منكرا عليهم عبادة غير الله { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } أي مقبلون عليها ملازمون لها فأجابوه بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: { قالوا وجدنآ آبآءنا لها عابدين } فأعلنوا عن جهلهم إذ لم يذكروا برهانا على صحة أو فائدة عبادتها واكتفوا بالتقليد الأعمى وشأنهم في هذا شأن سائر من يعبد غير الله تعالى فإنه لا برهان له على صحة عبادة من يعبد إلا التقليد لمن رآه يعبده.
فرد عليهم إبراهيم بما أخبر تعالى عنه في قوله { قال لقد كنتم أنتم وآبآؤكم } أي الذين قلدتموهم في عبادة الأصنام { في ضلال } أي عن الهدى الذي يجب أن تكونوا عليه { مبين } لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، وردوا على إبراهيم قوله هذا فقالوا بما أخبر تعالى به عنهم { قالوا أجئتنا بالحق } أي فيما قلت لنا من أنا وآباءنا في ضلال مبين { أم أنت من اللاعبين } أي في قولك الذي قلت لنا فلم تكن جادا فينا تقول وإنما أنت لاعب لا غير ورد إبراهيم عليهم بما أخبر تعالى به عنه في قوله: { قال بل ربكم رب السموت والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين } أي ليس ربكم تلك التماثيل بل ربكم الحق الذي يستحق عبادتكم الذي فطر السماوات والأرض فأنشأهن خلقا عجيبا من غير مثال سابق وأنا على كون ربكم رب السماوات والأرض من الشاهدين إذ لا رب لكم غيره، ولا إله حق لكم سواه، { وتالله } قسما به تعالى { لأكيدن أصنامكم } أي لأحتالن عليها فأكسرها { بعد أن تولوا مدبرين } أي بعد أن ترجعوا عنها وتتركوها وحدها.
وفعلا لما خرجوا إلى عيد لهم يقضون يوما خارج المدينة أتى تلك التماثيل فكسرها فجعلها قطعا متناثرة هنا وهناك إلا صنما كبيرا لهم تركه { لعلهم إليه يرجعون } أي يرجعون إلى إبراهيم فيعبدون معه ربه سبحانه وتعالى عندما يتبين لهم بطلان عبادة الأصنام لأنها لم تستطع أن تدفع عن نفسها فكيف تدفع عن غيرها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر إنعام الله وإكرامه لمن اصطفى من عباده.
2- تقرير النبوة والتوحيد، والتنديد بالشرك والمشركين.
3- ذم التقليد وأنه ليس بدليل ولا برهان للمقلد على ما يعتقد أو يفعل.
4- مشروعية الشهادة وفضلها في مواطن تعز فيها ويحتاج إليها.
5- تغيير المنكر باليد لمن قدر عليه مقدم على تغييره باللسان والجمع بينهما أفضل.
[21.59-65]
شرح الكلمات:
بآلهتنا: أي بأصنامهم التي سموها آلهة لأنهم يعبدونها ويؤلهونها.
فتى يذكرهم: أي بالعيب والإنتقاص.
على أعين الناس: أي ظاهرا يرونه بأعينهم.
يشهدون: أي عليه بأنه الذي كسر الآلهة، ويشهدون العقوبة التي ننزلها به.
أأنت فعلت هذا: هذه صيغة الاستنطاق والاستجواب.
بل فعله كبيرهم هذا: أشار إلى أصبعه نحو الصنم الكبير الذي علق به الفاس قائلا بل فعله كبيرهم هذا وورى بإصبعه تحاشيا للكذب.
فرجعوا إلى أنفسهم: أي بعد التفكر والتأمل حكموا على أنفسهم بالظلم لعبادتهم مالا ينطق.
نكسوا على رؤوسهم: أي بعد اعترافهم بالحق رجعوا إلى اقرار الباطل فكانوا كمن نكس فجعل رأسه أسفل ورجلاه أعلى.
ما هؤلاء ينطقون: فكيف تطلب منا أن نسألهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما دار بين إبراهيم الخليل وقومه من حوار حول العقيدة أنه لما استغل إبراهيم فرصة خروج القوم إلى عيدهم خارج البلد ودخل البهو فكسر الآلهة فجعلها قطعا متناثرة وعلق الفأس بكبير الآلهة المزعومة وعظيمها وخرج فلما جاء المساء وعادوا إلى البلد ذهبوا إلى الآلهة المزعومة لأخذ الطعام الموضوع بين يديها لتباركه في زعمهم واعتقادهم الباطل وجدوها مهشمة مكسرة صاحوا قائلين: { قالوا من فعل هذا بآلهتنآ إنه لمن الظالمين } فأجاب بعضهم بعضا قائلا: { سمعنا فتى يذكرهم } أي شابا يذكر الآلهة بعيب وازدراء، واسمه إبراهيم، وهنا قالوا إذا { فأتوا به على أعين الناس } لنشاهده ونحقق معه فإذا ثبت أنه هو عاقبناه وتشهد الناس عقوبته فيكون ذلك نكالا لغيره، وجاءوا به عليه السلام وأخذوا في استنطاقه فقالوا ما أخبر تعالى به عنهم: { أأنت فعلت هذا } أي التكسير والتحطيم { يإبراهيم }؟ فأجابهم بما أخبر تعالى به عنه بقوله: { قال بل فعله كبيرهم هذا } يشير بأصبعه إلى كبير الآلهة تورية، { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } تقريعا لهم وتوبيخا وهنا رجعوا إلى أنفسهم باللائمة فقالوا: { إنكم أنتم الظالمون } أي حيث تألهون مالا ينطق ولا يجيب ولا يدفع عن نفسه فكيف عن غيره، وقوله تعالى: { ثم نكسوا على رءوسهم } أي قلبهم الله رأسا على عقب فبعد أن عرفوا الحق ولاموا على أنفسهم عادوا إلى الجدال بالباطل فقالوا: { لقد علمت } أي يا إبراهيم ما { هؤلاء ينطقون } فكيف تطلب منا أن نسألهم وأنت تعلم أنهم لا ينطقون. كما أن اعترافهم بعدم نطق الآلهة المدعاة إنتكاس منهم إذ اعترفوا ببطلان تلك الآلهة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الظلم معروف لدى البشر كلهم ومنكر بينهم ولولا ظلمة النفوس لما أقروه بينهم.
2- إقامة البينة على الدعاوي أمر مقرر في عرف الناس وجاءت به الشرائع من قبل.
3- أسلوب المحاكمة يعتمد على الاستنطاق والاستجواب أولا.
4- مشروعية التورية خشية القول بالكذب.
[21.66-72]
شرح الكلمات:
ما لا ينفعكم شيئا: أي آلهة لا تنفعكم شيئا ولا تضركم إن أرادت ضركم.
أف لكم: أي قبحا ولما تعبدون من دون الله.
قالوا: حرقوه: أي أحرقوه بالنار إنتصارا لآلهتكم التي كسرها.
بردا وسلاما: أي على إبراهيم فكانت كذلك فلم يحرق منه غير وثاقه " الحبل الذي وثق به ".
كيدا: وهو تحريقه بالنار للتخلص منه.
فجعلناهم الأخسرين: حيث خرج من النار ولم تحرقه ونجا من قبضتهم وذهب كيدهم ولم يحصلوا على شيء.
ونجيناه ولوطا: أي ابن أخيه هاران.
التي باركنا فيها: وهي أرض الشام.
ويعقوب نافلة: زيادة على طلبه الولد فطلب ولدا فأعطاه ما طلب وزاده آخر.
وكلا جعلنا صالحين: أي وجعلنا كل واحد منهم صالحا من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله كاملة وحقوق الناس كذلك.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن إبراهيم عليه السلام قال لقومه منكرا عليهم عبادة ألهتهم { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم } أي أتعبدون آلهة دون الله علمتم أنها لا تنفعكم شيئا ولا تضركم ولا تنطق إذا استنطقت ولا تجيب إذا سئلت { أف لكم ولما تعبدون من دون الله } أي قبحا لكم ولتلك التماثيل التي تعبدون من دون الله الخالق الرازق الضار النافع { أفلا تعقلون } قبح عبادتها وباطل تأليهها وهي جماد لا تسمع ولا تنطق ولا تنفع ولا تضر وهنا أجابوا بما أخبر تعالى به عنهم فقالوا: { حرقوه } أي أحرقوا إبراهيم بالنار { وانصروا آلهتكم } التي أهانها وكسرها { إن كنتم فاعلين } أي مريدين نصرتها حقا وصدقا. ونفذوا ما أجمعوا عليه وجمعوا الحطب وأججوا النار في بنيان خاص وألقوه فيه بواسطة منجنيق لقوة لهبها وشدة حرها وقال تعالى للنار ما أخبر به في قوله: { قلنا ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم } فكانت كما طلب منها ولم تحرق غير وثاقه الحبل الذي شدت به يداه، ورجلاه ولو لم يقل وسلاما لكان من الجائز أن تنقلب النار جبلا من ثلج ويهلك به إبراهيم عليه السلام. روي أن والد إبراهيم لما رأى إبراهيم لم تحرقه النار وهو يتفصد عرقا قال: نعم الرب ربك يا إبراهيم! وقوله تعالى: { وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين } أي أرادوا بإبراهيم مكرا وهو إحراقه بالنار فخيب الله مسعاهم وأنجى عبده وخليله من النار وأحبط عليهم ما كانوا يأملون فخسروا في كل أعمالهم التي أرادوا بها إهلاك إبراهيم، وقوله تعالى: { ونجيناه ولوطا } أي ونجينا إبراهيم وابن أخيه هاران وهو لوط { إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } وهي أرض الشام فنزل إبراهيم بفلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة وهي قرى قوم لوط التي بعد دمارها استحالت إلى بحيرة غير صالحة للحياة فيها وقوله: { باركنا فيها للعالمين } أي بارك في أرزاقها بكثرة الأشجار والأنهار والثمار لكل من ينزل بها من الناس كافرهم ومؤمنهم لقوله: { للعالمين } وقوله تعالى: { ووهبنا له } أي لإبراهيم إسحاق حيث سأل الله تعالى الولد، وزاده يعقوب نافلة وقوله: { وكلا جعلنا صالحين } أي وجعلنا كل واحد منهم من الصالحين الذين يعبدون الله بما شرع لهم فأدوا حقوق الرب تعالى كاملة، وأدوا حقوق الناس كاملة وهذا نهاية الصلاح.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان قوة حجة إبراهيم عليه السلام، ومتانة أسلوبه في دعوته وذلك مما آتاه ربه.
2- مشروعية توبيخ أهل الباطل وتأنيبهم.
3- آية إبطال مفعول النار فلم تحرق إبراهيم إلا وثاقه لما أراد الله تعالى ذلك.
4- قوة التوكل على الله كانت سبب تلك المعجزة إذ قال إبراهيم حسبي الله ونعم والوكيل. فقال الله تعالى للنار: { كوني بردا وسلما على إبراهيم } فكانت، وكفاه ما أهمه بصدق توكله عليه، ويؤثر أن جبريل عرض له قبل أن يقع في النار فقال هل لك يا إبراهيم من حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل.
5- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين.
6- خروج إبراهيم من أرض العراق إلى أرض الشام كانت أول هجرة في سبيل الله في التاريخ.
[21.73-77]
شرح الكلمات:
أئمة: أي يقتدى بهم في الخير.
يهدون بأمرنا: أي يرشدون الناس ويعلمونهم ما به كمالهم ونجاتهم وسعادتهم بإذن الله تعالى لهم بذلك حيث جعلهم رسلا مبلغين.
وكانوا لنا عابدين: أي خاشعين مطيعين قائمين بأمرنا.
ولوطا آتيناه حكما وعلما: أي أعطينا لوطا حكما أي فصلا بين الخصوم وفقها في الدين وكل هذا يدخل تحت النبوة والرسالة وقد نبأه وأرسله.
تعمل الخبائث: كاللواط وغيره من المفاسد.
فاسقين: أي عصاة متمردين عن الشرع تاركين للعمل به.
ونوحا إذ نادى من قبل: أي واذكر نوحا إذ دعا ربه على قومه الكفرة.
من الكرب العظيم: أي من الغرق الناتج عن الطوفان الذي عم سطح الأرض.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أفضال الله تعالى على إبراهيم وولده فقال تعالى: { وجعلناهم } أي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمة هداة يقتدى بهم في الخير ويهدون الناس إلى دين الله تعالى الحق بتكليف الله تعالى لهم بذلك حيث نبأهم وأرسلهم. وهو بمعنى قوله تعالى: { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } وقوله: { وأوحينآ إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتآء الزكاة } أي أوحينا إليهم بأن يفعلوا الخيرات جمع خير وهو كل نافع غير ضار فيه مرضاة لله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. وقوله تعالى: { وكانوا لنا عابدين } أي امتثلوا أمرنا فيما أمرناهم به وكانوا لنا مطيعين خاشعين وهو ثناء عليهم بأجمل الصفات وأحسن الأحوال وقوله تعالى: { ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين } أي وكما آتينا إبراهيم وولديه ما آتيناهم من الإفضال والإنعام الذي جاء ذكره في هذا السياق آتينا لوطا وقد خرج مهاجرا مع عمه إبراهيم آتيناه أيضا حكما وعلما ونبوة ورسالة متضمنة حسن الحكم والقضاء وأسرار الشرع والفقه في الدين. هذه منة وأخرى أنا نجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث وأهلكنا أهلها لأنهم كانوا قوم سوء لا يصدر عنهم إلا ما يسوء إلى الخلق فاسقين عن أمرنا خارجين عن طاعتنا، وقوله: { وأدخلناه في رحمتنآ إنه من الصالحين } وهذا إنعام آخر أعظم وهو إدخاله في سلك المرحومين برحمة الله الخاصة لأنه من عباد الله الصالحين.
وقوله تعالى: { ونوحا } أي واذكر يا رسولنا في سلك هؤلاء الصالحين عبدنا ورسولنا نوحا الوقت الذي نادى ربه من قبل إبراهيم فقال إني مغلوب فانتصر، { فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } حيث نجاه تعالى وأهله إلا امرأته وولده كنعان فإنهما لم يكونا من أهله لكفرهما وظلمهما فكانا من المغرقين. وقوله: { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا } أي ونصرناه بإنجائنا له منهم فلم يمسوه بسوء، وأغرقناهم أجمعين لأنهم كانوا قوم سوء فاسقين ظالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الدعوة إلى الله تعالى وشرف القائمين بها.
2- فضل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات.
3- ثناء الله تعالى على أوليائه وصالحي عباده بعبادتهم، وخشوعهم له.
4- الخبث إذا كثر في الأمة استوجبت الهلاك والدمار.
5- التنديد بالفسق والتحذير من عواقبه فإنها مدمرة والعياذ بالله.
6- تقرير النبوة المحمدية وتأكيدها إذ مثل هذا القصص لا يتأتى إلا لمن يوحى إليه.
[21.78-82]
شرح الكلمات:
في الحرث: أي في الكرم الذي رعته الماشية ليلا.
نفشت فيه: أي رعته ليلا بدون راع.
شاهدين: أي حاضرين صدور حكمهم في القضية لا يخفى علينا شيء من ذلك.
ففهمناها: أي القضية التي جرى فيها الحكم.
وكلا آتينا حكما وعلما: أي كلا من داود وولده سليمان أعطيناه حكما أي النبوة وعلما بأحكام الله وفقهها.
يسبحن: أي معه إذا سبح.
وكنا فاعلين: أي لما هو أغرب وأعجب من تسبيح الجبال والطير فلا تعجبوا.
صنعة لبوس لكم: هي الدروع وهي من لباس الحرب.
لتحصنكم: أي تقيكم وتحفظكم من ضرب السيوف وطعن الرماح.
فهل أنتم شاكرون: أي اشكروا فالاستفهام معناه الأمر هنا.
إلى الأرض التي باركنا: أي أرض الشام.
يغوصون: أي في أعماق البحر لاستخراج الجواهر.
ويعملون عملا دون ذلك: أي دون الغوص كالبناء وغيره وبعض الصناعات.
وكنا لهم حافظين: أي لأعمالهم حتى لا يفسدوها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إفضالات الله تعالى وإنعامه على من يشاء من عباده، وفي ذلك تقرير لنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي كذبت بها قريش فقال تعالى: { وداوود وسليمان } أي واذكر يا نبينا داود وسليمان { إذ يحكمان في الحرث } اي اذكرهما في الوقت الذي كانا يحكمان في الحرث الذي { نفشت فيه غنم القوم } أي رعت فيه ليلا بدون راع فأكلته وأتلفته { وكنا لحكمهم شاهدين } حاضرين لا يخفى علينا ما حكم به كل منهما، إذ حكم داود بأن يأخذ صاحب الحرث الماشية مقابل ما أتلفته لأن المتلف يعادل قيمة الغنم التي أتلفته، وحكم سليمان بأن يأخذ صاحب الماشية الرزع يقوم عليه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الماشية يستغل صوفها ولبنها وسخالها فإذا ردت إليه كرومة كما كانت أخذها ورد الماشية لصاحبها لم ينقص منها شيء هذا الحكم أخبر تعالى أنه فهم فيه سليمان وهو أعدل من الأول وهو قوله تعالى: { ففهمناها } أي الحكومة أو القضية أو الفتيا سليمان، ولم يعاتب داود على حكمه، وقال: { وكلا آتينا حكما وعلما } تلافيا لما قد يظن بعضهم أن داود دون ولده في العلم والحكم.
وقوله: { وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير } هذا ذكر لبعض ما أنعم به على داود عليه السلام وهو أنه سخر الجبال والطير تسبح معه إذا سبح سواء أمرها بذلك فأطاعته أو لم يأمرها فإنه إذا صلى وسبح صلت معه وسبحت، وقوله: { وكنا فاعلين } أي لما هو أعجب من تسخير الجبال والطير تسبح مع سليمان لأنا لا يعجزنا شيء وقد كتب هذا في كتاب المقادير فأخرجه في حينه، وقوله تعالى: { وعلمناه } أي داود { صنعة لبوس لكم } وهي الدروع السابغة التي تقي لا سبها طعن الرماح وضرب السيوف بإذن الله تعالى فهي آلة حرب ولذا قال تعالى { لتحصنكم من بأسكم } { فهل أنتم شاكرون }؟ أمر لعباده بالشكر على إنعامه عليهم والشكر يكون بحمد الله تعالى والإعتراف بإنعامه، وطاعته وصرف النعمة فيما من أجله أنعم بها على عبده، وقوله { ولسليمان } أي وسخرنا لسليمان { الريح عاصفة } شديدة السرعة { تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } إذ يخرج غازيا أول النهار وفي آخره تعود به الريح تحمل بساطه الذي هو كأكبر سفينة حربية اليوم إلى الأرض التي بارك الله وهي أرض الشام.
وقوله: { وكنا بكل شيء عالمين } يخبر تعالى أنه كان وما زال عليما بكل شيء ما ظهر للناس وما غاب عنهم فكل أحداث الكون تتم حسب علم الله وإذنه وتقديره وحكمته فلذا وجبت له الطاعة واستحق الألوهة والعبادة.
وقوله: { ومن الشياطين من يغوصون له } أي وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في أعماق البحار لاستخراج الجواهر، { ويعملون عملا دون ذلك } كالبناء وصنع التماثيل والمحاريب والجفان وغير ذلك. وقوله تعالى: { وكنا لهم حافظين } أي وكنا لأعمال أولئك العاملين من الجن حافظين لها عالمين بها حتى لا يفسدوها بعد عملها مكرا منهم أو خديعة فقد روى أنهم كانوا يعملون ثم يفسدون ما عملوه حتى لا ينتفع به.
هذا كله من إنعام الله تعالى على داود وسليمان وغيره كثير فسبحان ذي الأنعام والأفضال إله الحق ورب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب نصب القضاة للحكم بين الناس.
2- بيان حكم الماشية ترعى في حرث الناس وإن كان شرعنا على خلاف شرع من سبقنا فالحكم عندنا إن رعت الماشية ليلا قوم المتلف على صاحب الماشية ودفعه لصاحب الزرع، وإن رعت نهارا فلا شيء لصاحب الزرع لأن عليه أن يحفظ زرعه من أن ترعى فيه مواشي الناس لحديث العجماء، جبار وحديث ناقة البراء بن عازب.
3- فضل التسبيح.
4- وجوب صنع آلة الحرب وإعدادها للجهاد في سبيل الله.
5- وجوب شكر الله تعالى على كل نعمة تستجد للعبد.
6- بيان تسخير الله تعالى الجن لسليمان يعملون له أشياء.
7- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ من أرسل هؤلاء الرسل وأنعم عليهم بما أنعم لا يستنكر عليه إرسال محمد رسولا وقد أرسل من قبله رسلا.
8- كل ما يحدث في الكون من أحداث يحدث بعلم الله تعالى وتقديره ولحكمة تقضيه.
[21.83-86]
شرح الكلمات:
وأيوب: أي واذكر أيوب.
إذ نادى ربه: أي دعاه لما ابتلي بفقد ماله وولده ومرض جسده.
مسني الضر: هو ما ضر بجسمه أو ماله أو ولده.
وذكرى للعابدين: أي عظة للعابدين، ليصبروا فيثابوا.
وأدخلناهم في رحمتنا: بأن نبأناهم فانخرطوا في سلك الأنبياء إنهم من الصالحين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إفضالات الله تعالى وإنعامه على من شاء من عباده الصالحين فقوله تعالى في الآية الأولى [83] { وأيوب } أي واذكر عبدنا في شكره وصبره وسرعة أوبته، وقد ابتليناه بالعافية والمال والولد، فشكر وابتليناه بالمرض وذهاب المال والأهل والولد فصبر. أذكره { إذ نادى ربه } أي داعيا ضارعا بعد بلوغ البلاء منتهاه رب أي يا رب { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } { فاستجبنا له } دعاءه { فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله } من زوجة وولد { ومثلهم معهم } أي ضاعف له ما أخذه منه بالابتلاء بعد الصبر وأما المال فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم انه أنزل عليه رجلا من جراد من ذهب فكان أيوب يحثو في ثوبه حثيثا فقال له ربه في ذلك فقال من ذا الذي يستغني عن بركتك يا رب. وقوله تعالى: { رحمة من عندنا } أي رحمناه رحمة خاصة، وجعلنا قصته ذكرى وموعظة للعابدين لنا لما نبتليهم بالسراء والضراء فيشكرون ويصبرون ائتساء بعبدنا أيوب
إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب
[ص: 44].
وقوله تعالى: { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل } أي واذكر في عداد المصطفين من أهل الصبر والشكر إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وإدريس وهو أخنوخ وذا الكفل { كل من الصابرين } على عبادتنا الشاكرين لنعمائنا، وأدخلناهم في رحمتنا فنبأنا منهم من نبأنا وأنعمنا عليهم وأكرمناهم بجوارنا إنهم من الصالحين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- علو مقام الصبر ومثله الشكر فالأول على البأساء والثاني على النعماء.
2- فضيلة الدعاء وهو باب الاستجابة وطريقها من ألهمه ألهم الاستجابة.
3- في سير الصالحين مواعظ وفي قصص الماضيين عبر.
4- من ابتلي بفقد مال أو أهل أو ولد فصبر كان له من الله الخلف وما يقال عند المصيبة " إنا لله وإنا إليه لراجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ".
[21.87-91]
شرح الكلمات:
وذا النون: هو يونس بن متى عليه السلام وأضيف إلى النون الذي هو الحوت في قوله تعالى
ولا تكن كصاحب الحوت
[القلم: 48] لأن حوتة كبيرة ابتلعته.
إذ ذهب مغاضبا: أي لربه تعالى حيث لم يرجع إلى قومه لما بلغه أن الله رفع عنهم العذاب.
فظن أن لن نقدر عليه: أي أن لن نحبسه ونضيق عليه في بطن الحوت من أجل مغاضبته.
في الظلمات: ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل.
ونجيناه من الغم: أي الكرب الذي أصابه وهو في بطن الحوت.
لا تذرني فردا: أي بلا ولد يرث عني النبوة والعلم والحكمة بقرينة ويرث من آل يعقوب.
رغبا ورهبا: أي طمعا فينا ورهبا منا أي خوفا ورجاءا.
أحصنت فرجها: أي صانته وحفظته من الفاحشة.
من روحنا: أي جبريل حيث نفخ في كم درعها عليها السلام.
آية للعالمين: أي علامة على قدرة الله تعالى ووجوب عبادته بذكره وشكره.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إفضال الله تعالى وإنعامه على من يشاء من عباده فقال تعالى: { وذا النون } أي واذكر ذا النون أي يونس بن متى { إذ ذهب مغاضبا } لربه تعالى حيث لم يصبر على بقائه مع قومه يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته وطاعته وطاعة رسوله فسأل لهم العذاب، ولما تابوا ورفع عنهم العذاب بتوبتهم وعلم بذلك فلم يرجع إليهم فكان هذا منه مغاضبة لربه تعالى وقوله تعالى عنه: { فظن أن لن نقدر عليه } أي ظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يحبسه في بطن الحوت ولا يضيق عليه وهو حسن ظن منه في ربه سبحانه وتعالى، ولكن لمغاضبته ربه بعدم العودة إلى قومه بعد أن رفع عنهم العذاب أصابه ربه تطهيرا له من أمر المخالفة الخفيفة بأن ألقاه في ظلمات ثلاث، ظلمة الحوت والبحر والليل ثم ألهمه الدعاء الذي به النجاة فكان يسبح في الظلمات الثلاث { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } فاستجاب الله تعالى له وهو معنى قوله: { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم } الذي أصابه من وجوده في ظلمات محبوسا لا أنيس ولا طعام ولا شراب مع غم نفسه من جراء عدم عودته إلى قومه وقد أنجاهم الله من العذاب. وهو سبب المصيبة، وقوله تعالى: { وكذلك ننجي المؤمنين } مما قد يحل بهم من البلاء وقوله تعالى: { وزكريآ } أي اذكر يا رسولنا زكريا في الوقت الذي نادى ربه داعيا ضارعا قائلا: { رب } أي يا رب { لا تذرني فردا } أي لا تتركني فردا لا ولد لي يرثني في نبوتي وعلمي وحكمتي ويرث ذلك من آل يعقوب حتى لا تنقطع منهم النبوة والصلاح وقوله: { وأنت خير الوارثين } ذكر هذا اللفظ توسلا به إلى ربه ليستجيب له دعاءه واستجاب له والحمد لله.
فوهبه يحيى وأصلح له زوجه بأن جعلها ولودا بعد العقر حسنة الخلق والخلق. وقوله تعالى: { إنهم كانوا يسارعون } أي زكريا ويحيى ووالدته كانوا يسارعون في الطاعات والقربات أي في فعلها والمبادرة إليها. وقوله: { ويدعوننا رغبا ورهبا } هذا ثناء عليهم أيضا إذ كانوا يدعون الله رغبة في رحمته ورهبة وخوفا من عذابه وقوله: { وكانوا لنا خاشعين } أي مطيعين ذليلين متواضعين وهم يعبدون ربهم بأنواع العبادات.
وقوله تعالى: { والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا } أي واذكر يا نبينا تلك المؤمنة التي أحصنت فرجها أي منعته مما حرم الله تعالى عليها وهي مريم بنت عمران اذكرها في عداد من أنعمنا عليهم وأكرمناهم وفضلناهم على كثير من عبادنا الصالحين، حيث نفخنا فيها من روحنا إذ أمرنا جبريل روح القدس ينفخ في كم درعها فسرت النفخة إلى فرجها فحبلت وولدت في ساعة من نهار، وقوله تعالى: { وجعلناها وابنهآ } أي عيسى كلمة الله وروحه { آية } أي علامة كبرى على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا وإنعامنا وواجب عبادتنا وتوحيدنا فيها حيث لا يعبد غيرنا { للعالمين } أي للناس أجمعين يستدلون بها على ما ذكرنا آنفا من وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ووجوب عبادته وتوحيده فيها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة دعوة ذي النون: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }. إذ ورد أنه ما دعا بها مؤمن إلا استجيب له، وقوله تعالى: { وكذلك ننجي المؤمنين } يقوي هذا الخبر.
2- استحباب سؤال الولد لغرض صالح لا من أجل الزينة واللهو به فقط.
3- تقرير أن الزوجة الصالحة من حسنة الدنيا.
4- فضيلة المسارعة في الخيرات والدعاء برغبة ورهبة والخشوع في العبادات وخاصة في الصلاة والدعاء.
5- فضيلة العفة والاحصان للفرج.
6- كون مريم وابنها آية لأن مريم ولدت من غير محل، ولأن عيسى كان كذلك وكلم الناس في المهد، وكان يحيي الموتى بإذن الله تعالى.
[21.92-97]
شرح الكلمات:
إن هذه أمتكم: أي ملتكم وهي الإسلام ملة واحدة من عهد آدم إلى العهد المحمدي إذ دين الأنبياء واحد وهو عبادة الله تعالى وحده بما يشرع لهم.
وأنا ربكم فاعبدون: أنا الهكم الحق حيث خلقتكم ورزقتكم فلا تنبغي العبادة إلا لي فاعبدون ولا تعبدوا معي غيري.
وتقطعوا أمرهم بينهم: أي وتفرقوا في دينهم فأصبح لكل فرقة دين كاليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنيات وما أكثرها.
كل إلينا راجعون: أي كل فرقة من تلك الفرق التي قطعت الإسلام راجعة إلينا وسوف نجزيها بكسبها.
فلا كفران لسعيه: أي لا نكران ولا جحود لعمله بل سوف يجزى به وافيا.
وإنا له كاتبون: إذ الكرام الكاتبون يكتبون أعمال العباد خيرها وشرها.
وحرام: أي ممتنع رجوعهم إلى الدنيا.
يأجوج ومأجوج: قبيلتان موجودتان وراء سدهما الذي سيفتح عند قرب الساعة.
حدب: أي مرتفع من الأرض.
ينسلون: أي يسرعون المشي.
الوعد الحق: يوم القيامة.
في غفلة من هذا: أي من يوم القيامة وما فيه من أحداث.
معنى الآيات:
بعد ذكر أولئك الأنبياء وما أكرمهم الله تعالى به من إفضالات وما كانوا عليه من كمالات قال تعالى مخاطبا الناس كلهم: { إن هذه أمتكم } أي ملتكم { أمة واحدة } أي ملة واحدة من عهد أول الرسل إلى خاتمهم وهو الإسلام القائم على الإخلاص لله في العبادة والخلوص من الشرك وقوله تعالى: { وتقطعوا أمرهم بينهم } ينعى تعالى على الناس تقطيعهم الإسلام إلى ملل شتى كاليهودية والنصرانية وغيرهما، وتمزيقه إلى طوائف ونحل، وقوله { كل إلينا راجعون } إخبار منه تعالى أنهم راجعون إليه لا محالة بعد موتهم وسوف يجزيهم بما كانوا يكسبون ومن ذلك تقطيعهم للدين الإسلامي وتمزيقهم له فذهبت كل فرقة بقطعة منه. وقوله تعالى: { فمن يعمل من الصالحات } والحال أنه مؤمن، والمراد من الصالحات ما شرعه الله تعالى من عبادات قلبية وقولية وفعلية { فلا كفران لسعيه } أي لعمله فلا يجحد ولا ينكر بل يراه ويجزي به كاملا. وقوله تعالى: { وإنا له كاتبون } يريد أن الملائكة تكتب أعماله الصالحة بأمرنا ونجزيه بها أيضا أحسن جزاء وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم.
وقوله تعالى: { وحرام على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون } يخبر تعالى أنه ممتنع امتناعا كاملا أن يهلك أمة بذنوبها في الدنيا ثم يردها إلى الحياة في الدنيا، وهذا بناء على أن { لا } مزيدة لتقوية الكلام ويحتمل الكلام معنى آخر وهي ممتنع على أهل قرية قضى الله تعالى بعذابهم في الدنيا أو في الآخرة أنهم يرجعون إلى الإيمان والطاعة والتوبة الصادقة وذلك بعد أن كذبوا وعاندوا وظلموا وفسقوا فطبع على قلوبهم فهم لا يرجعون إلى التوبة بحال، ومعنى ثالث وهو حرام على أهل قرية أهلكهم الله بذنوبهم فأبادهم إنهم لا يرجعون إلى الله تعالى يوم القيامة بل يرجعون للحساب والجزاء فهذه المعانى كلها صحيحة، والمعنى الأخير لا تكلف فيه بكون { لا } صلة بل هي نافية ويرجح المعنى الأخير قوله تعالى: { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } فهو بيان لطريق رجوعهم إلى الله تعالى وذلك يوم القيامة وبدايته بظهور علاماته الكبرى ومنها إنكسار سد يأجوج ومأجوج وتدفقهم في الأرض يخربون ويدمرون { وهم من كل حدب } وصوب { ينسلون } مسرعين.
وقوله تعالى: { واقترب الوعد الحق } وهو يوم الدين والحساب والجزاء وقوله: { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } وذلك بعد قيامهم من قبورهم وحشرهم إلى أرض المحشر وهم يقولون في تأسف وتحسر { يويلنا } أي يا هلاكنا { قد كنا في غفلة } أي في دار الدنيا { بل كنا ظالمين } فاعترفوا بذنبهم حيث لا ينفعهم الاعتراف إذ لا توبة تقبل يومئذ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وحدة الدين وكون الإسلام هو دين البشرية كافة لأنه قائم على أساس توحيد الله تعالى في عبادته التي شرعها ليعبد بها.
2- بيان ما حدث للبشرية من تمزيق الدين بينها بحسب الأهواء والأطماع والأغراض.
3- وعد الله لأهل الإيمان والعمل الصالح بالجزاء الحسن وهو الجنة.
4- تقرير حقيقة وهي إذا قضي بهلاك أمة تعذرت عليها التوبة، وأن أمة يهلكها الله تعالى لا تعود إلى الحياة الدنيا بحال وإن البشرية عائدة إلى ربها فممتنع عدم عودة الناس إلى ربهم، وذلك لحسابهم وجزائهم يوم القيامة.
[21.98-104]
شرح الكلمات:
وما تعبدون من دون الله: أي من الأوثان والأصنام.
حصب جهنم: أي ما توقد به جهنم.
لو كان هؤلاء آلهة: أي الأوثان التي يعبدها المشركون من قريش.
ما وردوها: أي لحالوا بين عابديهم ودخول النار لأنهم آلهة قادرون على ذلك ولكنهم ليسوا آلهة حق فلذا لا يمنعون عابديهم من دخول النار.
وكل فيها خالدون: أي العابدون من الناس والمعبودون من الشياطين والأوثان.
لهم فيها زفير: أي لأهل النار فيها أنين وتنفس شديد وهو الزفير.
سبقت لهم منا الحسنى: أي كتب الله تعالى أزلا أنهم أهل الجنة.
حسيسها: أي حس صوتها.
لا يحزنهم الفزع الأكبر: أي عند النفخة الثانية نفخة البعث فإنهم يقومون من قبورهم آمنين غير خائفين.
كطي السجل للكتب: أي يطوي الجبار سبحانه وتعالى السماء طي الورقة لتدخل في الظرف.
كما بدأنا أول خلق نعيده: أي يعيد الله الخلائق كما بدأهم أول مرة فيبعث الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا، كما ولدوا لم ينقص منهم شيء.
معنى الآيات:
يقول تعالى للمشركين الذين بدأت السورة الكريمة بالحديث عنهم، وهم مشركوا قريش يقول لهم موعدا: { إنكم وما تعبدون من دون الله } من أصنام وأوثان { حصب جهنم } أي ستكونون أنتم وما تعبدون من أصنام وقودا لجهنم التي أنتم واردوها لا محالة، وقوله تعالى: { لو كان هؤلاء آلهة } لو كان هؤلاء التماثيل من الأحجار التي يعبدها المشركون لو كانوا آلهة حقا ما ورد النار عابدوها لأنهم يخلصونهم منها ولما ورد النارالمشركون ودخلوها دل ذلك على أن آلهتهم كانت آلهة باطلة لا تستحق العبادة بحال. وقوله تعالى: { وكل فيها خالدون } أي المعبودات الباطلة وعابدوها الكل في جهنم خالدون. وقوله: { لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون } يخبر تعالى أن للمشركين في النار زفيرا وهو الأنين الشديد من شدة العذاب وأنهم فيها لا يسمعون لكثرة الأنين وشدة الأصوات وفظاعة ألوان العذاب وقوله تعالى: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } نزلت هذه الآية ردا على ابن الزبعرى عندما قال إن كان ما يقوله محمد حقا بأننا وآلهتنا في جهنم فإن الملائكة معنا في جهنم لأننا نعبدهم، وأن عيسى والعزيز في جهنم لأن اليهود عبدوا العزيز والنصارى عبدوا المسيح، فأخبر تعالى أن من عبد بغير رضاه بذلك وكانا يعبدنا ويتقرب إلينا بالطاعات فهو ممن سبقت لهم منا الحسنى بأنهم من أهل الجنة هؤلاء عنها أي عن جهنم مبعدون { لا يسمعون حسيسها } أي حس صوتها وهم في الجنة ولهم فيها ما يشتهون خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر عند قيامهم من قبورهم بل هم آمنون { وتتلقاهم الملائكة } عند القيام من قبورهم بالتحية والتهنئة قائلة لهم: { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } وقوله تعالى: { يوم نطوي السمآء } أي يتم لهم ذلك يوم يطوي الجبار جل جلاله السماء بيمينه { كطي السجل } أي الصحيفة للكتب.
وذلك يوم القيامة حيث تبدل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات. وقوله تعالى: { كما بدأنآ أول خلق نعيده } أي يعيد الإنسان كما بدأ خلقه فيخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا. وقوله: { وعدا علينآ إنا كنا فاعلين } أي وعدنا بإعادة الخلق بعد فنائهم وبلاهم وعدا، إنا كنا فاعلين فأنجزنا ما وعدنا، وإنا على ذلك لقادرون.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.
2- من عبد من دون الله بأمره أو برضاه سيكون ومن عبده وقودا لجهنم ومن لم يأمر ولم يرض فلا يدخل النار مع من عبده بل العابد له وحده في النار.
3- بيان عظمة الله وقدرته إذ يطوي السماء بيمينه، والأرض في قبضته يوم القيامة.
4- بعث الناس حفاة عراة غرلا لم ينزع منهم شيء ولا غلفة الذكر إنجاز الله وعده في قوله:
كما بدأكم تعودون
[الأعراف: 29] فسبحان الواحد القهار العزيز الجبار.
[21.105-112]
شرح الكلمات:
ولقد كتبنا في الزبور: أي في الكتب التي أنزلنا كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والقرآن.
من بعد الذكر: أي من بعد أن كتبنا ذلك في الذكر الذي هو اللوح المحفوظ.
أن الأرض: أي أرض الجنة.
عبادي الصالحون: هم أهل الإيمان والعمل الصالح من سائر الأمم من أتباع الرسل عامة.
إن في هذا لبلاغا: أي إن في القرآن لبلاغا أي لكفاية وبلغة لدخول الجنة فكل من آمن به وعمل بما فيه دخل الجنة.
لقوم عابدين: أي مطيعين الله ورسوله .
رحمة للعالمين: أي الإنس والجن فالمؤمنون المتقون يدخلون الجنة والكافرون ينجون. من عذاب الاستئصال والإبادة الذي كان يصيب الأمم السابقة.
فهل أنتم مسلمون: أي أسلموا فالاستفهام للأمر.
وإن أدري: أي ما أدري.
فتنة لكم: أي اختبار لكم.
على ما تصفون: من الكذب من أن النبي ساحر، وأن الله اتخذ ولدا وأن القرآن شعر.
معنى الآيات:
يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بوعده الكريم الذي كتبه في كتبه المنزلة بعد كتابته في الذكر الذي هو كتاب المقادير المسمى باللوح المحفوظ أن أرض الجنة يرثها عباده الصالحون هذا ما دلت عليه الآية الأولى [105] وقوله تعالى: { إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين } أي في هذا القرآن العظيم لبلاغا لمن كان من العابدين لله بأداء فرائضه واجتناب نواهيه لكفاية في الوصول به إلى بغيته وهي رضوان الله والجنة وقوله تعالى { ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين } يخبر تعالى أنه ما أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين إنسهم وجنهم مؤمنهم وكافرهم فالمؤمنون باتباعه يدخلون رحمة الله وهي الجنة والكافرون يأمنون من عذاب الإبادة والاستئصال في الدنيا ذلك العذاب الذي كان ينزل بالأمم والشعوب عندما يكذبون رسلهم وقوله تعالى { قل إنمآ يوحى إلي أنمآ إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون } يأمر تعالى رسوله أن يقول لقومه ولمن يبلغهم خطابه إن الذي يوحى إلي هو أن إلهكم إله واحد أي معبودكم الحق واحد وهو الله تعالى ليس غيره وعليه { فهل أنتم مسلمون } أي أسلموا له قلوبكم ووجوهكم فاعبدوه ولا تعبدوا معه سواه فبلغهم يا رسولنا هذا { فإن تولوا } أي أعرضوا عن هذا الطلب ولم يقبلوه { فقل ءاذنتكم } أي أعلمتكم { على سوآء } أنا وأنتم إنه لا تلاقي بيننا فأنا حرب عليكم وأنتم حرب علي وقوله تعالى: { وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون } أي وقل لهم يا رسولنا: إني ما أدري أقريب ما توعدون من العذاب أم بعيد فالعذاب كائن لا محالة ما لم تسلموا إلا أني لا أعلم وقته. وفي الآية وعيد واضح وتهديد شديد وقوله : { إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون } أي يعلم طعنكم العلني في الإسلام وكتابه ونبيه، كما يعلم ما تكتمونه في نفوسكم من عداوتي وبغضي وما تخفون من إحن وفي هذا إنذار لهم وتهديد، وهم مستحقون لذلك.
وقوله: { وإن أدري } أي وما أدري { لعله } أي تأخير العذاب عنكم بعد استحقاقكم له يحربكم للإسلام ونبيه { فتنة لكم } أي اختبار لعلكم تتوبون فيرفع عنكم العذاب أو هو متاع لكم بالحياة إلى آجالكم، ثم تعذبون بعد موتكم. فهذا علمه إلى ربي هو يعلمه، وبهذا أمرني بأن أقوله لكم. وقوله تعالى: { قال رب احكم بالحق } وفي قراءة قل رب احكم بالحق أي قال الرسول بعد أمر الله تعالى بذلك يا رب احكم بيني وبين قومي المكذبين لي المحاربين لدعوتك وعبادك المؤمنين. بالحق وذلك بنصري عليهم أو بإنزال نقمتك بهم، وقوله: { وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون } أي وربنا الرحمن عز وجل هو الذي يستعان به على إبطال باطلكم أيها المشركون حيث جعلتم لله ولدا، وشركاء، ووصفتم رسوله بالسحر والكذب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المؤمنون المتقون وهم الصالحون هم ورثة الجنة دار النعيم المقيم.
2- في القرآن الكريم البلغة الكافية لمن آمن به وعمل بما فيه بتحقيق ما يصبوا إليه من سعادة الدار الآخرة.
3- بيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم وكرامته على ربه حيث جعله رحمة للعالمين.
4- وجوب المفاصلة بين أهل الشرك وأهل التوحيد.
5- وجوب الاستعانة بالله على كل ما يواجه العبد من صعاب وأتعاب.
[22 - سورة الحج]
[22.1-4]
شرح الكلمات:
اتقوا ربكم: أي عذاب ربكم وذلك بالإيمان والتقوى.
إن زلزلة الساعة: أي زلزلة الأرض عند مجيء الساعة.
تذهل كل مرضعة: أي من شدة الهول والخوف تنسى رضيعها وتغفل عنه.
وتضع كل ذات حمل حملها: أي تسقط الحوامل ما في بطونهن من الخوف والفزع.
سكارى وما هم بسكارى: أي ذاهلون فاقدون رشدهم وصوابهم كالسكارى وما هم بسكارى.
يجادل في الله بغير علم: أي يقول إن الملائكة بنات الله وإن الله لا يحيي الموتى.
شيطان مريد: أي متجرد من كل خير لا خير فيه البتة.
كتب عليه أنه من تولاه: فرض فيه أن من تولاه أي اتبعه يضله عن الحق.
معنى الآيات:
بعد ذلك البيان الإلهي في سورة الأنبياء وما عرض تعالى من أدلة الهداية وما بين من سبل النجاة نادى تعالى بالخطاب العام الذي يشمل العرب والعجم والكافر والمؤمن إنذارا وتحذيرا فقال في فاتحة هذه السورة سورة الحج المكية المدنية لوجود آي كثير فيها نزل في مكة وآخر نزل بالمدينة: { يأيها الناس اتقوا ربكم } أي خافوا عذابه، وذلك بطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه فآمنوا به وبرسوله وأطيعوهما في الأمر والنهي وبذلك تقوا أنفسكم من العذاب. وقوله: { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } فكيف بالعذاب الذي يقع فيها لأهل الكفر والمعاصي، إن زلزلة لها تتم قبل قيامها تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت أي تنسى فيها الأم ولدها، { وتضع كل ذات حمل حملها } فتسقط من شدة الفزع لتلك الزلزلة المؤذنة بخراب الكون وفناء العوالم ويرى الناس فيها سكارى أي فاقدين لعقولهم وما هم بسكارى بشرب سكر { ولكن عذاب الله شديد } فخافوه لظهور أماراته ووجود بوادره.
هذا ما دلت عليه الآيتان [1] و [2] وأما الآية الثالثة فينعى تعالى على النضر بن الحارث وأمثاله ممن يجادلون في الله بغير علم فينسبون لله الولد والبنت ويزعمون أنه ما أرسل محمدا رسولا، وأنه لا يحيى الموتى بعد فناء الأجسام وتفتتها قال تعالى: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } بجلال الله وكماله ولشرائعه وأحكامه وسننه في خلقه، { ويتبع } أي في جداله وما يقوله من الكذب والباطل { كل شيطان مريد } أي متجرد من الحق والخير، { كتب عليه } أي على ذلك الشيطان في قضاء الله أن من تولاه بالطاعة والاتباع فإنه يضله عن الحق ويهديه بذلك إلى عذاب السعير في النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوالهما وأهوالهما.
2- حرمة الجدال بالباطل لإدحاض الحق وإبطاله.
3- حرمة الكلام في ذات الله وصفاته بغير علم من وحي إلهي أو كلام نبوي صحيح .
4- موالاة الشياطين واتباعهم يفضي بالموالي المتابع لهم إلى جهنم وعذاب السعير.
[22.5-7]
شرح الكلمات:
في ريب من البعث: الريب الشك مع اضطراب النفس وحيرتها، والبعث الحياة بعد الموت.
من نطفة: قطرة المني التي يفرزها الزوجان.
علقة: أي قطعة دم متجمد تتحول إليه النطفة في خلال أربعين يوما.
مضغة: أي قطعة لحم قدر ما يمضغ المرء تتحول العلقة إليها بعد أربعين يوما.
وغير مخلقة: أي مصورة خلقا تاما، مخلقة وغير مخلقة هي السقط يسقط قبل تمام خلقه.
لنبين لكم: أي قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم بابتداء خلقكم كيف يكون.
ونقر في الأرحام ما نشاء: أي ونبقي في الرحم من نريد له الحياة والبقاء إلى نهاية مدة الحمل ثم نخرجه طفلا سويا.
لتبلغوا أشدكم: أي كمال أبدانكم وتمام عقولكم.
إلى أرذل العمر: أي سن الشيخوخة والهرم فيخرف.
لكيلا يعلم من بعد علم شيئا: أي فيصير كالطفل في معارفه إذ ينسى كل علم علمه.
هامدة: خامدة لا حراك لها ميتة.
اهتزت وربت: أي تحركت بالنبات وارتفعت تربتها وأنبتت.
زوج بهيج: أي من كل نوع من أنواع النباتات جميل المنظر حسنه.
ذلك بأن الله هو الحق: أي الإله الحق الذي لا إله سواه، فعبادة الله حق وعبادة غير الله باطل.
وأن الساعة آتية: أي القيامة.
يبعث من في القبور: أي يحييهم ويخرجهم من قبورهم أحياء كما كانوا قبل موتهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى بعض أحوال القيامة وأهوالها، وكان الكفر بالبعث الآخر هو العائق عن الاستجابة للطاعة وفعل الخير نادى تعالى الناس مرة أخرى ليعرض عليهم أدلة البعث العقلية لعلهم يؤمنون فقال: { يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } أي في شك وحيرة وقلق نفسي من شأن بعث الناس أحياء من قبورهم بعد موتهم وفنائهم لأجل حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم التي عملوها في دار الدنيا فإليكم ما يزيل شككم ويقطع حيرتكم في هذه القضية العقدية وهو أن الله تعالى قد خلقكم من تراب أي خلق أصلكم وهو أبوكم آدم من تراب وبلا شك، ثم خلقكم أنتم من نطفة أي ماء الرجل وماء المرأة وبلا شك، ثم من علقة بعد تحول النطفة إليها ثم من مضغة بعد تحول العلقة إليها وهذا بلا شك أيضا، ثم المضغة إن شاء الله تحويلها إلى طفل خلقها وجعلها طفلا، وإن لم يشأ ذلك لم يخلقها وأسقطها من الرحم كما هو معروف ومشاهد، وفعل الله ذلك من أجل أن يبين لكم قدرته وعلمه وحسن تدبيره لترهبوه وتعظموه وتحبوه وتطيعوه وقوله: { ونقر في الأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا } أي ونقر تلك المضغة المخلقة في الرحم إلى أجل مسمى وهو ميعاد ولادة الولد وانتهاء حمله ونخرجكم طفلا أي أطفالا صغارا لا علم لكم ولا حلم، ثم ننميكم ونربيكم بما تعلمون من سننا في ذلك { ثم لتبلغوا أشدكم } أي تمام نماء أبدانكم وعقولكم { ومنكم من يتوفى } قبل بلوغه أشده لأن الحكمة الإلهية اقتضت وفاته ومنكم من يعيش ولا يموت حتى يرد إلى أرذل العمر فيهرم ويخرف ويصبح كالطفل لا يعلم بعد علم كان له قبل هرمه شيئا هذا دليل البعث وهو دليل عقلي منطقي وبرهان قوي على حياة الناس بعد موتهم إذ الذي خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة يوجب العقل قدرته على إحيائهم بعد موتهم، إذ ليست الإعادة بأصعب من البداية.
ودليل عقلي آخر هو ما تضمنه قوله تعالى: { وترى الأرض } أيها الإنسان { هامدة } خامدة ميتة لا حراك فيها ولا حياة فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء من السماء { اهتزت } أي تحركت { وربت } أي ارتفعت وانتفخت تربتها وأخرجت من النباتات المختلفة الألوان والطعوم والروائح { من كل زوج بهيج } جميل المنظر حسنه، أليس وجود تربة صالحة كوجود رحم صالحة وماء المطر كماء الفحل وتخلق النطفة في الرحم كتخلق البذرة في التربة وخروج الزرع حيا ناميا كخروج الولد حيا ناميا وهكذا إلى حصاد الزرع وموت الإنسان فهذان دليلان عقليان على صحة البعث الآخر وأنه كائن لا محالة وفوق ذلك كله إخبار الخالق وإعلامه خلقه بأنه سيعيدهم بعد موتهم فهل من العقل والمنطق أو الذوق أن نقول له لا فإنك لا تقدر على ذلك قولة كهذه قذرة عفنة لا يود أن يسمعها عقلاء الناس وأشرافهم. ولما ضرب تعالى هذين المثالين أو ساق هذين الدليلين على قدرته وعلمه وحكمته المقتضية لإعادة الناس أحياء بعد الموت والفناء للحساب والجزاء قال وقوله الحق { ذلك بأن الله هو الحق } أي الرب الحق والإله المعبود الحق، وما عداه فباطل { وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } ومن شك فليراجع الدليلين السابقين في تدبر وتعقل فانه يسلم لله تعالى ما أخبر به عن نفسه في قوله ذلك { بأن الله هو الحق } الخ.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الأعمال يوم القيامة.
2- بيان تطور خلق الإنسان ودلالته على قدرة الله وعلمه وحكمته.
3- الاستدلال على الغائب بالحاضر المحسوس وهذا من شأن العقلاء فإن المعادلات الحسابية والجبرية قائمة على مثل ذلك.
4- تقرير عقيدة التوحيد وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[22.8-13]
شرح الكلمات:
يجادل في الله: أي في شأن الله تعالى فينسب إلى الله تعالى ما هو منه براء كالشريك والولد والعجز عن إحياء الموتى، وهذا المجادل هو أبو جهل.
بغير علم: أي بدون علم من الله ورسوله.
ولا كتاب منير: أي ولا كتاب من كتب الله ذي نور يكشف الحقائق ويقرر الحق ويبطل الباطل.
ثاني عطفه: أي لآوى عنقه تكبرا، لأن العطف الجانب من الإنسان.
له في الدنيا خزي: وقد أذاقه الله تعالى يوم بدر إذ ذبح هناك واحتز رأسه.
بظلام للعبيد: أي بذي ظلم للعبيد فيعذبهم بغير ظلم منهم لأنفسهم.
يعبد الله على حرف: أي على شك في الإسلام هل هو حق أو باطل وذلك لجهلهم به وأغلب هؤلاء أعراب البادية.
اطمأن به: أي سكنت نفسه إلى الإسلام ورضي به.
وإن أصابته فتنة: أي ابتلاء بنقص مال أو مرض في جسم ونحوه.
إنقلب على وجهه: أي رجع عن الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر الجاهلي.
ما لا يضره ولا ينفعه: أي صنما لا يضره إن لم يعبده، ولا ينفعه إن عبده.
لبئس المولى: أي قبح هذا الناصر من ناصر.
ولبئس العشير: أي المعاشر وهو الصاحب الملازم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } هذه شخصية ثانية معطوفة على الأولى التي تضمنها قوله تعالى:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد
[الحج: 3] وهي شخصية النضر بن الحارث أحد رؤساء الفتنة في مكة، وهذه الشخصية هي فرعون هذه الأمة عمرو بن هشام الملقب بأبي جهل يخبر تعالى عنه فيقول: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } بل يجادل بالجهل وما أقبح جدال الجهل والجهال ويجادل في الله عز وجل يا للعجب أفيريد أن يثبت لله تعالى الولد والبنت والعجز والشركاء والشفعاء، ولا علم من وحي عنده، ولا من كتاب إلهي موحى به إلى أحد أنبيائه. وقوله تعالى: { ثاني عطفه } وصف له في حال مشيه وهو يجر رداءه مصعرا خده مائلا إلى أحد جنبيه كبرا وغرورا، وجداله لا لطلب الهدى أو لمجرد حب الإنتصار للنفس بل ليضل غيره عن سبيل الله تعالى الذي هو الإسلام حتى لا يدخلوا فيه فيكملوا ويسعدوا عليه في الحياتين. وقوله تعالى: { له في الدنيا خزي } أي ذل وهوان وقد ناله حيث قتل في بدر شر قتلة فقد احتز رأسه وفصل عن جئته ونال منه الذين كان يسخر منهم ويعذبهم من ضعفة المؤمنين، وقوله تعالى: { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق } وقد أذاقه ذلك بمجرد أن قتل فروحه في النار ويوم القيامة يدخلها بجسمه وروحه وقوله تعالى: { ذلك بما قدمت يداك } أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والهوان وعذاب الحريق بما قدمت يداك من الشرك والظلم والمعاصي، { وأن الله ليس بظلم للعبيد } ، وأنت منهم والله ما ظلمك بل ظلمت نفسك، والله متنزه عن الظلم لكمال قدرته وغناه وقوله تعالى: { ومن الناس من يعبد الله على حرف } أي على شك هذه شخصية ثالثة عطفت على سابقتيها وهي شخصية بعض الاعراب كانوا يدخلون في الإسلام لا عن علم واقتناع بل عن شك وطمع وهو معنى على حرف فإن أصابهم خير من مال وصحة وعافية اطمأنوا إلى الإسلام وسكنت نفوسهم واستمروا عليه، وإن أصابتهم فتنة أي اختبار في نفس أو مال أو ولد انقلبوا على وجوههم أي ارتدوا عن الإسلام ورجعوا عنه فخسروا بذلك الدنيا والآخرة فلا الدنيا حصلوا عليها ولا الآخرة فازوا فيها، قال تعالى: { ذلك هو الخسران المبين } أي البين الواضح إذ لو بقوا على الإسلام لفازوا بالآخرة، ولأخلف الله عليهم ما فقدوه من مال أو نفس، وقوله تعالى { يدعوا من دون الله } أي ذلك المنقلب على وجهه المرتد يدعوا { ما لا يضره } أي صنما لا يضره لو ترك عبادته { وما لا ينفعه } إن عبده وقوله تعالى: { ذلك هو الضلال البعيد } أي دعاء وعبادة ما لا يضر ولا ينفع ضلال عن الهدى والخير والنجاح والربح وبعيد أيضا قد لا يرجع صاحبه ولا يهتدي.
وقوله: { يدعو لمن ضره أقرب من نفعه } أي يدعو ذلك المرتد عن التوحيد إلى الشرك من ضره يوم القيامة أقرب من نفعه فقد يتبرأ منه ويحشر معه في جهنم ليكونا معا وقودا لها، قال تعالى: { لبئس المولى ولبئس العشير } المعاشر والصاحب الملازم فذم تعالى وقبح ما كان المشركون يؤملون فيهم ويرجون شفاعتهم يوم القيامة، تنفيرا لهم من الشرك وعبادة غيره سبحانه وتعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قبح جدال الجاهل فيما ليس له به علم.
2- ذم الكبر والخيلاء وسواء من كافر أو من مؤمن.
3- عدم جدوى عبادة صاحبها شاك في نفعها غير مؤمن بوجوبها ومشروعيتها.
4- لا يصح دين مع الشك.
5- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين.
[22.14-17]
شرح الكلمات:
وعملوا الصالحات: أي الفرائض والنوافل وأفعال الخير.
يفعل ما يريد: من إكرام المطيع وإهانة العاصي وغير ذلك من رحمه المؤمن وعذاب الكافر.
أن لن ينصره الله: أي محمدا صلى الله عليه وسلم.
فليمدد بسبب: أي بحبل.
إلى السماء: اي سقف بينه وليختنق غيظا.
هل يذهبن كيده: أي في عدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يغيظه.
وكذلك أنزلناه: أي ومثل إنزالنا تلك الآيات السابقة أنزلنا القرآن.
هادوا: أي اليهود.
والصابئين: فرقة من النصارى.
والمجوس: عبدة النار والكواكب.
على كل شيء شهيد: أي عالم به حافظ له.
معنى الآيات:
بعدما ذكر تعالى جزاء الكافرين والمترددين بين الكفر والإيمان أخبر أنه تعالى يدخل الذين آمنوا به وبرسوله ولقاء ربهم ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض التي افترضها الله عليهم والنوافل التي رغبهم فيها يدخلهم جزاء لهم على إيمانهم وصالح أعمالهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقوله تعالى: { إن الله يفعل ما يريد } ومن ذلك تعذيبه من كفر به وعصاه ورحمة من آمن به وأطاعه وقوله تعالى: { من كان يظن أن لن ينصره الله } أي من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله ودينه وعباده المؤمنين فلذا هو يتردد ولم يؤمن ولم ينخرط في سلك المسلمين كبني أسد وغطفان فإنا نرشده إلى ما يذهب عنه غيظه حيث يسوءه نصر الله تعالى لرسوله وكتابه ودينه وعباده المؤمنين وهو أن يأتي بحبل وليربطه بخشبة في سقف بيته ويشده على عنقه ثم ليقطع الحبل، وينظر بعد هذه العملية الانتحارية هل كيده هذا يذهب عنه الذي يغيظه؟.
وقوله تعالى: { وكذلك أنزلناه آيات بينات } أي ومثل ذلك الإنزال للآيات التي تقدمت في بيان قدرة الله وعلمه في الخلق وإحياء الأرض وإعادة الحياة بعد الفناء أنزلنا القرآن آيات واضحات تحمل الهدى والخير لمن آمن بها وعمل بما فيها من شرائع وأحكام وقوله تعالى: { وأن الله يهدي من يريد } أي هدايته بأن يوفقه للنظر والتفكر فيعرف الحق فيطلبه ويأخذ به عقيدة وقولا وعملا.
وقوله تعالى: { إن الذين آمنوا } وهم المسلمون { والذين هادوا } وهم اليهود { والصابئين } وهم فرقة من النصارى يقرأون الزبور ويعبدون الكواكب { والنصارى } وهم عبدة الصليب { والمجوس } وهم عبدة النار والكواكب { والذين أشركوا } وهم عبدة الأوثان هؤلاء جميعا سيحكم الله بينهم يوم القيامة فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل أهل تلك الملل الباطلة النار هذا هو الفصل الحق فالأديان ستة دين واحد للرحمن وخمسة للشيطان فأهل دين الرحمن يدخلهم في رحمته، وأهل دين الشيطان يدخلهم النار مع الشيطان وقوله: { إن الله على كل شيء شهيد } أي عالم بكل شيء لا يخفى عليه شيء وسيجزى كل عامل بما عمل، ولا يهلك على الله إلا هالك فقد أنزل كتابه وبعث رسوله ورغب ورهب وواعد وأوعد والناس يختارون ما قدر لهم أو عليهم وسبحان الله العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كل الأديان هي من وحي الشيطان وأهلها خاسرون إلا الإسلام فهو دين الله الحق وأهله هم الفائزون، أهله هم القائمون عليه عقيدة وعبادة وحكما وقضاء.
2- إن الله ناصر دينه، ومكرم أهله، ومن غاظه ذلك ولم يرضه فليختنق.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- تقرير إرادة الله ومشيئته فهو تعالى يفعل ما يشاء ويهدي من يريد.
[22.18]
شرح الكلمات:
ألم تر: أي ألم تر بقلبك فتعلم.
يسجد له: أي يخضع ويذل له بوضع وجهه على الأرض بين يدي الرب تعالى.
من في السماوات: من الملائكة.
والدواب: من سائر الحيوانات التي تدب على الأرض.
حق عليه العذاب: وجب عليه العذاب فلا بد هو واقع به.
ومن يهن الله: أي يشقه في عذاب مهين.
فماله من مكرم: أي ليس له من مكرم أي مسعد ليسعده، وقد أشقاه الله.
معنى الآية الكريمة:
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { ألم تر } أيها الرسول بقلبك فتعلم { أن الله يسجد له من في السموت } من الملائكة { ومن في الأرض } من الجن والدواب { والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثير من الناس } وهم المؤمنون المطيعون وكثير أي من الناس حق عليهم العذاب أي وجب لهم العذاب وثبت، فهو لا يسجد سجود عبادة وقربة لنا أما سجود الخضوع فظلالهم تسجد لنا بالصباح والمساء، وقوله تعالى: { ومن يهن الله فما له من مكرم } أي ومن أراد الله إشقاءه وعذابه فما له من مكرم يكرمه برفع العذاب عنه وإسعاده في دار السعادة وقوله: { إن الله يفعل ما يشآء } فمن شاء أهانه ومن شاء أكرمه فالخلق خلقه وهو المتصرف فيهم مطلق التصرف فمن شاء أعزه، ومن شاء أذله فعلى عباده أن يرجعوا إليه بالتوبة سائلين رحمته مشفقين من عذابه فهذا أنجى لهم من عذابه وأقرب إلى رحمته.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- تقرير ربوبية الله وألوهيته.
2- سجود المخلوقات بحسب ذواتها، وما أراد الله تعالى منها.
3- كل شيء خاضع لله إلا الإنسان فأكثر أفراده عصاة له متمردون عليه وبذلك استوجبوا العذاب المهين.
4- التالي لهذه الآية والمستمع لتلاوته يسن لهم أن يسجدوا لله تعالى إذا بلغوا قوله تعالى: { إن الله يفعل ما يشآء }.
[22.19-24]
شرح الكلمات
خصمان: خصم مؤمن وخصم كافر كل واحد يريد أن يخصم صاحبه.
اختصموا في ربهم: أي في دينه.
قطعت لهم ثياب: أي فصلت لهم ثياب على قدر أجسامهم.
يصهر به ما في بطونهم: أي يذاب بالحميم وهو الماء الحار من شحوم وغيرها.
مقامع من حديد: جمع مقمعة وهي آلة من حديد كالمجن.
وذوقوا عذاب الحريق: أي يقال لهم توبيخا وتقريعا: ذوقوا عذاب النار.
ولؤلؤا: أي أساروا من لؤلؤ محلاة بالذهب.
إلى الطيب من القول: هو شهادة أن لا إله إلا الله.
إلى صراط الحميد: أي إلى الإسلام إذ هو طريق الله الموصل إلى رضاه وجنته.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { هذان خصمان } الخصم الأول المسلمون والثاني أهل الشرك والكفر { اختصموا في ربهم } أي في دينه تعالى كل خصم يدعي أنه على الدين الحق، وماتوا على ذلك وفصل الله تعالى بينهم يوم القيامة { فالذين كفروا } وهم أهل الدين الباطل ادخلوا النار وفصلت لهم ثياب من نار { يصب من فوق رءوسهم الحميم } أي الماء الحار المنتهي في الحرارة، { يصهر به ما في بطونهم والجلود } من لحم وشحم، { ولهم مقامع من حديد } يضربون بها و { كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها } أي من النار بسبب ما ينالهم من غم عظيم { أعيدوا فيها } أي تجبرهم الزبانية على العودة إليها ولم تمكنهم من الخروج منها، ويقولون لهم: { وذوقوا عذاب الحريق } أي لا تخرجوا منها وذوقوا عذاب الحريق. فهذا جزاء الخصم الكافر، وأما الخصم المؤمن فهذا جزاؤه وهو في قوله تعالى: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا } أي أساور من لؤلؤ محلاة بالذهب { ولباسهم فيها } أي في الجنة { حرير } وقوله تعالى: { وهدوا إلى الطيب من القول } في الدنيا وهو لا إله إلا الله وسائر الأذكار والتسابيح وكل كلام طيب، { وهدوا إلى صراط الحميد } وهذا الطريق الموصل إلى رضا ربهم وهو الإسلام، وكل ذلك بتوفيق ربهم الذي آمنوا له وبرسوله وأطاعوه بفعل محابه وترك مساخطه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات حقيقة هي أن المؤمن خصم الكافر والكافر خصم المؤمن في كل زمان ومكان حيث إن الآية نزلت في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث هذا الخصم المؤمن، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وهذا الخصم الكافر وذلك أنهم تقاتلوا يوم بدر بالمبارزة ونصر الله الخصم المؤمن على الكافر.
2- بيان جزاء كل من الكافرين والمؤمنين في الدار الآخرة.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوال الآخرة وما للناس فيها.
4- بيان الطيب من القول وهو كلمة التوحيد وذكر الله تعالى.
5- بيان صراط الحميد وهو الإسلام جعلنا الله من أهله.
[22.25]
شرح الكلمات:
كفروا: جحدوا توحيد الله وكذبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم.
ويصدون عن سبيل الله: يمنعون الناس من الإسلام، ويصرفونهم عنه.
والمسجد الحرام: مكة المكرمة والمسجد الحرام ضمنها.
العاكف: المقيم بمكة للتعبد في المسجد الحرام.
والباد: الطارىء عن مكة النازح إليها.
بإلحاد بظلم: أي إلحادا أي ميلا عن الحق ملتبسا بظلم لنفسه أو لغيره.
معنى الآية الكريمة:
قوله تعالى: { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } هذه الآية الكريمة تحمل تهديدا ووعيدا شديدا لكل من كفر بتوحيد الله وكذب رسوله وما جاء به من الهدى والدين الحق وصد عن سبيل الله أي صرف الناس عن الدخول في الإسلام، وعن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت والإقامة بمكة للتعبد في المسجد الحرام والآية وإن تناولت المشركين الذين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دخول مكة عام الحديبية فإنها عامة فى كل من كفر وصد إلى يوم القيامة وقوله تعالى: { الذي جعلناه للناس سوآء العاكف فيه والباد } هو وصف للمسجد الحرام إذ جعله الله تعالى موضع تنسك لكل من أتاه وأقام به أو يأتيه للعبادة ثم يخرج منه، فالعاكف أي المقيم فيه كالبادي الطارىء القدوم إليه هم سواء في حق الإقامة في مكة والمسجد الحرام للتعبد.
وقوله تعالى: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } أي يرد بمعنى يعتزم الميل عن الحق فيه بظلم يرتكبه كالشرك وسائر الذنوب والمعاصي القاصرة على الفاعل أو المتعدية إلى غيره. وقوله تعالى: { نذقه من عذاب أليم } هذا جزاء من كفر وصد عن سبيل الله والمسجد الحرام ومن أراد فيه إلحادا بظلم لنفسه أو لغيره.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- التنديد بالكفر والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام والظلم فيه والوعيد الشديد لفاعل ذلك.
2- مكة بلد الله وحرمه من حق كل مسلم أن يقيم بها للتعبد والتنسك ما لم يظلم وينتهك حرمة الحرم بالذنوب والمعاصي، وخاصة الشرك والظلم والضلال.
3- عظيم شأن الحرم حيث يؤاخذ فيه على مجرد العزم على الفعل ولو لم يفعل.
[22.26-29]
شرح الكلمات
وإذ بوأنا لإبراهيم: أي أذكر يا رسولنا إذ بوأنا: أي أنزلنا إبراهيم بمكة مبينين له مكان البيت.
أن لا تشرك بي شيئا: أي ووصيناه بأن لا تشرك بي شيئا من الشرك والشركاء.
وطهر بيتي: ونظف بيتي من أقذار الشرك وأنجاس المشركين.
وأذن في الناس بالحج: أعلن في الناس بأعلى صوتك.
رجالا وعلى كل ضامر: مشاة وركبانا على ضوامر الإبل.
فج عميق: طريق واسع بعيد الغور في قارات الأرض.
في أيام معلومات: هي أيام التشريق.
بهيمة الأنعام: أي الإبل والبقر والغنم إذ لا يصح الهدى إلا منها .
البائس الفقير: أي الشديد الفقر.
ليقضوا تفثهم: أي ليزيلوا أوساخهم المترتبة على مدة الإحرام.
وليوفوا نذورهم: أي بأن يذبحوا وينحروا ما نذروه لله من هدايا وضحايا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وإذ بوأنا لإبراهيم } أي اذكر يا رسولنا لقومك المنتسبين إلى إبراهيم باطلا وزورا حيث كان موحدا وهم مشركون اذكر لهم كيف بوأه ربه مكان البيت ليبنيه ويرفع بناءه وكيف عهد الله إليه ووصاه بأن يطهره من الأقذار الحسية كالنجاسات من دماء وأوساخ والمعنوية كالشرك والمعاصي وسائر الذنوب وذلك من أجل الطائفين به والقائمين في الصلاة والراكعين والساجدين فيه إذ الركع جمع راكع والسجد جمع ساجد حتى لا يتأذوا بأي أذى معنوي أو حسي وهم حول بيت ربهم وفي بلده وحرمه، ليذكر قومك هذا وهم قد نصبوا حول البيت التماثيل والأصنام، ويحاربون كل من يقول لا إله إلا الله وقد صدوك وأصحابك عن المسجد الحرام ومنعوك من الطواف بالبيت العتيق، فأين يذهب بعقولهم عندما يدعون أنهم على دين إبراهيم وإسماعيل. هذا ما دل عليه قوله تعالى: { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطآئفين والقآئمين والركع السجود }.
وقوله تعالى { وأذن في الناس بالحج } أي وعهدنا إليه آمرين إياه أن يؤذن في الناس بأن ينادي معلنا معلما: أيها الناس إن ربكم قد بنى لكم بيتا فحجوه ففعل ذلك فأسمع الله صوته من شاء من عباده ممن كتب لهم أزلا أن يحجوا وسهل طريقهم حجوا فعلا ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: { يأتوك رجالا } أي عليك النداء وعلينا البلاغ فناد { يأتوك رجالا } أي مشاة { وعلى كل ضامر } من النوق المهازيل { يأتين من كل فج عميق } أي طريق بعيد في أغوار الأرض وأبعادها كالأندلس غربا وأندونيسيا شرقا. وقوله تعالى: { ليشهدوا منافع لهم } أي يأتوك ليشهدوا منافع لهم دينية كمغفرة ذنوبهم واستجابة دعائهم والفوز برضا ربهم، وتعلم دينهم من علمائهم، ودينوية كربح تجارة ببيع وشراء وعرض سلع وأنواع صناعات، وقوله تعالى: { ويذكروا اسم الله } شاكرين لله تعالى إنعامه عليهم وإفضاله وذلك في أيام الحج كلها من العشر الأول من ذي الحجة إلى نهاية أيام التشريق بالصلاة والذكر والدعاء، كما يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام عند نحر الإبل وذبح البقر والغنم بأن يقول الناحر أو الذابح بسم الله والله أكبر وقوله تعالى: { فكلوا منها } أي من بهيمة الأنعام التي نحرتموها أو ذبحتموها تقربا إلينا كهدى التمتع أو التطوع، { وأطعموا البآئس الفقير } وهو من اشتد به الفقر وقوله تعالى: { ثم ليقضوا تفثهم } بإزالة الشعث والوسخ الذي لازمهم طيلة مدة الإحرام.
وقوله: { وليوفوا نذورهم } أن من كان منهم قد نذر هديا بذبحه في الحرم فليوف بذلك إذ هذا أوان الوفاء بما نذر أن ينحره أو يذبحه بالحرم. وقوله { وليطوفوا بالبيت العتيق } أي وليطوفوا طواف الإفاضة وهو ركن الحج ولا يصح إلا بعد الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة صباح العيد عيد الأضحى.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- وجوب بناء البيت وإعلائه كلما سقط وتهدم ووجوب تطهيره من كل ما يؤذي الطائفين والعاكفين في المسجد الحرام من الشرك والمعاصي وسائر الذنوب ومن الأقذار كالأبوال والدماء ونحوها.
2- مشروعية فتح مكاتب للدعاية للحج.
3- جواز الاتجار أثناء إقامته في الحج.
4- وجوب شكر الله تعالى وذكره.
5- جواز الأكل من الهدي ومن ذبائح التطوع بل استحبابه.
6- وجوب الحلق أو التقصير بعد رمي حمة العقبة.
7- وجوب الوفاء بالنذور الشرعية أما النذور للأولياء فهي شرك ولا يجوز الوفاء بها.
8- تقرير طواف الإفاضة وبيان زمنه وهو بعد الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة.
[22.30-33]
شرح الكلمات:
ذلك: أي الأمر هذا مثل قول المتكلم هذا أي ما ذكرت.. وكذا وكذا..
حرمات الله: جمع حرمة ما حرم الله إنتهاكه من قول أو فعل.
فهو خير له عند ربه: أي خير في الآخرة لمن يعظم حرمات الله فلا ينتهكها.
إلا ما يتلى عليكم: أي تحريمه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.
فاجتنبوا الرجس: أي اجتنبوا عبادة الأوثان.
واجتنبوا قول الزور: وهو الكذب وأعظم الكذب ما كان على الله تعالى والشرك وشهادة الزور.
حنفاء لله: موحدين له مائلين عن كل دين إلى الإسلام.
خر من السماء: أي سقط.
فتخطفه الطير: أي تأخذه بسرعة.
شعائر الله: أعلام دينه وهي هنا البدن بأن تختار الحسنة السمينة منها.
فإنها من تقوى القلوب: أي تعظيمها ناشىء من تقوى قلوبهم.
لكم فيها منافع: منها ركوبها والحمل عليها بما لا يضرها وشرب لبنها.
إلى أجل مسمى: أي وقت معين وهو نحرها بالحرم أيام التشريق.
ثم محلها إلى البيت العتيق: أي عند البيت العتيق وهو مكة والحرم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مناسك الحج قوله تعالى { ذلك } أي الأمر ذاك الذي علمتم من قضاء التفث أي إزالة شعر الرأس وقص الشارب وقلم الأظافر ولباس الثياب ونحر وذبح الهدايا والضحايا، { ومن يعظم } منكم { حرمات الله } فلا ينتهكها { فهو خير له } أي ذلك التعظيم لها باحترامها وعدم انتهاكها خير له عند ربه يوم يلقاه وقوله تعالى: { وأحلت لكم الأنعام } أي الإبل والبقر والغنم أحل الله تعالى لكم أكلها والانتفاع بها وقوله تعالى: { إلا ما يتلى عليكم } تحريمه كما جاء في سورة البقرة والمائدة والأنعام، ومن ذلك قوله تعالى:
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب
[المائدة: 3] وقوله: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } أي اجتنبوا عبادة الأوثان فإنها رجس فلا تقربوها بالعبادة ولا بغيرها غضبا لله وعدم رضا بها وبعبادتها، وقوله: { واجتنبوا قول الزور } وهو الكذب مطلقا وشهادة الزور وأعظم الكذب ما كان على الله بوصفه بما هو منزه عنه أو بنسبه شيء إليه كالولد والشريك وهو عنه منزه، أو وصفه بالعجز أو بأي نقص وقوله، { حنفآء لله غير مشركين } أي موحدين لله تعالى في ذاته وصفاته وعباداته مائلين عن كل الأديان إلى دينه الإسلام، غير مشركين به أي شيء من الشرك أو الشركاء وقوله تعالى: { ومن يشرك بالله } إلها آخر فعبده أو صرف له بعض العبادات التي هي لله تعالى فحاله في خسرانه وهلاكه هلاك من خر من السماء أي سقط منها بعدما رفع إليها فتخطفه الطير أي تأخذه بسرعة وتمزقه أشلاء كما تفعل البازات والعقبان بصغار الطيور، أو تهوي به الريح في مكان سحيق بعيد فلا يعثر عليه أبدا فهو بين أمرين إما اختطاف الطير له أو هوى الريح به فهو خاسر هالك هذا شأن من يشرك بالله تعالى فيعبد معه غيره بعد أن كان في سماء الطهر والصفاء الروحي بسلامة فطرته وطيب نفسه فانتكس في حمأة الشرك والعياذ بالله وقوله تعالى: { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } أي الأمر ذلك من تعظيم حرمات الله واجتناب قول الزور والشرك وبيان خسران المشرك ومن يعظم شعائر الله وهي أعلام دينه من سائر المناسك وبخاصة البدن التي تهدى للحرم وتعظيمها باستحسانها واستسمانها ناشىء عن تقوى القلوب فمن عظمها طاعة لله تعالى وتقربا إليه دل ذلك على تقوى قلبه لربه تعالى والرسول يشير إلى صدره ويقول التقوى ها هنا التقوى ها هنا ثلاث مرات وقوله تعالى: { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } أي أذن الله تعالى للمؤمنين أن ينتفعوا بالهدايا وهم سائقوها إلى الحرم بأن يركبوها ويحملوا عليها ما لا يضرها ويشربوا من ألبانها وقوله تعالى: { ثم محلهآ إلى البيت العتيق } أي محلها عند البيت العتيق وهو الحرم حيث تنحر إن كان مما ينحر أو تذبح إن كان مما يذبح.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تعظيم حرمات الله لما فيها من الخير العظيم.
2- تقرير حلية بهيمة الأنعام بشرط ذكر اسم الله عند ذبحها أو نحرها.
3- حرمة قول الزور وشهادة الزور وفي الأثر عدلت شهادة الزور الشرك بالله.
4- وجوب ترك عبادة الأوثان ووجوب البعد عنها وترك كل ما يمت إليها بصلة.
5- بيان عقوبة الشرك وخسران المشرك.
6- تعظيم شعائر الله وخاصة البدن من تقوى قلوب أصحابها.
7- جواز الانتفاع بالبدن الهدايا بركوبها وشرب لبنها والحمل عليها إلى غاية نحرها بالحرم.
[22.34-37]
شرح الكلمات:
منسكا: أي ذبائح من بهيمة الأنعام يتقربون بها إلى الله تعالى، ومكان الذبح يقال له منسك.
فله أسلموا: أي انقادوا ظاهرا وباطنا لأمره ونهيه.
وبشر المخبتين: أي المطيعين المتواضعين الخاشعين.
وجلت قلوبهم: أي خافت من الله تعالى أن تكون قصرت في طاعته.
والبدن : جمع بدنة وهي ما يساق للحرم من إبل وبقر ليذبح تقربا إلى الله تعالى.
من شعائر الله: أي من أعلام دينه، ومظاهر عبادته.
صوآف: جمع صافة وهي القائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى.
فإذا وجبت جنوبها: أي بعد أن تسقط على جنوبها على الأرض لا روح فيها.
القانع والمعتر: القانع السائل والمعتر الذي يتعرض للرجل ولا يسأله حياء وعفة.
كذلك سخرناها: أي مثل هذا التسخير سخرناها لكم لتركبوا عليها وتحملوا وتحلبوا.
لعلكم تشكرون: أي لأجل أن تشكروا الله تعالى بحمده وطاعته.
لن ينال الله لحومها: أي لا يرفع إلى الله لحم ولا دم، ولكن تقواه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
لتكبروا الله على ما هداكم: أي تقولون الله أكبر بعد الصلوات الخمس أيام التشريق شكرا له على هدايته إياكم.
وبشر المحسنين: أي الذين يريدون بالعبادة وجه الله تعالى وحده ويؤدونها على الوجه المشروع.
معنى الآيات:
ما زال السياق في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين فقوله تعالى: { ولكل أمة جعلنا منسكا } أي ولكل أمة من الأمم السابقة من أهل الإيمان والإسلام جعلنا لهم مكان نسك يتعبدوننا فيه ومنسكا أي ذبح قربان ليتقربوا به إلينا، وقوله: { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } أي شرعنا لهم عبادة ذبح القربان لحكمة: وهو أن يذكروا اسمنا على ذبح ما يذبحون ونحر ما ينحرون بأن يقولوا بسم الله والله أكبر. وقوله تعالى: { فإلهكم إله واحد } أي فمعبودكم أيها الناس معبود واحد { فله أسلموا } وجوهكم وخصوه بعبادتكم ثم قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وبشر المخبتين } برضواننا ودخول دار كرامتنا ووصف المخبتين معرفا بهم الذين تنالهم البشرى على لسان رسول الله فقال { الذين إذا ذكر الله } لهم أو بينهم { وجلت قلوبهم } أي خافت شعورا بالتقصير في طاعته وعدم أداء شكره والغفلة عن ذكره { والصابرين على مآ أصابهم } من البلاء فلا يجزعون ولا يتسخطون ولكن يقولون إنا لله وإنا إليه راجعون، { والمقيمي } الصلاة أي بأدائها في أوقاتها في بيوت الله مع عباده المؤمنين ومع كامل شرائطها وأركانها وسننها { ومما رزقناهم ينفقون } مما قل أو كثر ينفقون في مرضاة ربهم شكرا لله على ما آتاهم وتسليما بما شرع لهم وفرض عليهم.
وقوله تعالى: { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } أي الإبل والبقر مما يهدى إلى الحرم جعلنا ذلكم من شعائر ديننا ومظاهر عبادتنا، { لكم فيها خير } عظيم وأجر كبير عند ربكم يوم تلقوه إذ ما تقرب متقرب يوم عيد الأضحى بأفضل من دم يهرقه في سبيل الله وعليه { فاذكروا اسم الله عليها } اي قولوا بسم الله والله أكبر عند نحرها، وقوله: { صوآف } أي قائمة على ثلاثة معقولة اليد اليسرى، فإذا نحرتموها ووجبت أي سقطت على جنوبها فوق الأرض ميتة { فكلوا منها وأطعموا القانع } الذي يسألكم { والمعتر } الذي يتعرض لكم ولا يسألكم حياءا، وقوله تعالى: { سخرناها لكم } أي مثل ذلك التسخير الذي سخرناهم لكم فتركبوا وتحلبوا وتذبحوا وتأكلوا سخرناهم لكم من أجل أن تشكرونا بالطاعة والذكر.
وقوله تعالى في آخر آية في هذا السياق وهي [37] قوله: { لن ينال الله لحومها ولا دمآؤها } أي لن يرفع إليه لحم ولا دم ولن يبلغ الرضا منه، ولكن التقوى بالإخلاص وفعل الواجب والمندوب وترك الحرام والمكروه هذا الذي يرفع إليه ويبلغ مبلغ الرضا منه.
وقوله تعالى: { كذلك سخرها لكم } أي كذلك التسخير الذي سخرها لكم لعلة أن تكبروا الله على ما هداكم إليه من الإيمان والإسلام فتكبروا الله عند نحر البدن وذبح الذبائح وعند أداء المناسك وعقب الصلوات الخمس أيام التشريق. وقوله تعالى: { وبشر المحسنين } أمر الله تعالى رسوله والمبلغ عنه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يبشر باسمه المحسنين الذين أحسنوا الإيمان والإسلام فوحدوا الله وعبدوه بما شرع وعلى نحو ما شرع متبعين في ذلك هدى رسوله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- ذبح القربان مشروع في سائر الأديان الإلهية وهو دليل على أنه لا إله إلا الله إذ وحدة التشريع تدل على وحدة المشرع.
وسر مشروعية ذبح القربان هو أن يذكر الله تعالى، ولذا وجب ذكر اسم الله عند ذبح ما يذبح ونحر ما ينحر بلفظ بسم الله والله أكبر.
2- تعريف المخبتين أهل البشارة السارة برضوان الله وجواره الكريم.
3- وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام.
4- بيان كيفية نحر البدن، وحرمة الأخذ منها قبل موتها وخروج روحها.
5- الندب إلى الأكل من الهدايا ووجوب إطعام الفقراء والمساكين منها.
6- وجوب شكر الله على كل إنعام.
7- مشروعية التكبير عند أداء المناسك كرمي الجمار وذبح ما يذبح وبعد الصلوات الخمس أيام التشريق.
8- فضيلة الإحسان وفوز المحسنين ببشرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[22.38-41]
شرح الكلمات
يدافع: قرىء يدفع أي غوائل المشركين وما يكيدون به المؤمنين.
خوان: كثير الخيانة لأمانته وعهوده.
كفور: أي جحود لربه وكتابه ورسوله ونعمه عليه.
بأنهم ظلموا: أي بسبب ظلم المشركين لهم.
بغير حق: أي استوجب إخراجهم من ديارهم.
إلا أن يقولوا ربنا الله: أي إلا قولهم: ربنا الله والله حق، وهل قول الحق يسوغ إخراج قائله؟
صوامع وبيع: معابد الرهبان وكنائس النصارى.
وصلوات: معابد اليهود، باللغة العبرية مفردها صلوثا.
ومساجد: أي بيوت الصلاة للمسلمين.
من ينصره: أي ينصر دينه وعباده المؤمنين.
قوي عزيز: قادر على ما يريد عزيز لا يمانع فيما يريد.
إن مكناهم في الأرض: أي نصرناهم على عدوهم ومكنا لهم في البلاد بأن جعلنا السلطة بأيديهم.
ولله عاقبة الأمور: أي آخر أمور الخلق مردها إلى الله تعالى الذي يثيب ويعاقب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم قوله تعالى: { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } أي يدفع عنهم غوائل المشركين ويحميهم من كيدهم ومكرهم. وقوله: { إن الله لا يحب كل خوان كفور } تعليل وهم المشركين الذين صدوا رسول الله والمؤمنين عن المسجد الحرام وهم الخائنون لأماناتهم وعهودهم الكافرون بربهم ورسوله وكتابه وبما جاء به، ولما كان لا يحبهم فهو عليهم، وليس لهم، ومقابلة أنه يحب كل مؤمن صادق في إيمانه محافظ على أماناته وعهوده مطيع لربه، ومن أحبه دافع عنه وحماه من أعدائه.
وقوله تعالى: { أذن للذين يقاتلون } باسم للفاعل أي القادرين على القتال ويقاتلون باسم المفعول وهما قراءتان أي قاتلهم المشركون هؤلاء أذن الله تعالى لهم في قتال أعدائهم المشركين بعدما كانوا ممنوعين من ذلك لحكمة يعلمها ربهم، وهذه أول آية في القرآن تحمل طابع الحرب بالإذن فيه للمؤمنين، وقوله: { وإن الله على نصرهم لقدير } طمأنهم على أنه معهم بتأييده ونصره وهو القدير على ذلك وقوله تعالى: { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } أي بدون موجب لإخراجهم اللهم إلا قولهم: ربنا الله وهذا حق وليس بموجب لإخراجهم من ديارهم وطردهم من منازلهم وبلادهم هذه الجملة بيان لمقتضى الإذن لهم بالقتال، ونصرة الله تعالى لهم. وقوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } أي يدفع بأهل الحق أهل الباطل لولا هذا لتغلب أهل الباطل و { لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا } وهذا تعليل أيضا وبيان لحكمة الأمر بالقتال أي لولا أن الله تعالى يدفع بأهل الإيمان أهل الكفر لتغلب أهل الكفر وهدموا المعابد ولم يسمحوا للمؤمنين أن يعبدوا الله - وفي شرح الكلمات بيان للمعابد المذكورة فليرجع إليها.
وقوله تعالى: { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي } أي قدير { عزيز } غالب فمن أراد نصرته نصره ولو اجتمع عليه من بأقطار الأرض، والذي يريد الله نصرته هو الذي يقاتل من أجل الله بأن يعبد في الأرض ولا يعبد معه سواه فذلك وجه نصر الله فليعلم وقوله { الذين إن مكناهم } أي وطأنا لهم في الأرض وملكناهم بعد قهر أعدائهم المشركين فحكموا وسادوا أقاموا الصلاة على الوجه المطلوب منهم، وآتوا الزكاة المفروضة في أموالهم، وأمروا بالمعروف أي بالإسلام والدخول فيه وإقامته، ونهوا عن المنكر وهو الشرك والكفر ومعاصي الله ورسوله هؤلاء الأحقون بنصر الله تعالى لهم لأنهم يقاتلون لنصرة الله عز وجل، وقوله تعالى: { ولله عاقبة الأمور } يخبر تعالى بأن مرد كل أمر إليه تعالى يحكم فيه بما هو الحق والعدل فيثيب على العمل الصالح ويعاقب على العمل الفاسد، وذلك يوم القيامة، وعليه فليراقب الله وليتق في السر والعلن وليتوكل عليه، ولينب إليه، فإن مرد كل أمر إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وعد الله الصادق بالدفاع عن المؤمنين الصادقين في إيمانهم.
2- كره الله تعالى لأهل الكفر والخيانة.
3- مشروعية القتال لإعلاء كلمة الله بأن يعبد وحده ولا يضطهد أولياؤه.
4- بيان سر الإذن بالجهاد ونصرة الله لأوليائه الذين يقاتلون من أجله.
5- بيان أسس الدولة التي ورث الله أهلها البلاد وملكهم فيها وهي:
إقام الصلاة - إيتاء الزكاة - الأمر بالمعروف - النهي عن المنكر.
[22.42-46]
شرح الكلمات:
وإن يكذبوك: أي إن يكذبك قومك فقد كذبت قبلهم قوم نوح إذا فلا تأس إذ لست وحدك المكذب.
وأصحاب مدين: هم قوم شعيب عليه السلام.
وكذب موسى: أي كذبه فرعون وآله الأقباط.
فأمليت للكافرين: أي أمهلتهم فلم أعجل العقوبة لهم.
ثم أخذتهم: أي بالعذاب المستأصل لهم.
فكيف كان نكير: أي كيف كان إنكاري عليهم تكذيبهم وكفرهم أكان واقعا موقعه؟ نعم إذ الإستفهام للتقرير.
فهي خاوية على عروشها: أي ساقطة على سقوفها.
بئر معطلة: أي متروكة لا يستخرج منها ماء لموت أهلها.
وقصر مشيد: مرتفع مجصص بالجص.
فإنها لا تعمى الأبصار: أي فإنها أي القصة لا تعمى الأبصار فإن الخلل ليس في أبصارهم ولكن في قلوبهم حيث أعماها الهوى وأفسدتها الشهوة والتقليد لأهل الجهل والضلال.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد وإن تخللته إرشادات للمؤمنين فإنه لما أذن للمؤمنين بقتال المشركين بين مقتضيات هذا الإذن وضمن النصرة لهم وأعلم أن عاقبة الأمور إليه لا إلى غيره وسوف يقضي بالحق والعدل بين عباده يوم يلقونه. قال لرسوله صلى الله عليه وسلم مسليا له عن تكذيب المشركين له: { وإن يكذبوك } أيها الرسول فيما جئت به من التوحيد والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة فلا تأس ولا تحزن { فقد كذبت قبلهم } أي قبل مكذبيك من قريش والعرب واليهود { قوم نوح وعاد } قوم هود { وثمود } قوم صالح { وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى } أيضا مع ما آتيناه من الآيات البينات، وكانت سنتي فيهم أني أمليت لهم أي مددت لهم في الزمن وأرخيت لهم الرسن حتى إذا بلغوا غاية الكفر والعناد والظلم والاستبداد وحقت عليهم كلمة العذاب أخذتهم أخذ العزيز المقتدر { فكيف كان نكير } ، أي انكاري عليهم؟ كان وربك واقعا موقعه، وليس المذكورون أخذت فقط.. { فكأين من قرية } عظيمة غانية برجالها ومالها وسلطانها { أهلكناها وهي ظالمة } أي ضالعة في الظلم أي الشرك والتكذيب { فهي خاوية على عروشها } أي ساقطة على سقوفها، وكم من بئر ماء عذب كانت سقيا لهم فهي الآن معطلة، وكم من قصر مشيد أي رفيع مشيد بالجص إذ مات أهله وتركوه هذا ما تضمنته الآيات الأربع [42، 43، 44، 45] أما الآية الأخيرة من هذا السياق فالحق عز وجل يقول { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو آذان يسمعون بها } حاثا المكذبين من كفار قريش والعرب على السير في البلاد ليقفوا على آثار الهالكين فلعل ذلك يكسبهم حياة جديدة في تفكيرهم ونظرهم فتكون لهم قلوب حية واعية يعقلون بها خطابنا إليهم ونحن ندعوهم إلى نجاتهم وسعادتهم أو تكون لهم آذان يسمعون بها نداء النصح والخير الذي نوجهه إليهم بواسطة كتابنا ورسولنا، وما لهم من عيون مبصرة بدون قلوب واعية وآذان صاغية فإن ذلك غير نافع { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }.
وهذا حاصل القول ألا فليسيروا لعلهم يكسبون عبرا وعظات تحيي قلوبهم وسائر حواسهم المتبلدة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تكذيب الرسل والدعاة إلى الحق والخير سنة مطردة في البشر لها عواملها من أبرزها التقليد والمحافظة على المنافع المادية، وظلمات القلب الناشئة عن الشرك والمعاصي.
2- مظاهر قدرة الله تعالى في إهلاك الأمم والشعوب الظالمة بعد الإمهال لهم والإعذار.
3- مشروعية طلب العبر وتصيدها من آثار الهالكين.
4- العبرة بالبصيرة القلبية لا بالبصر فكم من أعمى هو أبصر للحقائق وطرق النجاة من ذي بصر حاد حديد. ومن هنا كان المفروض على العبد أن يحافظ على بصيرته أكثر من المحافظة على عينيه، وذلك بأن يتجنب مدمرات القلوب من الكذب والترهات والخرافات، والكبر والعجب والحب والبغض في غير الله.
[22.47-51]
شرح الكلمات:
يستعجلونك بالعذاب: أي يطالبونك مستعجلينك بما حذرتهم منه من عذاب الله.
كألف سنة مما تعدون: أي من أيام الدنيا ذات الأربع والعشرين ساعة.
وكأين من قرية: أي وكثير من القرى أي العواصم والحواضر الجامعة لكل أسباب الحضارة.
أمليت لها: أي أمهلتها فمددت أيام حياتها ولم استعجلها بالعذاب.
نذير مبين: منذر أي مخوف عاقبة الكفر والظلم بين النذارة.
لهم مغفرة ورزق كريم: أي ستر لذنوبهم ورزق حسن في الجنة.
سعوا في آياتنا معاجزين: أي عملوا بجد واجتهاد في شأن إبعاد الناس عن الإيمان بآياتنا وما تحمله من دعوة إلى التوحيد وترك الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهه في دعوته إلى الصبر والتحمل فيقول له: { ويستعجلونك بالعذاب } أي يستعجلك المشركون من قومك بالعذاب الذي خوفتهم به وحذرتهم منه، { ولن يخلف الله وعده } وقد وعدهم فهو واقع بهم لا بد وقد تم ذلك في بدر وقوله تعالى: { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } فلذا تعالى لا يستعجل وهم يستعجلون فيوم الله بألف سنة، وأيامهم بأربع وعشرين ساعة فإذا حدد تعالى لعذابهم يوما معناه أن العذاب لا ينزل بهم إلا بعد ألف سنة، ونصف يوم بخمسمائة سنة، وربع يوم بمائتين وخمسين سنة وهكذا فلذا يستعجل الإنسان ويستبطىء، والله عز وجل ينجز وعده في الوقت الذي حدده فلا يستخفه استعجال المجرمين العذاب ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى:
ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب
[الآية: 53] من سورة العنكبوت هذا ما دلت عليه الآية الأولى [47] وقوله تعالى: { وكأين من قرية } أي مدينة كبرى { أمليت لها } أي أمهلتها وزدت لها في أيام بقائها والحال أنها ظالمة بالشرك والمعاصي ثم بعد ذلك الإملاء والإمهال وأخذتها { وإلي المصير } أي مصير كل شيء ومرده إلي فلا إله غيري ولا رب سواي فلا معنى لإستعجال هؤلاء المشركين العذاب فإنهم عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا فإن مصيرهم إلى الله تعالى وسوف يجزيهم بما كانوا يكسبون الجزاء العادل في دار الشقاء والعذاب الأبدي وقوله تعالى: { قل يأيها الناس إنمآ أنا لكم نذير مبين } ، فلست بإله ولا رب بيدي عذابكم إن عصيتموني وإنعامكم إن أطعتموني، وإنما أنا عبد مأمور بأن أنذر عصاة الرب بعذابه، وابشر أهل طاعته برحمته، وهو معنى الآية [50] فالذين آمنوا وعملوا الصالحات ولازمه أنهم تركوا الشرك والمعاصي لهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم عند ربهم وهو الجنة دار النعيم { والذين سعوا في آياتنا معاجزين } أي عملوا جادين مسرعين في صرف الناس عن آيات الله حتى لا يؤمنوا بها ويعملوا بما فيها من هدى ونور معاجزين لله يظنون أنهم يعجزونه والله غالب على أمره ناصر دينه وأوليائه، أولئك البعداء في الشر والشرك أصحاب الجحيم الملازمون لها أبد الآبدين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- العجلة من طبع الإنسان ولكن استعجال الله ورسوله بالعذاب حمق وطيش وضلال وكفر.
2- ما عند الله في الملكوت الأعلى يختلف تماما عما في هذا الملكوت السلفي.
3- عاقبة الظلم وخيمة وفي الخبر الظلم يترك الديار بلاقع أي خرابا خالية.
4- بيان مهمة الرسل وهي البلاغ مع الإنذار والتبشير ليس غير.
5- بيان مصير المؤمنين والكافرين يوم القيامة.
[22.52-57]
شرح الكلمات:
من رسول ولا نبي: الرسول ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع وأمر بابلاغه والنبي مقرر لشرع من قبله.
تمنى في أمنيته: أي قرأ في أمنيته، أي في قراءته.
ثم يحكم الله آياته: أي بعد إزالة ما ألقاه الشيطان في القراءة بحكم الله آياته أي يثبتها.
فتنة للذين في قلوبهم مرض: أي اختبارا للذين في قلوبهم مرض الشرك والشك.
والقاسية قلوبهم: هم المشركون.
فتخبت له قلوبهم: أي تتطامن وتخشع له قلوبهم.
في مرية منه: أي في شك منه وريب من القرآن.
عذاب يوم عقيم: هو عذاب يوم بدر إذ كان يوما عقيما لا خير فيه.
في جنات النعيم: أي جنات ذات نعيم لا يبلغ الوصف مداه.
فلهم عذاب مهين: أي يهان فيه صاحبه فهو عذاب جثماني نفساني.
معنى الآيات:
بعد التسلية الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم التي تضمنها قوله تعالى:
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح..
[الحج: 42] الخ ذكر تعالى تسلية ثانية وهي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ حول الكعبة في صلاته سورة النجم والمشركون حول الكعبة يسمعون فلما بلغ قوله تعالى:
أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى
[النجم: 19-20] ألقى الشيطان في مسامع المشركين الكلمات التالية: " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى " ففرح المشركون بما سمعوا ظنا منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها وأن الله أنزلها فلما سجد في آخر السورة سجدوا معه إلا رجلا كبيرا لم يقدر على السجود فأخذ حثية من تراب وسجد عليها وشاع أن محمدا قد اصطلح مع قومه حتى رجع المهاجرون من الحبشة فكرب لذلك رسول الله وحزن فأنزل الله تعالى هذه الآية تسلية له فقال: { ومآ أرسلنا من قبلك من رسول } ذي رسالة يبلغها ولا نبي مقرر لرسالة نبي قلبه { إلا إذا تمنى } أي قرأ { ألقى الشيطان في أمنيته } أي في قراءته { فينسخ الله } أي يزيل ويبطل { ما يلقي الشيطان } من كلمات في قلوب الكافرين أوليائه { ثم يحكم الله آياته } بعد إزالة ما قاله الشيطان فيثبتها فلا تقبل زيادة ولا نقصانا، والله عليم بخلقه وأحوالهم وأعمالهم لا يخفى عليه شيء من ذلك حكيم في تدبيره وشرعه هذه سنته تعالى في رسله وأنبيائه، فلا تأس يا رسول الله ولا تحزن ثم بين تعالى الحكمة في هذه السنة فقال: { ليجعل ما يلقي الشيطان } أي من كلمات في قراءة النبي أو الرسول { فتنة للذين في قلوبهم مرض } الشك والنفاق { والقاسية قلوبهم } وهم المشركون ومعنى فتنة هنا محنة يزدادون بها ضلالا على ضلالهم وبعدا عن الحق فوق بعدهم إذ ما يلقى الشيطان في قلوب أوليائه إلا للفتنة أي زيادة في الكفر والضلال.
وقوله تعالى: { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } هو إخبار منه تعالى عن حال المشركين بأنهم في خلاف لله ورسوله، بعيدون فيما يعتقدونه وما يعملونه وما يقولونه، وما يتصورونه مخالف تمام المخالفة لما يأمر تعالى به ويدعوهم إليه من الاعتقاد والقول والعمل والتصور والإدراك. وقوله تعالى: { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم } هذا جزء العلة التي تضمنتها سنة الله في إلقاء الشيطان في قراءة الرسول أو النبي فالجزء الأول تضمنه قوله تعالى: { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم } وهذا هو الجزء الثاني أي { وليعلم الذين أوتوا العلم } بالله وآياته وتدبيره { أنه الحق من ربك } أي ذلك الإلقاء والنسخ وإحكام الآيات بعده { فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم } أي تطمئن وتسكن عنده وتخشع فيزدادون هدى. وقوله تعالى: { وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } هذا إخبار منه تعالى عن فعله مع أوليائه المؤمنين به المتقين له وأنه هاديهم في حياتهم وفي كل أحوالهم إلى صراط مستقيم يفضي بهم إلى رضاه وجنته، وذلك بحمايتهم من الشيطان وتوفيقهم وإعانتهم على طاعة الرحمن سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: { ولا يزال الذين كفروا في مرية منه } أي من القرآن هل هو كلام الله هل هو حق هل اتباعه نافع وتستمر هذه المرية والشك بأولئك القساة القلوب أصحاب الشقاق البعيد { حتى تأتيهم الساعة بغتة } أي فجأة وهي القيامة { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } أي لا خير فيه لهم وهو يوم بدر وقد تم لهم ذلك وعندها زالت ريبتهم وعلموا أنه الحق حيث لا ينفع العلم.
وقوله تعالى: { الملك يومئذ لله } أي يوم تأتي الساعة يتمحض الملك لله وحده فلا يملك معه أحد فهو الحاكم العدل الحق يحكم بين عباده بما ذكر في الآية وهو أن الذين آمنوا به وبرسوله وبما جاء به وعملوا الصالحات من فرائض ونوافل بعد تخليهم عن الشرك والمعاصي يدخلهم جنات النعيم، والذين كفروا به وبرسوله وبما جاء به، وكذبوا بآيات الله المتضمنة شرائعه وبيان طاعاته فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات وعملوا العكس وهو السيئات فأولئك البعداء في الحطة والخسة لهم عذاب مهين يكسر أنوفهم ذلة لهم ومهانة لأنفسهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في إلقاء الشيطان في قراءة الرسول أو النبي للفتنة.
2- بيان أن الفتنة يهلك فيها مرضى القلوب وقساتها، ويخرج منها المؤمنون أكثر يقينا وأعظم هدى.
3- بيان حكم الله تعالى بين عباده يوم القيامة بإكرام أهل الإيمان والتقوى وإهانة أهل الشرك والمعاصي.
4- ظهور مصداق ما أخبر به تعالى عن مجرمي قريش فقد استمروا على ريبهم حتى هلكوا في بدر.
[22.58-62]
شرح الكلمات:
والذين هاجروا: أي هجروا ديار الكفر وذهبوا إلى دار الإيمان المدينة المنورة.
في سبيل الله: أي هجروا ديارهم لا لدنيا ولكن ليعبدوا الله وينصروا دينه وأولياءه.
ليرزقهم رزقا حسنا: أي في الجنة إذ أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة.
ليدخلنهم مدخلا يرضونه: أي الجنة يوم القيامة.
ذلك: أي الأمر ذلك المذكور فاذكروه ولا تنسوه.
ثم بغى عليه: أي ظلم بعد أن عاقب عدوه بمثل ما ظلم به.
يولج الليل في النهار: أي يدخل جزءا من الليل في النهار والعكس بحسب فصول السنة كما أنه يوميا يدخل الليل في النهار إذا جاء النهار ويدخل النهار في الليل إذا جاء الليل.
بأن الله هو الحق: أي الإله الحق الذي تجب عبادته دون سواه.
من دونه: أي من أصنام وأوثان وغيرها هو الباطل بعينه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان حكم الله تعالى بين عباده فذكر تعالى ما حكم به لأهل الإيمان والعمل الصالح وما حكم به لأهل الكفر والتكذيب، وذكر هنا ما حكم به لأهل الهجرة والجهاد فقال عز وجل: { والذين هاجروا في سبيل الله } أي خرجوا من ديارهم لأجل طاعة الله ونصرة دينه { ثم قتلوا } من قبل أعداء الله المشركين { أو ماتوا } حتف أنوفهم بدون قتل { ليرزقنهم الله رزقا حسنا } في الجنة إذا أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش { ليدخلنهم } يوم القيامة { مدخلا يرضونه } وهو الجنة، وقوله تعالى: { وإن الله لهو خير الرازقين } أي لخير من يرزق فما رزقهم به هو خير زرق وأطيبه وأوسعه. وقوله: { وإن الله لعليم حليم } عليم بعباده وبأعمالهم الظاهرة والباطنة حليم يعفو ويصفح عن بعض زلات عباده المؤمنين فيغفرها ويسترها عليهم إذ لا يخلو العبد من ذنب إلا من عصمهم الله من أنبيائه ورسله.
وقوله تعالى: { ذلك ومن عاقب } أي الأمر ذلك الذي بينت لكم، { ومن عاقب بمثل ما عوقب به } أي ومن أخذ من ظالمه بقدر ما أخذ منه قصاصا، ثم المعاقب ظلم بعد ذلك من عاقبه فإن المظلوم أولا وآخرا تعهد الله تعالى بنصره، وقوله: { إن الله لعفو غفور } فيه إشارة إلى ترغيب المؤمن في العفو عن أخيه إذا ظلمه فإن العفو خير من المعاقبة وهذا كقوله تعالى
وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل
[الشورى: 40-41] وقوله: { ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير } أي أن القادر على إدخال الليل في النهار والنهار في الليل بحيث إذ جاء أحدهما غاب الآخر، وإذا قصر أحدهما طال الآخر والسميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم قادر على نصرة من بغي عليه من أوليائه، وقوله تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق } أي المعبود الحق المستحق للعبادة، وإن ما يدعون من دونه من أصنام وأوثان هو الباطل أي ذلك المذكور من قدرة الله وعلمه ونصرة أوليائه كان لأن الله هو الإله الحق وأن ما يعبدون من دونه من آلهة هو الباطل، وأن الله هو العلي على خلقه القاهر لهم المتكبر عليهم الكبير العظيم الذي ليس شيء أعظم منه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الهجرة في سبيل الله حتى إنها تعدل الجهاد في سبيل الله.
2- جواز المعاقبة بشرط المماثلة، والعفو أولى من المعاقبة.
3- بيان مظاهر الربوبية من العلم والقدرة الموجبة لعبادة الله تعالى وحده وبطلان عبادة غيره.
4- إثبات صفات الله تعالى: العلم والحلم والمغفرة والسمع والبصر والعفو والعلو على الخلق والعظمة الموجبة لعبادته وترك عبادة من سواه.
[22.63-66]
شرح الكلمات:
ألم تر: أي ألم تعلم.
مخضرة: أي بالعشب والكلأ والنبات.
الغني الحميد: الغني عن كل ما سواه المحمود في أرضه وسمائه.
سخر لكم ما في الأرض: أي سهل لكم تملكه والتصرف فيه والانتفاع به.
أحياكم: أي أوجدكم أحياء بعدما كنتم عدما.
لكفور: أي كثير الكفر والجحود لربه ونعمه عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر القدرة والعلم والحكمة قال تعالى: { ألم تر } يا رسولنا { أن الله أنزل من السمآء مآء } أي مطرا فتصبح الأرض بعد نزول المطر عليها مخضرة بالعشب والنباتات والزروع، وقوله: { إن الله لطيف } بعباده { خبير } بما يصلحهم ويضرهم وينفعهم.
وقوله: { له ما في السموت وما في الأرض } أي خلقا وملكا وتصرفا، { وإن الله لهو الغني } عن خلقه { الحميد } أي المحمود في الأرض والسماء بجميل صنعه وعظيم إنعامه وقوله تعالى: { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض } من الدواب والبهائم على اختلافها { والفلك } أي وسخر لكم الفلك أي السفن { تجري في البحر بأمره } أي بإذنه وتسخيره، { ويمسك السمآء أن تقع على الأرض } أي كيلا تقع على الأرض { إلا بإذنه } أي لا تقع إلا إذا أذن لها في ذلك وقوله: { إن الله بالناس لرءوف رحيم } من مظاهر رأفته ورحمته بهم تلك الرحمة المتجلية في كل جانب من جوانب حياتهم في حملهم في إرضاعهم في غذائهم في نومهم في يقظتهم في تحصيل أرزاقهم في عفوه عن زلاتهم في عدم تعجيل العقوبة لهم بعد استحقاقهم لها في إرسال الرسل في إنزال الكتب فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وقوله تعالى: { وهو الذي أحياكم } بالإنشاء والإيجاد من العدم، ثم يميتكم عند انتهاء آجالكم { ثم يحييكم } ويبعثكم ليجزيكم بكسبكم كل هذه النعم يكفرها الإنسان فيترك ذكر ربه وشكره ويذكر غيره ويشكر سواه، فهذه المظاهرلقدرة الرب وعلمه وحكمته وتلك الآلاء والنعم الظاهرة والباطنة توجب الإيمان بالله وتحتم عبادته وتوحيده وذكره وشكره، وتجعل عبادة غيره سخفا وضلالا عقليا لا يقادر قدره ولا يعرف مداه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بذكر مقتضياته من القدرة والنعمة.
2- إثبات صفات الله تعالى: اللطيف الخبير الغني الحميد الرؤوف الرحيم المحيي المميت.
3- بيان إنعام الله وإفضاله على خلقه.
4- مظاهر قدرة الله تعالى في إمساك السماء أن تقع على الأرض، وفي الإحياء والأماتة والبعث.
[22.67-72]
شرح الكلمات:
جعلنا منسكا: أي مكانا يتعبدون فيه بالذبائح أو غيرها.
فلا ينازعنك: أي لا ينبغي أن ينازعوك.
هدى مستقيم: أي دين مستقيم هو الإسلام دين الله الحق.
في كتاب: هو اللوح المحفوظ.
ما لم ينزل به سلطانا: أي حجة وبرهانا.
المنكر: أي الإنكار الدال عليه عبوس الوجه وتقطيبه.
يسطون: يبطشون.
بشر من ذلكم: هو النار.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان هداية الله تعالى لرسوله والمؤمنين ودعوة المشركين إلى ذلك قال تعالى: { لكل أمة جعلنا منسكا } أي ولكل أمة من الأمم التي مضت والحاضرة أيضا جعلنا لهم منسكا أي مكانا يتنسكون فيه ويتعبدون { هم ناسكوه } أي الآن، فلا تلتفت إلى ما يقوله هؤلاء المشركون، ولا تقبل منهم منازعة في أمر واضح لا يقبل الجدل، وذلك أن المشركين انتقدوا ذبائح الهدي والضحايا أيام التشريق، واعترضوا على تحريم الميتة وقالوا كيف تأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما ذبح الله بيمينه وقوله تعالى لرسوله: { وادع إلى ربك } أي أعرض عن هذا الجدل الفارغ وادع إلى توحيد ربك وعبادته { إنك لعلى هدى مستقيم } أي طريق قاصد هاد إلى الإسعاد والاكمال وهو الإسلام وقوله: { وإن جادلوك } في بيان بعض المناسك والنسك فاتركهم فإنهم جهلة لا يعلمون وقل: { الله أعلم بما تعملون } أي وسيجزيكم بذلك حسنة وسيئة { الله يحكم بينكم } أي يقضي بينكم أيها المشركون فيما كنتم فيه تختلفون وعندها تعرفون المحق من المبطل منا وذلك يوم القيامة.
وقوله تعالى: { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السمآء والأرض } بلى إن الله يعلم كل ما في السماوات والأرض من جليل ودقيق وجلي وخفي وكيف لا وهو اللطيف الخبير. { إن ذلك في كتاب } وهو اللوح المحفوظ فكيف يجهل أو ينسى، و { إن ذلك } أي كتبه وحفظه في كتاب المقادير { على الله يسير } أي هين سهل، لأنه تعالى على كل شيء قدير. هذا ما دلت عليه الآيات الأربع [67، 68، 69، 70] وقوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا } أي ويعبد أولئك المشركون المجادلون في بعض المناسك أصناما لم ينزل الله تعالى في جواز عبادتها حجة ولا برهانا بل ما هو إلا إفك افتروه، ليس لهم به علم ولا لآبائهم، وسوف يحاسبون على هذا الإفك ويجزون به في ساعة لا يجدون فيها وليا ولا نصيرا إذ هم ظالمون بشركهم بالله آلهة مفتراة ويوم القيامة ما للظالمين من نصير. هذا ما دلت عليه الآية [71] وأما قوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } يخبر تعالى عن أولئك المشركين المجادلين بالباطل أنهم إذا قرأ عليهم أحد المؤمنين آيات الله وهي بينات في مدلولها تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم { تعرف } يا رسولنا { في وجوه الذين كفروا المنكر } أي تتغير وجوههم ويظهر عليها الإنكار على التالي عليهم الآيات { يكادون يسطون } أي يبطشون ويقعون بمن يتلون عليهم آيات الله لهدايتهم وصلاحهم.
وقوله تعالى: { قل أفأنبئكم بشر من ذلكم } أي قل لهم يا رسولنا أفأنبكم بشر من ذلك الذي تكرهون وهو من يتلون عليكم آيات الله أنه النار التي وعدها الله الذين كفروا أي من أمثالكم، وبئس المصير تصيرون إليه النار إن لم تتوبوا من شرككم وكفركم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير حقيقة وهي أن كل أمة من الأمم بعث الله فيها رسولا وشرع لها عبادات تعبده بها.
2- استحسان ترك الجدال في البديهيات والإعراض عن ما فيها.
3- تقرير علم الله تعالى بكل خفي وجلي وصغير وكبير في السماوات والأرض.
4- تقرير عقيدة القضاء والقدر بتقرير الكتاب الحاوي لذلك وهو اللوح المحفوظ.
5- بيان شدة بغض المشركين للموحدين إذا دعوهم إلى التوحيد وذكروهم بالآيات.
6- مشروعية إغاظة الظالم بما يغيظه من القول الحق.
[22.73-76]
شرح الكلمات:
ضرب مثل: أي جعل مثل هو ما تضمنه قوله تعالى: { إن الذين تدعون.. الخ }.
لن يخلقوا ذبابا: أي لن يستطيعوا خلق ذبابة وهي أحقر الحيوانات تتخلق من العفونات.
ولو اجتمعوا: أي على خلقه فإنهم لا يقدرون، فكيف إذا لم يجتمعوا فهم أعجز.
لا يستنقذوه منه: أي لا يستردوه منه وذلك لعجزهم.
ضعف الطالب والمطلوب: أي العابد والمعبود.
ما قدروا الله حق قدره: أي ما عظم المشركون الله تعالى حق قدره أي عظمته.
يصطفي من الملائكة رسلا: أي يجتبي ويختار كجبريل.
ومن الناس: كمحمد صلى الله عليه وسلم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين يقول تعالى: { يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له } أي يا أيها المشركون بالله آلهة أصناما ضرب لآلهتكم في حقارتها وضعفها وقلة نفعها مثل رائع فاستمعوا له. وبينه بقوله: { إن الذين تدعون من دون الله } من أوثان وأصنام { لن يخلقوا ذبابا } وهو أحقر حيوان وأخبث أي اجتمعوا واتحدوا متعاونين على خلقه، أو لم يجتمعوا له فإنهم لا يقدرون على خلقه وشيء آخر وهو إن يسلب الذاب الحقير شيئا من طيب آلهتكم التي تضمخونها به، لا تستطيع آلهتكم أن تسترده منه فما أضعفها إذا وما أحقرها إذا كان الذباب أقدر منها وأعز وأمنع.
وقوله تعالى: { ضعف الطالب والمطلوب } أي ضعف الصنم والذباب معا كما ضعف العابد المشرك والمعبود الصنم { إن الله لقوي عزيز } أي قوي قادر على كل شيء عزيز غالب لا يمانع في أمر يريده فكيف ساغ للمشركين أن يؤلهوا غيره ويعبدونه معه ويجعلونه له مثلا. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى [73] والثانية [74] وقوله تعالى: { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } هذا رد على المشركين عندما قالوا:
أءنزل عليه الذكر من بيننا
[ص: 8] وقالوا:
أبعث الله بشرا رسولا
[الإسراء: 94] فأخبر تعالى أنه يصطفي أي يختار من الملائكة رسلا كما اختار جبرائيل وميكائيل، ومن الناس كما اختار نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم، { إن الله سميع } لأقوال عباده طيبها وخبيثها { بصير } بأعمالهم صالحها وفاسدها وعلمه بخلقه وبصره بأحوالهم وحاجاتهم اقتضى أن يصطفي منهم رسلا وقوله: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } أي ما بين أيدي رسله من الملائكة ومن الناس وما خلفهم ماضيا ومستقبلا إذ علمه أحاط بكل شيء فلذا حق له أن يختار لرسالاته من يشاء فكيف يصح الإعتراض عليه لولا سفه المشركين وجهالاتهم وقوله تعالى: { وإلى الله ترجع الأمور } هذا تقرير لما تضمنته الجملة السابقة من أن لله الحق المطلق في إرسال الرسل من الملائكة أو من الناس ولا إعتراض عليه في ذلك إذ مرد الأمور كلها إليه بدءا ونهاية إذ هو رب كل شيء ومليكه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- التنديد بالشرك وبطلانه وبيان سفه المشركين.
3- ما قدر الله حق قدره من سوى به أحقر مخلوقاته وجعل له من عباده جزءا وشبها ومثلا.
4- إثبات الرسالات للملائكة وللناس معا.
5- ذكر صفات الجلال والكمال لله تعالى المقتضية لربوبيته والموجبة لألوهيته وهي القوة والعزة، والسمع والبصر لكل شيء وبكل شيء والعلم بكل شيء.
[22.77-78]
شرح الكلمات:
واعبدوا ربكم: أي أطيعوه في أمره ونهيه في تعظيم هو غاية التعظيم وذل له هو غاية الذل.
وافعلوا الخير: أي من كل ما انتدبكم الله لفعله ورغبكم فيه من صالح الأقوال والأعمال.
لعلكم تفلحون: أي كي تفوزوا بالنجاة من النار ودخول الجنة.
حق جهاده: أي الجهاد الحق الذي شرعه الله تعالى وأمر به وهو جهاد الكفر والشيطان والنفس والهوى.
اجتباكم: أي اختاركم لحمل دعوة الله إلى الناس كافة.
من حرج: أي من ضيق وتكليف لا يطاق.
ملة أبيكم: أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وهي عبادة الله وحده لا شريك له.
وفي هذا: أي القرآن.
اعتصموا بالله: أي تمسكوا بدينه وثقوا في نصرته وحسن مثوبته.
ونعم النصير: أي هو تعالى نعم النصير أي الناصر لكم.
معنى الآيات:
بعد تقرير العقيدة بأقسامها الثلاثة: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، نادى الرب تبارك وتعالى المسلمين بعنوان الإيمان فقال: { يأيها الذين آمنوا } أي ما من آمنتم بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا، { اركعوا واسجدوا } أمرهم بإقام الصلاة { واعبدوا ربكم } أي أطيعوه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه معظمين له غاية التعظيم خاشعين له غاية الخشوع { وافعلوا الخير } من كل ما انتدبكم الله إليه ورغبكم فيه من أنواع البر وضروب العبادات { لعلكم تفلحون } أي لتتأهلوا بذلك للفلاح هو الذي هو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار.
وقوله: { وجاهدوا في الله حق جهاده } أي أمرهم أيضا بأمر هام وهو جهاد الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ومعنى حق جهاده أي كما ينبغي الجهاد من استفراغ الجهد والطاقة كلها نفسا ومالا ودعوة وقوله: { وما جعل عليكم في الدين من حرج } هذه منة ذكر بها تعالى المؤمنين حتى يشكروا الله بفعل ما أمرهم به أي لم يضيق عليكم فيما أمركم به بل وسع فجعل التوبة لكل ذنب، وجعل الكفارة لبعض الذنوب، ورخص للمسافر والمريض في قصر الصلاة والصيام، ولمن لم يجد الماء أو عجز عن استعماله في التيمم.
وقوله: { ملة أبيكم إبراهيم } أي الزموا ملة أبيكم وقوله: { هو سماكم المسلمين } أي الله جل جلاله هو الذي سماهم المسلمين في الكتب السابقة وفي القرآن وهو معنى قوله: { هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا } أي القرآن وقوله: { ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على الناس } أي اجتباكم أيها المؤمنون لدينه الإسلامي وسماكم المسلمين ليكون الرسول شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين أنهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم وعليه فاشكروا هذا الإنعام والإكرام لله تعالى { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله } أي تمسكوا بشرعه عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا وقضاءا وحكما، وقوله تعالى: { هو مولاكم } أي سيدكم ومالك أمركم { فنعم المولى } هو سبحانه وتعالى { ونعم النصير } أي الناصر لكم ما دمتم أولياءه تعيشون على الإيمان والتقوى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الصلاة وشرف العبادة وفعل الخير.
2- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية { وافعلوا الخير لعلكم تفلحون }.
3- فضل الجهاد في سبيل الله وهو جهاد الكفار، وأن لا تأخذ المؤمن في الله لومة لائم.
4- فضيلة هذه الأمة المسلمة حيث أعطيت ثلاثا لم يعطها إلا نبي كان يقال للنبي عليه السلام اذهب فليس عليك حرج فقال الله لهذه الأمة: { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وكان يقال للنبي عليه السلام أنت شهيد على قومك وقال الله: { وتكونوا شهدآء على الناس } وكان يقال للنبي سل تعطه وقال الله لهذه الأمة:
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60] دل على هذا قوله تعالى: { هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج }.
5- فرضية الصلاة، والزكاة، والتمسك بالشريعة.
[23 - سورة المؤمنون]
[23.1-11]
شرح الكلمات:
قد أفلح المؤمنون: أي فاز قطعا بالنجاة من النار ودخول الجنة المؤمنون.
في صلاتهم خاشعون: أي ساكنون متطامنون لا يتلفتون بعين ولا قلب وهم بين يدي ربهم.
عن اللغو معرضون: اللغو كل ما لا رضى فيه لله من قول وعمل وتفكير، معرضون أي منصرفون عنه.
للزكاة فاعلون: أي مؤدون.
لفروجهم حافظون: أي صائنون لها عن النظر إليها لا يكشفونها وعن إتيان الفاحشة.
أو ما ملكت أيمانهم: من الجواري والسراري إن وجدن.
فمن ابتغى وراء ذلك: أي طلب ما دون زوجته وجاريته المملوكة شرعيا.
فأولئك هم العادون: أي الظالمون المعتدون على حدود الشرع.
راعون: أي حافظون لأماناتهم وعهودهم.
الفردوس: أعلى درجة في الجنة في أعلى جنة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { قد أفلح المؤمنون } يخبر تعالى وهو الصادق الوعد بفلاح المؤمنين وقد بين تعالى في آية آل عمران معنى الفلاح وهو الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة ووصف هؤلاء المؤمنين المفلحين بصفات من جمعها متصفا بها فقد ثبت له الفلاح وأصبح من الوارثين الذين يرثون الفردوس يخلدون فيها وتلك الصفات هي:
(1) الخشوع في الصلاة بأن يسكن فيها المصلي فلا يلتفت فيها برأسه ولا بطرفه ولا بقلبه مع رقة قلب ودموع عين وهذه أكمل حالات الخشوع في الصلاة، ودونها أن يطمئن ولا يتلفت برأسه ولا بعينه ولا بقلبه في أكثرها. هذه الصفة تضمنها قوله تعالى: { الذين هم في صلاتهم خاشعون }.
(2) إعراضهم عن اللغو وهو كل قول وعمل وفكر لم يكن فيه لله تعالى إذن به ولا رضى فيه ومعنى إعراضهم عنه: إنصرافهم عنه وعدم التفاتهم إليه، وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: { والذين هم عن اللغو معرضون }.
(3) فعلهم الزكاة أي أداؤهم لفريضة الزكاة الواجبة من أموالهم الناطقة كالمواشي والصامتة كالنقدين والحبوب والثمار، وفعلهم لكل ما يزكي النفس من الصالحات وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: { والذين هم للزكاة فاعلون }.
(4) حفظ فروجهم من كشفها ومن وطء غير الزوج أو الجارية المملوكة بوجه شرعي وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } في إتيان أزواجهم وما ملكت أيمانهم، ولكن اللوم والعقوبة على من طلب هذا المطلب من غير زوجه وجاريته { فأولئك هم العادون } أي الظالمون المعتدون حيث تجاوزوا ما أحل الله لهم ما حرم عليهم.
(5) مراعاة الأمانات والعهود بمعنى محافظتهم على ما ائتمنوا عليه من قول أو عمل ومن ذلك سائر التكاليف الشرعية حتى الغسل من الجنابة فإنه من الأمانة وعلى عهودهم وسائر عقودهم الخاصة والعامة فلا خيانة ولا نكث ولا خلف وقد تضمن هذا قوله تعالى: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } أي حافظون.
(6) المحافظة على الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها المحددة لها فلا يقدمونها ولا يؤخرونها مع المحافظة على شروطها من طهارة الخبث وطهارة الحدث وإتمام ركوعها وسجودها واستكمال أكثر سننها وآدابها وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: { والذين هم على صلواتهم يحافظون }.
فهذه ست صفات إجمالا وسبع صفات تفصيلا فمن اتصف بها كمل إيمانه وصدق عليه اسم المؤمن وكان من المفلحين الوارثين للفردوس الأعلى جعلنا الله تعالى منهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الخشوع في الصلاة.
2- تحريم نكاح المتعة لأن المتمتع بها ليست زوجة لأنها لا ترث ولا تورث بخلاف الزوجة فإنها لها الربع والثمن، ولزوجها النصف والربع، لأن نكاح المتعة هو النكاح إلى أجل معين قد يكون شهرا أو أكثر أو أقل.
3- تحريم العادة السرية وهي نكاح اليد وسحاق المرأة لأن ذلك ليس بنكاح زوجة ولا جارية مملوكة.
4- وجوب أداء الزكاة ووجوب حفظ الأمانات ووجوب الوفاء بالعهود ووجوب المحافظة على الصلوات.
5- تقرير حكم التوارث بين أهل الجنة وأهل النار فأهل الجنة يرثون منازل أهل النار وأهل النار يرثون منازل أهل الجنة اللهم اجعلنا من الوارثين الذين يرثون الفردوس.
[23.12-16]
شرح الكلمات:
من سلالة: السلالة ما يستل من الشيء والمراد بها هنا ما استل من الطين لخلق آدم.
نطفة في قرار مكين: النطفة قطرة الماء أي المني الذي يفرزه الفحل، والقرار المكين الرحم المصون.
العلقة: الدم المتجمد الذي يعلق بالإصبع لو حاول أحد أن يرفعه بأصبعه كمح البيض.
والمضغة: قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل.
خلقا آخر: أي غير تلك المضغة إذ بعد نفخ الروح فيها صارت إنسانا.
أحسن الخالقين: أي الصانعين فالله يصنع والناس يصنعون والله أحسن الصانعين.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن خلقه الإنسان آدم وذريته وفي ذلك تتجلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته والتي أوجبت عبادته وطاعته ومحبته وتعظيمه وتقديره فقال: { ولقد خلقنا الإنسان } يعني آدم عليه السلام { من سلالة من طين } أي من خلاصة طين جمعه فأصبح كالحمإ المسنون فاستل منه خلاصته ومنها خلق آدم ونفخ فيه من روحه فكان بشرا سويا ولله الحمد والمنة قوله: { ثم جعلناه نطفة في قرار مكين } أي ثم جعلنا الإنسان الذي هو ولد آدم نطفة من صلب آدم { في قرار مكين } هو رحم حواء { ثم خلقنا النطفة } المنحدرة من صلب آدم { علقة } أي قطعة دم جامدة تعلق بالإصبع لو حاول الإنسان أن يرفعها بإصبعه، { فخلقنا العلقة مضغة } وهي قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل، { فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر } أي إنسانا آخر غير آدم الأب، وهكذا خلق الله عز وجل آدم وذريته، { فتبارك الله أحسن الخالقين }. وقد يصدق هذا على كون الإنسان هو خلاصة عناصر شتى استحالت إلى نطفة الفحل ثم استحالت إلى علقة فمضغة فنفخ فيها الروح فصارت إنسانا آخر بعد أن كانت جمادا لا روح فيها وقوله تعالى: { فتبارك الله أحسن الخالقين } فأثنى الله تعالى على نفسه بما هو أهله أي تعاظم أحسن الصانعين، إذ لا خالق إلا هو ويطلق لفظ الخلق على الصناعة فحسن التعبير بلفظ أحسن الخالقين.
وقوله تعالى: { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } أي بعد خلقنا لكم تعيشون المدة التي حددناها لكم ثم تموتون، { ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } أحياء للحساب والجزاء لتحيوا حياة أبدية لا يعقبها موت ولا فناء ولا بلاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته.
2- بيان خلق الإنسان والأطوار التي يمر بها.
3- بيان مآل الإنسان بعد خلقه.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها الملاحدة والمشركون.
[23.17-22]
شرح الكلمات:
سبع طرائق: أي سبع سماوات كل سماء يقال لها طريقة لأن بعضها مطروق فوق بعض.
ماء بقدر: أي بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص.
من طور سيناء: جبل يقال له جبل طور سيناء.
تنبت بالدهن: أي تنبت بثمر فيه الدهن وهو الزيت.
وصبغ للآكلين: أي يغمس الآكل فيه اللقمة ويأكلها.
في الأنعام لعبرة: الأنعام الإبل والبقر والغنم والعبرة فيها تحصل لمن تأمل خلقها ومنافعها.
مما في بطونها: أي من اللبن.
منافع كثيرة: كالوبر والصوف واللبن والركوب.
ومنها تأكلون: أي من لحومها.
تحملون: أي تركبون الإبل في البر وتركبون السفن في البحر.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر نعمه تعالى على الإنسان لعل هذا الإنسان يذكر فيشكر فقال تعالى: { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق } أي سموات سماء فوق سماء أي طريقة فوق طريقة وطبقا فوق طبق وقوله تعالى: { وما كنا عن الخلق غافلين } أي ولم نكن غافلين عن خلقنا وبذلك انتظم الكون والحياة، وإلا لخرب كل شيء وفسد وقوله تعالى: { وأنزلنا من السمآء مآء بقدر } هو ماء المطر أي بكميات على قدر الحاجة وقوله { فأسكنه في الأرض وإنا على ذهاب به لقدرون * فأنشأنا لكم به جنات } أي أوجدنا لكم به بساتين من نخيل وأعناب { لكم فيها } أي في تلك البساتين { فواكه كثيرة ومنها تأكلون } أي ومن تلك الفواكه تأكلون وذكر النخيل والعنب دون غيرهما لوجودهما بين العرب فهم يعرفونهما أكثر من غيرهما فالنخيل بالمدينة والعنب بالطائف.
وقوله: { وشجرة تخرج من طور سينآء } أي وأنبت لكم به شجرة الزيتون وهي { تنبت بالدهن وصبغ للآكلين } فبزيتها يدهن ويؤتدم فتصبغ اللقمة به وتؤكل. وقوله: { وإن لكم في الأنعام لعبرة } فتأملوها في خلقها وحياتها ومنافعها تعبرون بها إلى الإيمان والتوحيد والطاعة. وقوله: { نسقيكم مما في بطونها } من ألبان تخرج من بين فرث ودم، وقوله: { ولكم فيها منافع كثيرة } كصوفها ووبرها ولبنها وأكل لحومها. وقوله: { وعليها وعلى الفلك تحملون } وعلى بعضها كالإبل تحملون في البر وعلى السفن في البحر، أفلا تشكرون لله هذه النعم فتذكروه وتشكروه أليست هذه النعم موجبة لشكر المنعم بها فيعبد ويوحد في عبادته؟.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان قدرة الله تعالى وعظمته في خلق السماوات طرائق وعدم غفلته عن سائر خلقه فسار كل شيء لما خلق له فثبت الكون وانتظمت الحياة.
2- بيان إفضال الله تعالى في إنزال الماء بقدر وإسكانه في الأرض وعدم إذهابه مما يوجب الشكر لله تعالى على عباده.
3- بيان منافع الزيت حيث هو للدهن والائتدام والإستصباح.
4- فضل الله على العباد في خلق الأنعام والسفن للانتفاع بالأنعام في جوانب كثيرة منها، وفي السفن للركوب عليها وحمل السلع والبضائع من إقليم إلى إقليم.
5- وجوب شكر الله تعالى على انعامه وذلك بالإيمان به وعبادته وتوحيده فيها.
[23.23-26]
شرح الكلمات:
اعبدوا الله: أي وحدوه بالعبادة إذ ليس لكم من إله غيره.
أفلا تتقون: أي أتعبدون معه غيره فغلا تخافون غضبه وعقابه.
الملأ: أي أعيان البلاد وكبراء القوم.
ما هذا إلا بشر مثلكم: أي ما نوح إلا بشر مثلكم فكيف تطيعونه بقبول ما يدعوكم إليه.
أن يتفضل عليكم: أي يسودكم ويصبح آمرا ناهيا بينكم.
ولو شاء الله لأنزل ملائكة: أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رسلا.
رجل به جنة: أي مصاب بمس من جنون.
فتربصوا به حتى حين: أي فلا تسمعوا له ولا تطيعوه وانتظروا به هلاكه أو شفاءه.
معنى الآيات:
هذا السياق بداية عدة قصص ذكرت على إثر قصة بدأ خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام فقال تعالى: { ولقد أرسلنا نوحا } أي قبلك يا رسولنا فكذبوه. كما كذبك قومك وإليك قصته إذ قال يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في العبادة، ولا تعبدوا معه غيره { ما لكم من إله غيره } أي إذ ليس لكم من إله غيره يستحق عبادتكم. وقوله: { أفلا تتقون } أي أتعبدون معه غيره أفلا تخافون غضبه عليكم ثم عقابه لكم؟.
فأجابه قومه المشركون بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } أي فرد عليه قوله أشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم من أغنياء وأعيان ممن كفروا من قومه { ما هذا } أي نوح { إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم } أي يسود ويشرف فادعى أنه رسول الله إليكم { ولو شآء الله } أي أن لا نعبد معه سواه { لأنزل ملائكة } تخبرنا بذلك { ما سمعنا بهذا } أي بالذي جاء به نوح ودعا إليه من ترك عبادة آلهتنا { في آبآئنا الأولين } أي لم يقل به أحد من أجدادنا السابقين { إن هو إلا رجل به جنة } أي ما نوح إلا رجل به مس من جنون، وإلا لما قال هذا الذي يقول من تسفيهنا وتسفيه آبائنا { فتربصوا به حتى حين } أي انتظروا به أجله حتى يموت، ولا تتركوا دينكم لأجله وهنا وبعد قرون طويلة بلغت ألف سنة إلا خمسين شكا نوح إلى ربه وطلب النصر منه فقال ما أخبر تعالى به عنه { قال رب انصرني بما كذبون } أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي وانصرني عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات النبوة المحمدية بذكر أخبار الغيب التي لا تعلم إلا من طريق الوحي.
2- تقرير التوحيد بذكر دعوة الرسل أقوامهم إليه.
3- بيان سنة من سنن البشر وهي أن دعوة الحق أول من يردها الكبراء من أهل الكفر.
4- بيان كيف يرد الظالمون دعوة الحق بإتهام الدعاة بما هم براء منه كالجنون وغيره من الاتهامات كالعمالة لفلان والتملق لفلان..
[23.27-30]
شرح الكلمات:
فأوحينا إليه أن اصنع: أي أعلمناه بطريق سريع خفي أي اصنع الفلك.
بأعيننا ووحيينا: أي بمرأى منا ومنظر، وبتعليمنا إياك صنعها.
وفار التنور: تنور الخباز فار منه الماء آية بداية الطوفان.
فاسلك فيها: أي أدخل في السفينة.
وأهلك: أولادك ونساءك.
ولا تخاطبني في الذين ظلموا: أي لا تكلمني في شأن الظالمين فإني حكمت بإغراقهم.
وقل رب: أي وادعني قائلا يا رب أنزلني منزلا مباركا من الأرض.
إن في ذلك لآيات: أي لدلائل وعبر.
وإن كنا لمبتلين: أي لمختبرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر قصة نوح عليه السلام مع قومه فقد جاء في الآيات السابقة أن نوحا عليه السلام دعا ربه مستنصرا إياه لينصره على قومه الذين كذبوه قائلا:
رب انصرني بما كذبون
[المؤمنون: 26] فاستجاب الله تعالى دعاءه فأوحى إليه أي أعلمه بطريق الوحي الخاص { أن اصنع الفلك } أي السفينة { بأعيننا ووحينا } أي بمرأى منا ومنظر وبتعليمنا إياك وجعل له علامة على بداية هلاك القوم أن يفور التنور تنور طبخ الخبز بالماء وأمره إذا رأى تلك العلامة أن يدخل في السفينة من كل زوج أي ذكر وأنثى اثنين من سائر الحيوانات التي أمكنه ذلك منه وأن يركب فهيا أيضا أهله من زوجة وولد إلا من قضى الله بهلاكه ونهاه أن يكلمه في شأن الظالمين لأنهم مغرقون قطعا. هذا ما تضمنته الآية الأولى [27] { فأوحينآ إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جآء أمرنا } أي بإهلاك الظالمين المشركين { وفار التنور فاسلك فيها } أي في السفينة { من كل زوجين اثنين وأهلك } أي أزواجك وأولادك { إلا من سبق عليه القول منهم } أي بإهلاكهم كامرأته، { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } أي لا تسألني عنهم فإني مهلكهم.
وقوله تعالى: { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } أي إذا ركبت واستقررت على متن السفينة أنت ومن معك من المؤمنين فاحمدنا فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وادعنا ضارعا إلينا قائلا { رب أنزلني منزلا مباركا } أي من الأرض، وأثن علينا خيرا فقل { وأنت خير المنزلين } وقوله تعالى: { إن في ذلك لآيات } أي المذكور من قصة نوح لدلائل على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته ووجوب الإيمان به وتوحيده في عبادته. وقوله: { وإن كنا لمبتلين } أي مختبرين عبادنا بالخير والشر ليرى الكافر من المؤمن، والمطيع من العاصي ويتم الجزاء حسب ذلك إظهارا للعدالة الإلهية والرحمة الربانية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إثبات الوحي الإلهي وتقرير النبوة المحمدية.
2- تقرير حادثة الطوفان المعروفة لدى المؤرخين.
3- بيان عاقبة الظلم وأنه هلاك الظالمين.
4- سنية قول بسم الله والحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون عند ركوب الدابة أو السفينة ونحوها كالسيارة والطيارة.
5- استحباب الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه من خير الدنيا.
6- بيان سر ذكر قصة نوح وهو ما فيها من العظات والعبر.
[23.31-38]
شرح الكلمات:
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين: أي خلقنا من بعد قوم نوح الهالكين قوما آخرين هم عاد قوم هود.
رسولا منهم: هو هود عليه السلام.
أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره: أي قولوا لا إله إلا الله فاعبدوا الله وحده.
وأترفناهم: أي أنعمنا عليهم بالمال وسعة العيش.
أنكم مخرجون: أي أحياء من قبوركم بعد موتكم.
هيهات هيهات: أي بعد بعدا كبيرا وقوع ما يعدكم.
إن هي إلا حياتنا الدنيا: أي ما هي إلا حياتنا الدنيا وليس وراءها حياة أخرى.
إن هو إلا رجل: أي ما هو إلا رجل افترى على الله كذبا أي كذب على الله تعالى.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة هود عليه السلام بعد قصة نوح عليه السلام أيضا فقال تعالى: { ثم أنشأنا من بعدهم } أي خلقنا وأوجدنا من بعد قوم نوح الهالكين قوما آخرين هم عاد قوم هود { فأرسلنا فيهم رسولا منهم } هو هود عليه السلام بأن قال لهم: { أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } أي اعبدوا الله بطاعته وإفراده بالعبادة إذا لا يوجد لكم إله غير الله تصح عبادته إذ الخالق لكم الرازق الله وحده فغيره لا يستحق العبادة بحال من الأحوال وقوله: { أفلا تتقون } يحثهم على الخوف من الله ويأمرهم به قبل أن تنزل بهم عقوبته.
وقوله تعالى: { وقال الملأ من قومه الذين كفروا } أي وقال أعيان البلاد وأشرافها من قوم هود ممن كفروا بالله ورسوله وكذبوا بالبعث والجزاء في الدار الآخرة وقد أترفهم الله تعالى: بالمال وسعة الرزق فأسرفوا في الملاذ والشهوات: قالوا: وماذا قالوا؟: قالوا ما أخبرنا تعالى به عنهم بقوله: { ما هذا إلا بشر مثلكم } أي ما هذا الرسول إلا بشر مثلكم { يأكل مما تأكلون منه } من أنواع الطعام { ويشرب مما تشربون } من ألوان الشراب أي فلا فرق بينكم وبينه فكيف ترضون بسيادته عليكم يأمركم وينهاكم. وقالوا: { ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون } أي خاسرون حياتكم ومكانتكم، وقالوا: { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما } أي فنيتم وصرتم ترابا { أنكم مخرجون } أي أحياء من قبوركم. وقالوا: { هيهات هيهات } أي بعد بعدا كبيرا ما يعدكم به هود إنها ما { هي إلا حياتنا الدنيا } أي { نموت ونحيا } جيل يموت وجيل يحيا { وما نحن بمبعوثين } وقالوا: { إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا } أي اختلق الكذب على الله وقال عنه أنه يبعثكم ويحاسبكم ويجزيكم بكسبكم. وقالوا { وما نحن له بمؤمنين } هذه مقالتهم ذكرها تعالى عنهم وهي مصرحة بكفرهم وتكذيبهم وإلحادهم وما سيقوله هود عليه السلام سيأتي في الآيات بعد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في إرسال الرسل، وما تبتدىء به دعوتهم وهو لا إله إلا الله.
2- أهل الكفر لا يصدر عنهم إلا ما هو شر وباطل لفساد قلوبهم.
3- الترف يسبب كثيرا من المفاسد والشرور، ولهذا يجب أن يحذر بالاقتصاد.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء وإثباتها وهي ما ينكره الملاحدة هروبا من الاستقامة.
5- تكأة عامة المشركين وهي كيف يكون الرسول رجلا من البشر، دفعا للحق وعدم قبوله.
[23.39-44]
شرح الكلمات:
عما قليل: أي عن قليل من الزمن.
ليصبحن نادمين: ليصيرن نادمين على كفرهم وتكذيبهم.
فأخذتهم الصيحة: أي صيحة العذاب والهلاك.
فجعلناهم غثاء: كغثاء السيل وهو ما يجمعه الوادي من العيدان والنبات اليابس.
فبعدا: أي هلاكا لهم.
ثم أنشأنا: أي أوجدنا من بعدهم أهل قرون آخرين كقوم صالح وإبراهيم ولوط وشعيب.
تترا: أي يتبع بعضها بعضا الواحدة عقب الأخرى.
وجعلناهم أحاديث: أي أهلكناهم وتركناهم قصصا تقص وأخبارا تتناقل.
معنى الآيات:
هذا ما قال هود عليه السلام بعد الذي ذكر تعالى من أقوال قومه الكافرين { قال رب } أي يا رب { انصرني بما كذبون } أي بسبب تكذيبهم لي وردهم دعوتي وإصرارهم على الكفر بك وعبادة غيرك فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله: { عما قليل ليصبحن نادمين } أي بعد قليل من الوقت وعزتنا وجلالنا ليصبحن نادمين أي ليصيرن نادمين على كفرهم بي وإشراكهم في عبادتي وتكذيبهم إياك ولم يمض إلا قليل زمن حتى أخذتهم الصيحة صيحة الهلاك ضمن ريح صرصر في أيام نحسات فإذا هم غثاء كغثاء السبيل لا حياة فيهم ولا فائدة ترجى منهم { فبعدا للقوم الظالمين } أي هلاكا للظالمين بالشرك والتكذيب والمعاصي وقوله تعالى: { ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين } أي ثم أوجدنا بعد إهلاكنا عادا أهل قرون آخرين كقوم صالح وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب. وقوله تعالى: { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } أي أن كل أمة حكمنا بهلاكها لا يمكنها أن تسبق أجلها أي وقتها المحدود لها فتتقدمه كما لا يمكنها أن تتأخر عنه بحال.
وقوله تعالى: { ثم أرسلنا رسلنا تترا } أي يتبع بعضها بعضا { كل ما جآء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا } أي في الهلاك فكلما كذبت أمة رسولها ورفضت التوبة إلى الله والإنابة إليه أهلكها، وقوله تعالى { وجعلناهم أحاديث } أي لمن بعدهم يذكرون أحوالهم ويروون أخبارهم { فبعدا } أي هلاكا منا { لقوم لا يؤمنون } في هذا تهديد قوي لقريش المصرة على الشرك والتكذيب والعناد. وقد مضت فيهم سنة الله فأهلك المجرمين منها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استجابة الله دعوة المظلومين من عباده لا سيما إن كانوا عبادا صالحين.
2- الآجال للأفراد أو الأمم لا تتقدم ولا تتأخر سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
3- تقرير حقيقة تاريخية علمية وهي أن الأمم السابقة كلها هلكت بتكذيبها وكفرها ولم ينج منها عند نزول العذاب بها إلا المؤمنون مع رسولهم.
4- كرامة هذه الأمة المحمدية أن الله تعالى لا يهلكها هلاكا عاما بل تبقى بقاء الحياة تقوم بها الحجة لله تعالى على الأمم والشعوب المعاصرة لها طيلة الحياة.
[23.45-50]
شرح الكلمات:
بآياتنا وسلطان مبين: الآيات هي التسع الآيات وهي الحجة والسلطان المبين.
وكانوا قوما عالين: أي علوا أهل تلك البلاد قهرا واستبدادا وتحكما.
وقومهما لنا عابدون: أي مطيعون ذليلون نستخدمهم فيما نشاء وكيف نشاء.
ولقد آتينا موسى الكتاب: أي التوراة.
وجعلنا ابن مريم: أي عيسى حجة وبرهانا على وجود الله وقدرته وعلمه ووجوب توحيده.
إلى ربوة ذات قرار ومعين: إلى مكان مرتفع ذي استقرار وفيه ماء جار عذب وفواكه وخضر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر نبذ من قصص الأولين للعظة والاعتبار، ولإقامة الحجة على مشركي قريش فقال تعالى: { ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين } أي بعد تلك الأمم الخالية أرسلنا موسى بن عمران وأخاه هارون بسلطان مبين أي بحجج وبراهين بينة دالة على صدق موسى وما يدعو إليه من عبادة الله وتوحيده فيها والخروج ببني إسرائيل إلى الأرض المباركة أرض الشام إلى فرعون ملك مصر يومئذ وملئه من أشراف قومه وعليتهم فاستكبروا عن قبول دعوة الحق وكانوا عالين على أهل تلك البلاد فاهرين لها مستبدين بها وقالوا ردا على دعوة موسى وهارون ما أخبر تعالى به في قوله: { فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } أي خاضعون مطيعون. هكذا أعلنوا متعجبين من دعوة موسى وهارون إلى الإيمان برسالتهما فقالوا: أنؤمن لبشر من مثلنا أي كيف يكون هذا أنتبع رجلين مثلنا فنصبح نأتمر بأمرهما وننتهي بنهيهما وكيف يتم ذلك وقومهما يعنون بني إسرائيل لنا عابدون. أي خاضعون لنا ومطيعون لأمرنا ونهينا. قال تعالى: { فكذبوهما } ، فيما دعواهما إليه من الإيمان والتوحيد وإرسال بني إسرائيل معهما إلى أرض الميعاد فترتب على تكذيبهم لرسولي الله موسى وهارون هلاكهم فكانوا من المهلكين حيث أغرقهم الله أجمعين، وقوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون } ، ويخبر تعالى أنه بعد إهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل آتى موسى التوراة من أجل هداية بني إسرائيل عليها لأنها تحمل النور والهدى. هذه أيادي الله على خلقه وآياته فيهم فسبحانه من إله عزيز رحيم.
وقوله تعالى: { وجعلنا ابن مريم وأمه } أي جعل عيسى ووالدته مريم { آية } حيث خلق عيسى من غير أب فهي آية دالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته وهذه موجبة الإيمان به عبادته وتوحيده والتوكل عليه والإنابة والتوبة إليه. وقوله تعالى: { وآويناهمآ إلى ربوة ذات قرار ومعين } أي أنزلنا مريم وولدها بعد اضطهاد اليهود لهما ربوة عالية صالحة للإستقرار عليها بها فاكهة وماء عذب جار إكرام الله تعالى له ولوالدته فسبحان المنعم على عباده المكرم لأوليائه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة كل من موسى وأخيه هارون عليهما السلام.
2- التنديد بالإستكبار، وأنه علة مانعة من قبول الحق.
3- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته في إرسال الرسل بالآيات وفي إهلاك المكذبين.
4- آية ولادة عيسى من غير أب مقررة قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وبعث الناس من قبورهم للحساب والجزاء.
[23.51-56]
شرح الكلمات:
كلوا من الطيبات: أي من الحلال.
واعملوا صالحا: أي بأداء الفرائض وكثير من النوافل.
وإن هذه أمتكم: أي ملتكم الإسلامية.
فاتقون: أي بامتثال أمري واجتناب نهيي.
فتقطعوا أمرهم: أي اختلفوا في دينهم فأصبحوا طوائف هذه يهودية وتلك نصرانية.
في غمرتهم: أي في ضلالتهم.
نسارع لهم: أي نعجل.
بل لا يشعرون: أن ذلك استدراج منا لهم.
معنى الآيات:
بعد أن أكرم الله تعالى عيسى ووالدته بما أكرمهما به من إيوائهما إلى ربوة ذات قرار ومعين خاطب عيسى عبده ورسوله قائلا: { يأيها الرسل كلوا من الطيبات } أي الحلال فكان عيسى عليه السلام يأكل من غزل أمه إذا كانت تغزل الصوف بأجرة فكانا يأكلان من ذلك أكلا من الطيب كما أمرهما الله تعالى وقوله: { واعملوا صالحا } كلوا من الحلال واعملوا صالحا بأداء الفرائض والإكثار من النوافل، وقوله: { إني بما تعملون عليم } فيه وعد بأن الله تعالى سيثيبهم على ما يعلمون من الصالحات. وقوله: { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } أعلمهم أن ملتهم وهي الدين الإسلامي دين واحد فلا ينبغي الاختلاف فيه واعلمهم أيضا أنه ربهم أي مالك أمرهم والحاكم عليهم فليبتغوه بفعل ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، لينجوا من عذابه ويظفروا برحمته ودخول جنته.
وقوله تعالى: { فتقطعوا أمرهم بينهم } أي دينهم { زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } أي فرقوا دينهم فرقا فذهبت كل فرقة بقطعة منه وقسموا الكتاب إلى كتب فهذه يهودية وهذه نصرانية واليهودية فرق والنصرانية فرق والإنجيل أصبح أناجيل متعددة وصارت كل جماعة فرحة بما عندها مسرورة به لا ترى الحق إلا فيه.. { كل حزب بما لديهم فرحون } وهنا أمر الله رسوله أن يتركهم في غمرة ضلالتهم إلى حين أن ينزل بهم ما قضى به الرب تعالى على أهل الاختلاف في دينه { فذرهم في غمرتهم حتى حين } إذ قال له في سورة الأنعام
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء
[الآية: 159] وفيه من التهديد ما فيه. وهذا الذي نعاه تعالى على تلك الأمم قد وقعت فيه أمة الإسلام فاختلفوا في دينهم مذاهب وطرقا عديدة، وياللأسف وقد حلت بهم المحن ونزل بهم البلاء نتيجة ذلك الخلاف. وقوله: { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين } مع اختلافهم وانحرافهم مسارعة لهم منا في الخيرات لا بل ذلك استدراج لهم ليهلكوا ولكنهم لا يشعرون بذلك. لشدة غفلتهم واستيلاء غمرة الضلالة عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الأكل من الحلال، ووجوب الشكر بالطاعة لله ورسوله.
2- الإسلام دين البشرية جمعاء ولا يحل الاختلاف فيه بل يجب التمسك به وترك ما سواه.
3- حرمة الاختلاف في الدين وأنه سبب الكوارث والفتن والمحن.
4- إذا انحرفت الأمة عن دين الله، ثم رزقت المال وسعة العيش كان ذلك استدراجا لها، ولم يكن إكراما من الله لها دالا على رضى ربها عنها بل ما هو إلا فتنة ليس غير.
[23.57-62]
شرح الكلمات:
مشفقون: أي خائفون.
لا يشركون: أي بعبادته أحدا.
يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة: أي خائفون أن لا يقبل منهم ذلك.
أنهم إلى ربهم راجعون: أي لأنهم إلى ربهم راجعون فيحاسبهم ويسألهم ويجزيهم.
وهم لها سابقون: أي بإذن الله وفي علمه.
ولا نكلف نفسا إلا وسعها: إلا طاقتها وما تقدر عليه.
ولدينا كتاب ينطق بالحق: وهو ما كتبه الكرام الكاتبون فإنه ناطق بالحق.
وهم لا يظلمون: أي بنقض حسنة من حسناتهم ولا بزيادة سيئة على سيآتهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال الذين فرقوا دينهم فذهبت كل فرقة منهم بكتاب ومذهب ولقب ونعى عليهم ذلك التفرق وأمر رسوله أن يتركهم في غمرة خلافاتهم ويدعهم إلى حين يلقون جزاءهم عاجلا أو آجلا: أثنى تبارك وتعالى على عباده المؤمنين من أهل الخشية، فقال وقوله الحق: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } أي من عذابه خائفون من الوقوف بين يديه فهذه صفة لهم وآخرى { والذين هم بآيات ربهم يؤمنون } أي بحجج الله تعالى التي تضمنتها آياته يؤمنون أي يوقنون وثالثة: { والذين هم بربهم لا يشركون } أي في ذاته ولا صفاته ولا عباداته فيعبدونه بما شرع لهم موحدينه في ذلك ورابعة: { والذين يؤتون مآ آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون }. أي يؤتون الزكاة وسائر الحقوق والواجبات وقلوبهم خائفة من ربهم أن يكونوا قد قصروا فيما أوجب عليهم وخائفة أن لا يقبل منهم عملهم، وذلك ناجم لهم من قوة إيمانهم برجوعهم إلى ربهم ووقوفهم بين يديه ومساءلته لهم: لم قدمت؟ لم أخرت؟ وقوله تعالى: { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } في هذا بشرى لهم إذ أخبر تعالى أنهم يسارعون في الخيرات، وأنهم سبق ذلك لهم في الأزل فهنيئا لهم. وقوله تعالى: { ولا نكلف نفسا إلا وسعها } فيه قبول عذر من بذل جهده في المسارعة في الخيرات ولم يلحق بغيره أعذره ربه فإنه لا خوف عليه ما دام قد بذلك جهده إذ هو تعالى { ولا نكلف نفسا إلا وسعها } أي طاقتها وما يتسع له جهده.
وقوله: { ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون } فيه وعد لأولئك المسارعين بالخيرات بأن أعمالهم مكتوبة لهم في كتاب ينطق بالحق لا يخفى حسنة من حسناتهم ويستوفونها كاملة وفيه وعيد لأهل الشرك والمعاصي بأن أعمالهم محصاة عليهم قد ضمها كتاب صادق وسوف يجزون بها وهم لا يظلمون فلا تكتب عليهم سيئة لم يعملوها قط ولا يجزون إلا بما كانوا يكسبون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الخشية والإيمان والتوحيد والتواضع والمراقبة لله تعالى.
2- بشرى الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى.
3- تقرير قاعدة رفع الحرج في الدين.
4- تقرير كتابة أعمال العباد وإحصاء أعمالهم ومجازاتهم العادلة.
[23.63-70]
شرح الكلمات:
في غمرة من هذا: أي جهالة من القرآن وعمى.
ولهم أعمال من دون ذلك: أي من دون أعمال المؤمنين التي هي الخشية والإيمان بالآيات والتوحيد والمراقبة.
هم لها عاملون: أي سيعملونها لتكون سبب نهايتهم حيث يأخذهم الله تعالى بها.
إذا هم يجأرون: أي يصرخون بأعلى أصواتهم ضاجين مستغيثين مما حل بهم من العذاب.
تنكصون: أي ترجعون على أعقابكم كراهة سماع القرآن.
مستكبرين به: أي بالحرم أي كانوا يقولون: لا يظهر علينا فيه أحد لأنا أهل الحرم.
سامرا تهجرون: أي تسمرون بالحرم ليلا هاجرين الحق وسماعه على قراءة فتح التاء وعلى قراءة ضمها تهجرون أي تقولوا الهجر من القول كالفحش والقبح.
رسولهم: أي محمدا صلى الله عليه وسلم.
به جنة: أي مجنون.
معنى الآيات:
{ بل قلوبهم في غمرة من هذا } أي ليس الأمر كما يحسب هؤلاء المشركون أنا نمدهم بالمال مسارعة منا لهم في الخيرات لرضانا عنهم لا بل إن قلوبهم في غمرة وعمى من القرآن { ولهم أعمال من دون ذلك } أي دون عمل المؤمنين { هم لها عاملون } حتى تنتهي بمترفيهم إلى هلاكهم ودمارهم وقوله تعالى: { حتى إذآ أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون } أي استمرت الأعمال الشركية الإجرامية حتى أخذ الله تعالى مترفيهم في بدر بعذاب القتل والأسر { إذا هم يجأرون } يضجون بالصراخ مستغيثين، والله تعالى يقول لهم: { لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون } وذكر تعالى لهم ما كانوا عليه من التكذيب والاستكبار وقول الهجر موبخا إياهم { قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون } هروبا من سماعها حال كونكم { مستكبرين به } أي بالحرم زاعمين أنكم أهل الحرم، وأن أحدا لا يظهر عليكم فيه لأنكم أهله وقوله: { سامرا تهجرون } أي تسمرون بالليل تهجرون بذلك سماع الحق ودعوة الحق التي تتلى بها عليكم آيات الله. وقد قرىء تهجرون بضم التاء وكسر الجيم أي تقولون أثناء سمركم في الليل الهجر من القول كالكفر وقول الفحش وما لا خير فيه من الكلام، وكانوا كذلك.
وقوله تعالى: { أفلم يدبروا القول } الذي يسمعونه من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيعرفوا أنه حق وخير وأنه فيه صلاحهم { أم جآءهم } من الدين والشرع { ما لم يأت آبآءهم الأولين } فقد جاءت رسل ونزلت كتب وهم يعرفون ذلك. أم لم يعرفوا رسولهم محمدا صلى الله عليه وسلم فهم له منكرون إنهم يعرفونه بصدقه وطهارته وكماله منذ نشأته وصباه إلى يوم أن دعاهم إلى الله { أم يقولون به جنة } أي جنون وأين الجنون من رجل ينطق بالحكمة ويعمل بها ويدعو إليها { بل جآءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون } ، وهذا هو سر إعراضهم واستكبارهم - إنه كراهيتهم للحق لطول ما ألفوا الباطل وعاشوا عليه، وهذه سنة البشر في كل زمان ومكان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- غمرة الجهل والتعصب وعمى التقليد هي سبب إعراض الناس عن الحق ومعارضتهم له.
2- لا تنفع التوبة عند معاينة العذاب أو نزوله.
3- بيان الذنوب التي أخذ بها مترفو مكة ببدر وهي هروبهم من سماع القرآن ونكوصهم عند سماعه على أعقابهم حتى لا يسمعوه واستكبارهم بالحرم واعتزارهم به جهلا وضلالا واجتماعهم في الليالي الطوال يسمرون على اللهو وقول الباطل هاجرين سماع القرآن وما يدعو إليه من هدى وخير.
[23.71-77]
شرح الكلمات:
لو اتبع الحق أهواءهم: أي ما يهوونه ويشتهونه.
أتيناهم بذكرهم: أي بالقرآن العظيم الذي فيه ذكرهم فيه يذكرون ويذكرون.
أم تسألهم خرجا: أي مالا مقابل إبلاغك لهم دعوة ربهم.
فخراج ربك خير: أي ما يرزقكه الله خير وهو خير الرازقين.
إلى صراط مستقيم: أي إلى الإسلام.
عن الصراط لناكبون: أي عن الإسلام أي متنكبونه جاعلوه على منكب أي جانب عادلون عنه.
للجوا في طغيانهم يعمهون: لتمادوا في طغيانهم مصرين عليه.
فما استكانوا: أي ما ذلوا ولا خضعوا.
إذا هم فيه مبلسون: أي آيسون قنطون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فقوله تعالى: { ولو اتبع الحق أهوآءهم لفسدت السموت والأرض ومن فيهن } هذا كلام مستأنف لبيان حقائق أخرى منها أن هؤلاء المشركين لو اتبع الحق النازل من عند الله والذي يمثله القرآن أهواءهم أي ما يهوونه ويشتهونه فكان يوافقهم عليه لأدى ذلك إلى فساد الكون كله علويه وسفليه، وذلك لأنهم أهل باطل لا يرون إلا الباطل ويصبح سيرهم معاكسا للحق فيؤدي حتما إلى خراب الكون وقوله تعالى: { بل أتيناهم بذكرهم } أي جئناهم بذكرهم الذي هو القرآن الكريم إذ به يذكرون وبه يذكرون لأنه سبب شرفهم، وقوله: { فهم عن ذكرهم معرضون } ، فهم لسوء حالهم وفساد قلوبهم معرضون عما به يذكرون ويذكرون، وقوله تعالى: { أم تسألهم خرجا } أي أجرا ومالا { فخراج ربك خير } أي ثواب ربك الذي يثيبك به خير وهو تعالى خير الرازقين وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عن التبليغ أجرا وقوله تعالى: { وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم } أي إلى الإسلام طريق السعادة والكمال في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون } أي علة تنكبهم أي ابتعادهم عن الإسلام هو عدم إيمانهم بالآخرة، وهو كذلك فالقلب الذي لا يعمره الإيمان بلقاء الله والجزاء يوم القيامة صاحبه ضد كل خير ومعروف ولا يؤمل منه ذلك لعلة كفره بالآخرة.
وقوله تعالى: { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون } يخبر تعالى أنه لو رحم أولئك المشركين المكذبين بالآخرة، وكشف ما بهم من ضر أصابهم من قحط وجدب وجوع ومرض لا يشكرون الله، بل يتمادون في عتوهم وضلالهم وظلمهم يعمهون حيارى يترددون، وقوله تعالى: { ولقد أخذناهم بالعذاب } وهي سنوات الجدب والقحط بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما أصابهم من قتل وجراحات وهزائم في بدر. وقوله: { فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } فما ذلوا لربهم وما دعوه ولا تضرعوا إليه بل بقوا على طغيانهم في ضلالهم ومرد هذا ظلمة النفوس الناتجة عن الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: { حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد } وهو معركة بدر وما أصاب المشركين من القتل { إذا هم فيه مبلسون } أي آيسون من كل خير حزنون قنطون وذلك لظلمة نفوسهم بالشرك والمعاصي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- خطر اتباع الهوى وما يفضي إليه من الهلاك والخسران.
2- الصراط المسقيم الموصل إلى السعادة والكمال هو الإسلام لا غير.
3- التكذيب بيوم القيامة وما يتم فيه من حساب وجزاء هو الباعث على كل شر والمانع من كل خير.
4- من آثار ظلمة النفس نتيجة الكفر اليأس والقنوط والتمادي في الشر والفساد.
[23.78-83]
شرح الكلمات:
أنشأ لكم السمع: أي خلق وأوجد لكم الأسماع والأبصار.
والأفئدة: جمع فؤاد وهو القلب.
قليلا ما تشكرون: أي ما تشكرون إلا قليلا.
ذرأكم: أي خلقكم.
وإليه تحشرون: أي تجمعون إليه بعد إحيائكم وخروجكم من قبوركم.
وله اختلاف الليل والنهار: أي إليه تعالى إيجاد الليل والنهار وظلمة الليل وضياء النهار.
أفلا تعقلون: فتعرفوا أن الله هو المعبود الحق إذ هو الرب الحق.
إلا أساطير الأولين: أي ما تقولون من البعث والحياة الثانية ما هو إلا حكايات وأساطير وأخبار الأولين، والأساطير جمع أسطورة أي حكاية مسطرة مكتوبة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المنكرين للبعث الآخر إلى الإيمان به بعرض الأدلة العقلية عليهم لعلهم يؤمنون فقال تعالى لهم: { وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة } أي الله الذي خلق لكم أسماعكم وأبصاركم وقلوبكم قادر على إحيائكم بعد موتكم وحشركم إليه تعالى ليحاسبكم ويجزيكم، وقوله: { قليلا ما تشكرون } يوبخهم تعالى على كفرانهم نعمه عليهم، إذ أوجد لهم أسماعا وأبصارا وأفئدة ولم يحمدوه على ذلك ولم يشكروه بالإيمان به وبطاعته، وقوله تعالى: { وهو الذي ذرأكم في الأرض } أي خلقكم في الأرض، { وإليه تحشرون } إذ الذي قدر على خلقكم في الأرض قادر على خلقكم في أرض أخرى بعد أن يميتكم ويحشركم أي يجمعكم إليه ليحاسبكم ويجزيكم. وقوله: { وهو الذي يحيي ويميت } أي يحيي النطفة بجعلها مضغة لحم ثم ينفخ فيها الروح فتكون بشرا، ويميتكم بعد انقضاء آجالكم أليس هذا قادرا على إحيائكم بعد موتكم.
وقوله تعالى: { وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون } أي ولله تعالى اختلاف الليل والنهار بإيجادهما وتعاقبهما وإدخال أحدهما في الآخر أفلا تعقلون أن من هذه قدرته وتصاريفه في خلقه قادر على بعثكم بعد إماتتكم وقوله تعالى: { بل قالوا مثل ما قال الأولون } أي بدل أن يؤمنوا باليوم الآخر لما دل عليه من هذه الأدلة التي لا يردها عاقل ولا ينكرها عقل عادوا فقالوا قولة المنكرين من الأمم قبلهم: { قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون } وهو إنكار صريح منهم للبعث الآخر. وقالوا أيضا ما أخبر تعالى عنهم، وهم يعلنون تكذيبهم لله تعالى ورسوله: { لقد وعدنا نحن وآبآؤنا هذا من قبل إن هذآ إلا أساطير الأولين } أي لقد وعد هذا آباؤبا من قبل ولم يحصل ما هذا الذي يقال إلا أساطير أي حكايات سطرها الأولون في كتبهم فهي تروى ويتناقلها الناس ولا حقيقة لها ولا وجود.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الشكر لله تعالى بطاعته على نعمه ومن بينها نعمة السمع والبصر والقلب.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بما تضمنت الآيات من الأدلة العديدة على ذلك.
3- سوء التقليد وآثارة في السلوك الإنساني بحيث ينكر المقلد عقله.
[23.84-92]
شرح الكلمات:
قل أفلا تذكرون: فتعلمون أن من له الأرض ومن فيها خلقا وملكا قادر على البعث وأنه لا إله إلا هو.
قل أفلا تتقون: أي كيف لا تتقونه بالإيمان به وتوحيده وتصديقه في البعث والجزاء.
من بيده ملكوت كل شيء: أي ملك كل شيء يتصرف فيه كيف يشاء.
وهو يجير ولا يجار عليه: يحفظ ويحمي من يشاء ولا يحمى عليه ويحفظ من أراده بسوء.
فأنى تسحرون: أي كيف تخدعون وتصرفون عن الحق.
بل أتيناهم بالحق: أي بما هو الحق والصدق في التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.
ولعلا بعضهم على بعض: أي قهرا وسلطانا.
عما يصفون: أي من الكذب كزعمهم أن لله ولدا وأن له شريكا وأنه غير قادر على البعث.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فقال تعالى لرسوله قل لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث والجزاء { لمن الأرض ومن فيهآ } من المخلوقات { إن كنتم تعلمون } من هي له فسموه. ولما لم يكن لهم من بد أن يقولوا { لله } أخبر تعالى أنهم سيقولون لله. إذا قل لهم: { أفلا تذكرون } فتعلموا أن من له الأرض ومن فيها خلقا وملكا وتصرفا لا يصلح أن يكون له شريك من عباده، وهو رب كل شيء ومليكه، وقوله: { قل من رب السموت السبع ورب العرش العظيم } أي سلهم من هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم. الذي أحاط بالملكوت كله، أي من هو خالق السماوات السبع، ومن فيهن ومن خالق العرش العظيم ومالك ذلك كله والمنصرف فيه، ولما لم يكن من جواب سوى الله أخبر تعالى أنهم سيقولون الله أي خالقها وهي لله ملكا وتدبيرا وتصريفا إذا قل لهم يا رسولنا { أفلا تتقون } أي الله وأنتم تنكرون عليه قدرته في إحياء الناس بعد موتهم وتجعلون له أندادا تعبدونها معه، أما تخافون عقابه أما تخشون عذابه وقوله تعالى: { قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه } أي سلهم يا رسولنا فقل لهم من بيده ملكوت كل شيء أي ملك كل شيء وخزائنه؟ وهو يجير من يشاء أي يحمي ويحفظ من يشاء فلا يستطيع أحد أن يمسه بسوء ولا يجار عليه، أي ولا يستطيع أحد أن يجير أي يحمي ويحفظ عليه أحدا أراده بسوء وقوله: { إن كنتم تعلمون } أي إن كنتم تعلمون أحدا غير الله بيده ملكوت كل شيء ويجير ولا يجار عليه فاذكروه، ولما لم يكن لهم أن يقولوا غير الله، أخبر تعالى أنهم سيقولون الله أي هو الذي بيده ملكوت كل شيء وهي لله خلقا وملكا وتصرفا إذا قل لهم { فأنى تسحرون }؟ أي كيف تخدعون فتصرفون عن الحق فتعبدون غير الخالق الرازق، وتنكرون على الخالق إحياء الأموات وبعثهم وهو الذي أحياهم أولا ثم أماتهم ثانيا فكيف ينكر عليه إحياءهم مرة أخرى وقوله تعالى: { بل أتيناهم بالحق } أي ليس الأمر كما يتوهمون ويخيل إليهم بل أتيناهم بذكرهم الذي هو القرآن به يذكرون لأنه ذكرى وذكر، وبه يذكرون لأنه شرف لهم وإنهم لكاذبون في كل ما يدعون ويقولون.
{ ما اتخذ الله من ولد } ولا بنت، { وما كان معه من إله } ولا ينبغي ذلك، والدليل المنطقي العقلي الذي لا يرد هو أنه لو كان مع الله إله آخر لقاسمه الملك وذهب كل إله بما خلق، ولحارب بعضهم بعضا وعلا بعضهم على بعض غلبة وقهرا وقوله تعالى: { سبحان الله } تنزيها لله تعالى عما يصفه به الواصفون من صفات العجز كاتخاذ الولد والشريك، والعجز عن البعث، وقوله تعالى: { عالم الغيب والشهادة } أي ما ظهر وما بطن، وما غاب وما حضر فلو كان معه آلهة أخرى لعرفهم وأخبر عنهم ولكن هيهات هيهات أن يكون مع الله إله آخر وهو الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء { فتعالى عما يشركون } علوا كبيرا وتنزه تنزها عظيما.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية توبيخ المتغافل المتجاهل وتأنيب المتعامي عن الحق وهو قادر على رؤيته.
2- تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته.
3- تنزيه الله تعالى عن الصاحبة والولد وإبطال ترهات المفترين.
4- الإستدلال العقلي ومشروعيته والعمل به لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
[23.93-100]
شرح الكلمات:
إما تريني ما يوعدون: أي إن تريني من العذاب.
ادفع بالتي هي أحسن: اي ادفع بالخصلة التي هي أحسن وذلك كالصفح والإعراض عنهم.
من همزات الشياطين: أي من وساوسهم التي تخطر بالقلب فتكاد تفسده.
أن يحضرون: أي في أموري حتى لا يفسدوها علي.
جاء أحدهم الموت: أي رأى علاماته ورآه.
برزخ: أي حاجز يمنع وهو مدة الحياة الدنيا، وإن عاد بالبعث فلا عمل يقبل.
معنى الآيات:
في هذا السياق تهديد للمشركين الذين لم ينتفعوا بتلك التوجيهات التي تقدمت في الآيات قبل هذه، فأمر الله تعالى رسوله أن يدعوه ويضرع إليه إن هو أبقاه حتى يحين هلاك قومه، أن لا يهلكه معهم فقال: { قل رب إما تريني } أي أن تريني { ما يوعدون } أي من العذاب، { رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } بل أخرجني منهم وأبعدني عنهم حتى لا أهلك معهم. وقوله تعالى: { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } يخبر تعالى رسوله بأنه قادر على إنزال العذاب الذي وعد به المشركين إذا لم يتوبوا قبل حلوله بهم.
وقوله: { ادفع بالتي هي أحسن } هذا قل أمره بقتالهم: أمره بأن يدفع ما يقولونه له في الكفر والتكذيب بالخلة والخصلة التي هي أحسن وذلك كالصفح والإعراض عنهم وعدم الإلتفاف إليهم. وقوله: { نحن أعلم بما يصفون } أي من قولهم لله شريك وله ولد، وأنه ما أرسل محمدا رسولا، وأنه لا بعث ولا حياة ولا نشور يوم القيامة وقوله: { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون } لما علمه الاحتراز والتحصن من المشركين بالصفح والإعراض أمره أن يتحصن من الشياطين بالإستعاذة بالله تعالى فأمره أن يقول { رب } أي يا رب { أعوذ بك } أي استجير بك من همزات الشياطين أي وساوسهم حتى لا يفتنوني عن ديني وأعوذ بك أن يحضروا أمري فيفسدوه علي.
وقوله تعالى: { حتى إذا جآء أحدهم الموت } أي إذا حضر أحد أولئك المشركين الموت أي رأى ملك الموت وأعوانه وقد حضروا لقبض روحه { قال رب ارجعون } أي أخروا موتي كي أعمل صالحا فيما تركت العمل فيه بالصلاح، وفيما ضيعت من واجبات قال تعالى ردا عليه { كلا } أي لا رجوع أبدا، { إنها كلمة هو قآئلها } لا فائدة منها ولا نفع فيها، { ومن ورآئهم برزخ } أي حاجز مانع من العودة إلى الحياة وهو أيام الدنيا كلها حتى إذا انقضت عادوا إلى الحياة، ولكن ليست حياة عمل وإصلاح ولكنها حياة حساب وجزاء هذا معنى قوله: { ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الدعاء والترغيب فيه وإنه لذو جدوى للمؤمن.
2- استحباب دفع السيء من القول أو الفعل بالصفح والإعراض عن صاحبه.
3- مشروعية الإستعاذة بالله تعالى من وساوس الشياطين ومن حضورهم أمر العبد الهام حتى لا يفسدوه عليه بالخواطر السيئة.
4- موعظة المؤمن بحال من يتمنى العمل الصالح عند الموت فلا يمكن منه فيموت بندمه وحسرته ويلقى جزاء تفريطه حرمانا وخسرانا في الدار الآخرة.
[23.101-107]
شرح الكلمات:
في الصور: أي في القرن المعبر عنه بالبوق نفخة القيام من القبور للحساب والجزاء.
المفلحون: أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
تلفح وجوههم النار: أي تحرقها.
وهم فيها كالحون: الكالح من أحرقت النار جلدة وجهه وشفتيه فظهرت أسنانه.
ألم تكن آياتي تتلى عليكم: أي يوبخون ويذكرون بالماضي ليحصل لهم الندم والمراد بالآيات آيات القرآن.
غلبت علينا شقوتنا: أي الشقاوة الأزلية التي تكتب على العبد في كتاب المقادير قبل وجوده.
أخرجنا منها فإن عدنا: أي من النار فإن عدنا إلى الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والدعوة إلى ذلك وعرض الأدلة وتبيينها وتنويعها، إذ لا يمكن استقامة إنسان في تفكيره وخلقه وسلوكه على مناهج الحق والخبر إلا إذا آمن إيمانا راسخا بوجود الله تعالى ووجوب طاعته وتوحيده في عباداته، وبالواسطة في ذلك وهو الوحي والنبي الموحي إليه، وبالبعث الآخر الذي هو دور الحصاد لما زرع الإنسان في هذه الحياة من خير وشر فقوله تعالى: { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون } هذا عرض لما يجري في الآخرة فيخبر تعالى أنه إذا نفخ إسرافيل بإذن الله في الصور الذي هو القرن أي كقرن الشاة لقوله تعالى:
فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير
[المدثر: 8-9] فلشدة الهول وعظيم الفزع لم يبق نسب يراعى أو يلتفت إليه بل كل واحد همه نفسه فقط، ولا يسأل حميم حميما وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
" قالت: هل تذكرون أهليكم يا رسول الله يوم القيامة فقال أما عند ثلاثة فلا: إذا تطايرت الصحف، وإذا وضع الميزان وإذا نصب الصراط "
ومعنى هذا الحديث واضح والشاهد منه ظاهر وهو أنهم لا يتساءلون.
وقوله تعالى: { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } أي من رجحت كفة حسناته على كفة سيئآته أفلح أي نجا من النار وأدخل الجنة ومن خفت موازينه بأن حصل العكس فقد خسر وأبعد عن الجنة وأدخل النار وهذا معنى قوله تعالى { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون } أي تحرق وجوههم النار فيكلحون باحتراق شفاههم وتظهر أسنانهم وهو أبشع منظر وأسوأه وقوله تعالى: { ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون }؟ هذا يقال لهم تأنيبا وتوبيخا وهم في جهنم وهو عذاب نفساني مع العذاب الجثماني { ألم تكن آياتي تتلى عليكم } أما كان رسلنا يتلون عليكم آياتنا { فكنتم بها تكذبون } بأقوالكم وأعمالكم أو بأعمالكم دون أقوالكم فلم تحرموا ما حرم الله ولم تؤدوا ما أوجب الله، ولم تنتهوا عما نهاكم عنه.
وقوله تعالى: { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا } هذا جوابهم كالمعتذرين بأن شقاءهم كان بقضاء وقدر فلذا حيل بينهم وبين الإيمان والعمل الصالح. وقوله تعالى: { وكنا قوما ضآلين } هذا قولهم أيضا وهو اعتراف صريح بأنهم كانوا ضالين. ثم قالوا ما أخبر تعالى به عنهم بقوله: { ربنآ أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } هذا دعاؤهم وهم في جهنم يسألون ربهم أن يردهم إلى الدنيا ليؤمنوا ويستقيموا على صراط الله المستقيم الذي هو الإسلام وسوف ينتظرون جواب الله تعالى ألف سنة، وهو ما تضمنته الآيات التالية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء من خلال عرض أحداثها في هذه الآيات.
2- تقرير أن وزن الأعمال يوم القيامة حق وإنكاره بدعة مكفرة.
3- تقرير أن إسرافيل ينفخ في الصور وإنكار ذلك وتأويله بلفظ الصور كما فعل المراغي عند تفسيره هذه الآية مع الأسف بدعة من البدع المنكرة ولذا نبهت عليها هنا حتى لا يغتر بها المؤمنون.
4- الإعتذار بالقدر لا ينفع صاحبه، إذ القدر مستور فلا ينظر إليه والعبد مأمور فليؤتمر بأمر الله ورسوله ولينته بنهيهما ما دام العبد قادرا على ذلك فإن عجز فهو معذور.
[23.108-111]
شرح الكلمات:
إخسأوا: أي أبعدوا في النار أذلاء مخزيين.
فريق من عبادي: هم المؤمنون المتقون.
فاتخذتموهم سخريا: أي جعلتموهم محط سخريتكم واستهزائكم.
بما صبروا: أي على الإيمان والتقوى.
هم الفائزون: أي الناجون من النار المنعمون في الجنة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { قال اخسئوا فيها ولا تكلمون } هذا جواب سؤالهم المتقدم حيث قالوا:
ربنآ أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون
[المؤمنون: 107] وعلل تعالى لحكمه فيهم بالإبعاد في جهنم أذلاء مخزيين بقوله: { إنه كان فريق من عبادي } وهو فريق المؤمنين المتقين يقولون { ربنآ آمنا فاغفر لنا } ذنوبنا { وارحمنا وأنت خير الراحمين } أي يعبدوننا ويتقربون إلينا ويتوسلون بإيمانهم وصالح أعمالهم ويسألوننا المغفرة والرحمة وكنتم أنتم تضحكون من عبادتهم ودعائهم وضراعتهم إلينا وتسخرون منهم إني جزيتهم اليوم بصبرهم على طاعتنا مع ما يلاقون منكم من اضطهاد وسخرية. { أنهم هم الفآئزون } برضواني في جناتي لا غيرهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مدى حسرة أهل النار لما يجابون بكلمة: { اخسئوا فيها ولا تكلمون }.
2- فضيلة التضرع إلى الله تعالى ودعائه والتوسل إليه بالإيمان وصالح الأعمال.
3- حرمة السخرية بالمسلم والاستهزاء به والضحك منه.
4- فضيلة الصبر ولذا ورد أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد.
[23.112-118]
شرح الكلمات:
كم لبثتم في الأرض: أي كم سنة لبثتموها في الأرض أحياء وأمواتا في قبوركم؟.
فاسأل العادين: يريدون الملائكة التي كانت تعد، وهم الكرام الكاتبون أو من يعد أما نحن فلم نعرف.
خلقناكم عبثا: أي لا لحكمة بل لمجرد العيش واللعب كلا.
فتعالى الله الملك الحق: أي تنزه الله عن العبث.
لا برهان له: الجملة صفة ل " إلها آخر " لا مفهوم لها إذ لا يوجد برهان ولا حجة على صحة عبادة غير الله تعالى إذ الخلق كله مربوب لله مملوك له.
حسابه عند ربه: أي مجازاته عند ربه هو الذي يجازيه بشركه به ودعاء غيره.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع أهل النار المنكرين للبعث والتوحيد بقوله تعالى: { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين }؟ هذا سؤال طرح عليهم أي سألهم ربهم وهو أعلم بلبثهم كم لبثتم من سنة في الدنيا مدة حياتكم فيها ومدة لبثكم أمواتا في قبوركم؟ فأجابوا قائلين { لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العآدين } أي من كان يعد من الملائكة أو من غيرهم، وهذا الإضطراب منهم عائد إلى نكرانهم للبعث وكفرهم في الدنيا به أولا وثانيا أهوال الموقف وصعوبة الحال وآلام العذاب جعلتهم لا يعرفون أما أهل الإيمان فقد جاء في سورة الروم أنهم يجيبون إجابة صحيحة إذ قال تعالى:
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون
[الروم: 55-56] وقوله تعالى: { إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون } هذا بالنظر إلى ما تقدم من عمر الدنيا، فمدة حياتهم وموتهم إلى بعثهم ما هي إلا قليل وقوله تعالى: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } ، هذا منه تعالى توبيخ لهم وتأنيب على إنكارهم للبعث أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم لم يخلقوا للعبادة وإنما خلقوا للأكل والشرب والنكاح كما هو ظن كل الكافرين وأنهم لا يبعثون ولا يحاسبون ولا يجزون بأعمالهم. وقوله تعالى: { فتعالى الله الملك الحق } أي عن العبث وعن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وقوله: { لا إله إلا هو رب العرش الكريم } أي لا معبود بحق إلا هو { رب العرش الكريم } أي مالك العرش الكريم ووصف العرش بالكرم سائغ كوصفه بالعظيم والعرش سرير الملك وهو كريم لما فيه من الخير وعظيم إذ هو أعظم من الكرسي والكرسي وسع السماوات والأرض، ولم لا يكون العرش كريما وعظيما ومالكه جل جلاله هو مصدر كل كرم وخير وعظمة.
وقوله تعالى: { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له } أي ومن يعبد مع الله إلها آخر بالدعاء أو الخوف أو الرجاء أو النذر والذبح، وقوله: لا برهان له أي لا حجة له ولا سلطان على جواز عبادة ما عبده، ومن أين يكون له الحجة والبرهان على عبادة غير الله والله رب كل شيء ومليكه وقوله تعالى: { فإنما حسابه عند ربه } أي الله تعالى ربه يتولى حسابه ويجزيه بحسب عمله وسيخسر خسرانا مبينا لأنه كافر والكافرون لا يفلحون أبدا فلا نجاة من النار ولا دخول للجنة بل حسبهم جهنم وبئس المهاد.
وقوله تعالى: { وقل رب اغفر وارحم } أي أمر الله تعالى رسوله أن يدعو بهذا الدعاء: رب اغفر لي وارحمني واغفر لسائر المؤمنين وارحمهم أجمعين فأنت خير الغافرين والراحمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عظم هول يوم القيامة وشدة الفزع فيه فليتق ذلك بالإيمان وصالح الأعمال.
2- تنزه الله تعالى عن العبث واللهو واللعب.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- كفر وشرك من يدعو مع الله إلها آخر.
5- الحكم بخسران الكافرين وعدم فلاحهم.
6- استحباب الدعاء بالمغفرة والرحمة للمؤمنين والمؤمنات.
[24 - سورة النور]
[24.1-3]
شرح الكلمات:
سورة أنزلناها: أي هذه سورة أنزلناها.
وفرضناها: أي فرضنا ما فيها من أحكام.
وأنزلنا فيها آيات بينات: أي وأنزلنا ضمنها آيات أي حججا واضحات تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
لعلكم تذكرون: أي تتعظون فتعملون بما في السورة من أحكام.
الزانية: من أفضت إلى رجل بغير نكاح شرعي وهي غير محصنة.
مائة جلدة: أي ضربة على جلد ظهره.
رأفة: شفقة ورحمة.
وليشهد عذابهما: أي إقامة الحد عليهما.
طائفة: أي عدد لا يقل عن ثلاثة أنفار من المسلمين والأربعة أولى من الثلاثة.
الزاني لا ينكح إلا زانية: أي إلا زانية مثله أو مشركة أي لا يقع وطء إلا على مثله.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { سورة أنزلناها } أي هذه سورة من كتاب الله أنزلناها أي على عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم { وفرضناها } أي وفرضنا ما اشتملت عليه من أحكام على أمة الإسلام، وقوله: { لعلكم تذكرون } أي تتعظون فتعملون بما حوته هذه السورة من أوامر ونواه وآداب وأخلاق وقوله تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة } أي من زنت برجل منكم أيها المسلمون وهما بكران حران غير محصنين ولا مملوكين فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة بعصا لا تشين جارحة ولا تكسر عضوا أي جلدا غير مبرح، وزادت السنة تغريب سنة، وقوله تعالى: { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } ، أي لا تشفقوا عليهما فتعطلوا حد الله تعالى وتحرموهما من التطهير بهذا الحد لأن الحدود كفارة لأصحابها، وقوله: { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } أي فأقيموا عليهما الحد وقوله: { وليشهد عذابهما } أي إقامة الحد { طآئفة من المؤمنين } أي ثلاثة أنفار فأكثر وأربعة أولى لأن شهادة الزنا تثبت بأربعة شهداء وكلما كثر العدد كان أولى وأفضل.
وقوله تعالى: { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } أي لا يطأ إلا مثله من الزواني أو مشركة لا دين لها، والزانية أيضا لا يطأها إلا زان مثلها أو مشرك { وحرم ذلك على المؤمنين } أي حرم الله الزنا على المؤمنين والمؤمنات ولازم هذا أن لا نزوج زانيا من عفيفة إلا بعد توبته، ولا نزوج زانية من عفيف إلا بعد توبتها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم الزانية والزاني البكرين الحرين وهو جلد مائة وتغريب عام وأما الثيبان فالرجم إن كانا حرين أو جلد خمسين جلدة لكل واحد منهما إن كانا غير حرين.
2- وجوب إقامة هذا الحد أمام طائفة من المؤمنين.
3- لا يحل تزويج الزاني إلا بعد توبته، ولا الزانية إلا بعد توبتها.
[24.4-5]
شرح الكلمات:
يرمون: أي يقذفون.
المحصنات: أي العفيفات والرجال هنا كالنساء .
فاجلدوهم: أي حدا عليهم واجبا.
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا: لسقوط عدالتهم بالقذف للمؤمنين والمؤمنات.
إلا الذين تابوا: فإنهم بعد توبتهم يعود إليهم اعتبارهم وتصح شهادتهم.
معنى الآيتين:
بعد بيان حكم الزناة بين تعالى حكم القذف فقال: { والذين يرمون المحصنات } أي والذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة وهي الزنا واللواط بأن يقول فلان زان أو لائط فيقذفه بهذه الكلمة الخبيثة فإن عليه أن يحضر شهودا أربعة يشهدون أمام الحاكم على صحة ما رمى به أخاه المؤمن فإن لم يأت بالأربعة شهود أقيم عليه الحد المذكور في الآية: وهو جلد ثمانين جلدة على ظهره وتسقط عدالته حتى يتوب وهو معنى قوله تعالى: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } أي عن طاعة الله ورسوله { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } بأن كذبوا أنفسهم بأنهم ما رأوا الفاحشة وقوله: { فإن الله غفور } فيغفر لهم بعد التوبة { رحيم } بهم يرحمهم ولا يعذبهم بهذا الذنب العظيم بعدما تابوا منه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حد القذف وهو جلد ثمانين جلدة لمن قذف مؤمنا أو مؤمنة بالفاحشة وكان المقذوف بالغا عاقلا مسلما عفيفا أي لم يعرف بالفاحشة قبل رمية بها.
2- سقوط عدالة القاذف إلا أن يتوب فإنه تعود إليه عدالته.
3- قبول توبة التائب إن كانت توبته صادقة نصوحا.
[24.6-10]
شرح الكلمات:
يرمون أزواجهم: أي يقذفونهن بالزنا كأن يقول زنت أو الحمل الذي في بطنها ليس منه.
إنه لمن الصادقين: اي فيما رماها به من الزنى.
والخامسة: أي والشهادة الخامسة.
ويدرأ عنها العذاب: أي يدفع عنها حد القذف وهو هنا الرجم حتى الموت.
أن تشهد أربع شهادات: أي شهادتها أربع شهادات.
والخامسة: هي قولها غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ولولا فضل الله عليكم: أي لفضح القاذف أو المقذوف ببيان كذب أحدهما.
معنى الآيات:
بعد بيان حكم حد القذف العام ذكر تعالى حكم القذف الخاص وهو قذف الرجل زوجته فقال تعالى: { والذين يرمون أزواجهم } أي بالفاحشة { ولم يكن لهم شهدآء } أي من يشهد معهم إلا أنفسهم أي إلا القاذف وحده فالذي يقوم مقام الأربعة شهود هو أن يشهد أربع شهادات قائلا: أشهد بالله لقد رأيتها تزني أو زنت أو هذا الولد أو الحمل ليس لي ويلتعن فيقول في الخامسة { لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين } أي فيما رمى به زوجته، وهنا يعرض على الزوجة أن تقر بما رماها به زوجها ويقام عليها حد القذف وهو هنا الرجم، أو تشهد أربع شهادات بالله أنها ما زنت، والخامسة تدعو على نفسها بغضب الله فتقول { أن غضب الله عليهآ إن كان من الصادقين } فيما رماها به، وبذلك درأت عنها العذاب الذي هو الحد ويفرق بينهما فلا يجتمعان أبدا. وقوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } جواب لولا محذوف تقديره لعاجلكم بالعقوبة ولفضح أحد الكاذبين: ولكن الله تواب رحيم فستر عليكم ليتوب من يتوب منكم ورحمكم بهذا التشريع العادل الرحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم قذف الرجل امرأته ولم يكن له أربعة شهود يشهدون معه على ما رمى به زوجته وهو اللعان.
2- بيان كيفية اللعان، وأنه موجب لإقامة الحد، إن لم ترد الزوجة الدعوى بأربع شهادات والدعاء عليها في الخامسة وقولها { أن غضب الله عليهآ إن كان من الصادقين }.
3- في مشروعية اللعان مظهر من مظاهر حسن التشريع الإسلامي وكماله وأن مثله لن يكون إلا بوحي إلهي وفيه إشارة إلى تقرير النبوة المحمدية.
[24.11-18]
شرح الكلمات:
بالإفك عصبة: الإفك الكذب المقلوب وهو أسوأ الكذب، والعصبة الجماعة.
شرا لكم بل هو خير لكم: الشر ما غلب ضرره على نفعه، والخير ما غلب نفعه على ضرره، والشر المحض النار يوم القيامة والخير المحض الجنة دار الأبرار.
والذي تولى كبره: أي معظمه وهو ابن أبي كبير المنافقين.
لولا: أداة تحضيض وحث بمعنى هلا.
فيما أفضتم فيه: أي فيما تحدثتم بتوسع وعدم تحفظ.
إذ تلقونه: أي تتلقونه أي يتلقاه بعضكم من بعض.
وتحسبونه هينا: أي من صغائر الذنوب وهو عند الله من كبائرها لأنه عرض مؤمنة هي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبحانك: كلمة تقال عند التعجب والمراد بها تنزيه الله تعالى عما لا يليق به.
بهتان عظيم: البهتان الكذب الذي يحير من قيل فيه.
يعظكم الله: أي ينهاكم نهيا مقرونا بالوعيد حتى لا تعودوا لمثله أبدا.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى حكم القذف العام والخاص ذكر حادثة الإفك التي هلك فيها خلق لا يحصون عدا إذا طائفة الشيعة الروافض ما زالوا يهلكون فيها جيلا بعد جيل إلى اليوم إذ ورث فيهم رؤوساء الفتنة الذين اقتطعوا من الإسلام وأمته جزءا كبيرا سموه شيعة آل البيت تضليلا وتغريرا فأخرجوهم من الإسلام باسم الإسلام وأوردهم النار باسم الخوف من النار فكذبوا الله ورسوله وسبوا زوج رسول الله واتهموها بالفاحشة وأهانوا أباها ولوثوا شرف زوجها صلى الله عليه وسلم بنسبة زوجه إلى الفاحشة.
وخلاصة الحادثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن فرض الحجاب على النساء المؤمنات خرج إلى غزوة تدعى غزوة بني المصطلق أو المريسيع، ولما كان عائدا منها وقارب المدينة النبوية نزل ليلا وارتحل، ولما كان الرجال يرحلون النساء على الهوادج وجدوا هودج عائشة رضي الله عنها فظنوها فيه فوضعوه على البعير وساقوه ضمن الجيش ظانين أن عائشة فيه، وما هي فيه، لأنها ذكرت عقدا لها قد سقط منها في مكان تبرزت فيه فعادت تلتمس عقدها فوجدت الجيش قد رحل فجلست في مكانها لعلهم إذا افتقدوها رجعوا إليها وما زالت جالسة تنظر حتى جاء صفوان بن معطل السلمي رضي الله عنه وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عينه في الساقة وهم جماعة يمشون وراء الجيش بعيدا عنه حتى إذا تأخر شخص أو ترك متاع أو ضاع شيء يأخذونه ويصلون به إلى المعسكر فنظر فرآها من بعيد فأخذ يسترجع أي يقول إنا لله وإنا إليه راجعون آسفا لتخلف عائشة عن الركب قالت رضي الله عنها فتجلببت بثيابي وغطيت وجهي وجاء فأناخ راحلته فركبتها وقادها بي حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعسكر، وما إن رآني ابن أبي لعنة الله عليه حتى قال والله ما نجت منه ولا نجا منها، وروج للفتنة فاستجاب له ثلاثة أنفار فرددوا ما قال وهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، { والذي تولى كبره } هو ابن أبي المنافق وتورط آخرون ولكن هؤلاء الأربعة هم الذين أشاعوا وراجت الفتنة في المدينة واضطربت لها نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفوس أصحابه وآل بيته فأنزل الله هذه الآيات في براءة أم المرمنين عائشة رضي الله عنها وبراءة صفوان رضي الله عنه، ومن خلال شرح الآيات تتضح جوانب القصة.
قال تعالى: { إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم } أي إن الذين جاءوا بهذا الكذب المقلوب إذ المفروض أن يكون الطهر والعفاف لكل من أم المؤمنين وصفوان بدل الرمي بالفاحشة القبيحة فقلبوا القضية فلذا كان كذبهم إفكا وقوله: { عصبة } أي جماعة لا يقل عادة عدده على عشرة أنفار إلا أن الذين روجوا الفتنة وتورطوا فيها حقيقة وأقيم عليهم الحد أربعة ابن أبي وهو الذي تولى كبره منهم وتوعده الله بالعذاب العظيم لأنه منافق كافر مات على كفره ونفاقه، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها وحسان بن ثابت رضي الله عنه، وقوله تعالى: { لا تحسبوه شرا لكم } لما نالكم من هم وغم وكرب من جرائه { بل هو خير لكم } لما كان له من العاقبة الحسنة وما نالكم من الأجر العظيم من أجل عظم المصاب وشدة الفتنة وقوله تعالى: { لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم } على قدر ما قال وروج وسيجزي به إن لم يتب الله تعالى عليه ويعفو عنه.
وقوله: { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } وهو عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين عليه لعنة الله.
وقوله تعالى: { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذآ إفك مبين } هذا شروع في عتاب القوم وتأديبهم وتعليم المسلمين وتربيتهم فقال عز وجل: { لولا } أي هلا وهي للحض والحث على فعل الشيء إذ سمعتم قول الإفك ظننتم بأنفسكم خيرا إذ المؤمنون والمؤمنات كنفس واحدة، وقلتم لن يكون هذا وإنما هو إفك مبين أي ظاهر لا يقبل ولا يقر عليه هكذا كان الواجب عليكم ولكنكم ما فعلتم.
وقوله تعالى: { لولا جآءوا عليه بأربعة شهدآء فإذ لم يأتوا بالشهدآء فأولئك عند الله هم الكاذبون } أي كان المفروض فيكم أيها المؤمنون أنكم تقولون هذا لمن جاء بالإفك فإنهم لا يأتون بشاهد فضلا عن أربعة وبذلك تسجلون عليهم لعنة الكذب في حكم الله. وقوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في مآ أفضتم فيه عذاب عظيم } هذه منة من الله تحمل أيضا عتابا واضحا إذ بولوغكم في عرض أم المؤمنين، وما كان لكم أن تفعلوا ذلك قد استوجبتم العذاب لولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم العذاب العظيم.
وقوله: { إذ تلقونه بألسنتكم } أي يتلقاه بعضكم من بعض، { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } وهذا عتاب وتأديب. وقوله: { وتحسبونه هينا } أي ليس بذنب كبير ولا تبعة فيه { وهو عند الله عظيم } ، وكيف وهو يمس عرض رسول الله وعائشة والصديق وآل البيت آجمعين.
وقوله تعالى: { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنآ أن نتكلم بهذا } إذ هذه مما لا يصح لمؤمن أن يقول فيه لخطره وعظم شأنه، وقلتم متعجبين من مثله كيف يقع { سبحانك } أي يا رب { هذا } أي الإفك { بهتان عظيم } بهتوا به أم المؤمنين وصفوان.
وقوله: { يعظكم الله } أي ينهاكم الله مخوفا لكم بذكر العقوبة الشديدة { أن تعودوا لمثله أبدا } أي طول الحياة فأياكم إياكم إن كنتم مؤمنين حقا وصدقا فلا تعودوا لمثله أبدا، وقوله: { ويبين الله لكم الآيات } التي تحمل الهدى والنور لترشدوا وتكملوا والله عليم بخلقه وأعمالهم وأحوالهم حكيم فيما يشرع لهم من أمر ونهي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- قضاء الله تعالى للمؤمن كله خير له.
2- بشاعة الإفك وعظيم جرمه.
3- العقوبة على قدر الجرم كبرا وصغرا قلة وكثرة.
4- واجب المؤمن أن لا يصدق من يرمي مؤمنا بفاحشة، وأن يقول له هل تستطيع أن تأتي بأربعة شهداء على قولك فإن قال لا قال له إذا أنت عند الله من الكاذبين.
5- حرمة القول بدون علم والخوض في ذلك.
[24.19-22]
شرح الكلمات:
أن تشيع الفاحشة: أي تعم المجتمع وتنتشر فيه والفاحشة هي الزنا.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته: جواب لولا محذوف تقديره: لعاجلكم بالعقوبة أيها العصبة.
خطوات الشيطان: نزغاته ووساوسه.
ما زكى منكم من أحد أبدا: أي ما طهر ظاهره وباطنه وهي خلو النفس من دنس الإثم.
ولا يأتل أولوا الفضل منكم: أي ولا يحلف صاحب الفضل منكم وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
والسعة: أي سعة الرزق والفضل والإحسان إلى الغير.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عتاب المؤمنين الذين خاضوا في الإفك فقوله تعالى: { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } أي تنتشر وتشتهر { في الذين آمنوا } أي في المؤمنين { لهم عذاب أليم في الدنيا } بإقامة حد القذف عليهم وإسقاط عدالتهم وفي الآخرة إن لم يتوبوا بإدخالهم نار جهنم، وكفى بهذا الوعد زاجرا ورادعا وقوله تعالى: { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي ما يترتب على حب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين من الآثار السيئة فلذا توعد من يحبها بالعذاب الأليم في الدارين، وأوجب رد الأمور إليه تعالى وعدم الاعتراض على ما يشرع وذلك لعلمه المحيط بكل شيء وجهلنا لكل شيء إلا ما علمناه فأزال به جهلنا وقوله: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم } لهلكتم بجهلكم وسوء عملكم، ولكن لما أحاطكم الله به من فضل لم تستوجبوه إلا برأفته بكم ورحمته لكم عفا عنكم ولم يعاقبكم.
وقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } أي يا من صدقتم الله ورسوله لا تتبعوا خطوات الشيطان فإنه عدوكم فكيف تمشون وراءه وتتبعونه فيما يزين لكم من قبيح المعاصي وسيء الأقوال والأعمال فإن من يتبع خطوات الشيطان لا يلبث أن يصبح شيطانا يأمر بالفحشاء والمنكر، ففاصلوا هذا العدو، واتركوا الجري وراءه فإنه لا يأمر بخير قط فاحذروا وسواسه وقاوموا نزغاته بالاستعاذة بالله السميع العليم فإنه لا ينجكم منه إلا هو سبحانه وتعالى وقوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا } وهذه منة أخرى وهي أنه لولا فضل الله على المؤمنين ورحمته بحفظهم ودفع الشيطان عنهم ما كان ليطهر منهم أحد، وذلك لضعفهم واستعدادهم الفطري للاستجابة لعدوهم، فعلى الذين شعروا بكمالهم؛ لأنهم نجوا مما وقع فيه عصبة الإفك من الإثم أن يستغفروا لإخوانهم وأن يقللوا من لومهم وعتابهم، فإنه لولا فضله عليهم ورحمته بهم لوقعوا فيما وقع فيه إخوانهم، فليحمدوا الله الذي نجاهم وليتطامنوا تواضعا لله وشكرا له، وقوله: { ولكن الله يزكي من يشآء والله سميع عليم } أي فمن شاء الله تزكيته زكاه وعليه فليلجأ إليه وليطلب التزكية منه، وهو تعالى يزكي من كان أهلا للتزكية، ومن لا فلا، لأنه السميع لأقوال عباده والعليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم وهي حال تقتضي التضرع إليه والتذلل وقوله تعالى: { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا } هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق لما منع مسطح بن أثاثة وهو ابن خالته، وكان رجلا فقيرا من المهاجرين، ووقع في الإفك فغضب عليه أبو بكر وحلف أن يمنعه ما كان يرفده به من طعام وشراب، فأنزل الله تعالى هذه الآية ولا يأتل أي ولا يحلف أصحاب الفضل والإحسان والسعة في الرزق والمعاش أن يؤتوا أولي القربى أي أن يعطوا أصحاب القرابة، والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح، وليعفو أي وعليهم أن يعفوا عما صدر من أولئك الأقرباء من الفقراء والمهاجرين، وليصفحوا أي يعرضوا عما قالوه فلا يذكروه لهم ولا يذكرونهم به فإنه يحزنهم ويسوءهم ولا سيما وقد تابوا وأقيم الحد عليهم وقوله تعالى: { ألا تحبون أن يغفر الله لكم }؟ فقال أبو بكر بلى والله أحب أن يغفر الله لي فعندها صفح وعفا وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه فقال كفر عن يمينك ورد الذي كنت تعطيه لمسطح.
وتقرر بذلك أن من حلف يمينا على شيء فرأى غيره خيرا منه كفر عن يمينه وأتى الذي هو خير.
وقوله تعالى: { والله غفور رحيم } فهذا إخبار منه تعالى أنه ذو المغفرة والرحمة وهما من صفاته الثابتة له وفي هذا الخبر تطميع للعباد لأن يرجوا مغفرة الله ورحمته وذلك بالتوبة الصادقة والطلب الحثيث المتواصل لأن الله تعالى لا يغفر لمن لا يستغفره، ولا يرحم من لا يرجو ويطلب رحمته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لقبح فاحشة الزنى وضع الله تعالى لمقاومتها أمورا منها وضع حد شرعي لها، ومنع تزويج الزاني من عفيفة أو عفيفة من زان إلا بعد التوبة، ومنها شهود عدد من المسلمين إقامة الحد ومنها حد القذف ومنها اللعان بين الزوجين، ومنها حرمة ظن السوء بالمؤمنين، ومنها حرمة حب ظهور الفاحشة وإشاعتها في المؤمنين، ومنها وجوب الإستئذان عند دخول البيوت المسكونة، ومنها وجوب غض البصر وحرمة النظر إلى الأجنبية، ومنها احتجاب المؤمنة عن الرجال الأجانب ومنها حرمة حركة ما كضرب الأرض بالأرجل لإظهار الزينة. ومنها وجوب تزويج العزاب والمساعدة على ذلك حتى في العبيد بشروطها، ومنها وجوب استئذان الأطفال إذا بلغوا الحلم، وهذه وغيرها كلها أسباب واقية من أخطر فاحشة وهي الزنى.
2- حرمة إتباع الشيطان فيما يزينه من الباطل والسوء والفحشاء والمنكر.
3- متابعة الشيطان والجري وراءه في كل ما يدعو إليه يؤدي بالعبد أن يصبح شيطانا يأمر بالفحشاء والمنكر.
4- على من حفظهم الله من الوقوع في السوء أن يتطامنوا ولا يشعروا بالكبر فإن عصمتهم من الله تعالى لا من أنفسهم.
5- من حلف على شيء لا يفعله أو يفعله ورأى أن غيره خير منه كفر عن يمينه وفعل الذي هو خير.
6- وجوب العفو والصفح على ذوي المروءات وإقالة عثرتهم إن هم تابوا وأصلحوا.
[24.23-26]
شرح الكلمات:
يرمون المحصنات: أي العفيفات بالزنى.
الغافلات: أي عن الفواحش بحيث لم يقع في قلوبهن فعلها.
المؤمنات: أي بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
يعملون: أي من قول أو عمل.
يوفيهم الله دينهم الحق: أي يجازيهم جزاءهم الواجب عليهم.
الخبيثات: الخبيثات من النساء والكلمات.
للخبيثين: للخبيثين من الرجال.
والطيبات: من النساء والكلمات.
للطيبين: أي من الرجال.
أولئك مبرءون مما يقولون: أي صفوان بن المعطل وعائشة رضي الله عنهما أي مبرءون مما قاله عصبة الإفك.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة } هذه الآية وإن تناولت ابتداء عبد الله بن أبي فإنها عامة في كل من يقذف مؤمنة محصنة أي عفيفة غافلة لسلامة صدرها من الفواحش لا تخطر ببالها { لعنوا } أي أبعدوا من الرحمة الإلهية { في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } في الدنيا بإقامة الحد عليهم وفي الآخرة بعذاب النار، وذلك { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } من سوء الأفعال وقوله تعالى: { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } أي يتم ذلك يوم يوفيهم الله دينهم الحق أي جزاءهم الواجب عليهم ويعلمون حينئذ أن الله هو الحق المبين أي الإله الحق الواجب الإيمان به والطاعة له والعبودية الكاملة له لا لغيره.
وقوله تعالى: { الخبيثات للخبيثين } أي الخبيثات من النساء والكلمات للخبيثين من الرجال كابن أبي، { والخبيثون للخبيثات } أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والكلمات وقوله: { والطيبات للطيبين } أي والطيبات من النساء والكلمات للطيبين من الرجال كالنبي صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها وقوله: { والطيبون للطيبات } أي والطيبون من الرجال للطيبات من النساء والكلمات تأكيد للخبر السابق وقوله تعالى: { أولئك مبرءون مما يقولون } أولئك إشارة إلى صفوان بن المعطل وعائشة رضي الله عنها، ومبرؤون أي من قالة السوء التي قالها ابن أبي ومن أذاعها معه. وقوله: { لهم مغفرة ورزق كريم } هذه بشرى لهم بالجنة مقابل ما نالهم من ألم الإفك الذي جاءت به العصبة المتقدم ذكرها إذ أخبر تعالى أن لهم مغفرة لذنوبهم التي لا يخلو منها مؤمن وهو الستر عنها ومحوها ورزقا كريما في الجنة.
وبهذه تمت براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والحمد لله أولا وآخرا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عظم ذنب قذف المحصنات الغافلات المؤمنات وقد عده رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبع الموبقات، والعياذ بالله تعالى.
2- تقرير الحساب وما يتم فيه من استنطاق واستجواب.
3- تقرير التوحيد بأنه لا إله إلا الله.
4- استحقاق الخبث أهله. فالخبيث هو الذي يناسبه القول الخبيث والفعل الخبيث.
5- استحقاق الطيب أهله فالطيب هو الذي يناسبه القول الطيب والفعل الطيب.
6- براءة أم المؤمنين وصفوان مما رماهما به أهل الإفك.
7- بشارة أم المؤمنين وصفوان بالجنة بعد مغفرة ذنوبهما.
[24.27-29]
شرح الكلمات:
آمنوا: أي صدقوا الله ورسوله فيما أخبرا به من الغيب والشرع.
تستأنسوا: أي تستأذنوا إذ الاستئذان من عمل الإنسان والدخول بدونه من عمل الحيوان الوحشي.
وتسلموا على أهلها: أي تقولوا السلام عليكم أأدخل ثلاثا.
تذكرون: أي تذكرون أنكم مؤمنون، وأن الله أمركم بالإستئذان.
أزكى لكم: أي أطهر وأبعد عن الريبة والإثم.
ليس عليكم جناح: أي إثم ولا حرج.
فيها متاع لكم: أي ما تتمتعون به كالنزول بها أو شراء حاجة منها.
ما تبدون: أي ما تظهرونه.
وما تكتمون: أي ما تخفونه إذا فراقبوه تعالى ولا تضمروا ما لا يرضى فإنه يعلمه.
معنى الآيات:
نظرا إلى خطر الرمي بالفاحشة وفعلها وحرمة ذلك كان المناسب هنا ذكر وسيلة من وسائل الوقاية من الوقوع في مثل ذلك ففرض الله تعالى على المؤمنين الإستئذان فقال: { يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } أي يا من آمنتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا لا تدخلوا بيوتا على أهلها حتى تسلموا عليهم قائلين السلام عليكم وتستأذنوا قائلين أندخل ثلاث مرات فإن أذن لكم بالدخول دخلتم وإن قيل لكم ارجعوا أي لم يأذنوا لكم لحاجة عندهم فارجعوا وعبر عن الإستئذان بالاستئناس لأمرين أولها أن لفظ الإستئناس وارد في لغة العرب بمعنى الإستئذان وثانيهما: أن الإستئذان من خصائص الإنسان الناطق وعدمه من خصائص الحيوان المتوحش إذ يدخل على المنزل بدون إذن إذ ذاك ليس من خصائصه.
وقوله { ذلكم خير لكم } أي الإستئذان خير لكم أي من عدمه لما فيه من الوقاية من الوقوع في الإثم وقوله: { لعلكم تذكرون } أي تذكرون أنكم مؤمنون وأن الله تعالى أمركم بالإستئذان حتى لا يحصل لكم ما يضركم وبذلك يزداد إيمانكم وتسموا أرواحكم. وقوله تعالى: { وإن قيل لكم ارجعوا } لأمر اقتضى ذلك { فارجعوا } وأنتم راضون غير ساخطين. وقوله تعالى: { هو أزكى لكم } أي أطهر لنفوسكم وأكثر عائدة خير عليكم, وقوله تعالى: { والله بما تعملون عليم } أي مطلع على أحوالكم فتشريعه لكم الإستئذان واقع موقعه إذا فأطيعوه فيه وفي غيره تكملوا وتسعدوا.
وقوله: { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم }. هذه رخصة منه تعالى لعباده المؤمنين بأن لا يستأذنوا عند دخولهم بيوتا غير مسكونة أي ليس فيها نساء من زوجات وسريات يحرم النظر إليهن وذلك كالدكاكين والفنادق وما إلى ذلك فللعبد أن يدخل لقضاء حاجاته المعبر عنها بالمتاع بدون استئذان لأنها مفتوحة للعموم من أصحاب الأغراض والحاجات أما السلام فسنة على من دخل على دكان أو فندق فليقل السلام عليكم والذي يسقط هو الإستئذان أي طلب الإذن لا غير.
وقوله تعالى: { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } أي يعلم ما تظهرون من أقوالكم وأعمالكم وما تخفون إذا فراقبوه تعالى في أوامره ونواهيه وافعلوا المأمور واتركوا المنهي تكملوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الإستئذان ووجوبه على كل من أراد أن يدخل بيتا مسكونا غير بيته.
2- الرخصة في عدم الإستئذان من دخول البيوت والمحلات غير المسكونة للعبد فيها غرض.
3- من آداب الإستئذان أن يقف بجانب الباب فلا يعترضه، وأن يرفع صوته بقدر الحاجة وأن يقرع الباب قرعا خفيفا وأن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات.
4- في كل طاعة خير وبركة وإن كانت كلمة طيبة.
[24.30-31]
شرح الكلمات:
يغضوا من أبصارهم: أي يخفضوا من أبصارهم حتى لا ينظروا إلى نساء لا يحل لهم أن ينظروا إليهن.
ويحفظوا فروجهم: أي يصونونها من النظر إليها ومن إتيان الفاحشة الزنى واللواط.
أزكى لهم: أي أكثر تزكية لنفوسهم من فعل المندوبات والمستحبات.
ولا يبدين زينتهن: أي مواضع الزينة الساقين حيث يوضع الخلخال، وكالكفين والذراعين حيث الأساور والخواتم والحناء والرأس حيث الشعر والأقراط في الأذنين والتزجيج في الحاجبين والكحل في العينين والعنق والصدر حيث السخاب والقلائد.
إلا ما ظهر منها: أي بالضرورة دون اختيار وذلك كالكفين لتناول شيئا والعين الواحدة أو الاثنتين للنظر بهما، والثياب الظاهرة كالخمار والعجار والعباءة.
بخمرهن على جيوبهن: أي ولتضرب المرأة المسلمة الحرة بخمارها على جيوب أي فتحات الثياب في الصدر وغيره حتى لا يبدو شيء من جسمها.
إلا لبعولتهن: البعل الزوج والجمع بعول.
أو نسائهن: أي المسلمات فيخرج الذميات فلا تتكشف المسلمة أمامهن.
أو ما ملكت أيمانهن: أي العبيد والجواري فللمسلمة أن تكشف وجهها لخادمها المملوك.
أو التابعين غير أولي الإربة: أي التابعين لأهل البيت يطعمونهم ويسكنونهم ممن لا حاجة لهم إلى النساء.
أو الطفل: أي الأطفال الصغار قبل التمييز والبلوغ.
لم يظهروا على عورات النساء: أي لم يبلغوا سنا تدعوهم إلى الاطلاع على عورات النساء للتلذذ بهن.
ليعلم ما يخفين من زينتهن: أي الخلاخل في الرجلين.
تفلحون: أي تفوزون بالنجاة من العار والنار، وبالظفر بالطهر والشرف وعالي الغرف في دار النعيم.
معنى الآيات:
سبق أن ذكرنا أنه لقبح وفساد الزنى وسوء أثره على النفس والحياة البشرية وضع الشارع عدة أسباب واقية من الوقوع فيه ومنها الأمر بغض البصر للرجال والنساء فقوله تعالى: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } أي مر يا رسولنا المؤمنين بأن يغضوا من أبصارهم أي بأن يخفضوا أجفانهم على أعينهم حتى لا ينظروا إلى الأجنبيات عنهم من النساء ويحفظوا فروجهم عن النظر إليها فلا يكشفوها لأحد إلا ما كان من الزوج لزوجه فلا حرج وعدم النظر أولى وأطيب، وقوله: { ذلك أزكى لهم } أي أطهر لنفوسهم من نوافل العبادات، وقوله: { إن الله خبير بما يصنعون } فليراقبوه تعالى في ذلك المأمور به من غض البصر وحفظ الفرج إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقوله تعالى: { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } إذ شأنهن شأن الرجال في كل ما أمر به الرجال من غض البصر وحفظ الفرج وقوله تعالى: { ولا يبدين زينتهن } أي مرهن بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إظهار الزينة { إلا ما ظهر منها } مما لا يمكنها ستره وإخفاؤه كالكفين عند تناول شيء أو إعطائه أو العينين تنظر بهما وإن كان في اليد خاتم وحناء وفي العينين كحل وكالثياب الظاهرة من خمار على الرأس وعباءة تستر الجسم فهذا معفو عنه إذ لا يمكنها ستره.
وقوله تعالى: { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } كانت المرأة تضع خمارها على رأسها مسبلا على كتفيها فأمرت أن تضرب به على فتحات درعها حتى تستر العنق والصدر سترا كاملا وقوله: { ولا يبدين زينتهن } أعاد اللفظ ليرتب عليه ما بعده من المحارم الذي يباح للمؤمنة أن تبدي زينتها إليهم وهم الزوج، والأب والجد وإن علا وأب الزوج وإن علا وابنها وإن سفل وأبناء الزوج وإن نزلوا، والأخ لأب أو الشقيق أو لأم وأبناؤه وأن نزلوا، وابن الأخ وان نزل وسواء كان لأب أو لأم أو شقيق، وابن الأخت شقيقة أو لأب أو أم. والمرأة المسلمة من نساء المؤمنات، وعبدها المملوك لها دون شريك لها فيه والتابع لأهل بيتها من شيخ هرم أصابه الخرف، وعنين ومعتوه وطفل صغير لم يميز دون البلوغ ممن لا حاجة لهم في النساء لعدم الشهوة عندهم لكبر ومرض وصغر.
وقوله تعالى: { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } نهى تعالى المؤمنات أن يضربن الأرض بأرجلهن التي فيها الخلاخل لكي يعلم أنها ذات زينة في رجلها، فلا يحل لها ذلك ولو لم تقصد إظهار زينتها.
وقوله تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون } أمر تعالى المؤمنين والمؤمنات بالتوبة وهي ترك ما من شأنه أن يغضب الله تعالى، وفعل ما وجب فعله ومن ذلك غض البصر وحفظ الفرج والالتزام بالعفة والستر والتنزه عن الإثم صغيره وكبيره وبذلك يتأهل المؤمنون للفلاح الذي هو الفوز بالنجاة من المرهوب والظفر بالمحبوب المرغوب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب غض البصر وحفظ الفرج.
2- وجوب ستر المرأة زينتها ومواضع ذلك ما عدا ما يتعذر ستره للضرورة.
3- بيان المحارم الذين للمرأة المؤمنة أن تبدي زينتها عندهم بلا حرج.
4- الرخصة في إظهار الزينة للهرم المخرف من الرجال والمعتوه والطفل الصغير الذي لم يعرف عن عورات النساء شيئا.
5- حرمة ضرب ذات الخلاخل الأرض برجلها حتى لا يعلم ما تخفي من زينتها.
6- وجوب التوبة من كل ذنب وعلى الفور للحصول على الفلاح العاجل والآجل.
[24.32-34]
شرح الكلمات:
وأنكحوا الآيامى منكم: أي زوجوا من لا زوجة له من رجالكم ومن لا زوج لها من نسائكم.
والصالحين من عبادكم وإمائكم: أي وزوجوا أيضا القادرين والقادرات على أعباء الزواج من عبيدكم وإمائكم.
إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله: أي إن يكن الأيامى فقراء فلا يمنعكم ذلك من تزويجهم فإن الله يغنهم.
إن الله واسع عليم: أي واسع الفضل عليم بحاجة العبد وخلته فيسدها تكرما.
وليتسعفف: أي وليطلب عفة نفسه بالصبر والصيام.
يبتغون الكتاب: أي يطلبون المكاتبة من المماليك.
إن علمتم فيهم خيرا: أي قدرة على السداد والإستقلال عنكم.
وآتوهم من مال الله: أي اعينوهم بثمن نجم من نجوم المكاتبة من الزكاة وغيرها.
على البغاء إن أردن تحصنا: أي الزنى تحصنا أي تعففا وتحفظا من فاحشة الزنا.
عرض الحياة الدنيا: أي المال.
ومن يكرههن: أي على البغاء " الزنى ".
مبينات: للأحكام موضحة لما يطلب منكم فعله وتركه.
ومثلا من الذين خلوا من قبلكم: أي قبلكم: أي قصصا من أخبار الأولين كقصة يوسف وقصة مريم وهما شبيهتان بحادثة الإفك.
وموعظة: الموعظة ما يتعظ به العبد فيسلك سبيل النجاة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر الأسباب الواقية من وقوع الفاحشة فأمر تعالى في الآية الأولى من هذا السياق [32] أمر جماعه المسلمين أن يزوجوا الأيامى من رجالهم ونسائهم بالمساعدة على ذلك والإعانة عليه حتى لا يبقى في البلد أو القرية عزب إلا نادرا ولا فرق بين البكر والثيب في ذلك فقال تعالى: { وأنكحوا } والأمر للإرشاد { الأيامى } جمع أيم وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة بكرا كان أو ثيبا، { منكم } أي من جماعات المسلمين لا من غيرهم كأهل الذمة من الكافرين. وقوله: { والصالحين من عبادكم وإمائكم } أي وزوجوا القادرين على مؤونة الزواج وتبعاته، وتكاليفه من مماليككم وقوله: { إن يكونوا فقرآء } غير موسرين لا يمنعكم ذلك من تزويجهم فقد تكفل الله بغناهم بعد تزويجهم بقوله: { يغنهم الله من فضله والله واسع عليم } أي واسع الفضل عليم بحاجة المحتاجين وأمر تعالى في هذه الآية من لا يجد نكاحا لانعدام الزوج أو الزوجة مؤقتا أو انعدام مؤونة الزواج من مهر ووليمة أن يستعفف أي يعف نفسه بالصبر والصيام والصلاة حتى لا يتطلع إلى الحرام فيهلك فقال تعالى { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } أي واسع الفضل مطلق الغنى عليم بحال عباده وحاجة المحتاجين منهم. وقوله تعالى: { والذين يبتغون الكتاب } هذه مسألة ثالثة تضمنتها هذه الآية وهي إذا كان للمسلم عبد وطلب منه أن يكاتبه، وكان أهلا للتحرر بأن يقدر على تسديد مال المكاتبة, ويستطيع أن يستقل بنفسه فعلى مالكه أن يكاتبه، وأن يعينه على ذلك بإسقاط نجم من نجوم الكتابة، وهذا معنى قوله تعالى: { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } وقوله تعالى: { ولا تكرهوا فتياتكم على البغآء } أي على الزنا وهي مسألة رابعة تضمنتها هذه الآية وهي أن جاريتين كانتا لعبد الله بن أبي بن سلول المنافق يقال لهما معاذة ومسيكة قد أسلمتا فأمرهما بالزنا لتكسبا له بفرجيهما كما هي عادة أهل الجاهلية قبل الإسلام فشكتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: { ولا تكرهوا فتياتكم على البغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } أي لأجل مال قليل يعرض لكم ويزول عنكم بسرعة، وقوله: { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } أي لهن رحيم بهن لأن المكره لا إثم عليه فيما يقول ولا فيما يفعل فامتنع المنافق من ذلك .
وقوله تعالى في الآية الثانية [34] { ولقد أنزلنآ إليكم آيات مبينات } أي ولقد أنزلنا إليكم أيها المسلمون آيات أي قرآنية مبينات أي موضحات للشرائع والأحكام والآداب فاعملوا بها تكملوا في حياتكم وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم. وقوله: { ومثلا من الذين خلوا من قبلكم } أي قصصا من أخبار الأولين كقصة يوسف ومريم عليهما السلام وهما شبيهتان بحادثة الإفك وقوله: { وموعظة للمتقين } وهي ما تضمنته الآيات من الوعيد والوعد والترغيب والترهيب وكونها للمتقين بحسب الواقع وهو أن المتقين هم الذين ينتفعون بالمواعظ دون الكافرين والفاجرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- انتداب المسلمين حاكمين ومحكومين للمساعدة على تزويج الأيامى من المسلمين أحرارا وعبيدا.
2- وجوب الاستعفاف على من لم يجد نكاحا والصبر حتى ييسر الله أمره.
3- عدة الله للفقير إذا تزوج بالغنى.
4- تعين مكاتبة العبد إذا توفرت فيه شروط المكاتبة.
5- حرمة الزنا بالإكراه أو بالاختيار ومنع ذلك بإقامة الحدود.
6- صيغة المكاتبة أن يقول السيد للعبد لقد كاتبتك على ثلاثة آلاف دينار منجمة أي مقسطة على ستة نجوم تدفع في كل شهر نجما أي قسطا. على أنك إذا وفيتها في آجالها فأنت حر، وعليه أشهدنا وحرر بتاريخ كذا وكذا.
7- بيان فضل سورة النور لما احتوته من أحكام في غاية الأهمية.
[24.35-38]
شرح الكلمات:
الله نور السماوات: أي منورهما فلولاه لما كان نور في السماوات ولا في الأرض، والله تعالى نور وحجابه النور.
مثل نوره: أي في قلب عبده المؤمن.
كمشكاة: أي كوة.
كوكب دري: أي مضيء إضاءة الدر الوهاج.
نور على نور: أي نور النار على نور الزيت.
يهدي الله لنوره: أي للإيمان به والعمل بطاعته من يشاء له ذلك لعلمه برغبته وصدق نيته.
ويضرب الله الأمثال: أي ويجعل الله الأمثال للناس من أجل أن يفهموا عنه ويعقلوا ما يدعوهم إليه.
في بيوت أذن الله أن ترفع: هي المساجد ورفعها إعلاء شأنها من بناء وطهارة وصيانة.
يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار: يوم القيامة.
يرزق من يشاء بغير حساب: أي بلا عد ولا كيل ولا وزن وهذا شأن العطاء إن كان كثيرا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { الله نور السموت والأرض } يخبر تعالى أنه لولاه لما كان في الكون نور ولا هداية في السماوات ولا في الأرض فهو تعالى منورهما فكتابه نور ورسوله نور أي يهتدي بهما في ظلمات الحياة كما يهتدي بالنور الحسي والله ذاته نور وحجابه نور فكل نور حسي أو معنوي الله خالقه وموهبه وهاد إليه.
وقوله تعالى: { مثل نوره كمشكاة } أي كوة في جدار { فيها مصباح المصباح في زجاجة } من بلور، { الزجاجة } في صفائها وصقالتها مشرقة { كأنها كوكب دري } والكوكب الدري هو المضيء المشرق كأنه درة بيضاء صافية، وقوله: { يوقد من شجرة مباركة } أي وزيت المصباح من شجرة مباركة وهي الزيتونة والزيتونة لا شرقية ولا غربية في موقعها من البستان لا ترى الشمس إلا في الصباح، ولا غربية لا ترى الشمس إلا في المساء بل هي وسط البستان تصيبها الشمس في كامل النهار فلذا كان زيتها في غاية الجودة يكاد يشتعل لصفائه، ولو لم تمسه نار، وقوله تعالى: { نور على نور } أي نور النار على نور الزيت وقوله تعالى: { يهدي الله لنوره من يشآء } يخبر تعالى أنه يهدي لنوره الذي هو الإيمان والإسلام والإحسان من يشاء من عباده ممن علم أنهم يرغبون في الهداية ويطلبونها ويكملون ويسعدون عليها.
وقوله: { ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } يخبر تعالى: أنه يضرب الأمثال للناس كهذا المثل الذي ضربه للإيمان وقلب عبده المؤمن وأنه عليم بالعباد وأحوال القلوب، ومن هو أهل لهداية ومن ليس لها بأهل، إذ هو بكل شيء عليم.
وقوله: { في بيوت أذن الله أن ترفع } أي المصباح في بيوت أذن الله أي أمر ووصى أن ترفع حسا ومعنى وهي المساجد فتطهر من النجاسات ومن اللغو فيها وكلام الدنيا، وتصان وتحفظ من كل ما يخل بمقامها الرفيع لأنها بيوت الله تعالى، وقوله: { ويذكر فيها اسمه } أي بالأذان والإقامة والصلاة والتسبيح والدعاء وقراءة القرآن.
وقوله تعالى: { يسبح له فيها } أي لله في تلك البيوت { بالغدو } أي بالصباح { والآصال } أي المساء { رجال } مؤمنون صادقون أبرار متقون { لا تلهيهم تجارة ولا بيع } أي لا شراء ولا بيع { عن ذكر الله } فقلوبهم ذاكرة غير غافلة وألسنتهم ذاكرة غير لاهية ولا لاغية { وإقام الصلاة وإيتآء الزكاة } أي لا تلهيهم دنياهم عن آخرتهم فهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.
وقوله: { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } أي من شدة الخوف وعظم الفزع والهول وهو يوم القيامة وقوله تعالى: { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله } أي إنهم فعلوا ما فعلوا من التسبيح وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة معرضين عن كل ما يشغلهم عن عبادة ربهم فتأهلوا بذلك للثواب العظيم ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله فوق ما استحقوه بأعمالهم وتقواهم لربهم، والله يرزق من يشاء بغير حساب وذلك لعظيم فضله وسابق رحمته فيعطي بدون عد ولا كيل ولا وزن وذلك لعظم العطاء وكثرته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كل خير وكل نور وكل هداية مصدرها الله تعالى فهو الذي يطلب منه ذلك.
2- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان والفهوم.
3- الإشارة إلى أن ملة الإسلام لا يهودية ولا نصرانية، لا اشتراكية ولا رأسمالية. بل هي الملة الحنيفية من دان بها هدى ومن كفرها ضل.
4- وجوب تعظيم بيوت الله تعالى: " المساجد " بتطهيرها ورفع بنيانها وإخلائها إلا من ذكر الله والصلاة وطلب العلم فيها.
5- ثناء الله تعالى على من لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
[24.39-42]
شرح الكلمات:
كسراب بقيعة: السراب شعاع أبيض يرى في نصف النهار وكأنه ماء، والقيعة جمع قاع وهو ما انبسط من الأرض.
الظمآن: العطشان.
بحر لجي: أي ذو لجج واللجة معظم الماء وغزيره كما هي الحال في المحيطات.
يغشاه موج: يعلوه ويغطيه موج آخر.
يسبح له: ينزه ويقدس بألفاظ التسبيح والتقديس كسبحان الله ونحوه والصلاة من التسبيح.
صافات: باسطات أجنحتها.
قد علم صلاته: أي كل من في السماوات والأرض قد علم الله صلاته وتسبيحه كما أن كل مسبح ومصل قد علم صلاة وتسبيح نفسه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { والذين كفروا أعمالهم كسراب } لما بين تعالى حال المؤمنين وأنه تعالى وفاهم أجرهم بأحسن مما كانوا يعملون وزادهم من فضله ذكر هنا حال الكافرين وهو أن أعمالهم في خسرانها وعدم الانتفاع بها كسراب وهو شعاع أبيض يرى في نصف النهار وكأنه ماء { بقيعة } أي بقاع من الأرض وهو الأرض المنبسطة { يحسبه الظمآن مآء } أي يظنه العطشان ماء وما هو بماء ولكنه سراب خادع { حتى إذا جآءه لم يجده شيئا } لأنه سراب لا غير. فيا للخيبة، خيبة ظمآن يقتله العطش فرأى سرابا فجرى وراءه يظنه ماء فإذا به لم يجد الماء، ووجد الحق تبارك وتعالى فحاسبه على كل أعماله وهي في جملتها أعمال إجرام وشر وفساد فوفاه إياها فخسر خسرانا مبينا، { والله سريع الحساب } فما هي إلا لحظات والكافر في سواء الجحيم. هذا مثل تضمنته الآية الأولى [39] ومثل آخر تضمنته الآية الثانية [40] وهو مثل مضروب لضلال الكافر وحيرته في حياته وما يعيش عليه من ظلمة الكفر وظلمة العمل السيىء والإعتقاد الباطل وظلمة الجهل بربه وما يريده منه، وما أعده له قال تعالى: { أو كظلمات في بحر لجي } أي ذي لجج من الماء { يغشاه } أي يعلوه { موج من فوقه موج } أي من فوق الموج موج آخر { من فوقه سحاب } والسحاب عادة مظلم فهي { ظلمات بعضها فوق بعض إذآ أخرج يده لم يكد يراها } لشدة الظلمة هذه حال الكافر في هذه الحياة الدنيا، وهي ناتجة عن إعراضه عن ذكر ربه وتوغله في الشر والفساد وقوله تعالى: { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } أعلم تعالى عباده أن النور له وبيده فمن لم يطلبه منه حرمه وعاش في الظلمات والعياذ بالله.
وقوله تعالى: { ألم تر أن الله يسبح له من في السموت والأرض والطير صآفات } أي ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أن الله تعالى يسبح له من في السماوات من الملائكة والأرض أي ومن في الأرض بلسان القال والحال معا والطير صافات أي باسطات أجنحتها تسبح الله تعالى بمعنى تنزهه بألفاظ التنزيه كسبحان الله.
فإن امتنع المشركون أهل الظلمات من الإيمان بالله وعبادته وتوحيده فيها فإن الله تعالى يسبح له الخلق كله علويه وسفليه فالكافر وإن لم يسبح بلسانه فحاله تسبح فخلقه وتركيبه وأقواله وأعماله كلها تسبح الله خالقه فهي شاهدة على قدرة الله وعلمه وحكمته وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله تعالى: { كل } أي ممن في السماوات والأرض والطير قد علم الله صلاته وتسبيحه كما أن كلا منهم قد علم صلاته لله تعالى وتسبيحه له { والله عليم بما يفعلون } أي والله عليم بأفعال عباده، ويجزيهم بها وهو على ذلك قدير إذ له ملك السماوات والأرض وإليه المصير أي مصير كل شيء إليه تعالى فهو الذي يحكم فيه بحكمه العادل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني البعيدة إلى الأذهان.
2- بيان خسران الكافرين في أعمالهم وحياتهم كلها.
3- بيان حال الكافرين في هذه الدنيا وأنهم يعيشون في ظلمات الجهل والكفر والظلم.
4- تقرير حقيقة وهي أن من لم يجعل الله له نورا في قلبه لن يكن له نور في حياته كلها.
5- بيان أن الكون كله يسبح لله كقوله تعالى:
يسبح له ما في السموت والأرض
[الحشر: 24] وقوله:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
[الإسراء: 44].
[24.43-46]
شرح الكلمات:
يزجي سحابا: أي يسوق برفق ويسر.
ثم يؤلف بينه: أي يجمع بين أجزائه وقطعه.
ثم يجعله ركاما: أي متراكما بعضه فوق بعض.
الودق: أي المطر.
يخرج من خلاله: أي من فرجه ومخارجه.
من جبال فيها من برد: أي من جبال من برد في السماء والبرد حجارة بيضاء كالثلج.
فيصيب به من يشاء: أي فيصيب بالبرد من يشاء.
سنا برقه: أي لمعانه.
يذهب بالأبصار: أي الناظرة إليه.
لعبرة: أي دلالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه ووجوب توحيده.
كل دابة من ماء: أي حيوان من نطفة.
على بطنه: كالحيات والهوام.
على رجلين: كالإنسان والطير.
على أربع: أي كالأنعام والبهائم.
إلى صراط مستقيم: أي إلى الإسلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عرض مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية وهي الموجبة لله تعالى العبادة دون سواه فقال تعالى: { ألم تر أن الله يزجي سحابا } أي ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أن الله يزجي سحابا أي يسوقه برفق وسهولة { ثم يؤلف } أي يجمع بين أجزائه فيجعله ركاما أي متراكما بعضه على بعض { فترى الودق } أي المطر { يخرج من خلاله } أي من فتوقه وشقوقه. والخلال جمع خلل كجبال جمع جبل وهو الفتوق بين أجزاء السحاب وهو مظهر من مظاهر القدرة والعلم. وقوله: { وينزل من السمآء من جبال فيها من برد } أي ينزل بردا من جبال البرد المتراكمة في السماء فيصيب بذلك البرد من يشاء فيهلك به زرعه أو ماشيته، ويصرفه عمن يشاء عن عباده فلا يصيبه شيء من ذلك وهذا مظهر آخر من مظاهر القدرة واللطف الإلهي وقوله: { يكاد سنا برقه } أي يقرب لمعان البرق الذي هو سناه يذهب بالأبصار التي تنظر إليه أي يخطفها بشدة لمعانه.
وقوله تعالى { يقلب الله الليل والنهار } بأن يظهر هذا ويخفي هذا فإذا ظهر النهار اختفى الليل، وإذا ظهر الليل اختفى النهار فيقلب أحدهما على الآخر فيخفيه ويستره به وقوله: { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } أي إن في إنزال البرد ولمعان البرق وتقليب الليل والنهار لعظة عظيمة لأولي البصائر تهديهم إلى الإيمان بالله وجلاله وكماله فيعبدونه ويوحدونه محبين له معظمين راجعين خائفين إن هذه ثمرة الهداية هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى [43] والثانية [44] أما الآية [45] فقد اشتملت على أعظم مظهر من مظاهر القدرة الإلهية فقال تعالى: { والله خلق كل دآبة } أي من إنسان وحيوان { من مآء } أي نطفة من نطف الإنسان والحيوان، { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحيات والثعابين والأسماك، { ومنهم من يمشي على رجلين } كالإنسان والطير، { ومنهم من يمشي على أربع } كالأنعام والبهائم، وقوله: { يخلق الله ما يشآء } إذ بعض الحيوانات لها أكثر من أربع وقوله: { إن الله على كل شيء قدير } أي على فعل وإيجاد ما يريده قدير لا يعجزه شيء فأين الله الخالق العليم الحكيم من تلك الأصنام والأوثان التي يؤلهها الجاهلون من أهل الشرك والكفر؟
وقوله تعالى: { لقد أنزلنآ آيات مبينات } أي واضحات لأجل هداية العباد إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهي هذه الآيات التي اشتملت عليها سورة النور وغيرها من آيات القرآن الكريم فمن آمن بها ونظر فيها وأخذ بما تدعو إليه من الهدى اهتدى، ومن أعرض عنها فضل وشقى فلا يلومن إلا نفسه، { والله يهدي من يشآء } هدايته ممن رغب في الهداية وطلبها وسلك لها مسالكها { إلى صراط مستقيم } ألا وهو الإسلام طريق الكمال والسعادة في الحياتين الله اجعلنا من أهله إنك قدير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وهي موجبات الإيمان والتقوى.
2- بيان كيفية نزول المطر والبرد.
3- مظاهر لطف الله بعباده في صرف البرد عن الزرع والماشية وبعض عباده.
4- مظاهر القدرة والعلم في تقليب الليل والنهار على بعضهما بعضا.
5- بيان أصناف المخلوقات في مشيها على الأرض بعد خلقها من ماء وهو مظهر العلم والقدرة.
6- امتنان الله تعالى على العباد بإنزاله الآيات المبينات للهدى وطريق السعادة والكمال.
[24.47-52]
شرح الكلمات:
ويقولون: أي المنافقون.
آمنا بالله وبالرسول: أي صدقنا بتوحيد الله وبنبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يتول فريق منهم: أي يعرض.
إذا فريق منهم معرضون: أي عن المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
مذعنين: أي مسرعين منقادين مطيعين.
في قلوبهم مرض: أي كفر ونفاق وشرك.
أم ارتابوا: أي بل شكوا في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أن يحيف الله عليهم ورسوله: أي في الحكم فيظلموا فيه.
إنما كان قول المؤمنين: هو قولهم سمعنا وأطعنا أي سمعا وطاعة.
المفلحون: أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات:
بعد عرض تلك المظاهر لقدرة الله وعلمه وحكمته والموجبة للإيمان بالله ورسوله، وما عند الله من نعيم مقيم، وما لديه من عذاب مهين فاهتدى عليها من شاء الله هدايته وأعرض عنها من كتب الله شقاوته من المنافقين الذين أخبر تعالى عنهم بقوله: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا } أي صدقنا بالله ربا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا، وأطعناهما { ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك } أي من بعد تصريحهم بالإيمان والطاعة يقولون معرضين بقلوبهم عن الإيمان بالله وآياته ورسوله، { ومآ أولئك بالمؤمنين } فأكذبهم الله في دعوة إيمانهم هذا ما دلت عليه الآية الأولى [47] وقوله تعالى: { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم } أي في قضية من قضايا دنياهم، { إذا فريق منهم معرضون } أي فاجأك فريق منهم بالإعراض عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله: { وإن يكن لهم الحق } أي وإن يكن لهم في الخصومة التي بينهم وبين غيرهم { يأتوا إليه } أي إلى رسول الله { مذعنين } أي منقادين طائعين أي لعلمهم أن الرسول يقضي بينهم بالحق وسوف يأخذون حقهم وافيا وقوله تعالى: { أفي قلوبهم مرض } أي بل في قلوبهم مرض الكفر والنفاق { أم ارتابوا } أي بل ارتابوا أي شكوا في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } لا، لا، { بل أولئك هم الظالمون } ، ولما كانوا ظالمين يخافون حكم الله ورسوله فيهم لأنه عادل فيأخذ منهم ما ليس لهم ويعطيه لمن هو لهم من خصومهم وقوله تعالى: { إنما كان قول المؤمنين } أي الصادقين في إيمانهم { إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } أي لم يكن للمؤمنين الصادقين من قول يقولونه إذا دعوا إلى كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم إلا قولهم: سمعنا وأطعنا فيجيبون الدعوة ويسلمون بالحق قال تعالى في الثناء عليهم { وأولئك هم المفلحون } أي الناجحون في دنياهم وآخرتهم دون غيرهم من أهل النفاق. وقوله تعالى: في الآية الكريمة الأخيرة [52] { ومن يطع الله ورسوله } أي فيما يأمران به وينهيان عنه، { ويخش الله } أي يخافه في السر والعلن، { ويتقه } أي يتق مخالفته فلا يقصر في واجب ولا يغشى محرما، { فأولئك هم الفآئزون } فقصر الفوز عليهم أي هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة المنعمون في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم إنك ربنا وربهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة.
2- من دعي إلى الكتاب والسنة فأعرض فهو منافق معلوم النفاق.
3- اتخاذ قوانين وضعية للتحاكم إليها دون كتاب الله وسنة رسوله آية الكفر والنفاق.
4- فضل طاعة الله ورسوله وتقوى الله عز وجل وأن أهلها هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنان.
[24.53-55]
شرح الكلمات:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم: أي حلفوا بالله بالغين غاية الجهد في حلفهم.
لئن أمرتهم: أي بالخروج إلى الجهاد.
طاعة معروفة: أي طاعة معروفة للنبي فيما يأمركم وينهاكم خير من إقسامكم بالله.
فإن تولوا: أي فإن تتولوا أي تعرضوا عن الطاعة.
عليه ما حمل: أي من إبلاغ الرسالة وبيانها بالقول والعمل.
وعليكم ما حملتم: أي من وجوب قبول الشرع والعمل به عقيدة وعبادة وحكما.
وإن تطيعوه تهتدوا: أي وإن تطيعوا الرسول في أمره ونهيه وإرشاده تهتدوا إلى خيركم.
ليستخلفنهم: أي يجعلهم خلفاء لغيرهم فيها بأن يديل لهم من أهلها فيسودون فيها ويحكمون.
وليمكنن لهم دينهم: أي بأن يظهر الإسلام على سائر الأديان ويحفظه من الزوال.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أحوال المنافقين فأخبر تعالى عنهم بقوله: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } أي أقسموا للرسول صلى الله عليه وسلم مبالغين في ذلك حتى بلغوا غاية الجهد قائلين لئن أمرتنا بالخروج إلى الجهاد لنخرجن معكم. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم: { لا تقسموا } أي ما هناك حاجة إلى الحلف وتأكيده، وإنما هي طاعة منكم معروفة لنا تغنيكم عن الأيمان وقوله تعلى: { إن الله خبير بما تعملون } تأنيب لهم وتأديب حيث أخبرهم تعالى بأنه مطلع على أسرارهم وما يقولونه ويعملونه في الخفاء ضد الرسول والمؤمنين ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في كل ما يأمران به وينهيان عنه، { فإن تولوا } أي تعرضوا عن الطاعة وترفضوها، فإنما على الرسول ما حمل من البلاغ والبيان، وعليكم ما حملتم من وجوب الانقياد والطاعة، ومن أخل بواجبه الذي أنيط به فسوف يلقى جزاءه وافيا عند ربه وقوله تعالى: { وإن تطيعوه تهتدوا } هذه الجملة عظيمة الشأن جليلة القدر للمؤمن أن يحلف بالله ولا يحنث على أن من أطاع رسول الله في أمره ونهيه لن يضل أبدا ولن يشقى فالهداية إلى كل خير كامنة في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } أي ليس على الرسول هداية القلوب، وإنما عليه البلاغ المبين لا غير فلا تلحق الرسول تبعة من عصى فضل وهلك.
وقوله تعالى في الآية [55] { وعد الله الذين آمنوا منكم } أي صدقوا الله والرسول { وعملوا الصالحات } فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وعدهم بأن يستخلفهم في الأرض أي يجعلهم خلفاء حاكمين في أهلها سائدين سكانها استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم من بني إسرائيل حيث أجلى الكنعانيين والعمالقة من أرض القدس وورثها بني إسرائيل وقول: { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } وهو الإسلام فيظهره على الدين كله ويحفظه من التغيير والتبديل والزوال إلى قرب الساعة وقوله تعالى: { وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } إذ نزلت هذه الآية والمسلمون خائفون بالمدينة لا يقدر أحدهم أن ينام وسيفه بعيد عنه من شدة الخوف من الكافرين والمنافقين وتألب الأحزاب عليهم ولقد أنجز تعالى لهم ما وعدهم فاستخلفهم وأمكن لهم وبدلهم بعد خوفهم أمنا فلله الحمد والمنة.
وقوله: { يعبدونني لا يشركون بي شيئا } هذا ثناء عليهم، وتعليل لما وهبهم وأعطاهم يعبدونه لا يشركون به شيئا وقد فعلوا وما زال بقاياهم من الصالحين إلى اليوم يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئا اللهم اجعلنا منهم، وقوله تعالى: { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } وعيد وتهديد لمن كفر بعد ذلك الإنعام العظيم والعطاء الجزيل فأولئك هم الفاسقون عن أمر الله الخارجون عن طاعته المتسوجبون لعذاب الله ونقمته. عياذا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الإقسام بالله تعالى وحرمة الحلف بغيره تعالى.
2- عدم الثقة في المنافقين لخلوهم من موجب الصدق في القول والعمل وهو الإيمان.
3- طاعة رسول الله موجبة للهداية لما فيه من سعادة الدارين ومعصيته موجبة للضلال والخسران.
4- صدق وعد الله تعالى لأهل الإيمان وصالح الأعمال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- وجوب الشكر على النعم بعبادة الله تعالى وحده بما شرع من أنواع العبادات.
6- الوعيد الشديد لمن أنعم الله عليه بنعمة أمن ورخاء وسيادة وكرامة فكفر تلك النعم ولم يشكرها فعرضها للزوال.
[24.56-57]
شرح الكلمات:
وأقيموا الصلاة: أي أدوها أداءا كاملا تاما مراعين فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها حتى تثمر الزكاة والطهر في نفوسكم.
وآتوا الزكاة: أي المفروضة من المال الصامت كالذهب والفضة والحرث والناطق كالأنعام من إبل وبقر وغنم.
وأطيعوا الرسول: أي محمدا صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه والأخذ بإرشاده وتوجيهه.
لعلكم ترحمون: أي رجاء أن يرحمكم ربكم في دنياكم وآخرتكم فلا يعذبكم فيهما.
معجزين في الأرض: أي معجزين الله تعالى بحيث لا يدركهم ولا ينزل بهم نقمته وعذابه.
ولبئس المصير: أي النار إذ هي المأوى الذي يأوون إليه ويصيرون إليه.
معنى الآيتين:
يأمر تعالى عباده المؤمنين من أصحاب الرسول الكريم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وإرشاده وتوجيهه وذلك رجاء أن يرحموا في الدارين، ولا يعذبوا فيهما، وهذا وإن كان موجها ابتداء إلى أصحاب الرسول فإنه عام بعد ذلك فيشمل كل مؤمن ومؤمنة في الحياة وقوله { لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض } هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ينهاه ربه تعالى أن يظن أن الذين كفروا مهما كانت قوتهم سيفوتون الله تعالى ويهربون مما أراد بهم من خزي وعذاب، لا، لا بل سيخزيهم ويذلهم ويسلط عليهم، وقد فعل { ومأوهم النار } يوم القيامة { ولبئس المصير } نار جهنم يصيرون إليها.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للحصول على رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة في الدنيا بالنصر والتمكين والأمن والسيادة وفي الآخرة بدخول الجنة.
2- تقرير عجز الكافرين وأنهم لن يفوتوا الله تعالى مهما كانت قوتهم وسينزل بهم نقمته ويحل عليهم عذابه.
3- بيان مصير أهل الكفر وأنه النار والعياذ بالله تعالى.
[24.58-60]
شرح الكلمات:
ليسأذنكم: أي ليطلب الاذن منكم في الدخول عليكم.
ملكت أيمانكم: من عبيد وإماء.
لم يبلغوا الحلم منكم: أي سن التكليف وهو وقت الاحتلام خمسة عشر سنة فما فوق.
تضعون ثيابكم: أي وقت القيلولة للإستراحة والنوم.
ثلاث عورات لكم: العورة ما يتسحي من كشفه، وهذه الأوقات الثلاثة ينكشف فيها الإنسان في فراشه فكانت بذلك ثلاث عورات.
بعدهن: أي بعد الأوقات الثلاثة المذكورة.
طوافون عليكم: أي للخدمة.
بعضكم على بعض: أي بعضكم طائف على بعض.
فليستأذنوا: أي في جميع الأوقات لأنهم أصبحوا رجالا مكلفين.
والقواعد من النساء: أي اللاتي قعدن عن الحيض والولادة لكبر سنهن.
أن يضعن ثيابهن: كالجلباب والعباءة والقناع والخمار.
غير متبرجات بزينة: أي غير مظهرات زينة خفية كقلادة وسوار وخلخال.
وأن يستعففن خير لهن: بأن لا يضعن ثيابهن خير لهم من الأخذ بالرخصة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا } روي في نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب يدعوه له فوجده نائما في وقت الظهيرة فدق الباب ودخل فاستيقظ عمر فانكشف منه شيء فقال عندها عمر وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا في هذه الساعة إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت فخر ساجدا شكرا لله تعالى.
فقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا } هو نداء لكل المؤمنين في كل عصورهم وديارهم. وقوله { ليستأذنكم الذين ملكت أيمنكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم } أي علموا أطفالكم وخدمكم الاستئذان عليكم في هذه الأوقات الثلاثة وأمروهم بذلك. وقوله: { ثلاث مرات } هي المبينة في قوله: { من قبل صلوة الفجر } وهي ساعات النوم من الليل، { وحين تضعون ثيبكم من الظهيرة } وهي القيلولة، { ومن بعد صلوة العشآء } وهي بداية نوم الليل. وقوله: { ثلاث عورات لكم } أي هي منطقة انكشاف العورة فيها فاطلق عليها اسم العورة والعورة ما يستحي من كشفه وقوله: { ليس عليكم ولا عليهم } أي ولا على الأطفال والخدم { جناح بعدهن } أي بعد المرات الثلاث وقوله: { طوفون عليكم } أي يدخلون ويخرجون عليكم للخدمة. { بعضكم على بعض } أي بعضكم يدخل على بعض للخدمة فلا غنى عنه فلذا فلا حرج عليكم في غير الأوقات الثلاثة.
وقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم الأيت } أي كهذا التبيين الذي بين لكم حكم الاستئذان يبين الله لكم الآيات المتضمنة للشرائع والأحكام والآداب فله الحمد وله المنة وقوله: { والله عليم } أي بخلقه وما يحتاجون إليه في إكمالهم وإسعادهم { حكيم } فيما يشرع لهم ويفرض عليهم.
وقوله تعالى في الآية الثانية [59] { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } أي إذا بلغ الطفل سن الاحتلام وهو البلوغ واحتلم فعليه أن لا يدخل على غير محارمه إلا بعد الإستئذان كما يفعل ذلك الرجال من قبله إذ قد أصبح بالبلوغ الذي علامته الإحتلام أو بلوغ خمس عشرة سنة فأكثر أصبح رجلا تماما فعليه أن لا يدخل بيت أحد إلا بعد أن يستأذن هذا معنى قوله تعالى: { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } وهم الرجال وقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته } أي المتضمنة لأحكامه وشرائعه { والله عليم } بخلقه وما يصلح لهم { حكيم } في شرعه وهذه حال توجب طاعته تعالى فيما يأمر به وينهى عنه وقوله تعالى: { والقواعد من النسآء اللاتي لا يرجون نكاحا } أي والتي قعدت عن الحيض والولادة لكبر سنها بحيث أصبحت لا ترجو نكاحا ولا يرجى منها ذلك فهذه ليس عليها إثم ولا حرج في أن تضع خمارها من فوق رأسها، أو عباءتها من فوق ثيابها التي على جسمها حال كونها غير متبرجة أي مظهرة زينة لها كخضاب اليدين والأساور في المعصمين والخلاخل في الرجلين، أو أحمر الشفتين، وما إلى ذلك مما هو زينة يجب ستره وقوله تعالى: { وأن يستعففن خير لهن } أي ومن لازمت خمارها وعجارها ولم تظهر للأجانب كاشفة وجهها ومحاسنها خير هلا حالا ومآلا، وحسبها ان يختار الله لها فما اختاره لها لن يكون إلا خيرا في الدنيا والآخرة فعلى المؤمنات أن يخترن ما اختار الله لهن.
وقوله: { والله سميع عليم } أي سميع لأقوال عباده عليم بأعمالهم وأحوالهم فليتق فيطاع ولا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب تعليم الآباء والسادة والأطفال والخدم الإستئذان عليهم في الأوقات الثلاثة المذكورة والمعبر عنها بالعورات.
2- وجوب استئذان الأولاد إذا احتلموا الاستئذان على من يريدون الدخول عليه في بيته لأنهم أصبحوا رجالا مكلفين.
3- بيان رخصة كشف الوجه لمن بلغت سنا لا تحيض فيها ولا تلد للرجال الأجانب ولو أبقت على سترها واحتجابها لكان خيرا لها كما قال تعالى: { وأن يستعففن خير لهن }.
[24.61]
شرح الكلمات:
الحرج: الضيق والمراد به هنا الإثم أي لا إثم على المذكورين في مؤاكلة غيرهم.
أو ما ملكتم مفاتحه: أي مما هو تحت تصرفكم بالأصالة أو بالوكالة كوكالة على بستان أو ماشية.
أو صديقكم: أي من صدقكم الود وصدقتموه.
جميعا أو أشتاتا: أي مجتمعين على الطعام أو متفرقين.
من عند الله: لأنه هو الذي شرعها وأمر بها، وما كان من عند الله فهو خير عظيم.
طيبة: أي تطيب بها نفس المسلم عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في هداية المؤمنين وبيان ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية الكريمة. رفع تعالى عنهم حرجا عظيما كانوا قد شعروا به فآلمهم وهو أنهم قد رأوا أن الأكل مع ذوي العاهات وهم العميان والعرجان والمرضى وأهل الزمانة قد يترتب عليه أن يأكلوا ما لا يحل لهم أكله لأن أصحاب هذه العاهات لا يأكلون كما يأكل الأصحاء كما وكيفا والله يقول:
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
[البقرة: 188] كما أن أصحاب العاهات قد تحرجوا أيضا من مؤاكلة الأصحاء معهم خوفا أن يكونوا يتقذرونهم فآلمهم ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فرفع الحرج عن الجميع الأصحاء وأصحاب العاهات فقال تعالى: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت ءابآئكم أو بيوت أمهتكم أو بيوت إخونكم أو بيوت أخوتكم أو بيوت أعممكم أو بيوت عمتكم أو بيوت أخولكم أو بيوت خلتكم أو ما ملكتم مفاتحه } بوكالة وغيرها، { أو صديقكم } وهو من صدقكم المودة وصدقتموه فيها ما دام الرضا حاصلا، وإن لم يحضروا ولا استئذان وإن حضروا.
ورفع تعالى عنهم حرجا آخر وهو أن منهم من كان يتحرج في الأكل وحده، ويرى أنه لا يأكل إلا مع غيره وقد يوجد من يتحرج أيضا في الأكل الجماعي خشية أن يؤذي الآكل معه فرفع تعالى ذلك كله بقوله: { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا } أي مجتمعين على قطعة واحدة { أو أشتاتا } أي متفرقين كل يأكل وحده متى بدا له ذلك وهذا كله ناجم عن تقواهم لله تعالى وخوفهم من معاصيه إذ قد حرم عليهم أكل أموالهم بينهم بالباطل في قوله:
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
[البقرة: 188].
وقوله تعالى: { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } فأرشدهم إلى ما يجلب محبتهم وصفاء نفوسهم ويدخل السرور عليهم وهو أن من دخل بيتا من البيوت بيته كان أو بيت غيره عليه أن يسلم على أهل البيت قائلا السلام عليكم، وإن كان البيت ما به أحد أو كان مسجدا قال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقوله: { تحية من عند الله } إذ هو تعالى الذي أمر بها وأرشد إليها وقوله { مبركة } أي ذات بركة تعود على الجميع وكونها طيبة أن نفوس المسلم عليهم تطيب بها.
وقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم الأيت لعلكم تعقلون } أي كذلك البيان الذي بين لكم من الأحكام والآداب يبين الله لكم الآيات الحاملة للشرائع والأحكام رجاء أن تفهموا عن الله تعالى شرائعه وأحكامه فتعملوا بها فتكملوا وتسعدوا عليها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الإذن العام في الأكل مع ذوي العاهات بلا تحرج من الفريقين.
2- الإذن في الأكل من بيوت من ذكر في الآية من الأقارب والأصدقاء.
3- جواز الأكل الجماعي والإنفرادي بلا تحرج .
4- مشروعية التحية عند الدخول على البيوت وأن فيها خيرا وفضلا.
[24.62-64]
شرح الكلمات:
أمر جامع: كخطبة الجمعة ونحوها مما يجب حضوره كاجتماع لأمر هام كحرب ونحوها.
يستأذنوه: أي يطلبوا منه صلى الله عليه وسلم الإذن.
لبعض شأنهم: أي لبعض أمورهم الخاصة بهم.
دعاء الرسول: أي نداءه فلا ينادي بيا محمد ولكن بيا نبي الله ورسول الله.
كدعاء بعضكم بعضا: أي كما ينادي بعضكم بعضا بيا عمر ويا سعيد مثلا.
يتسللون منكم لواذا: أي ينسلون واحدا بعد واحد يستر بعضهم بعضا حتى يخرجوا خفية.
أن تصيبهم فتنة: أي زيغ في قلوبهم فيكفروا.
قد يعلم ما أنتم عليه: أي من الإيمان والنفاق، وإرادة الخير أو إرادة الشر، وقد هنا للتأكيد عوملت معاملة رب إذ هي للتقليل وتكون للتكثير أحيانا.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن المؤمنين الكاملين في إيمانهم هم الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا معه صلى الله عليه وسلم في أمر جامع يتطلب حضورهم كالجمعة واجتماعات الحروب، لم يذهبوا حتى يستأذنوه صلى الله عليه وسلم ويأذن لهم هذا معنى قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه }.
وقوله تعالى: { إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم } في هذا تعليم للرسول والمؤمنين وتعريض بالمنافقين. فقد أخبر تعالى أن الذين يستأذنون النبي هم المؤمنون بالله ورسوله، ومقابله أن الذين لا يستأذنون ويخرجون بدون إذن هم لا يؤمنون بالله ورسوله وهم المنافقون حقا، وأمر رسول الله إذا استأذنه المؤمنون لبعض شأنهم أن يأذن لمن شاء منهم ممن لا أهمية لحضوره كما أمره أن يستغفر الله لهم لما قد يكون غير عذر شرعي يبيح لهم الاستئذان وطمعهم في المغفرة بقوله إن الله غفور رحيم.
وقوله تعالى: { لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا } هذا يحتمل أمورا كلها حق الأول أن يحاذر المؤمنون إغضاب رسول الله بمخالفته فإنه إن دعا عليهم هلكوا لأن دعاء الرسول لا يرد فليس هو كدعاء غيره، والثاني أن لا يدعوا الرسول باسمه يا محمد ويا أحمد بل عليهم أن يقولوا يا نبي الله ويا رسول الله، والثالث أن لا يغلظوا في العبارة بل عليهم أن يلينوا اللفظ ويرققوا العبارة إكبارا وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ما تضمنه قوله تعالى: { لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا }.
وقوله: { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا } أعلمهم تعالى أنه يعلم قطعا أولئك المنافقين الذين يكونون في أمر جامع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتسللون واحدا بعد آخر بدون أن يستأذنوا متلاوذين في هروبهم من المجلس يستر بعضهم بعضا، وفي هذا تهديد بالغ الخطورة لأولئك المنافقين.
وقوله: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } أي أمر رسول الله وهذا عام للمؤمنين والمنافقين وإلى يوم القيامة فليحذروا أن تصيبهم فتنة وهي زيغ في قلوبهم فيموتوا كافرين، أو يصيبهم عذاب أليم في الدنيا والعذاب ألوان وصنوف.
وقوله تعالى: { ألا إن لله ما في السموت والأرض } أي خلقا وملكا وعبيدا يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد ألا فليتق الله عز وجل في رسول فلا يخالف أمره ولا يعصي في نهيه فإن الله لم يرسل رسولا إلا ليطاع بإذنه.
وقوله تعالى: { قد يعلم مآ أنتم عليه } إخبار يحمل التهديد والوعيد أيضا فما عليه الناس من أقوال ظاهرة وباطنة معلومة لله تعالى، ويوم يرجعون إلى الله بعد موتهم فينبئهم بما عملوا من خير وشر ويجزيهم به الجزاء الأوفى، { والله بكل شيء عليم } فليحذر أن يخالف رسوله أو يعصي وليتق في أمره ونهيه فإن نقمته صعبة وعذابه شديد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الاستئذان من إمام المسلمين إذا كان الأمر جامعا، وللإمام أن يأذن لمن شاء ويترك من يشاء حسب المصلحة العامة.
2- وجوب تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرمة إساءة الأدب معه حيا وميتا.
3- وجوب طاعة رسول الله وحرمة مخالفة أمره ونهيه .
4- المتجرىء على الاستهانة بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله.
[25 - سورة الفرقان]
[25.1-3]
شرح الكلمات:
تبارك: أي تكاثرت بركته وعمت الخلائق كلها.
الذي نزل الفرقان: أي الله الذي نزل القرآن فارقا بين الحق والباطل.
على عبده: أي محمد صلى الله عليه وسلم.
ليكون للعالمين نذيرا: أي ليكون محمد صلى الله عليه وسلم نذيرا للعالمين من الإنس والجن أي مخوفا لهم من عقاب الله وعذابه إن كفروا به ولم يعبدوه ويوحدوه.
فقدره تقديرا: أي سواه تسوية قائمة على أساس لا اعوجاج فيه ولا زيادة ولا نقص عما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
ضرا ولا نفعا: أي لا دفع ضر ولا جلب نفع.
موتا ولا حياة ولا نشورا: أي لا يقدرون على إماتة أحد ولا إحيائه ولا بعثا للأموات.
معنى الآيات:
يثني الرب تبارك وتعالى على نفسه بأنه عظم خيره وعمت بركته المخلوقات كلها الذي نزل الفرقان الكتاب العظيم الذي فرق به بين الحق والباطل والتوحيد والشرك والعدل والظلم أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليكون للعالمين الإنس والجن نذيرا ينذرهم عواقب الكفر والشرك والظلم والشر والفساد وهي عقاب الله وعذابه في الدنيا والآخرة وقوله: { الذي له ملك السموت والأرض } خلقا وملكا وعبيدا وهو ثناء بعد ثناء وقوله: { ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا } وهو ثناء آخر عظيم أثنى تبارك وتعالى فيه على نفسه بالملك والقدرة والخلق والعلم والحكمة وقوله: { واتخذوا من دونه آلهة } أصناما { لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم } فضلا عن غيرهم من عابديهم { ضرا ولا نفعا } أي دفع ضر ولا جلب نفع، ولا يملكون موتا لأحد ولا حياة لآخر ولا نشورا للناس يوم القيامة. أليس هذا موضع تعجب واستغراب أمع الله الذي عمت بركته الأكوان وأنزل الفرقان ملك ما في السماوات والأرض تنزه عن الولد والشريك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وخلق كل شيء فقدره تقديرا يتخذون من دونه آلهة أصناما لا تدفع عن نفسها ضرا ولا تجلب لها نفعا ولا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا فسبحان الله أين يذهب بعقول الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر ربوبية الله تعالى الموجبة لألوهيته وهو إفاضة الخير على الخلق والملك والقدرة والعلم والحكمة.
2- التنديد بالشرك والمشركين.
3- تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.
[25.4-9]
شرح الكلمات:
إفك افتراه: أي ما القرآن إلا كذبا افتراه محمد وليس هو بكلام الله تعالى هكذا قالوا.
ظلما وزورا: أي فرد الله عليهم قولهم بقوله فقد جاءوا ظلما حيث جعلوا الكلام المعجز الهادي إلى الإسعاد والكمال البشري إفكا مختلقا وزورا بنسبة ما هو بريء منه إليه.
اكتتبها: أي طلب كتابتها له فكتبت له.
يعلم السر: أي ما يسره أهل السماء والأرض وما يخفونه في نفوسهم.
أو يلقى إليه كنز: أي من السماء فينفق منه ولا يحتاج معه إلى الضرب في الأسواق.
جنة يأكل منها: بستان فيه ما يغنيه من أنواع الحبوب والثمار.
رجلا مسحورا: مخدوعا مغلوبا على عقله.
ضربوا لك الأمثال: أي بالسحر والجنون والشعر والكهانة والكذب وما إلى ذلك.
فضلوا فلا يستطيعون سبيلا: فضلوا الطريق الحق وهو أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فلا يهتدون.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن أولئك المشركين الحمقى الذين اتخذوا من دون الله رب العالمين آلهة أصناما لا تضر ولا تنفع أنهم زيادة على سفههم في اتخاذ الأحجار آلهة يعبدونها قالوا في القرآن الكريم والفرقان العظيم ما هو إلا إفك أي كذب اختلقه محمد وأعانه عليه قوم آخرون يعنون اليهود ساعدوه على الإتيان بالقرآن. فقد جاءوا بهذا القول الكذب الممقوت ظلما وزورا ظلما لأنهم جعلوا القرآن المعجز الحامل للهدى والنور جعلوه كذبا وجعلوا البريء من الكذب والذي لم يكذب قط كاذبا فكان قولهم فيه زورا وباطلا. وقوله تعالى: { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } هذه الآية نزلت ردا على شيطان قريش النضر بن الحارث إذ كان يأتي الحيرة ويتعلم أخبار ملوك فارس ورستم. وإذا حدث محمد صلى الله عليه وسلم قومه محذرا إياهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم فإذا قام صلى الله عليه وسلم من المجلس جاء هو فجلس وقال تعالوا أقص عليكم إني أحسن حديثا من محمد، ويقول إن ما يقوله محمد هو من أكاذيب القصاص وأساطيرهم التي سطروها في كتبهم فهو يحدث بها وهي تملى عليه أي يمليها عليه غيره صباحا ومساءا فرد تعالى هذه الفرية بقوله لرسوله: { قل أنزله } أي القرآن { الذي يعلم السر في السماوات والأرض } أي سر ما يسره أهل السماوات وأهل الأرض فهو علام الغيب المطلع على الضمائر العالم بالسرائر، ولولا أن رحمته سبقت غضبه لأهلك من كفر به وأشرك به سواه { إنه كان غفورا رحيما } يستر زلات من تاب إليه ويرحمه مهما كانت ذنوبه.
وقوله تعالى: { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } هذه كلمات رؤوساء قريش وزعمائها لما عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك دعوته إلى ربه مقابل ما يشاء من ملك أو مال أو نساء أو جاه فرفض كل ذلك فقالوا له إذا فخذ لنفسك لماذا وأنت رسول الله تأكل الطعام وتمشي في الأسواق تطلب العيش مثلنا فسل ربك ينزل إليك ملكا فيكون معك نذيرا أو يلقي إليك بكنز من ذهب وفضة تعيش بهما أغنى الناس، أو يجعل لك جنة من نخيل وعنب، أو يجعل لك قصورا من ذهب تتميز بها عن الناس وتمتاز فيعرف قدرك وتسود قومك وقوله تعالى: { وقال الظالمون } أي للمؤمنين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أي أنكم باتباعكم محمدا فيما جاء به ويدعو إليه ما تتبعون إلا رجلا مسحورا، أي مخدوعا مغلوبا على عقله لا يدري ما يقول ولا ما يفعل أي فاتركوه ولا تفارقوا ما عليه آباؤكم وقومكم.
وقوله تعالى: { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } أي انظر يا رسولنا إلى هؤلاء المشركين المفتونين كيف شبهوا لك الأشباه وضربوا لك الأمثال الباطلة فقالوا فيك مرة هو ساحر، وشاعر وكاهن ومجنون فضاعوا في هذه التخرصات وضلوا طريق الحق فلا يرجى لهم هداية بعد، وذلك لبعد ضلالهم فلا يقدرون على الرجوع إلى الحق وهو معنى قوله: { فلا يستطيعون سبيلا }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما قابل به المشركون دعوة التوحيد من جلب كل قول وباطل ليصدوا عن سبيل الله وما زال هذا دأب المشركين إزاء دعوة التوحيد إلى اليوم وإلى يوم القيامة.
2- تقرير الوحي الإلهي والنبوة المحمدية.
3- بيان حيرة المشركين إزاء دعوة الحق وضربهم الأمثال الواهية الرخيصة للصد عن سبيل الله، وقد باءت كل محاولاتهم بالفشل والخيبة المرة.
[25.10-16]
شرح الكلمات:
تبارك: أي تقدس وكثر خيره وعمت بركته.
خيرا من ذلك: أي الذي اقترحه المشركون عليك.
ويجعل لك قصورا: أي كثيرة لا قصرا واحدا كما قال المشركون.
بل كذبوا بالساعة: أي لم يكن المانع لهم من الإيمان كونك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق بل تكذيبهم بالبعث والجزاء هو السبب في ذلك.
تغيظا وزفيرا: أي صوتا مزعجا من تغيظها على أصحابها المشركين بالله الكافرين به.
مقرنين: أي مقرونة أيديهم مع أعناقهم في الأصفاد.
دعوا هنالك ثبورا: أي نادوا يا ثبورنا أي يا هلاكنا إذ الثبور الهلاك.
كانت لهم جزاء ومصيرا: أي ثوابا على إيمانهم وتقواهم، ومصيرا صاروا إليها لا يفارقونها.
وعدا مسؤلا: أي مطالبا به إذ المؤمنون يطالبون به قائلين ربنا وآتنا ما وعدتنا والملائكة تقول ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على مقترحات المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قالوا لولا أنزل إليه ملك، أو يلقى إليه كنز وتكون له جنة يأكل منها فقال تعالى: لرسوله صلى الله عليه وسلم: { تبارك الذي إن شآء جعل لك خيرا من ذلك } أي الذي اقترحوه وقالوا خذ لنفسك من ربك بعد أن رفضت طلبهم بترك دعوتك والتخلي عن رسالتك { جنات تجري من تحتها الأنهار } أي من خلال أشجارها وقصورها، { ويجعل لك قصورا } لا قصرا واحدا كما قالوا، ولكنه لم يشأ ذلك لك من هذه الدار لأنها دار عمل ليست دار جزاء وراحة ونعيم فربك قادر على أن يجعل لك ذلك ولكنه لم يشأه والخير فيما يشاءه فاصبر فإن المشركين لم يكن المانع لهم من الإيمان هو كونك بشرا تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، أو أن الله تعالى لم ينزل إليك ملكا بل المانع هو تكذيبهم بالساعة فعلة كفرهم وعنادهم هي عدم إيمانهم بالبعث والجزاء فلو آمنوا بالحياة الثانية لطلبوا كل سبب ينجي من عذابها ويحصل نعيمها { بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة } أي القيامة { سعيرا } أي نارا مستعرة أو هي دركة من دركات النار تسمى سعيرا.
وقوله تعالى: { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا } هذا وصف للسعير وهو أنها إذا رأت أهلها من ذوي الشرك والظلم والفساد من مكان بعيد تغيظت عليهم تغيظا وزفرت زفيرا مزعجا فيسمعونه فترتعد له فرائصهم، { وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين } مشدودة أيديهم إلى أعناقهم بالأصفاد { دعوا هنالك } أي نادوا بأعلى أصواتهم يا ثبوراه أي يا هلاكاه أحضر فهذا وقت حضورك: فيقال لهم: خزيا وتبكيتا وتحسيرا: { لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا } ، فهذا أوآن هلاككم وخزيكم وعذابكم وهنا يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { قل } لأولئك المشركين المكذبين بالبعث والجزاء: { أذلك } أي المذكور من السعير والإلقاء فيها مقرونة الأيدي بالأعناق وهم يصرخون يدعون بالهلاك { خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون } أي التي وعد الله تعالى بها عباده الذين اتقوا عذابه بالإيمان به وبرسوله وبطاعة الله ورسوله قطعا جنة الخلد خير ولا مناسبة بينها وبين السعير، وإنما هو التذكير لا غير وقوله: { كانت لهم } أي جنة الخلد كانت لأهل الإيمان والتقوى { جزآء } أي ثوابا، { ومصيرا } يصيرون إليه لا يفارقونه وقوله تعالى: { لهم فيها ما يشآءون } أي فيها من أنواع المطاعم والمشارب والملابس والمساكن وقوله: { خالدين } أي فيها لا يموتون ولا يخرجون، وقوله: { كان على ربك وعدا مسئولا } أي تفضل ربك أيها الرسول بها فوعد بها عباده المتقين وعدا يسألونه إياه فينجزه لهم فهم يقولون:
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك
[آل عمران: 194]، والملائكة تقول
ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبآئهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم
[غافر: 8].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن مرد كفر الكافرين وظلم الظالمين وفساد المفسدين إلى تكذيبهم بالبعث والجزاء في الدار الآخرة فإن من آمن بالبعث الآخر سارع إلى الطاعة والاستقامة.
2- تقرير عقيدة البعث الآخر بوصف بعض ما يتم فيه من الجزاء بالنار والجنة.
3- فضل التقوى وأنها ملاك الأمر فمن آمن واتقى فقد استوجب الدرجات العلى جعلنا الله تعالى من أهل التقوى والدرجات العلى.
[25.17-20]
شرح الكلمات:
يحشرهم: أي يجمعهم.
وما يعبدون من دون الله: من الملائكة والأنبياء والأولياء والجن.
أم هم ضلوا السبيل: أي طريق الحق بأنفسهم بدون دعوتكم إياهم إلى ذلك.
سبحانك: أي تنزيها لك عما لا يليق بجلالك وكمالك.
ولكن متعتهم: أي بأن أطلت أعمارهم ووسعت عليهم أرزاقهم.
وكانوا قوما بورا: أي هلكى، إذ البوار الهلاك.
ومن يظلم منكم: أي ومن يشرك منكم أيها الناس.
وجعلنا بعضكم لبعض فتنة: أي بلية فالغني مبتلى بالفقير، والصحيح بالمريض، والشريف بالوضيع فالفقير يقول ما لي لا أكون كالغني والمريض يقول مالي لا أكون كالصحيح، والوضيع يقول ما لي لا أكون كالشريف مثلا.
أتصبرون: أي اصبروا على ما تسمعون ممن ابتليتم بهم، إذ الاستفهام للأمر هنا.
وكان ربك بصيرا: أي بمن يصبر وبمن يجزع ولا يصبر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مظاهر لها في القيامة إذ إنكار هذه العقيدة هو سبب كل شر وفساد في الأرض فقوله تعالى: { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله } أي اذكر يا رسولنا يوم يحشر الله المشركين وما كانوا يعبدونهم من دوننا كالملائكة والمسيح والأولياء والجن . { فيقول } لمن كانوا يعبدونهم { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل }؟ أي ما أضللتموهم ولكنهم ضلوا طريق الحق بأنفسهم فلم يهتدوا إلى عبادتي وحدي دون سواي، فيقول المعبودون { سبحانك } أي تنزيها لك وتقديسا عن كل ما لا يليق بجلالك وكمالك { ما كان ينبغي لنآ أن نتخذ من دونك من أوليآء } أي لا يصح منا اتخاذ أولياء من دونك فندعو عبادك إلى عبادتهم فنضلهم بذلك، { ولكن متعتهم } يا ربنا { وآبآءهم } من قبلهم بطول الأعمار وسعة الأرزاق فانغمسوا في الشهوات والملاذ { حتى نسوا الذكر } أي نسوا ذكرك وعبادتك وما جاءتهم به رسلك فكانوا بذلك قوما بورا أي هلكى خاسرين.
وقوله تعالى: { فقد كذبوكم بما تقولون } يقول تعالى للمشركين فقد كذبكم من كنتم تشركون به، فقامت الحجة عليكم فأنتم الآن لا تستطيعون صرفا للعذاب عنكم ولا نصرا أي ولا تجدون من ينصركم فيمنع العذاب عنكم.
وقوله تعالى: { ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا } هذا خطاب عام لسائر الناس يقول تعالى للناس ومن يشرك منكم بي أي يعبد غيري نذقه أي يوم القيامة عذابا كبيرا وقوله تعالى: { ومآ أرسلنا قبلك } أي يا رسولنا { من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } إذا فلا تهتم بقول المشركين
مال هذا الرسول يأكل الطعام
[الفرقان: 7] ولا تحفل به فإنهم يعرفون ذلك ولكنهم يكابرون ويجاحدون.
وقوله تعالى: { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } أي هذه سنتنا في خلقنا نبتلي بعضهم ببعض فنبتلي المؤمن بالكافر والغني بالفقير والصحيح بالمريض والشريف بالوضيع، وننظر من يصبر ومن يجزع ونجزي الصابرين بما يستحقون والجزعين كذلك.
وقوله تعالى: { أتصبرون } هذا الاستفهام معناه الأمر أي اصبروا إذا ولا تجزعوا أيها المؤمنون من أذى المشركين والكافرين لكم. وقوله تعالى: { وكان ربك بصيرا } أي وكان ربك أيها الرسول بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع فاصبر ولا تجزع فإنها دار الفتنة والامتحان وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- يالهول الموقف إذا سئل المعبودون عمن عبدوهم، والمظلومون عمن ظلموهم.
3- براءة الملائكة والأنبياء والأولياء من عبادة من عبدوهم.
4- خطورة طول العمر وسعة الرزق إذ غالبا ما ينسى العبد بهما ربه ولقاءه.
5- تقرير أن الدنيا دار ابتلاء فعلى أولى الحزم أن يعرفوا هذا ويخلصوا منها بالصبر والتحمل في ذات الله حتى يخرجوا منها ولو كفافا لا لهم ولا عليهم.
[25.21-24]
شرح الكلمات:
لا يرجون لقاءنا: أي المكذبون بالبعث إذ لقاء العبد ربه يكون يوم القيامة.
لولا أنزل علينا الملائكة: أي هلا أنزلت علينا ملائكة تشهد لك بأنك رسول الله.
أو نرى ربنا: أي فيخبرنا بأنك رسول وأن علينا أن نؤمن بك.
استكبروا في أنفسهم: أي في شأن أنفسهم ورأوا أنهم أكبر شيء وأعظمه غرورا منهم.
وعتو عتوا كبيرا: أي طغوا طغيانا كبيرا حتى طالبوا بنزول الملائكة ورؤية الرب تعالى.
ويقولون حجرا محجورا: أي تقول لهم الملائكة حراما محرما عليكم البشرى.
وقدمنا إلى ما عملوا: أي عمدنا إلى أعمالهم الفاسدة التي لم تكن على علم وإخلاص.
هباء منثورا: الهباء ما يرى من غبار في شعاع الشمس الداخل من الكوى.
وأحسن مقيلا: المقيل مكان الاستراحة في نصف النهار في أيام الحر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أقوال المشركين من قريش فقال تعالى { وقال الذين لا يرجون لقآءنا } وهم المكذبون بالبعث المنكرون للحياة الثانية بكل ما فيها من نعيم وعذاب { لولا أنزل علينا الملائكة } أي هلا أنزل الله علينا الملائكة تشهد لمحمد بالنبوة { أو نرى ربنا } فيخبرنا بأن محمدا رسوله وأن علينا أن نؤمن به وبما جاء به ودعا إليه. قال تعالى { لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا } أي وعزتنا وجلالنا لقد استكبر هؤلاء المشركون المكذبون بالبعث في شأن أنفسهم ورأوا أنهم شيء كبير وعتوا أي طغوا طغيانا كبيرا في قولهم هذا الذي لا داعي إليه إلا الشعور بالكبر، والطغيان النفسي الكبير، وقوله { يوم يرون الملائكة } أي الذين يطالبون بنزولهم عليهم، وذلك يوم القيامة. لا بشرى يومئذ للمجرمين أي الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والظلم الفساد: { ويقولون } أي وتقول لهم الملائكة { حجرا محجورا } أي حراما محرما عليكم البشرى بل هي للمؤمنين المتقين.
وقوله تعالى: { وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا } أي وعمدنا إلى أعمالهم التي لم تقم على مبدأ الإيمان والإخلاص والموافقة للشرع فصيرناها هباء منثورا كالغبار الذي يرى في ضوء الشمس الداخل مع كوة أو نافذة لا يقبض باليد ولا يلمس بالأصابع لدقته وتفرقه فكذلك أعمالهم لا ينتفعون منها بشيء لبطلانها وعدم الاعتراف بها.
وقوله تعالى: { أصحاب الجنة } أي أهلها الذين تأهلوا لها بالإيمان والتقوى يومئذ أي يوم القيامة الذي كذب به المكذبون خير مستقرا أي مكان استقرار وإقامة وأحسن مقيلا أي مكان استراحة من العناء في نصف النهار أي خير وأحسن من أهل النار المشركين المكذبين وفي هذا التعبير إشارة إلى أن الحساب قد ينقضي في نصف يوم الحساب وذلك أن الله سريع الحساب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان عليه غلاة المشركين من قريش من كبر وعتو وطغيان.
2- إثبات رؤية الملائكة عند قبض الروح، ويوم القيامة.
3- نفي البشرى عن المجرمين وإثباتها للمؤمنين المتقين.
4- حبوط عمل المشركين وبطلانه حيث لا ينتفعون بشيء منه البتة.
5- انتهاء حساب المؤمنين قبل نصف يوم الحساب الذي مقداره خمسون ألف سنة.
[25.25-29]
شرح الكلمات:
بالغمام: أي عن الغمام وهو سحاب أبيض رقيق كالذي كان لبني إسرائيل في التيه.
الملك: أي الملك الحق لله ولم يبق لملوك الأرض ومالكيها ملك في شيء ولا لشيء.
على الكافرين عسيرا: أي صعبا شديدا.
يعض الظالم على يديه: أي ندما وأسفا على ما فرط في جنب الله.
سبيلا: أي طريقا إلى النجاة بالإيمان والطاعة.
لم أتخذ فلانا خليلا: أي أبي بن خلف خليلا صديقا ودودا.
لقد أضلني عن الذكر: أي عن القرآن وما يدعو إليه من الإيمان والتوحيد والعمل الصالح.
وكان الشيطان: شيطان الجن وشيطان الإنس معا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض مظاهر القيامة وبيان أحوال المكذبين بها فقال تعالى { ويوم } أي اذكر { ويوم تشقق السمآء بالغمام } أي عن الغمام ونزل الملائكة تنزيلا وذلك لمجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، وقوله تعالى { الملك يومئذ الحق } أي الثابت للرحمن عز وجل لا لغيره من ملوك الدنيا ومالكيها، وكان ذلك اليوم يوما على الكافرين عسيرا لا يطاق ولا يحتمل ما فيه من العذاب والأهوال وقوله { ويوم يعض الظالم على يديه } أي المشرك الكافر بيان لعسر اليوم وشدته حيث يعض الظالم على يديه تندما وتحسرا وأسفا على تفريطه في الدنيا في الإيمان وصالح الأعمال... يقول يا ليتني أي متمنيا: { اتخذت مع الرسول سبيلا } أي طريقا إلى النجاة من هول هذا اليوم وذلك بالإيمان والتقوى. وينادي مرة أخرى قائلا { يويلتى } أي يا هلكتي احضري فهذا وقت حضورك، ويتمنى مرة أخرى فيقول { ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } وهو شيطان من الإنس أو الجن كان قد صافاه ووالاه في الدنيا فغرر به وأضله عن الهدى. فقال في تحسر { لقد أضلني عن الذكر } أي القرآن بعد إذ جاءني من ربي بواسطة الرسول وفيه هداي وبه هدايتي، قال تعالى: { وكان الشيطان للإنسان خذولا } أي يورطه ثم يتخلى عنه ويتركه في غير موضع وموطن.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر البعث والجزاء وبذكر أحوالها وبعض أهوالها.
2- إثبات مجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء يوم القيامة.
3- تندم الظلمة وتحسرهم على ما فاتهم من الإيمان والطاعة لله ورسوله.
4- بيان سوء عاقبة موالاة شياطين الإنس والجن وطاعتهم في معصية الله ورسوله.
5- تقرير مبدأ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إذ عقبة بن أبي معيط هو الذي أطاع أبي بن خلف حيث آمن، ثم لامه أبي بن خلف فارتد عن الإسلام فهو المتندم المتحسر القائل { يويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر... }.
[25.30-34]
شرح الكلمات:
مهجورا: أي شيئا متروكا لا يلفت إليه.
هاديا ونصيرا: أي هاديا لك إلى طريق الفوز والنجاح وناصرا لك على كل أعدائك.
جملة واحدة: أي كما نزلت التوراة والإنجيل والزبور دفعة واحدة فلا تجزئه ولا تفريق.
لنثبت به فؤادك: أي نقوي قلبك لتتحمل أعباء الرسالة وإبلاغها.
ورتلناه ترتيلا: أي أنزلناه شيئا فشيئا آيات بعد آيات وسورة بعد أخرى ليتيسر فهمه وحفظه.
شر مكانا: أي ينزلونه وهو جهنم والعياذ بالله منها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض أحوال البعث الآخر الذي أنكره المشركون وكذبوا فقال تعالى { وقال الرسول يرب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } هذه شكوى الرسول صلى الله عليه وسلم بقومه إلى ربه ليأخذهم بذلك. وهجرهم للقرآن تركهم سماعه وتفهمه والعمل بما فيه.
وقوله تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } أي وكما جعلنا لك أيها الرسول أعداء لك من مجرمي قومك جعلنا لكل نبي قبلك عدوا من مجرمي قومه، إذا فاصبر وتحمل حتى تبلغ رسالتك وتؤدي أمانتك، والله هاديك إلى سبيل نجاحك وناصرك على أعدائك. وهذا معنى قوله تعالى { وكفى بربك هاديا ونصيرا }. وقوله تعالى: { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } أي وقال المكذبون بالبعث المنكرون للنبوة المحمدية المشركون بالله آلهة من الأصنام هلا نزل عليه القرآن مرة واحدة مع بعضه بعضا لا مفرقا آيات وسورا أي كما نزلت التوراة جملة واحدة والإنجيل والزبور وهذا من باب التعنت منهم والاقتراحات التي لا معنى لها إذ هذا ليس من شأنهم ولا مما يحق لهم الخوض فيه، ولكنه الكفر والعناد. ولما كان هذا مما قد يؤلم الرسول صلى الله عليه وسلم رد تعالى عليهم بقوله { كذلك } أي أنزلناه كذلك منجما ومفرقا لحكمة عالية وهي تقوية قلبك وتثبيته لأنه كالغيث كلما أنزل أحيا موات الأرض وازدهرت به ونزوله مرة بعد مرة أنفع من نزول المطر دفعة واحدة. وقوله تعالى: { ورتلناه ترتيلا } أي أنزله مرتلا أي شيئا فشيئا ليتيسر حفظه وفهمه والعمل به.
وقوله تعالى: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } هذا بيان الحكمة في نزول القرآن مفرقا لا جملة واحدة وهو أنهم كلما جاءوا بمثل أو عرض شبهة ينزل القرآن الكريم بإبطال دعواهم وتفنيد كذبهم، وإلغاء شبهتهم، وإحقاق الحق في ذلك وبأحسن تفسير لما اشتبه عليهم واضطربت نفوسهم فيه وقوله تعالى { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا } أي أولئك المنكرون للبعث المقترحون نزول القرآن جملة واحدة هم الذين يحشرون على وجوههم تسحبهم الملائكة على وجوههم إلى جهنم لأنهم مجرمون بالشرك والتكذيب والكفر والعناد أولئك البعداء شر مكانا يوم القيامة، واضل سبيلا في الدنيا، إذ مكانهم جهنم، وسبيلهم الغواية والضلالة والعياذ بالله من ذلك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على من هجروا القرآن الكريم فلم يسمعوه ولم يتفهموه ولم يعملوا به، وشكواه إياهم إلى الله عز وجل.
2- بيان سنة الله في العباد وهي أنه ما من نبي ولا هاد ولا منذر إلا وله عدو من الناس وذلك لتعارض الحق مع الباطل، فينجم عن ذلك عداء لازم من أهل الباطل لأهل الحق.
3- بيان الحكمة في نزول القرآن منجما شيئا فشيئا مفرقا.
4- بيان أن المجرمين يحشرون على وجوههم لا على أرجلهم إلى جهنم إهانة لهم وتعذيبا.
[25.35-40]
شرح الكلمات:
الكتاب: أي التوراة.
وزيرا: أي يشد أزره ويقويه ويتحمل معه أعباء الدعوة.
إلى القوم الذين كذبوا: هم فرعون وآله.
لما كذبوا الرسل: أي نوحا عليه السلام.
وجعلناهم للناس آية: أي علامة على قدرتنا في إهلاك وتدمير الظالمين وعبرة للمعتبرين.
وعادا وثمود: أي اذكر قوم عاد وثمود إلخ..
وأصحاب الرس: الرس بئر رس فيها قوم نبيهم، أي رموه فيها ودسوه في التراب.
وقرونا بين ذلك كثيرا: أي ودمرنا بين من ذكرنا من الأمم قرونا كثيرا.
تبرنا تتبيرا: أي دمرناهم تدميرا.
التي أمطرت مطر السوء: هي سدوم قرية قوم لوط.
لا يرجون نشورا: أي لا يؤمنون بالبعث والجزاء الآخر.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب } هذا شروع في عرض أمم كذبت رسلها وردت دعوة الحق التي جاءوا بها فأهلكهم الله تعالى ليكون هذا عظة للمشركين لعلهم يتعظون فقال تعالى وعزتنا لقد آتينا موسى بن عمران الكتاب الذي هو التوراة { وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا } أي معينا، فقلنا أي لهما { اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا } وهم فرعون وملأه فأتوهم فكذبوهما فدمرناهم تدميرا كاملا حيث أغرقوا في البحر، وقوله تعالى: { وقوم نوح } أي اذكر قوم نوح أيضا فإنهم لما كذبوا الرسل أي كذبوا نوحا ومن كذب رسولا فكأنما كذب عامة الرسل أغرقناهم بالطوفان وجعلناهم للناس بعدهم آية أي عبرة للمعتبرين وقوله { وأعتدنا } أي وهيأنا للظالمين في الآخرة عذابا أليما أي موجعا زيادة على هلاك الدنيا، وقوله { وعادا وثمودا وأصحاب الرس } أي أهلكنا الجميع ودمرناهم تدميرا لما كذبوا رسلنا وردوا دعوتنا، وقرونا أي وأهلكنا قرونا بين ذلك الذي ذكرنا كثيرا.
وقوله { وكلا ضربنا له الأمثال } أي إقامة للحجة عليهم فما أهلكناهم إلا بعد الإنذار والإعذار لهم. وقوله { وكلا تبرنا تتبيرا } أي أهلكناهم إهلاكا لتكذيبهم رسلنا وردهم دعوتنا. وقوله: { ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء } أي ولقد مر أي كفار قريش على القرية التي أمطرت مطر السوء أي الحجارة وهي قرى قوم لوط سدوم وعمورة وغيرهما فأهلكهم لتكذيبهم رسولهم وإتيانهم الفاحشة وقوله تعالى { أفلم يكونوا يرونها } في سفرهم إلى الشام وفلسطين. فيعتبروا بها فيؤمنوا وهو استفهام تقريري وإذا كانوا يمرون بها ولكنهم لم يعتبروا لعلة وهي أنهم لا يؤمنون بالبعث الآخر وهو معنى قوله تعالى { بل كانوا لا يرجون نشورا } فالذي لا يرجو أن يبعث ويحاسب ويجزي لا يؤمن ولا يستقيم أبدا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم بعد الإنذار والإعذار إليها.
2- بيان عاقبة المكذبين وما حل بهم من دمار وعذاب.
3- بيان علة تكذيب قريش للرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وهي تكذيبهم بالبعث والجزاء فلهذا لم تنفعهم المواعظ ولم تؤثر فيهم العبر.
[25.41-44]
شرح الكلمات:
إن يتخذونك: أي ما يتخذونك.
إلا هزوا: أي مهزوءا به.
أهذا الدي بعث الله رسولا: أي في دعواه لا أنهم معترفون برسالته والاستفهام للتهكم والاحتقار.
إن كاد ليضلنا عن آلهتنا: أي قارب أن يصرفنا عن آلهتنا.
لولا أن صبرنا عليها: أي لصرفنا عنها.
أرأيت من اتخذ إلهه هواه: أي أخبرني عمن جعل هواه معبوده فأطاع هواه. فهل تقدر على هدايته.
إن هم إلا كالأنعام: أي ما هم إلا كالأنعام في عدم الوعي والإدراك.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا } يخبر تعالى رسوله عن أولئك المشركين المكذبين بالبعث أنهم إذا رأوه في مجلس أو طريق ما يتخذونه إلا هزوا أي مهزوءا به احتقارا وازدراء له فيقولون فيما بينهم، { أهذا الذي بعث الله رسولا } وهو استفهام احتقار وازدراء لأنهم لا يعتقدون أنه رسول الله ويقولون { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا } أي يصرفنا عن عبادة آلهتنا لولا أن صبرنا وثبتنا على عبادتها. وهذا القول منهم نابج عن ظلمة الكفر والتكذيب بالبعث وقوله تعالى { وسوف يعلمون حين يرون العذاب } في الدنيا أو في الآخرة أي عندما يعاينون العذاب يعرفون من كان أضل سبيلا هم أم الرسول والمؤمنون، وفي هذا تهديد ووعيد بقرب عذابهم وقد حل بهم في بدر فذلوا وأسروا وقتلوا وتبين لهم أنهم أضل سبيلا من النبي وأصحابه. وقوله تعالى لرسوله وهو يسليه ويخفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } أخبرني عمن جعل معبوده هواه فلا يعبد غيره فكلما اشتهى شيئا فعله بلا عقل ولا روية ولا فكر فقد يكون لأحدهم حجر يعبده فإذا رأى حجرا أحسن منه عبده وترك الأول فهذا لم يعبد إلا هواه وشهوته فهل مثل هذا الإنسان الهابط إلى مستوى دون البهائم تقدر على هدايته يا رسولنا؟ { أفأنت تكون عليه وكيلا } أي حفيظا تتولى هدايته أم أنك لا تقدر فاتركه لنا يمضي فيه حكمنا.
وقوله { أم تحسب } أيها الرسول أن أكثر هؤلاء المشركين يسمعون ما يقال لهم ويعقلون ما يطلب منهم إن هم إلا كالأنعام فقط بل هم أضل سبيلا من الأنعام إذ الأنعام تعرف طريق مرعاها وتستجيب لنداء راعيها وهم على خلاف ذلك فجهلوا ربهم الحق ولم يتسجيبوا لنداء رسوله إليهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلاقي في سبيل الدعوة من سخرية به واستهزاء.
2- يتجاهل الإنسان الضال الحق وينكره حتى إذا عاين العذاب عرف ما كان ينكر، وآمن بما كان يكفر.
3- هداية الإنسان ممكنة حتى إذا كفر بعقله وآمن بشهوته وعبد هواه تعذرت هدايته وأصبح أضل من الحيوان وأكثر خسرانا منه.
[25.45-50]
شرح الكلمات:
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل: أي ألم تنظر إلى صنيع ربك في الظل كيف بسطه.
ولو شاء الله لجعله ساكنا: أي ثابتا على حاله في الطول والامتداد ولا يقصر ولا يطول.
ثم جعلنا الشمس عليه دليلا: أي علامة على وجوده إذ لولا الشمس لما عرف الظل.
ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا: أي أزلناه بضوء الشمس على مهل جزءا فجزءا حتى ينتهي.
ثم جعلنا الليل لباسا: أي يستركم بظلامه كما يستركم اللباس.
والنوم سباتا: أي راحة لأبدانكم من عناء عمل النهار.
وجعل النهار نشورا: أي حياة إذ النوم بالليل كالموت والانتشار بالنهار كالبعث.
بشرا بين يدي رحمته: أي مبشرة بالمطر قبل نزوله، والمطر هو الرحمة.
ماء طهورا: أي تتطهرون به من الأحداث والأوساخ.
لنحيي به بلدة ميتا: أي بالزروع والنباتات المختلفة.
أنعاما وأناسي كثيرا: أي حيوانا وأناسا كثيرين.
ولقد صرفناه بينهم: أي المطر فينزل بأرض قوم ولا ينزل بأخرى لحكم عالية.
ليذكروا: أي يذكروا فضل الله عليهم فيشكروا فيؤمنوا ويوحدوا.
فأبى أكثر الناس إلا كفورا: أي فلم يذكروا وأبى أكثرهم إلا كفورا جحودا للنعمة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } هذا شروع في ذكر مجموعة من أدلة التوحيد وهي مظاهر لربوبية الله تعالى المقتضية لألوهيته فأولا الظل وهو المشاهد من وقت الإسفار إلى طلوع الشمس وقد مده الخالق عز وجل أي بسطه في الكون، ثم تطلع الشمس فتأخذ في زواله وانكماشه شيئا فشيئا، ولو شاء الله تعالى لجعله ساكنا لا يبارح ولا يغادر ولكنه حسب مصلحة عباده جعله يتقاصر ويقبض حتى تقف الشمس في كبد السماء فيستقر ثم لما تدحض الشمس مائلة إلى الغروب يفيء أي يرجع شيئا فشيئا فيطول تدريجيا لتعرف به ساعات النهار وأوقات الصلوات حتى يبلغ من الطول حدا كبيرا كما كان في أول النهار ثم يقبض قبضا يسيرا خفيا سريعا حين تغرب الشمس ويغشاه ظلام الليل. هذه آية من آيات قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته بعباده تجلت في الظل الذي قال تعالى فيه { ألم تر } أيها الرسول أي تنظر إلى صنيع ربك جل جلاله { كيف مد الظل ولو شآء لجعله ساكنا } ينتقل، { ثم جعلنا الشمس عليه دليلا } إذ بضوءها يعرف، فلولا الشمس لما عرف الظل وقوله تعالى { ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا } حسب سنته ففي خفاء كامل وسرعة تامة يقبض الظل نهائيا ويحل محله الظلام الحالك.
وثانيا: في الليل والنهار قال تعالى: { وهو الذي جعل لكم اليل لباسا } أي ساترا يستركم بظلامه كما تستركم الثياب، { والنوم سباتا } أي وجعل النوم قطعا للعمل فتحصل به راحة الأبدان { وجعل النهار نشورا } أي حياة بعد وفاة والنوم فيتنشر فيه الناس لطلب الرزق بالعمل بالأسباب والسنن التي وضع الله تعالى لذلك.
وثالثا: إرسال الرياح للقاح السحب للإمطار لإحياء الأرض بعد موتها بالقحط والجدب قال تعالى: { وهو الذي أرسل الرياح } هو لا غيره من الآلهة الباطلة { أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } أي مبشرات بالمطر متقدمة عليه وهو الرحمة وهي بين يديه فمن يفعل هذا غير الله؟ اللهم إنه لا أحد.
ورابعا: إنزال الماء الطهور العذب الفرات للتطهير به وشرب الحيوان والإنسان قال تعالى { وأنزلنا من السمآء مآء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنآ أنعاما } أي إبلا وبقرا وغنما { وأناسي كثيرا } أي وأناسا كثيرين وهم الآدميون ففي خلق الماء وإنزاله وإيجاد حاجة في الحيوان والإنسان إليه ثم هدايتهم لتناوله وشربه كل هذا آيات الربوبية الموجبة لتوحيد الله تعالى.
وخامسا: تصريف المطر بين الناس فيمطر في أرض ولا يمطر في أخرى حسب الحكمة الإلهية والتربية الربانية، قال تعالى: { ولقد صرفناه بينهم } أي بين الناس كما هو مشاهد إقليم يسقى وآخر يحرم، وقوله تعالى: { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } أي جحودا لإنعام الله عليهم وربوبيته عليهم وألوهيته لهم. وهو أمر يقتضي التعجب والاستغراب. هذه مظاهر الربوبية المقتضية للألوهية، { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عرض الأدلة الحسية على وجوب عبادة الله تعالى وتوحيده فيها ووجوب الإيمان بالبعث والجزاء الذي أنكره المشركون فضلوا ضلالا بعيدا.
2- بيان فائدة الظل إذ به تعرف ساعات النهار وبه يعرف وقت صلاة الظهر والعصر فوقت الظهر من بداية الفيء، أي زيادة الظل بعد توقفه من النقصان عند وقوف الشمس في كبد السماء، ووقت العصر من زيادة الظل مثله بمعنى إذا دخل الظهر والظل أربعة أقدام أو ثلاثة أو أقل أو أكثر فإذا زاد مثله دخل وقت العصر فإن زالت الشمس على أربعة أقدام فالعصر يدخل عندما يكون الظل ثمانية أقدام وإن زالت الشمس على ثلاثة أقدام فالعصر على ستة أقدام وهكذا.
3- الماء الطهور وهو الباقي على أصل خلقته فلم يخالطه شيء يغير طعمه أو لونه أو ريحه، وبه ترفع الأحداث وتغسل النجاسات، ويحرم منعه عمن احتاج إليه من شرب أو طهارة.
[25.51-56]
شرح الكلمات:
لبعثنا في كل قرية نذيرا: أي رسولا ينذر أهلها عواقب الشرك والكفر.
وجاهدهم به جهادا كبيرا: أي بالقرآن جهادا كبيرا تبلغ فيه أقصى غاية جهدك.
مرج البحرين: أي خلط بينهما وفي نفس الوقت منع الماء الملح أن يفسد الماء العذب.
وجعل بينهما برزخا: أي حاجزا بين الملح منهما والعذب.
وحجرا محجورا: أي وجعل بينهما سدا مانعا فلا يحلو الملح، ولا يملح العذب.
خلق من الماء بشرا: أي خلق من الماء الإنسان والمراد من الماء النطفة.
فجعله نسبا وصهرا: أي ذكرا وأنثى أي نسبا ينسب إليه، وصهرا يصهر إليه أي يتزوج منه.
ما لا يضرهم ولا ينفعهم: أي أصناما لا تضر ولا تنفع.
وكان الكافر على ربه ظهيرا: أي معينا للشيطان على معصية الرحمن.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعداد مظاهر الربوبية المستلزمة للتوحيد قال تعالى { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا } أي في كل مدينة نذيرا أي رسولا ينذر الناس عواقب الشرك والكفر، ولكنا لم نشأ لحكمة اقتضتها ربوبيتنا وهي أن تكون أيها الرسول أفضل الرسل وأعظم منزلة وأكثرهم ثوابا فحبوناك بهذا الفضل فكنت رسول كل القرى أبيضها وأسودها فاصبر وتحمل، واذكر شرف منزلتك { فلا تطع الكافرين } في أي أمر أرادوه منك { وجاهدهم } به أي بالقرآن وكله حجج وبينات جهادا كبيرا تبلغ فيه أقصى جهدك. بعد هذه الجملة الاعتراضية من الكلام الإلهي قال تعالى مواصلا ذكر مظاهر ربوبيته تعالى على خلقه. { وهو الذي مرج البحرين } الملح والعذب أي أرسلهما مع بعضهما بعضا { هذا عذب فرات } أي حلو
سآئغ شرابه وهذا ملح أجاج
[فاطر: 12] أي لا يشرب { وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا } أي ساترا مانعا من اختلاط العذب بالملح مع وجودهما في مكان واحد، فلا يبغي هذا على هذا بأن يعذب الملح أو يملح العذب. وقوله تعالى { وهو الذي خلق من المآء بشرا } أي من المني ونطفته خلق الإنسان وجعله ذكرا وأنثى وهو معنى قوله نسبا وصهرا أي ذوي نسب ينسب إليهم وهم الذكور، وذوات صهر يصاهر بهن وهن الإناث. وقوله تعالى: { وكان ربك قديرا } أي على فعل ما يريده من الخلق والإيجاد أو التحويل والتبديل، والسلب والعطاء هذه مظاهر الربوبية المقتضية لعبادته وتوحيده والمشركون يعبدون من دونه أصناما لا تنفعهم إن عبدوها، ولا تضرهم إن لم يعبدوها وذلك لجهلهم وظلمة نفوسهم فيعبدون الشيطان إذ هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وبذلك كان الكافر على ربه ظهيرا إذ بعبادته للشيطان يعينه على معصية الرب تبارك وتعالى وهو معنى قوله تعالى، ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وكان الكافر على ربه ظهيرا.
أي معينا للشيطان على الرحمن والعياذ بالله تعالى.
وقوله تعالى: { ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا } يقول تعالى لرسوله إنا لم نرسلك لغير بشارة المؤمنين بالجنة ونذارة الكافرين بالنار أما هداية القلوب فهي إلينا من شئنا هدايته اهتدى ومن لم نشأها ضل. إلا أن الله يهدي ويضل حسب سنن له قد مر ذكرها مرات .
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الإشارة إلى الحكمة في عدم تعدد الرسل في زمن البعثة المحمدية والاكتفاء بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
2- حرمة طاعة الكافرين في أمور الدين والشرع.
3- من الجهاد جهاد الكفار والملاحدة بالحجج القرآنية والآيات التنزيلية.
4- مظاهر العلم والقدرة الإلهية في عدم اختلاط البحرين مع وجودهما في مكان واحد. وفي خلق الله تعالى الإنسان من ماء وجعله ذكرا وأنثى للتناسل وحفظ النوع.
5- التنديد بالمشركين والكافرين المعينين للشيطان على الرحمن.
[25.57-62]
شرح الكلمات:
عليه من أجر: أي على البلاغ من أجر اتقاضاه منكم.
سبيلا: أي طريقا يصل به إلى مرضاته والفوز بجواره، وذلك بإنفاق ماله في سبيل الله.
وسبح بحمده: أي قل سبحان الله وبحمده.
في ستة أيام: أي من أيام الدنيا التي قدرها وهي الأحد... والجمعة.
ثم استوى على العرش: العرش سرير الملك والاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب.
فاسأل به خبيرا: أي أيها الإنسان إسأل خبيرا بعرش الرحمن ينبئك فإنه عظيم.
وزادهم نفورا: أي القول لهم اسجدوا للرحمن زادهم نفورا من الإيمان.
جعل في السماء بروجا: هي إثنا عشر برجا انظر تفصيلها في معنى الآيات.
سراجا: أي شمسا.
خلفة: أي يخلف كل منهما الآخر كما هو مشاهد.
أن يذكر: أي ما فاته في أحدهما فيفعله في الآخر.
أو أراد شكورا: أي شكرا لنعم ربه عليه فيهما بالصيام والصلاة.
معنى الآيات:
بعد هذا العرض العظيم لمظاهر الربوبية الموجبة للألوهية أمر الله تعالى رسوله أن يقول للمشركين ما أسألكم على هذا البيان الذي بينت لكم ما تعرفون به إلهكم الحق فتعبدونه وتكملون على عبادته وتسعدون أجرا أي مالا، لكن من شاء أن ينفق من ماله في وجوه البر والخير يتقرب به إلى ربه فله ذلك ليتخذ بنفقته في سبيل الله طريقا إلى رضا ربه عنه ورحمته له.
وقوله { وتوكل على الحي الذي لا يموت } يأمر تعالى رسوله أن يمضي في طريق دعوته مبلغا عن ربه داعيا إليه متوكلا عليه أي مفوضا أمره إليه إذ هو الحي الذي لا يموت وغيره يموت، وأمره أن يستعين على دعوته وصبره عليها بالتسبيح فقال { وسبح بحمده } أي قل سبحان الله وبحمده، وسبحانك اللهم وبحمدك وهو أمر بالذكر والصلاة وسائر العبادات فإنها العون الكبير للعبد على الثبات والصبر. وقوله تعالى { وكفى به بذنوب عباده خبيرا } أي فلا تكرب لهم ولا تحزن عليهم من أجل كفرهم وتكذيبهم وشركهم فإن ربك عالم بذنوبهم محص عليهم أعمالهم وسيجزيهم بها في عاجل أمرهم أو آجله، ثم أثنى تبارك وتعالى على نفسه بقوله { الذي خلق السموت والأرض وما بينهما في ستة أيام } مقدرة بأيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة، ثم استوى على العرش العظيم استواء يليق بجلاله وكماله. { الرحمن } الذي عمت رحمته العالمين { فسئل به خبيرا } أي فاسأل يا محمد بالرحمن خبيرا بخلقه فإنه خالق كل شيء والعليم بكل شيء فهو وحده العليم بعظمة عرشه وسعة ملكه وجلال وكمال نفسه لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن } أي وإذا قال لهم الرسول أيها المشركون اسجدوا للرحمن ولا تسجدوا لسواه من المخلوقات.
قالوا منكرين متجاهلين { وما الرحمن }؟ أنسجد لما تأمرنا أي أتريد أن تفرض علينا طاعتك { وزادهم } هذا القول { نفورا } ، أي بعدا واستنكارا للحق والعياذ بالله تعالى. وقوله تعالى { تبارك الذي جعل في السمآء بروجا } أي تقدس وتنزه أن يكون له شريك في خلقه أو في عبادته الذي بعظمته جعل في السماء بروجا وهي منازل الكواكب السبعة السيارة فلذا سميت بروجا جمع برج وهو القصر الكبير وتعرف هذه البروج الاثنا عشر بالحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. والكواكب السبعة السيارة هي: المريخ، والزهرة وعطارد، والقمر، والشمس، والمشتري، وزحل. فهذه الكواكب تنزل في البروج كالقصور لها.
وقوله تعالى { وجعل فيها سراجا } هو الشمس { وقمرا منيرا } هو القمر أي تعاظم وتقدس الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وقوله { وهو الذي جعل اليل والنهار خلفة } أي يخلف بعضهما بعضا فلا يجتمعان أبدا وفي ذلك من المصالح والفوائد ما لا يقادر قدره ومن ذلك أن من نسي عملا بالنهار يذكره في الليل فيعمله، ومن نسي عملا بالليل يذكره بالنهار فيعمله، وهو معنى قوله { لمن أراد أن يذكر } وقوله { أو أراد شكورا } فإن الليل والنهار ظرفان للعبادة الصيام بالنهار والقيام بالليل فمن أراد أن يشكر الله تعالى على نعمه فقد وهبنا له فرصة لذلك وهو الليل للتهجد والقيام والنهار للجهاد والصيام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- دعوة الله ينبغي أن لا يأخذ الداعي عليها أجرا ممن يدعوهم إلى الله تعالى ومن أراد أن يتطوع من نفسه فينفق في سبيل الله فذلك له.
2- وجوب التوكل على الله فإنه الحي الذى لا يموت وغيره يموت.
3- وجوب التسبيح والذكر والعبادة وهذه هي زاد العبد وعدته وعونه.
4- مشروعية السجود عند قوله تعالى وزادهم نفورا للقارىء والمستمع.
5- صفة استواء الرحمن على عرشه فيجب الإيمان بها على ما يليق بجلال الله وكماله ويحرم تأويلها بالاستيلاء والقهر ونحوهما.
6- الترغيب في الذكر والشكر، واغتنام الفرص للعبادة والطاعة.
[25.63-71]
شرح الكلمات:
يمشون على الأرض هونا: في سكينة ووقار.
وإذا خاطبهم الجاهلون: أي بما يكرهون من الأقوال.
قالوا سلاما: أي قولا يسلمون به من الإثم، ويسمى هذا سلام المتاركة.
سجدا وقياما: أي يصلون بالليل سجدا جمع ساجد.
إن عذابها كان غراما: أي عذاب جهنم كان لازما لا يفارق صاحبه.
إنها ساءت متسقرا ومقاما: أي بئست مستقرا وموضع إقامة واستقرار.
لم يسرفوا ولم يقتروا: أي لم يبذروا ولم يضيقوا.
وكان بين ذلك قواما: أي بين الإسراف والتقتير وسطا.
التي حرم الله: وهي كل نفس آدمية إلا نفس الكافر المحارب.
إلا بالحق: وهو واحد من ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل ظلم وعدوان.
يلق أثاما: أي عقوبة شديدة.
يبدل الله سيئاتهم حسنات: بأن يمحو بالتوبة سوابق معاصيهم، ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم.
معنى الآيات:
لما أنكر المشركون الرحمن
قالوا وما الرحمن
[الفرقان: 60] وأبوا أن يسجدوا للرحمن، وقالوا أن محمدا ينهانا عن الشرك وهو يدعو مع الله الرحمن فيقول يا الله يا رحمن، ناسب لتجاهلهم هذا الاسم الرحمن أن يذكر لهم صفات عباد الرحمن ليعرفوا الرحمن بعباده على حد (خيركم من إذا رؤي ذكر الله) فقال تعالى { وعباد الرحمن } ووصفهم بثمان صفات وأخبر عنهم بما أعده لهم من كرامة يوم القيامة. الأولى في قوله { الذين يمشون على الأرض هونا } أي ليسوا جبابرة متكبرين، ولا عصاة مفسدين ولكن يمشون متواضعين عليهم السكينة والوقار، { وإذا خاطبهم الجاهلون } أي السفهاء بما يكرهون من القول قالوا قولا يسلمون به من الإثم فلم يردوا السيئة بالسيئة ولكن بالحسنة.
الثانية: في قوله { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما } أي يقضون ليلهم بين السجود والقيام يصفون أقدامهم ويذرفون دموعهم على خدودهم خوفا من عذاب ربهم.
والثالثة: في قوله { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم } إنهم لقوة يقينهم كأنهم شاعرون بلهب جهنم يدنو من وجوههم فقالوا { ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما } أي ملحا لازما لا يفارق صاحبه، { إنها سآءت } أي جهنم { مستقرا ومقاما } أي بئست موضع إقامة واستقرار.
والرابعة: في قوله { والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا } في إنفاقهم فيتجاوزوا الحد المطلوب منهم، ولم يقتروا فيقصروا في الواجب عليهم وكان إنفاقهم بين الإسراف والتقتير قواما أي عدلا وسطا.
والخامسة: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } أي لا يسألون غير ربهم قضاء حوائجهم كما لا يشركون بعبادة ربهم أحدا { ولا يقتلون النفس التي حرم الله } قتلها وهي كل نفس آدمية ما عدا نفس الكافر المحارب فإنها مباحة القتل غير محرمة. { إلا بالحق } وهو واحدة من ثلاث خصال بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين
" لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة "
{ ولا يزنون } أي لا يرتكبون فاحشة الزنا والزنا نكاح على غير شرط النكاح المباح وقوله تعالى { ومن يفعل ذلك } هذا كلام معترض بين صفات عباد الرحمن. أي ومن يفعل ذلك المذكور من الشرك بدعاء غير الرب أو قتل النفس بغير حق، أو زنا { يلق أثاما } أي عقابا { يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه } أي في العذاب { مهانا } مخزيا ذليلا، وقوله تعالى { إلا من تاب } من الشرك وآمن بالله وبلقائه وبرسوله وما جاء به من الدين الحق { وعمل عملا صالحا } من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام { فأولئك } المذكورون أي التائبون { يبدل الله سيئاتهم حسنات } أي يمحو سيآتهم بتوبتهم ويكتب لهم مكانها صالحات أعمالهم وطاعاتهم بعد توبتهم { وكان الله غفورا رحيما } ذا مغفرة للتائبين من عباده ذا رحمة بهم فلا يعذبهم بعد توبته عليهم، وقوله { ومن تاب } من غير هؤلاء المذكورين أي رجع إلى الله تعالى بعد غشيانه الذنوب { وعمل صالحا } بعد توبته { فإنه يتوب إلى الله متابا } أي يرجع إليه تعالى مرجعا مرضيا حسنا فيكرمه وينعمه في دار كرامته.
هدايته الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان صفات عباد الرحمن الذين بهم يعرف الرحمن عز وجل.
2- فضيلة التواضع والسكينة في المشي والوقار.
3- فضيلة رد السيئة بالحسنة والقول السليم من الإثم.
4- فضيلة قيام الليل والخوف من عذاب النار.
5- فضيلة الاعتدال والقصد في النفقة وهي الحسنة بين السيئتين.
6- حرمة الشرك وقتل النفس والزنى وأنها أمهات الكبائر.
7- التوبة تجب ما قبلها. والندب إلى التوبة وأنها مقبولة ما لم يغرغر.
[25.72-77]
شرح الكلمات:
لا يشهدون الزور: أي لا يحضرون مجالسة ولا يشهدون بالكذب والباطل.
وإذا مروا باللغو: أي بالكلام السيء القبيح وكل ما لا خير فيه.
مروا كراما: أي معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن سماعه أو المشاركة فيه.
وإذا ذكروا بآيات ربهم: أي إذا وعظوا بآيات القرآن.
لم يخروا عليها صما وعميانا: أي لم يطأطئوا رؤوسهم حال سماعها عميا لا يبصرون ولا صما لا يسمعون بل يصغون يسمعون ويعون ما تدعو إليه ويبصرون ما تعرضه.
قرة أعين: أي ما تقر به أعيننا وهو أن تراهم مطيعين لك يعبدونك وحدك.
واجعلنا للمتقين إماما: أي من عبادك الذين يتقون سخطك بطاعتك قدوة يقتدون بنا في الخير.
يجزون الغرفة: أي الدرجة العليا في الجنة.
بما صبروا: أي على طاعتك بامتثال الأمر واجتناب النهي.
حسنت مستقرا ومقاما: أي صلحت وطابت مستقرا لهم أي موضع استقرار وإقامة.
ما يعبأ بكم ربي: أي ما يكترث ولا يعتد بكم ولا يبالي.
لولا دعاؤكم: إياه، ودعاؤه إياكم لعبادته بذكره وشكره.
فسوف يكون لزاما: أي العذاب لزاما أي لازما لكم في بدر ويوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر صفات عباد الرحمن الذي تجاهله المشركون وقالوا: وما الرحمن فها هي ذي صفات عباده دالة عليه وعلى جلاله وكماله، وقد مضى ذكر خمس صفات:
والسادسة: في قوله تعالى { والذين لا يشهدون الزور } الزور هو الباطل والكذب وعباد الرحمن لا يحضرون مجالسة ولا يقولونه ولا يشهدونه ولاينطقون به { وإذا مروا باللغو } وهو كل عمل وقول لا خير فيه { مروا كراما } أي مكرمين أنفسهم من التلوث به، بالوقوع فيه.
والسابعة: في قوله تعالى { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم } أي إذا ذكرهم أحد بآيات القرآن كتاب ربهم عز وجل لم يحنوا رؤوسهم عليها صما حتى لا يسمعوا مواعظها ولا عميانا حتى لا يشاهدوا آثار آياتها بل يحنون رؤوسهم سامعين لها واعين لما تقوله وتدعو إليه مبصرين آثارها مشاهدين وقائعها متأثرين بها.
والثامنة: فى قوله تعالى { والذين يقولون } أي في دعائهم { ربنا هب لنا } أي أعطنا { من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } أي ما تقر به أعيننا وذلك بأن نراهم يتعلمون الهدى ويعملون به طلبا لمرضاتك يا ربنا { واجعلنا للمتقين } من عبادك الذين يتقون سخطك بطاعتك بفعل أمرك وأمر رسولك واجتناب نهيك ونهي رسولك { واجعلنا للمتقين إماما } أي قدوة صالحة يقتدون بنا في الخير يا ربنا. قال تعالى مخبرا عنهم بما أنعم به عليهم: { أولئك } أي السامون أنفسا العالون أرواحا { يجزون الغرفة } وهي الدرجة العليا في الجنة { بما صبروا } على طاعة مولاهم، وما يلحقهم من أذى في ذات ربهم { ويلقون فيها } أي تتلقاهم الملائكة بالتهاني والتحيات { تحية وسلاما } أي بالدعاء بالحياة السعيدة والسلامة من الآفات إذ هي حياة بلا ممات، وسعادة بلا منغصات.
وقوله تعالى { خالدين فيها } أي في تلك الغرفة في أعلى الجنة { حسنت مستقرا } أي طابت موضع إقامة واستقرار. إلى هنا انتهى الحديث عن صفات عباد الرحمن وبيان جزائهم عند ربهم. وقوله تعالى: { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعآؤكم } أي قل يا رسولنا لأولئك المشركين المنكرين للرحمن { ما يعبأ بكم ربي } أي ما يكترث لكم أو يبالي بكم { لولا دعآؤكم } إياه أي عبادة من يعبده منكم إذ الدعاء هو العبادة ما أبالي بكم ولا أكترث لكم. أما وقد كذبتم بي وبرسولي فلم تعبدوني ولم توحدوني وإذا { فسوف يكون } العذاب { لزاما } وقد أذقتموه يوم بدر، وسوف يلازمهم في قبورهم إلى نشورهم، وسوف يلاحقهم حتى مستقرهم في جهنم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة شهود الزور وحرمة شهادته.
2- فضيلة الإعراض عن اللغو فعلا كان أو قولا.
3- فضيلة تدبر القرآن وحسن الاستماع لتلاوته والاتعاظ بمواعظه والعمل بهدايته.
4- فضيلة علو الهمة وسمو الروح وطلب الكمال والقدوة في الخير.
5- لا قيمة للإنسان وهو أشرف الحيوانات لولا عبادته الله عز وجل فإذا لم يعبده كان شر الخليقة.
[26 - سورة الشعراء]
[26.1-9]
شرح الكلمات:
طسم: الله أعلم بمراده بذلك.
الكتاب المبين: أي القرآن المبين للحق من الباطل.
باخع نفسك: أي قاتلها من الغم.
ألا يكونوا مؤمنين: أي من أجل عدم إيمانهم بك.
آية: أي نخوفهم بها.
من ذكر: أي من قرآن.
معرضين: أي غير ملتفتين إليه.
زوج كريم: أي صنف حسن.
العزيز: الغالب على أمره ومراده.
الرحيم: بالمؤمنين من عباده.
معنى الآيات:
طسم هذه أحد الحروف المقطعة تكتب طسم، وتقرأ طا سين ميم بإدغام النون من سين في الميم الأولى من ميم والله أعلم بمراده منها، وفيها إشارة إلى أن القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف وعجز العرب عن تأليف مثله بل سورة واحدة من مثله دال قطعا على أنه كلام الله ووحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله { تلك آيات الكتاب } أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات الكتاب أي القرآن { المبين } أي المبين للحق من الباطل والهدى من الضلال، والشرائع والأحكام. وقوله تعالى { لعلك باخع نفسك } أي قاتلها ومهلكها { ألا يكونوا مؤمنين } أي إن لم يؤمن بك وبما جئت به قومك، فأشفق على نفسك يا رسولنا ولا تعرضها للغم القاتل فإنه ليس عليك هدايتهم وإنما عليك البلاغ وقد بلغت، إنا لو أردنا هدايتهم بالقسر والقهر لما عجزنا عن ذلك { إن نشأ ننزل عليهم من السمآء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } أي إنا لقادرون على أن ننزل عليهم من السماء آية كرفع جبل أو إنزال كوكب أو رؤية ملك فظلت أي فتظل طوال النهار أعناقهم خاضعة، تحتها تتوقع في كل لحظة نزولها عليهم فتهلكهم فيؤمنوا حينئذ إيمان قسر وإكراه ومثله لا ينفع صاحبه فلا يزكي نفسه ولا يطهر روحه لأنه غير إرادي له ولا اختياري.
وقوله تعالى { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث } أي وما يأتي قومك المكذبين لك من موعظة قرآنية وحجج وبراهين تنزيلية تدل على صدقك وصحة دعوتك مما يحدثه الله إليك ويوحي به إليك لتذكرهم به إلا أعرضوا فلا يستمعون إليه ولا يفكرون فيه.
وقوله تعالى: { فقد كذبوا } يخبر تعالى رسوله بأن قومه قد كذبوا بما أتاهم من ربهم من ذكر محدث وعليه { فسيأتيهم أنباء } أي أخبار { ما كانوا به يستهزئون } وهو عذاب الله تعالى الذي كذبوا برسوله ووحيه وجحدوا توحيده وأنكروا طاعته وفي الآية وعيد شديد وهم عرضة له في أية لحظة إن لم يتوبوا.
وقوله تعالى { أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم } إن كانت علة هذا التكذيب من هؤلاء المشركين هي إنكارهم للبعث والجزاء وهو كذلك فلم لا ينظرون إلى الأرض الميتة بالقحط ينزل الله تعالى عليها ماء من السماء فتحيا به بعد موتها فينبت الله فيها من كل زوج أي صنف من أصناف النباتات كريم أي حسن.
أليس في ذلك آية على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم وحشرهم للحساب والجزاء، فلم لا ينظرون؟ { إن في ذلك لآية } أي علامة واضحة للمشركين على صحة البعث والجزاء. ففي إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم. وقوله تعالى { وما كان أكثرهم مؤمنين } يخبر تعالى أن فيما ذكر من إنباته أصناف النباتات الحسنة آية على البعث والحياة الثانية ولكن قضى الله أزلا أن أكثر هؤلاء المشركين لا يؤمنون وقوله { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وإن ربك لهو العزيز } أي الغالب على أمره المنتقم من أعدائه { الرحيم } بأوليائه فاصبر لحكمه وتوكل عليه وواصل دعوتك في غير غم ولا هم ولا حزن وإن العاقبة لك وللمؤمنين بك المتبعين لك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن القرآن الكريم معجز لأنه مؤلف من مثل طا سين ميم ولم يستطع أحد أن يؤلف مثله.
2- بيان ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يناله من الغم والحزن وتكذيب قومه له.
3- بيان أن إيمان المكره لا ينفعه، ولذا لم يكره الله تعالى الكفار على الإيمان بواسطة الآيات.
4- التحذير من عاقبة التكذيب بآيات الله وعدم الاكتراث بها.
5- في إحياء الأرض بالماء وإنبات النباتات المختلفة فيها دليل على البعث الآخر.
[26.10-17]
شرح الكلمات:
وإذ نادى ربك: أي اذكر لقومك يا رسولنا إذ نادى ربك موسى.
إن ائت: أي بأن ائت القوم الظالمين.
ألا يتقون: ألا يخافون الله ربهم ورب آبائهم الأولين ما لهم ما دهاهم؟
ويضيق صدري: أي من تكذيبهم لي.
ولا ينطلق لساني: أي للعقدة التي به.
فأرسل إلى هارون: أي إلى أخي هارون ليكون معي في إبلاغ رسالتي.
ولهم علي ذنب: أي ذنب القبطي الذي قتله موسى قبل خروجه إلى مدين.
قال كلا: أي قال الله تعالى له كلا أي لا يقتلونك.
فاذهبا: أنت وهارون.
إنا رسول رب العالمين: أي إليك.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وإذ نادى ربك موسى } هذا بداية سلسلة من القصص بدئت بقصة موسى وختمت بقصة شعيب وقصها على المشركين ليشاهدوا أحداثها ويعرفوا نتائجها وهي دمار المكذبين وهلاكهم مهما كانت قوتهم وطالت أعمارهم قال تعالى في خطاب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وإذ نادى ربك موسى } أي اذكر إذ نادى ربك موسى في ليلة باردة شاتية بالواد الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة { أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون } إذ ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وظلموا بني إسرائيل باضطهادهم وتعذيبهم { ألا يتقون } أي قل لهم ألا تتقون أي يأمرهم بتقوى ربهم بالإيمان به وتوحيده وترك ظلم عباده فالاستفهام معناه الأمر. وقوله تعالى { قال رب إني أخاف أن يكذبون } أي قال موسى بعد تكليفه رب إني أخاف أن يكذبون فيما أخبرهم به وأدعوهم إليه، { ويضيق صدري } لذلك { ولا ينطلق لساني } للعقدة التي به، وعليه { فأرسل إلى هارون } أي جبريل يبلغه أن يكون معي معينا لي على إبلاغ رسالتي، وقوله { ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون } هذا قول موسى عليه السلام لربه تعالى شكا إليه خوفه من قتلهم له بالنفس التي قتلها أيام كان بمصر قبل خروجه إلى مدين فأجابه الرب تعالى { كلا } أي لن يقتلوك. وأمرهما بالسير إلى فرعون فقال { فاذهبا بآياتنآ } وهي العصا واليد { إنا معكم مستمعون } أي فبلغاه ما أمرتكما ببلاغه وإنا معكم مستمعون لما تقولان ولما يقال لكما { فأتيا فرعون فقولا } عند وصولكما إليه { إنا رسول رب العالمين } أي نحمل رسالة منه مفادها أن ترسل معنا بني إسرائيل لنخرج بهم إلى أرض الشام التي وعد الله بها بني إسرائيل هذا ما قاله موسى وهارون رسولا رب العالمين أما جواب فرعون ففي الآيات التالية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إثبات صفة الكلام لله تعالى بندائه موسى عليه السلام.
2- لا بأس بإبداء التخوف عند الإقدام على الأمر الصعب ولا يقدح فى الإيمان ولا في التوكل.
3- مشروعية طلب العون والمساعدة من المسؤلين إذا كلفوا المرء بما يصعب.
[26.18-22]
شرح الكلمات:
قال: أي قال فرعون ردا على كلام موسى في السياق السابق.
ألم نربك فينا وليدا: أي في منازلنا وليدا أي صغيرا قريبا من أيام الولادة.
ولبثت فينا من عمرك سنين: أي أقمت بيننا قرابة ثلاثين سنة وكان موسى يدعى ابن فرعون لجهل الناس به ورؤيتهم له في قصره يلبس ملابسه ويركب مراكبه.
وفعلت فعلتك التي فعلت: أي قتلت الرجل القبطي.
وأنت من الكافرين: أي الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد.
وأنا من الضالين: إذ لم يكن عندي يومئذ من علم ربي ورسالته ما عندي الآن.
أن عبدت بني إسرائيل: أي هل تعبيدك لبني إسرائيل يعد نعمة فتمن بها علي؟
معنى الآيات:
ما زال السياق والحوار الدائر بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن فرد فرعون على موسى بما أخبر تعالى به عنه في قوله { قال ألم نربك فينا وليدا } أي أتذكر معترفا أنا ربيناك وليدا أي صغيرا وأنت في حال الرضاع { ولبثت فينا } أي في قصرنا مع الأسرة المالكة { سنين } ثلاثين سنة قضيتها من عمرك في ديارنا { وفعلت فعلتك } أي الشنعاء { التي فعلت } وهي قتل موسى القبطي { وأنت من الكافرين } أي لنعمنا عليك الجاحد بها، كان هذا رد فرعون فلنستمع إلى رد موسى عليه السلام كما أخبر به الله تعالى عنه في قوله: { قال فعلتهآ إذا } أي يومئذ { وأنا من الضالين } أي الجاهلين لأنه لم يكن قد علمني ربي ما علمني الآن وما أوحى إلي ولا أرسلني إليكم رسولا { ففررت منكم لما خفتكم } من أجل قتلي النفس التي قتلت وأنا من الجاهلين { فوهب لي ربي حكما } أي علما نافعا يحكمني دون فعل ما لا ينبغي فعله { وجعلني من المرسلين } أي من أنبيائه ورسله إلى خلقه ثم قال له ردا على ما أمتن به فرعون بقوله { ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين } فقال { وتلك نعمة } أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي { أن عبدت بني إسرائيل } أي استعبدتهم أي اتخذتهم عبيدا لك يخدمونك تستعملهم كما تشاء كالعبيد لك ولم تستعبدني أنا لاتخاذك إياي ولدا حسب زعمك فأين النعمة التي تمنها علي يا فرعون، نترك رد فرعون إلى الآيات التالية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- قبح جريمة القتل عند كافة الناس مؤمنهم وكافرهم وهو أمر فطري.
2- جوار التذكير بالإحسان لمن أنكره ولكن لا على سبيل الامتنان فإنه محبط للعمل.
3- جواز إطلاق لفظ الضلال على الجهل كما قال تعالى
ووجدك ضآلا
[الضحى: 7] كم قال موسى { وأنا من الضالين } أي الجاهلين قبل أن يعلمني ربي.
4- مشروعية الفرار من الخوف إذا لم يكن في البلد قضاء عادل، وإلا لما جاز الهرب من وجه العدالة.
[26.23-31]
شرح الكلمات:
وما رب العالمين: أي الذي قلت إنك لرسوله من أي جنس هو؟
رب السماوات والأرض وما بينهما: أي خالق ومالك السماوات والأرض ما بينهما.
إن كنتم موقنين: بأن السماوات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات مخلوقة قائمة فخالقها ومالكها هو رب العالمين.
لمن حوله: أي من أشراف قومه ورجال دولته.
ألا تستمعون: أي جوابه الذي لم يطابق السؤال في نظره.
أو لو جئتك بشيء مبين: أي أتسجنني ولو جئتك ببرهان وحجة على رسالتي.
فأت به إن كنت من الصادقين: أي فأت بهذا الشيء المبين إن كنت من الصادقين فيما تقول.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن لما قال موسى
إني رسول رب العلمين
[الزخرف: 46] في أول الحوار قال فرعون مستفسرا في عناد ومكابرة { وما رب العالمين }؟ أي أي شيء هو أو من أي جنس من أجناس المخلوقات فأجابه موسى بما أخبر تعالى به عنه { قال رب السموت والأرض وما بينهمآ } أي خالق السماوات والأرض وخالق ما بينهما. ومالك ذلك كله، إن كنتم موقنين بأن كل مخلوق لا بد له من خالق خلقه، وهو أمر لا تنكره العقول. وهنا قال فرعون في استخفاف وكبرياء لمن حوله من رجال دولته وأشراف قومه: { ألا تستمعون } كأن ما قاله موسى أمر عجب أو مستنكر فعرف موسى ذلك فقال { ربكم ورب آبآئكم الأولين } أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الكل مربوب له خاضع لحكمه وتصرفه. وهو اغتاظ فرعون فقال { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } أراد أن ينال من موسى لأنه أغاظه بقوله { ربكم ورب آبآئكم الأولين } فرد موسى أيضا قائلا { رب المشرق والمغرب وما بينهمآ } أي رب الكون كله { إن كنتم تعقلون } أي ما تخاطبون به ويقال لكم وفي هذا الجواب ما يتقطع له قلب فرعون فلذا رد بما أخبر به تعالى عنه في قوله { قال لئن اتخذت إلها غيري } أي ربا سواي { لأجعلنك من المسجونين } أي لأسجننك وأجعلك في قعر تحت الأرض مع المسجونين، فرد موسى عليه السلام قائلا { أولو جئتك بشيء مبين } أي أتسجنني ولو جئت بحجة بينة وبرهان ساطع على صدقي فيما قلت وأدعوكم إليه؟ وهنا قال فرعون ما أخبر تعالى به { قال فأت به إن كنت من الصادقين } أي فيما تدعي وتقول.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير الربوبية المقتضية للألوهية من طريق هذا الحوار ليسمع ذلك المشركون، وليعلموا أنهم مسبوقون بالشرك والكفر وأنهم ضالون.
2- سنة أهل الباطل أنهم يفجرون في الخصومة وفي الحديث " وإذا خاصم فجر ".
3- أهل الكبر والعلو في الأرض إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى التهديد والوعيد واستخدام القوة.
[26.32-42]
شرح الكلمات:
ثعبان مبين: أي ثعبان ظاهر أنه ثعبان لا شك.
ونزع يده: أي أخرجها من جيبه بعد أن أدخلها فيه.
لساحر عليم: أي متفوق في علم السحر.
أرجه وأخاه: أي أخر أمرهما.
حاشرين: أي جامعين للسحرة.
سحار عليم: أي متفوق في الفن أكثر من موسى.
يوم معلوم: هو ضحى يوم الزينة عندهم.
هل أنتم مجتمعون: أي اجتمعوا كي نتبع السحرة على دينهم إن كانوا هم الغالبين.
وإنكم إذا لمن المقربين: أي لكم الأجر وهو الجعل الذي جعل لهم وزادهم مزية القرب منه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن لقد تقدم في السياق أن فرعون طالب موسى بالإتيان بالآية أي الحجة على صدق دعواه وها هو ذا موسى عليه السلام يلقي عصاه أمام فرعون وملائه فإذا هي ثعبان ظاهر لا شك فيه، وأخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين لا يشك في بياضها وأنه بياض خارق للعادة هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى [32] والثانية [33] { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضآء للناظرين } واعترف فرعون بأن ما شاهده من العصا واليد أمر خارق للعادة ولكنه راوغ فقال { إن هذا } أي موسى { لساحر عليم } أي ذو خبرة بالسحر وتفوق فيه قال هذا للملأ حوله قال تعالى عنه { قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم } وقوله تعالى عنه { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } قال فرعون هذا تهيجا للملأ ليثوروا ضد موسى عليه السلام وهذا من المكر السياسي إذ جعل القضية سياسية بحتة وأن موسى يريد الاستيلاء على الحكم والبلاد ويطرد أهلها منها بواسطة السحر، وقال لهم كالمستشير لهم { فماذا تأمرون }؟ فأشاروا عليه بما أخبر تعالى به عنهم { قالوا أرجه وأخاه } أي أخر أمرهما { وابعث في المدآئن } أي مدن المملكة رجالا { حاشرين } أي جامعين { يأتوك } أيها الملك { بكل سحار عليم } أي ذو خبرة في السحر متفوقة، وفعلا أخذ بمشورة رجاله { فجمع السحرة لميقات يوم معلوم } أي لموعد معلوم وهو ضحى يوم العيد عندهم واستحثوا الناس على الحضور من كافة أنحاء البلاد وهو ما أخبر تعالى به في قوله { قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدآئن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم } فجمع السحرة لميقات يوم معلوم، وقيل للناس { هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة } فنبقى على ديننا ولا نتبع موسى وأخاه على دينهما الجديد { إن كانوا } أي السحرة { هم الغالبين } وهذا من باب الاستحثاث والتحريض على الالتفات حول فرعون وملائه. وقوله تعالى { فلما جآء السحرة } أي من كافة أنحاء البلاد قالوا لفرعون ما أخبر تعالى به عنهم { أإن لنا لأجرا } أي جعلا { إن كنا نحن الغالبين }؟ فأجابهم فرعون قائلا { نعم وإنكم إذا لمن المقربين } أي زيادة على الأجر مكافأة أخرى وهي أن تكونوا من المقربين لدينا، وفي هذا إغراء كبير لهم على أن يبذلوا أقصى جهدهم في الانتصار على موسى عليه السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات المعجزات للأنبياء كمعجزة العصا واليد لموسى عليه السلام.
2- مشروعية استشارة الأمير رجاله في الأمور ذات البال .
3- ثبوت السحر وأنه فن من فنون المعرفة وإن كان تعلمه وتعليمه محرمين.
4- إعطاء المكافأة للفائزين في المباراة وغيرها ومن ذلك السباق في الإسلام.
[26.43-49]
شرح الكلمات:
ألقوا ما أنتم ملقون: أمرهم بالإلقاء توسلا إلى ظهور الحق.
ما يأفكون: أي ما يقلبونه بتمويههم من أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى.
رب موسى وهارون: أي لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يأتي بواسطة السحر.
من خلاف: أي يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى.
ولأصلبنكم أجمعين: أي لأشدنكم بعد قطع أيديكم وأرجلكم من خلاف على الأخشاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن إنه بعد إرجاء السحرة فرعون وسؤالهم له: هل لهم من أجر على مباراتهم موسى إن هم غلبوا وبعد أن طمأنهم فرعون على الأجر والجائزة قال لهم موسى { ألقوا مآ أنتم ملقون } من الحبال والعصي في الميدان { فألقوا حبالهم وعصيهم } وأقسموا بعزة فرعون إنهم هم الغالبون وفعلا انقلبت الساحة كلها حيات وثعابين حتى أوجس موسى في نفسه خيفة فأوحى إليه ربه تعالى أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون. هذا معنى قوله تعالى في هذا السياق { فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون } ومعنى تلقف ما يأفكون أي تبتلع في جوفها من طريق فمها كل ما أفكه أي كذبه وافتراه السحرة بسحرهم من انقلاب الحبال والعصي حيات وثعابين، وقوله تعالى { فألقي السحرة ساجدين } أي أنهم لاندهاشهم وما بهرهم من الحق ألقوا بأنفسهم على الأرض ساجدين لله تعالى مؤمنين به، فسئلوا عن حالهم تلك فقالوا { آمنا برب العالمين رب موسى وهارون } وهنا خاف فرعون تفلت الزمام من يده وأن يؤمن الناس بموسى وهارون ويكفرون به فقال للسحرة: { آمنتم له قبل أن آذن لكم } بذلك أي كيف تؤمنون بدون إذني؟ على أنه يملك ذلك منهم وهي مجرد مناورة مكشوفة، ثم قال لهم { إنه } أي موسى { لكبيركم الذي علمكم السحر } أي إنه لما كان استاذكم تواطأتم معه على الغلب فأظهرتم أنه غلبكم، تمويها وتضليلا للجماهير.. ثم تهددهم قائلا { فلسوف تعلمون } عقوبتي لكم على هذا التواطؤ وهي { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } أي أقطع من الواحد منكم يده اليمنى ورجله اليسرى { ولأصلبنكم أجمعين } فلا أبقي منكم أحدا إلا أشده على خشبة حتى يموت مصلوبا، هل فعل فرعون ما توعد به؟ الله أعلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لم يبادر موسى بإلقاء عصاه أولا لأن المسألة مسألة علم لا مسألة حرب ففي الحرب تنفع المبادرة بافتكاك زمام المعركة، وأما في العلم فيحسن تقديم الخصم، فإذا أظهر ما عنده كر عليه بالحجج والبراهين فأبطله وظهر الحق وانتصر على الباطل، هذا الأسلوب الذي اتبع موسى بإلهام من ربه تعالى.
2- مظهر من مظاهر الهداية الإلهية هداية السحرة إذ هم في أول النهار سحرة كفرة وفي آخره مؤمنون بررة.
3- ما سلكه فرعون مع السحرة كله من باب المناورات السياسية الفاشلة.
[26.50-60]
شرح الكلمات:
لا ضير: أي لا ضرر علينا.
لمنقلبون: أي راجعون بعد الموت وذلك يسر ولا يضر.
إن كنا أول المؤمنين: أي رجوا أن يكفر الله عنهم سيئاتهم لأنهم سبقوا بالإيمان.
أن أسر بعبادي: السرى المشي ليلا والمراد من العباد بنو إسرائيل.
إنكم متبعون: أي من قبل فرعون وجيوشه.
لشرذمة: أي طائفة من الناس.
لغائظون: أي فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا.
حذرون: أي متيقظون مستعدون.
ومقام كريم: أي مجلس حسن كان للأمراء والوزراء.
كذلك: أي كان إخراجنا كذلك أي على تلك الصورة.
مشرقين: أي وقت شروق الشمس.
معنى الآيات:
قوله تعالى { قالوا لا ضير } هذا قول السحرة لفرعون بعد أن هددهم وتوعدهم { قالوا لا ضير } أي لا ضرر علينا بتقطيعك أيدينا وأرجلنا وتصليبك إيانا { إنآ إلى ربنا منقلبون } أي راجعون إن كل الذي تفعله معنا إنك تعجل برجوعنا إلى ربنا وذاك أحب شيء إلينا. وقالوا { إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانآ } أي ذنوبنا { أن كنآ أول المؤمنين } في هذه البلاد برب العالمين رب موسى وهارون.
بعد هذا الانتصار العظيم الذي تم لموسى وهارون أوحى تعالى إلى موسى { أن أسر بعبادي } أي امش بهم ليلا { إنكم متبعون } أي من قبل فرعون وجنوده. وعلم فرعون بعزم موسى على الخروج ببني إسرائيل فأرسل في المدائن وكانت له مآت المدن حاشرين من الرجال أي جامعين وكأنها تعبئة عامة. يقولون محرضين { إن هؤلاء } أي موسى وبني إسرائيل { لشرذمة } أي طائفة أفرادها قليلون { وإنهم لنا لغآئظون } أي لفاعلون ما يغيظنا ويغضبنا { وإنا } أي حكومة وشعبا { لجميع حاذرون } أي متيقظون مستعدون فهلم إلى ملاحقتهم وردهم إلى الطاعة، وعجل تعالى بالمسرة في هذا الخبر فقال تعالى { فأخرجناهم } أي آل فرعون { من جنات وعيون وكنوز } أي كنوز الذهب والفضة التي كانت مدفونة تحت التراب، إذ الطمس كان على العملة فسدت وأما مخزون الذهب والفضة فما زال تحت الأرض، إذ الكنز يطلق على المدفون تحت الأرض وإن كان شرعا هو الكنز ما لم تؤد زكاته سواء كانت تحت الأرض أو فوقها.
وقوله تعالى { كذلك } أي إخراجنا لهم كان كذلك، { وأورثناها } أي تلك النعم بنى إسرائيل أي بعد هلاك فرعون وجنوده أجمعين. وقوله تعالى { فأتبعوهم مشرقين } أي فاتبع آل فرعون بني إسرائيل أنفسهم في وقت شروق الشمس ليردوهم ويحولوا بينهم وبين الخروج من البلاد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- قوة الإيمان مصدر شجاعة خارقة للعادة بحيث يفرح المؤمن بالموت لأنه يوصله إلى ربه.
2- حسن الرجاء في الله والطمع في رحمته، وفضل الأسبقية في الخير.
3- مشروعية التعبئة العامة واستعمال أسلوب خاص في الحرب يهديء من مخاوف الأمة حكومة وشعبا.
4- دمار الظالمين وهلاك المسرفين في الكفر والشر والفساد.
[26.61-68]
شرح الكلمات:
فلما تراءى الجمعان: أي رأى بعضهما بعضا لتقاربهما والجمعان جمع بني إسرائيل وجمع فرعون.
إنا لمدركون: أي قال أصحاب موسى من بني إسرائيل إنا لمدركون أي سيلحقنا فرعون وجنده.
قال كلا: أي قال موسى عليه السلام كلا أي لن يدركونا ولن يلحقوا بنا.
فانفلق: أي انشق.
فكان كل فرق كالطود: أي شق أي الجزء المنفرق والطود: الجبل.
وأزلفنا ثم الآخرين: أي قربنا هنا لك الآخرين أي فرعون وجنده.
إن في ذلك لآية: أي عظة وعبرة توجب الإيمان برب العالمين برب موسى وهارون.
معنى الآيات:
هذا آخر قصة موسى عليه السلام مع فرعون قال تعالى في بيان نهاية الظالمين وفوز المؤمنين { فلما تراءى الجمعان } جمع موسى وجمع فرعون وتقاربا بحيث رأى بعضهما بعضا { قال أصحاب موسى } أي بنو إسرائيل { إنا لمدركون } أي خافوا لما رأوا جيوش فرعون تتقدم نحوهم صاحوا { إنا لمدركون } فطمأنهم موسى بقوله { كلا } أي لن تدركوا، وعلل ذلك بقوله { إن معي ربي سيهدين } إلى طريق نجاتي قال تعالى { فأوحينآ إلى موسى أن اضرب } أي اضرب بعصاك البحر فضرب امتثالا لأمر ربه فانفلق البحر فرقتين كل فرقة منه كالجبل العظيم { وأزلفنا } أي قربنا { ثم الآخرين } أي أدنينا هناك الآخرين وهم فرعون وجيوشه { وأنجينا موسى ومن معه } أي من بني إسرائيل { أجمعين } { ثم أغرقنا الآخرين } المعادين لبني إسرائيل وهم فرعون وجنده. وقوله تعالى { إن في ذلك } المذكور من إهلاك فرعون وإنجاء موسى وبني إسرائيل { لآية } أي علامة واضحة بارز لربوبية الله وألوهيته وقدرته وعلمه ورحمته وهي عبرة وعظة أيضا للمعتبرين، وما كان أكثر قومك يا محمد مؤمنين مع موجب الإيمان ومقتضيه لأنه سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون.
وقوله: { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي وإن ربك يا محمد لهو الغالب على أمره الذي لا يمانع في شيء يريده ولا يحال بين مراده الرحيم بعباده فاصبر على دعوته وتوكل عليه فإنه ناصرك ومذل أعدائك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ظهور آثار الاستعباد في بني إسرائيل متجلية في خوفهم مع مشاهدة الآيات.
2- ثبوت صفة المعية الإلهية في قول موسى { إن معي ربي } إذ قال له عند إرساله
إنني معكمآ
[طه: 46].
3- ثبوت الوحي الإلهي.
4- آية انفلاق البحر من أعظم الآيات.
5- تقير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بقصة مثل هذا القصص الذي لا يتأتى إلا بوحي خاص.
[26.69-82]
شرح الكلمات:
واتل عليهم نبأ إبراهيم: أي اقرأ يا رسولنا على قومك خبر إبراهيم وشأنه العظيم .
لأبيه وقومه: أي آزر والبابليين.
فنظل لها عاكفين: أي فنقيم أكثر النهار عاكفين على عبادتها.
قالوا بل وجدنا: أي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر بل وجدنا آباءنا لها عابدين فنحن تبع لهم.
فإنهم عدو لي: أي أعداء لي يوم القيامة إذا أنا عبدتهم لأنهم يتبرءون من عابديهم.
إلا رب العالمين: فإن من يعبده لا يتبرأ منه يوم القيامة بل ينجيه من النار ويكرمه بالجنة.
فهو يهدين: أي إلى ما ينجيني من العذاب ويسعدني في دنياي وأخراي.
والذي يميتني ثم يحيين: أي يميتني عند انتهاء أجلي، ثم يحييني ليوم الدين.
يوم الدين: أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة والبعث الآخر.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص إبراهيم عليه السلام والقصد منه عرض حياة إبراهيم الدعوية على مسامع قريش قوم محمد صلى الله عليه وسلم علهم يتعظون بها فيؤمنوا ويوحدوا فيسلموا ويسلموا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة قال تعالى { واتل عليهم نبأ إبراهيم } أي اقرأ على قومك من قريش خبر إبراهيم في الوقت الذي قال لأبيه وقومه { ما تعبدون } مستفهما إياهم ليرد على جوابهم وهو أسلوب حكيم في الدعوة والتعليم يسألهم ويجيبهم بناء على مقتضى سؤالهم فيكون ذلك أدعى للفهم وقبول الحق: { قالوا نعبد أصناما } أي في صور تماثيل { فنظل لها عاكفين } فنقيم أكثر النهار عاكفين حولها نتقرب إليها ونتبرك بها خاشعين خاضعين عندها. ولما سمع جوابهم وقد صدقوا فيه قال لهم { هل يسمعونكم إذ تدعون } أي إذ تدعونها { أو ينفعونكم } إن طلبتم منهم منفعة { أو يضرون } إن طلبتم منهم أن يضروا أحدا تريدون ضره أنتم؟ فأجابوا قائلين في كل ذلك لا، لا، لا. وإنما وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ففعلنا مثلهم اقتداء بهم واتباعا لطريقتهم، وهنا صارحهم إبراهيم بما يريد أن يفهموه عنه فقال { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآبآؤكم الأقدمون } الذي هم أجدادكم الذين ورث عنهم آباؤكم هذا الشرك والباطل { فإنهم عدو لي } أي أعداء لي وذلك يوم القيامة إن أنا عبدتهم معكم، لأن كل من عبد من دون الله يتبرأ يوم القيامة ممن عبده ويعلن عداوته له طلبا لنجاة نفسه من عذاب الله. وقوله { إلا رب العالمين } فإنه لا يكون عدوا لمن عبده بل يكون ودودا له رحيما به. ألا فاعبدوه يا قوم واتركوا عبادة من يكون عدوا لكم يوم القيامة!!
ثم أخذ إبراهيم يذكر ربه ويثني عليه ويمجده تعريفا به وتذكيرا لأولئك الجهلة المشركين فقال { الذي خلقني فهو يهدين } أي إلى طريق نجاتي وكمالي وسعادتي وذلك ببيانه لي محابة لآتيها، ومساخطه لأتجنبها، { والذي هو يطعمني ويسقين } أي يغذوني بأنواع الأطعمة ويسقيني بما خلق ويسر لي من أنواع الأشربة من ماء ولبن وعسل، { وإذا مرضت } بأن اعتل جسمي وسقم فهو لا غيره يشفيني، { والذي يميتني } يوم يريد إماتتي عند انتهاء ما حدد لي من أجل تنتهي به حياتي، ثم يحييني يوم البعث والنشور، { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي } أي يسترها ويمحو أثرها من نفسي يوم الدين أي يوم الجزاء والحساب على عمل الإنسان في هذه الدار إذ هي دار عمل والآخرة دار جزاء.
وإذا قيل ما المراد من الخطيئة التي ذكر إبراهيم لنفسه؟ فالجواب إنها الكذبات الثلاث التي كانت لإبراهيم طوال حياته الأولى قوله
إني سقيم
[الصافات: 89] والثانية
بل فعله كبيرهم هذا
[الأنبياء: 63] والثالثة قولي للطاغية إنه أخي ولا تقولي إنه زوجي، هذه الكذبات التي كانت لإبراهيم فهو خائف منها ويوم القيامة لما تطلب منه البشرية الشفاعة عند ربها يذكر هذه الكذبات ويقول إنما أنا من وراء وراء فاذهبوا إلى موسى.
ألا فليتعظ المؤمنون الذين كذبهم لا يعد كثرة!!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر هذا القصص.
2- تقرير التوحيد بالحوار الذي دار بين إبراهيم إمام الموحدين وقومه المشركين.
3- بيان أن كل من عبد معبودا غير الله تعالى سيكون له عدوا لدودا يوم القيامة.
4- بيان أن العكوف على الأضرحة والتمرغ في تربتها وطلب الشفاء منها شرك.
5- بيان الاسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله تعالى من طريق السؤال والجواب.
[26.83-93]
شرح الكلمات:
رب هب لي حكما: أي يا رب أعطني من فضلك حكما أي علما نافعا وارزقني العمل به.
وألحقني بالصالحين: لأعمل عملهم في الدنيا وأكون معهم في الدار الآخرة.
واجعل لي لسان صدق في الآخرين: أي اجعل لي ذكرا حسنا أذكر به فيمن يأتي بعدي.
واغفر لأبي: كان هذا منه قبل أن يتبين له أنه عدو لله.
ولا تخزني يوم يبعثون: أي لا تفضحني.
بقلب سليم: أي من الشرك والنفاق.
وأزلفت الجنة: أي أدنيت وقربت للمتقين.
وبرزت الجحيم للغاوين: أي أظهرت وجليت للغاوين.
هل ينصرونكم: أي بدفع العذاب عنكم.
معنى الآيات:
هذا آخر قصص إبراهيم وخاتمته لما ذكر إبراهيم قومه ووعظهم رفع يديه إلى ربه يسأله ويتضرع إليه فقال { رب هب لي حكما } أي علما نافعا يمنعني من فعل ما يسخطك عني ويدفعني إلى فعل ما يرضيك عني، { وألحقني بالصالحين } في أعمالهم الخيرية في الدنيا وبمرافقتهم في الجنة. { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } أي اجعل لي ذكرا حسنا أذكر به فيمن يأتي من عبادك المؤمنين، { واجعلني من ورثة جنة النعيم } الذين يرثونها بالإيمان والتقوى بعد فضلك عليهم ورحمتك بهم، { واغفر لأبي إنه كان من الضآلين } أي الجاهلين بك وبمحابك ومكارهك فما عبدوك ولا تقربوا إليك. وكان هذا من إبراهيم قبل العلم بأن أباه عدو لله حيث سبق له ذلك أزلا، إذ قد تبرأ منه بعد أن علم ذلك وقوله { ولا تخزني } أي لا تذلني { يوم يبعثون } أي من قبورهم للحساب والجزاء على أعمالهم { يوم لا ينفع مال ولا بنون } وهو يوم القيامة { إلا من أتى الله بقلب سليم } أي لكن من أتى الله أي جاءه يوم القيامة وقلبه سليم من الشرك والنفاق فهذا ينفعه عمله الصالح لخلوه مما يحبطه وهو الشرك والكفر الظاهر والباطن وقوله تعالى { وأزلفت الجنة } أي قربت وأدنيت للمتقين الله ربهم فلم يشركوا به في عبادته ولم يجاهروا بمعاصيه، { وبرزت الجحيم } أي أظهرت وارتفعت { للغاوين } أي أهل الغواية والضلالة في الدنيا من المشركين والمسرفين في الإجرام والشر والفساد { وقيل لهم } أي سئلوا في عرصات القيامة { أين ما كنتم تعبدون من دون الله }؟ أروناهم { هل ينصرونكم } مما أنتم فيه فيدفعون عنكم العذاب، { أو ينتصرون } لأنفسهم فيدفعون عنها العذاب إن كانوا من أهل النار لأنهم رضوا بأن يعبدوا ودعوا الناس إلى عبادتهم كالشياطين والمجرمين من الإنس والجن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن الجنة تورث ويذكر تعالى سبب إرثها وهو التقوى في قوله
تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا
[مريم: 63].
2- مشروعية الاستغفار للوالدين إن ماتا على التوحيد.
3- بطلان الانتفاع يوم القيامة بغير الإيمان والعمل الصالح بعد فضل الله ورحمته.
4- الترغيب في التقوى والتحذير من الغواية.
[26.94-104]
شرح الكلمات:
فكبكبوا فيها: أي ألقوا على وجوههم في جهنم ودحرجوا فيها حتى انتهوا إلى قعرها.
والغاوون: جمع غاو وهو الفاسد القلب المدنس الروح من الشرك والمعاصي.
وجنود إبليس: أي أتباعه وأنصاره وأعوانه من الإنس والجن.
إذ نسويكم برب العالمين: أي في العبادة فعبدناكم كما يعبد الله جل جلاله.
ولا صديق حميم: أي يهمه أمرنا وتنفعنا صداقته نحتمي به من أن نعذب.
فلو أن لنا كرة: أي رجعة إلى الدنيا لنؤمن ونوحد ونعبد ربنا بما شرع لنا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { فكبكبوا } بعد ذلك الاستفهام التوبيخي التقريعي الذي تقدم في قوله تعالى
وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون
[الشعراء: 92-93]؟ وفشلوا في الجواب ولم يجيدوه إذ هو غير ممكن فأخبر تعالى عنهم بأنهم كبكبوا في جهنم -أي كبوا على وجوههم ودحرجوا فيها هم والغاوون جمع غاو أي فاسد العقيدة والعمل وجنود إبليس أجمعون من أتباع الشيطان وأعوانه من دعاة الشرك والمعاصي والجريمة في الأرض من الإنس والجن قوله تعالى { قالوا وهم فيها يختصمون } أي وهم في جهنم يختصمون كل واحد يحمل الثاني التبعة والمسؤولية فقال المشركون لمن أشركوا بهم { تالله إن كنا لفي ضلال مبين } أي ظاهر بين لا يختلف فيه، وذلك { إذ نسويكم برب العالمين } عز وجل فنعبدكم معه، { ومآ أضلنآ إلا المجرمون } وهم دعاء الشرك والشر والضلال الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها، وأجرموا علينا فأفسدوا نفوسنا بالشرك والمعاصي، وقوله تعالى { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } هذا قولهم أيضا قرروا فيه حقيقة أخرى وهي أنه ليس لهم في هذا اليوم من شافعين يشفعون لهم عند الله تعالى لا من الملائكة ولا من الإنس والجن إذ لا شفاعة تنفع من مات على الشرك والكفر، وقولهم ولا صديق حميم أي وليس لنا أي من صديق حميم تنفعنا صداقته وولايته.
وقالوا متمنين بعد اليأس من وجود شافعين { فلو أن لنا كرة } أي رجعة إلى دار الدنيا { فنكون من المؤمنين } فنؤمن ونوحد ونتبع الرسل. وهذا آخر ما أخبر تعالى به عنهم من كلامهم في جهنم.
وقوله تعالى: { إن في ذلك } أي المذكور من كبكبة المشركين والغاوين وجنود إبليس أجمعين في جهنم وخصومتهم فيها وما قالوا وتمنوه وحرمانهم من الشفاعة وخلودهم في النار { لآية } أي لعبرة لمن يعتبر بغيره، { وما كان أكثرهم مؤمنين } ولم يكن أكثر قومك يا رسولنا مؤمنين وإلا لانتفعوا بهذه العبر فآمنوا ووحدوا وأسلموا { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي الغالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الرحيم بعباده إن أنابوا إليه وأخلصوا العبادة له يكرمهم في جواره في جنات النعيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن دعاة الزنى والربا والخرافة والشركيات من الناس هم من جند إبليس.
2- تقرير أن المجرمين هم الذين أفسدوا نفوسهم ونفوس غيرهم بدعوتهم إلى الضلال. وحملهم عل المعاصي.
3- تقرير أن الشفاعة لن تكون لمن مات على الشرك والكفر.
4- لا تنفع العبر والمواعظ والآيات في هداية قوم كتب الله أزلا شقاءهم وعلم منهم أنهم لا يؤمنون فكتب ذلك عليهم.
[26.105-115]
شرح الكلمات:
كذبت قوم نوح المرسلين: قوم نوح الأمة التي بعث فيها، والمراد من المرسلين نوح عليه السلام.
أخوهم نوح: أي في النسب.
ألا تتقون: أي اتقوا الله ربكم فلا تعصوه بالشرك والمعاصي.
رسول أمين: أي على ما أمرني ربي بإبلاغه إليكم.
من أجر: أي لا أسألكم على إبلاغ رسالة الله أجرة مقابل البلاغ.
أنؤمن لك واتبعك الأرذلون: أي كيف نتبعك على ما تدعونا إليه وقد اتبعك أراذل الناس أي سفلتهم وأهل الخسة فيهم.
إن حسابهم إلا على ربي: أي ما حسابهم إلا على ربي.
معنى الآيات:
هذه بداية قصص نوح عليه السلام فقال تعالى { كذبت قوم نوح } أي بما جاءهم به نوح من الأمر بالتوحيد وترك الشرك { إذ قال لهم أخوهم } أي في النسب { نوح ألا تتقون } أي عقاب الله وأنتم تشركون به، وتكذبون رسوله { إني لكم رسول أمين } على ما أبلغكم من وحي الله تعالى فاتقوا الله بترك الشرك وأطيعوني فيما أدعوكم إليه وآمركم به { ومآ أسألكم عليه من أجر } أي على البلاغ من أجر أتقاضاه منكم مقابل ما أبلغكم من رسالة ربكم. { إن أجري إلا على رب } إذ هو الذي كلفني { فاتقوا الله } أي خافوا عقابه أن يحل بكم وأنتم تكفرون به وتكذبون برسوله وأطيعون فيما آمركم به وأنهاكم عنه. بعد هذا الذي أمرهم به وكرره عليهم من تقوى الله وطاعة لرسوله كان جوابهم ما أخبر به تعالى عنهم في قوله: { قالوا أنؤمن لك } أي أنصدقك ونتابعك على ما جئت به من الدين { واتبعك الأرذلون } أي سفلة الناس وأخساؤهم؟.
فأجابهم نوح قوله { وما علمي بما كانوا يعملون } فيما يعملونه بعيدين عني من الباطن أو الظاهر أنا لا أعلمه ولا أسأل عنه ولا أحاسب عليه، { إن حسابهم إلا على ربي } هو الذي يحاسبهم ويجزيهم لو تشعرون بهذه الحقيقة لما عبتموهم لي وحملتموني مسئولية عملهم { ومآ أنا بطارد المؤمنين } أي من حولي، { إن أنا إلا نذير مبين } فلست بجبار ولا ذي سلطان فأطرد الناس وظيفتي أني أنذر الناس عاقبة الكفر والمعاصي ليقلعوا عن ذلك فينجوا من عذاب الله ويسلموا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن من كذب رسولا فكأنما كذب كل الرسل وذلك باعتبار أن دعوتهم واحدة وهي أن يعبد الله وحده بما شرع للناس من عبادات تطهرهم وتزكيهم.
2- إثبات أخوة النسب، ولا تعارض بينها وبين أخوة الدين.
3- عدم جواز أخذ أجرة على دعوة الله تعالى. ووجوب إبلاغها مجانا.
4- وجوب التقوى لله تعالى، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
5- لا يجوز طرد الفقراء من مجالس العلم ليجلس مجالسهم الأغنياء وأهل الجاه.
[26.116-122]
شرح الكلمات:
لئن لم تنته: أي عن دعوتنا إلى ترك آلهتنا وعبادة إلهك وحده.
من المرجومين: أي المقتولين رجما بالحجارة.
فافتح بيني وبينهم فتحا: أي أحكم بيني وبينهم حكما بأن تهلكهم وتنجيني ومن معي من المؤمنين.
في الفلك المشحون: أي المملوء بالركاب وأزواج المخلوقات الأخرى.
بعد الباقين: أي بعد إنجائنا نوحا والمؤمنين بركوبهم في السفينة أغرقنا الكافرين إذ إغراقهم كان بعد نجاة المؤمنين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الدائر بين نوح وقومه إنه لما دعاهم إلى التوحيد وكرر عليهم الدعوة وأفحمهم في مواطن كثيرة وأعيتهم الحجج لجأوا إلى التهديد والوعيد فقالوا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { قالوا لئن لم تنته ينوح } أي قسما بآلهتنا لئن لم تنته يا نوح من تسفيهنا وسب آلهتنا ومطالبتنا بترك عبادتها { لتكونن من المرجومين } أي لنقتلنك رميا بالحجارة. وهنا وبعد دعوة دامت ألف سنة إلا خمسين عاما رفع نوح شكواه إلى الله قائلا: { رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا } أي احكم بيننا وافصل في قضية وجودنا مع بعضنا بعضا فأهلكهم { ونجني ومن معي من المؤمنين } قال تعالى { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون } أي المملوء بأنواع الحيوانات { ثم أغرقنا بعد الباقين } أي بعد إنجائنا نوحا ومن معه من المؤمنين بأن ركبوا في الفلك وما زال الماء يرتفع النازل من السماء والنابع من الأرض حتى غرق كل من على الأرض والجبال ولم ينج أحد إلا نوح وأصحاب السفينة، قال تعالى { إن في ذلك } أي المذكور من الصراع الذي دار بين التوحيد والشرك وفي عاقبة التوحيد وهي نجاة أهله والشرك وهي دمار أهله { لآية } أي عبرة. ولكن أهل مكة لم يعتبروا { وما كان أكثرهم مؤمنين } لما سبق في علم الله تعالى من عدم إيمانهم إذا فلا تحزن عليهم. { وإن ربك } أيها الرسول الكريم لهو لا غيره العزيز الغالب الرحيم بمن تاب من عباده فإنه لا يعذبه بل يرحمه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة أن الظلمة والطغاة إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى القوة.
2- جواز الاستنصار بالله تعالى وطلب الفتح بين المظلوم والظالمين.
3- سرعة استجابة الله تعالى لعبده نوح وذلك لصبره قرونا طويلة فلما انتهى صبره ورفع شكاته إلى ربه أجابه فورا فأنجاه وأهلك أعداءه.
[26.123-131]
شرح الكلمات:
كذبت عاد: عاد اسم أبي القبيلة وسميت القبيلة به.
أخوهم هود: أخوهم في النسب.
فاتقوا الله: أي خافوا عقابه فلا تشركوا به شيئا.
أتبنون بكل ريع: أي مكان عال مرتفع.
آية: أي قصرا مشيدا عاليا مرتفعا.
تعبثون: أي ببنيانكم حيث تبنون ما لا تسكنون.
وتتخذون مصانع: أي حصونا منيعة وقصورا رفيعة.
لعلكم تخلدون: أي كأنكم تأملون الخلود في الأرض وترجونه.
وإذا بطشتم: أي أخذتم أحدا سطوتم عليه بعنف وشدة.
جبارين: أي عتاة متسلطين.
معنى الآيات:
هذه بداية قصص هود عليه السلام يقول تعالى { كذبت عاد } أي قبيلة عاد { المرسلين } أي رسول الله هودا، { إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون } أي ألا تتقون عقاب الله بترككم الشرك والمعاصي بمعنى اتقوا الله ربكم فلا تشركوا به، وقوله { إني لكم رسول أمين } يخبرهم بأنه رسول الله إليهم يبلغهم عن الله أمره ونهيه وأنه أمين على ذلك فلا يزيد ولا ينقص فيما أمره ربه بإبلاغه إليهم، وعليه { فاتقوا الله وأطيعون } أي بوصفي رسول الله إليكم فإن طاعتي واجبة عليكم حتى أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
وقوله { ومآ أسألكم عليه من أجر } أي على إبلاغ رسالتي إليكم من أجر أي من أي أجر كان. ولو قل { إن أجري } أي ما أجري إلا على رب العالمين سبحانه وتعالى إذ هو الذي أرسلني وكلفني فهو الذي أرجو أن يثييني على حمل رسالتي إليكم وإبلاغها إياكم. وعليه فاتقوا الله إي خافوا عقابه بترك الشرك به والمعاصي وأطيعوني بقبول ما أبلغكم به لتكملوا وتسعدوا.
وقوله: { أتبنون بكل ريع آية تعبثون } ينكر هود على قومه إنهماكهم في الدنيا وانشغالهم بما لا يعني وإعراضهم عما يعنيهم فيقول لهم كالمنكر عليهم أتبنون بكل ريع أي مكان عال مرتفع آية أي قصرا مشيدا في ارتفاعه وعلوه. تعبثون حيث لا تسكنون فيما تبنون فهو لمجرد اللهو والعبث وقوله { وتتخذون مصانع } وهي مبان عالية كالحصون أو خزانات الماء أو الحصون { لعلكم تخلدون } أي كيما تخلدون، وما أنتم بخالدين، وإنما مقامكم فيها قليل. وقوله { وإذا بطشتم بطشتم جبارين } أي إذا سطوتم على أحد تسطون عليه سطو العتاة الجبارين فتأخذون بعنف وشدة بلا رحمة ولا رفق { فاتقوا الله } يا قوم فخافوا عقابه وأليم عذابه، { وأطيعون } فيما أدعوكم إليه وأبلغكموه عن ربي فإن ذلك خير لكم من الإعراض والتمادي في الباطل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأمر بالتقوى من النصح للمأمور بها، لأن النجاة والفوز لا يتمان للعبد إلا عليها.
2- الرسل أمناء على ما يحملون وما يبلغون الناس.
3- حرمة أخذ الأجرة على بيان الشرع والدعوة إلى ذلك.
4- ينبغي للعبد أن لا يسرف فيبني ما لا يسكن ويدخر ما لا يأكل.
5- استنكار العنف والشدة في الأخذ وعند المؤاخذة.
[26.132-140]
شرح الكلمات:
أمدكم: أي أعطاكم منعما عليكم.
بأنعام: هي الإبل والبقر والغنم.
عذاب يوم عظيم: هو يوم هلاكهم في الدنيا ويوم بعثهم يوم القيامة.
سواء علينا: أي مستو عندنا وعظك وعدمه فإنا لا نطيعك.
إن هذا إلا خلق الأولين: أي ما هذا الذي تعظنا فيه من البناء وغيره إلا دأب وعادة الأولين فنحن على طريقتهم، وما نحن بمعذبين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار الذي دار بين نبي الله هود عليه السلام وبين قومه المشركين إذ أمرهم بالتقوى وبطاعته وأمرهم أيضا بتقوى الله الذي أمدهم أي أنعم عليهم بما يعلمونه من أنواع النعم فإن طاعة المنعم شكر له على إنعامه ومعصيته كفر لإنعامه فقال { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون } وبين ذلك بقوله { أمدكم بأنعام } أي مواشي من إبل وبقر وغنم { وبنين } أي أولاد ذكور وإناث { وجنات } أي بساتين { وعيون } لسقيها وسقيكم وتطهيركم ، ثم قال لهم في إشفاق عليهم { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } إن أنتم أصررتم على الشرك والمعاصي وقد يكون عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة، وقد عذبوا في الدنيا بإهلاكهم ويعذبون في الآخرة لأنهم ماتوا كفارا مشركين عصاة مجرمين، كان هذا ما وعظهم به نبيهم هود عليه السلام، وكان ردهم على وعظه ما أخبر تعالى به في قوله { قالوا سوآء علينآ أوعظت أم لم تكن من الواعظين } أي مستو عندنا وعظك أي تخويفك وتذكيرك وعدمه فما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين وقالوا { إن هذا } الذي نحن عليه من البناء والإشادة وعبادة آلهتنا { إلا خلق الأولين } أي دأب وعادة من سبقنا من الناس، وما نحن بمعذبين عليه قال تعالى مخبرا عن نتيجة ذلك الحوار وتلك الدعوة التي قام بها نبي الله هود { فكذبوه } أي كذبوا هودا فيما جاءهم به ودعاهم إليه وحذرهم منه، { فأهلكناهم } أي بتكذيبهم وإعراضهم { إن في ذلك } الإهلاك للمكذبين عبرة لقومك يا محمد لو كانوا يعتبرون { وما كان أكثرهم مؤمنين } لما سبق في علم الله من عدم إيمانهم فلذا لم تنفعهم المواعظ والعبر، وإن ربك لهو العزيز الرحيم فقد أخذ الجبابرة العتاة فأنزل بهم نقمته وأذاقهم مر عذابه، ورحم أولياءه فأنجاهم وأهلك أعداءهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تنويع أسلوب الدعوة وتذكير الجاحدين بما هو محسوس لديهم مرأي لهم.
2- التخويف من عذاب الله والتحذير من عاقبة عصيانه من أساليب الدعوة.
3- بيان سنة الناس في التقليد واتباع آبائهم وإن كانوا ضلالا جاهلين.
4- تقرير التوحيد والنبوة والبعث إذ هو المقصود من هذا القصص.
[26.141-152]
شرح الكلمات:
كذبت ثمود المرسلين: أي كذبت قبيلة ثمود نبيها صالحا.
فيما ها هنا آمنين: أي من الخيرات والنعم غير خائفين من أحد.
طلعها هضيم: أي طلع النخلة لين ناعم ما دام في كفراه أي غطاؤه الذي عليه.
وتنحتون من الجبال بيوتا: أي تنجرون بآلات النحت الصخور في الجبل وتتخذون منها بيوتا.
فرهين: أي حذقين من جهة وبطرين متكبرين مغترين بصنيعكم من جهة أخرى.
وأطيعون: أي فيما أمرتكم به.
المسرفين: أي في الشر والفساد بالكفر والعناد.
الذين يفسدون في الأرض: أي بارتكاب الذنوب العظام فيها.
ولا يصلحون فيها: أي بفعل الطاعات والقربات.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص نبي الله صالح عليه السلام قال تعالى { كذبت ثمود المرسلين } أي جحدت قبيلة ثمود ما جاءها به رسولها صالح، { إذ قال لهم أخوهم } في النسب لا في الدين إذ هو مؤمن وهم كافرون { ألا تتقون } أي يحضهم على التقوى ويأمرهم بها لأن فيها نجاتهم والمراد من التقوى اتقاء عذاب الله بالإيمان به وتوحيده وطاعته وطاعة رسوله وقوله { إني لكم رسول أمين } يعلمهم بأنه مرسل من قبل الله تعالى إليهم أمين على رسالة الله وما تحمله من العلم والبيان والهدى إليهم. { فاتقوا الله وأطيعون } كرر الأمر بالتقوى وبطاعته إذ هما معظم رسالته ومتى حققها المرسل إليهم اهتدوا وأفلحوا { ومآ أسألكم عليه من أجر } أبعد تهمة المادة لما قد يقال أنه يريد مالا فأخبرهم في صراحة أنه لا يطلب على إبلاغهم دعوة ربهم أجرا من أحد إلا من الله رب العالمين إذ هو الذي يثيب ويجزي العاملين له وفي دائرة طاعته وقوله فيما أخبر تعالى به عنه { أتتركون في ما هاهنآ } بين أيديكم من الخيرات { آمنين } غير خائفين، وبين ما أشار إليه بقوله فيما ها هنا فقال { في جنات } أي بساتين ومزارع بمدائنهم وهي إلى الآن قائمة { وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم } أي لين ناعم ما دام في كفراه أي غلافه { وتنحتون من الجبال بيوتا } لما خولكم الله من قوة ومعرفة بفن النحت حتى أصبحتم تتخذون من الجبال الصم بيوتا تسكنونها شتاء فتقيكم البرد. وقوله { فارهين } هذا حال من قوله { وتنحتون من الجبال بيوتا } ومعنى { فارهين } حذقين فن النحت وبطرين متكبرين مغترين بقوتكم وصناعتكم، إذا { فاتقوا الله } يا قوم بترك الشرك والمعاصي { وأطيعون } فيما آمركم به وأنهاكم عنه وأدعوكم إليه { ولا تطيعوا أمر المسرفين } أي على أنفسهم بارتكاب الكبائر وغشيان الذنوب. { الذين يفسدون في الأرض } أي بمعاصي الله ورسوله فيها { ولا يصلحون } أي جمعوا بين الفساد والإفساد، وترك الصلاة والإصلاح.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دعوة الرسل واحدة ولذا التكذيب برسول يعتبر تكذيبا بكل الرسل.
2- الأمانة شعار كل الرسل والدعاة الصادقين الصالحين في كل الأمم والعصور.
3- مشروعية التذكير بالنعم ليذكر المنعم فيحب ويطاع.
4- التحذير من طاعة المسرفين في الذنوب والمعاصي لوخامة عاقبة طاعتهم.
5- تقرير أن الفساد في الأرض يكون بارتكاب المعاصي فيها.
[26.153-159]
شرح الكلمات:
إنما أنت من المسحرين: الذين سحروا وبولغ في سحرهم حتى غلب عقولهم.
فأت بآية إن كنت من الصادقين: إن كنت من الصادقين في أنك رسول فأتنا بآية تدل على ذلك.
لها شرب ولكم شرب يوم معلوم: أي لها يوم تشرب فيه من العين ولكم يوم آخر معلوم.
فعقروها فأصبحوا نادمين: أي فلم يؤمنوا فقتلوها فأصبحوا نادمين لما شاهدوا العذاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الذي دار بين صالح عليه السلام وقومه ثمود فلما ذكرهم ووعظهم ردوا عليه بما أخبر تعالى عنهم في قوله { قالوا إنمآ أنت من المسحرين } أي الذين سحروا وبولغ في سحرهم حتى غلب على عقولهم فهم لا يعرفون ما يقولون { مآ أنت إلا بشر مثلنا } تأكل الطعام وتشرب الشراب فلا أنت رب ولا ملك فنخضع لك ونطيعك { فأت بآية } علامة قوية ودلالة صادقة تدل على أنك رسول الله حقا وأنت من الرسل الصادقين، فأجابهم صالح بما أخبر تعالى به عند في قوله: { قال هذه ناقة } أي عظيمة الخلقة سأل ربه آية فأعطاه هذه الناقة فما زال قائما يصلي ويدعو وهم يشاهدون حتى أنفلق الجبل وخرجت منه هذه الناقة الآية العظيمة فقال { هذه ناقة لها شرب } أي حظ ونصيب من ماء البلد تشربه وحدها لا يرد معها أحد ولكم أنتم شرب يوم معلوم لكم تردونه وحدكم. { ولا تمسوها بسوء } وحذرهم أن يمسوها بسوء لا بضرب ولا بقتل ولا بمنع من شرب، فإنه يأخذكم عذاب يوم عظيم قال تعالى { فعقروها } أي فكذبوه وعصوه وعقروها بأن ضربوها في يديها ورجلها فبركت وقتلوها. فلما عقروها قال لهم صالح
تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب
[هود: 65] فأصبحوا بذلك نادمين ففي صبيحة اليوم الثالث أخذتهم الصيحة مع شروق الشمس فاهلكوا أجمعين ونجى الله تعالى صالحا ومن معه من المؤمنين { إن في ذلك لآية } أي علامة كبرى على قدرة الله تعالى وعلمه وأنه واجب الألوهية { وما كان أكثرهم مؤمنين } مع وضوح الأدلة لأنه لم يسبق لهم إيمان في قضاء الله وقدره { وإن ربك } أيها الرسول لهو وحده العزيز الغالب الذي لا يغالب الرحيم بأوليائه وصالحي عباده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن السحر من عمل الناس وأنه معلوم لهم معمول به منذ القدم.
2- سنة الناس في المطالبة بالآيات عند دعوتهم إلى الدين الحق.
3- وجود الآيات لا يستلزم بالضرورة إيمان المطالبين بل أكثرهم لا يؤمنون.
4- الندم من التوبة ولكن لا ينفع ندم ولا توبة عند معاينة العذاب أو أماراته.
[26.160-166]
شرح الكلمات:
قوم لوط: هم سكان مدن سدوم وعمورية وقرى أخرى ولوط هو نبي الله لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم.
أخوهم لوط: هذه أخوة بلد وسكنى لا أخوة نسب ولا دين.
إني لكم رسول أمين: أي إني مرسل إليكم لا إلى غيركم أمين في إبلاغكم رسالتي فلا أنقص ولا أزيد.
فاتقوا الله: بالإيمان به وعبادته وحده وترك معاصيه.
وما أسألكم عليه: أي على البلاغ من أجرة مقابل إرشادكم وتعليمكم.
أتأتون الذكران من العالمين: أي أتأتون الفاحشة من الرجال وتتركون النساء.
بل أنتم قوم عادون: أي معتدون ظالمون متجاوزون الحد في الإسراف في الشر.
معنى الآيات:
هذه بداية قصص لوط مع قومه أصحاب المؤتفكات قال تعالى { كذبت قوم لوط المرسلين } أي كذبوا لوطا الرسول وتكذيبه يعتبر تكذيبا لكافة الرسل لأن دعوة الله واحدة كذبوه لما دعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك الفواحش والظلم الشر والفساد إذ قال لهم أخوهم لوط هذه أخوة الوطن لا غير إذ لوط بابلي الموطن ودينه الإسلام وأبوه هاران أخو إبراهيم عليه السلام، وإنما لما أرسل لوط إلى أهل هذه البلاد وسكن معهم قيل لهم أخوهم بحكم المعاشرة والمواطنة الحاصلة { ألا تتقون } يأمرهم بتقوى الله ويحضهم عليها لأنهم قائمون على عظائم الذنوب فخاف عليهم الهلاك فدعاهم إلى أسباب النجاة وهي تقوى الله تعالى بطاعته وترك معاصيه. وقال لهم { إني لكم رسول أمين } فلا تشكوا في رسالتي وأطيعون، وإني غير سائلكم أجرا على تبليغ رسالتي إليكم إن أجري آخذه من رب العالمين الذي حملني هذه الرسالة وأمرني بإبلاغكم إياها وهنا أنكر عليهم أعظم منكر فقال موبخا مقرعا { أتأتون الذكران من العالمين } فترتكبون الفاحشة معهم { وتذرون } أي تتركون ما خلق الله لكم من أزواجكم { بل أنتم قوم عادون } أي متجاوزون الحدود التي رسمها الشرع والعقل والآدمية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز إطلاق أخوة الوطن دون الدين والنسب.
2- الأمانة من مستلزمات الرسالة، إذ كل رسول يقول { إني لكم رسول أمين }.
3- سبيل نجاة الفرد والجماعة في تقوى الله تعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- وجوب إنكار المنكر وتقبيحه على فاعله لعله يرعوي.
5- أكبر فاحشة وقعت في الأرض هي فاحشة اللواط. والعياذ بالله تعالى.
[26.167-175]
شرح الكلمات:
لئن لم تنته: أي عن إنكارك علينا ما نأتيه من الفاحشة.
من المخرجين: أي من بلادنا وطردك من ديارنا.
لعملكم من القالين: أي المبغضين له البغض الشديد.
رب نجني وأهلي مما يعملون: أي من عقوبة وعذاب ما يعملونه من الفواحش.
فنجيناه وأهله: أي نجينا لوطا الذي دعانا وأهله وهم امرأته المؤمنة وابنتاه.
إلا عجوزا في الغابرين: أي فإنا لم ننجها إذ حكمنا بإهلاكها مع الظالمين فتركناها معهم حتى هلكت بينهم لأنها كانت كافرة وراضية بعمل القوم.
وأمطرنا عليهم مطرا: أي أنزل عليهم حجارة من السماء فأمطروا بها بعد قلب البلاد عاليها سافلها.
فساء مطر المنذرين: أي فقبح مطر المنذرين ولم يمتثلوا فما كفوا عن الشر الفساد.
معنى الآيات:
ما زال السياق فيما دار بين نبي الله لوط وقومه المجرمين فإنه لما ذكرهم ووعظهم وأمرهم ونهاهم وسمعوا ذلك كله منه أجابوا بما أخبر تعالى به عنهم { قالوا لئن لم تنته يلوط } أي عن إنكارك علينا ما نأتيه من الفاحشة { لتكونن من المخرجين } أي نخرجك من بلادنا ونطردك من بيننا ولا تبقى ساعة واحدة عندنا إنتبه يا رجل.. فأجابهم لوط الرسول عليه السلام بقوله { إني لعملكم من القالين } أي إني لعملكم الفاحشة من المبغضين أشد البغض، ثم التفت إلى ربه داعيا ضارعا فقال { رب نجني وأهلي مما يعملون } وهذا بعد أن أقام يدعوهم ويتحمل سنين عديدة فلم يجد بدا من الفزع إلى ربه ليخلصه منهم فقال { رب نجني وأهلي } من عقوبة وعذاب ما يعملونه من إتيان الفاحشة من العالمين قال تعالى { فنجيناه وأهله } وهم امرأته المسلمة وابنتاه المسلمتان طبعا إلا عجوزا وهي امرأته الكافرة المتواطئة مع الظلمة الراضية بالفعلة الشنعاء كانت في جملة الغابرين أي المتروكين بعد خروج لوط من البلاد لتهلك مع الهالكين قال تعالى { ثم دمرنا الآخرين } أي بعد أن أنجينا لوطا وأهله أجمعين باستثناء العجوز الكافرة دمرنا أي أهلكنا الآخرين { وأمطرنا عليهم مطرا فسآء مطر المنذرين } إنه بعد قلب البلاد سافلها على عاليها أمطر عليهم مطر حجارة من السماء لتصيب من كان خارج المدن المأفوكة المقلوبة.
قوله تعالى { إن في ذلك لآية } أي في هذا الذي ذكرنا من إهلاك المكذبين والمسرفين الظالمين آية وعلامة كبرى لمن يسمع ويرى { وما كان أكثرهم مؤمنين } لما سبق في علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون فسبحان الله العظيم. وقوله { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } وإن ربك يا رسولنا هو لا غيره العزيز الغالب القاهر لكل الظلمة والمسرفين الرحيم بأوليائه وعباده المؤمنين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التهديد بالنفي سنة بشرية قديمة.
2- وجوب بغض الشر والفساد في أي صورة من صورهما.
3- استجابة دعوة المظلوم لا سيما إن كان من الصالحين.
4- توقع العذاب إذا انتشر الشر وعظم الظلم والفساد.
5- الآيات مهما كانت عظيمة لا تستلزم الإيمان والطاعة.
6- من لم يسبق له الإيمان لا يؤمن ولو جلب عليه كل آية.
7- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته.
[26.176-184]
شرح الكلمات:
أصحاب الأيكة: أي الغيضة وهي الشجر الملتف.
إذ قال لهم شعيب: النبي المرسل شعيب عليه السلام.
أوفوا الكيل: أي أتموه.
ولا تكونوا من المخسرين: الذين ينقصون الكيل والوزن.
بالقسطاس المستقيم: أي الميزان السوي المعتدل.
ولا تبخسوا الناس أشياءهم: أي لا تنقصوهم من حقوقهم شيئا.
ولا تعثوا في الأرض مفسدين: أي بالقتل والسلب والنهب.
والجبلة الأولين: أي والخليقة أي الناس من قبلكم.
معنى الآيات:
هذه بداية قصص شعيب عليه السلام مع أصحاب الأيكة والأيكة الشجرة الملتف كشجر الدوم وهذه الغيضة قريبة من مدينة وشعيب أرسل لهما معا وفي سورة هود
وإلى مدين أخاهم شعيبا
[الآية: 84] لأنه منهم ومن مدينتهم فقيل له أخوهم، وأما أصحاب الأيكة جماعة من بادية مدين كانت لهم أيكة من الشجرة يعبدونها تحت أي عنوان كعبدة الأشجار والأحجار في كل زمان ومكان، فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فكذبوه وهو قوله تعالى { كذب أصحاب لئيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون } أي اتقوا الله وخافوا عقابه { إني لكم رسول أمين } فاتقوا الله بعبادته وترك عبادة ما سواه وأطيعون أهدكم إلى ما فيه كمالكم وسعادتكم { ومآ أسألكم عليه } أي على بلاغ رسالة ربي إليكم أجرا أي جزاء وأجرة { إن أجري } أي ما أجري إلا على ربي العالمين: وأمرهم بترك أشهر معصية كانت شائعة بينهم وهي تطفيف الكيل والوزن فقال لهم { أوفوا الكيل } أي أتموها ولا تنقصوها { ولا تكونوا من المخسرين } أي الذين ينقصون الكيل والوزن { وزنوا } أي إذا وزنتم { بالقسطاس المستقيم } أي بالميزان العادل، { ولا تبخسوا الناس أشيآءهم } أي لا تنقصوهم من حقوقهم شيئا فما يساوي دينارا لا تعطوا فيه نصف دينار وما يساوي عشرة لا تأخذوه بخمسة مثلا ومن أجرته اليومية عشرون لا تعطوه عشرة مثلا، { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي ولا تفسدوا في البلاد بأي نوع من الفساد كالقتل والسلب ومنع الحقوق وارتكاب المعاصي والذنوب { واتقوا الذي خلقكم } أي الله فخافوا عقابه { والجبلة الأولين } أي وخلق الخليقة من قبلكم اتقوه بترك الشرك والمعاصي تنجوا من عذابه، وتظفروا برضاه وإنعامه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأمر بالتقوى فريضة كل داع إلى الله تعالى وسنة الدعاة والهداة إذ طاعة الله واجبة.
2- لا يصح لداع إلى الله أن يطلب أجره ممن يدعوهم فإن ذلك ينفرهم.
3- وجوب توفية الكيل والوزن وحرمة التطفيف فيهما.
4- حرمة بخس الناس حقوقهم ونقصها بأي حال من الأحوال.
5- حرمة الفساد في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.
[26.185-191]
شرح الكلمات:
إنما أنت من المسحرين: أي ممن يأكلون الطعام ويشربون فلست بملك تطاع.
وإن نظنك لمن الكاذبين: أي وما نحسبك إلا واحدا من الكاذبين.
فأسقط علينا كسفا: أي قطعا من السماء تهلكنا بها إن كنت من الصادقين فيما تقول.
عذاب يوم الظلة: أي السحابة التي أظلتهم ثم التهبت عليهم نارا.
إن في ذلك لآية: أي لعبرة وعلامة عبرة لمن يعتبر وعلامة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصص شعيب عليه السلام مع أصحاب الأيكة وأهل مدين إنه لما ذكرهم ووعظهم وأمرهم كان جوابهم ما أخبر به تعالى عنهم في قوله { قالوا إنمآ أنت } أي يا شعيب { من المسحرين } الذي غلب السحر على عقولهم فلا يدرون ما يفعلون وما لا يقولون كما أنك بشر مثلنا تأكل الطعام وتشرب الشراب فما أنت بملك من الملائكة حتى نطيعك. { وإن نظنك } أي وما نظنك إلا من الكاذبين من الناس { فأسقط علينا كسفا } أي قطعا من السماء تهلكنا بها { إن كنت من الصادقين } في دعوى أنك رسول من الله إلينا. فأجابهم قائلا بما ذكر تعالى { ربي أعلم بما تعملون } ولازم ذلك أنه سيجازيكم بعملكم قال تعالى { فكذبوه } في كل ما جاءهم به واستوجبوا لذلك العذاب { فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } فقد أنزل الله تعالى عليهم حرا شديدا التهب منه الجو أو كاد فلجأ وإلى المنازل والكهوف والسراديب تحت الأرض فلم تغن عنهم شيئا، ثم اتفعت في سماء بلادهم سحابة فذهب إليها بعضهم فوجدها روحا وبردا وطيبا فنادى الناس أن هلموا فجاءوا فلما اجتمعوا تحتها كلهم انقلبت نارا فأحرقتهم ورجفت بهم الأرض من تحتهم فهلكوا عن آخرهم.
قال تعالى { إن في ذلك لآية } أي علامة لقومك يا محمد على قدرتنا وعلمنا ووجوب عبادتنا وتصديق رسولنا ولكن أكثرهم لا يؤمنون لما سبق في علمنا أنهم لا يمؤمنون، وإن ربك يا محمد لهو العزيز أي الغالب على أمره الرحيم بمن تاب من عباده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- هذا آخر سبع قصص ذكرت بإيجاز تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديدا للمشركين المكذبين.
2- دعوة الرسل واحدة وأسلوبهم يكاد يكون واحدا: الأمر بتقوى الله وطاعة رسوله.
3- سنة تعلل الناس بأن الرسول لا ينبغي أن يكون بشرا فلذا هم لا يؤمنون.
4- المطالبة بالآيات تكاد تكون سنة مطردة، وقل من يؤمن عليها.
5- تقرير التوحيد والنبوة والبعث وهي ثمرة كل قصة تقص في هذا القرآن العظيم.
[26.192-201]
شرح الكلمات:
وإنه لتنزيل رب العالمين: أي القرآن الكريم تنزيل رب العالمين.
الروح الأمين: جبريل عليه السلام أمين على وحي الله تعالى.
وإنه لفي زبر الأولين: أي كتب الأولين، واحد الزبر: زبرة وكصفحة وصحف.
أولم يكن لهم آية: أي علامة ودليلا علم بني إسرائيل به.
على بعض الأعجمين: الأعجمي من لا يقدر على التكلم بالعربية.
كذلك سلكناه: أي التكذيب في قلوب المجرمين من كفار مكة.
معنى الآيات:
لقد أنكر كفار مكة أن يكون القرآن وحيا أوحاه الله تعالى وبذلك أنكروا أن يكون محمد رسول الله، ومن هنا ردوا عليه كل ما جاءهم به من التوحيد وغيره، فإيراد هذا القصص يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم وهو لا يقرأ ولا يكتب دال دلالة قطعية على أنه وحي إلهي أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو بذلك رسوله. فقوله تعالى { وإنه } أي القرآن الذي كذب به المشركون { لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين } جبريل عليه السلام { على قلبك } أي الرسول لأن القلب هو الذي يتلقى الوحي إذ هو محط الإدراك والوعي والحفظ، وقوله { لتكون من المنذرين } هو علة لنزول القرآن عليه وبه كان من الرسل المنذرين. وقوله { وإنه لفي زبر الأولين } أي القرآن مذكور في الكتب الإلهية التي سبقته كالتوراة والإنجيل. وقوله تعالى { أو لم يكن لهم } أي لكفار قريش { آية } أي علامة على أن القرآن وحي الله وكتابه وأن محمدا عبد الله ورسوله { أن يعلمه علماء بني إسرائيل } أي علم بني إسرائيل به كعبد الله بن سلام فقد قال والله إني لأعلم أن محمدا رسول أكثر مما أعلم أن فلانا ولدي، لأن ولدي في الإمكان أن تكون أمه قد خانتني أما محمد فلا يمكن أن يكون غير رسول الله وفيهم قال تعالى
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
[البقرة: 146، الأنعام: 20] ومن عرف محمدا رسولا عرف القرآن وحيا إلهيا.
وقوله تعالى { ولو نزلناه على بعض الأعجمين } أي وبلسان عربي مبين فكان ذلك آية، وقرأه عليهم الأعجمي، ما كانوا به مؤمنين. أي من أجل الأنفة والحمية إذ يقولون أعجمي وعربي؟ وقوله تعالى: { كذلك سلكناه } أي التكذيب وعدم الإيمان { في قلوب المجرمين } أي كما سلكنا التكذيب في قلوب المجرمين لو قرأ القرآن عليهم أعجمي سلكناه أي التكذيب في قلوب المجرمين إن قرأه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم، والعلة في ذلك هي أن الإجرام على النفس بارتكاب عظائم الذنوب من شأنه أن يحول بين النفس وقبول الحق لما ران عليها من الذنوب وأحاط بها من الخطايا. وقوله { لا يؤمنون به } تأكيد لنفي الإيمان حتى يروا العذاب الأليم أي يستمر تكذيبهم بالقرآن والمنزل عليه حتى يروا العذاب الموجع، وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم ولا هم ينظرون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير معتقد الوحي الإلهي والنبوة المحمدية.
2- بيان أن جبريل هو الذي كان ينزل بالوحي القرآني على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
3- تقرير النبوة المحمدية وأن محمدا من المنذرين.
4- بيان أن القرآن مذكور في الكتب السابقة بشهادة علماء أهل الكتاب.
5- إذا تراكمت آثار الذنوب والجرائم على النفس حجبتها عن التوبة ومنعتها من الإيمان.
[26.202-212]
شرح الكلمات:
هل نحن منظرون: أي ممهلون لنؤمن. والجواب قطعا: لا لا..
أفرأيت: أي أخبرني.
إن متعناهم سنين: أي أبقينا على حياتهم يأكلون ويشربون وينكحون.
ما كانوا يوعدون: أي من العذاب.
ما أغنى عنهم: أي أي شيء أغنى عنهم ذلك التمتع الطويل لا بدفع العذاب ولا بتخفيفه.
إلا لها منذرون: أي رسل ينذرون أهلها عاقبة الكفر والشرك.
ذكرى: أي عظة.
وما تنزلت به الشياطين: أي لا يتأتى لهم ولا يصلح لهم أن يتنزلوا به.
وما يستطيعون: أي لا يقدرون.
إنهم عن السمع: أي لكلام الملائكة لمعزولون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير النبوة المحمدية وإثبات الوحي. لقد جاء في السياق أن المجرمين لا يؤمنون بهذا القرآن حتى يروا العذاب الأليم. فيأتيهم بغتة أي فجأة وهم لا يشعرون أي لا يعلمون به حتى يفاجئهم. فيقولون حينئذ: { هل نحن منظرون } أي يتمنون أن لو يمهلوا حتى يؤمنوا ويصلحوا ما أفسدوا.
وقوله تعالى: { أفبعذابنا يستعجلون } عندما قالوا للرسول (لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كسفا من السماء) أي قطعا، أحمق هم أم مجانين يستعجلون عذاب الله الذي إن جاءهم كان فيه حتفهم أجمعين؟ ثم قال لرسوله: { أفرأيت } يا رسولنا { إن متعناهم سنين } بأن أطلنا أعمارهم ووسعنا في أرزاقهم فعاشوا سنين عديدة ثم جاءهم عذابنا أي أخبرني هل يغني ذلك التمتع عنهم سيئا؟ ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون أي لم يغن عنهم شيئا لا بدفع العذاب ولا بتأخيره ولا بتخفيفه.
وقوله تعالى { ومآ أهلكنا من قرية } كتلك القرى التي مر ذكرها في هذه السورة { إلا لها منذرون } أي كان لها رسل ينذرون أهلها عقاب الله إن أصروا على الشرك والكفر والشر والفساد. وقوله { ذكرى } أي عظة لعلهم يتعظون. وقوله { وما كنا ظالمين } في إهلاك من أهلكنا بعد أن أنذرنا.
ونزل ردا على المشركين المجرمين الذين قالوا إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد كما يأتون للكهان بأخبار السماء. { وما تنزلت به الشياطين } كما يزعم المكذبون { وما ينبغي لهم } أي للشياطين أي لا يصلح لهم ولا يتأتى منهم ذلك لأنهم معزولون عن السمع، أي سماع كلام الملائكة إذ أرصد الله تعالى شهبا حالت بينهم وبين السماع من السماء.. فلذا دعوى المشركين باطلة من أساسها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن المجرمين إذا شاهدوا العذاب تمنوا التوبة ولا يمكنون منها.
2- بيان أن استعجال عذاب الله حمق ونزغ في الرأي وفساد في العقل.
3- بيان أن طول العمر وسعة الرزق لا يغنيان عن صاحبها شيئا من عذاب الله إذا نزل به.
4- بيان سنة الله تعالى في أنه لا يهلك أمة إلا بعد الإنذار والبيان.
5- إبطال مزاعم المشركين في أن القرآن من جنس ما يقوله الكهان. وأن الشياطين تتنزل به.
[26.213-220]
شرح الكلمات:
فلا تدع مع الله إلها آخر: أي لا تعبد مع الله إلها آخر، لأن الدعاء هو العبادة.
وأنذر عشيرتك الأقربين: وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب.
واخفض جناحك: أي ألن جانبك.
فإن عصوك: أي أبوا قبول دعوتك إلى التوحيد، ورفضوا ما تدعوهم إليه.
فقل إني بريء مما تعملون: أي من عبادة غير الله سبحانه وتعالى.
الذي يراك حين تقوم: أي إلى الصلاة فتصلي متهجدا بالليل وحدك.
وتقلبك في الساجدين: أي ويرى تقلبك مع المصلين راكعا ساجدا قائما.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية قريش قوم محمد صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين } فيه إيحاء وإشارة واضحة بأنه تعريض بالمشركين الذين يدعون آلهة أصناما وهي دعوة توقظهم من نومتهم إنه إذا كان رسول الله ينهى عن عبادة غير الله وإلا يعذب مع المعذبين فغيره من باب أولى فكأن الكلام جرى على حد إياك أعني واسمعي يا جارة!! وقوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } أمر من الله لرسوله أن يخص أولا بإنذاره قرابته لأنهم أولى بطلب النجاة لهم من العذاب، وقد امتثل الرسول أمر ربه فقد ورد في الصحاح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه { وأنذر عشيرتك الأقربين } قال
" يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله (يعني بالإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي) فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله أي من عذابه شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا ".
وقوله تعالى { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } أمره أن يلين جانبه للمؤمنين وأن يعطف عليهم ويطايبهم ليرسخ الإيمان في قلوبهم ويسلموا من غائلة الردة فيما لو عوملوا بالقسوة والشدة وهم في بداية الطريق إلى الله تعالى وقوله تعالى { فإن عصوك } أي من أمرت بدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته وخلع الأنداد والتخلي عن عبادتها { فقل إني بريء مما تعملون } أي من عبادة غير الله تعالى وغير راض بذلك منكم ولا موافق عليه لأنه شرك حرام وباطل مذموم. وقوله تعالى { وتوكل على العزيز } أي الغالب القاهر الذي لا يمانع في شيء يريده الرحيم بالمؤمنين من عباده، والأمر بالتوكل هنا ضروري لأنه أمره بالبراءة من الشرك المشركين وهي حال تقتضي عداوته والكيد له بل ومحاربته ومن هنا وجب التوكل على الله والاعتماد عليه، وإلا فلا طاقة له بحرب قوم وهو فرد واحد وقوله { الذي يراك حين تقوم } أي في صلاتك وحدك { وتقلبك في الساجدين } أي ويرى تقلبك قائما وراكعا وساجدا مع المصلين من المؤمنين.
بمعنى أنه معك يسمع ويرى فتوكل عليه ولا تخف غيره وامض في دعوتك ومفاصلتك للمشركين. وقوله { إنه هو السميع العليم } تقرير لتلك المعية الخاصة إذ السميع لكل صوت والعليم بكل حركة وسكون يحق للعبد التوكل عليه وتفويض الأمر إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد، وحرمة دعاء غير الله تعالى من سائر مخلوقاته لأنه الشرك الحرام.
2- من مات يدعو غير الله فهو معذب لا محالة مع المعذبين.
3- تقرير قاعدة البدء بالأقارب في كل شيء لأنهم ألصق بقريبهم من غيرهم.
4- مشروعية لين الجانب والتواضع للمؤمنين لا سيما الحديثو عهد بالإسلام.
5- وجوب البراءة من الشرك وأهله.
6- وجوب التوكل على الله والقيام بما أوجبه الله تعالى.
7- فضل قيام الليل وصلاة الجماعة لما يحصل للعبد من معية الله تعالى.
[26.221-227]
شرح الكلمات:
أنبئكم: أي أخبركم.
أفاك أثيم: أي كذاب يقلب الكذب فيكون إفكا أثيم غارق في الآثام.
يلقون السمع: أي يلقون أسماعهم ويصغون أشد الإصغاء للشياطين فيتلقون منهم مما أكثره كذب وباطل.
الغاوون: جمع غاو: الضال عن الهدى الفاسد القلب والنية.
في كل واد: أي من أودية الكلام وفنونه.
يهيمون: أي يمضون في كل شعب وواد من الكلام مدحا أو ذما كان صدقا أو كذبا.
يقولون ما لا يفعلون: أي يقولون فعلنا وهم لم يفعلوا.
وانتصروا من بعد ما ظلموا: أي قالوا الشعر انتصارا للحق بأن ردوا على من هجا المسلمين.
أي منقلب ينقلبون: أي مرجع يرجعون بعد الموت وهو دار جهنم.
معنى الآيات:
لما ادعى المبطلون من مشركي قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى من الشياطين كما تتلقى الكهان منهم رد تعالى عليهم بقوله { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين }؟ وأجاب عن السؤال قائلا { تنزل على كل أفاك } كذاب يقلب الكذب قلبا فيقول في الظالم عادل، وفي الخبيث طيب، وفي الفاسد صالح، { أثيم } أي كثير الآثام إذ لم يترك جريمة إلا يقارفها ولا سيئة إلا يجترحها حتى يغرق في الإثم فهذا الذي تتحد معه الشياطين وتلقي إليه بما تسمعه من السماء لكونه مثلها في ظلمة النفس وخبث الروح، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فهو أبعد الناس عن الكذب والإثم فلم يجرب عليه كذب قط ولم يعرف منه ذنب أبدا فكيف تتحد معه الشياطين وتخبره وتلقي إليه بخبر السماء؟ وبهذا بطلت التهمة وقوله { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } أي إن الشياطين قبل أن يحال بينهم وبين استراق السمع بإرصاد الشهب لهم. كانوا يلقون أسماعهم للحصول على الخبر وأكثرهم كاذبون حيث يخلطون مع الكلمة التي سمعوها مائة كلمة كلها كذب منهم ويلقون ذلك الكذب إلى إخوانهم في الكفر والخبث من كهنة الناس.
وقوله تعالى { والشعرآء يتبعهم الغاوون } أي أهل الغواية والضلال هم الذين يتبعون الشعراء فيروون لهم وينقلون عنهم، ويصدقونهم فيما يقولون. والدليل على ذلك { أنهم } أي الشعراء { في كل واد } من أودية الكلام وفنونه { يهيمون } على وجوههم ماضين في قولهم فيمدحون ويذمون، يهجون، ويفخرون، ويدعون أنهم فعلوا كذا وكذا وما فعلوا فهل محمد صلى الله عليه وسلم الذي اتهمتموه بأنه شاعر وما يقوله من جنس الشعر أتباعه غاوون انظروا إليهم واسألوا عنهم فإنهم أهدى الناس وأبرهم فعلا وأصدقهم حديثا وأبعدهم عن الريبة، فلو كان محمد شاعرا لكان أتباعه الغاوين فبذا بطلت الدعوى من أساسها.
وقوله { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا } إنه لما ذم الشعراء، استثنى منهم أمثال: عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت ممن آمنوا وعملوا الصالحات وانتصروا يردون هجاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينافحون عن الإسلام وأهله بشعرهم الصادق النقي الطاهر الوفي.
وقوله تعالى { وسيعلم الذين ظلموا } رسول الله باتهامه بالكهانة مرة وبالشعر مرة أخرى وظلموا الوحي الإلهي بوصفه بما هو بعيد عنه من الكهانة والشعر { أي منقلب ينقلبون } أي أي مرجع يرجعون إليه، إنه النار وبئس القرار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال فرية المشركين من أن القرآن من جنس ما يقوله الكهان.
2- إبطال أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاهن وشاعر.
3- بيان أن الشياطين تتحد مع ذوي الأرواح الخبيثة بالإفك والآثام.
4- بيان أن الشعراء المبطلين أتباعهم في كل زمان ومكان الغاوون الضالون.
5- جواز نظم الشعر وقوله في تقرير علم أو تسجيل حكمة، أو انتصار للإسلام والمسلمين بالرد على من يهجو الإسلام والمسلمين.
6- التحذير من عاقبة الظلم فإنها وخيمة.
[27 - سورة النمل]
[27.1-5]
شرح الكلمات:
طس: هذا أحد الحروف المقطعة، يقرأ: طا. سين.
تلك: أي الآيات المؤلفة من هذه الحروف آيات القرآن.
هدى وبشرى: أي أعلام هداية للصراط المستقيم، وبشارة للمهتدين.
زينا لهم أعمالهم: أي حببناها إليهم حسب سنتنا فيمن لا يؤمن بالبعث والجزاء.
فهم يعمهون: في ضلال بعيد وحيرة لا تنتهي.
لهم سوء العذاب: أي في الدنيا بالأسر والقتل.
معنى الآيات:
قوله تعالى { طس } لقد سبق أن ذكرنا أن السلف كانوا يقولون في مثل هذه الحروف المقطعة: الله أعلم بمراده بذلك، وهذه أسلم، وذكرنا أن هناك فائدة قد تقتنص من الاشارة بتلك أو بذلك، وهي أن القرآن المعجز الذي تحدى به منزله عز وجل الإنس والجن قد تألف من مثل هذه الحروف العربية فألفوا أيها العرب مثله سورة فأكثر فإن عجزتم فآمنوا أنه كلام الله ووحيه واعملوا بما فيه ويدعو إليه.
وقوله { تلك آيات القرآن } أي المؤلفة من مثل هذه الحروف آيات القرآن { وكتاب مبين } اي مبين لكل ما يحتاج إلى بيانه من الحق والشرع في كل شؤون الحياة.
وقوله: { هدى وبشرى للمؤمنين } أي هاد إلى الصراط المستقيم الذي يفضي بسالكه إلى السعادة والكمال في الدارين، { وبشرى } أي بشارة عظمى للمؤمنين أي بالله ولقائه والرسول وما جاء به، { الذين يقيمون الصلاة } بأدائها في أوقاتها في بيوت الله تعالى مستوفاة الشروط والأركان والواجبات والسنن والآداب { ويؤتون الزكاة } عند وجوبها عليهم { وهم بالآخرة } أي بالدار الآخرة { هم يوقنون } بوجودها والمصير إليها، وبما فيها من حساب وجزاء.
وقوله تعالى: { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي بالبعث والجزاء { زينا لهم أعمالهم } أي حببناها إليهم حتى يأتوها وهي أعمال شر وفساد، وذلك حسب سنتنا فيمن أنكر البعث وأصبح لا يرهب حسابا ولا يخاف عقابا انغمس في الرذائل والشهوات وأصبح لا يرعوي عن قبيح { فهم } لذلك { يعمهون } في سلوكهم يتخبطون لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا.
وقوله تعالى: { أولئك الذين لهم سوء العذاب } أي في الدنيا بالأسر والقتل، وهم في الآخرة هم الأكثر خسارا من سائر أهل النار أي أشد عذابا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إعجاز القرآن إذ آياته مؤلفة من مثل طس، وحم وعجز العرب عن تأليف مثله.
2- بيان كون القرآن، هدى وبشرى للمؤمنين الملتزمين بمتطلبات الإيمان.
3- إنكار البعث والدار الآخرة يجعل صاحبه شر الخليقة وأسوأ حالا من الكلاب والخنازير
4- وجوب قتال الملاحدة وأخذهم أسرا وقتلا حتى يؤمنوا بالله ولقائه لأنهم خطر على أنفسهم وعلى البشرية سواء.
[27.6-11]
شرح الكلمات:
وإنك لتلقى: أي تلقنه وتحفظه وتعلمه.
من لدن حكيم: أي من عند حكيم عليم وهو الله جل جلاله.
آنست نارا: أي أبصرت نارا من بعد حصل لي بها بعض الأنس.
سآتيكم منها بخبر: أي عن الطريق حيث ضلوا طريقهم إلى مصر في الصحراء.
بشهاب قبس: أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها.
لعلكم تصطلون: أي تستدفئون.
أن بورك من في النار: أي بارك الله جل جلاله من في النار وهو موسى عليه السلام إذ هو في البقعة المباركة التي نادى الله تعالى موسى منها.
وسبحان الله رب العالمين: أي نزه الرب تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله من صفات المحدثين.
يا موسى إنه أنا الله: أي الحال والشأن أنا الله العزيز الحكيم الذي ناداك وباركك.
تهتز كأنها جان: أي تتحرك بسرعة كأنها حية خفيفة السرعة.
ولم يعقب: أي ولم يرجع إليها خوفا وفزعا منها.
ثم بدل حسنا بعد سوء: أي تاب فعمل صالحا بعد الذي حصل منه من السوء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم } يخبر تعالى رسوله بأنه يلقن القرآن ويحفظه ويعلمه من لدن حكيم في تدبيره عليم بخلقه وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه.
وقوله تعالى { إذ قال موسى } اذكر لمنكري الوحي والمكذبين بنبوتك إذ قال موسى إلى آخر الحديث، هل مثل هذا يكون بغير التلقي من الله تعالى. والجواب: لا إذا فأنت رسول الله حقا وصدقا { إذ قال موسى لأهله } امرأته وأولاده { إني آنست نارا } أي أبصرتها مستأنسا بها. { سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون } أي تستدفئون إذ كانوا في ليلة شاتية باردة وقد ضلوا طريقهم.
وقوله تعالى { فلما جآءها } أي النار { نودي } أي ناداه ربه تعالى قائلا: { أن بورك من في النار ومن حولها } أي تقدس من في النار التي هي نور الله جل جلاله. وهو موسى عليه السلام ومن حولها من أرض القدس والشام، والله أعلم بمراده من كلامه وإنا لنستغفره ونتوب إليه إن لم نوفق لمعرفة مراده من كلامه وخطابه فاغفر اللهم ذنبنا وارحم عجزنا وضعفنا إنك غفور رحيم، وقوله تعالى { وسبحان الله رب العالمين } نزه تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله وقوله { يموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم } أي الذي يناديك هو الله ذو الألوهية على خلقه العزيز الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم في قضائه وتدبير وتصريف ملكه بعد أن عرفه بنفسه وأذهب عنه روع نفسه، أمره أن يلقي العصا تمرينا له على استعمالها فقال { وألق عصاك } فألقاها فاهتزت كأنها جان أي حية خفيفة السرعة { فلما رآها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا } اي رجع القهقهرى فزعا وخوفا { ولم يعقب } أي لم يرجع إليها خوفا منها فناداه ربه تعالى { يموسى لا تخف } من حية ولا من غيرها { إني لا يخاف لدي المرسلون } { إلا من ظلم } أي نفسه باقتراف ذنب من الذنوب فهذا يخاف لكن إن هو تاب بعد الذنب ففعل حسنات بعد السيئات فإنه لا يخاف لأني غفور رحيم فأغفر له وارحمه.
طمأن تعالى نفس موسى بهذا لأن موسى كان شاعرا بأنه أذنب بقتل القبطي قبل نبوته ورسالته، وإن كان القتل خطأ إلا أنه تجب فيه الكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية.
2- مشروعية السفر بالأهل والولد وجواز خطأ الطريق حتى على الأنبياء والأذكياء.
3- قيومية الرجل على النساء والأطفال.
4- تجلي الرب تعالى لموسى في البقعة المباركة ومناجاته وتدريبه على العصا والسلاح الذي يقاوم به فرعون وملأه فيما بعد.
5- الظلم يسبب الخوف والعقوبة إلا من تاب منه وأصلح فإن الله غفور رحيم.
[27.12-14]
شرح الكلمات:
في جيبك: أي جيب ثوبك.
من غير سوء: أي برص ونحوه بل هو (البياض) شعاع.
في تسع آيات: أي ضمن تسع آيات مرسلا بها إلى فرعون .
مبصرة: مضيئة واضحة مشرقة.
وجحدوا بها: أي لم يقروا ولم يعترفوا بها.
واستيقنتها أنفسهم: أي أيقنوا أنها من عند الله.
ظلما وعلوا: أي ردوها لأنهم ظالمون مستكبرون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع موسى في حضرة ربه عز وجل بجانب الطور إنه لما أمره بإلقاء العصا فألقاها فاهتزت وفزع موسى لذلك فولى مدبرا ولم يعقب خائفا فطمأنه ربه تعالى بأنه لا يخاف لديه المرسلون أمره أن يدخل يده في جيبه فقال { وأدخل يدك في جيبك } أي في جيب القميص { تخرج بيضآء من غير سوء } أي من غير برص بل هو بياض إشراق يكاد يذهب بالأبصار في تسع آيات أي ضمن تسع آيات مرسلا بها إلى فرعون وقومه، وبين تعالى علة ذلك الإرسال فقال: { إنهم كانوا قوما فاسقين } أي خارجين عن الاعتدال إلى الغلو والإسراف في الشر والفساد وقوله تعالى: { فلما جآءتهم آياتنا } يحملها موسى مبصرة مضيئة واضحة دالة على صدق موسى في دعوته، رفضوها فلم يؤمنوا بها، { قالوا هذا سحر مبين } ، أي الذي جاء به موسى من الآيات هو سحر بين لا شك فيه قال تعالى { وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم } اي جحدوا بالآيات وكذبوا وتيقنتها أنفسهم أنها آيات من عند الله دالة على رسالة موسى وصدق دعوته في المطالبة ببني إسرائيل وقوله ظلما وعلوا أي حملهم على التكذيب والإنكار مع العلم هو ظلمهم واستكبارهم فإنهم ظالمون مستكبرون. وقوله تعالى: { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } أي انظر يا رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم كيف كان عاقبة المفسدين وهي إهلاكهم ودمارهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- آية اليد هي إحدى الآيات التسع التي أوتي موسى عليه السلام دليلا على وجود الآيات التي كان الله تعالى يؤيد بها رسله فمن أنكرها فقد كفر.
2- التنديد بالفسق واستحقاق أهله العذاب في الدارين.
3- الكبر والعلو في الأرض صاحبهما يجحد الحق ولا يقربه وهو يعلم أنه حق.
4- عاقبة الفساد في الأرض بالمعاصي سوءى، والعياذ بالله تعالى.
[27.15-19]
شرح الكلمات:
علمنا: هو علم ما لم يكن لغيرهم كمعرفة لغة الطير إلى جانب علم الشرع كالقضاء ونحوه.
وقالا الحمد لله: أي شكرا له.
على كثير من عباده المؤمنين: أي بالنبوة وتسخير الجن والإنس والشياطين.
وورث سليمان داوود: أي ورث أباه بعد موته في النبوة والملك والعلم دون باقي أولاده.
علمنا منطق الطير: أي فهم أصوات الطير وما تقوله إذا صفرت.
وأوتينا من كل شيء: أوتيه غيرنا من الأنبياء والملوك.
وحشر لسليمان: أي جمع له جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له.
فهو يوزعون: أي يساقون ويرد أولهم إلى آخرهم ليسيروا في نظام.
لا يحطمنكم سليمان: أي لا يكسرنكم ويقتلنكم.
وهم لا يشعرون: أي بكم.
أوزعني أن أشكر: أي ألهمني ووفقني لأن أشكر نعمتك التي أنعمت علي.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص داوود وسليمان عليهما السلام ذكر بعد أن أخبر تعالى أنه يلقن رسوله محمدا ويعلمه من لدنه وهو العليم الحكيم ودلل على ذلك بموجز قصة موسى عليه السلام ثم ذكر دليلا آخر وهو قصة داوود وسليمان، فقال تعالى { ولقد آتينا } أي أعطينا داوود وسليمان { علما } أي الوالد والولد علما خاصا كمعرفة منطق الطير وصنع الدروع وإلانة الحديد زيادة على علم الشرع والقضاء، وقوله تعالى { وقالا الحمد لله } أي شكرا ربهما بقولهما { الحمد لله } أي الشكر لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين بما آتاهما من الخصائص والفواضل. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [14] وأما الآية الثانية [15] فقد أخبر تعالى فيها أن سليمان ورث أباه داوود وحده دون باقي أولاده وذلك في النبوة والملك، لا في الدرهم والدينار والشاة والبعير، لأن الأنبياء لا يورثون فما يتركونه هو صدقة. كما أخبر أن سليمان قال في الناس { يأيها الناس علمنا منطق الطير } فما يصفر طير إلا علم ما يقوله في صفيره، وأوتينا من كل شيء أوتيه غيرنا من النبوة والملك والعلم والحكمة { إن هذا لهو الفضل المبين } أي فضل الله تعالى البين الظاهر. وقوله تعالى { وحشر لسليمان جنوده } أي جمع له جنوده { من الجن والإنس والطير فهم يوزعون } هو إخبار عن مسير كان لسليمان مع جنده { فهم يوزعون } أي جنوده توزع تساق بانتظام. بحيث لا يتقدم بعضها بعضا فيرد دائما أولها إلى آخرها محافظة على النظام في السير، وما زالوا سائرين كذلك حتى أتوا على واد النمل بالشام فقالت نملة من النمل { يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون } قالت هذا رحمة وشفقة على بنات جنسها تعلم البشر الرحمة والشفقة والنصح لبني جنسهم لو كانوا يعلمون، واعتذرت لسليمان وجنده بقولها وهم لا يشعرون بكم وإلا لما داسوكم ومشوا عليكم حتى لا يحطمونكم.
وما إن سمعها سليمان وفهم كلامها حتى تبسم ضاحكا من قولها { وقال رب } اي يا رب { أوزعني } ألهمني { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه } أي ويسر لي عملا صالحا ترضاه مني، { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } اي في جملتهم في دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الشكر على النعم.
2- وراثة سليمان لداوود لم تكن في المال لأن الأنبياء لا يورثون وإنما كانت في النبوة والملك.
3- آية تعليم الله تعالى سليمان منطق الطير وتسخير الجن والشياطين له.
4- فضل النمل على كثير من المخلوقات ظهر في نصح النملة لأخواتها وشفقتها عليهن.
ذكاء النمل وفطنته مما أضحك سليمان متعجبا منه.
6- وجوب الشكر عند مشاهدة النعمة ورؤية الفضل من الله عز وجل.
7- تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا الحديث لا يتأتى له إلا بالوحي الإلهي.
[27.20-26]
شرح الكلمات:
وتفقد الطير: أي تعهدها ونظر فيها.
مالي لا أرى الهدهد: أعرض لي ما منعني من رؤيته أم كان من الغائبين؟
لأعذبنه عذابا شديدا: أي بنتف ريشه ورميه في الشمس فلا يمتنع من الهوام.
بسلطان مبين: أي بحجة واضحة على عذرة في غيبته.
فمكث غير بعيد: أي قليلا من الزمن وجاء سليمان متواضعا.
أحطت بما لم تحط به: أي اطلعت على ما لم تطلع عليه.
وجئتك من سبأ: سبأ قبيلة من قبائل اليمن.
إني وجدت امرأة: هي بلقيس الملكة.
ولها عرش عظيم : أي سرير كبير.
فصدهم عن السبيل: أي طريق الحق والهدى.
ألا يسجدوا لله: أصلها أن يسجدوا أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله. وزيدت فيها " لا " وأدغمت فيها النون فصارت ألا نظيرها لئلا يعلم أهل الكتاب من آخر سورة الحديد.
يخرج الخبأ في السماوات: أي المخبوء في السماوات من الأمطار والأرض من النباتات والأرض.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصص سليمان عليه السلام قوله تعالى { وتفقد الطير } أي تفقد سليمان جنده من الطير طالبا الهدهد لأمر عن له أي ظهر وهو يتهيأ لرحلة هامة، فلم يجده فقال ما أخبر تعالى به عنه: { مالي لا أرى الهدهد } ألعارض عرض لي فلم أره، { أم كان من الغآئبين } أي بل كان من الغائبين، { لأعذبنه عذابا شديدا } بأن ينتف ريشه ويتركه للهوام تأكله فلا يمتنع منها { أو لأاذبحنه } بقطع حلقومه، { أو ليأتيني بسلطان مبين } أي بحجة واضحة على سبب غيبته. قوله تعالى الآية [21] { فمكث } أي الهدهد { غير بعيد } أي زمنا قليلا، وجاء فقال في تواضع رافعا عنقه مرخيا ذنبه وجناحيه { أحطت بما لم تحط به } أي اطلعت على ما لم تطلع عليه { وجئتك من سبإ بنبإ يقين } وسبأ قبيلة من قبائل اليمن، والنبأ اليقين الخبر الصادق الذي لا شك فيه. وأخذ يبين محتوى الخبر فقال { إني وجدت امرأة } هي بلقيس { تملكهم وأوتيت من كل شيء } من أسباب القوة ومظاهر الملك، { ولها عرش عظيم } أي سرير ملكها الذي تجلس عليه وصفه بالعظمة لأنه مرصع بالجواهر والذهب، وقوله { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله } أخبر أولا عن أحوالهم الدنيوية وأخبر ثانيا عن أحوالهم الدينية وقوله { وزين لهم الشيطان أعمالهم } أي الباطلة الشركية { فصدهم } بذلك { عن السبيل } أي سبيل الهدى والحق فهم لذلك لا يهتدون لأن يسجدوا لله الذي يخرج الخبء أي المخبوء فهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول في السماوات من أمطار والأرض من نباتات، ويعلم سبحانه وتعالى ما يخفون في نفوسهم، وما يعلنون عنه بألسنتهم الله لا إله هو رب العرش العظيم.
وصف الرب تعالى بالعرش العظيم ليقابل وصف بلقيس به، وأين عرش مخلوقة وإن كانت ملكة بنت ملك هو شراحيل من عرش الله الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية استعراض الجيوش وتفقد أحوال الرعية.
2- مشروعية التعزير لمن خالف أمر السلطان بلا عذر شرعي.
3- مشروعية اتخاذ طائرات الاستكشاف ودراسة جغرافية العالم.
4- تحقيق قول الرسول صلى الله عليه وسلم لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة إذ لم يلبثوا أن غلب عليهم سليمان.
5- بيان أن هناك من كانوا يعبدون الشمس إذ سجودهم لها عبادة.
6- بيان أن الأحق بالعبادة الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
7- مشروعية السجود لمن تلا هذه الآية أو استمع إلى تلاوتها: { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم }.
[27.27-31]
شرح الكلمات:
سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين: أي بعد اختبارنا لك.
فألقه إليهم: أي إلى رجال القصر وهم في مجلس الحكم.
ثم تول عنهم: أي تنح جانبا متواريا مستترا عنهم.
فانظر ماذا يرجعون: أي ماذا يقوله بعضهم لبعض في شأن الكتاب.
يا أيها الملأ: أي يا أشراف البلاد وأعيانها وأهل الحل والعقد فيها.
ألقي إلي كتاب كريم: أي ألقاه في حجرها الهدهد.
ألا تعلوا علي: أي لا تتكبروا انقيادا للنفس والهوى.
وائتوني مسلمين: أي منقادين خاضعين.
معنى الآيات:
{ قال سننظر } أي قال سليمان للهدهد بعد أن أدلى الهدهد بحجته على غيبته سننظر باختبارنا لك { أصدقت } فيما ادعيت وقلت { أم كنت من الكاذبين } أي من جملتهم. وبدأ اختباره فكتب كتابا وختمه وقال له { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم } أي تنح جانبا مختفيا عنهم { فانظر ماذا يرجعون } من القول في شأن الكتاب أي ما يقول بعضهم لبعض في شأنه، وفعلا ذهب الهدهد بالكتاب ودخل القصر من كوة فيه وألقى الكتاب في حجر الملكة بلقيس فارتاعت له وقرأته ثم قالت { يأيها الملأ } مخاطبة أشراف قومها { إني ألقي إلي كتاب كريم } وصفته بالكرم لما حواه من عبارات كريمة، ولأنه مختوم وختم الكتاب كرمه ونص الكتاب كالتالي [من عبد الله سليمان بن داوود إلى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا علي وائتوني مسلمين].
ومضمونه ما ذكرته الملكة بقولها: { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } ومعنى إنه من سليمان أي صادر منه وأنه مكتوب ومرسل بسم الله الرحمن الرحيم أي بإذنه وشرعه ألا تعلوا علي أي لا تتكبروا على الحق فإني بسم الله أطلبكم وائتوني مسلمين أي خاضعين منقادين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاختبار وإجراء التحقيق مع المتهم.
2- مشروعية استخدام السلطان أفراد رعيته لكفاية المستخدم.
3- مشروعية إرسال العيون للتعرف على أحوال العدو وما يدور عنده.
4- مشروعية كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في الرسائل والكتب الهامة ذات البال لدلالتها على توحيد الله تعالى وأنه رحمن رحيم، وأن الكاتب يكتب بإذن الله تعالى له بذلك.
[27.32-35]
شرح الكلمات:
أفتوني في أمري: بينوا لي فيه وجه الصواب، وما هو الواجب اتخاذه إزاءه.
ما كنت قاطعة أمرا: أي قاضيته.
حتى تشهدون: أي تحضروني وتبدوا رأيكم فيه.
وأولوا بأس شديد: أي أصحاب قوة هائلة مادية وأصحاب بأس شديد في الحروب.
إذا دخلوا قرية: أي مدينة وعاصمة ملك.
أفسدوها: اي خربوها إذا دخلوها عنوة بدون مصالحة.
وكذلك يفعلون: أي وكالذي ذكرت لكم يفعل مرسلو هذا الكتاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم عن حديث قصر الملكة بلقيس وها هي ذي تقول لرجال دولتها ما حكاه تعالى عنها بقوله { قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري } أي أشيروا علي بما ترونه صالحا { ما كنت قاطعة أمرا } أي قاضية باتة فيه { حتى تشهدون } أي تحضروني وتبدوا فيه وجهة نظركم. فأجابها رجالها بما أخبر تعالى به عنهم { قالوا نحن أولو قوة } عسكرية من سلاح وعتاد وخبرة { وأولو بأس شديد } عند خوضنا المعارك { والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين } به فأمري ننفذ إنا طوع يديك.
فأجابتهم بما حكاه الله تعالى عنها { قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية } أي مدينة عنوة بدون صلح. { أفسدوها } أي خربوا معالمها وبدلوا وغيروا فيها، { وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة } بضربهم وإهانتهم وخلعهم من مناصبهم. { وكذلك } أصحاب هذا الكتاب { يفعلون } { وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون } أي الذين نرسلهم من قبول الهدية ورفضها وعلى ضوء ذلك نتصرف فإنهم إن قبلوا الهدية المالية فهم أصحاب دنيا، وإن رفضوها فهم أصحاب دين، وعندها نتخذ ما يلزم حيالهم، ولا شك أن هذه الهدية كانت فاخرة وثمينة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ الشورى في الحكم.
2- مشروعية إبداء الرأي بصدق ونزاهة ثم ترك الأمر لأهله.
3- مشروعية إعداد العدة وتوفير السلاح وتدرب الرجال على حمله واستعماله.
4- دخول العدو المحارب الغالب البلاد عنوة ذو خطورة فلذا يتلافى الأمر بالمصالحة.
5- بيان حسن سياسة الملكة بلقيس وفطنتها وذكائها ولذا ورثت عرش أبيها.
[27.36-40]
شرح الكلمات:
فلما جاء سليمان: أي رسول الملكة يحمل الهدية ومعه أتباعه.
فما آتاني الله خير مما آتاكم: إنه أعطاني النبوة والملك وذلك خير مما أعطاكم من المال فقط.
بهديتكم تفرحون: لحبكم للدنيا ورغبتكم في زخارفها.
إرجع إليهم: أي بما أتيت به من الهدية.
بجنود لا قبل لهم بها: أي لا طاقة لهم بقتالها.
ولنخرجنهم منها: أي من مدينتهم سبأ المسماة باسم رجل يقال له سبأ.
أذلة وهم صاغرون: أي إن لم يأتوني مسلمين أي منقادين خاضعين.
قبل أن يأتوي مسلمين: فإن لي أخذه قبل مجيئهم مسلمين لا بعده.
قال عفريت من الجن: أي جني قوي إذ القوي الشديد من الجن يقال له عفريت.
قبل أن تقوم من مقامك: أي من مجلس قضائك وهو من الصبح إلى الظهر.
وإني عليه لقوي أمين: أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجواهر وغيرها.
وقال الذي عنده علم من الكتاب: أي سليمان عليه السلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع سليمان وملكة سبأ إنه لما بعثت بهديتها تختبر بها سليمان هل هو رجل دنيا يقبل المال أو رجل دين، لتتصرف على ضوء ما تعرف من اتجاه سليمان عليه السلام، فلما جاء سليمان، جاءه سفير الملكة ومعه رجال يحملون الهدية قال لهم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله: { قال أتمدونن بمال فمآ آتاني الله خير ممآ آتاكم } آتاني النبوة والعلم والحكم والملك فهو خير مما آتاكم من المال { بل أنتم بهديتكم تفرحون } وذلك لحبكم الدنيا ورغبتكم في زخارفها. وقال لرسول الملكة { ارجع إليهم } أي بما أتيت به من الهدية، وعلمهم أنهم إن لم يأتوا إلي مسلمين { فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها } أي لا قدرة لهم على قتالهم، { ولنخرجنهم منهآ } أي من مدينتهم سبأ { أذلة وهم صاغرون } أي خاضعون منقادون. ثم قال سليمان عليه السلام لأشراف دولته وأعيان بلاده { يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } فإني لا آخذه إلا قبل مجيئهم مسلمين لا بعده. فنطق عفريت من الجن قائلا بما أخبر تعالى عنه به { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } أي مجلس قضائك والذي ينتهي عادة بنصف النهار، { وإني عليه لقوي أمين } أي قادر على حمله والإتيان به في هذا الوقت الذي حددت لكم وأمين على ما فيه من جواهر وذهب لا يضيع منه شيء. وهنا { قال الذي عنده علم من الكتاب } وهو سليمان عليه السلام { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } فافتح عينيك وانظر فلا يعود إليك طرفك إلا والعرش بين يديك، وسأل ربه باسمه الأعظم الذي ما دعي به إلا أجاب وإذا العرش بين يديه، { فلما رآه مستقرا } بين يديه لهج قائلا { هذا من فضل ربي } أي علي فلم يكن لي به يد أبدا { ليبلوني } بذلك { أأشكر } نعمته علي { أم أكفر } { ومن شكر } فلنفسه أي عائد الشكر يعود عليه بحفظ النعمة ونمائها ومن كفر أي النعمة { فإن ربي غني } أي عن شكره وليس مفتقرا إليه، كريم قد يكرم الكافر للنعمة فلا يسلبها كلها منه أو يبقيها له على كفره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أهل الآخرة يفرحون بالدنيا، وأهل الدنيا لا يفرحون بالآخرة.
2- استعمال أسلوب الإرهاب والتخويف مع القدرة على إنفاذه مع العدو أليق.
3- تقرير أن سليمان كان يستخدم الجن وأنهم يخدمونه في أصعب الأمور.
4- استجابة الله تعالى لسليمان فأحضر له العرش من مسافة شهرين أي من اليمن إلى الشام قبل ارتداد طرف الناظر إذا فتح عينه ينظر.
5- وجوب رد الفضل إلى أهله فسليمان قال { هذا من فضل ربي } والجهال يقولون بثورتنا الخلاقة، وأبطالنا البواسل.
6- وجوب الشكر، وعائدته تعود على الشاكر فقط، ولكرم الله تعالى قد لا يسلب النعمة فور عدم شكرها وذلك لحلمه تعالى وكرمه.
[27.41-44]
شرح الكلمات:
قال نكروا لها عرشها: أي غيروا هيأته وشكله حتى لا يعرف إلا بصعوبة.
أتهتدي: أي إلى معرفته.
أهكذا عرشك: شبهوا عليها إذ لو قالوا هذا عرشك لقالت نعم.
قالت كأنه هو: فشبهت عليه فقالت كأنه هو.
وصدها ما كانت تعبد من دون الله: أي صرفها عن عبادة الله مع علمها وذكائها ما كانت تعبد من دون الله.
ادخلي الصرح: أي بهو الصرح إذ الصرح القصر العالي وفي بهوه بكرة ماء كبيرة مغطاة بسقف زجاجي يرى وكأنه ماء.
فكشفت عن ساقيها: ظانة أنها تدخل ماء تمشي عليه فرفعت ثيابها.
حسبته لجة: أي من ماء غمر يجري.
صرح ممرد من قوارير: أي مملس من زجاج.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما دار من أحاديث بين سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبأ لقد خرجت هي في موكبها الملكي بعد أن احتاطت لعرشها أيما احتياط. إلا أن العرش وصل قبلها بدعوة الذي عنده علم من الكتاب، وقبل وصولها أراد سليمان أن يختبر عقلها من حيث الحصافة أو الضعف فأمر رجاله ان يغيروا عرشها بزيادة ونقصان فيه حتى لا يعرف إلا بصعوبة كما قال عليه السلام { ننظر أتهتدي } إلى معرفته { أم تكون من الذين لا يهتدون } لضعف عقولهم. فلما جاءت { قيل أهكذا عرشك } فشبهوا عليها في التغيير وفي التعبير، إذ المفروض أن يقال لها هذا عرشك ومن هنا فطنت لتشبيههم { قالت كأنه هو } إذ لو قالت: هو لقالوا كيف يكون هو والمسافة مسيرة شهرين ولو قالت ليس هو لقيل لها كيف تجهلين سريرك فكانت ذات ذكاء ودهاء ومن هنا قال سليمان لما أعجب بذكائها { وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين } فحمد الله وأثنى عليه ضمن العبارة التي قالها. وقوله { وصدها ما كانت تعبد من دون الله } اتباعا لقومها إذ كانوا يعبدون الشمس من دون الله. { إنها كانت من قوم كافرين } فهذا سبب عدم إيمانها وتوحيدها وهو ما كان عليه قومها، وجلس سليمان في بهو صرحه وكان البهو تحته بركة ماء عظيمة فيها أسماك كثيرة وللماء موج، وسقف البركة مملس من زجاج، ومع سليمان جنوده من الإنس والجن يحوطون به ويحفونه من كل جانب وأمرت أن تدخل الصرح لأن سليمان الملك يدعوها { فلما رأته حسبته لجة } ماء { وكشفت عن ساقيها } فقال لها سليمان { إنه صرح ممرد } أي مملس { من قوارير } زجاجية وهنا وقد بهرها الموقف وعرفت أنها كانت ضالة وظالمة نطقت قائلة { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وبهذا أصبحت مسلمة صالحة. ولم يذكر القرآن عنها بعد شيئا فلنسكت عما سكت عنه القرآن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز اختبار الأفراد إذا أريد إسناد أمر لهم لمعرفة قدرتهم العقلية والبدنية.
2- بيان حصافة عقل بلقيس ولذا أسلمت ظهر ذلك في قولها { كأنه هو }.
3- مضار التقليد وما يترتب عليه من التنكر للعقل والمنطق.
4- حرمة كشف المرأة ساقيها حتى ولو كانت كافرة فكيف بها إذا كانت مسلمة.
5- فضيلة الإئتساء بالصالحين كما ائتست بلقيس بسليمان في قولها { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين }.
[27.45-49]
شرح الكلمات:
أن اعبدوا: أي بأن اعبدوا الله.
فريقان يختصمون: أي طائفتان مؤمنة موحدة وكافرة مشركة يختصمون.
تستعجلون بالسيئة: أي تطالبون بالعذاب قبل الرحمة.
لولا تستغفرون الله: أي هلا تطلبون المغفرة من ربكم بتوبتكم إليه.
قالوا اطيرنا بك: أي تشاءمنا بك وبمن معك من المؤمنين.
قال طائركم عند الله: أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه.
بل أنتم قوم تفتنون: أي تختبرون بالخير والشر.
تسعة رهط: أي تسعة رجال ظلمة.
تقاسموا بالله: أي تحالفوا بالله أي طلب كل واحد من الثاني أن يحلف له.
لنبيتنه وأهله: أي لنقتلنه والمؤمنين به ليلا.
ما شهدنا مهلك أهله: أي ما حضرنا قتله ولا قتل أهله.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ولقد أرسلنآ } هذا بداية قصص صالح عليه السلام مع قومه ثمود لما ذكر تعالى قصص سليمان مع بلقيس ذكر قصص صالح مع ثمود وذلك تقريرا لنبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ووضع المشركين من قريش أمام أحداث تاريخية تمثل حالهم مع نبيهم لعلهم يذكرون فيؤمنوا قال تعالى { ولقد أرسلنآ إلى ثمود } أي قبيلة ثمود { أخاهم } أي في النسب { صالحا أن اعبدوا } أي قال لهم اعبدوا الله أي وحدوه { فإذا هم فريقان } موحدون ومشركون { يختصمون } فريق يدعو إلى عبادة الله وحده وفريق يدعو إلى عبادة الأوثان مع الله وشأن التعارض أن يحدث التخاصم كل فريق يريد أن يخصم الفريق الآخر. وطالبوا صالحا بالآيات وقالوا
فأتنا بما تعدنآ
[الأعراف: 70] أي من العذاب
إن كنت من الصادقين
[الأعراف: 70] في أنك رسول إلينا مثل الرسل فرد عليهم وقال { يقوم لم تستعجلون بالسيئة } أي تطالبونني بعذابكم { قبل الحسنة } فالمفروض أن تطالبوا بالحسنة التي هي الرحمة لا السيئة التي هي العذاب. إن كفركم ومعاصيكم هي سبيل عذابكم، كما أن إيمانكم وطاعتكم هي سبيل نجاتكم وسعادتكم فبادروا بالإيمان والطاعة طلبا لحسنة الدنيا والآخرة. إنكم بكفركم ومعاصيكم تستعجلون عذابكم { لولا } أي هلا { تستغفرون الله } بترككم الشرك والمعاصي { لعلكم ترحمون } أي كي ترحموا بعد هذا الوعظ والإرشاد. كان جواب القوم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { قالوا اطيرنا بك وبمن معك } أي تشاءمنا بك وبأتباعك المؤمنين، فرد عليهم بقوله { طائركم عند الله } أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه وهو كائن لا محالة، وليست القضية تشاؤما ولا تيامنا { بل أنتم قوم تفتنون } وقوله تعالى { وكان في المدينة تسعة رهط } أي مدينة الحجر حجر ثمود تسعة رجال { يفسدون في الأرض } بالكفر والمعاصي { ولا يصلحون } وهم الذين تمالؤوا على عقر الناقة ومن بينهم قدار بن سالف الذي تولى عقر الناقة.
هؤلاء التسعة نفر قالوا لبعضهم بعضا في اجتماع خاص { تقاسموا بالله } أي ليقسم كل واحد منكم قائلا والله { لنبيتنه } أي صالحا { وأهله } أي أتباعه، أي لنأتينهم ليلا فنقتلهم، ثم في الصباح { لنقولن لوليه } أي لولي دم صالح من أقربائه، والله { ما شهدنا مهلك أهله } ولا مهلكه { وإنا لصادقون } فيما نقسم عليه من أنا لم نشهد مهلك صالح ولا مهلك أصحابه.
هداية الآيات
هداية الآيات:
1- تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
2- تقرير حقيقة أن الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي إلا بانتهاء الباطل.
3- حرمة التشاؤم والتيامن كذلك، ولم يجز الشارع إلا التفاؤل لا غير.
4- العمل بمعاصي الله تعالى هو الفساد في الأرض، والعمل بطاعته هو الإصلاح في الأرض.
5- تقرير أن المشركين يؤمنون بالله ولذا يحلفون به، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لشركهم في عبادة الله تعالى غيره من مخلوقاته.
[27.50-53]
شرح الكلمات:
ومكروا مكرا: أي دبروا طريقة خفية لقتل صالح والمؤمنين.
ومكرنا مكرا: أي ودبرنا طريقة خفية لنجاة صالح والمؤمنين وإهلاك الظالمين.
وهم لا يشعرون: بأنا ندبر لهم طريق هلاكهم.
بيوتهم خاوية: أي فارغة ليس فيها أحد.
بما ظلموا: أي بسبب ظلمهم وهو الشرك والمعاصي.
لآية: أي عبرة.
وأنجينا الذين آمنوا: أي صالحا والمؤمنين.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ومكروا مكرا } هذا نهاية قصص صالح مع ثمود تقدم أن تسعة رهط من قوم صالح تقاسموا على تبييت صالح والمؤمنين وقتلهم ليلا ليحولوا في نظرهم دون وقوع العذاب الذي واعدهم به صالح وأنه نازل بهم بعد ثلاثة أيام، وهذا مكرهم وطريقة تنفيذه أنهم أتوا صالحا وهو يصلي في مسجد له تحت الجبل فسقطت عليهم صخرة من الجبل فأهلكتهم أجمعين وهكذا مكر الله بهم وهم لا يشعرون به، ثم أهلك الله القوم كلهم بالصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وهو معنى قوله { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } أي انظر يا رسولنا كيف كانت نهاية ذلك المكر وعاقبته { أنا دمرناهم وقومهم أجمعين } { فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا } أي بسبب ظلمهم أنفسهم بالشرك وظلمهم صالحا والمؤمنين. وقوله تعالى { إن في ذلك } أي الإهلاك للرهط التسعة ولثمود قاطبة { لآية } أي علامة على قدرة الله وعلمه وحسن تدبيره { لقوم يعلمون } إذ هم الذين يرون الآية ويدركونها.
وقوله تعالى: { وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } يريد صالحا والمؤمنين الذين آمنوا بالله ربا وإلها وبصالح نبيا ورسولا. وكانوا طوال حياتهم يتقون عقاب الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة:
ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله
[فاطر: 43].
2- تقرير أن ديار الظالمين مآلها الخراب فالظلم يذر الديار بلا قع.
3- تقرير أن الإيمان والتقوى هما سبب النجاة لأن ولاية الله للعبد تتم بهما.
[27.54-55]
شرح الكلمات:
ولوط: أي واذكر لقومك لوطا إذ قال لقومه.
لقومه: هم سكان مدن عمورية وسدوم.
الفاحشة: أي الخصلة القبيحة الشديدة القبح وهي اللواط.
وأنتم تبصرون: إذ كانوا يأتونها في أنديتهم عيانا بلا ستر ولا حجاب.
قوم تجهلون: اي قبح ما تأتون وما يترتب عليه من خزي وعذاب.
معنى الآيتين:
هذا بداية قصص لوط عليه السلام مع قومه اللوطيين فقال تعالى { ولوطا } أي واذكر كما ذكرت صالحا وقومه اذكر لوطا { إذ قال لقومه } منكرا عليهم موبخا مؤنبا لهم على فعلتهم الشنعاء { أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون } أي قبحها وشناعتها ببصائركم وبأبصاركم حيث كانوا يأتونها علنا وعيانا وهم ينظرون وقوله { أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء } أي لا للعفة والإحصان ولا للولد والإنجاب بل لقضاء الشهوة البهيمية فشأنكم شأن البهائم لا غير. وفي نفس الوقت آذيتم نساءكم حيث تركتم إتيانهن فهضمتم حقوقهن. وقوله تعالى { بل أنتم قوم تجهلون } أي قال لهم لوط عليه السلام أي ما كان ذلك الشر والفساد منكم إلا لأنكم قوم سوء جهلة بما يجب عليكم لربكم من الإيمان والطاعة وما يترتب على الكفر والعصيان من العقاب والعذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيا ما كان عليه قوم لوط من الفساد والهبوط العقلي والخلقي.
2- تحريم فاحشة اللواط وأنها أقبح شيء وأن فاعلها أحط من البهائم.
3- بيان أن الجهل بالله تعالى وما يجب له من الطاعة، وبما لديه من عذاب وما عنده من نعيم مقيم هو سبب كل شر في الأرض وفساد. ولذا كان الطريق إلى إصلاح البشر هو تعريفهم بالله تعالى حتى إذا عرفوه وآمنوا به أمكنهم أن يستقيموا في الحياة على منهج الإصلاح المهيء للسعادة والكمال.
[27.56-58]
شرح الكلمات:
فما كان جواب قومه: أي لم يكن لهم من جواب إلا قولهم أخرجوا.
آل لوط: هم لوط عليه السلام وامرأته المؤمنه وابنتاه.
من قريتكم: أي مدينتكم سدوم.
يتطهرون: أي يتنزهون عن الأقذار والأوساخ.
قدرناها من الغابرين: أي حكمنا عليها أن تكون من الهالكين.
فساء مطر المنذرين: أي قبح مطر المنذرين من أهل الجرائم أنه حجارة من سجيل.
معنى الآيات:
هذه بقية قصص لوط عليه السلام إنه بعد أن أنكر لوط عليه السلام على قومه فاحشة اللواط وأنبهم عليها، وقبح فعلهم لها أجابوه مهددين له بالطرد والإبعاد من القرية كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله: فما كان جواب قومه أي لم يكن لهم من جواب يردون به على لوط عليه السلام { إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم } أي إلا قولهم { أخرجوا آل لوط من قريتكم }. وعللوا لقولهم هذا بقولهم { إنهم أناس يتطهرون }. أي يتنزهون عن الفواحش. قالوا هذا تهكما، لا إقرارا منهم على أن الفاحشة قذر يجب التنزه عنه. ولما بلغ بهم الحد إلى تهديد نبي الله لوط عليه السلام بالطرد والسخرية منه أهلكهم الله تعالى وأنجى لوطا وأهله إلا إحدى امرأتيه وكانت عجوزا كافرة وهو معنى قوله تعالى في الآية [57] { فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين } حكمنا ببقائها مع الكافرين لتهلك معهم. وقوله تعالى في الآية [58] { وأمطرنا عليهم } هو بيان لكيفية إهلاك قوم لوط بأن أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود فأهلكهم. { فسآء مطر المنذرين } أي قبح هذا المطر من مطر المنذرين الذين كذبوا بما أنذروا به وأصروا على الكفر والمعاصي. وهذا المطر كان بعد أن جعل الله عالي بلادهم سافلها، أردف خسفها بمطر من حجارة لتصيب من كان بعيدا عن المدن.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة أن الظلمة إذا أعيتهم الحجج والبراهين يفزعون إلى القوة.
2- بيان سنة أن المرء إذا أدمن على قبح قول أو عمل يصبح غير قبيح عنده.
3- سنة إنجاء الله أولياءه وإهلاكه أعداءه بعد إصرار المنذرين على الكفر والمعاصي.
[27.59-64]
شرح الكلمات:
اصطفى: أي اختارهم لحمل رسالته وإبلاغ دعوته.
آلله خير: أي لمن يعبده.
حدائق ذات بهجة: أي بساتين ذات منظر حسن لخضرتها وأزهارها.
يعدلون: أي بربهم غيره من الأصنام والأوثان.
جعل الأرض قرارا: أي قارة ثابتة لا تتحرك ولا تضطرب بسكانها.
وجعل خلالها أنهارا: أي جعل الأنهار العذبة تتخللها للشرب والسقي.
وجعل لها رواسي: أي جبالا أرساها بها حتى لا تتحرك ولا تميل.
بين البحرين حاجزا: أي فاصلا لا يختلط أحدهما بالآخر.
ويكشف السوء: أي الضر، المرض وغيره.
قليلا ما تذكرون: أي ما تتعظون إلا قليلا.
بشرا بين يدي رحمته: أي مبشرة بين يدي المطر إذ الرياح تتقدم ثم باقي المطر.
أمن يبدأ الخلق ثم يعيده: أي يبدؤه في الأرحام، ثم يعيده يوم القيامة.
هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين: أي حجتكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلها آخر فعل ما ذكر.
معنى الآيات:
لما أخبر الله تعالى رسوله بإهلاك المجرمين ونجاة المؤمنين أمر تعالى رسوله أن يحمده على ذلك تعليما له ولأمته إذا تجددت لهم نعمة أن يحمدوا الله تعالى عليها ليكون ذلك من شكرها قال تعالى: { قل الحمد لله } أي الوصف بالجميل لله استحقاقا.
{ وسلام على عباده الذين اصطفى } الله لرسالته وإبلاغ دعوته إلى عباده ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا على ذلك في الحياتين.
وقوله تعالى: { ءآلله خير أما يشركون } أي آ الله الخالق الرازق المدبر القوي المنتقم من أعدائه المكرم لأوليائه؛ عبادته خير لمن يعبده بها أم عبادة من يشركون. فقوله { أمن خلق السموت والأرض وأنزل لكم من السمآء مآء } أي لحاجتكم إليه غسلا وشربا وسقيا { فأنبتنا به حدآئق } أي بساتين محدقة بالجدران والحواجز { ذات بهجة } أي حسن وجمال، { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } أي لم يكن في استطاعتكم أن تنبتوا شجرها { أإله مع الله } لا والله { بل هم قوم يعدلون } أي يشركون بربهم أصناما ويسوونها به في العبادات. وقوله تعالى: { أمن جعل الأرض قرارا } أي قارة ثابتة لا تتحرك بسكانها ولا تضطرب بهم فيهلكوا. { وجعل خلالهآ أنهارا } أي فيما بينها. { وجعل لها رواسي } أي جبالا تثبتها، { وجعل بين البحرين } العذب والملح { حاجزا } حتى لا يختلط الملح بالعذب فيفسده.
{ أإله مع الله }؟ والجواب: لا والله. { بل أكثرهم لا يعلمون } ولو علموا لما أشركوا بالله مخلوقاته. وقوله تعالى: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } أي ليكشف ضره { ويكشف السوء } أي يبعده والسوء هو ما يسوء المرء من مرض وجوع وعطش وقحط وجدب. { ويجعلكم خلفآء الأرض } جعل جيلا يخلف جيلا وهكذا الموجود خلف لمن سلف وسيكون سلفا لمن خلف { أإله مع الله } والجواب لا إله مع الله { قليلا ما تذكرون } أي ما تتعظون إلا قليلا بما تسمعون وترون من آيات الله.
وقوله تعالى: { أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر } في الليل بالنجوم وفي النهار بالعلامات الدالة والهادية إلى مقاصدكم { ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } أي من يثير الرياح ويرسلها تتقدم المطر وتبشر به؟ لا أحد غير الله إذا.. أ إله مع الله. والجواب: لا، لا.. الله وحده الإله الحق وما عداه فباطل.
وقوله تعالى: { تعالى الله عما يشركون } نزه تعالى نفسه عن الشرك المشركين أصناما لا تبدئ ولا تعيد ولا تخلق ولا ترزق ولا تعطي ولا تمنع. وقوله تعالى: { أمن يبدؤا الخلق } أي نطفا في الأرحام، ثم بعد حياته يميته، ثم يعيده وهو معنى { ثم يعيده }.
{ ومن يرزقكم من السمآء } بالمطر { والأرض } بالنبات. والجواب: الله إذا { أإله مع الله } والجواب: لا، لا وإن قلتم هناك آلهة مع الله { قل هاتوا برهانكم } أي حججكم { إن كنتم صادقين } أن غير الله يفعل شيئا مما ذكر في هذا السياق الكريم.
هداية الآيات :
1- وجوب حمد الله وشكره عند تجدد الشكر، والحمد لله رأس الشكر.
2- مشروعية السلام عند ذكر الأنبياء عليهم السلام فمن ذكر أحدهم قال عليه السلام.
3- التنديد بالشرك والمشركين.
4- تقرير التوحيد بأدلته الباهرة العديدة.
5- تقرير عقيدة البعث الآخر وإثباتها بالاستنباط من الأدلة المذكورة.
6- لا تثبت الأحكام إلا بالأدلة النقلية والعقلية.
[27.65-69]
شرح الكلمات:
من في السماوات والأرض: الملائكة والناس.
الغيب إلا الله: أي ما غاب عنهم ومن ذلك متى قيام الساعة إلا الله فإنه يعلمه.
أيان يبعثون: أي متى يبعثون.
بل ادارك علمهم في الآخرة: أي تلاحق وهو ما منهم أحد إلا يظن فقط فلا علم لهم بالآخرة بالمرة.
بل هم منها عمون: أي في عمى كامل لا يبصرون شيئا من حقائقها.
أئنا لمخرجون: أي أحياء من قبورنا.
لقد وعدنا هذا: أي البعث أحياء من القبور.
أساطير الأولين: أي أكاذيبهم التي سطروها في كتبهم.
كيف كان عاقبة المجرمين: أي المكذبين بالبعث كانت دمارا وهلاكا وديارهم الخاوية شاهدة بذلك.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { قل لا يعلم من في السموت والأرض الغيب إلا الله } لما سأل المشركون من قريش النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة أمره تعالى أن يجيبهم بهذا الجواب { قل لا يعلم } الخ.. والساعة من جملة الغيب بل هي أعظمه. { من في السموت } من الملائكة { والأرض } من الناس { إلا الله } أي لكن الله تعالى يعلم غيب السماوات والأرض أما غيره فلا يعلم إلا ما علمه الله علام الغيوب.
وقوله تعالى: { وما يشعرون أيان يبعثون } أي وما يشعر أهل السماوات وأهل الأرض متى يبعث الأموات من قبورهم للحساب والجزاء وهذا كقوله تعالى في سورة الأعراف.
يسألونك عن الساعة أيان مرسها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو ثقلت في السموت والأرض لا تأتيكم إلا بغتة
[الآية: 187].
وقوله تعالى: { بل ادارك علمهم في الآخرة } قرئ (بل أدرك علمهم في الآخرة) أي بلغ حقيقته يوم القيامة إذ يصبح الإيمان بها الذي كان غيبا شهادة ولكن لا ينفع صاحبه يومئذ. وقرئ (بل ادارك علمهم) أي علم المشركين بالآخرة. أي تلاحق وأدرك بعضه بعضا وهو أنه لا علم لهم بها بالمرة. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: { بل هم في شك منها بل هم منها عمون } أي لا يرون شيئا من دلائلها، ولا حقائقها بالمرة ويدل على هذا ما أخبر به تعالى عنهم من أنهم لا يؤمنون بالساعة بالمرة في قوله { وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآبآؤنآ أإنا لمخرجون } أي من قبورنا أحياء. والاستفهام للانكار الشديد ويؤكدون إنكارهم هذا بقولهم:
{ لقد وعدنا هذا نحن وآبآؤنا من قبل } أي من قبل أن يعدنا محمد. { إن هذآ } أي الوعد بالبعث والجزاء { إلا أساطير الأولين } أي أكاذيبهم وحكاياتهم التي يسطرونها في الكتب ويقرأونها على الناس. وقوله تعالى في آخر آية من هذا السياق [69] { قل سيروا في الأرض } أي قل لهم يا رسولنا سيروا في الأرض جنوبا أو شمالا أو غربا { فانظروا كيف كان عقبة المجرمين } أي أهلكناهم لما كذبوا بالبعث كما كذبتم، فالقادر على خلقهم ثم إماتتهم قادر قطعا على بعثهم وإحيائهم لمحاسبتهم وجزائهم بكسبهم.
فالبعث إذا ضروري لا ينكره ذو عقل راجح أبدا.
هداية الآيات:
من هدية الآيات:
1- حصر علم الغيب في الرب تبارك وتعالى. فمن ادعى أنه يعلم ما في غد فقد كذب.
2- تساوي علم أهل السماء والأرض في الجهل بوقت قيام الساعة.
3- المكذبون بيوم القيامة سيوقنون به في الآخرة ولكن لا ينفعهم ذلك.
4- إهلاك الله الأمم المكذبة بالبعث بعد خلقهم ورزقهم دليل على قدرته تعالى على بعثهم لحسابهم وجزائهم.
[27.70-75]
شرح الكلمات:
ولا تحزن عليهم: المراد به تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.
مما يمكرون: أي بك إذ حاولوا قتله ولم يفلحوا.
متى هذا الوعد: أي بعذابنا.
بعض الذي تستعجلون: وقد حصل لهم في بدر.
إن الله لذو فضل على الناس: أي في خلقهم ورزقهم وحفظهم وعدم إنزال العذاب بهم.
ما تكن صدورهم: أي ما تخفيه وتستره صدورهم.
وما من غائبة: أي ما من حادثة غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين هو اللوح المحفوظ مدونة فيه مكتوبة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالنبوة والبعث الآخر ولقد تقدم تقرير كل من عقيدة التوحيد بأدلة لا ترد، وكذا تقرير عقيدة البعث والجزاء ولكن المشركين ما زالوا يعارضون ويمانعون بل ويمكرون فلذا نهى الله تعالى رسوله عن الحزن على المشركين في عدم إيمانهم كما نهاه عن ضيق صدره مما يمكرون ويكيدون له ولدعوة الحق التي يدعو إليها. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [70] وأما الآية الثانية والثالثة فإنه تعالى يخبر رسوله بما يقول أعداؤه ويلقنه الجواب. فقال تعالى: [71] { ويقولون متى هذا الوعد } - أي بالعذاب - { إن كنتم صادقين } - فيما تقولون وتعدون - { قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون } اي اقترب منكم ودنا وهو ما حصل لهم في بدر من الأسر والقتل هذا ما دلت عليه الآيتان [71 و 72].
وقوله تعالى: { وإن ربك لذو فضل على الناس } مؤمنهم وكافرهم إذ خلقهم ورزقهم وعافاهم ولم يهلكهم بذنوبهم { ولكن أكثرهم لا يشكرون } فهاهم أولاء يستعجلون العذاب ويطالبون به ومع هذا يمهلهم لعلهم يتوبون، وهذا أعظم فضل. وقوله تعالى: { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } أي لا يخفى عليه من أمرهم شيء وسيحصي لهم أعمالهم ويجزيهم بها وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم وتهديد وقوله تعالى: { وما من غآئبة في السمآء والأرض إلا في كتاب مبين }. وهو اللوح المحفوظ أي إن علم ربك أحاط بكل شيء ولا يعزب عنه شيء وهذا مظهر من مظاهر العلم الإلهي المستلزم للبعث والجزاء، إذ لو قل علمه بالخلق لكان من الجائز أن يترك بعضا لا يبعثهم ولا يحاسبهم ولا يجزيهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يعاني شدة من ظلم المشركين وإعراضهم.
2- بيان تعنت المشركين وعنادهم.
3- تحقق وعد الله للمشركين حيث نزل بهم بعض العذاب الذي يستعجلون.
4- بيان فضل الله تعالى على الناس مع ترك أكثرهم لشكره سبحانه وتعالى.
5- بيان إحاطة علم الله بكل شيء .
6- إثبات وتقرير كتاب المقادير، وهو اللوح المحفوظ.
[27.76-81]
شرح الكلمات:
يقص على بني إسرائيل: أي يذكر أثناء آياته كثيرا مما اختلف فيه بنو إسرائيل.
لهدى ورحمة للمؤمنين: أي به تتم هداية المؤمنين ورحمتهم.
يقضي بينهم بحكمه: أي يحكم بين بني إسرائيل بحكمه العادل.
وهو العزيز العليم: الغالب على أمره، العليم بخلقه.
فتوكل على الله: أي ثق فيه وفوض أمرك إليه.
إنك لا تسمع الموتى: أي لو أردت أن تسمعهم لأنهم موتى.
ولا تسمع الصم الدعاء: أي ولا تقدر على إسماع كلامك الصم الذين فقدوا حاسة السمع.
إذا ولوا مدبرين: أي إذا رجعوا مدبرين عنك غير ملتفتين إليك.
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا: أي ما تسمع إلا من يؤمن بآيات الله.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { إن هذا القرآن } الكريم الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { يقص على بني إسرائيل } المعاصرين لنزوله { أكثر الذي هم فيه يختلفون } كاختلافهم في عيسى عليه السلام ووالدته، إذ غلا فيهما البعض وأفرطوا فألهوهما وفرط فيهما البعض فقالوا في عيسى ساحر، وفي مريم عاهرة لعنهم الله، وكاختلافهم في صفات الله تعالى وفي حقيقة المعاد، وكاختلافهم في مسائل شرعية وأخرى تاريخية. وقوله تعالى: { وإنه لهدى ورحمة } أي وإن القرآن الكريم لهدى، أي لهاد لمن آمن به إلى سبيل السلام ورحمة شاملة { للمؤمنين } به، العاملين بما فيه من الشرائع والآداب والأخلاق. وقوله تعالى: { إن ربك } أي أيها الرسول { يقضي بينهم } أي بين الناس من وثنيين وأهل كتاب يوم القيامة بحكمه العادل الرحيم، { وهو العزيز } الغالب الذي ينفذ حكمه فيمن حكم له أو عليه { العليم } بالمحقين من المبطلين من عباده فلذا يكون حكمه أعدل وأرحم ولذا { فتوكل على الله } أيها الرسول بالثقة فيه وتفويض أمرك إليه فإنه كافيك. وقوله: { إنك على الحق المبين } أي إنك يا رسولنا على الدين الحق الذي هو الإسلام وخصومك على الباطل فالعاقبة الحسنى لك، لا محالة. وقوله تعالى: { إنك لا تسمع الموتى } والكفار موتى بعدم وجود روح الإيمان في أجسامهم والميت لا يسمع فلذا لا تقدر على إسماع هؤلاء الكافرين الأموات، كما إنك { ولا تسمع الصم } أي الفاقدين لحاسة السمع { الدعآء } أي دعاءك { إذا ولوا مدبرين } أي إذا رجعوا مدبرين غير ملتفتين إليك. { ومآ أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } التي يعيشون عليها فهون على نفسك ولا تكرب ولا تحزن { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } أي ما تسمع إسماع تفهم وقبول إلا المؤمنين بآيات الله، { فهم مسلمون } أي فهم من أجل إيمانهم مسلمون أي منقادون خاضعون لشرع الله وأحكامه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- شرف القرآن وفضله.
2- لن ينتهي خلاف اليهود والنصارى إلا بالإسلام فإذا أسلموا اهتدوا للحق وانتهى كل خلاف بينهم.
3- كل خلاف بين الناس اليوم سيحكم الله تعالى بين أهله يوم القيامة بحكمه العادل ويوفى كلا ماله أو عليه وهو العزيز العليم.
4- الكفار أموات لخلو أبدانهم من روح الإيمان فلذا هم لا يسمعون الهدى ولا يبصرون الآيات مهما كانت واضحات.
فعلى داعيهم أن يعرف هذا فيهم وليصبر على دعوتهم ودعاويهم.
[27.82-86]
شرح الكلمات:
وقع القول عليهم: أي حق عليهم العذاب.
دابة من الأرض: حيوان يدب على الأرض لم يرد وصفها في حديث صحيح يعول عليه ويقال به.
تكلم الناس: بلسان يفهمونه لأنها آية من الآيات.
أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون: أي بسبب أن الناس أصبحوا لا يؤمنون بآيات الله وشرائعه أي كفروا فيبلون بهذه الدابة.
ويوم نحشر: أي اذكر يوم نحشر أي نجمع.
من كل أمة فوجا: أي طائفة وهم الرؤساء المتبوعون في الدنيا.
فهم يوزعون: أي يجمعون برد أولهم على آخرهم.
حتى إذا جاءوا: أي الموقف مكان الحساب.
وقع القول عليهم: أي حق عليهم العذاب.
بما ظلموا: أي بسبب الظلم الذي هو شركهم بالله تعالى.
فهم لا ينطقون: أي لا حجة لهم.
والنهار مبصرا: أي يبصر فيه من أجل التصرف في الأعمال.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وإذا وقع القول عليهم } أي حق العذاب على الكافرين حيث لم يبق في الأرض من يأمر بمعروف ولا من ينهى عن منكر { أخرجنا لهم } لفتنتهم { دآبة من الأرض } حيوان أرضي ليس بسماوي { تكلمهم } اي بلسان يفهمونه، { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } هذه علة تكليمهم وهي بأن الناس كفروا وما أصبحوا يوقنون بآيات الله وشرائعه فيخرج الله تعالى هذه الدابة لحكم منها: أن بها يتميز المؤمن من الكافر. وقوله تعالى: { ويوم نحشر من كل أمة فوجا } أي واذكر يا رسولنا { ويوم نحشر من كل أمة } من الأمم البشرية { فوجا } أي جماعة { ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون } بأن يرد أولهم على آخرهم لينتظم سيرهم { حتى إذا جآءو } الموقف موضع الحساب يقول الله تعالى لهم: { أكذبتم بآياتي } وما اشتملت عليه من أدلة وحجج وشرائع وأحكام { ولم تحيطوا بها علما } ، وهذا تقريع لهم وتوبيخ. إذ كون الإنسان لم يحط علما بشيء لا يجوز له أن يكذب به لمجرد أنه ما عرفه. وقوله: { أما ذا كنتم تعملون } أي ما الذي كنتم تعملون في آياتي من تصديق وتكذيب. قال تعالى { ووقع القول عليهم } أي وجب العذاب { بما ظلموا } أي بسبب ظلمهم { فهم لا ينطقون }. أي بعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم لأنهم ظلمه مشركون.
وقوله تعالى: { ألم يروا } أي ألم يبصر أولئك المشركون المكذبون بالبعث والجزاء أن الله تعالى جعل { الليل ليسكنوا فيه } وسكونهم هو موتهم على فرشهم بالنوم فيه { والنهار } أي وجعل { النهار مبصرا } أي يبصر فيه لينصرفوا فيه بالعمل لحياتهم، فنوم الليل شبيه بالموت وانبعاث النهار شبيه بالحياة، فهي عملية موت وحياة متكررة طوال الدهر فكيف ينكر العقلاء البعث الآخر وله صورة متكررة طوال الحياة، ولذا قال تعالى: { إن في ذلك } أي في ذلك العمل المتكرر للموت والحياة كل يوم وليلة { لآيات } أي براهين وحجج قاطعة على وجود بعث وحياة بعد هذا الموت والحياة.
وخص المؤمنون بالذكر وبالحصول على البرهان المطلوب من عملية الليل والنهار لأن المؤمنين أحياء يسمعون ويبصرون ويفكرون والكافرين أموات والميت لا يسمع ولا يبصر ولا يعي ولا يفكر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تأكيد آية الدابة والتي تخرج من صدع من الصفا وقد وجد الصدع الآن فيما يبدو وهي الأنفاق التي فتحت في جبل الصفا وأصبحت طرقا عظيمة للحجاج، وعما قريب تخرج، وذلك يوم لا يبقى من يأمر بالمعروف ولا من ينهى عن المنكر فيحق العذاب على الكافرين.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر وصف لها.
3- ويل لرؤساء الضلالة والشر والشرك والباطل إذ يؤتى بهم ويسألون.
4- في آية الليل والنهار ما يدل بوضوح على عقيدة البعث الآخر والحساب والجزاء.
[27.87-90]
شرح الكلمات:
ويوم ينفخ في الصور: أي يوم ينفخ إسرافيل في البوق نفخة الفزع والفناء والقيام من القبور.
وكل أتوه داخرين: أي وكل من أهل السماء والأرض أتوا الله عز وجل داخرين أي أذلاء صاغرين.
وترى الجبال تحسبها جامدة: أي تظنها في نظر العين جامدة.
وهي تمر مر السحاب: وذلك لسرعة تسييرها.
من جاء بالحسنة: وهي الإيمان والتوحيد وسائر الصالحات.
فله خير منها: أي الجنة.
ومن جاء بالسيئة: أي الشرك والمعاصي فله النار يكب وجهه فيها.
وهم من فزع يومئذ آمنون: أي أصحاب حسنات التوحيد والعمل الصالح آمنون من فزع هول يوم القيامة.
ومن جاء بالسيئة فكبت: أي جاء بالسيئة كالشرك وأكل الربا، وقتل النفس، فكبت وجوههم في النار والعياذ بالله أي القوا فيها على وجوههم.
هل تجزون إلا ما كنتم تعملون: أي ما تجزون إلا بعملكم، ولا تجزون بعمل غيركم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر أحداث القيامة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي هي الباعث على الاستقامة في الحياة. فقال تعالى { ويوم ينفخ في الصور } أي ونفخ إسرافيل بإذن ربه في الصور الذي هو القرن أو البوق { ففزع من في السموت ومن في الأرض إلا من شآء الله } وهي نفخة الفزع فتفزع لها الخلائق إلا من استثنى الله تعالى وهم الشهداء فلا يفزعون وهي نفخة الفناء أيضا إذ بها يفنى كل شيء، وقوله تعالى { وكل أتوه } أي أتوا الله تعالى { داخرين } اي صاغرين ذليلين أتوه إلى المحشر وساحة فصل القضاء وقوله { وترى الجبال تحسبها جامدة } أي لا تتحرك وهي في نفس الواقع تسير سير السحاب { صنع الله الذي أتقن كل شيء } أي أوثق صنعه وأحكمه { إنه خبير بما تفعلون } وسيجزيكم أيها الناس بحسب علمه { من جآء بالحسنة } وهي الإيمان والعمل الصالح { فله خير منها } ألا وهي الجنة { ومن جآء بالسيئة } وهي الشرك والمعاصي { فكبت وجوههم في النار } فذلك جزاء من جاء بالسيئة.
وقوله تعالى: { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } أي لا تجزون إلا ما كنتم تعملونه في الدنيا من خير وشر وقد تم الجزاء بمقتضى ذلك فقوم دخلوا الجنة وآخرون كبت وجوههم في النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها مفصلة.
2- بيان كيفية خراب العوالم وفناء الأكوان.
3- فضل الشهداء حيث لا يحزنهم الفزع الأكبر وهم آمنون.
4- تقرير مبدأ الجزاء وهو الحسنة والسيئة، حسنة التوحيد وسيئة الشرك.
[27.91-93]
شرح الكلمات:
هذه البلدة: أي مكة المكرمة والاضافة للتشريف.
الذي حرمها: أي الله الذي حرم مكة فلا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا يقاتل فيها.
من المسلمين: المؤمنين المنقادين له ظاهرا وباطنا وهم أشرف الخلق.
وأن أتلو القرآن: أي أمرني أن أقرأ القرآن إنذارا وتعليما وتعبدا.
سيريكم آياته: أي مدلول آيات الوعيد فيعرفون ذلك وقد أراهموه في بدر وسيرونه عند الموت.
وما ربك بغافل عما يعملون: أي وما ربك أيها الرسول بغافل عما يعمل الناس وسيجزيهم بعملهم.
معنى الآيات:
إنه بعد ذلك العرض الهائل لأحداث القيامة والذي المفروض فيه أن يؤمن كل من شاهده ولكن القوم ما آمن أكثرهم ومن هنا ناسب بيان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه عبد مأمور بعبادة ربه لا غير ربه الذي هو رب هذه البلدة الذي حرمها فلا يقاتل فيها ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلالها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن يعرفها، وله كل شيء خلقا وملكا وتصرفا فليس لغيره معه شيء في العوالم كلها علويها وسفليها وقوله: { وأمرت أن أكون من المسلمين } أي وأمرني ربي أن أكون في جملة المسلمين أي المنقادين لله والخاضعين له وهم صالحو عباده من الأنبياء والمرسلين. وقوله: { وأن أتلوا القرآن } أي وأمرني أن أتلو القرآن تلاوة إنذار وتعليم وتعبدا وتقربا إليه تعالى وبعد تلاوتي فمن اهتدى عليها فعرف طريق الهدى وسلكه فنتائج الهداية وعائدها عائد عليه هو الذي ينتفع بها. ومن ضل فلم يقبل الهدى وأقام على ضلالته فليس علي هدايته لأن ربي قال لي قل لمن ضل { إنمآ أنا من المنذرين } لا من واهبى الإيمان والهداية إنما يهب الهداية ويمن بها الله الذي بيده كل شيء { وقل الحمد لله } وأمرني أن أحمده على كل ما وهبني من نعم لا تعد ولا تحصى ومن أجلها إكرامه لي بالرسالة التي شرفني بها على سائر الناس فالحمد لله والمنة له وقوله { سيريكم آياته فتعرفونها } أي وأعلم هؤلاء المشركين أن الله ربي سيريكم آياته في مستقبل أيامكم وقد أراهم أول آية في بدر وثاني آية في الفتح وآخر آية عند الموت يوم تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وتقول لهم
ذوقوا عذاب الحريق
[آل عمران: 181] وقوله تعالى { وما ربك بغافل عما تعملون } أي وما ربك الذي أكرمك وفضلك أيها الرسول { بغافل عما تعملون } أيها الناس مؤمنين وكافرين وصالحين وفاسدين وسيجزى كلا بعمله وذلك يوم ترجعون إليه ففي الآية وعد ووعيد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها عبادة الله والإسلام له، وتلاوة القرآن إنذارا وإعذارا وتعليما وتعبدا به وتقربا إلى منزله عز وجل.
2- بيان وتقرير حرمة مكة المكرمة والحرم.
3- الندب إلى حمد الله تعالى على نعمة الظاهرة والباطنة ولا سيما عند تجدد النعمة وعند ذكرها.
4- بيان أن عوائد الكسب عائدة على الكاسب خيرا كانت أو شرا.
5- بيان معجزة القرآن الكريم إذ ما أعلم به المشركين أنهم سيرونها قد رأوه فعلا وهو غيب، فظهر كما أخبر.
[28 - سورة القصص]
[28.1-6]
شرح الكلمات:
طسم: هذه إحدى الحروف المقطعة تكتب طسم وتقرأ: طا، سين، ميم.
تلك: أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات القرآن الكريم.
نتلو عليك: أي نقرأ عليك قاصين شيئا من نبأ موسى وفرعون أي من خبرهما.
لقوم يؤمنون: أي لأجل المؤمنين ليزدادوا إيمانا ويوقنوا بالنصر وحسن العاقبة.
علا في الأرض: أي تكبر وظلم فادعى الربوبية وظلم بني إسرائيل ظلما فظيعا.
شيعا: أي طوائف بعضهم عدو لبعض من باب فرق تسد.
ويستحي نساءهم: أي يبقي على النساء لا يذبح البنات لأنه لا يخاف منهن ويذبح الأولاد لخوفه مستقبلا على ملكه منهم.
ونريد أن نمن: أي ننعم على الذين استضعفوا فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.
ما كانوا يحذرون: من المولود الذي يولد في بني إسرائيل ويذهب بملكهم.
معنى الآيات:
{ طسم }: هذا اللفظ الله أعلم بمراده منه، وقد أفاد فائدتين عظيمتين الأولى هي إعجاز القرآن الموجب للإيمان به وبمنزلة من أنزل عليه القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن هذا القرآن الذي أعجز العرب أن يأتوا بسورة مثله قد تألف من مثل هذه الحروف المقطعة فدل ذلك على أنه كلام الله ووحيه.
والثانية أنه لما خاف المشركون من تأثير القرآن على نفوس السامعين له وأمروا باجتناب سماعه واستعملوا وسائل شتى لمنع الناس في مكة من سماعه كانت هذه الحروف تضطرهم إلى السماع لغرابتها عندهم فإذا قرأ القارئ طسم وجد أحدهم نفسه مضطرا إلى السماع، فإذا ألقى سمعه نفذ القرآن إلى قلبه فاهتدى به إن شاء الله تعالى له الهداية كما حصل لكثيرين منهم.
وقوله تعالى: { تلك آيات الكتاب } أي هذه آيات الكتاب المبين أي القرآن المبين للهدى من الضلال والخير من الشر والحق من الباطل، وقوله { نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق } أي نقرأ قاصين عليك أيها الرسول شيئا من نبأ موسى وفرعون أي من خبر موسى وفرعون وقوله { لقوم يؤمنون } باعتبارهم أنهم هم الذين ينتفعون بما يسمعون في حياتهم ولأنهم في ظرف صعب يحتاجون معه إلى سماع مثل هذا القصص ليثبتوا على إيمانهم حتى ينصرهم الله كما نصر الذين من قبلهم بعد ضعف كان أشد من ضعفهم وقوله تعالى: { إن فرعون.. } إلى آخر الآية هذا بيان لما أخبر أنه يقصه للمؤمنين، يخبر تعالى فيقول: { إن فرعون.. } إلى آخر الآية إن فرعون الحاكم المصري المسمى بالوليد بن الريان الطاغية المدعى الربوبية والألوهية { علا في الأرض } أي أرض البلاد المصرية ومعنى علا طغى وتكبر وتسلط وقوله { وجعل أهلها } أي أهل تلك البلاد المصرية { شيعا } أي طوائف فرق بينها إبقاء على ملكه على قاعدة فرق تسد المذهب السياسي القائم الآن في بلاد الكفر والظلم وقوله { يستضعف طآئفة } من تلك الطوائف وهي طائفة بني إسرائيل وكيفية استضعافهم أنه يذبح أبناءهم ساعة ولادتهم { ويستحيي نساءهم } أي بناتهم ليكبرن للخدمة وتذبيح الأولاد سببه أن كهانة وسياسييه أعلموه أن ملكه مهدد بوجود بني إسرائيل أقوياء كثر في البلاد فاستعمل طريقة تقليلهم والحد من كثرتهم بذبح الأولاد الذكور منهم وإبقاء الإناث منهم وهي سياسة تشبه تحديد النسل اليوم التي يستعملها الهالكون اليوم وهم لا يشعرون.
وقوله: { إنه كان من المفسدين } هذا تعليل لعلو فرعون وطغيانه فذكر أن سبب ذلك الذي يرتكبه من السياسة العمياء الظالمة أنه { من المفسدين } أي في الأرض بارتكاب الجرائم العظام التي لا توصف.
وقوله تعالى { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة } أي { نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون } أي من بعض خبرهما أنا نريد أي أردنا أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض أرض مصر وهم بنو إسرائيل، نمن عليهم بإيمانهم وتخليصهم من حكم فرعون وتسلطه ونجعلهم قادة في الخير { ونجعلهم الوارثين } لحكم البلاد وسياستها بعد إهلاك فرعون وجنوده وهو معنى قوله:
{ ونمكن لهم في الأرض }. وقوله { ونري فرعون } أي من جملة ما نتلو عليك أنا أردنا أن { ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم } أي من بني إسرائيل ما كانوا يحذرونه من مولود يولد في بني إسرائيل فيذهب بملك فرعون وذلك بما سيذكر تعالى من أسباب وترتيبات هي عجب!
تبتدىء من قوله تعالى
وأوحينآ إلى أم موسى..
[القصص: 7].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير إعجاز القرآن الذي هو آية أنه كتاب الله حقا.
2- تقرير النبوة المحمدية بهذا الوحي الإلهي.
3- التحذير من الظلم والاستطالة على الناس والفساد في الأرض .
4- المؤمنون هم الذين ينتفعون بما يتلى عليهم لحياة قلوبهم.
5- تقرير قاعدة لا حذر مع القدر.
6- تحريم تحديد النسل بإلزام المواطن بان لا يزيد على عدد معين من الأطفال.
[28.7-11]
شرح الكلمات:
وأوحينا إلى أم موسى: أعلمناها أن ترضع ولدها الرضعات الأولى التي لا بد منها ثم تضعه في تابوت ثم تلقيه في اليم.
في اليم: أي في البحر وهو نهر النيل.
ولا تخافي ولا تحزني: أي لا تخافي أن يهلك ولا تحزني على فراقه، إنا رادوه إليك.
فالتقطه آل فرعون: أي أعوانه ورجاله.
ليكون لهم عدوا وحزنا: أي في عاقبة الأمر، فاللام للعاقبة والصيرورة.
قرة عين لي ولك: أي تقر به عيني وعينك فنفرح به ونسر.
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا: أي من كل شيء إلا منه عليه السلام أي لا تفكر في شيء إلا فيه.
إن كادت لتبدي به: أي قاربت بأن تصرخ أنه ولدها وتظهر ذلك.
وقالت لأخته قصيه: أي اتبعي أثره حتى تعرفي أين هو.
فبصرت به عن جنب: أي لاحظته وهي مختفيه تتبعه من مكان بعيد.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة موسى مع فرعون وهو طفل رضيع إلى نهاية هلاك فرعون في ظرف طويل بلغ عشرات السنين. بدأ تعالى بقوله تعالى: { وأوحينآ إلى أم موسى } أي أعلمناها من طريق الإلقاء في القلب { أن أرضعيه فإذا خفت عليه } آل فرعون الذين يقتلون مواليد بني إسرائيل الذكور في هذه السنة { فألقيه في اليم } أي بعد أن تجعليه في تابوت أي صندوق خشب مطلي بالقار، { ولا تخافي } عليه الهلاك { ولا تحزني } على فراقك له { إنا رآدوه إليك } لترضعيه { وجاعلوه من المرسلين } ونرسله إلى عدوكم فرعون وملائه. قال تعالى: { فالتقطه آل فرعون } أي فعلت ما أمرها الله تعالى به بأن جعلته في تابوت وألقته في اليم أي النيل { فالتقطه آل فرعون } حيث وجدوه لقطة فأخذوه وأعطوه لآسية بنت مزاحم عليها السلام امرأة فرعون. وقوله تعالى: { ليكون لهم عدوا وحزنا } هذا باعتبار ما يؤول إليه الأمر فهم ما التقطوه لذلك ولكن شاء الله ذلك فكان لهم { عدوا وحزنا } فعاداهم وأحزنهم.
وقوله تعالى: { إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } أي آثمين بالكفر والظلم ولذا يكون موسى لهم عدوا وحزنا. وقوله تعالى: { وقالت امرأة فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه } قالت هذا حين هم فرعون بقتله لما نتف موسى لحيته وهو رضيع تعلق به فأخذ شعرات من لحيته فتشاءم فرعون وأمر بقتله فاعتذرت آسية له فقالت هو { قرت عين لي ولك لا تقتلوه } فقال فرعون قرة عين لك أما أنا فلا وقولها { عسى أن ينفعنا } في حياتنا بالخدمة ونحوها { أو نتخذه ولدا } وذلك بالتبني وهذا الذي حصل، فكان موسى إلى الثلاثين من عمره يعرف بإبن فرعون وقوله { وهم لا يشعرون } اي بما سيكون من أمره وأن هلاك فرعون وجنوده سيكون على يده.
وقوله تعالى: { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } أي من أي شيء إلا من موسى وذلك بعد أن ألقته في اليم.
وقوله { إن كادت لتبدي به } أي لتصرخ بأنه ولدها وتظهر ذلك من شدة الحزن لكن الله تعالى ربط على قلبها فصبرت لتكون بذلك من المؤمنين بوعد الله تعالى لها بأن يرده إليها ويجعله من المرسلين.
وقوله تعالى: { وقالت لأخته قصيه } أي تتبعي أثره وذلك عندما ألقته في اليم وقوله { فبصرت به عن جنب } أي رأته من بعد فكانت تمشي على شاطئ النهر وتلاحقه النظر من بعد حتى رأته انتهى إلى فرع الماء الذي دخل إلى قصر فرعون فعلمت أنه قد دخل القصر. وقوله تعالى: { وهم لا يشعرون } أي لا يشعرون أنها أخته لما كانت تلاحقه النظر وتتعرف إليه من بعد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان تدبير الله تعالى لأولياء وصالحي عباده وتجلى ذلك في الوحي إلى أم موسى بارضاعه وإلقائه في البحر والتقاط آل فرعون له ليتربى في بيت الملك عزيزا مكرما.
2- بيان سوء الخطيئة وآثارها السيئة وعواقبها المدمرة وتجلى ذلك فيما حل بفرعون وهامان وجنودهما.
3- فضيلة الرجاء تجلت في قول آسية { قرت عين لي ولك } فقال فرعون: أمالي فلا . فكان موسى قرة عين لآسية ولم يكن لفرعون.
4- بيان عاطفة الأمومة حيث أصبح فؤاد أم موسى فارغا إلا من موسى.
5- بيان عناية الله بأوليائه حيث ربط على قلب أم موسى فصبرت ولم تبده لهم وتقول هو ولدي ليمضي وعد الله تعالى كما أخبرها. والحمد له رب العالمين.
[28.12-16]
شرح الكلمات:
وحرمنا عليه المراضع: أي منعناه من قبول ثدى أية مرضعة.
من قبل: أي من قبل رده إلى أمه.
فقالت هل أدلكم على: أي قالت أخت موسى.
أهل بيت يكفلونه لكم: يضمونه إليهم، يرضعونه ويربونه لكم.
وهم له ناصحون: أي لموسى ناصحون، فلما قالوا لها إذا كنت أنت تعرفينه، قالت لا، إنما أعني أنهم ناصحون للملك لا للولد.
فرددناه إلى أمه: أي رددنا موسى إلى أمه أي قبلوا اقتراح أخته.
ولتعلم أن وعد الله حق: إذ أوحى إليها أنه راده إليها وجاعله من المرسلين.
ولكن أكثرهم لا يعلمون: أي أكثر الناس لا يعلمون وعد الله لأم موسى ولا يعلمون أن الفتاة أخته وأن أمها أمه.
ولما بلغ أشده واستوى: أي ثلاثين سنة من عمره فانتهى شبابه وكمل عقله.
آتيناه حكما وعلما: أي وهبناه الحكمة من القول والعمل والعلم بالدين الإسلامي الذي كان عليه بنو إسرائيل وهذا قبل أن ينبأ ويرسل.
ودخل المدينة : مدينة فرعون وهي منف بعد أن غاب عنها مدة.
على حين غفلة من أهلها: لأن الوقت كان وقت القيلولة.
هذا من شيعته: أي على دينه الإسلامي.
وهذا من عدوه: على دين فرعون والأقباط.
فوكزه موسى فقضى عليه: أي ضربه بجمع كفه فقضى عليه أي قتله.
هذا من عمل الشيطان: أي هذا الفعل من عمل الشيطان لأنه المهيج غضبي.
أنه عدو مضل مبين: أي الشيطان عدو لابن آدم مضل له عن الهدى، مبين ظاهر الإضلال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون: إنه بعد أن التقط آل فرعون موسى من النيل وهو رضيع قدموا له المراضع فرفضهن مرضعة بعد أخرى، فاحتار آل فرعون لحبهم لموسى لأن الله تعالى ألقى عليه محبة منه فما رآه أحد إلا أحبه وهذا معنى قوله تعالى في الآية [12] { وحرمنا عليه المراضع من قبل } أي قبل رده إلى أمه. وقوله: { فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون } هذه أخته وقد أمرتها أمها أن تقص آثار موسى وتتبع أخباره فلما علمت أن أخاها لم يقبل المراضع وأن القصر في قلق من جراء عدم رضاع موسى تقدمت وقالت ما أخبر الله تعالى به عنها في قوله: { فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } ويرضعونه ويحفظونه حتى تنتهي مدة رضاعته { وهم له ناصحون } وهنا ارتابوا في أمرها واستنطقوها واتهموها بأنها تعرفه فقالت: لا أعرفه، إنما عنيت { وهم له ناصحون } أن أهل هذا البيت ناصحون للملك وهنا استجابوا لها فأتت به أمه فما إن رآها حتى رمى نفسه عليها وأخذ ثديها يمتصه فقالو لها: ما سر قبوله هذه المرأة فأجابت: بأنها طيبة الريح طيبة اللبن فأذنوا لها في إرضاعه في بيتها فعادت به وهو معنى قوله تعالى { فرددناه إلى أمه كي تقر عينها } أي تفرح وتسر ولا تحزن على فراقه، { ولتعلم أن وعد الله حق } إذ وعدها بأنه راده إليها.
وقوله تعالى: { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنها أمه ولا أن الله وعدها بأن يرده إليها. وقوله تعالى: { ولما بلغ } أي موسى { أشده } أي اكتمال شبابه وهو ثلاثين سنة. { آتيناه حكما وعلما } أي حكمة وهي الإصابة في الأمور { وعلما } فقها في الدين الإسلامي الذي كان عليه بنو إسرائيل. وقوله تعالى { وكذلك نجزي المحسنين } أي كما جزينا أم موسى وولدها موسى نجزي المحسنين وقوله تعالى: { ودخل المدينة } أي موسى دخل مدينة منف التي هي مدينة فرعون وكان غائبا فترة. { على حين غفلة من أهلها } لأن الوقت كان وقت القيلولة. { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته } على دين موسى وبني إسرائيل وهو الإسلام { وهذا من عدوه } لأنه على دين فرعون والأقباط وهو الكفر. { فاستغاثه الذي من شيعته } أي طلب غوثه على الذي من عدوه { فوكزه موسى } أي ضربه بجمع كفه { فقضى عليه } أي فقتله ودفنه في الرمال. وقوله تعالى: { قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين } أي هذا قول موسى عليه السلام اعترف بأن ضربه القبطي كان من تهيج الشيطان لغضبه فقال: { هذا من عمل الشيطان إنه عدو } للإنسان { مضل } له عن طريق الخير والهدى { مبين } أي ظاهر العداوة للإنسان والإضلال.
وقوله تعالى: { قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } أي دعا موسى ربه معترفا بخطئه أولا فقال: { رب } أي يا رب { إني ظلمت نفسي } أي بقتلي القبطي { فاغفر لي } هذا الخطأ، فاستجاب الله تعالى وغفر له، إنه تعالى هو الغفور لذنوب عباده التائبين له الرحيم بهم فلا يعذبهم بذنب تابوا منه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حسن تدبير الله تعالى في منع موسى من سائر المرضعات حتى يرده إلى أمه.
2- بيان حسن رد الفتاة على التهمة التي وجهت إليها وذلك من ولاية الله لها وتوفيقه.
3- تقرير أن وعد الله حق، وأنه تعالى لا يخلف الوعد ولا الميعاد.
4- بيان إنعام الله على موسى بالحكمة والعلم قبل النبوة والرسالة.
5- مشروعية إغاثة الملهوف ونصرة المظلوم.
6- وجوب التوبة بعد الوقوع في الزلل، وأول التوبة الاعتراف بالذنب.
[28.17-21]
شرح الكلمات:
بما أنعمت علي: بإنعامك علي بمغفرة ذنبي.
فلن أكون ظهيرا للمجرمين: أي معينا لأهل الإجرام.
خائفا يترقب: ماذا يحدث من خير أو غيره بعد القتل.
استنصره بالأمس: أي طلب نصرته فنصره.
يستصرخه: أي يستغيث به على قبطي آخر.
إنك لغوي مبين: أي لذو غواية وضلال ظاهر.
أن يبطش بالذي هو عدو لهما: أي أن يأخذ الذي هو عدو لموسى والقبطي معا.
إن تريد إلا أن تكون جبارا: أي ما تريد إلا أن تكون جبارا تضرب وتقتل ولا تبالي بالعواقب.
من المصلحين: أي الذين يصلحون ببين الناس إذا اختلفوا أو تخاصموا.
وجاء رجل من أقصى المدينة: أي مؤمن آل فرعون أتى من أبعد نواحي المدينة.
إن الملأ يأتمرون بك: أي يتشاورون ويطلب بعضهم أمر بعض ليقتلوك.
فاخرج إني لك من الناصحين: أي اخرج من هذه البلاد إلى أخرى.
فخرج منها خائفا يترقب: خائف من القتل يترقب ما يحدث له.
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآية قبل هذه أن موسى عليه السلام قد قتل قبطيا بطريق الخطأ وأنه اعترف لربه تعالى بخطإه واستغفره، وأن الله تعالى غفر له وأعلمه بذلك بما شاء من وسائط، ولما علم موسى بمغفرة الله تعالى له عاهده بأن لا يكون { ظهيرا للمجرمين } مستقبلا ومن ذلك أن يعتزل فرعون وملائه لأنهم ظالمون مجرمون فقال:
{ رب بمآ أنعمت علي } أي بمغفرتك لي خطإي وذلك بالنظر إلى إنعامك علي بالمغفرة أعاهدك أن لا أكون { ظهيرا للمجرمين } هذا ما دلت عليه الآية [17] أي الأولى في هذا السياق وهي قوله تعالى: { قال رب بمآ أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين } وقوله تعالى: { فأصبح في المدينة خآئفا يترقب } أي فأصبح موسى في مدينة (منف) عاصمة المملكة الفرعونية { خآئفا } مما قد يترتب على قتله القبطي { يترقب } الأحداث ماذا تسفر عنه؟ فإذا الذي يستنصره بالأمس وهو الإسرائيلي الذي طلب نصرته أمس { يستصرخه } أي يستغيثه بأعلى صوته فنظر إليه موسى وأقبل عليه ليخلصه قائلا: { إنك لغوي مبين } أي لذو غواية بينة والغواية الفساد في الخلق والدين لأنك أمس قاتلت واليوم تقاتل أيضا. { فلمآ أن أراد أن يبطش } أي موسى { بالذي هو عدو لهما } وهو القبطي قال الإسرائيلي { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض } أي تضرب وتقتل كما تشاء ولا تخاف عقوبة ذلك { وما تريد أن تكون من المصلحين } الذين يصلحون بين المتخاصمين قال الإسرائيلي هذا لأنه جبان وخاف من هجمة موسى ظانا أنه يريده هو لما قدم له من القول { إنك لغوي مبين } فلما سمع القبطي ما قال مقاتله الإسرائيلي نقلها إلى القصر وكان من عماله فاجتمع رجال القصر برئاسة فرعون يتداولون القضية وينظرون إلى ظروفها ونتائجها وما يترتب عليها وكان من جملة رجال المؤتمر مؤمن آل فرعون (حزقيل) وكان مؤمنا يكتم إيمانه فأتى موسى سرا ليخبره بما يتم حياله وينصح له بالخروج من البلاد وهو ما جاء في قوله تعالى في الآية [20] من هذا السياق { وجآء رجل من أقصا المدينة } من أبعدها فان قصر الملك كان في طرف المدينة وهي مدينة فرعون (منف) { يسعى } فمشي بسرعة وجد وانتهى إلى موسى فقال { يموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين } قال تعالى: { فخرج منها } أي من بلاد فرعون { خآئفا يترقب } خائفا من القتل يترقب الطلب وماذا سيحدث له من نجاة أو خلافه ودعا ربه عز وجل قائلا:
{ رب نجني من القوم الظالمين } أي من فرعون وملائه أولا ومن كل ظالم ثانيا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- شكر النعم، فموسى لما غفر تعالى له شكره بأن تعهد له أن لا يقف إلى جنب مجرم أبدا.
2- سوء صحبة الأحمق الغوي فإن الإسرائيلي لغوايته وحمقه هو الذي سبب متاعب موسى.
3- لزوم إبلاغ الدولة عن أهل الفساد والشر في البلاد لحمايتها.
4- وجوب النصح وبذل النصيحة فمؤمن آل فرعون يعلم سلامة موسى من العيب ومن الجريمة فتعين له أن ينصح موسى بمغادرة البلاد لينجو إن شاء الله وليس هذا من باب خيانة البلاد والدولة، لأن موسى من أهل الكمال وما حدث عنه كان من باب الخطأ فرفده ومد إليه اليد إنقاذا من موت متعين.
5- الخوف الطبيعي لا يلام عليه فموسى عليه السلام قد خاف خوفا أدى به إلى الالتجاء إلى ربه بالدعاء فدعاه واستجاب له ولله الحمد والمنة.
[28.22-24]
شرح الكلمات:
ولما توجه تلقاء مدين: أقبل بوجهه جهة مدين التي هي مدينة شعيب.
عسى ربي أن يهديني سواء السبيل: أرجو ربي أن يهدني وسط الطريق حتى لا أضل فأهلك فاستجاب الله له وهداه إلى سواء السبيل ووصل مدين.
ولما ورد ماء مدين: انتهى إلى بئر يسقى منها أهل مدين.
يسقون: أي مواشيهم من بقر وإبل وغنم.
تذودان: أي أغنامهما منعا لهما من الماء حتى تخلو الساحة لهما خوف الاختلاط بالرجال الأجانب لغير ضرورة.
قال ما خطبكما: قال موسى للمرأتين اللتين تذودان ما خطبكما أي ما شأنكما.
حتى يصدر الرعاء: لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء ويبقى لنا الماء وحدنا.
ثم تولى إلى الظل: أي بعد أن سقى لهما رجع إلى ظل الشجرة التي كان جالسا تحتها.
لما أنزلت إلي من خير فقير: أي من طعام محتاج إليه لشدة جوعه عليه السلام.
تمشي على استحياء: أي واضعة كم درعها على وجهها حياء منه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في شأن موسى عليه السلام بعد حادثة القتل والنصح له بمغادرة بلاد مصر إلى بلاد مدين مدينة شعيب عليه السلام قال تعالى مخبرا عنه: { ولما توجه تلقآء مدين } أي ولما توجه موسى عملا بنصيحة مؤمن آل فرعون تلقاء مدين أي نحوها وجهتها ولم يكن له علم بالطريق الصحراوي والمسافة مسيرة ثمانية أيام قال: { عسى ربي أن يهديني سوآء السبيل } أي ترجى ربه سبحانه وتعالى أن يهديه الطريق السوي حتى لا يضل فيهلك، واستجاب الله له فهداه الطريق حتى وصل إلى بلاد مدين وقوله تعالى في الآية الثانية من هذا السياق [23] { ولما ورد مآء مدين } أي وحين ورد ماء مدين وهو بئر يسقي منها الناس مواشيهم { وجد عليه } أي على الماء { أمة من الناس } أي جماعة كبيرة يسقون أنعامهم ومواشيهم { ووجد من دونهم امرأتين } وهما بنتا شعيب عليه السلام { تذودان } أي تمنعان ماشيتهما من الاختلاط بمواشي الناس. فسألهما لا تطفلا وإنما حالهما دعاه إلى سؤالهما لأنه رأى الناس يسقون مواشيهما ويصدرون فوجا بعد فوج والمرأتان قائمتان على ماشيتهما تذودانها عن الحوض حتى لا تختلط ولا تشرب فسألهما لذلك قائلا: { ما خطبكما } أي ما شأنكما فأجابتاه قائلتين: { لا نسقي حتى يصدر الرعآء } لضعفنا وعدم رغبتنا في الاختلاط بالرجال { وأبونا شيخ كبير } لا يقوي على سقي هذه الماشية بنفسه فنحن نسقيها ولكن بعد أن يصدر الرعاء ويبقى في الحوض ماء نسقي به، فلما علم عذرهما سقى لهما ماشيتهما { ثم تولى إلى الظل } الذي كان جالسا تحته وهو ظل شجرة وهو شجر صحراوي معروف يقال له السمر، ولما تولى إلى الظل سأل ربه الطعام لشدة جوعه إذ خرج من مصر بلا زاد ولا دليل ولولا حسن ظنه في ربه لما خرج هذا الخروج فقال: { رب إني لمآ أنزلت إلي من خير } أي طعام { فقير } أي محتاج إليه أشد الاحتياج.
وفي أقرب ساعة وصلت البنتان إلى والدهما فسألهما عن سبب عودتهما بسرعة فأخبرتاه، فقال لإحداهما إذهبي إليه وقوله له { إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } وهو معنى قوله تعالى { فجآءته إحداهما } استجابة الله له { تمشي على استحيآء } واضعة كم درعها على وجهها حياء. وقد قال فيها عمر رضي الله عنه إنها ليست سلفعا من النساء خراجة ولاجة، وبلغت الرسالة المختصرة وكأنها برقية ونصها ما أخبر تعالى به في قوله: { إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } !! وقد ورد أنها لما كانت تمشي أمامه تدله على الطريق هبت الريح فكشفت ساقيها قال لها موسى: إمشي ورائي ودليني على الطريق بحصى ترميها نحو الطريق وهذا الذي دلها على أمانته لما وصفته لأبيها بأنه { القوي الأمين } كما سيأتي فيما بعد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب حسن الظن بالله تعالى وقوة الرجاء فيه عز وجل والتوكل عليه.
2- بيان فضل الحياء وشرف المؤمنات اللائي يتعففن عن الاختلاط بالرجال.
3- بيان مروءة موسى في سقيه للمرأتين.
4- فضل الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه.
5- ستر الوجه عن الأجانب سنة المؤمنات من عهد قديم وليس كما يقول المبطلون هو عادة جاهلية، فبنتا شعيب نشأتا في دار النبوة والطهر والعفاف وغطت إحداهما وجهها عن موسى حياء وتقوى.
[28.25-28]
شرح الكلمات:
وقص عليه القصص: أخبره بشأنه كله من قتله القبطي وطلب السلطة له ونصح المؤمن له بمغادرة البلاد ووصوله إلى ماء مدين.
لا تخف نجوت من القوم الظالمين: أي من فرعون وملئه إذ لا سلطان لهم على بلاد مدين.
يا أبت استأجره: أي اتخذه أجيرا يرعى لنا الغنم بدلنا.
القوي الأمين: ذكرت له كفاءته وهي القوة البدنية والأمانة.
على أن تأجرني: أي تكون أجيرا لي في رعي غنمي.
ثماني حجج: أي ثماني سنوات إذ الحجة عام والجمع حجج.
فإن أتممت عشرا فمن عندك: أي جعلت الثمانية عشرا فرغبت عشرا فهذا من كرمك.
قال ستجدني إن شاء الله من الصالحين: أي الذين يوفون ولا ينقضون ولا ينقصون.
ذلك بيني وبينك: أنا أفي بشرطي وأنت تفي بشرطك.
أيما الأجلين قضيت: أي الأجلين الثمانية أو العشرة أتممت.
فلا عدوان على: وذلك بطلب الزيادة فوق الثمانية أو فوق العشرة.
والله على ما نقول وكيل: أي وكيل وحفيظ أي أشهد الله على العقد بشطريه أي النكاح ورعي الغنم وبذلك تم العقد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ما تم بين موسى وابنتي شعيب من السقي لهما ومجيء إحداهما تبلغه رسالة والدها ومشيه معها وقوله تعالى { فلما جآءه } أي جاء موسى شعيبا { وقص عليه القصص } أي أخبره بشأنه كله من قتله القبطي خطأ وطلب السلطات له ونصح مؤمن آل فرعون له بالخروج من البلاد، ووصوله إلى ماء مدين قال له شعيب عندئذ { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } يعني فرعون وحكومته وهذا ما يعرف الآن باللجوء السياسي فأمنه على نفسه لأن فرعون لا سلطان له على هذه البلاد.
وقال له شعيب: اجلس تعش معنا فقال موسى أخاف أن يكون عوضا عما سقيت لابنتيك ما شيتهما وإني لمن أهل بيت لا يطلبون على عمل الخير عوضا فقال له شعيب لا ليس هذا بأجر على سقيك وإنما عادتنا أن نقري الضيف ونطعم الطعام فأكل ولم ير بذلك بأسا. وقوله تعالى { قالت إحداهما يأبت استئجره إن خير من استئجرت القوي الأمين } يروى أنها لما قالت { إن خير من استئجرت القوي الأمين } أثارت حفيظته بهذه الكلمة فسألها: كيف علمت ذلك فذكرت له عن القوة في سقيه لهما وعن الأمانة في غض بصره عن النظر إليها، فصدقها شعيب وقال لموسى: { إني أريد أن أنكحك } أي أزوجك { إحدى ابنتي هاتين } { على أن تأجرني ثماني حجج } أي سنين جمع حجة وهي السنه وقوله { فإن أتممت عشرا فمن عندك } أي احسانا منك وكرما، { ومآ أريد أن أشق عليك } بطلب العشرة { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } أي الذين يوفون بعهودهم فقال موسى ردا على كلامه { ذلك بيني وبينك } أنا علي أن أفي بما اشترطت علي وأنت عليك أن تفي بما اشترطت لي على نفسك { أيما الأجلين } الثمانية أو العشرة { قضيت } أي وفيت وأديت { فلا عدوان علي } أي بطلب الزيادة على الثمانية ولا على العشرة.
فقال شعيب: نعم { والله على ما نقول وكيل } فأشهد الله تعالى على صحة العقد وبذلك أصبح موسى زوجا لابنة شعيب التي عينها له والغالب أنها الكبرى التي شهدت له بالأمانة والقوة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تجلى كرم شعيب ومروءته وشهامته في تطمين موسى وإكرامه وإيوائه.
2- بيان أن الكفاءة شرط في العمل ولا أفضل من القوة وهي القدرة البدنية والعلمية والأمانة.
3- مشروعية عرض الرجل ابنته على من يرى صدقه وأمانته ليزوجه بها.
4- مشروعية إشهاد الله تعالى على العقود بمثل { والله على ما نقول وكيل }.
5- فضيلة موسى عليه السلام بإيجار نفسه على شبع بطنه وإحصان فرجه.
[28.29-32]
شرح الكلمات:
قضى موسى الأجل: أتم المدة المتفق عليها وهي ثمان أو عشر سنوات.
آنس: أبصر.
أوجذوة من النار: عود غليظ في رأسه نار.
لعلكم تصطلون: أي تستدفئون.
نودي: أي ناداه الله تعالى بقوله يا موسى إني أنا الله رب العالمين.
في البقعة المباركة: قطعة الأرض التي عليها الشجرة الكائنة بشاطئ الوادي.
تهتز كأنها جان : تضطرب وتتحرك بسرعة كأنها حية من حيات البيوت.
ولى مدبرا ولم يعقب: رجع هاربا ولم يعقب لخوفه وفزعه منها.
اسلك يدك في جيبك: أدخلها في جيب قميصك.
من غير سوء: أي عيب كبرص ونحوه.
واضمم إليك جناحك من الرهب: اضمم إليك يدك بأن تضعها على صدرك ليذهب روعك.
فذانك برهانان: أي آيتان من ربك على صدق رسالتك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصص موسى وهو في طريقه بتدبير الله تعالى إلى مصر، إنه لما قضى الأجل الذي تعاقد مع صهره شعيب وقد أتم خير الأجلين وأوفاهما وهو العشر حجج قفل ماشيا بأهله زوجته وولده في طريقه إلى مصر لزيارة والدته وإخوته حدث أن ضل الطريق ليلا، وكان الفصل شتاء والبرد شديد فإذا به يأنس { من جانب الطور } أي جبل الطور { نارا } فقال لأهله امكثوا هنا { إني آنست } أي أبصرت { نارا } سأذهب إليها { آتيكم منها بخبر } إذ قد أجد عندها من يدلنا على الطريق أو آتيكم بجذوة من النار أي خشبة في رأسها نار مشتعلة { لعلكم تصطلون } أي من أجل اصطلائكم بها أي استدفائكم بها، هذا ما دلت عليه الآية [29] وقوله تعالى في الآية الثانية { فلمآ أتاها } أي أتى النار { نودي } أي ناداه مناد { من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يموسى } أي ناداه ربه { يموسى إني أنا الله رب العالمين } { وأن ألق عصاك } فألقاها فاهتزت واضطربت وتحركت بسرعة { كأنها جآن } أي حية عظيمة من الحيات المعروفة بالجنان { ولى مدبرا ولم يعقب } أي فزع منها فرجع من الفزع إلى الوراء { ولم يعقب } أي ولم يرجع إليها من الرعب، فقال له ربه تعالى { أقبل } أي على العصا { ولا تخف إنك من الآمنين } أي الذين آمنهم ربهم فلا يخافون شيئا.
وقال له بعد أن رجع { اسلك يدك في جيبك تخرج بيضآء من غير سوء } أي أدخل يدك في جيب قميصك وهو الشق الذي يدخل معه الرأس في الثوب ليلبس وقوله { تخرج } أي اليد { بيضآء } كالنور { من غير سوء } أي برص أو نحوه { واضمم إليك جناحك } أي يدك مع العضد إلى صدرك { من الرهب } أي الخوف فإن يذهب عنك بحيث تعود يدك عادية لا نور فيها كما كانت من قبل إدخالها في جيبك أولا.
ثم قال تعالى له { فذانك } أي العصا واليد البيضاء. { برهانان من ربك } أي آيتان تدلان على رسالتك المرسل بها إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين خارجين عن طاعة الله حيث كفروا به وعبدوا غيره وظلموا عباده، لتدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته وإرسال بني إسرائيل معك لتذهب بهم إلى أرض المعاد أي فلسطين وما حولها من أرض الشام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الأنبياء أوفياء فموسى قضى أوفى الأجلين وأتمهما وهو العشر.
2- مشروعية السفر بالأهل وقد يحصل للمرء أنه يضل الطريق أو يحتاج إلى شيء ويصبر.
3- فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى موسى عليه السلام وهي من جبل الطور.
4- مشروعية حمل العصا لا سيما للمسافر وراعي ماشية أو سائقها.
5- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله.
6- لا يلام على الخوف الطبيعي.
7- آية العصا واليد.
8- من خاف، وضع يده على صدره زال خوفه إن شاء الله تعالى.
9- التنديد بالفسق وأهله.
[28.33-37]
شرح الكلمات:
إني قتلت منهم نفسا: أي نفس القبطي الذي قتله خطأ قبل هجرته من مصر.
أفصح مني لسانا: أي أبين مني قولا.
ردءا: أي معينا لي.
سنشد عضدك بأخيك: أي ندعمك به ونقويك بأخيك هارون.
ونجعل لكما سلطانا: أي حجة قوية يكون لكما بها الغلب.
فلا يصلون إليكم: أي بسوء.
بآياتنا: أي اذهبا بآياتنا.
فلما جاءهم موسى بآياتنا: أي العصا واليد وغيرهما من الآيات التسع.
بينات: أي واضحات.
سحر مفترى: أي مختلق مكذوب.
عاقبة الدار: أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة.
إنه لا يفلح الظالمون: أي المشركون الكافرون.
معنى الآيات:
لما كلف الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون وحمله رسالته إليه قال موسى كالمشترط لنفسه { رب إني قتلت منهم نفسا } يريد نفس القبطي الذي قتله خطأ أيام كان شابا بمصر { فأخاف أن يقتلون } أي يقتلوني به إن لم أبين لهم وأفهمهم حجتي { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا } أي أبين مني قولا وأكثر إفهاما لفرعون وملئه { فأرسله معي ردءا } أي عونا { يصدقني } أي يلخص قولي ويحرره لهم فيكون ذلك تصديقا منه لي، لا مجرد أني إذا قلت قال صدق موسى. وقوله { إني أخاف أن يكذبون } فيما جئتهم به. فأجابه الرب تعالى قائلا { سنشد عضدك بأخيك } أي نقويك به ونعينك { ونجعل لكما سلطانا } أي برهانا وحجة قوية يكون لكما الغلب بذلك. وقوله { فلا يصلون إليكما } أي بسوء أبدا وقوله { بآياتنآ } أي اذهبا بآياتنا أو يكون لفظ بآياتنا متصلا بسلطانا أي سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا بآياتنا { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } وعلى هذا فلا نحتاج إلى تقدير فاذهبا وقوله تعالى { فلما جآءهم موسى بآياتنا } العصا واليد وغيرهما { بينات } أي واضحات { قالوا ما هذآ } أي الذي جاء به موسى من الآيات { إلا سحر مفترى } أي مكذوب مختلق { وما سمعنا بهذا } أي الذي جئت به يا موسى في { آبآئنا الأولين } أي في أيامهم وعلى عهدهم. وهنا رد موسى على فرعون بأحسن رد وهو ما أخبر تعالى به عنه بقوله: { وقال موسى ربي أعلم بمن جآء بالهدى من عنده } أي من عند الرب تعالى { ومن تكون له عاقبة الدار } أي العاقبة المحمودة يوم القيامة، ولم يقل له اسكت يا ضال يا كافر إنك من أهل النار بل تلطف معه غاية اللطف امتثالا لأمر الله تعالى في قوله
فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى
[طه: 44] وقوله { إنه لا يفلح الظالمون } أي الكافرون والمشركون بربهم هذا من جملة قول موسى لفرعون الذي تلطف فيه وألانه غاية اللين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن القصاص كان معروفا معمولا به عند أقدم الأمم، وجاءت الحضارة الغربية فأنكرته فتجرأ الناس على سفك الدماء وإزهاق الأرواح بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية ولذلك صح أن تسمى الخسارة البشرية بدل الحضارة الغربية.
2- مشروعية طلب العون عند التكليف بما يشق ويصعب من المسؤولين المكلفين.
3- مشروعية التلطف في خطاب الجبابرة وإلانة القول لهم، بل هو مشروع مع كل من يدعى إلى الحق من أجل أن يتفهم القول ولا يفلق عليه بالإغلاظ له.
[28.38-43]
شرح الكلمات:
ما علمت لكم من إله غيري: أي ربا يطاع ويذل له ويعظم غيري لعنة الله عليه ما أكذبه.
يا هامان: أحد وزراء فرعون، لعله وزير الصناعة أو العمل والعمال.
فأوقد لي يا هامان على الطين: أي اطبخ لي الآجر وهو اللبن المشوي.
فاجعل لي صرحا: أي بناء عاليا، قصرا أو غيره.
لعلي أطلع إلى إله موسى: أي أقف عليه وأنظر إليه.
وإني لأظنه من الكاذبين: أي موسى في ادعائه أن له إلها غيري.
فنبذناهم في اليم: أي طرحناهم في البحر غرقى هالكين.
وجعلناهم أئمة: أي رؤساء يقتدى بهم في الباطل.
يدعون إلى النار: أي إلى الكفر والشرك والمعاصي الموجبة للنار.
في هذه الدنيا لعنة: أي خزيا وبعدا عن الخير.
هم من المقبوحين: أي المبعدين من كل خير المشوهي الخلقة.
القرون الأولى: قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم.
بصائر للناس: أي فيه من النور ما يهدي كما تهدي الأبصار.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وقال فرعون } إن فرعون لما سمع كلام موسى عليه السلام المصدق بكلام هارون عليه السلام وكان الكلام في غاية اللين، مؤثرا خاف فرعون من الهزيمة، ناور وراوغ فقال في الحاضرين { ما علمت لكم من إله غيري } أي كما ادعى موسى ولكن سأبحث وأتعرف على الحقيقة إن كان هناك إله آخر غيري، فنادى وزيره هامان وأمره أن يعد اللبن المشوي لأنه قوي ويقوم ببناء صرح عال يصل إلى عنان السماء ليبحث بنفسه عن إله موسى إن كان حسب دعواه وإني لأظن موسى كاذبا في دعوى وجود إله له ولكم غيري هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى [38] { وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين }. يعني في إدعائه أن هناك إلها آخر غيري.
قوله تعالى: { واستكبر هو وجنوده في الأرض } أي أرض مصر { بغير الحق } الذي يحق لهم الاستكبار { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } أي كذبوا بالبعث الآخر. قال تعالى: { فأخذناه وجنوده } أي بسبب استكبارهم وكفرهم وتكذيبهم بآيات الله { فنبذناهم في اليم } أي في البحر وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } إنها كانت وبالا عليهم وخسارا لهم. وقوله تعالى { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } أي جعلنا فرعون وملأه أئمة في الكفر تقتدي بهم العتاة والطغاة في كل زمان ومكان { يدعون إلى النار } بالكفر والشرك والمعاصي وهي موجبات النار. { ويوم القيامة لا ينصرون } بل يضاعف لهم العذاب ويخذلون ويهانون لأن من دعا إلى سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء.
وقوله تعالى: { وأتبعناهم } أي آل فرعون { في هذه الدنيا لعنة } إنتهت بهم إلى الغرق الكامل والخسران التام، { ويوم القيامة هم من المقبوحين } أي المبعدين من رحمة الله الثاوين في جهنم ولبئس مثوى المتكبرين وقوله تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة وذلك بعد إهلاك الظالمين وقوله { من بعد مآ أهلكنا القرون الأولى } أي قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم إبراهيم وقوله { بصآئر } أي الكتاب بما يحمل من الهدى والنور { بصآئر } أي ضياء للناس من بني إسرائيل يبصرون على ضوءه كل ما يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم { وهدى ورحمة } أي وبيانا لهم ورحمة لمن يعمل به منهم. وقوله { لعلهم يتذكرون } أي وجود الكتاب بصائر وهدى ورحمة بين أيديهم حال تدعوهم إلى أن يتذكروا دائما نعم الله عليهم فيشكرونه بالإيمان به وبرسله وبطاعته وطاعة رسله عليهم السلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن فرعون كان على علم بأنه عبد مربوب لله وأن الله هو رب العالمين.
2- تقرير صفة العلو والاستكبار لفرعون وأنه كان من العالمين.
3- بيان كيف تكون عاقبة الظلمة دمارا وفسادا.
4- دعاة الدعارة والخنا والضلالة والشرك أئمة أهل النار يدعون إليها وهم لا يشعرون.
5- بيان إفضال الله تعالى على بني إسرائيل بإنزال التوراة فيهم كتابا كله بصائر وهدى ورحمة.
[28.44-47]
شرح الكلمات:
وما كنت بجانب الغربي: أي لم تكن يا رسولنا حاضرا بالجانب الغربي من موسى.
إذ قضينا إلى موسى الأمر: أي بالرسالة إلى فرعون وقومه.
وما كنت من الشاهدين: حتى تعلمه وتخبر به.
ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر: أي غير أننا أنشأنا بعد موسى أمما طالت أعمارهم فنسوا العهود واندرست العلوم وانقطع الوحي فجئنا بك رسولا وأوحينا إليك خبر موسى وغيره.
وما كنت ثاويا في أهل مدين: أي ولم تكن يا رسولنا مقيما في أهل مدين فتعرف قصتهم.
وما كنت بجانب الطور إذ نادينا: أي لم تكن بجانب الطور أي جبل الطور إذ نادينا موسى وأوحينا إليه ما أوحينا حتى تخبر بذلك.
ما أتاهم من نذير من قبلك: أي أهل مكة والعرب كافة.
ولولا أن تصيبهم مصيبة الخ: أي فيقولوا لولا أي هلا أرسلت إلينا رسولا لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلناك إليهم رسولا.
معنى الآيات:
بعد انتهاء قصص موسى مع فرعون وإنزال التوراة
بصآئر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون
[القصص: 43] وكان القصص كله شاهدا على نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خاطب الله تعالى رسوله فقال: { وما كنت } أي حاضرا { بجانب الغربي } أي بالجبل الغربي من موسى { إذ قضينآ إلى موسى الأمر } بإرساله رسولا إلى فرعون وملئه { وما كنت من الشاهدين } أي الحاضرين إذا فكيف علمت هذا وتتحدث به لولا أنك رسول حق؟!
وقوله: { ولكنآ أنشأنا قرونا } أي أمما بعد موسى { فتطاول عليهم العمر } أي طالت بهم الحياة وامتدت فنسوا العهود واندرست العلوم الشرعية وانقطع الوحي فجئنا بك رسولا وأوحينا إليك خبر موسى وغيره وقوله: { وما كنت ثاويا } أي مقيما { في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا } فكيف عرفت حديثهم وعرفت إقامة موسى بينهم عشر سنين لولا إنك رسول حق يوحى إليك نبأ الأولين وهو معنى قوله تعالى { ولكنا كنا مرسلين } فأرسلناك رسولا وأوحينا إليك أخبار الغابرين.
وقوله: { وما كنت بجانب الطور } أي جبل الطور { إذ نادينا } موسى وأمرناه بما أمرناه وأخبرناه بما أخبرنا به، فكيف عرفت ذلك وأخبرت به لولا أنك رسول حق يوحى إليك. قوله تعالى { ولكن رحمة من ربك } أي أرسلناك رحمة من ربك للعالمين { لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك } وهم أهل مكة والعرب أجمعون { لعلهم يتذكرون } أي كى يتعظوا فيؤمنوا ويهتدوا فينجوا ويسعدوا.
وقوله تعالى: { ولولا أن تصيبهم مصيبة } أي عقوبة { بما قدمت أيديهم } أي من الشرك والمعاصي { فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } أي هلا أرسلت إلينا رسولا { فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين } أي لولا قولهم هذا لعاجلناهم بالعذاب ولما أرسلناك إليهم رسولا إذا فما لهم لا يؤمنون ويشكرون؟؟!
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بأقوى الأدلة العقلية.
2- بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم جاءت في أوانها واشتداد الحاجة إليها.
3- البعثة المحمدية كانت عبارة عن رحمة إلهية رحم الله بها العالمين.
4- جواب { لولا } في قوله { ولولا أن تصيبهم }. محذوف وقد ذكرناه وهو لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلناك إليهم رسولا.
[28.48-51]
شرح الكلمات:
فلما جاءهم الحق من عندنا: أي محمد صلى الله عليه وسلم رسولا مبينا.
قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى: أي هلا أعطي مثل ما أعطي موسى من الآيات المعجزات من العصا واليد أو كتابا جملة واحدة كالتوراة.
أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل: أي كيف يطالبونك بأن تؤتي مثل ما أوتي موسى وقد كفروا بما أوتي موسى من قبل لما أخبرهم اليهود أنهم يجدون نعت محمد في التوراة كفروا بهذا الخبر ولم يقبلوه.
وقالوا سحران تظاهرا: أي التوراة والقرآن كلاهما سحر ظاهر بعضهما بعضا أي قواه.
فإن لم يستجيبوا لك: أي بالإتيان بالكتاب الذي هو أهدى من التوراة والقرآن.
فاعلم أنما يتبعون أهواءهم: في كفرهم ليس غير، فلا عقل ولا كتاب منير.
ومن أضل ممن اتبع هواه: أي لا أضل منه قط.
ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون: أي بأخبار الأولين وما أحللنا بهم من نقمتنا لما كذبوا رسلنا وأنكروا توحيدنا { لعلهم يتذكرون } أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون.
معنى الآيات:
لما قرر تعالى نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأدلته التي لا أقوى منها ولا أوضح وبين حاجة العالم إليهما لا سيما العرب وذكر أنه لولا كراهة قولهم:
لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين
[القصص: 47] لما أرسل إليهم رسوله. ذكر هنا ما واجه به المشركون تلك الرحمة المهداة فقال عنهم { فلما جآءهم الحق من عندنا } أي محمد النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: { لولا أوتي مثل مآ أوتي موسى } أي من الآيات كالعصا واليد البيضاء حتى نؤمن به ونصدق رسالته قال تعالى: { أولم يكفروا بمآ أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا }. وقالوا: { إنا بكل كافرون } وذلك أن قريشا لما كثر المؤمنون وهالهم الموقف بعثوا إلى يهود المدينة يسألونهم بوصفهم أهل الكتاب الأول عن مدى صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يقوله فأجابهم اليهود بأنهم يجدون نعوت النبي الأمي في التوراة وأنه رسول حق وليس بكذاب ولا دجال فما كان من المشركين من قريش إلا أن أعلنوا كفرهم بالتوراة وقالوا: التوراة والقرآن { سحران } تعاونا فلا نؤمن بهما ولا نصدق من جاء بهما وقرئ { ساحران } أي موسى ومحمد عليهما السلام فلا نؤمن بهما.
هذا معنى قوله تعالى { أولم يكفروا بمآ أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون } أي بكل منهما كافرون.
فكيف لا يخجلون اليوم ويطالبون محمدا أن يعطى مثل الذي أعطي موسى من الآيات يا للعجب أي يذهب بعقول المشركين؟!!
وقوله تعلى: { قل فأتوا بكتاب من عند الله } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الذين كفروا بالتوراة والقرآن { فأتوا بكتاب من عند الله } أنزله بعلمه يكون أكثر هداية من التوراة والقرآن.
. أتبعه! { إن كنتم صادقين } في دعواكم بأن الفرقان والتوراة سحران تظاهرا.
وقوله تعالى: { فإن لم يستجيبوا لك } بالإتيان بكتاب من عند الله تعالى هو أهدى من الفرقان والتوراة ومن أين لهم بذلك..إنه المستحيل! إذا فاعلم أنهم إنما يتبعون أهواءهم فيما يقولون ويدعون فلا عقل ولا نقل عندهم { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله }؟! اللهم إنه لا أضل منه. والنتيجة أنه لا أضل من هؤلاء المشركين من قريش وقوله تعالى { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } هذا بيان لسنة الله تعالى في الظالمين الذين أكثروا من الظلم وتوغلوا فيه عقيدة بالشرك وعملا بالمعاصي فإنه يحرمهم الهداية فلا يهتدون أبدا.
وقوله تعالى: { ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون } أي لقد وصلنا أي لهؤلاء المشركين من قومك يا رسولنا أي وصلنا لهم القول بأخبار الماضين، وما أحللنا بهم من بأسنا ونقمنا وعظيم عقوباتنا لما كفروا كما كفر هؤلاء وكذبوا بما كذب به هؤلاء وصلنا لهم القول مبينا واضحا موصولا أوله بآخره رجاء أن يتذكروا فيذكروا فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويرحموا بدخول الجنة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان تناقض المشركين وكل من يتبع الهوى ويترك الهدى الإلهي.
2- بيان تحدي المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله وعجزهم عن ذلك فبان بذلك أنهم يتبعون أهواءهم وأنه لا أضل منهم اليوم.
3- بيان سنة الله في حرمان المتوغلين في الظلم من الهداية الإلهية.
4- بيان أن الله عز وجل وصل القول لأهل مكة مفصلا مبينا لهدايتهم فله الحمد وله المنة وعلى الكافرين اللعنة في جهنم.
[28.52-55]
شرح الكلمات:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله: أي التوراة والإنجيل من قبل القرآن الكريم.
وإذا يتلى عليهم: أي القرآن.
إنا كنا من قبله مسلمين: أي منقادين لله مطيعين لأمره ونهيه.
أجرهم مرتين: أي يضاعف لهم الثواب لأنهم آمنوا بموسى وعيسى وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويدرءون بالحسنة السيئة: أي يدفعون بالحسنة من القول أو الفعل السيئة منهما.
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه: أي الكلام اللاغي الذي لا يقبل ولا يقر عليه لأنه لا يحقق درهما للمعاش ولا حسنة للمعاد.
سلام عليكم: هذا سلام المتاركة أي قالوا قولا يسلمون به.
لا نبتغي الجاهلين: أي لا نطلب صحبة أهل الجهل لما فيها من الأذى.
معنى الآيات:
إن قوله تعالى:
ولقد وصلنا لهم القول
[القصص: 51] يشمل أيضا اليهود والنصارى من أهل الكتاب إذ هم كالعرب فيما بين لهم من أخبار الماضين وفصل من أنباء إهلاك الأمم السابقة وما أنزل من بأساء وعذاب بالمكذبين، إذ لجميع مطالبون بالإيمان والعمل الصالح والتخلي عن الشرك والكفر والمعاصي للنجاة والسعادة فذكر تعالى هنا أن فريقا من أهل الكتاب يؤمنون بالنبي محمد لأنه الحق من ربهم. فقال تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } { وإذا يتلى عليهم } أي القرآن { قالوا آمنا به إنه الحق من ربنآ إنا كنا من قبله } أي من قبل نزول القرآن { مسلمين } أي موحدين منقادين نعبد الله بما شرع على لسان موسى وعيسى عليهما السلام هذه الآية تعني مجموعة من آمن من أهل الكتاب على عهد رسول الله ونزول القرآن منهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهما. وقوله تعالى: { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } أي مضاعفا لأنهم آمنوا برسولهم وعملوا بما جاء به من الحق وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى وقوله { ويدرؤن } أي يدفعون { بالحسنة } وهي الصفح والعفو { السيئة } وهي الأذي من سب وشتم. وقوله { ومما رزقناهم ينفقون } أي يتصدقون بفضول أموالهم حيث تنبغي الصدقة.
وقوله { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } أي وإذا سمع أولئك المؤمنون من أهل الكتابين اللغو من سفهاء الناس أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ولا إلى قائله وأجابوا قائلين { لنآ أعمالنا } أي نتائجها حيث نجزى بها { ولكم أعمالكم } حيث تجزون بها { سلام عليكم } أي اتركونا، إنا لا نبتغي محبة الجاهلين، لما في ذلك من الأذى والضرر الناتج عن سلوك أهل الجهل بالله تعالى ومحابه ومكارهه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل أهل الكتاب إذا آمنوا بالنبي الأمي وكتابه وأسلموا لله رب العالمين.
2- فضيلة من يدرء بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله.
3- فضيلة من يعرض عن اللغو وأهل الجهالات، ويقول ما يسلم به من القول، وهذه إحدى صفات عباد الرحمن
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
[الفرقان: 63] أي قولا يسلمون به. وهذا السلام ليس سلام تحية وإنما هو سلام متاركة.
[28.56-59]
شرح الكلمات:
إنك لا تهدي من أحببت: أي هدايته كأبي طالب بأن يسلم ويحسن إسلامه.
وقالوا: أي مشركو قريش.
إن نتبع الهدى معك: أي إن نتبعك على ما جئت به وندعو إليه وهو الإسلام.
نتخطف من أرضنا: أي تتجرأ علينا قبائل العرب ويأخذوننا.
يجبى إليها ثمرات كل شيء: أي يحمل ويساق إليه ثمرات كل شيء من كل ناحية.
رزقا من لدنا: أي رزقا لكم من عندنا يا أهل الحرم بمكة.
بطرت معيشتها: أي كفرت نعمة الله عليها فأسرفت في الذنوب وطغت في المعاصي.
يبعث في أمها رسولا: أي في أعظم مدنها. وهي العاصمة.
إلا وأهلها ظالمون: بالتكذيب للرسول والإصرار على الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { إنك لا تهدي...بالمهتدين } هذه الآية نزلت في شأن أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في إسلامه لما له من سالفة في الوقوف إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم يحميه ويدافع عنه فلما حضرته الوفاة زاره النبي صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الشهادتين فكان يقول له:
" يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة "
وكان حوله عواده من كفار قريش، ومشائخها فكانوا ينهونه عن ذلك حتى قالوا له: أترغب عن دين أبائك؟ أترغب عن ملة عبد المطلب أبيك حتى قال هو على ملة عبد المطلب ومات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك "
فنهاه الله فلم يستغفر له بعد ونزلت هذه الآية كالعزاء له صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت } هدايته يا نبينا { ولكن الله يهدي من يشآء } هدايته لعلمه أنه يطلب الهداية ولا يرغب عنها كما رغب عنها أبو طالب وأبو لهب وغيرهما، { وهو أعلم بالمهتدين } أي بالذين سبق في علمه تعالى أنهم يهتدون.
وقوله تعالى: { إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنآ } هذا اعتذار اعتذر به بعض رجالات قريش فقالوا نحن نعرف أن ما جئت به حق ولكننا نخشى إن آمنا بك واتبعناك يتألب علينا العرب ويرموننا عن قوس واحدة ونصبح نتخطف من قبل المغيرين كما هو حاصل لغيرنا، وبذلك نحرم هذا الأمن والرخاء وتسوء أحوالنا، لهذا نعتذر عن متابعتك فيما جئت به وأنت تدعو إليه من الكفر بآلهتنا وهدمها والتخلي عنها. فقال تعالى في الرد على هذا الاعتذار الساقط البارد { أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا } أي لم يوطئ لهم أرض بلد حرمناه فلا يسفك فيه دم، ولا يصاد فيه صيد، ولا يؤخذ فيه أحد بجزيرة، أليس هذا كافيا في أن يعلموا أن الذي جعل لهم حرما آمنا قادر على أن يؤمنهم إذا آمنوا وأسلموا، ومن باب أولى.
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } فهذه علة إصرارهم على الشرك والكفر. إنها الجهل بالله تعالى وعظمته وعلمه وحكمته. ومعنى يجبى أو تجبى إليه ثمرات كل شيء أي يحمل إليه ويساق من أنحاء البلاد ثمرات كل شيء من أنواع الأرزاق وكان ذلك رزقا منه تعالى لأهل الحرم. أفلا يشكرون.
وقوله تعالى { وكم أهلكنا من قرية } أي وكثيرا من أهل القرى أهلكناهم { بطرت معيشتها } لما بطروا عيشهم فلم يشكروا نعمة الله عليهم فأسرفوا في الظلم والمعاصي فأهلكناهم { فتلك مساكنهم } أي ديارهم { لم تسكن من بعدهم إلا قليلا } كديار عاد وثمود والمؤتفكات. { وكنا نحن الوارثين } لها، فلم نورثها غيرهم وتركناها خاوية خالية لم تسكن. أما يذكرون هذا فيعلموا بذلك قدرتنا فيتقوا فينا ويتوكلوا علينا ويؤمنوا ويوحدوا ويستقيموا على منهج الحق الذي جئت يا رسولنا به.
وقوله: { وما كان ربك } يا أيها الرسول { مهلك القرى } أي أهل المدن والحواضر { حتى يبعث في أمها رسولا } كما بعثك في أم القرى مكة { يتلو عليهم آياتنا } أي لم يكن من سنة الله تعالى هذا بل لا يهلك أمة حتى يبعث في أم بلادها رسولا يتلو عليهم آيات الله المبينة للحق من الباطل والخير من الشر وجزاء ذلك قوله تعالى: { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } أي ولم يكن من سنة الله تعالى في عبادة أن يهلك القرى إلا بعد ظلم أهلها.
فللإ هلاك شرطان:
الأول: أن يبعث الرسول يتلو آياته فيكذب ويكفر به وبما جاء به.
والثاني: أن يظلم أهل القرى ويعتدوا وذلك بإظهار الباطل والمنكر وإشاعة الشر والفساد في البلاد وهذا من عدل الله تعالى ورحمته بعباده إنه لأرحم بهم من أنفسهم ، وكيف ومن أسمائه وصفاته الرحمن الرحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ لا هادي إلا الله. الهداية المنفية هي إنارة قلب العبد وتوفيق العبد للإيمان وعمل الصالحات، وترك الشرك والمعاصي. والهداية المثبتة، يقول الله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. تلك هداية الدعوة والوعظ والإرشاد، ومنه
ولكل قوم هاد
[الرعد: 7] أي يدعوهم إلى الهدى.
2- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته فيما ألقاه في قلوب العرب المشركين الجاهلين من تعظيم الحرم وأهله ليهيئ بذلك لسكان حرمه أمنا وعيشا كما قال تعالى
فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف
[قريش: 2-4].
3- من رحمة الله وعدله أن لا يهلك أمة من الأمم إلا إذا توفر لهلاكها شرطان:
1- أن يبعث فيهم رسولا يتلو عليهم آيات الله تحمل الهدى والنور.
2- أن يظلم أهلها بالتكذيب للرسول والكفر بما جاء به والإصرار على الكفر والمعاصي.
4- التاريخ يعيد نفسه كما يقولون فما اعتذر به المشركون عن قبول الإسلام بحجة تألب العرب عليهم وتعطيل تجارتهم يعتذر به اليوم كثير من المسؤولين فعطلوا الحدود وجاروا الغرب في فصل الدين عن الدولة وأباحوا كبائر الاثم كالربا وشرب الخمور وترك الصلاة حتى لا يقال عنهم أنهم رجعيون متزمتون فيمنعوهم المعونات ويحاصرونهم اقتصاديا.
[28.60-61]
شرح الكلمات:
وما أتيتم من شيء: أي وما أعطاكم الله من مال أو متاع.
فمتاع الحياة الدنيا وزينتها: فهو ما تتمتعون به وتتزينون ثم يزول ويفنى.
وما عند الله خير وأبقى: أي وما عند الله من ثواب وهو الجنة خير وأبقى.
أفلا تعقلون: لأن من يؤثر القليل الفاني على الكثير الباقي لا عقل له.
وعدا حسنا: أي الجنة.
فهو لاقيه: أي مصيبه وحاصل عليه وظافر به لا محالة.
من المحضرين: أي في نار جهنم.
معنى الآيتين:
لقد سبق في هذا السياق أن المشركين اعتذروا عن الإسلام بعذر مادي بحت وهو وجود عداوة بينهم وبين سائر العرب. يترتب عليها حروب وتعطل التجارة إلى غير ذلك. فقوله تعالى هنا { ومآ أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا } هو خطاب لهم ولكل من يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة فيستحل المحرمات ويعطل الأحكام ويضيع الفرائض والواجبات لتعارضها في نظره مع جمع المال والتمتع بالحياة الدنيا. وقوله تعالى: { ومآ أوتيتم من شيء } أي من مال ومتاع وإن كثر { فمتاع الحياة الدنيا } أي فهو متاع الحياة الدنيا { وزينتها } أي تتمتعون وتتزينون به أياما أو أعواما ثم ينفد ويزول، أو تموتون عنه وتتركونه { وما عند الله } من نعيم الجنة { خير وأبقى } خير في نوعه وأبقى في مدته، فالأول رديء وتصحبه المنغصات ويعقبه الكدر، والثاني جيد صالح خال من المنغصات والكدورات وباق لا يبلى ولا يفنى ولا يزول ولا يموت صاحبه ويخلفه وراءه. { أفلا تعقلون } يا من تؤثرون الفاني على الباقي والرديء على الجيد والخبيث على الطيب. وقوله تعالى: { أفمن وعدناه وعدا حسنا } وهو المؤمن الصادق في إيمانه المؤكد له بصالح عمله، { وعدناه وعدا حسنا } وهو الجنة دار السلام { فهو لاقيه } أي لاق موعده بإذن الله بمجرد أن يلفظ أنفاسه وتعرج إلى السماء روحه. { كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } فهو يأكل ويشرب وينكح كالبهائم { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } في جهنم في دار العذاب والهوان، والجواب: لا يستويان أبدا وشتان ما بينهما، فالأول وهو المؤمن الصالح الموعود بدار السلام لا يقارن بالكافر المتهالك على الدنيا ثم يتركها فجأة ويجد نفسه مع أهل الكفر والإجرام في عذاب وهون لا يفارقه ولا يخرج منه أبدا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فائدة العقل أن يعقل صاحبه دون ما يضره، ويبعثه على ما ينفعه فإن لم يعقله دون ما يضره ولم يبعثه على ما ينفعه فلا وجود له، ووجوده كعدمه.
2- بيان فضل الآخرة على الدنيا.
3- وعد الله للمؤمن بالجنة خير مما يؤتاه الكافر من مال ومتاع وزينة في الحياة الدنيا.
[28.62-67]
شرح الكلمات:
ويوم يناديهم: أي الرب سبحانه وتعالى.
كنتم تزعمون: أي أنهم شركاء لي فعبدتموهم معي.
حق عليهم القول: أي بالعذاب في النار وهم أئمة الضلال.
أغويناهم: أي فغووا ولم نكرههم على الغي.
تبرأنا إليك: أي منهم ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم.
وقيل ادعوا شركاءكم: أي نادوهم ليخلصوكم مما أنتم فيه.
لو أنهم كانوا يهتدون: أي لما رأوا العذاب ودوا لو أنهم كانوا في الدنيا من المهتدين.
ويوم يناديهم: أي الله تبارك وتعالى.
فعميت عليهم الأنباء: أي فخفيت عليهم الأنباء التي يمكنهم أن يحتجوا بها.
فهم لا يتساءلون: أي انقطعوا عن الكلام.
فأما من تاب وآمن: أي آمن بالله ورسوله وتاب من الشرك.
وعمل صالحا: أدى الفرائض والواجبات.
فعسى أن يكون من المفلحين: أي الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة، وعسى من الله تعالى لا تفيد مجرد الرجاء بل هي لتحقق الموعود به.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله واذكر يوم ينادي ربك هؤلاء المشركين وقد ماتوا على شركهم فيقول لهم { أين شركآئي الذين كنتم تزعمون } أي أنهم شركائي هذا سؤال تقريع وتأنيب والتقريع والتأنيب ضرب من العذاب الروحي الذي هو أشد من العذاب الجثماني. وقوله تعالى { قال الذين حق عليهم القول } اي نطق الرؤساء من أئمة الضلال وهم الذين حق عليهم العذاب في نار جهنم { ربنا هؤلاء الذين أغوينآ } { أغويناهم } فغووا { كما غوينا } أي ما أكرهناهم على الغواية، { تبرأنآ إليك } أي منهم. { ما كانوا إيانا يعبدون } أي بل كانوا يعبدون أهواءهم لا غير. وقوله: { وقيل ادعوا شركآءكم } أي يقال للمشركين تهكما بهم واستهزاء، { ادعوا شركآءكم } أي لينصروكم ويخلصوكم مما أنتم فيه من الذل والهوان.
قال تعالى: { فدعوهم } بالفعل نادوا { فلم يستجيبوا لهم } إذا لا يقدر واحد من الإنس أو الجن أن يقول هذا كان يعبدني، بل كل معبود يتبرأ ممن عبده كما قالوا في الآية قبل ذي تبرأنا إليك أي منهم ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم وقوله تعالى: { ورأوا العذاب } بأعينهم فاشتدت حسرتهم وودوا لو أنهم كانوا في الدنيا من المهتدين. وقوله تعالى: { ويوم يناديهم } أي ربهم قائلا { ماذآ أجبتم المرسلين }؟ أخبرونا كيف كان موقفكم مع من أرسلنا إليكم؟ هل آمنتم بهم واتبعتموهم أم كذبتموهم وحاربتموهم قال تعالى: { فعميت عليهم الأنبآء يومئذ } أي فخفيت عليهم الأخبار التي يمكنهم أن يحتجوا بها فلم يجدوا حجة واحدة ولذا { فهم لا يتسآءلون } أي لا يسأل بعضهم بعضا لأنه سقط في أيديهم وعلموا أنهم صالو الجحيم لا محالة. وقوله تعالى: { فأما من تاب } من هؤلاء المشركين اليوم من الشرك وآمن بالله ولقائه ورسوله وعمل صالحا فأدى الفرائض والواجبات { فعسى أن يكون من المفلحين } أي الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة، فهذه دعوة سخية لكل مشرك وكافر وفاسق أن يتخلى عن الباطل المتلبس به ويؤمن الإيمان الصحيح ويعمل صالحا بأداء الفرائض فإنه ينجو من النار ويدخل الجنة دار الأبرار فهل من تائب؟!.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بالشرك والمشركين.
2- براءة الرؤساء في الضلالة من المرؤوسين.
3- التحذير من الغواية وهي الضلال والانغماس في الذنوب والآثام.
4- خذلان المعبودين عابديهم يوم القيامة وتبرؤهم منهم.
5- باب التوبة مفتوح لكل عبد مهما كانت ذنوبه ولا يهلك على الله إلا هالك.
[28.68-70]
شرح الكلمات:
يخلق ما يشاء: أي من خلقه.
ويختار: أي من يشاء لنبوته وطاعته.
ما كان لهم: أي للمشركين.
الخيرة: أي الاختيار في شيء.
سبحان الله: أي تنزيها لله عن الشرك.
يعلم ما تكن صدورهم: أي ما تسر وتخفي من الكفر وغيره.
له الحمد في الأولى: أي في الدنيا لأنه مولى كل نعمة.
وفي الآخرة: أي في الجنة.
وله الحكم: أي القضاء النافذ.
وإليه ترجعون: بعد النشور وذلك يوم القيامة.
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآيات قبل هذه التنديد بالشرك وتوبيخ المشركين وتحديهم بدعاء شركائهم ليخلصوهم مما هم فيه من الذل والعذاب، وكان شركهم باختيارهم الخاص وإرادتهم الحرة إذ تبرأ منهم من اختاروهم آلهة مع الله فعبدوهم معه. وفي هذه الآية يكشف تعالى عن خطئهم في الاختيار، وذلك من وجهين: الأول أنه لاحق لهم في الاختيار. إذ الاختيار الخالق المخلوقات فيختار منها ما يشاء لنبوته أو طاعته أما الذي يخلق ولا يخلق فكيف يصح منه اختيار. والثاني بحكم أنهم مخلوقون مربوبون لله تعالى وهم يعلمون هذا إذ لو سألهم أحد: من خلقكم؟ لقالوا : الله؛ كان المفروض فيهم والمطلوب منهم أن يطلبوا من الله تعالى خالقهم أن يختار لهم ما يعبدون ويبين لهم كيف يعبدون، إذ هو مولاهم الحق ولا مولى لهم سواه أما أن يركبوا رؤوسهم ويختاروا بأنفسهم ما يعبدون فهذا ظلم منهم كبير استوجبوا به اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى: [68] { وربك يخلق ما يشآء }.. أي وربك يا محمد يخلق ما يشاء ممن يريد خلقهم ويختار من يشاء لما يشاء ممن يشاء من عباده لما يشاء من كمال أو نقصان. أما عبيده فليس لهم حق الاختيار وإنما عليهم السمع والطاعة قال تعالى: { ما كان لهم الخيرة } أي حق الاختيار بل الذي يختاره الله هو الذي يجب أن يختاره العبد. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول:
" اللهم خر لي واختر لي "
وكان يعلم أصحابه دعاء الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن، ويحضهم على أن يختاروا في الأمر الواحد سبع مرات. وقوله تعالى: { سبحان الله وتعالى عما يشركون } نزه تعالى نفسه عن شرك المشركين وباطل المبطلين وقوله { وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } وهذا برهان أن الخيرة له وليس لغيره إذ الذي يعلم الظواهر والبواطن والبدايات والنهايات قبل البدء والمنتهى صاحب هذا العلم هو الذي يختار. أما الذي لا يعلم ما يكنه أخوه في صدره بل ولا ما يظهره آخر إلى جنبه أي لا يعلم عاقبته فكيف يصح منه الاختيار أو تكون له خيرة في شيء.
وفوق ذلك أنه سبحانه وتعالى وهو الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود الذي لا معبود بحق سواه الذي له الحمد في الدنيا إذ كل ما في الدنيا هو خلقه وفضله وإنعامه، وله الحمد في الآخرة، يحمده أهل الجنة إذ قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن بل الحياة الدنيا كالآخرة. تختم بالحمد لله. قال تعالى
وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين
[الزمر: 75] { وله الحكم وإليه ترجعون } أي وله الحكم أي القضاء في الدنيا والآخرة { وإليه ترجعون } فكما أن الحكم خاص به فكذلك الرجوع إليه، ويوم يرجعون إليه يحكم بينهم بحكمه وهو العزيز العليم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ " ليس من حق العبد أن يختار إلا ما اختار الله له ".
2- تعين طلب الاختيار في الأمر كله من الله تعالى بقول العبد " اللهم خر لي واختر لي ".
3- تأكيد سنة الاستخارة وهي إذا هم العبد بالأمر يصلي ركعتين في وقت لا تكره فيه صلاة النافلة، ثم يدعو بدعاء الاستخارة كما ورد في الصحيح وهو " اللهم إني أستخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ". ويسمي حاجته التي هم بها من سفر أو زواج أو بناء أو تجارة أو غراسة.
4- تقرير التوحيد وإبطال التنديد.
5- وجوب حمد الله وشكره على كل حال وذلك لتجدد النعمة في كل آن.
[28.71-75]
شرح الكلمات:
أرأيتم: أي أخبروني.
سرمدا: أي دائما، ليلا واحدا متصلا لا يعقبه نهار.
بضياء: أي ضوء كضوء النهار.
بليل تسكنون فيه: أي تنامون فتسكن جوارحكم فتستريح من تعب الحياة.
لتسكنوا فيه: أي في الليل.
ولتبتغوا من فضله: أي تطلبوا الرزق من فضل الله في النهار.
ولعلكم تشكرون: أي كي تشكروا ربكم بطاعته كالصلاة والصيام والصدقة.
ونزعنا من كل أمة شهيدا: أي أحضرنا من كل أمة من يشهد عليها وهو نبيها عليه السلام.
فقلنا هاتوا برهانكم: أي حججكم على صحة الشرك الذي أنذرتكم رسلنا عواقبه فما قبلتم النذارة ولا البشارة.
فعلموا أن الحق لله: أي تبين لهم أن العبادة والدين الحق لله لا لسواه.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: أي وغاب عنهم ما كانوا يكذبونه من الأقوال الباطلة التي كانوا يردون بها على الرسل عليهم السلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد وهو حول أنداد لله تعالى من مخلوقاته فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قل لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله أندادا وهو خالقهم ورازقهم ومدبر أمر حياتهم { أرأيتم } أي أخبروني { إن جعل الله عليكم الليل سرمدا } أي دائما ليلا واحدا متصلا لا يعقبه نهار { إلى يوم القيامة } أخبروني هل هناك { إله غير الله يأتيكم بضيآء } كضياء النهار، والجواب لا أحد وإذا فكيف تشركون به اصناما. { أفلا تسمعون } ما يقال لكم. وقل لهم أيضا { أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا } أي دائما متصلا لا يخلفه ليل أبدا { إلى يوم القيامة } إلى إنقراض هذا الكون وانتهاء هذه الحياة وقيام الناس لربهم من قبورهم يوم القيامة { من إله غير الله } أي أي إله غير الله { يأتيكم بليل تسكنون فيه } فتخلدون إلى الراحة بالنوم والسكون وعدم الحركة فيه، وإذا قلتم لا أحد يأتينا بليل نسكن فيه إذا فما لكم لا تبصرون هذه الآيات ولا تسمعون ما تحمله من الأدلة والحجج القواطع القاضية بأنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه. وقوله تعالى: { ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار } إذ ليس واجبا عليه ذلك وإنما هو فضل منه ورحمة فالليل تسكنون فيه والنهار تتحركون فتبتغون رزقكم من فضل الله، وبذلك تهيؤون للشكر إذا أكلتم أو شربتم أو ركبتم أو نزلتم قلتم الحمد لله، والحمد لله رأس الشكر، كما أن الليل والنهار ظرف للعبادة التي هي الشكر، فالعبادات لا تقع إلا في الليل والنهار، فالصيام في النهار والقيام بالليل والصلاة والصدقات فيهما. وقوله تعالى: { ويوم يناديهم } أي اذكر يا رسولنا لهم تنبيها وتعليما يوم يناديهم الرب تبارك وتعالى فيقول لهم: { أين شركآئي الذين كنتم تزعمون } أنهم شركاء لي فعبدتموهم، وهل يرجى أن يجيبوا لا، لا، وإنما هذا السؤال ونظائره هو سؤال تبكيت وتأنيب وتوبيخ وهو نوع من العذاب النفسي الذي هو أشد من العذاب الجسمي.
وقوله تعالى : { ونزعنا من كل أمة شهيدا } أي وأذكر لهم هذا الموقف من مواقف القيامة الصعبة { ونزعنا } أي أحضرنا { من كل أمة شهيدا } يشهد عليها وهو نبيها، ويشهد الرسول أنه بلغ ونصح وأنذر، ويقال لهم: { هاتوا برهانكم } على صحة ما كنتم تعبدون وتدعون. قال تعالى: { فعلموا أن الحق لله } أي تبين لهم أن الحق لله أي أن الدين الحق لله فهو المستحق لتأليه المؤلهين وطاعة المطيعين وقربات المتقربين لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إشارة علمية إلى أن السماع يكون مع السكون وقلة الضجيج، وأن الإبصار يكون مع الضوء، ولا يتم مع الظلام بحال من الأحوال.
2- البرهنة القوية على وجوب توحيد الله إذ لا رب يدبر الكون سواه.
3- كون النهار والليل ظرفان للسكون وطلب العيش هما من رحمة الله تعالى أمر يقتضي شكر الله تعالى بحمده والاعتراف بنعمته وطاعته بصرف النعمة فيما يرضيه ولا يسخطه.
4- بيان أهوال القيامة، بذكر بعض المواقف الصعبة فيها.
5- إذا كان يوم القيامة بطل كل كذب وقول ولم يبق إلا قول الحق والصدق.
[28.76-78]
شرح الكلمات:
إن قارون كان من قوم موسى: أي ابن عم موسى عليه السلام.
فبغى عليهم: أي ظلمهم واستطال عليهم.
ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة: أي أعطاه الله من المال ما يثقل عن الجماعة حمل مفاتح خزائنه.
لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين: أي لا تفرح فرح البطر والأشر.
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة: أي اطلب في المال الذي أوتيته الدار الآخرة بفعل الخيرات.
على علم عندي: أي لعلم الله تعالى بأني أهل لذلك.
وأكثر جمعا: أي للمال.
ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون: أي لعلم الله تعالى بهم فيدخلون النار بدون حساب.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص قارون الباغي، وهو قارون ابن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب ابن اسحاق بن إبراهيم عليه السلام. فهو ابن عم موسى بن عمران وابن خالته أيضا وكان يلقب المنور لحسن صورته، ونافق كما نافق السامري المطرود. قال تعالى في ذكر خبره { إن قارون كان من قوم موسى } أي إسرائيلي ابن عم موسى بن عمران الرسول. { فبغى عليهم } أي على بني إسرائيل أي ظلمهم وطغى عليهم، ولعل فرعون كان قد أسند إليه إمارة على بني إسرائيل فأطغته وملك أموالا كثيرة ففرته وألهته. وقوله تعالى: { وآتيناه من الكنوز مآ إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة }. وهذا الخبر الإلهي دليل على ما كان للطاغية قارون من أموال بحيث أن المفاتح تثقل كاهل العصبة أي الجماعة من الرجال لو حملوها كلها وذلك لثقلها. وقوله تعالى: { إذ قال له قومه } أي من بني إسرائيل واعظين له مذكرين { لا تفرح } أي بأموالك فرح الأشر البطر، { إن الله لا يحب الفرحين } اي الأشرين البطرين الذين يختالون ويتفاخرون ويتكبرون. { وابتغ } أي اطلب { فيمآ آتاك الله } من أموال { الدار الآخرة } بأن تصدق منها وأنفق في سبيل الله كبناء مسجد أو مدرسة أو ميتم أو ملجأ إلى غير ذلك من أوجه البر والإحسان. { ولا تنس نصيبك من الدنيا } فكل واشرب والبس واركب واسكن ولكن في غير إسراف ولا مخيله، { وأحسن } عبادة الله تعالى وطاعته وأحسن إلى عباده بالقول والعمل { كمآ أحسن } أي الله تعالى إليك { ولا تبغ الفساد في الأرض } بترك الفرائض وارتكاب المحرمات. { إن الله لا يحب المفسدين } ومن لم يحبه الله أبغضه ومن أبغضه عذبه في الدنيا والآخرة فبعد هذه الموعظة من قومه الصالحين أهل العلم والبصيرة رد هذا الطاغية قارون بما أخبر به تعالى عنه في قوله في الآية [78] { قال إنمآ أوتيته على علم عندي } أي لا تهددوني ولا تخوفوني بسلب مالي عني إن أنا لم أحسن فإن هذا المال { إنمآ أوتيته } أي آتانيه الله على علم منه بأني أهل له ولذا أعطاني وزاد عطائي وأكثره قال تعالى في الرد عليه في زعمه هذا { أولم يعلم } أي أيقول ما يقول من الزعم الكاذب ولم { يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا } ، كعاد وثمود وقوم إبراهيم فلو كان كثرة المال دليلا على حب الله ورضاه عن أهله، ما أهلك عادا وثمودا وقوم نوح من قبل وكانوا أشد قوة وأكثر مالا ورجالا وقوله تعالى: { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } أي إذا أكثر العبد من الإجرام بالشرك والمعاصي حق عليه كلمة العذاب وآن أوان عذابه لا يسأل عن ذنوبه بل يؤخذ فجأة كما أن هؤلاء المجرمين سيدخلون النار بغير حساب فلا يسألون ولا يحاسبون.
قال تعالى:
يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام
[الرحمن: 41] أي ويرمون في جهنم ويقال لهم:
هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون
[الرحمن: 43].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- المال والمنصب العالي عرضة لإفساد المرء إلا من رحم الله عز وجل وقليل ما هم.
2- حرمة الفرح بالمال والإمارة إذا كان الفرح فرح بطر وفخر واعتزاز وكبر وخيلاء.
3- من فضل الله على الأمة أن يوجد فيها عالمون ينصحون ويرشدون ويوجهون.
4- من الحزم للمرء أن يطلب من المال والجاه والمنصب أعلى الدرجات في الجنة.
5- حلية الأكل من الطيب والشرب من الطيب واللبس والركوب والسكن من غير إسراف ولا خيلاء ولا كبر.
6- العافية والمال وعز السلطان يصاب صاحبها بالاغترار إلا من رحم الله.
[28.79-82]
شرح الكلمات:
في زينته: أي لباس الأعياد والحفلات الرسمية.
يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون: أي تمنوا أن لو أعطوا من المال والزينة ما أعطي قارون.
إنه لذوو حظ عظيم: أي إنه لذو بخت ونصيب وهبه الله إياه في كتاب المقادير.
وقال الذين أوتوا العلم: أي اعطوا العلم الديني بمعرفة الله والدار الآخرة وموجبات السعادة والشقاء.
ويلكم: أي حضر ويلكم وهلاككم بتمنيكم المال وزخرف الدنيا.
ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا: أي ما عند الله من جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات وهو الجنة خير من حطام الدنيا الفاني.
ولا يلقاها إلا الصابرون: أي ولا يوفق لقول هذه الكلمة وهي ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا إلا الصابرون على الإيمان والتقوى.
فخسفنا به وبداره الأرض: أي أسخنا الأرض من تحته فساخت به وبداره وكل من كان معه فيها من أهل البغي والإجرام.
تمنوا مكانه بالأمس: أي الذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون فالمراد من المكان المكانة وما عليه قارون من الامارة والزينة والمال والجاه.
ويكأن الله يبسط: أي أعجب عالما أن الله يبسط الرزق لمن يشاء.
ويقدر: أي يضيق.
ويكأنه لا يفلح الكافرون: أي أعجب عالما أنه لا يفلح الكافرون أي أنهم لا يفوزون بالنجاة من النار ودخول الجنان كما يفوز المؤمنون.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص قارون الباغي قال تعالى { فخرج على قومه } أي قارون في يوم عيد أو مناسبة خرج على قومه وهم يشاهدون موكبه { في زينته } الخاصة من الثياب والمراكب. قوله تعالى: { قال الذين يريدون الحياة الدنيا } أي من قوم موسى وهم المفتونون بالدنيا وزخرفها من أهل الغفلة عن الآخرة وما أكثرهم اليوم وقبل وبعد اليوم قالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم: { يليت لنا مثل مآ أوتي قارون } تمنوا أن يكون لهم مثل الذي أوتي قارون من المال والزينة { إنه لذو حظ عظيم } أي بخت ونصيب ورزق { وقال الذين أوتوا العلم } أي الشرعي الديني العالمون بالدنيا والآخرة. وأسباب السعادة والشقاء في كل منهما قالوا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله: { ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا } أي ويحكم هلكتم إن كنتم تؤثرون هذا الفاني على الباقي { ثواب الله } وهو الجنة خير من هذا الزخرف الفاني { لمن آمن وعمل صالحا } ولازم ذلك أنه ترك الشرك والمعاصي، وقوله تعالى: { ولا يلقاهآ } أي هذه الجملة من الكلام: { ثواب الله خير لمن آمن } بربه { وعمل صالحا } في حياته بأداء الفرائض والنوافل وترك المحرمات والرذائل أي ولا يلقى هذه الكلمة { إلا الصابرون } من أهل الإيمان والتقوى هم الذين يلقنهم الله إياها فيقولونها لصفاء أرواحهم وزكاة أنفسهم وقوله تعالى في الآية [81] { فخسفنا به وبداره الأرض } يخبر تعالى أنه خسف بقارون وبداره الأرض انتقاما منه لكفره ونفاقه وبغيه وكبريائه.
وقوله تعالى { فما كان له من فئة } أي جماعة { ينصرونه من دون الله } لما أراد الله خذلانه بخسف الأرض به وبداره ومن فيها من أعوانه الظلمة والمجرمين. { وما كان من المنتصرين } أي لنفسه فنجاها مما حل بها من الخسف في باطن الأرض التي ما زال يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقوله تعالى: { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } يخبر تعالى عن الذين قالوا يوم خرج عليهم قارون في زينته يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون يخبر تعالى عنهم أنهم لما شاهدوا الخسف الذي حل بقارون وبداره قالوا ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء أي نعجب عالمين، أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أي على من يشاء فالبسط والقبض كله لله وبيد الله فما لنا لا نفزع إلى الله نطلب رضاه ولا نتمنى ما تمنيناه وقد أصبح ذاهبا لا يرى بعين ولا يلمس بيدين، { لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون } أي نعجب أيضا عالمين بأنه لا يفلح الكافرون كقارون وفرعون وهامان أي لا يفوز الكافرون لا بالنجاة من العذاب ولا بدخول الجنان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الفتنة أسرع إلى قلوب الماديين أبناء الدنيا والعياذ بالله تعالى.
2- بيان موقف أهل العلم الديني وأنهم رشد أي حكماء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
3- بيان أن البغي يؤخذ به البغاة في الدنيا ويعذبون به في الآخرة.
4- بيان أن وجود الإيمان خير من عدمه وإن قل وأن ذا الإيمان أقرب إلى التوبة ممن لا إيمان له.
[28.83-84]
شرح الكلمات:
تلك الدار الآخرة: أي الجنة، دار الأبرار.
لا يريدون علوا في الأرض: أي بغيا ولا استطالة على الناس.
ولا فسادا: أي ولا يريدون فسادا بعمل المعاصي.
والعاقبة: أي المحمودة في الدنيا والآخرة.
للمتقين: الذين يتقون مساخط الله فلا يعتقدون ولا يقولون ولا يعملون ما لا يرضى به الله تعالى.
من جاء بالحسنة: أي يوم القيامة والحسنة: اثر طاعة الله تعالى يجزى به المؤمن.
فله خير منها: أي تضاعف له عشرة أضعاف.
ومن جاء بالسيئة: السيئة أثر معصية الله تعالى يعاقب به العبد إذا لم يعف الله تعالى عنه.
معنى الايات:
لقد تقدم في السياق أن ثواب الله وهو الجنة خير لمن آمن وعمل صالحا فأشار إليه تعالى بقوله { تلك الدار الآخرة } التي هي الجنة إذ هي آخر دار يسكنها المتقون فلا يخرجون منها. نجعلها، هذا هو الخبر عن قوله تلك الدار الآخرة فأخبر تعالى أنه يجعلها مأوى ومسكنا للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، لا يريدون استطالة على الناس وتعاليا وتكبرا عليهم وبغيا، ولا فسادا بارتكاب المعاصي كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر، وقوله تعالى: { والعاقبة للمتقين } أي والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل الإيمان والتقوى وهم المؤمنون الذين يتقون مساخط الله عز وجل، وذلك بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. وقوله تعالى: { من جآء } أي يوم القيامة { بالحسنة } وهي الطاعات لله ورسوله { فله } جزاء مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وقد تضاعف إلى أكثر بشرط أن لا تكون حسنة أعطيت له من حسنات ظالم في الدنيا فهذه لا تتضاعف. إذ تضاعف الحسنة التي باشرها، كما لا تضاعف حسنة من هم بحسنة ولم يعملها فإنها تكتب له حسنة ولا تضاعف لعدم مباشرته إياها وقوله { ومن جآء بالسيئة } أي يوم القيامة. والسيئة أثر معصية الله تعالى ورسوله في نفسه { فلا يجزى } إلا مثلها أي لا تضاعف عليه وذلك لعدالة الله تعالى ورأفته بعباده، وهو معنى قوله تعالى { فلا يجزى الذين عملوا السيئات } من الشرك والمعاصي { إلا ما كانوا يعملون } أي في الدنيا إذ هي دار العمل والآخرة دار الجزاء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة التكبر والاستطالة على الناس، والعمل بالمعاصي، وأنه الفساد في الأرض.
2- بيان فضل الله ورحمته وعدله بين عباده بمضاعفة الحسنات وعدم مضاعفة السيئات.
3- العاقبة الحسنى وهي الجنة لأهل الإيمان والتقوى.
[28.85-88]
شرح الكلمات:
إن الذي فرض عليك القرآن: أي الله الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك قراءته والعمل بما فيه وتبليغه.
لرادك إلى معاد: أي لمرجعك إلى مكة فاتحا إذ معاد الرجل بلده الذي يعود إليه.
وما كنت ترجو: أي تأمل أن ينزل عليك القرآن ويوحى به إليك.
إلا رحمة من ربك: لكن برحمة من الله وفضل أنزله عليك.
فلا تكونن ظهيرا: أي فمن شكر هذه النعمة أن لا تكون معينا للكافرين.
ولا يصدنك: أي لا يصرفنك عن العمل بآيات الله بعد أن شرفك الله بإنزالها عليك.
وادع إلى ربك: أي ادع الناس إلى الإيمان بالله وعبادته وترك الشرك به.
ولا تدع مع الله إلها آخر: أي لا تعبد مع الله إلها آخر بدعائه والذبح والنذر له.
كل شيء هالك: أي فان.
إلا وجهه: أي إلا الله سبحانه وتعالى فلا يهلك كما يهلك ما عداه.
معنى الآيات:
تقدم في السياق الكريم الدعوة إلى أصول الدين الثلاثة: التوحيد، النبوة، البعث والجزاء وهذه خاتمة ذلك في هذه السورة الكريمة فقال تعالى: { إن الذي فرض عليك القرآن } أي أنزله عليك وفرض عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، { لرآدك } أي لمرجعك { إلى معاد } وهو العودة إلى مكة بعد خروجك منها واشتياقك إلى العودة إليها وإلى الجنة بعد وفاتك لأنك دخلتها ليلة عرج بك إلى السماء وفي هذا تقرير لنبوته صلى الله عليه وسلم بالوحي إليه، وقوله تعالى: { قل ربي أعلم من جآء بالهدى ومن هو في ضلال مبين } فإنه تعليم له صلى الله عليه وسلم بما يرد به على المشركين الذين اتهموه بأنه ضال في دعوته وخروجه عن دين آبائه وأجداده علمه أن يقول لهم ربي أعلم بمن جاء بالهدى وهو أنا، رسول الله، ومن هو في ضلال مبين وهو أنتم أيها المشركون. وقوله { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب } أي وما كنت يا محمد تأمل أن ينزل عليك القرآن، وذلك قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، وقوله { إلا رحمة من ربك } أي لكن رحمة ربك عليك اقتضت إنزاله عليك لتكون رسول الله للعالمين، وهي نعمة كبيرة وإفضال عظيم فاشكره بما يلي:
(1) { فلا تكونن ظهيرا للكافرين } أي عونا لهم بحال من الأحوال.
(2) { ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك } فتترك تلاوتها وإبلاغها والعمل بها. وفي هذا تقرير للنبوة المحمدية.
(3) { وادع إلى ربك } ادع الناس إلى توحيد ربك والعمل بشرعه.
(4) { ولا تكونن من المشركين } أي فتبرأ منهم ولا ترضى بشركهم وادعهم إلى خلافه وهو التوحيد.
(5) { ولا تدع مع الله إلها آخر } أي لا تعبد مع الله إلها آخر لا بالدعاء ولا بالنذر والذبح ولا بتقديم أي قربان أو طاعة لغير الله سبحانه وتعالى، وفي هذا تقرير للتوحيد وقوله { لا إله إلا هو } تقرير للتوحيد بإبطال أن يكون هناك إله مع الله.
وقوله { كل شيء هالك إلا وجهه } يخبر تعالى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل ذاهب بلا مثوبة عليه. كما أن كل شيء سوى الله عز وجل فإن ولم يبق إلا الله سبحانه وتعالى كقوله
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
[الرحمن: 26-27] { له الحكم } أي القضاء العادل بين عباده وقوله { وإليه ترجعون } أي بعد الموت للحساب والجزاء يوم بعثكم وحشركم إليه عز وجل، وفي هذا تقرير للبعث والجزاء. والحمد لله أولا وآخرا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- معجزة القرآن في وقوع الغيب بعد الإخبار به وذلك حيث عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعد الخروج منها.
2- مشروعية الملاينة في الجدال والمناظرة أثناء الدعوة باستعمال أسلوب التشكيك.
3- حرمة معاونة الكفار ومناصرتهم لا سيما ضد المؤمنين.
4- وجوب الثبات والصبر على الدعوة حتى نجاحها ببلوغها الناس واستجابتهم لها.
5- تقرير التوحيد والبعث والنبوة المحمدية.
6- فناء كل شيء إلا الله تعالى إلا ما ورد الدليل بعدم فنائه وعد منه ثمانية نظمها بعضهم بقوله:
هي العرش والكرسي نار وجنة
وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
[29 - سورة العنكبوت]
[29.1-7]
شرح الكلمات:
الم: هذه أحد الحروف المقطعة تكتب الم وتقرأ ألف لام ميم.
وهم لا يفتنون: بما يتبين به حقيقة إيمانهم من التكاليف ومنها الصبر على الأذى.
ولقد فتنا الذين من قبلهم: أي اختبرنا من قبلهم إذ هي سنة جارية في الناس.
فليعلمن الله الذين صدقوا: أي في إيمانهم، وليعلمن الذين كذبوا فيه بما يظهر من أعمالهم .
أن يسبقونا: أي يفوتونا فلا ننتقم منهم.
ساء ما يحكمون: أي بئس الحكم هذا الذي يحكمون به، وهو حسبانهم أنهم يفوتون الله تعالى ولم يقدر على الانتقام منهم.
من كان يرجو لقاء الله: أي من كان يؤمن بلقاء الله وينتظر وقوعه فليعلم أن أجله لآت فليستعد له بالإيمان وصالح الأعمال.
ومن جاهد: أي بذل الجهد في حرب الكفار أو النفس.
فإنما يجاهد لنفسه: أي منفعة الجهاد من الأجر عائدة على نفسه.
ولنجزينهم أحسن: أي ولنجزينهم على أعمالهم بأحسن عمل كانوا عملوه.
معنى الآيات:
الم: الله أعلم بمراده به وهذا هو مذهب السلف في هذه الحروف وهو تفويض علمها إلى منزلها عز وجل وقوله { أحسب الناس } أي أظن الناس { أن يقولوا آمنا } فيكتفى منهم بذلك و { وهم لا يفتنون } أي ولا يختبرون بل لا بد من اختبار بالتكاليف الشاقة كالهجرة والجهاد والصلاة والصيام والزكاة وترك الشهوات والصبر على الأذى. والآية وإن نزلت في مثل عمار بن ياسر وبلال وعياش فإنها عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ عام هنا، لأن اسم الجنس إذا دخلت عليه " ال " أفادت استغراق جميع أفراده. وقوله تعالى: { ولقد فتنا الذين من قبلهم } من الأمم السابقة فهي إذا سنة ماضية في الناس لا تتخلف. وقوله تعالى { فليعلمن الله الذين صدقوا } في إيمانهم أي يظهر ذلك ويعلمه مشاهدة بعد أن علمه قبل إخراجه إلى الوجود حيث قدر ذلك وكتبه في كتاب المقادير وذلك بتكليفهم وقيامهم بما كلفوا به من شاق الأفعال وشاق التروك، إذ الهجرة والجهاد والزكاة أفعال، وترك الربا والزنا والخمر تروك { وليعلمن الكاذبين } حيث ادعوا الإيمان ولما ابتلوا بالتكاليف لم يقوموا بها، فبان بذلك عدم صدقهم وإنهم كاذبون في دعواهم أنهم مؤمنون. وقوله تعالى: { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } أي أظن { الذين يعملون السيئات } من الشرك والمعاصي { أن يسبقونا } أي يفوتونا فلم نأخذهم بالعذاب. { سآء ما يحكمون } به لأنفسهم أي قبح حكمهم هذا من حكم لفساده، إذ أقاموه على ظن منهم أن الله تعالى لا يقدر عليهم وهو على كل شيء قدير وأنه لا يعلمهم وهو بكل شيء عليم. وقوله تعالى: { من كان يرجوا لقآء الله فإن أجل الله لآت } أي { من كان } يؤمن ويؤمل لقاء الله وذلك يوم القيامة فليعلم أن أجل الله المضروب لذلك لآت قطعا وعليه فليستعد للقائه بما يناسبه وهو الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والعمل الفاسد، ومن هنا دعوى المرء أنه يرجو لقاء ربه ولم يعمل صالحا يثاب عليه، دعوى لا تصح قال تعالى في سورة الكهف
..فمن كان يرجوا لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
[الآية: 110] وقوله { وهو السميع العليم } أي هو تعالى السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأعمالهم، فدعوى الإيمان ظاهرة من العبد أو باطنة لا قيمة لها ما لم يقم صاحبها الدليل عليها وذلك بالإيمان والجهاد للعدو الظاهر والباطن. وقوله تعالى: { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } أي منفعة هذه العبادة عائدة على العبد نفسه أما الله عز وجل فهو في غنى عن عمل عباده غنى مطلقا وهذا ما دل عليه قوله: { إن الله لغني عن العالمين } الملائكة والإنس والجن وسائر المخلوقات إذ كل ما سوى الله تعالى عالم ويجمع على عوالم وعالمين. وقوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم } هذا وعد من الله تعالى لمن آمن من عباده وذلك على إيمانه وصالح عمله فعلا وتركا بأنه يكفر عنه سيئاته التي عملها قبل الإسلام وبعده. ومعنى يكفرها عنهم يغطيها ويسترها ولم يطالبهم بها كأنهم لم يفعلوها. وقوله { ولنجزينهم } أي على أعمالهم الصالحة { أحسن } أي بأحسن عمل عملوه فتكون أعظم ما تكون مضاعفة. وهذا من تكرمه على عباده الصالحين ليجزي بالحسنة أضعافها مئات المرات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة أن الإيمان يصدق بالأعمال أو يكذب.
2- بيان إمكان التكليف بما يشق على النفس فعله أو تركه ولكن ليس بما لا يطاق.
3- تحذير المغترين من العقوبة وإن تأخرت زمنا ما فإنها واقعة لا محالة.
4- ثمرة الجهاد عائدة على المجاهد نفسه. فلذا لا ينبغي أن يمنها على الله تعالى بأن يقول فعلت وفعلت.
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الوعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات بتكفير السيئات والجزاء الأحسن وهذا يتم يوم البعث.
[29.8-13]
شرح الكلمات:
ووصينا الإنسان: أي عهدنا إليه بطريق الوحي المنزل على رسولنا.
بوالديه حسنا: أي أيصاء ذا حسن، وذلك ببرهما وعدم عقوقهما.
وإن جاهداك: أي بذلا الجهد في حملك على أن تشرك.
لندخلنهم في الصالحين: أي لندخلنهم مدخلهم في الجنة.
فتنة الناس: أي أذاهم له.
كعذاب الله: أي في الخوف منه فيطيعهم فينافق.
إنا كنا معكم: أي في الإيمان وإنما أكرهنا على ما قلنا بألسنتنا.
إتبعوا سبيلنا: أي ديننا وما نحن عليه.
ولنحمل خطاياكم: أي ليكن منكم اتباع لسبيلنا وليكن منا حمل لخطاياكم، فالكلام خبر وليس إنشاء.
وليحملن أثقالهم: أي أوزارهم، والأوزار الذنوب.
وأثقالا مع أثقالهم: أي من أجل قولهم للمؤمنين اتبعوا سبيلنا.
عما كانوا يفترون: أي يكذبون.
معنى الآيات:
هذه الآيات نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان ما هذا الدين الذي أحدثت والله لا آكل ولا اشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر يقال يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل فأصبحت وقد جهدت ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلى، فلما أيست منه أسلمت وأكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } أي عهدنا إليه بواسطة الرسل إيصاء ذا حسن وهو برهما بطاعتهما في المعروف وترك أذاهما ولو قل، وإيصال الخير بهما من كل ما هو خير قولا كان أو فعلا. وقوله تعالى: { وإن جاهداك } أي بذلا جهدهما في حملك على أن تشرك بي شيئا من الشرك أو الشركاء فلا تطعهما كما فعل سعد بن أبي وقاص مع والدته في عدم إطاعتها. وقوله { إلي مرجعكم } أولادا ووالدين { فأنبئكم بما كنتم تعملون } وأجزيكم به فلذا قدموا طاعتي على طاعة الوالدين، فإني أنا الذي أحاسبكم وأجزيكم بعملكم أنتم وإياهم على حد سواء. وقوله تعالى: { والذين آمنوا } أي بالله ورسوله { وعملوا الصالحات } التي هي العبادات التي تعبد الله تعالى بها عباده المؤمنين، فشرعها لهم وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم كالذكر وقراءة القرآن والصلاة والصيام والصدقات والجهاد والحج وما إلى ذلك. هؤلاء الذين جمعوا بين الإيمان الحق والعمل الصالح الخالي من الشرك والرياء. يقسم الله تعالى أنه يدخلهم في مدخل الصالحين وهم الأنبياء والأولياء في الجنة دار السلام. وقوله تعالى: { ومن الناس من يقول ءامنا بالله } الآية هذه نزلت في أناس كانوا بمكة وآمنوا وأعلنوا عن إيمانهم فاضطهدهم المشركون فكانوا ينافقون فأخبر تعالى عنهم بقوله: { ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذآ أوذي في الله } أي آذاه المشركون نافق وارتد { جعل فتنة الناس } أي أذاهم له وتعذيبهم إياه { كعذاب الله } يوم القيامة فوافق المشركين على الكفر.
وقوله تعالى: { ولئن جآء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم } أي على الإيمان وإنما كنا مكرهين وهذه نزلت فيمن خرجوا من مكة غلى بدر مع المشركين لما انهزم المشركون وانتصر المسلمون وأسروا قالوا { إنا كنا معكم } أي على الإيمان فرد تعالى دعاهم بقوله { أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } أي الناس. وقوله تعالى: { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } تقرير لما سبق في الآية قبل وليترتب عليه الجزاء على الإيمان وعلى النفاق. فعلمه تعالى يستلزم الجزاء العادل فأهل الإيمان يجزيهم بالنعيم المقيم وأهل النفاق بالعذاب المهين. أولئك في دار السلام وهؤلاء في دار البوار. وقوله تعالى: { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا } أي ديننا وما نحن عليه { ولنحمل خطاياكم } أي قال رؤساء قريش لبعض المؤمنين اتركوا سبيل محمد ودينه واتبعوا سبيلنا وديننا، وإن كان هناك بعث وجزاء كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم - نحن مستعدون أن نتحمل خطاياكم ونجازى بها دونكم فأكذبهم الله تعالى بقوله: { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } و { إنهم لكاذبون } في قولهم ولنحمل خطاياكم. وقال تعالى مقسما بعزته وجلاله: { وليحملن أثقالهم } أي أوزارهم { وأثقالا مع أثقالهم } أي وأوزارا أي ذنوبا مع أوزارهم التي هي ذنوبهم وذلك من أجل ما قالوا لهم. { وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } أي يكذبون من أنهم يحملون خطايا المؤمنين يوم القيامة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب بر الوالدين في المعروف وعدم طاعتهما فيما هو منكر كالشرك والمعاصي.
2- بشرى المؤمنين العاملين للصالحات بإدخالهم الجنة مع النبيين والصديقين.
3- ذم النفاق وكفر المنافقين وإن ادعوا الإيمان فما هم بمؤمنين.
4- بيان ما كان عليه غلاة الكفر في مكة من العتو والطغيان.
5- تقرير مبدإ من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها كما في الحديث الصحيح.
[29.14-15]
شرح الكلمات:
ولقد أرسلنا نوحا: أي نوحا بن لمك بن متوشلخ بن إدريس من ولد شيث بن آدم، بينه وبين آدم ألف سنة.
فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما: أي فمكث فيهم يدعوهم إلى الله تعالى تسعمائة وخمسين سنة.
فأخذهم الطوفان: أي الماء الكثير الذي طاف بهم وعلاهم فأغرقهم.
وهم ظالمون: أي مشركون.
وجعلناها آية للعالمين: أي عبرة للناس يعتبرون بها فلا يشركون ولا يعصون.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى ما كان يلاقيه رسوله والمؤمنون من مشركي قريش ذكر تعالى نوحا وإبراهيم وكلاهما قد عانى ولاقى ما لم يلاقه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليكون ذلك تسلية لهم وتخفيفا عنهم فقال تعالى: { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } وقوم نوح يومئذ هم البشرية جمعاء. إذ لم يكن غيرهم { فلبث فيهم } أي مكث يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وترك الأصنام الخمسة التي كانت لهم وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان هؤلاء الخمسة رجالا صالحين فلما ماتوا بنوا على قبورهم ووضعوا لهم تماثيل بحجة أنها تذكرهم بالله فيرغبوا في الطاعة والعمل الصالح ثم زين لهم الشيطان عبادتهم فعبدوهم فبعث الله تعالى إليهم نوحا رسولا فدعاهم إلى عبادة الله وترك عبادة هؤلاء { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } يدعوهم فلم يستجيبوا له
فدعا ربه أني مغلوب فانتصر
[القمر: 10] فاستجاب الله له فأنجاه وأصحاب السفينة وهم المؤمنون وهلك في الطوفان زوجته وولده كنعان وسائر البشر إلا نوحا ومن معه في السفينة، وكانوا قرابة الثمانين نسمة، وخلف نوحا ثلاثة أولاد هم سام وهو أبو العرب وفارس والروم وهم الجنس السامي وحام وهو أبو القبط والسودان والبربر ويافث وهو أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، هذا معنى قوله تعالى: { فأخذهم الطوفان وهم ظالمون } أي لأنفسهم بالشرك. { فأنجيناه وأصحاب السفينة } ومن بين ما فيها أبناؤه الثلاثة سام وحام ويافث ومنهم عمر الكون بالبشر شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وقوله { وجعلناهآ آية للعالمين } أي حادثة الطوفان ومنها السفينة ومكث تلك المدة الطويلة مع قلة المستجيبين { آية } أي عبرة { للعالمين } أي للناس ليعتبروا بها فلا يعصوا رسلهم ولا يشركون بربهم هذا إذا اعتبروا وقليل من يعتبر.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- بيان سنة الله تعالى في إرسال الرسل لهداية الخلق.
2- بيان قلة من استجاب لنوح مع المدة الطويلة فيكون هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاة من بعده.
3- بيان إهلاك الله تعالى الظالمين وإنجائه المؤمنين وهي عبرة للمعتبرين.
[29.16-18]
شرح الكلمات:
وإبراهيم: أي واذكر إبراهيم على قراءة النصب لإبراهيم، وعلى قراءة الرفع: ومن المرسلين إبراهيم.
اعبدوا الله واتقوه: أي آمنوا به ووحدوه في عبادته واتقوا أن تشركوا به وتعصوه.
أوثانا: أصناما وأحجارا وصورا وتماثيل.
وتخلقون إفكا: أي تختلقون الكذب فتقولون في الأصنام والأوثان آلهة وتعبدونها.
فابتغوا عند الله الرزق: أي اطلبوا الرزق من الله الخلاق العليم لا من الأصنام والتماثيل المصنوعة المنحوتة بأيدي الرجال بالمعاول والفؤوس.
واعبدوه: أي بالإيمان به وتوحيده واشكروه بطاعته.
وإن تكذبوا: أي يا أهل مكة بعد هذا الذي عرضنا عليكم من الآيات والعبر فقد كذب أمم من قبلكم.
وما على الرسول: أي محمد صلى الله عليه وسلم.
إلا البلاغ المبين: وقد بلغ وبين فبرئت ذمته وأنتم المكذبون ستحل بكم نقمة الله.
معنى الآيات:
هذا القصص معطوف على قصص نوح لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولتذكير قريش بأنها في إصرارها على الشرك والتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم صائرة إلى ما صار إليه المكذبون من قبل إن لم تتب إلى الله وترجع إليه بالإيمان والطاعة وترك الشرك والمعاصي قال تعالى: { وإبراهيم } أي واذكر يا رسولنا إبراهيم خليلنا { إذ قال لقومه } البابليين ومن بينهم والده آزر يا قوم { اعبدوا الله } أي بتوحيده في عبادته { واتقوه } بترك الشرك والعصيان وإلا حلت بكم عقوبته ونزل بكم عذابه وقوله { ذلكم خير لكم } أي الإيمان والتوحيد والطاعة خير لكم من الكفر والشرك والعصيان. إذ الأول يجلب الخير والثاني يجلب الشر { إن كنتم تعلمون } الخير والشر وتفرقون بينهما وقوله عليه السلام { إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } يخبرهم معرفا لهم بخطئهم فيقول { إنما تعبدون من دون الله أوثانا } أي أصناما وتماثيل وعبادة الأصنام والأوثان عبادة باطلة لا تجلب لكم نفعا ولا تدفع عنكم ضرا. إن الذي يجب أن يعبد الله الخالق الرازق الضار النافع المحيي المميت السميع البصير. أما الأوثان فلا شيء في عبادتها إلا الضلال واتباع الهوى. وقوله لهم { وتخلقون إفكا } أي وتصنعون كذبا تختلقونه اختلاقا عندما تقولون في التماثيل والأصنام إنها آلهة. وقوله عليه السلام لقومه { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا } يخبرهم عليه السلام معرفا لهم بحقيقة هم عنها غافلون وهي أن الذين يعبدونهم من دون الله لا يملكون لهم رزقا لأنهم لا يقدرون على ذلك فما الفائدة إذا من عبادتهم وما الحاجة الداعية إليها لولا الغفلة والجهل، ولما أبطل لهم عبادة الأصنام أرشدهم إلى عبادة الله الواحد القهار فقال { فابتغوا عند الله الرزق } إن كنتم عبدتم الأصنام لذلك فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فاطلبوا عنده الرزق فإنه مالكه والقادر على إعطائه { واعبدوه } بالإيمان به وبرسوله وبتوحيده { واشكروا له } يرزقكم ويحفظ عليكم الرزق وقوله { إليه ترجعون } ذكرهم بعلة غفلتهم ومصدر جهلهم وهي كفرهم بالبعث فأعلمهم أنهم إليه تعالى لا إلى غيره يرجعون.
إذا فليتعرفوا إليه ويعبدوه طلبا لرضاه وإكرامهم يوم يلقونه. وقوله تعالى { وإن تكذبوا } أي يا أهل مكة رسولنا وتنكروا وحينا وتكفروا بلقائنا فلستم وحدكم في ذلك. { فقد كذب أمم من قبلكم } قوم نوح وعاد وفرعون وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وغيرهم { وما على الرسول } أي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا البلاغ المبين وقد بلغكم وأنتم الآن بين خيارين لا ثالث لهما: الأول أن تتعظوا بما أسمعناكم وأريناكم من آياتنا فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا فتكملوا وتسعدوا وإما أن تبقوا على إصراركم على الشرك والكفر والعصيان فسوف يحل بكم ما حل بأمثالكم، إذ كفاركم ليسوا بخير من كفار أولئكم الذين انتقم الله منهم وأذاقهم سوء العذاب. هذا ما دلت عليه الآية [18] وهي معترضة بين الآيات التي اشتملت على قصص إبراهيم عليه السلام. وسر الاعتراض هو وجود فرصة في سياق الكلام قد تلفت أنظار القوم وتأخذ بقلوبهم إذ الآيات كلها مسوقة لهدايتهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب عبادة الله وتقواه طلبا للنجاة من الخسران في الدارين.
2- بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادة الله عن طريق الأدلة العقلية.
3- ما عبد الناس الأوثان إلا من جهلهم وفقرهم فلذا يجب أن يعلموا أن الله هو ربهم المستحق لعبادتهم وأن الله تعالى هو الذي يسد فقرهم ويرزقهم ومن عداه لا يملك ذلك لهم.
4- وجوب شكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته وصرف النعم فيما من أجله أنعم بها على عبده.
5- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيب المشركين من أهل مكة.
[29.19-23]
شرح الكلمات:
أولم يروا: أي ينظروا بأبصارهم فيعلموا بقلوبهم.
يبدئ الله الخلق: أي كيف يخلق المخلوق ابتداء.
ثم يعيده: أي ثم هو تعالى يعيده بعد بدئه وإفنائه يعيده لأن الإعادة أهون من البدء وقد بدأ وأفنى فهو بالضرورة قادر على الإعادة.
إن ذلك: أي أن الخلق الأول والثاني هو الإعادة.
على الله يسير: أي سهل لا صعوبة فيه، فكيف إذا ينكر المشركون البعث.
قل سيروا في الأرض: أي قل يا رسولنا لقومك المكذبين بالبعث سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الله الخلق وأنشأه، تستدلون بذلك على قدرته على البعث الآخر.
ثم الله ينشئ النشأة الآخرة: أي يحيي الناس بعد موتهم وهو البعث الآخر الذي أنكره الجاهلون.
وإليه تقلبون: أي ترجعون إليه لا إلى غيره أحياء كما كنتم فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم، الحسنة بخير منها والسيئة بمثلها جزاء عادلا.
وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء: أي بغالبين ولا فائتين بالهروب فإن الله غالبكم.
وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير: ليس لكم من ولي يتولاكم ولا نصير ينصركم من الله تعالى.
يئسوا من رحمتي: أي من دخول الجنة لأنهم كافرون أعظم كفر وهو التكذيب بالقرآن والبعث الآخر.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير أصول الدين التوحيد والنبوة والبعث وقد قررت الآيات السابقة أصلي التوحيد والنبوة المحمدية وفي هذه الآيات تقرير الأصل الثالث وهو البعث والجزاء في الدار الآخرة. قال: { أولم يروا } أي أولئك المنكرون للبعث، أيكذبون؟، ولم ينظروا كيف يبدئ الله الخلق أي خلق الإنسان، فإن ذلك دال على إعادته متى أراد الله الخالق ذلك، ثم هو تعالى يعيده متى شاء، { إن ذلك } أي الخلق والإعادة بعد الفناء والبلى { على الله يسير } سهل لا يتعذر عليه أبدا.
وقوله تعالى: { قل سيروا في الأرض } أي قل يا رسولنا للمكذبين بالبعث الآخر { سيروا في الأرض } شرقا وغربا { فانظروا كيف بدأ } تعالى خلق تلك المخلوقات التي تشاهدونها من أرض، وسماء، وأنهار، وأشجار، وحيوان، وإنسان، إنها كلها كانت عدما فأنشأها الله تعالى ثم هو سيفنيها { ثم الله ينشىء النشأة الآخرة } وذلك بأن يعيد حياة الإنسان ليحاسبه على كسبه في الدنيا ويجزيه به خيرا أو شرا، { إن الله على كل شيء قدير } إذا فلا يستنكر عليه إعادة الناس أحياء بعد نهاية هذه الحياة الدنيا ليحاسبهم ويجزيهم بما كانوا يعملون. وقوله تعالى: { يعذب من يشآء ويرحم من يشآء } هذه فائدة وحكمة البعث الآخرة وهي المجازاة على العمل في هذه الحياة فيعذب أهل الكفر به وبرسوله والذين لم يزكوا أنفسهم بالإيمان وصالح الأعمال فيدخلهم جهنم دار الشقاء والعذاب ويرحم أهل الإيمان والتقوى الذين زكوا أنفسهم بالإيمان والصالحات.
وقوله: { وإليه تقلبون } أي إلى الله ربكم ترجعون بعد الموت والفناء وإنشاء النشأة الآخرة وقوله { ومآ أنتم بمعجزين } أي الله تعالى { في الأرض ولا في السمآء } بل أنتم مقهورون له خاضعون لسلطانه لا يمكنكم الهرب منه ولا الخلاص بحال من الأحوال. وليس لكم من دونه تعالى ولي يتولاكم فيدفع عنكم العذاب ولا نصير ينصركم فلا تغلبون ولا تعذبون وقوله تعالى: { والذين كفروا بآيات الله } التي جاءت بها رسله { ولقآئه } وهو البعث الآخر الموجب للوقوف بين يدي الله للسؤال والحساب والجزاء هذا إن كان للعبد ما يحاسب عليه من الخير، أما إن لم يكن له حسنات فإنه يلقى في جهنم بلا حساب ولا وزن إذ ليس له من الصالحات ما يوزن له ويحاسب به، ولذا قال تعالى: { أولئك } أي المكذبون بآيات الله ولقائه { يئسوا من رحمتي } إذ تكذيبهم بالقرآن مانع من الإيمان والعمل الصالح وتكذيبهم بيوم القيامة مانع لهم أن يتخلوا عن الشرك والمعاصي، أو يعملوا صالحا من الصالحات لتكذيبهم بالجزاء، فهم يائسون من الجنة. { وأولئك لهم عذاب أليم } أي موجع وهو عذاب النار في جهنم والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب استعمال العقل للاستدلال على الغائب بالحاضر وعلى المعدوم بالموجود.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء وذكر أدلتها التفصيلية.
3- تقرير عجز الإنسان التام وأنه لا مهرب له من الله تعالى ربه ومالكه وهي حال تستدعي الفرار إلى الله اليوم بالإيمان والتقوى.
4- إنذار المكذبين بأنهم إن ماتوا على التكذيب بالبعث لا يدخلون الجنة بحال، وسيعذبون في نار جهنم أشد العذاب.
[29.24-25]
شرح الكلمات:
فما كان جواب قومه: أي قوم إبراهيم عليه السلام.
إلا أن قالوا اقتلوه: أي إلا قولهم اقتلوه أو احرقوه.
إن في ذلك لآيات: أي في كون النار لم تحرق الخليل ويخرج منها سالما.
لقوم يؤمنون: لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالآيات لحياة قلوبهم.
أوثانا مودة بينكم: أي اتخذتم أوثانكم آلهة تتوادون من أجل عبادتها وتتحابون لذلك.
في الحياة الدنيا: أي هذا التوادد والتحاب على الآلهة في الحياة الدنيا فقط أما الآخرة فلا.
يكفر بعضكم ببعض: أي يكفر المتبوعون بأتباعهم ويتبرأون منهم.
ويلعن بعضكم بعضا: يلعن الأتباع القادة الذين اتبعوهم في الباطل.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص إبراهيم الخليل عليه السلام فإنه لما أفحمهم بالحجة وبين لهم باطلهم وكشف لهم عن جهلهم وضلالهم لجأوا كعادة الطغاة من أهل الكفر والباطل إلى التهديد بالقوة فقالوا ما أخبر به تعالى عنهم: أي { فما كان جواب قومه } فما كان جوابهم أي عما سمعوا من الحجج والبراهين على بطلان الشرك وصحة التوحيد { إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه } أي إلا قولهم اقتلوا إبراهيم بالسيف ونحوه أو حرقوه بالنار، ونفذوا جريمتهم بالفعل وأوقدوا النار وألقوه فيها، وقال الله جل جلاله للنار
ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم
[الأنبياء: 69] فكانت كما أمرت وخرج إبراهيم سالما لم تحرق النار سوى كتافه الذي شد به يداه ورجلاه. وهو ما دل عليه قوله تعالى { فأنجاه الله من النار } وقوله تعالى { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } أي في كون النار لم تحرق إبراهيم فيتخلف طبعها وتصبح بردا وسلاما على إبراهيم فلم تحرقه، (آيات) أي دلائل قدرة الله تعالى ورحمته وحكمته ولكن تلك الآيات لا ينتفع بها غير المؤمنين، لأنهم أموات لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون. أما المؤمنون فهم أحياء فينتفعون بما يسمعون ويبصرون لأن الإيمان بمثابة الروح في البدن فإن وجد في القلب حيي الجسم وان فارقه فالجسم ميت فلا العين تبصر الأحداث ولا الأذن تسمع الآيات. وقوله: { إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا } هذا من جملة قول إبراهيم لقومه وهو يعظهم ويرشدهم فأخبرهم بحقيقة يتجاهلونها وهي أنهم ما اتخذذوا تلك الأوثان آلهة يعبدونها إلا لأجل التعارف عليها والتوادد والتحاب من أجلها، فيقيمون الأعياد لها ويجتمعون حولها فيأكلون ويشربون لا أنهم حقيقة يعتقدون أنها آلهة وهي أحجار نحتوها بأيديهم ونصبوها تماثيل في سوح دورهم وأمام منازلهم و { يوم القيامة } أي في الآخرة فالعكس هو الذي سيحدث لهم حيث { يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } أي يكفر المتبوعون وهم الرؤساء بمن اتبعوهم وهم الأتباع من الدهماء وعوام الناس، { ويلعن بعضكم بعضا } كل من الأتباع والمتبوعين يطلب بعد الآخر عنه، وعدم الاعتراف به وذلك عند معاينة العذاب ولم تبق تلك الروابط والصلات التي كانت لهم في هذه الحياة!! وقوله: { ومأواكم النار } أي ومقركم الذي يؤويكم جميعا فتستقرون فيه هو النار { وما لكم من ناصرين } بعد أن أذلكم الله الذي أشركتم به أوثانا، فجعلتموها مودة بينكم في الحياة الدنيا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير أن الظلمة سنتهم أنهم إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى استعمال القوة.
2- في عدم إحراق النار دليل على أن الله تعالى قادر على إبطال السنن إذا شاء ذلك، ومن هنا تكون الكرامات والمعجزات إذ هي خوارق للعادات.
3- بيان أن الخرافيين في اجتماعهم على البدع لم يكن ذلك عن علم بنفع البدعة وإنما لعنصر التوادد والتعارف والتلاقي على الأكل والشرب كما قال إبراهيم لقومه { إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا }.
[29.26-27]
شرح الكلمات:
فآمن له لوط: أي آمن بإبراهيم لوط وهو ابن أخيه هاران ولم يؤمن من قومه سواه.
مهاجر إلى ربي: أي إلى حيث أعبد ربي فلا أفتن في ديني.
ووهبنا له إسحاق ويعقوب: أي هاجر لأجلنا فأكرمناه في دار هجرته فوهبنا له ذرية هم إسحاق الابن ويعقوب الحفيد.
في ذريته النبوة والكتاب: فكل الأنبياء بعده من ذريته وكل الكتب التي أنزلت بعده فهي في ذريته.
وآتيناه أجره في الدنيا: وذلك بالرزق الحسن والثناء الحسن على ألسنة كافة الناس من أهل الأديان الإلهية.
وإنه في الآخرة لمن الصالحين: أي هو أحدهم، فيكرم كما يكرمون بالدرجات العلا، والصالحون هم أنبياء الله ورسله وأولياؤه وصالحو عباده.
معنى الآيات:
هذا آخر قصص إبراهيم الخليل في هذا السياق الكريم فأخبر تعالى أن إبراهيم بعد الجهاد الطويل في الدعوة إلى عبادة الرحمن الرحيم لم يؤمن له ولم يتابعه على الحق الذي دعا إليه إلا لوط بن هاران أخيه فقال تعالى: { فآمن له لوط وقال } أي إبراهيم { إني مهاجر إلى ربي } فترك بلاد قومه من سواد العراق وارتحل إلى أرض الشام فأكرمه الله تعالى جزاء هجرته إلى ربه عز وجل بما أخبر به في هذا السياق حيث قال: { ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } وهبه أي أعطاه ولده إسحاق بن سارة وولد إسحق وهو يعقوب، وجعل كافة الأنبياء من ذريته وجعل الكتاب فيهم أيضا فالتوراة أنزلت على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى وهم من ذرية إبراهيم، والقرآن الكريم أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم وقول إبراهيم هو كما قال: { إني مهاجر إلى ربي } وصف ربه بالعزة والحكمة. فقال: { إنه هو العزيز الحكيم } أي الغالب القاهر { الحكيم } الذي وضع كل شيء في موضعه، ودلائل العزة ان أنجى إبراهيم من أيدي الظلمة الطغاة ومن مظاهر الحكمة أن نقله من أرض لا خير فيها إلى أرض كلها خير وأكرمه فيها بما ذكر في قوله { ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } وقوله تعالى: { وآتيناه أجره في الدنيا } حيث رزقه أطيب الأرزاق في دار هجرته ورزقه الثناء الحسن من كل أهل الأديان الإلهية كاليهودية والنصرانية، والإسلام وهو خاتم الأديان هذا في الدنيا أما في الآخرة فإنه من الصالحين ذوي الدرجات العلا والمنازل العالية في مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حصيلة دعوة إبراهيم كذا سنة وأنها كانت إيمان واحد بها وهو لوط عليه السلام وفي هذا تسلية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
2- بيان إكرام الله تعالى لمن يهاجر إليه ويترك أهله وداره.
3- بيان ما أكرم الله تعالى به إبراهيم من خير الدنيا والآخرة جزاء صبره على دعوة الله تعالى.
[29.28-30]
شرح الكلمات:
ولوطا إذا قال لقومه: أي واذكر إذ قال لوط بن هاران لقومه أهل سدوم.
أئنكم لتأتون الفاحشة: أي الخصلة القبيحة وهي إتيان الذكران في أدبارهم.
ما سبقكم بها من أحد: أي لم تعرف البشرية قبل قوم لوط إتيان الذكران في أدبارهم.
وتقطعون السبيل: أي باعتدائكم على المارة في سبيل فامتنع الناس من المرور خوفا منكم.
وتأتون في ناديكم المنكر: أي مجالس أحاديثكم تأتون المنكر كالضراط وحل الإزار والفاحشة أي اللواط.
فما كان جواب قومه: أي إلا قولهم أئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص لوط عليه السلام مع قومه أهل سدوم وعمورية والغرض من سياقه تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذه القصص لا يتم لأحد إلا من طريق الوحي، وتسلية الرسول من أجل ما يلاقي من عناد المشركين ومطالبتهم بالآيات والعذاب قال تعالى: واذكر يا رسولنا لقومك لوطا { ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة } وهي الفعلة القبيحة ويزيدها قبحا أن الناس قبل قوم لوط لم تحدث فيهم هذه الخصلة ولم يعرفها أحد من العالمين، ثم واصل لوط إنكاره وتشنيعه عليهم فيقول: { أئنكم لتأتون الرجال } أي في أدبارهم { وتقطعون السبيل } وذلك أنهم كانوا يعتدون على المارة بعمل الفاحشة معهم قسرا وبسلب أموالهم وبذلك امتنع الناس من المرور فانقطعت السبيل، كما أنهم بإتيانهم الذكران عطلوا النسل بقطع سبيل الولادة، وزاد لوط في تأنيبهم والإنكار عليهم والتوبيخ لهم فقال { وتأتون في ناديكم المنكر } والنادي محل اجتماعهم وتحدثهم وإتيان المنكر فيه كان بارتكاب الفاحشة مع بعضهم بعضا، وبالتضارط فيه، وحل الإزار، والقذف بالحصى وما إلى ذلك مما يؤثر عنهم من سوء وقبح. قال تعالى: { فما كان جواب قومه } بعد أن أنبهم ووبخهم ناهيا لهم عن مثل هذه الفواحش { إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } أي ما كان جوابهم إلا المطالبة بعذاب الله، وهذه طريقة الغلاة المفسدين والظلمة المتكبرين، إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى القوة يستعملونها أو يطالبون بها. وقوله تعالى: { قال رب انصرني على القوم المفسدين } أي لما طالبوه بالعذاب، وقد أعياه أمرهم لجأ إلى ربه يطلب نصره على قومه الذين كانوا شر قوم وجدوا على وجه الأرض واستجاب الله تعالى له ونصره وسيأتي بيان ذلك في الآيات بعد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر قصص لا يتم إلا عن طريق الوحي.
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل ما يعاني من المشركين من كفر وعناد ومطالبة بالعذاب.
3- قبح الفاحشة وحرمتها وأسوأها فاحشة اللواط.
4- وجوب إقامة الحد على اللوطي الفاعل والمفعول لأن الله تعالى سماها فاحشة وسمى الزنا فاحشة ووضع حدا للزنى فاللوطية تقاس عليه، وقد صرحت السنة بذلك فلا حاجة إلى القياس.
5- التحذير من العبث والباطل قولا أو عملا وخاصة في الأندية والمجتمعات.
[29.31-35]
شرح الكلمات:
بالبشرى: أي إسحاق ويعقوب بعده.
هذه القرية: أي قرية لوط وهي سدوم.
قالوا نحن أعلم بمن فيها: أي قالت الرسل نحن اعلم بمن فيها.
كانت من الغابرين: أي كانت في علم الله وحكمه من الباقين في العذاب.
سيء بهم: أي حصلت لهم مساءة وغم بسبب مخافة أن يقصدهم قومه بسوء.
وضاق بهم ذرعا: أي عجز عن احتمال الأمر لخوفه من قومه أن ينالوا ضيفه بسوء.
رجزا: أي عذابا من السماء.
بما كانوا يفسقون: أي بسب فسقهم وهو إتيان الفاحشة.
ولقد تركنا منها آية: أي تركنا من قرية سدوم التي دمرناها آية بينة وهي خرابها ودمارها وتحولها إلى بحر ميت لا حياة فيه.
لقوم يعقلون: أي يعلمون الأسباب والنتائج إذا تدبروا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص لوط عليه السلام، إنه بعد أن ذكرهم وخوفهم عذاب الله قالوا كعادة المكذبين الهالكين فائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين وأنه عليه السلام استنصر ربه تعالى عليهم، واستجاب الله تعالى له وفي هذه الآية بيان ذلك بكيفيته، قال تعالى: { ولما جآءت رسلنآ إبراهيم } الخليل عم لوط { بالبشرى } التي هي ولادة ولد له هو إسحاق ومن بعده يعقوب ولد إسحاق عليه السلام كما قال تعالى:
فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب
[هود: 71]. { قالوا } أي قالت الملائكة لإبراهيم { إنا مهلكو أهل هذه القرية } يريدون قرية قوم لوط وهي سدوم وعللوا لذلك بقولهم { إن أهلها كانوا ظالمين } أي لأنفسهم بغشيان الذنوب وإتيان الفواحش، ولغيرهم إذ كانوا يقطعون السبيل وهنا قال لهم إبراهيم: { إن فيها لوطا } ليس من الظالمين بل هو من عباد الله الصالحين فأجابته الملائكة فقالوا: { نحن أعلم بمن فيها } منك يا إبراهيم. { لننجينه وأهله } من الهلاك { إلا امرأته كانت من الغابرين } وذلك لطول عمرها فسوف تهلك معهم لكفرها وممالأتها للظالمين. وقوله تعالى: { ولما أن جاءت رسلنا لوطا } أي ولما وصلت الملائكة لوطا قادمين من عند إبراهيم من فلسطين { سيء بهم وضاق بهم ذرعا } أي استاء بهم وأصابه غم وهم خوفا من قومه أن يسيئوا إليهم، وهم ضيوفه نازلون عليه ولما رأت ذلك الملائكة منه طمأنوه بما أخبر به تعالى في قوله: { وقالوا لا تخف } أي علينا { ولا تحزن } على من سيهلك من أهلك مع قومك الظالمين. { إنا منجوك } من العذاب أنت وأهلك أي زوجتك المؤمنة وبنتيك، { إلا امرأتك } أي العجوز الظالمة فإنها { من الغابرين } الذين طالت أعمارهم وستهلك مع الهالكين. وقوله تعالى في الآية [34]: { إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون } أي أخبرت الملائكة لوطا بما هم فاعلون لقومه وهو قولهم { إنا منزلون على أهل هذه القرية } أي مدينة سدوم { رجزا } أي عذابا من السماء وهي الحجارة بسبب فسقهم بإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.
قال تعالى: { ولقد تركنا منهآ } أي من تلك القرية { آية بينة } ، أي عظة وعبرة، وعلامة واضحة على قدرتنا على إهلاك الظالمين والفاسقين. وقوله تعالى: { لقوم يعقلون } إذ هم الذين يتدبرون في الأمور ويستخلصون أسبابها وعواملها ونتائجها وآثارها أما غير العقلاء فلا حظ لهم في ذلك ولا نصيب فهم كالبهائم التي تنساق إلى المجزرة وهي لا تدري وفي هذا تعريض بمشركي مكة وما هم عليه من الحماقة والغفلة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حلم إبراهيم ورحمته تجليا في دفاعه عن لوط وأهله.
2- تقرير مبدإ: من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، حيث العلاقة الزوجية بين لوط وامرأته العجوز لم تنفعها وهلكت لأنها كانت مع الظالمين بقلبها وسلوكها.
3- مشروعية الضيافة وتأكدها في الإسلام لحديث الصحيح
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ".
4- التنديد بالفسق عن طاعة الله وهو سبب هلاك الأمم والشعوب.
5- فضيلة العقل إذا استعمله صاحبه في التعرف إلى الحق والباطل والخير والشر.
[29.36-37]
شرح الكلمات:
وإلى مدين: أي وأرسلنا إلى قبيلة مدين، ومدين أبو القبيلة فسميت باسمه.
أخاهم شعيبا: أي أخاهم في النسب.
اعبدوا الله: أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا.
وارجوا اليوم الآخر: أي آمنوا به وتوقعوا مجيئه وما يحدث فيه.
ولا تعثوا في الأرض مفسدين: أي ولا تعيثوا في الأرض فسادا بأن تنشروا فيها الفساد وهو العمل بالمعاصي فيها.
فأخذتهم الرجفة: الهزة العنيفة والزلزلة الشديدة.
في دارهم جاثمين: لاصقين بالأرض أمواتا لا يتحركون.
معنى الآيتين:
هذا موجز لقصة شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين، والعبرة منه إهلاك تلك الأمة لما كذبت رسولها واستمرت على الشرك والمعاصي لعل قريشا تعتبر بما أصاب هذه الأمة من هلاك ودمار من أجل تكذيبها لرسولها وعصيانها لربها قال تعالى { وإلى مدين } أي وأرسلنا إلى مدين { أخاهم شعيبا } وهو نبي عربي فلما انتهى إليهم برسالته قال { يقوم اعبدوا الله } أي وحدوه في عبادته وأطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه من التطفيف في الكيل والوزن، { وارجوا اليوم الأخر } ، أي آمنوا بيوم القيامة وتوقعوا دائما مجيئه وخافوا ما فيه من أهوال وأحوال فإن ذلك يساعدكم على التقوى وقوله: { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } وذلك أنهم ينقصون الكيل والوزن ويبخسون الناس أشياءهم ويفسدون في الأرض بالمعاصي. وقوله تعالى: { فكذبوه } أي كذب أصحاب مدين نبيهم شعيبا فيما أخبرهم به ودعاهم إليه { فأخذتهم الرجفة } أي رجفة الهلاك من تحتهم فأصبحوا في دارهم جاثمين على الركب هلكى وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر.
2- حرمة الفساد في الأرض وذلك بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.
3- بيان نقمة الله تعالى على المكذبين والظالمين والفاسقين.
[29.38-40]
شرح الكلمات:
وعادا وثمودا: أي وأهلكنا عادا القبيلة وثمود القبيلة كذلك.
وقد تبين لكم من مساكنهم: أي تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم الخالية منهم بالحجر شمال الحجاز والشحر جنوب اليمن.
عن السبيل: أي سبيل الهدى والحق التي بينتها لهم رسلهم.
كانوا مستبصرين: أي ذوي بصائر لما علمتهم رسلهم.
وقارون وفرعون وهامان: أي وأهلكنا قارون بالخسف وفرعون وهامان بالغرق.
فاستكبروا: أي عن عبادة الله تعالى وطاعته وطاعة رسله.
وما كانوا سابقين: أي فائتين عذاب الله أي فارين منه، بل أدركهم.
فكلا أخذنا بذنبه: أي فكل واحد من المذكورين أخذناه بذنبه ولم يفلت منا.
ومنهم من أرسلنا عليه حاصبا: أي ريحا شديدة، كعاد.
ومنهم من أخذته الصيحة: أي ثمود.
ومنهم من خسفنا به الأرض: أي كقارون.
ومنهم من أغرقنا: كقوم نوح وفرعون.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات قبل ذي إهلاكه لقوم لوط وقوم شعيب وقوم نوح من قبل لما ردوا دعوته وكذبوا رسله ذكر بقية الأقوام الذين كذبوا بآيات الله ورسله فأهلكهم، فقال عز وجل: { وعادا وثمودا } أي وأهلكنا كذلك عادا قوم هود، وثمود قوم صالح! وقوله تعالى: { وقد تبين لكم من مساكنهم } أي وقد تبين لكم يا معشر كفار مكة ومشركي قريش من مساكنهم بالحجر والشجر من حضرموت ما يؤكد لكم إهلاكنا لهم، إذ مساكنهم الخاوية دالة على ذلك دلالة عين. وقوله تعالى: { وزين لهم الشيطان أعمالهم } أي وقد زين لهم الشيطان أعمالهم من الشرك والشر والظلم والفساد وصدهم بذلك التزيين عن السبيل، سبيل الإيمان والتقوى المورثة للسعادة في الدنيا والآخرة. وقوله: { وكانوا مستبصرين } أي ذوي بصائر أي معرفة بالحق والباطل والخير والشر ما علمتهم الرسل ولكن آثروا أهواءهم على عقولهم فهلكوا. وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين. وقوله تعالى: { وقارون وفرعون وهامان } أي أهلكنا قارون الإسرائيلي ابن عم موسى عليه السلام، أهلكناه ببغيه وكفره، فخسفنا به الأرض وبداره أيضا ، وفرعون وهامان أغرقناهما في اليم بكفرهما وطغيانهما وظلمهما واستعلائهما وذلك بعدما جاءهم موسى بالبينات من الآيات والحجج الواضحات التي لم تبق لهم عذرا في التخلف عن الإيمان والتقوى ولكن { فاستكبروا في الأرض } ، أرض مصر وديارها فرفضوا الإيمان والتقوى { وما كانوا سابقين } ولا فائتين فأحل الله تعالى بهم. نقمته وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين. ثم في الآية الأربعين من هذا السياق بين تعالى أنواع العذاب الذي أهلك به هؤلاء الأقوام، فقال: { فكلا } أي فكل واحد من هؤلاء المكذبين { أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا } أي ريحا شديدة كعاد. { ومنهم من أخذته الصيحة } كثمود { ومنهم من خسفنا به الأرض } كقارون { ومنهم من أغرقنا } كفرعون، وقوله تعالى. { وما كان الله ليظلمهم } أي لم يكن من شأن الله تعالى الظلم فيظلمهم، { ولكن كانوا } أي أولئك الأقوام { أنفسهم يظلمون } بالشرك والكفر والتكذيب والمعاصي فأهلكوها بذلك، فكانوا هم الظالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الشيطان هو سبب هلاك الأقوام وذلك بتزيينه لهم الشر والقبيح كالشرك والباطل والشر والفساد.
2- بيان أن الاستكبار كالظلم عاقبتهما الهلاك والخسران.
3- بيان أن الله تعالى ما أهلك أمة حتى يبين لها ما يجب أن تتقيه من أسباب الهلاك والدمار فإذا أبت إلا ذاك أوردها الله موارده.
[29.41-45]
شرح الكلمات:
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء: أي صفة وحال الذين اتخذوا أصناما يرجون نفعها.
كمثل العنكبوت اتخذت بيتا: أي لنفسها تأوي إليه.
أوهن البيوت: أضعف البيوت وأقلها جدوى.
يعلم ما يدعون من دونه من شيء: أي من الأوثان والأصنام وغيرها.
وهو العزيز الحكيم: أي الغالب على أمره الحكيم في تدبير أمور خلقه.
وما يعقلها إلا العالمون: أي العالمون بالله وآياته وأحكام شرعه وأسراره.
خلق الله السماوات والأرض بالحق: أي من أجل أن يعبد لا للهو ولا لباطل.
أتل ما أوحي إليك من الكتاب: اقرأ يا رسولنا ما أنزل إليك من القرآن.
وأقم الصلاة: بأدائها مقامة مراعى فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها.
تنهى عن الفحشاء والمنكر: أي الصلاة بما توجده من نور في قلب العبد يصبح به لا يقدر على فعل فاحشة ولا إتيان منكر.
ولذكر الله أكبر: أي ذكر الله عبده أكبر من ذكر العبد ربه كما أن ذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة وغيرهما.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى نقمته على أعدائه الذين كفروا به وأشركوا غيره في عبادته وكذبوا رسله وكان ذلك تنبيها وتعليما للمشركين والكافرين المعاصرين لنزول القرآن لعلهم يستجيبون للدعوة المحمدية فيؤمنوا ويوحدوا ويسلموا من العذاب والخسران. ذكر هنا في هذه الآيات مثلا لعبادة الأوثان في عدم نفعها لعابديها والقصد هو تقرير التوحيد، وإبطال الشرك العائق عن كمال الإنسان وسعادته وقال تعالى: { مثل الذين اتخذوا من دون الله } أي شركاء وهي الأصنام والأوثان يعبدونها راجين نفعها وشفاعتها لهم عند الله تعالى { كمثل العنكبوت اتخذت بيتا } لتأوي إليه قصد وقايتها مما تخاف من جراء برد أو اعتداء حشرة عليها، { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } والحال أن أوهن البيوت أي أضعفها وأحقرها شأنا وأقلها مناعة هو بيت العنكبوت فهذه حال المشركين الذين اتخذوا من دون الله { أوليآء } أي أصناما يرجون النفع، ودفع الضر بها فهم واهمون في ذلك غالطون، مخطئون، إنه لا ينفع ولا يضر إلا الله فليعبدوه وحده وليتركوا ما سواه. وقوله: { لو كانوا يعلمون } أي لو كان المشركون يعلمون أن حالهم في عبادتهم غير الله في عدم الانتفاع بها كحال العنكبوت في عدم الانتفاع ببيتها الواهي لما رضوا بعبادة غير الله وتركوا عبادة الله الذي بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء. وقوله تعالى: { إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء } فيه تهديد للمشركين المصرين على الشرك بأنه لا يخفى عليه ما هم عليه من دعاء غيره، ولو شاء لأهلكهم كما أهلك من قبلهم { وهو العزيز } أي الغالب على أمره { الحكيم } في تدبير خلقه ولذا يعجل العقوبة لمن يعجل لحكمة ويؤخرها لمن يؤخرها عنه لحكمة فلا يغتر المشركون بتأخير العذاب، ولا يستدلون به على رضا الله تعالى بعبادتهم، وكيف يرضاها وقد أهلك أمما بها وأنزل كتابه وبعث رسوله لإبطالها والقضاء عليها وقوله تعالى: { وتلك الأمثال نضربها للناس } أي وهذه الأمثال نضربها للناس لأجل إيقاظهم وتبصيرهم وهدايتهم، وما { وما يعقلهآ إلا العالمون } أي وما يدرك مغزاها وما تهدف إليه من التنفير من الشرك العائق عن كل كمال وإسعاد في الدارين { إلا العالمون } أي بالله وشرائعه وأسرار كلامه وما تهدي إليه آياته.
وقوله تعالى: { خلق الله السموت والأرض بالحق } إخبار بأنه تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض وهي مظاهر قدرته وعلمه وحكمته موجبة لعبادته بتعظيمه وطاعته ومحبته والإنابة إليه والخوف منه. وخلقهما بالحق لا بالباطل وذلك من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن كفر به فترك ذكره وشكره كان كمن عبث بالسماوات والأرض وأفسدها، لذا يعذب نظرا إلى عظم جرمه عذابا دائما أبدا. وقوله: { إن في ذلك لآية للمؤمنين } أي إن في خلق السماوات والأرض بالحق { لآية } أي علامة بارزة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته، وهذه موجبات ألوهيته على سائر عباده فهو الإله الحق الذي لا رب غيره. ولا إله سواه وبعد هذا البيان والبرهان لم يبق عذر لمعتذر، وعليه ف { اتل } أيها الرسول { ما أوحي إليك من الكتاب } تعليما وتذكيرا وتعبدا وتقربا { وأقم الصلاة } طرفي النهار وزلفا من الليل فإن في ذلك عونا كبيرا لك على الصبر والثبات وزادا عظيما لرحلتك إلى الملكوت الأعلى. وقوله تعالى: { إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر } تعليل للأمر بإقام الصلاة فإن الصلاة بما توجده من إشراقات النفس والقلب والعقل حال تحول بين العبد وبين التلوث بقاذورات الفواحش ومفاسد المنكر وذلك يفيد إقامتها لا مجرد أدائها والإتيان بها. وإقامة الصلاة تتمثل في الإخلاص فيها لله تعالى أولا ثم بطهارة القلب من الالتفات إلى غير الرب تعالى أثناء أدائها ثانيا، ثم بأدائها في أوقاتها المحددة لها وفي المساجد بيوت الله، ومع جماعة المسلمين عباد الله وأوليائه، ثم بمراعاة أركانها من قراءة الفاتحة والركوع والطمأنينة فيه والاعتدال والطمأنينة فيه، والسجود على الجبهة والأنف والطمأنينة فيه، وآخر أركانها الخشوع وهو السكون ولين القلب وذرف الدمع. هذه هي الصلاة التي توجد طاقة النور التي تحول دون الانغماس في الشهوات والذنوب وإتيان الفاحشة وارتكاب المنكر. وقوله تعالى: { ولذكر الله أكبر } أي أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من إقامة الصلاة لأن الصلاة أثناء أدائها مانعة عاصمة لكن إذا خرج منها، قد يضعف تأثيرها، أما ذكر الله بالقلب واللسان في كل الأحيان فهو عاصم مانع من الوقوع في الفحشاء والمنكر وفي اللفظ معنى آخر وهو أن ذكر الله للعبد في الملكوت الأعلى أكبر من ذكر العبد للرب في ملكوت الأرض ويدل عليه قوله:
" من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منه "
كما في الحديث الصحيح. وقطعا والله لذكر الرب العبد الضعيف أكبر من ذكر العبد الضعيف الرب العظيم. اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين لآلائك. وقوله: { والله يعلم ما تصنعون } فيه وعد وعيد، فإن علمه يترتب عليه الجزاء فمن كان يصنع المعروف جزاه به، ومن كان يصنع السوء جزاه به. اللهم ارزقنا صنائع المعروف وأبعد عنا صنائع السوء آمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني للأفهام.
2- تقرير التوحيد وإبطال التنديد.
3- فصل العلماء على غيرهم، العلماء بالله، بصفاته وأسمائه وآياته، وشرائعه، وأسرارها.
4- وجوب تلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، وذكر الله، إذ هي غذاء الروح وزاد العروج إلى الملكوت الأعلى.
5- بيان فائدة إقام الصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى بالقلب واللسان.
[29.46-49]
شرح الكلمات:
ولا تجادلوا أهل الكتاب: أي لا تحاجوا ولا تناظروا اليهود ولا النصارى.
إلا بالتي هي أحسن: أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن وهي الدعوة إلى الله بآياته والتنبيه على حججه.
إلا الذين ظلموا منهم: أي الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين بدفع الجزية وبقوا حربا على المسلمين.
وكذلك أنزلنا إليك الكتاب: أي وكإنزالنا الكتاب على من قبلك من الرسل أنزلنا إليك الكتاب.
فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون: أي كعبد الله بن سلام وإخوانه الذين آمنوا بالرسول وكتابه.
ومن هؤلاء من يؤمن به: أي ومن هؤلاء المشركين من يؤمن به وفعلا آمن به كثيرون.
ولا تخطه بيمينك: أي تكتب بيدك لأنك أمي لا تقرأ ولا تكتب.
لارتاب المبطلون: أي لشك اليهود في نبوتك ونزول القرآن إليك.
بل هو آيات بينات: أي محمد صلى الله عليه وسلم نعوته وصفاته آيات بينات في التوراة والإنجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.
وما يجحد بآياتنا إلا: أي وما يجحد بآيات الله الحاملة لنعوت الرسول الأمي وصفاته إلا الذين ظلموا أنفسهم بكتمان الحق والاستمرار على الباطل.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { ولا تجادلوا أهل الكتاب } هذا تعليم للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يأخذون به مستقبلا عندما يتصلون بأهل الكتاب ويحتكون بهم فقال عز وجل مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أمته { ولا تجادلوا أهل الكتاب } الذين هم اليهود والنصارى فنهاهم عن مجادلتهم وهي خصامهم ومحاجتهم ومناظرتهم { إلا بالتي هي أحسن } أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن وذلك بدعوتهم إلى الله تعالى ليؤمنوا برسوله ويدخلوا في دينه الإسلام والتنبيه على حجج الله وأدلة وحيه وكتابه. وقوله { إلا الذين ظلموا منهم } وهم الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين ولم يؤدوا الجزية وناصبوا المسلمين الحرب والعداء فهؤلاء لا يجادلون ولكن يحكم فيهم السيف فيقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقوله تعالى: { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }. هذا تعليم آخر للمؤمنين وهو: إن أخبرهم أهل الكتاب بشيء لا يوجد في الإسلام ما يثبته ولا ما ينفيه وادعوا هم أنه في كتابهم في هذه الحال فقولوا ما أرشدنا الله تعالى إلى قوله وهو: { آمنا بالذي أنزل إلينا } إلى آخر الآية حتى لا نكون قد كذبنا بحق ولا آمنا بباطل، وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا { آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }.
وقوله تعالى { وكذلك أنزلنآ إليك الكتاب } أي وكإنزالنا الكتب السابقة على رسل سبقوا كموسى وداود وعيسى عليهم السلام أنزلنا إليك أنت يا محمد الكتاب أي القرآن وقوله تعالى: { فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنآ إلا الكافرون }.
فهذا إخبار بغيب فكما علم الله تعالى المؤمنين كيف يكونون مع أهل الكتاب عندما يتصلون بهم ويعيشون معهم في المدينة وغيرها أخبر أن الذين آتاهم الكتاب أي التوراة والإنجيل وهم الراسخون في العلم يؤمنون أي بالقرآن وقد آمن عبد الله بن سلام وكثير من أحبار أهل الكتاب، وآمن من المشركين كثيرون فكان الأمر كما أخبر. وقوله تعالى: { وما يجحد بآياتنآ إلا الكافرون } فهو كما أخبر لا يجحد بالآيات القرآنية ويكذب بها إلا كافر مظلم النفس خبيثها وقوله تعالى: { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } هو كما قال عز وجل لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قبل القرآن أي كتاب، ولا كان يخط بيمينه أي كتاب لأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب أي فلو كان قبل نزول القرآن عليه يقرأ ويكتب لكان للمبطلين مجال للشك في صحة دعوى النبوة المحمدية ونزول القرآن عليه، ولكن لم يكن قبل القرآن يقرأ أي كتاب، ولم يكن يخط بيمينه أي خط ولا كتاب فلم يبق إذا للمشركين ما يحتجون به أبدا. وقوله تعالى { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } أي بل الرسول ونعوته وصفاته ومنها وصف الأمية آيات في التوراة والإنجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.. وقوله تعالى: { وما يجحد بآياتنآ } في التوراة والإنجيل والقرآن { إلا الظالمون } أنفسهم من الماديين اليهود والنصارى الذين يأكلون ويترأسون على حساب الحق والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) مشروعية مجادلة أهل الكتاب من أهل الذمة بالتي هي أحسن.
2) حرمة سؤال أهل الكتاب لقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل ".
3) منع تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم إذا أخبروا بشيء ووجوب قول: { آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }.
4) إخبار القرآن بالغيب قبل وقوعه فيقع كما أخبر فيكون ذلك آية على أنه وحي الله تعالى.
5) تقرير صفة الأمية في النبي صلى الله عليه وسلم كما هي في الكتب السابقة.
[29.50-52]
شرح الكلمات:
لولا أنزل عليه آيات: أي قال كفار قريش هلا أنزل على محمد آيات من ربه كناقة صالح، وعصا موسى.
قل إنما الآيات عند الله: أي قل يا رسولنا الآيات عند الله ينزلها متى شاء.
أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب: أي أو لم يكفهم فيما طلبوا من الآيات إنزالنا الكتاب عليك.
إن في ذلك لرحمة وذكرى: أي في القرآن رحمة وموعظة للمؤمنين فهو خير من ناقة صالح.
والذين آمنوا بالباطل: وهو ما يعبد من دون الله.
وكفروا بالله: وهو الإله الحق.
أولئك هم الخاسرون: أي حيث استبدلوا الكفر بالإيمان.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى: { وقالوا } أي أهل مكة { لولا أنزل عليه آيات من ربه } أي هلا أنزل على محمد آيات من ربه كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى إذ هذا الذي يعنون بالآيات أي معجزات خارقة للعادة. قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا رسولنا لقومك المطالبين بالآيات دليلا على صدق نبوتك قل لهم: أولا: الآيات التي تطالبون بها هي عند الله وليست عندى فهو تعالى ينزلها متى شاء وعلى من شاء. وثانيا { وإنمآ أنا نذير مبين } أي وظيفتي التي أقوم بها هي إنذار أهل الظلم من عاقبة ظلمهم وهي عذاب النار فلذا لا معنى بمطالبتي بالآيات. وثالثا أو لم يكفهم آية أن الله تعالى أنزل علي كتابه فأنا أتلوه عليكم صباح مساء فأي آية أعظم من كتاب من أمي لا يقرأ ولا يكتب تتلى آياته تحمل الهدى والنور وهو في الوقت نفسه رحمة وذكرى أي موعظة لقوم يؤمنون فهي معجزة ثابتة قائمة باقية يجد فيها المؤمنون الرحمة فيتراحمون بها ويجدون فيها الموعظة فهم يتعظون بها، فأين هذا من معجزة تبقى ساعة ثم تذهب وتروح كمائدة عيسى أو عصا موسى. ورابعا: شهادة الله برسالتي كافية لا يطلب معها دليل آخر على نبوتي ورسالتي، فقد قال لي ربي: { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا }. ربي الذي يعلم ما في السماوات والأرض من كل غيب ومن ذلك علمه بأني رسوله فشهد لي بذلك بإنزاله علي هذا الكتاب وأخيرا وبعد هذا البيان يقول تعالى { والذين آمنوا بالباطل } وهو تأليه المخلوقات من دون الله { وكفروا } بأولوهية الله الحق { أولئك } البعداء في الفساد العقلي وسوء الفهم { هم الخاسرون } في صفتهم حين اشتروا الكفر بالإيمان واستبدلوا الضلالة بالهدى.
هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث فلتعد تلاوتها بالتأني والتدبر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير النبوة المحمدية بالأدلة القاطعة التي لا ترد، وهي أربع كما ذكر آنفا.
2) بيان أكبر معجزة لإثبات النبوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي نزول القرآن الكريم عليه وفي ذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في البخاري:
" ما من نبي إلا أوتي ما على مثله آمن البشر، وكان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ".
3) القرآن الكريم رحمة وذكرى أي عبرة وعظة للمؤمنين به وبمن نزل عليه.
4) تقرير خسران المشركين في الدارين لاستبدالهم الباطل بالحق والعياذ بالله تعالى.
[29.53-55]
شرح الكلمات:
ويستعجلونك بالعذاب: أي يطلبون منك تعجيل العذاب لهم.
ولولا أجل مسمى: أي وقت محدد للعذاب لا يتقدمه ولا يتأخر عنه لجاءهم.
وليأتينهم بغتة: فجأة من حيث لا يخطر لهم على بال.
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين: أي من كل جانب وهم فيها وذلك يوم يغشاهم.
يوم يغشاهم العذاب: أي من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ذوقوا ما كنتم تعملون: أي ويقول لهم الجبار ذوقوا ما كنتم تعملون أي من الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآيات القريبة أن المكذبين بالرسالة المحمدية طالبوا بالعذاب تحديا منهم للرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا : إئتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين في أنك نبي ورسول إلينا وفي هذه الآية يعجب تعالى رسوله أي يحمله على أن يتعجب من حمق المشركين وطيشهم وضلالهم إذ يطالبون بالعذاب فيقول له { ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى } للعذاب أي وقت محدد له لا يتقدمه ولا يتأخره { لجآءهم العذاب }. ثم أخبر تعالى رسوله مؤكدا خبره فقال { وليأتينهم } أي العذاب { بغتة } لا محالة { وهم لا يشعرون } بوقت مجيئه، ثم كرر تعالى حمل رسوله على التعجب من سخف المشركين الذين لا يطيقون لسعة عقرب ولا نهشة أفعى يطالبون بالعذاب فقال { يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } لا محالة كقوله
أتى أمر الله
[النحل: 1] { يوم يغشاهم العذاب } أي يغطيهم ويغمرهم فيكون { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } وجهنم محيطة بهم ويقول الجبار تبارك وتعالى موبخا لهم { ذوقوا ما كنتم تعملون } من الشرك والمعاصي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) مشروعية التعجب إذا وجدت أسبابه الحاملة عليه.
2) بيان مدى حمق وجهل وسفه الكافرين والمشركين بخاصة.
3) بيان أن تأخير العذاب لم يكن عن عجز وإنما هو لنظام دقيق إذ كل شيء له أجل محدد لا يتقدم ولا يتأخر.
[29.56-60]
شرح الكلمات:
إن أرضي واسعة: أي هاجروا من بلاد لم تتمكنوا من العبادة فيها فإن أرض الله واسعة.
فإياي فاعبدون: فاعبدوني وحدي ولا تعبدوا معي غيري كما يريد منكم المشركون.
كل نفس ذائقة الموت: أي لا يمنعنكم الخوف من الموت أن لا تهاجروا في سبيل الله فإن الموت لا بد منه للمهاجرين ولمن ترك الهجرة.
ثم إلينا ترجعون: أي بعد موتكم ترجعون إلى الله فمن مات في سبيل مرضاته أكرمه وأسعده، ومن مات في معصيته أذاقه عذابه.
لنبوئنهم: أي لننزلنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار.
الذين صبروا: أي صبروا على الإيمان والهجرة متوكلين على الله تعالى.
وكأين من دابة لا تحمل رزقها: أي لا تطيق جمعه ولا حمله لضعفها، والله يرزقها فلا عذر لمن ترك الهجرة خوفا من الجوع والخصاصة.
وهو السميع العليم: أي السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأحوالهم وأعمالهم.
معنى الآيات:
لا شك أنه بعد ذلك التأنيب الإلهي للمشركين وتهديدهم بالعذاب وتوعدهم بعذاب جهنم وتوبيخهم فيها على شركهم وباطلهم لا شك أن رد الفعل من المشركين هو الضغط على المؤمنين المستضعفين في مكة فأرشدهم الله تعالى إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ليتمكنوا من عبادة الله تعالى، فناداهم بقوله عز وجل: { يعبادي الذين آمنوا } أي بي وبرسولي ولقائي { إن أرضي واسعة } فهاجروا فيها، ولا ترضوا بالبقاء مع الكفر تهانون وتلزمون بعبادة غيري من آلهة المشركين، { فإياي فاعبدون } لا تعبدوا معي غيري.
وعليه فهاجروا في سبيل مرضاتي ولا تخشوا موتا ولا فقرا فإن كل نفس ذائقة الموت هاجر صاحبها أو لم يهاجر { كل نفس ذآئقة الموت } وقوله: { ثم إلينا ترجعون } ، لا محالة فمن رجع إلينا وهو مؤمن مطيع منفذ لأوامرنا مجتنب نواهينا أسعدناه، ومن رجع إلينا وهو كافر بنا عاص لنا مهمل أوامرنا مرتكب نواهينا أشقيناه. وقوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا } أي لننزلنهم من الجنة دار الإسعاد { غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها. هذا بيان لمن مات وهو مؤمن عامل بالصالحات ومنها الهجرة في سبيل الله. وقوله { نعم أجر العاملين } أي ذلك الإنزال في الغرف في الجنان هو الإسعاد المترتب على الإيمان والهجرة والعمل الصالح فالإيمان والهجرة والعمل الصالح عمل والجنة وما فيها من النعيم أجرة ذلك العمل. وأثنى الله تعالى على الجنة فقال: { نعم أجر العاملين } ووصفهم بقوله { الذين صبروا } أي على الإيمان والهجرة والطاعة { وعلى ربهم يتوكلون } فخرجوا من ديارهم تاركين أموالهم لا يحملون معهم زادا كل ذلك توكلا على ربهم وقوله تعالى: { وكأين من دآبة لا تحمل رزقها } لضعفها وعجزها أي وكثير من الدواب من الإنسان والحيوان من يعجز حتى عن حمل طعامه أو شرابه لضعفه والله عز وجل يرزقه بما يسخر له من أسباب وما يهيئ له من فرص فيطعم ويشرب كالأقوياء والقادرين، وعليه فلا يمنعنكم عن الهجرة مخافة الفاقة والفقر فالله تعالى تكفل برزقكم ورزق سائر مخلوقاته.
{ وهو السميع } لأقوالكم { العليم } ببواطنكم وظواهركم وأعمالكم وأحوالكم فارهبوه ولا ترهبوا سواه فإن في طاعته السعادة والكمال وفي معصيته الشقاء والخسران.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) لا عذر لأحد في ترك عبادة الله وتوحيده فيها لأنه إن منع منها في بلد وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر.
2) لا معنى للخوف من الموت إذا وجب العمل كالهجرة والجهاد لأن الموت حق ولا بد منه.
3) بيان جزاء أهل الصبر والتوكل من أهل الإيمان والهجرة والتقوى.
4) لا يمنعن المؤمن من الهجرة خوفه من الجوع في دار هجرته إذ تكفل الله برزقه.
[29.61-64]
شرح الكلمات:
ولئن سألتهم: أي المشركين.
وسخر الشمس والقمر: أي ذللهما يسيران الدهر كله لا يملان ولا يفتران.
فأنى يؤفكون: أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته لهم. وهو أن الخالق المدبر هو الإله الحق الذي يجب توحيده في عبادته.
الله يبسط الرزق لمن يشاء: أي يوسع الرزق على من يشاء من عباده امتحانا للعبد هل يشكر الله أو يكفر نعمه.
ويقدر له: أي ويضيق عليه ابتلاء ليرى هل يصبر أو يسخط.
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءا فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله: إذا كيف يشركون به أصناما لا تنفع ولا تضر؟.
قل الحمد لله: أي قل لهم الحمد لله على ثبوت الحجة عليكم.
بل أكثرهم لا يعقلون: أي أنهم متناقضون في فهمهم وجوابهم.
وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب: أي بالنظر إلى العمل لها والعيش فيها فهي لهو يتلهى بها الإنسان ولعب يخرج منه بلا طائل ولا فائدة.
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان: أي الحياة الكاملة الخالدة، ولذا العمل لها أفضل من العمل للدنيا.
لو كانوا يعلمون: أي لو علم المشركون هذا لما آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك وتذكير المشركين لعلهم يوحدون. يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { ولئن سألتهم } أي ولئن سألت هؤلاء المشركين الذين يؤذون المؤمنين ويضطهدونهم من أجل توحيدهم لله تعالى لو سألتهم { من خلق السموت والأرض } أي من أوجدهما من العدم، ومن سخر الشمس والقمر في فلكيهما يسيران الحياة كلها ليجيبنك قائلين الله. { فأنى يؤفكون } أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته إنها حال تستدعي التعجب وقوله تعالى: { الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له } هذا مظهر من مظاهر الحكمة الإلهية والتدبير الحكيم وهو موجب له الألوهية ناف لها عما سواه. فهذا يبسط الرزق له فيوسع عليه في طعامه وشرابه وكسائه ومركوبه ومسكنه، وهذا يضيق عليه في ذلك لماذا؟والجواب إنه يوسع امتحانا للعبد هل يشكر أو يكفر، ويضيق ابتلاءا للعبد هل يصبر أو يسخط. ولذا فلا حجة للمشركين في غناهم وفقر المؤمنين فالغنى لا يدل على رضا الله على العبد ولا على سخطه. والفقر كذلك لا يدل على سخط ولا على رضا. وقوله تعالى { إن الله بكل شيء عليم } تقرير لحكمته ورحمته وعدله وتدبيره فهو يوسع لحكمة ويضيق لحكمة لعلمه بعباده وما يصلحهم وما يفسدهم إذ من الناس من يصلحه الغنى، ومنهم من يصلحه الفقر، والإفساد كذلك وقوله تعالى: { ولئن سألتهم من نزل من السمآء مآء فأحيا به الأرض من بعد موتها } أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين فقلت من نزل من السماء ماء المطر فأحيا به الأرض بعد موتها بالقحط والجدب لأجابوك قائلين: الله إذا قل لهم: الحمد لله على اعترافكم بالحق لو أنكم تعملون بمقتضاه فما دام الله هو الذي ينزل الماء ويحيى الأرض بعد موتها فالعبادة إذا لا تنبغي إلا له فلم إذا تعبدون معه آلهة أخرى لا تنزل ماء ولا تحيي أرضا ولا غيرها، { بل أكثرهم لا يعقلون } إذ لو عقلوا ما أشركوا بربهم أحجارا وأصناما ولا ما تناقضوا هذا التناقض في أقوالهم وأفعالهم يعترفون بالله ربا خالقا رازقا مدبرا ويعكفون على الأصنام يستغيثون بها ويدعونها ويعادون بل ويحاربون من ينهاهم عن ذلك.
وقوله تعالى: { وما هذه الحياة الدنيآ } أي التي أعمت الناس عن الآخرة وصرفتهم عن التزود لها ما هي { إلا لهو ولعب } إذ يتشاغل بها الكافر ويعمل لها الليل والنهار ثم يموت ويخرج منها صفر اليدين كالأطفال يلعبون طوال النهار ثم يعودون بلا شيء سوى ما نالهم من التعب فالواجب أن تحول إلى عمل صالح مثمر يتزود به العبد إلى آخرته إذ الآخرة هي الحيوان أي الحياة الكاملة الخالدة فلها يعمل العاملون، وفي عملها يتنافس المتنافسون. وهذا معنى قوله تعالى: { وإن الدار الآخرة } أي الدار الآخرة { لهي الحيوان } أي الحياة التي يجب أن نعمل لها لبقائها وخيريتها، وقوله: { لو كانوا يعلمون } أي نعم إذ لو علموا أن الآخرة خير لما أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن الآخرة، ولكن جهلهم هو سبب إعراضهم، فدواؤهم العلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) التعجب من تناقض المشركين الذين يؤمنون بربوبية الله ويجحدون ألوهيته.
2) بيان حقيقة وهي أن الغنى والفقر لا يدلان على رضا الرب ولا على سخطه، وإنما يدلان على علم الله وحكمته وحسن تدبيره.
3) بيان حقارة الدنيا وتفاهتها وعظمة الآخرة وعلو قيمتها. فلذا أحمق الناس وأشدهم سفاهة من يعمى عن الآخرة ويكفر بها ويبصر الدنيا ويؤمن بها.
[29.65-69]
شرح الكلمات:
في الفلك: أي في السفينة.
مخلصين له الدين: أي دعوا الله وحده فلم يذكروا معه غيره من الآلهة.
إذا هم يشركون: أي يفاجئونك بالشرك وهو دعاء غير الله تعالى.
ليكفروا بما آتيناهم: أي بنعمة الإنجاء من الغرق وغيرها من النعم.
فسوف يعلمون: أي سوف يعلمون عاقبة كفرهم إذا ألقوا في جهنم.
ويتخطف الناس من حولهم: أي يسبون ويقتلون في ديار جزيرتهم.
أفبالباطل يؤمنون: أي يؤمنون بالأصنام وهي الباطل، ينكر تعالى عليهم ذلك.
والذين جاهدوا فينا: أي بذلوا جهدهم في تصحيح عقائدهم وتزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم ثم بقتال أعداء الله من أهل الكفر المحاربين للإسلام والمسلمين.
لنهدينهم سبلنا: أي لنوفقنهم إلى معرفة ما يوصل إلى محبتنا ورضانا ونعينهم على تحصيله.
معنى السياق:
ما زال السياق الكريم في التنديد بالمشركين وشركهم فقد تقدم في السياق أنهم يعترفون بربوبية الله تعالى إذ لو سئلوا عمن خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر لقالوا الله ولو سئلوا عمن نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها لقالوا الله. ومع هذا هم يشركون بالله آلهة أوثانا، وكما يعترفون بربوبية الله ثم يشركون به الأصنام، فإنهم إذا ركبوا في الفلك أي في سفينة من السفن وجاءهم موج واضطربت بهم وخافوا الغرق دعوا الله تعالى { مخلصين له الدين } أي الدعاء فسألوه وحده دون آلهتهم أن ينجيهم من الغرق. { فلما نجاهم إلى البر } ونزلوا سالمين من الغرق إذا هم يشركون يفاجئونك بالشرك فهذا التناقض منهم كالتناقض في اعترافهم بربوبية الله تعالى ثم بالإشراك به. ومرد هذا إلى الجهل والتقليد والعناد والمجاحدة والمكابرة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى من هذا السياق وهي قوله { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون }.
وقوله تعالى في الآية [66]: { ليكفروا بمآ آتيناهم } أي عودتهم إلى الشرك بعد نجاتهم من الغرق ونزولهم في البر كان كأنه من أجل أن يكفروا بنعمة الله تعالى بإنجائهم من الغرق، إذ لو لم يكفروها لاستمروا على الاخلاص لله بدعائه وعبادته وحده دون الآلهة التي تركوها عند حلول الشدة ومعاينة البلاء. وقوله تعالى: { وليتمتعوا } قرئ بسكون اللام ورجح ابن جرير هذه القراءة فيكون المعنى: وليتمتعوا في دنياهم بما آتاهم الله من متاع الحياة الدنيا { فسوف يعلمون } عاقبة ذلك بعد موتهم وهي عذاب الآخرة، والأمر حينئذ في قوله وليتمتعوا للتهديد والوعيد.
أما على قراءة جر اللام وليتمتعوا فالجملة معطوفة على قوله ليكفروا اي أخلصوا في الشدة وأشركوا في الرخاء ليكفروا وليتمتعوا بما أوتوا في الحياة، ولم يكن ذلك بنافعهم ولا بمغن عنهم من الله شيئا فسوف يعلمون ما يحل بهم من عذاب وما ينزل بهم من بلاء وشقاء.
وقوله تعالى في الآية الثالثة [67] { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } أي ألم ير أولئك المشركون الكافرون بنعمة الله في الإنجاء من الغرق نعمة أخرى وهي أن جعل الله تعالى لهم حرما آمنا يسكنونه آمنين من غارات الأعداء وحروب الظالمين المعتدين، لا يعتدي عليهم في حرمهم ولا يظلمون في حين أن الناس من حولهم في أطراف جزيرتهم وأوساطها يتخطفون فتشن عليهم الغارات ويقتلون ويؤسرون في كل وقت وحين، أليست هذه نعمة من أعظم النعم تستوجب شكرهم لله تعالى بعبادته وترك عبادة ما سواه. ولذا قال تعالى عاتبا عليهم منددا بسلوكهم: { أفبالباطل يؤمنون } أي بالشرك وعبادة الأصنام يصدقون ويعترفون { وبنعمة الله يكفرون } أي يجحدون إنعام ربهم عليهم فلا يشكرونه بعبادته وتوحيده فيها. وقوله تعالى في الآية الرابعة [68] { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جآءه } وصفهم بالظلم الفظيع في حالتين الأولى في كذبهم على الله بتحريم ما أحل وتحليل ما حرم واتخاذ شركاء الله زاعمين أنها تشفع لهم عند الله عز وجل والثانية في تكذيبهم للحق الذي جاءهم به رسول الله وهو الدين الإسلامي بعقائده وشرائعه حيث كذبوا بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم. وبعد هذا التسجيل لأكبر ظلم عليهم قال تعالى: { أليس في جهنم مثوى للكافرين }؟ والاستفهام للتقرير أي إن في جهنم مثوى أي مسكنا للكافرين من أمثالهم وهم كافرون ظالمون وذلك جزاؤهم ولبئس الجزاء جهنم.
وقوله تعالى في الآية الخامسة [69] { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } في هذه الآية بشرى سارة ووعد صدق كريم، وذلك أن من جاهد في سبيل الله أي طلبا لمرضاة الله بالعمل على إعلاء كلمته بأن يعبد ولا يعبد معه سواه فقاتل المشركين يوم يؤذن له في قتالهم يهديه الله تعالى أي يوفقه إلى سبيل النجاة من المرهوب والفوز بالمحبوب، وكل من جاهد في ذات الله نفسه وهواه والشيطان وأولياءه فإن هذه البشرى تناله وهذا الوعد ينجز له وذلك أن الله مع المحسنين بعونه ونصره وتأييده على من جاهدهم في سبيل الله، والمراد من المحسنين الذين يحسنون نياتهم وأعمالهم وأقوالهم فتكون صالحة مثمرة لزكاة نفوسهم وطهارة أرواحهم. اللهم اجعلنا منهم وآتنا ما وعدتهم إنك جواد كريم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) بيان أن مشركي العرب لم يكونوا ملاحدة لا يؤمنون بالله تعالى وتقرير أنهم كانوا موحدين توحيد الربوبية مشركين في توحيد الألوهية أي العبادة.
2) إيقاظ ضمائر المشركين بتنبيههم بنعم الله تعالى عليهم لعلهم يشكرون.
3) لا ظلم أعظم من ظلم من افترى على الله الكذب، وكذب بالحق لما جاءه وانتهى إليه وعرفه فانصرف عنه مؤثرا دنياه متبعا لهواه.
4) بشرى الله لمن جاهد المشركين وجاهد نفسه والهوى والشياطين بالهداية إلى سبيل الفوز والنجاة في الحياة الدنيا والآخرة.
5) فضل الإحسان وهو إخلاص العبادة لله تعالى وأداؤها متقنة مجودة كما شرعها الله تعالى، وبيان هذا الفضل للإحسان بكون الله تعالى مع المحسنين بنصرهم وتأييدهم والإنعام عليهم وإكرامهم في جواره الكريم.
[30 - سورة الروم]
[30.1-7]
شرح الكلمات:
الم: هذه أحد الحروف المقطعة تكتب الم، وتقرأ ألف، لام، ميم.
غلبت: أي غلبت فارس الروم.
الروم: إسم رجل هو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم سميت به قبيلة لأنه جدها.
في أدنى الأرض: أي أقرب أرض الروم إلى فارس وهي أرض يقال لها الجزيرة " بين دجلة والفرات ".
وهم من بعد غلبهم سيغلبون: أي وهم أي الروم من بعد غلب فارس لهم سيغلبونها.
في بضع سنين: أي في فترة ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنين.
لله الأمر من قبل ومن بعد: أي الأمر في ذلك أي في غلب فارس أولا ثم في غلب الروم أخيرا لله وحده إذ ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن.
ويومئذ يفرح المؤمنون: أي ويوم تغلب الروم فارسا يفرح المؤمنون بنصر أهل الكتاب على المشركين عبدة النار، وبنصرهم هم على المشركين في بدر.
وعد الله: أي وعدهم الله تعالى وعدا وأنجزه لهم.
لا يخلف الله وعده: أي ليس من شأن الله خلف الوعد وذلك لكمال قدرته وعلمه.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون: كمال الله في قدرته وعلمه المستلزم لإنجاز وعده.
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا: أي لا يعلمون حقائق الإيمان وأسرار الشرع وإنما يعلمون ما ظهر من الحياة الدنيا كطلب المعاش من تجارة وزراعة وصناعة.
وهم عن الآخرة هم غافلون: أي عن الحياة الآخرة، وما فيها من نعيم وجحيم وما يؤدي إلى ذلك من عقائد وأفعال وتروك.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { الم }: أحسن أوجه التفسير لمثل هذه الحروف القول بأن الله أعلم بمراده به، مع الإشارة إلى أنه أفاد فائدتين الأولى أن هذا القرآن المؤلف من مثل هذه الحروف المقطعة قد أعجز العرب على تأليف مثله فدل ذلك على أنه وحي الله وتنزيله، وأن من نزل عليه نبي الله ورسوله وأن ما يحمل من تشريع هو حاجة البشرية ولا تصلح ولا تكمل ولا تسعد إلا به وعليه، والثانية أنها لما كان المشركون يمنعون من سماع القرآن مخافة تاثيره على المستمع له جاء تعالى بمثل هذه الفواتح للعديد من سور كتابه فكانت تضطرهم إلى الاستماع إليه لأن هذه الحروف لم تكن معهودة في مخاطباتهم.
وقوله تعالى: { غلبت الروم }: أي غلبت فارس الروم في { في أدنى الأرض } أي أرض الشام الأقرب إلى بلاد فارس وذلك في أرض الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات وقوله: { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } أي وهم من بعد غلب فارس الروم ستغلب الروم فارسا وقوله: { في بضع سنين }: أي في فترة زمانية ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنوات وقوله { لله الأمر من قبل ومن بعد } أي الأمر في ذلك لله تعالى من قبل الغلب ومن بعده إذ هو المتصرف في خلقه.
وقوله { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله } أي ويوم يغلب الروم فارسا يفرح المؤمنون بانتصار الروم على فارس لأن الروم أهل كتاب وفارسا مشركون يعبدون النار، كما يفرح المؤمنون أيضا بانتصارهم على المشركين في بدر إذ كان الوقت الذي انتصرت فيه الروم هو وقت انتصر فيه المؤمنون على المشركين في بدر. وهذا من الغيب الذي أخبر به القرآن قبل وقوعه فكان كما أخبر فأكد بذلك أن الإسلام وكتابه ورسوله حق. وقوله تعالى: { ينصر من يشآء وهو العزيز الرحيم } أي ينصر تعالى من يشاء نصره من عباده وقد شاء نصر المؤمنين والروم فنصرهم في وقت واحد منجزا بذلك وعده الذي واعد به منذ بضع سنين، وهو العزيز أي الغالب على أمره القادر على إنجاز وعده الرحيم بأوليائه وصالحي عباده. وقوله ولكن { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } كتدبير الله وقدرته وعزته وفوائد شرعه وأسرار دينه، ولكن يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا كتدبير معايشهم من زراعة وصناعة وتجارة، وفي نفس الوقت هم عن الحياة الآخرة غافلون عما يجب عليهم فعله وتركه ليسعدوا فيها بالنجاة من النار وسكنان الجنان في جوار الرحمن سبحانه وتعالى.
هداية الآيات:
من هداية الايات:
1) تقرير صحة الإسلام وأنه الدين الحق بصدق ما يخبر به كتابه من الغيوب.
2) بيان أن أهل الكتاب من يهود ونصارى أقرب إلى المسلمين من المشركين والملاحدة من بلاشفة شيوعيين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.
3) بيان أن أكثر الناس لا يعلمون ما يسعدهم في الآخرة ويكملهم من العقائد الصحيحة والشرائع الحكيمة الرحيمة التي لا يكمل الإنسان ولا يسعد إلا عليها، ويعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا كتدبير المعاش من زراعة وصناعة وتجارة، أما عن سر الحياة الدنيا ولماذا كانت فهم لا يعلمون شيئا كما هم عن الحياة الآخرة غافلون بالمرة فلا يبحثون عما يسعد فيها ولا عما يشقي. والعياذ بالله تعالى من الغفلة عن دار البقاء في السعادة أو الشقاء.
[30.8-10]
شرح الكلمات:
في أنفسهم: أي كيف خلقوا ولم يكونوا شيئا، ثم كيف أصبحوا رجالا.
إلا بالحق: أي لم يخلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي هو العدل.
وأجل مسمى: وهو نهاية هذه الحياة لتكون الحياة الثانية حياة الجزاء العادل.
بلقاء ربهم لكافرون: أي بالبعث والوقوف بين يدي الله ليسألهم ويحاسبهم ويجزيهم.
وأثاروا الأرض: قلبوها للحرث والغرس والإنشاء والتعمير.
وعمروها: أي عمروا الأرض عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون.
وجاءت رسلهم بالبينات: أي بالدلائل والحجج والبراهين من المعجزات وغيرها.
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: أي بتكذيبهم وشركهم ومعاصيهم فعرضوا أنفسهم للهلاك.
أساءوا السوأى: أي بالتكذيب والشرك والمعاصي والسوءى هي الحالة الأسوأ.
أن كذبوا بآيات الله: أي بتكذيبهم بآيات الله القرآنية واستهزائهم بها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المنكرين للبعث الآخر إلى الإيمان به من طريق ذكر الأدلة العقلية التي تحملها الآيات القرآنية فقوله تعالى { أولم يتفكروا في أنفسهم } أي أينكرون البعث ولم يتفكروا في أنفسهم كيف كانوا عدما ثم وجدوا أطفالا ثم شبابا ثم رجالا كهولا وشيوخا ثم يموتون أليس القادر على خلقهم وتربيتهم ثم إماتتهم قادر على بعثهم وحسابهم ومجازاتهم على كسبهم في هذه الحياة الدنيا وقوله تعالى { ما خلق الله السموت والأرض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى } أي لم يخلقهما عبثا بل خلقهما ليذكر ويشكر، ثم إذا تم الأجل المحدد لهما أفناهما ثم بعث عباده ليحاسبهم هل ذكروا وشكروا أو تركوا ونسوا وكفروا ثم يجزيهم بحسب إيمانهم وطاعتهم أو كفرهم وعصيانهم.
وقوله تعالى: { وإن كثيرا من الناس بلقآء ربهم لكافرون } يخبر تعالى أنه مع ظهور الأدلة وقوة الحجج على صحة عقيدة البعث والجزاء فإن كثيرا من الناس كافرون بالبعث والجزاء وقوله تعالى في الآية [9] { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } أي أيكذب أولئك المشركون بالبعث والجزاء ولم يسيروا في الأرض شمالا وجنوبا فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم هلاكا ودمارا، { كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض } بالإنشاء والتعمير والزراعة والفلاحة { وعمروهآ } عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء، { وجآءتهم رسلهم بالبينات } ، ولما أهلكهم لم يكن ظالما لهم بل كانوا هم الظالمين لأنفسهم. أليس في هذا دليلا على حكمة الله وعلمه وقدرته فكيف ينكر عليه بعثه لعباده يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم؟.
وقوله تعالى { ثم كان عاقبة الذين أساءوا } أي الأعمال فلم يصلحوها حيث كذبوا برسل الله وشرائعه. وقوله: { السوأى } أي عاقبة الذين أساءوا السوأى أي العاقبة السوأى وهو خسرانهم وهلاكهم، وقوله { أن كذبوا بآيات الله } أي من أجل أنهم كذبوا بآيات الله { وكانوا بها يستهزئون } وأصروا على ذلك ولم يتوبوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية المثبتة لها.
2) كفر أكثر الناس بالبعث مع كثرة الأدلة وقوتها.
3) مشروعية السير في الأرض للاعتبار مع اشتراط عدم حصول إثم في ذلك بترك واجب أو بفعل محرم.
4) بيان جزاء الله العادل في أن عاقبة الإساءة السوأى.
5) كفر الاستهزاء بالشرع وأحكامه والقرآن وآياته.
[30.11-16]
شرح الكلمات:
ثم إليه ترجعون: أي بعد إعادة الخلق وبعث الناس.
يبلس المجرمون: أي ييأسوا من النجاة وتنقطع حجتهم فلا يتكلمون.
وكانوا بشركائهم كافرين: أي يتبرءون منهم ولا يعترفون بهم.
يتفرقون: أي ينقسمون إلى سعداء أصحاب الجنة وأشقياء أصحاب النار.
في روضة يحبرون: أي في روضة من رياض الجنة يسرون ويفرحون.
في العذاب محضرون: أي مدخلون فيه لا يخرجون منه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض صور حية صادقة لما يتم بعد البعث من جزاء، فقوله تعالى { الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون } إعلان واضح صريح قاطع للشك مزيل للبس بأن الله رب السماوات والأرض وما بينهما هو الذي بدأ الخلق فخلق ما شاء ثم يميته ثم يعيده، وإليه لا إلى غيره ترجع الخليقة كلها راضية أو ساخطة محبة أو كارهة، هكذا قرر تعالى عقيدة البعث والجزاء مدللا عليها بأقوى دليل وهو وجوده تعالى وقدرته التي لا تحد وعلمه الذي أحاط بكل شيء وحكمته التي لا يخلو منها عمل، فقال { الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون }.
وقوله عز وجل في الآية الثانية عشر [12] { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } هذا عرض لما بعد البعث فذكر أنه لما تقوم الساعة ويبعث الناس يبلس المجرمون أي ييأسون من الرحمة وينقطعون عن الكلام لعدم وجود حجة يحتجون بها. وقوله { ولم يكن لهم من شركآئهم شفعاء } أي ولم يكن لهم من يشفع لهم من شركائهم الذين عبدوهم بحجة أنهم يشفعون لهم عند الله، فأيسوا من شفاعتهم وكفروا بهم أيضا أي أنكروا أنهم كانوا يعبدونهم خوفا من زيادة العذاب. هذه حال المجرمين الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي، الحامل عليها تكذيبهم بآيات الله ولقائه. وقوله تعالى { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } هذا عرض آخر يخبر تعالى أنه إذا قامت الساعة تفرق الناس على أنفسهم فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير، وبين ذلك مقرونا بعلله فقال: { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي صدقوا بالله ربا وإلها وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا لا دين يقبل غيره وبالبعث والجزاء حقا. { وعملوا الصالحات } أي عبدوا الله تعالى بما شرع لهم من العبادات إذ الصالحات هي المشروع من الطاعات القولية والفعلية فهؤلاء المؤمنون العاملون للصالحات { فهم في روضة } من رياض الجنة { يحبرون } أي يسرون ويفرحون بما لاقوه من الرضوان والنعيم المقيم، وذلك بفضل الله تعالى عليهم وبما هداهم إليه من الإيمان، وما وفقهم إليه من عمل الصالحات. وقوله: { وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون } فقد أخبر عن جزائهم مقرونا بعلة ذلك الجزاء وهو الكفر بتوحيد الله تعالى، والتكذيب بالآيات القرآنية وما تحمله من حجج وشرائع وأحكام، وبلقاء الآخرة وهو لقاء الله تعالى بعد البعث للحساب والجزاء، فجزاؤهم أن يحضروا في العذاب دائما وأبدا لا يغيبون عنه، ولا يفتر عنهم، وهم فيه خالدون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض مشاهد القيامة.
2) تقرير عقيدة أن لا شفاعة لمشرك ولا كافر يوم القيامة، وبطلان ما يعتقده المبطلون من وجود من يشفع لأهل الشرك والكفر.
3) تقرير مبدأ السعادة والشقاء يوم القيامة فأهل الإيمان والتقوى في روضة يحبرون، وأهل الشرك والمعاصي في العذاب محضرون.
[30.17-21]
شرح الكلمات:
فسبحان الله: أي سبحوا الله أي صلوا.
حين تمسون: أي تدخلون في المساء وفي هذا الوقت صلاة المغرب وصلاة العشاء.
وحين تصبحون: وتدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح.
وله الحمد في السماوات والأرض: أي وهو المحمود دون سواه في السماوات والأرض.
وعشيا: أي حين تدخلون في العشي وفيه صلاة العصر.
وحين تظهرون: أي تدخلون في الظهيرة وفيه صلاة الظهر.
ويخرج الحي من الميت: أي يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي ميتة.
ويخرج الميت من الحي: أي يخرج النطفة من الإنسان الحي والبيضة الميتة من الدجاجة الحية.
ويحي الأرض بعد موتها: أي يحييها بالمطر فتحيا بالنبات بعدما كانت يابسة ميتة.
وكذلك تخرجون: أي من قبوركم أحياء بعدما كنتم ميتين.
ومن آياته: أي ومن أدلة قدرته وعلمه وحكمته المقتضية لبعثكم بعد موتكم.
أن خلقكم من تراب: أي خلقه إياكم من تراب، وذلك بخلق آدم الأب الأول.
تنتشرون: أي في الأرض بشرا تعمرونها.
لتسكنوا إليها: أي لتسكن نفوسكم إلى بعضكم بعضا بحكم التجانس في البشرية.
وجعل بينكم مودة: أي محبة ورحمة أي شفقة إذ كل من الزوجين يحب الآخر ويرحمه.
معنى الآيات:
قوله سبحانه وتعالى في هذه السياق: { فسبحان الله......................... } الآية لما بين تعالى بدء الخلق ونهايته باستقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وهذا عمل يستوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله كما يستلزم حمده، ولما كانت الصلوات الخمس تشتمل على ذلك أمر بإقامتها في المساء والصباح والظهيرة والعشي فقال تعالى { فسبحان الله } أي سبحوا الله { حين تمسون } أي تدخلون في المساء وهي صلاة المغرب والعشاء { وحين تصبحون } أي تدخلون في الصباح وهي صلاة الصبح. وقوله تعالى { وله الحمد في السموت والأرض } يخبر تعالى أن له الحمد مستحقا له دون سائر خلقه في السماوات والأرض. وقوله { وعشيا } معطوف على قوله { وحين تصبحون } أي وسبحوه في العشي. وهي صلاة العصر { وحين تظهرون } أي وسبحوه حين تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر.
وقوله تعالى { يخرج الحي من الميت } أي ومن مظاهر الجلال والكمال الموجبة لحمده وطاعته والمقتضية لقدرته على بعث عباده ومحاسبتهم ومجازاتهم أنه يخرج الحي كالإنسان من النطفة والطير من البيضة والمؤمن من الكافر { ويخرج الميت من الحي } كالنطفة من الإنسان والبيضة من الدجاجة وسائر الطيور التي تبيض. وقوله { ويحي الأرض بعد موتها } أي ومن مظاهر وجوده وقدرته وعلمه ورحمته أيضا أنه يحيي الأرض أي بالمطر بعد موتها بالجدب والقحط فإذا هي رابية تهتز بأنواع النباتات والزروع وقوله: { وكذلك تخرجون } أي وكإخراجه الحي من الميت والميت من الحي وكإحيائه الأرض بعد موتها: يحييكم ويخرجكم من قبوركم للحساب والجزاء إذ القادر على الأول قادر على الثاني.
ولا فرق.
وقوله تعالى: { ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون } أي ومن آياته الدالة على وجوده وعلمه وقدرته المستوجبة لعبادته وحده والمقررة لقدرته على البعث والجزاء خلقه للبشرية من تراب إذ خلق أباها الأول آدم عليه السلام من تراب، وخلق حواء زوجه من ضلعه ثم خلق باقي البشرية بطريقة التناسل. فإذا هي كما قال سبحانه وتعالى: بشر ينتشرون في الأرض متفرقين في أقطارها يعمرونها بإذنه تعالى. وقوله تعالى: { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها } أي ومن آياته أي حججه وأدلته الدالة على وجوده وعلمه ورحمته المستوجبة لعبادته وتوحيده فيها والدالة أيضا على قدرته على البعث والجزاء خلقه لكم ايها الناس من أنفسكم أي من جنسكم الآدمي أزواجا أي زوجات لتسكنوا إليها بعامل التجانس، إذ كل جنس من المخلوقات يطمئن إلى جنسه ويسكن إليه، وقوله { وجعل بينكم مودة ورحمة } أي جعل بين الزوجين مودة أي محبة ورحمة أي شفقة إلا إذا ظلم أحدهما الآخر فإن تلك المودة وتلك الرحمة قد ترتفع حتى يرتفع الظلم ويسود العدل والحق. وقوله تعالى: { إن في ذلك لآيات } أي دلائل وحجج واضحة { لقوم يتفكرون } باستعمال عقولهم في النظر والفكر فإنهم يجدون تلك الأدلة على قدرة الله وعلمه ورحمته وكلها مقتضية لتوحيد الله ومحبته وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه، مع تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المجرمون المكذبون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) وجوب تنزيه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
2) وجوب حمد الله على آلائه وإنعامه.
3) وجوب إقام الصلاة.
4) بيان أوقات الصلوات الخمس.
5) بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه ورحمته المقتضية لتوحيده والمقررة لعقيدة البعث والجزاء.
[30.22-25]
شرح الكلمات:
ومن آياته: أي حججه وبراهينه الدالة على قدرته على البعث والجزاء.
واختلاف ألسنتكم: أي لغاتكم من عربية وعجمية والعجمية بينها اختلاف كثير .
وألوانكم: أي من أبيض وأصفر وأحمر وأسود والكل أبناء رجل واحد وامرأة واحدة.
للعالمين: أي للعقلاء على قراءة للعالمين بفتح اللام، ولأولي العلم على قراءة كسر اللام.
وابتغاؤكم من فضله: أي طلبكم الرزق بإحضار أسبابه من زراعة وتجارة وصناعة وعمل.
لقوم يسمعون: أي سماع تدبر وفهم وإدراك لا مجرد سماع الأصوات.
يريكم البرق خوفا وطمعا: أي إراءته إياكم البرق خوفا من اصواعق والطوفان وطمعا في المطر.
أن تقوم السماء والأرض بأمره: أي قيام السماء والأرض على ما هما عليه منذ نشأتهما بقدرته وتدبيره.
دعوة من الأرض: أي دعوة واحدة لا تتكرر وهي نفخة إسرافيل.
إذا أنتم تخرجون: أي من قبوركم أحياء للحساب والجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء بذكر الأدلة والبراهين العقلية فقوله تعالى: { ومن آياته } أي حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء وعلى وجوب توحيده { خلق السموت والأرض } فخلق بمعنى إيجاد السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من أكبر الأدلة وأقواها على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته وكلها موجبة لتوحيده ومثبتة لقدرته على البعث والجزاء، مقررة له، وقوله: { واختلاف ألسنتكم } أي لغاتكم من عربية وعجمية ولهجاتكم بحيث لكل ناطق لهجة تخصه يتميز بها إذا سمع صوته عرف بها من بين بلايين البشر، { وألوانكم } واختلاف ألوانكم أيها البشر من أبيض إلى أسود ومن أحمر إلى أصفر مع اختلاف الملامح والسمات بحيث لا يوجد اثنان من ملايين البشر لا يختلف بعضهما عن بعض حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر إن في هذا وذاك { لآيات للعالمين } أي لحججا ظاهرة وبراهين قاطعة بعضها للعالمين وذلك البياض والسواد وبعضها للعلماء كاختلاف اللهجات وملامح الوجوه والسمات المميزة الدقيقة والكل أدلة على قدرة الله وعلمه ووجوب عبادته وتوحيده في ذلك مع تقرير عقيدة البعث والجزاء.
وقوله { ومن آياته منامكم باليل والنهار وابتغآؤكم من فضله } أي ومن آياته الدالة على قدرته على البعث والجزاء منامكم بالليل فالنوم كالموت والانتشار في النهار لطلب الرزق كالبعث بعد الموت فهذه عملية للبعث بعد الموت تتكرر كل يوم وليلة في هذه الحياة الدنيا، وقوله { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } أي في ذلك المذكور من النوم والانتشار لطلب الرزق لدلائل وحجج على قدرة الله على البعث لقوم يسمعون نداء الحق والعقل يدعوهم إلى الإيمان بالبعث والجزاء فيؤمنون فيصبحون يعملون للقاء ربهم ويستجيبون لكل من يدعوهم إلى ربهم ليعبدوه ويتقربوا إليه.
وقوله تعالى في الآية الثالثة [24] { ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا } أي ومن حججه تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضيات توحيده والإيمان بلقائه إراءته إياكم ايها الناس البرق خوفا للمسافرين من الأمطار الغزيرة ومن الصواعق الشديدة أن تصيبهم، وطمعا في المطر الذي تحيا به مزارعكم وتنبت به أرضكم فيتوفر لكم أسباب رزقكم، وقوله: { وينزل من السمآء مآء فيحيي به الأرض بعد موتها } أي ومن آياته تنزيله تعالى من السماء ماء وهو ماء المطر فيحيي به الأرض بالنباتات والزروع بعد أن كانت ميتة لا حياة فيها لا زرع ولا نبت إن في ذلك المذكور من إنزال الماء وإحياء الأرض بعد إراءته عباده البرق خوفا وطمعا لآيات دلائل وحجج على قدرته على البعث والجزاء ولكن يرى تلك الدلائل ويعقل ويفهم تلك الحجج قوم يعقلون أي لهم عقول سليمة يستعملونها في النظر والاستدلال فيفهمون ويؤمنون.
وقوله تعالى: { ومن آياته أن تقوم السمآء والأرض بأمره } أي ومن آياته تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته والموجبة لتوحيده والمقررة لنبوة نبيه ولقائه للحساب والجزاء قيام السماء والأرض منذ خلقهما فلا السماء تسقط، ولا أرض تغور فهما قائمتان منذ خلقهما بأمره تعالى أليس في ذلك أكبر دليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم أحياء لحسابهم على كسبهم ومجازاتهم.
وقوله تعالى: { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذآ أنتم تخرجون } أي أقام السماء والأرض للحياة الدنيا يحيي فيهما ويميت حتى تنتهي المدة المحددة للحياة فيهلك الكل ويفنيه { ثم إذا دعاكم دعوة } بنفخ إسرافيل في الصور { إذآ أنتم تخرجون } من الأرض استجابة لتلك الدعوة، وذلك للحساب والجزاء العادل على العمل في هذه الحياة الدنيا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده وترك عبادة من سواه.
2) مشروعية طلب الرزق بالمشي في الأرض واستعمال الوسائل المشروعة لذلك.
3) تقرير أن الذين ينتفعون بأسماعهم وعقولهم هم أهل حياة الإيمان إذ الإيمان روح متى دخلت جسما حيي وأصبح صاحبه يسمع ويبصر ويفكر ويعقل.
4) تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإصلاح البشري بعد عقيدة الإيمان بالله ربا وإلها.
[30.26-29]
شرح الكلمات:
وله من في السماوات والأرض: أي خلقا وملكا وتصرفا وعبيدا.
كل له قانتون: أي كل من في السماوات والأرض من الملائكة والإنس والجن منقادون له تجري عليهم أحكامه كما أرادها فلا يتعطل منها حكم.
وهو أهون عليه: أي أيسر وأسهل نظرا إلى أن الإعادة أسهل من البداية.
وله المثل الأعلى: أي الوصف الأعلى في كل كمال فصفاته كلها عليا ومنها الوحدانية.
وهو العزيز الحكيم: أي الغالب على أمره الحكيم في قضائه وتصرفه.
ضرب لكم مثلا: أي جعل لكم مثلا.
من أنفسكم: أي منتزعا من أموالكم وما تعرفونه من أنفسكم.
كخيفتكم: أي تخوفكم من بعضكم بعضا أيها الأحرار.
نفصل الآيات: أي نبينها بتنويع الأسلوب وإيراد الحجج وضرب الأمثال.
بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم: أي ليس الأمر قصورا في البيان حتى لم يؤمن المشركون وإنما العلة اتباع المشركين لأهوائهم وتجاهل عقولهم.
فمن يهدي من أضل الله: أي لا أحد فالاستفهام للنفي.
معنى الآيات
ما زال السياق الكريم في تقرير قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره المشركون بذكر الأدلة العقلية وتصريف الآيات فقال تعالى { وله } أي لله المحي المميت الوارث الباعث سبحانه وتعالى { من في السموت والأرض } أي من ملائكة وجان وإنسان فهو خلقهم وهو يملكهم ويتصرف فيهم. وقوله: { كل له قانتون } أي مطيعون منقادون فالملائكة لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والجن والإنس منقادون لما أراده منهم من حياة وموت ونشور وأما عصيانهم في العبادات فهو غير مقصود لأنه التكليف الذي هو علة الحياة كلها ومع هذا فهم منفذون باختيارهم وإراداتهم الحرة ما كتبه عليهم أزلا والله أكبر ولله الحمد وقوله تعالى: { وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده } أي هو الله الذي يبدا خلق ما أراد خلقه في كل يوم وساعة من غير شيء ويهبه الحياة ثم يسلبها منه في آجال سماها ثم يعيده يوم القيامة أحب الناس أم كرهوا. وقوله { وهو أهون عليه } أي الإعادة أيسر وأسهل عليه فليس على الله شيء صعب ولا شاق ولا عزيز ممتنع، وإنما خرج الخطاب على أسلوب المتعجبين من إعادة الخلق بعد فنائه فأعلمهم أن المتعارف عليه عندهم أن الإعادة أسهل من البداءة ليفهموا ويقتنعوا، وإلا فلا شيء صعب على الله تعالى ولا شاق ولا عسير، إذ هو يقول للشيء متى أراده كن فيكون. وقوله تعالى { وله المثل الأعلى في السموت والأرض وهو العزيز الحكيم } وله أي لله سبحانه وتعالى الوصف الأكمل في السماوات والأرض وهو الألوهية والوحدانية فهو الرب الذي لا إله إلا هو المعبود في السماء والأرض لا إله إلا هو فيهما ولا رب غيره لهما وهو العزيز الغالب المنتقم ممن كفر به وعصاه الحكيم في تدبيره وتصريفه لشؤون خلقه.
وقوله تعالى { ضرب لكم مثلا من أنفسكم } أي جعل لكم مثلا مأخوذا منتزعا من أنفسكم وهو: { هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء في ما رزقناكم فأنتم فيه سوآء } أي إنه ليس لكم من مماليككم وعبيدكم شريك منهم يشارككم في أموالكم إذ لا ترضون بذلك ولا تقرونه أبدا، إذا فكذلك الله تعالى لا يرضى أن يكون من عبيده من هو شريك له في عبادته التي خلق كل شيء من أجلها.. وقوله { تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } أي تخافون عبيدكم كما تخافون بعضكم بعضا أيها الأحرار، أي لا يكون هذا منكم ولا ترضون به إذا فالله - وله المثل الأعلى - كذلك لا يرضى أبدا أن يكون مخلوق من مخلوقاته ملكا كان أو نبيا أو وثنا أو صنما شريكا له في عباداته.، وقوله: { كذلك نفصل الآيات } أي نبينها بتنويع الأساليب وضرب الأمثال { لقوم يعقلون } إذ هم الذين يفهمون معاني الكلام وما يراد من أخباره وقصصه وأمثاله وأوامره ونواهيه، وقوله تعالى { بل اتبع الذين ظلموا أهوآءهم بغير علم } أي ليس الأمر قصورا في الأدلة ولا عدم وضوح في الحجج وإنما الظالمون اتبعوا أهواءهم أي ما يهوونه ويشتهونه بغير علم من نفعة وجدواه لهم فضلوا لذلك. فمن يهديهم، وقد أضلهم الله حسب سنته في الإضلال. وهو معنى قوله تعالى: { فمن يهدي من أضل الله }؟ أي لا أحد وقوله { وما لهم من ناصرين } أي يهدونهم بعد أن أضلهم الله، والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير عقيدة البعث والتوحيد بذكر الأدلة وضرب الأمثال وتفصيل الآيات.
2) تفرد الرب تعالى بالمثل الأعلى في كل جلال وكمال.
3) استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام.
4) عظم فائدة هذا المثل { ضرب لكم مثلا من أنفسكم } الآية حتى قال بعضهم: فهم هذا المثل أفضل من حفظ كذا مسألة فقهية.
5) علة ضلال الناس اتباعهم لأهوائهم بغير علم وبانصرافهم عن الهدى بالاسترسال في اتباع الهوى.
[30.30-32]
شرح الكلمات:
فأقم وجهك للدين حنيفا: أي سدد وجهك يا رسولنا للدين الإسلامي بحيث لا تنظر إلا إليه.
حنيفا: أي مائلا عن سائر الأديان إليه، وهو بمعنى مقبلا عليه.
فطرة الله: أي صنعة الله التي صنع عليها الإنسان وهي قابليته للإيمان بالله تعالى.
لا تبديل لخلق الله: أي لا تعملوا على تغيير تلك القابلية للإيمان والتوحيد فالجملة خبرية لفظا انشائية معنى.
الدين القيم: أي المستقيم الذي لا يضل الآخذ به.
منيبين إليه: أي راجعين إليه تعالى بفعل محابه وترك مكارهه.
وكانوا شيعا: أي طوائف وأحزابا كل فرقة فرحة بما هي عليه من حق وباطل.
معنى الآيات:
لما قرر تعالى عقيدة التوحيد والبعث والجزاء بالأدلة وضمن ذلك عقيدة النبوة وإثباتها للنبي صلى الله عليه وسلم أمر رسوله والمؤمنون تبع له فقال { فأقم وجهك للدين حنيفا } أي أنصبوا وجوهكم أيها الرسول والمؤمنون للدين الحق دين الإسلام القائم على مبدأ التوحيد والعمل الصالح، فلا تلتفتوا إلى غيره من الأديان المنحرفة الباطلة. وقوله { فطرت الله التي فطر الناس عليها } أي أقيموا وجوهكم للدين الحق الذي فطر الله الإنسان عليه تلك الفطرة التي هي خلق الإنسان قابلا للإيمان والتوحيد. وقوله: { لا تبديل لخلق الله } أي لا تبدلوا تلك الخلقة ولا تغيروها بل نموها وأبرزوها بالتربية حتى ينشأ الطفل على الإيمان والتوحيد. فالجملة خبرية لفظا إنشائية معنى نحو فهل أنتم منتهون فهي بمعنى انتهوا وهي أبلغ من انتهوا فكذا: لا تبديل أبلغ من لا تبدلوا. وقوله: { ذلك الدين القيم } أي لزوم ما فطر عليه المرء من الإيمان بالله وتوحيده.. وابراز ذلك في الواقع بالإيمان بالله وبما أمر بالإيمان به من أركان الإيمان وبعبادة الله تعالى وهي طاعته بفعل ما يأمر به وينهى عنه مخلصا له ذلك لا يشاركه فيه غيره من سائر مخلوقاته هو الدين القيم الذي يجب أن يكون عليه الإنسان وقوله: { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يخبر تعالى بأن ما قرره من الدين القيم كما بينه في الآيات أكثر الناس لا يعلمونه ولا يعرفونه وهو كما أخبر سبحانه وتعالى: وقوله { منيبين إليه } أي أقيموا وجوهكم للدين القيم حال كونكم راجعين إليه تعالى تائبين إليه من كل دين غير هذا الدين، ومن كل طاعة غير طاعته تعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي. وقوله: { واتقوه } أي خافوه تعالى إذ عذابه شديد فلا تتركوا دينه لأي دين ولا طاعته لأي مطاع غير الله تعالى ورسوله وقوله: { وأقيموا الصلاة } أي حافظوا عليها في أوقاتها وأدوها كما شرعها كمية وكيفية فإنها سقيا الإيمان ومنمية الخشية والمحبة لله تعالى. وقوله تعالى: { ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } ينهى تعالى المؤمنين أهل الدين القيم الذي هو الإسلام أن يكونوا من المشركين في شيء من ضروب الشرك عقيدة أو قولا أو عملا.
فكل ملة غير الإسلام أهلها مشركون كافرون سواء كانوا مجوسا أو يهودا أو نصارى أو بوذة أو هندوكا أو بلاشفة شيوعيين إذ جميعهم فرقوا دينهم الذي يجب أن يكونوا عليه وهو دين الفطرة وهو الإسلام وكانوا شيعا أي فرقا وأحزابا كل فرقة تنتصر لما هي عليه وتتحزب له. فأصبح كل حزب منهم بما لديهم من دين فرحين به ظنا منهم أنه الدين الحق وهو الباطل قطعا، لأنه ليس دين الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان وهو الإسلام القائم على توحيد الله تعالى وعبادته بما شرع لعباده أن يعبدوه به ليكملوا على ذلك ويسعدوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) وجوب الإقبال على الله تعالى بعبادته والاخلاص له فيها.
2) الإسلام دين الله الذي خلق الإنسان متأهلا له ولا يقبل منه دين غيره.
3) وجوب الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه في كل حال.
4) وجوب تقوى الله عز وجل وإقام الصلاة.
5) البراءة من الشرك والمشركين.
6) حرمة الافتراق في الدين الإسلامي ووجوب الاتحاد فيه عقيدة وعبادة وقضاء.
[30.33-37]
شرح الكلمات:
وإذا مس الناس ضر: أي إذا مس المشركين ضر أي شدة من مرض أو فقر أو قحط.
منيبين إليه: أي راجعين بالضراعة والدعاء إليه تعالى دون غيره.
رحمة: بكشف ضر أو إنزال غيث وإصابة رخاء وسعة رزق.
يشركون: أي بربهم فيعبدون معه غيره بالذبح للآلهة والنذر وغيره.
ليكفروا بما آتيناهم: أي ليكون شكرهم لله كفرا بنعمه والعياذ بالله.
أم أنزلنا عليهم سلطانا: أي حجة من كتاب وغيره ينطق بشركهم ويقرره لهم ويأمرهم به.
بما قدمت أيديهم: أي بذنوبهم وخروجهم عن سنن الله تعالى في نظام الحياة.
إذا هم يقنطون: أي ييأسون من الفرج بزوال الشدة.
يبسط الرزق لمن يشاء: أي يوسعه امتحانا له.
ويقدر: أي يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى رسوله والمؤمنين بإقامة الدين ونهاهم أن يكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا أخبر تعالى عن المشركين أنهم إذا مسهم الضر وهو المرض والشدة كالقحط والغلاء ونحوها دعوا ربهم تعالى منيبين إليه أي راجعين إليه بالدعاء والضراعة لا يدعون غيره. وهو قوله تعالى { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه } وقوله: { ثم إذآ أذاقهم منه رحمة } أصابهم برحمة من عنده وهي الصحة والرخاء والخصب ونحوه { إذا فريق منهم } أي كثير { بربهم يشركون } فيعبدون الأصنام والأوثان بأنواع العبادات، وقوله { ليكفروا بمآ آتيناهم } أي أشركوا بالله بعد إنعامه عليهم ليكفروا بما آتاهم من نعمة كشف الضر عنهم إذا { فتمتعوا } أيها الكافرون بما خولكم الله من نعمة فسوف تعلمون عاقبة كفرهم لنعم الله وشرككم به يوم تردون عليه حفاة عراة لا ولي لكم من دونه تعالى ولا نصير.
وقوله تعالى: { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } أي ما الذي شجعهم على الشرك وجعلهم يصرون عليه حتى إذا تركوه ساعة الشدة عادوا إليه ساعة الرخاء أأنزلنا عليهم سلطانا أي حجة من كتاب ونحوه فهو ينطق بشركهم ويقرره لهم ويأمرهم به اللهم لا، لا، وإنما هو الجهل والتقليد والعناد وقوله { وإذآ أذقنا الناس رحمة فرحوا بها } هذه حال أهل الشرك والكفر والجهل من الناس إذا أذاقهم الله رحمة من خصب ورخاء وصحة فرحوا بها فرح البطر والأشر { وإن تصبهم سيئة } من جدب وقحط ومرض وفقر، { بما قدمت أيديهم } من الذنوب والمعاصي ومنها مخالفة سنن الله في الكون { إذا هم يقنطون } أي ييأسون من الفرج وذلك لكفرهم بالله وجهلهم بأسمائه وصفاته.
وقوله تعالى { أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر } أي ألم يروا بأعينهم أن الله يبسط الرزق أي يوسعه لمن يشاء امتحانا له أيشكر أم يكفر، { ويقدر } أي يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء أيصبر أم يضجر ويسخط.
إذ لو كانت لهم عيون يبصرون بها وقلوب يفقهون بها لما أيسوا من رحمة الله وفرجه ولا ما قنطوا. وقوله تعالى { إن في ذلك } أي المذكور من تدبير الله في خلقه بالإعطاء والمنع { لآيات } أي حججا ودلائل تدل المؤمنين على قدرة الله ولطفه ورحمته وحكمته في تدبير ملكه وملكوته فسبحانه من إله عظيم ورب غفور رحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) بيان جهل المشركين وضلال عقولهم بما ذكر تعالى من صفاتهم وأحوالهم.
2) بيان تهديد الله تعالى للمصرين على الشرك والكفر بعذاب يوم القيامة.
3) بيان حال أهل الشرك والكفر والجهل في فرحهم بالنعمة فرح البطر والأشر ويأسهم وقنوطهم عند نزول البلاء بهم والشدة.
4) مظهر حكمة الله وتدبيره في الرزق توسعة وتقديرا وإدراك ذلك خاص بالمؤمنين لأنهم أحياء يبصرون ويفهمون بخلاف الكافرين فهم أموات لا إبصار ولا إدراك لهم.
[30.38-40]
شرح الكلمات:
فآت ذا القربى حقه: أي أعط ذا القرابة حقه من البر والصلة.
والمسكين: أي المعدم الذي لا مال له أعطه حقه في الطعام والشراب والكساء.
وابن السبيل: أي أعط ابن السبيل أي المسافر حقه في الإيواء والطعام.
ذلك خير: أي ذلك الإنفاق خير من عدمه للذين يريدون وجه الله تعالى إذ يثيبهم ربهم أحسن ثواب.
وما آتيتم من ربا: أي من هدية أو هبة وسميت ربا لأنهم يقصدون بها زيادة أموالهم.
ليربوا في أموال الناس: أي ليكثر بسبب ما يرده عليكم من أهديتموه القليل ليرد عليكم الكثير.
فلا يربوا عند الله: أي لا يباركه الله ولا يضاعف أجره.
فأولئك هم المضعفون: أي الذين يؤتون أموالهم صدقة يريدون بها وجه الله فهؤلاء الذين يضاعف لهم الأجر أضعافا مضاعفة.
هل من شركائكم: أي من أصنامكم التي تعبدونها.
من يفعل من ذلكم من شيء: والجواب لا أحد، إذا بطلت ألوهيتها وحرمت عبادتها.
سبحانه وتعالى عما يشركون: أي تنزه الرب عن الشرك وتعالى عن المشركين.
معنى الآيات:
لما بين تعالى في الآية السابقة لهذه أنه يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا ويقدر على من يشاء ابتلاء أمر رسوله وامته التابعة له بإيتاء ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل، إذ منع الحقوق الواجبة لا يزيد في سعة الرزق ولا في تضييقه، إذ توسعة الرزق وتضييقه مرده إلى تدبير الله تعالى الحكيم العليم هذا ما دل عليه قوله تعالى { فآت ذا القربى حقه } أي من البر والصلة { والمسكين } وهو من لا يملك قوته { وابن السبيل } وهو المسافر ينزل البلد لا يعرف فيها أحدا، وحقهما: إيواءهما وإطعامهما وكسوتهما وقوله تعالى { ذلك خير للذين يريدون وجه الله } أي ذلك الإيتاء من الحقوق خير حالا ومآلا للذين يريدون وجه الله تعالى وما عنده من ثواب. وقوله: { وأولئك هم المفلحون } أي الفائزون بالنجاة من العذاب في الدنيا والآخرة، وبدخول الجنة يوم القيامة وقوله تعالى: { ومآ آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله } أي وما أعطيتم من هبات وهدايا تريدون بها أن يرد عليكم بأكثر مما أعطيتم فهذا العطاء لا يربوا عند الله ولا يضاعف أجره بل ولا يؤجر عليه وقوله: { ومآ آتيتم من زكاة } أي صدقات تريدون بها وجه الله ليرضى عنكم ويغفر لكم ويرحمكم، { فأولئك } أي هؤلاء الذين ينفقون ابتغاء وجه الله { هم المضعفون } أي الذين يضاعف لهم الأجر والثواب.
وقوله تعالى: { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم } يخبر تعالى المشركين من عباده موبخا لهم على شركهم مقرعا: الله لا غيره هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم رزقكم بما تنموا به أجسادكم وتحفظ به حياتكم من أنواع الأغذية ثم يميتكم عند نهاية آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة للحساب والجزاء على الكسب في هذه الدنيا ثم يقول لهم { هل من شركآئكم من يفعل من ذلكم } المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء { من شيء }؟ والجواب لا وإذا فلم تعبدونهم من دون الله، فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون.
ثم نزه تعالى نفسه عن الشرك، وتعالى عن المشركين فقال { سبحانه وتعالى عما يشركون }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) وجوب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة.
2) وجوب كفاية الفقراء وأبناء السبيل في المجتمع الإسلامي.
3) جواز هدية الثواب الدنيوي كأن يهدي رجل شيئا يريد أن يرد عليه أكثر منه ولكن لا ثواب فيه في الآخرة، وتسمى هذه الهدية: هدية الثواب وهي للرسول محرمة لقوله تعالى له:
ولا تمنن تستكثر
[المدثر: 6].
4) بيان مضاعفة الصدقات التي يراد بها وجه الله تعالى.
5) إبطال الشرك والتنديد بالمشركين وبيان جهلهم وضلال عقولهم.
[30.41-45]
شرح الكلمات:
ظهر الفساد في البر والبحر: أي ظهرت المعاصي في البر والبحر وتبعها الشر والفساد.
بما كسبت أيدي الناس: أي بسبب ما كسبته أيدي الناس من ظلم واعتداء.
ليذيقهم بعض الذي عملوا: أي تم ذلك وحصل ليذيقهم الله العذاب ببعض ذنوبهم.
لعلهم يرجعون: كي يرجعوا عن المعاصي إلى الطاعة والاستقامة.
قل سيروا في الأرض: أي قل يا رسولنا لأهل مكة المكذبين بك والمشركين بالله سيروا.
عاقبة الذين من قبل: أي كيف كانت نهاية تكذيبهم لرسلهم وشركهم بربهم إنها هلاكهم.
فأقم وجهك للدين القيم: أي استقم على طاعة ربك عابدا له مبلغا عنه منفذا لأحكامه.
لا مرد له من الله: أي لا يرده الله تعالى لأنه قضى بإتيانه وهو يوم القيامة.
يصدعون: أي يتفرقون فرقتين.
يمهدون: أي يوطئون ويفرشون لأنفسهم في منازل الجنة بإيمانهم وصالح أعمالهم.
معنى الآيات:
تقدم في السياق الكريم إبطال الشرك بالدليل العقلي إلا أن المشركين مصرون على الشرك وبذلك سيحصل فساد في الأرض لا محالة فأخبر تعالى عنه بقوله في هذه الآية الكريمة [41] فقال { ظهر الفساد في البر والبحر } أي انتشرت المعاصي في البر والبحر وفي الجو اليوم فعبد غير الله واستبيحت محارمه وأوذي الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم وذلك نتيجة الإعراض عن دين الله وإهمال شرائعه وعدم تنفيذ أحكامه. وقوله { بما كسبت أيدي الناس } أي بظلمهم وكفرهم وفسقهم وفجورهم. وقوله: ليذيقهم بعض الذي عملوا أي فما يصيبهم من جدب وقحط وغلاء وحروب وفتن إنما أصابهم الله به { ليذيقهم بعض الذي عملوا } من الشرك والمعاصي لا بكل ما فعلوا إذ لو أصابهم بكل ذنوبهم لأنهى حياتهم وقضى على وجودهم، ولكنه الرحمن الرحيم بعباده اللطيف بهم. وقوله تعالى { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل } قل يا رسولنا لكفار قريش المكذبين لك المشركين بربهم: سيروا في الأرض شمالا أو جنوبا أو غربا فانظروا بأعينكم كيف كان عاقبة الذين كذبوا رسلهم وكفروا بربهم من قبلكم إنها كانت دمارا وهلاكا فهل ترضون أن تكونوا مثلهم. وقوله { كان أكثرهم مشركين } أي كان أكثر أولئك الأقوام الهالكين مشركين فالشرك والتكذيب الذي أنتم عليه هو سبب هلاكهم وخسرانهم وقوله تعالى: { فأقم وجهك للدين القيم } أي استقم يا رسولنا أنت والمؤمنون معك على الدين الإسلامي إذ لا دين يقبل سواه فاعتقدوا عقائده وامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه وتأدبوا بآدابه وتخلقوا بأخلاقه وأقيموا حدوده وأحلوا حلاله وحرموا حرامه وادعوا إليه وعلموه الناس أجمعين، واصبروا على ذلك فإن العاقبة للمتقين وقوله: { من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله } أي افعلوا ذلك الذي أمرتكم به قبل مجيء يوم القيامة حيث لم يكن عمل وإنما جزاء، وقوله { لا مرد له من الله } أي إنه لا يرده الله إذا جاء ميعاده لأنه قضى بإتيانه لا محالة من أجل الجزاء على العمل في الدنيا.
وقوله { يومئذ يصدعون } أي يوم يأتي اليوم الذي لا مرد له يصدعون أي يتفرقون فرقتين كما يتصدع الجدار فرقتين فريق في الجنة وفريق في النار. وقوله: { من كفر فعليه كفره } أي من كفر اليوم فعائد كفره عليه يوم القيامة، { ومن عمل صالحا } أي اليوم { فلأنفسهم يمهدون } أي يوطئون فرشهم في الجنة إذ عائدة عملهم الصالح تعود عليهم لا على غيرهم، وقوله { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله } أي يصدعون فرقتين من أجل أن يجزي الله تعالى أولياءه المؤمنين العاملين للصالحات من فضله إذ أعمالهم حسبها أنها زكت نفوسهم فتأهلوا لدخول الجنة أما النعيم المقيم فيها فهو من فضل الله فقط، وقوله { إنه لا يحب الكافرين } هذه الجملة علة لجملة محذوفة إذ التقدير، ويجزي الكافرين بعدله وهو سوء العذاب لأنه لا يحب الكافرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) ظهور الفساد بالجدب والغلاء أو بالحرب والأمراض يسبقه حسب سنة الله تعالى ظهور فساد في العقائد بالشرك، وفي الأعمال بالفسق والمعاصي.
2) وجوب الاستقامة على الدين الإسلامي عقيدة وعبادة وقضاء وحكما.
3) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثه ووقائعه.
4) بيان أن الله تعالى يحب المتقين ويكره الكافرين.
[30.46-47]
شرح الكلمات:
ومن آياته أن يرسل الرياح: أي ومن حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء والموجبة لعبادته وحده.
مبشرات: أي تبشر العباد بالمطر وقربه .
وليذيقكم من رحمته: أي بالغيث والخصب والرخاء وسعة الرزق.
ولتبتغوا من فضله: أي لتطلبوا الرزق من فضله الواسع بواسطة التجارة في البحر.
ولعلكم تشكرون: أي كي تشكروا هذه النعم فتؤمنوا وتوحدوا ربكم.
رسلا إلى قومهم: أي كنوح وهو وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام.
فجاءوهم بالبينات: أي بالحجج والمعجزات.
الذين أجرموا: أي أفسدوا نفوسهم فخبثوها بآثار الشرك والمعاصي.
حقا علينا نصر المؤمنين: أي ونصر المؤمنين أحققناه حقا وأوجبناه علينا فهو كائن لا محالة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير ألوهية الله تعالى وعدله ورحمته، فقال تعالى { ومن آياته } أي ومن آياتنا الدالة على ألوهيتنا وعدلنا في خلقنا ورحمتنا بعبادنا إرسالنا الرياح مبشرات عبادنا بقرب المطر الذي به حياة البلاد والعباد فإرسال الرياح أمر لا يقدر عليه إلا الله، وتدبير يقصر دونه كل تدبير ورحمة تعلو كل رحمة. وقوله: { وليذيقكم من رحمته } أي بإنزال المطر المترتب عليه الخصب والرخاء، وقوله: { ولتجري الفلك } أي السفن في البحر إذ الرياح كانت قبل اكتشاف البخار هي المسيرة للسفن في البحر صغيرها وكبيرها. وقوله { بأمره } أي بإذنه وإرادته وتدبيره الحكيم، وقوله: { ولتبتغوا من فضله } أي لتطلبوا الرزق بالتجارة في البحر من إقليم إلى آخر تحملون البضائع لبيعها وشرائها وقوله: { ولعلكم تشكرون } أي فعل الله تعالى بكم ذلك فسخره لكم وأقدره عليه رجاء أن تشكروا ربكم بالإيمان به وبطاعته وتوحيده في عبادته. فهل أنتم يا عباد الله شاكرون؟، وقوله: { ولقد أرسلنا من قبلك } يا رسولنا { رسلا إلى قومهم } كنوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام فجاءوا أقوامهم بالبينات والحجج النيرات كما جئت أنت وقومك فكذبت تلك الأقوام رسلهم { فانتقمنا من الذين أجرموا } فأهلكناهم، ونجينا الذين آمنوا { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } ألا فلتعتبر قريش بهذا وإلا فستحل بها نقمة الله فيهلك الله المجرمين وينجي رسوله والمؤمنين كما هي سنته في الأولين والحمد لله رب العالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير الربوبية لله المستلزمة لألوهيته بذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والعدل.
2) بيان أن الله تعالى ينعم على عباده من أجل أن يشكروه بعبادته وتوحيده فيها فإذا كفروا تلك النعم ولم يشكروا الله تعالى عليها عذبهم بما يشاء كيف ومتى يشاء.
3) بيان أن الله منتقم من المجرمين وإن طال الزمن، وناصر المؤمنين كذلك.
[30.48-53]
شرح الكلمات:
فتثير سحابا: أي تحركه وتهيجه فيسير وينتشر.
ويجعله كسفا: أي قطعا متفرقة في السماء هنا وهناك.
فترى الودق: أي المطر يخرج من خلال السحاب.
إذا هم يستبشرون: أي فرحون بالمطر النازل لسقياهم.
لمبلسين: أي قنطين آيسين من إنزاله عليهم.
إن ذلك لمحيي الموتى: أي القادر على إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وهو الله تعالى.
فرأوه مصفرا: أي رأوا النبات والزرع مصفرا للجائحة التي أصابته وهي ريح الدبور المحرقة.
لظلوا من بعده يكفرون: أي أقاموا بعد هلاك زروعهم ونباتهم يكفرون نعم الله عليهم السابقة.
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا: أي ما تسمع إلا المؤمنين بآيات الله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مظاهر قدرة الله تعالى في الكون قال تعالى: { الله الذي يرسل الرياح } أي ينشئها ويبعث بها من أماكن وجودها فتثير تلك الرياح سحابا أي تزعجه وتحركه فيبسطه تعالى في السماء كيف يشاء من كثافة وخفة وكثرة وقلة، { ويجعله كسفا } أي قطعا فترى أيها الرائي الودق أي المطر يخرج من خلاله أي من بين أجزاء السحاب. وقوله { فإذآ أصاب به } أي بالمطر { من يشآء من عباده إذا هم } أي المصابون بالمطر في أرضهم. { يستبشرون } أي يفرحون. { وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم } أي المطر { من قبله لمبلسين } أي مكتئبين حزينين قانطين وقوله تعالى { فانظر إلى آثار رحمت الله } أي فانظر يا رسولنا إلى آثار رحمة الله أي إلى آثار المطر كيف ترى الأرض قد اخضرت بعد يبس وحييت بعد موت. فإذا رأيت ذلك علمت أن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى من قبورهم وذلك يوم القيامة وقوله { وهو على كل شيء قدير } تعليل لعظم قدرته وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى فعل كل شيء أراده. وقوله { ولئن أرسلنا ريحا } أي وعزتنا وجلالنا لئن أرسلنا ريحا فيه إعصار فيه نار فأحرقت تلك النباتات وأيبستها فرآها أولئك الذين هم بالأمس فرحون فرح بطر بالغيث { يكفرون } بربهم أي يقولون: ما هو كفر من ألفاظ السخط وعدم الرضا وذلك لجهلهم وكفرهم. وقوله تعالى: { فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين } أي إنك يا رسولنا لا تقدر على هداية هؤلاء الكافرين لأنهم صم لا يسمعون وعمي لا يبصرون لما ران على قلوبهم من الذنوب فعطل حواسهم وأنت بحكم بشريتك وقدرتك المحدودة لا تستطيع إسماع الموتى كلامك فيفهموه ويعملوا به كما لا تستطيع إسماع الصم نداءك إذا هم ولوا مدبرين إذ لو كانوا مقبلين عليك قد تفهمهم ولو بالإشارة أما إذا ولوا مدبرين عنك فلا يمكن إسماعهم.
إذا فهون على نفسك ولا تحزن عليهم. وقوله: { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون } أي إنك ما تسمع سماع قبول وانقياد وإدراك إلا من يؤمن بآياتنا أي إلا المؤمنين الذين آمنوا بآيات الله وعرفوا حججه فآمنوا به ووحدوه فهم مسلمون أي منقادون خاضعون مطيعون فهؤلاء في إمكانك إسماعهم وهدايتهم بإذن الله إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة والحجج العقلية.
2) بيان كيفية إنشاء السحاب ونزول المطر وهو مظهر من مظاهر القدرة والعلم الإلهي.
3) بيان حال الكافر في أيام الرخاء وأيام الشدة فهو في الشدة يقنط وفي الرخاء يكفر، وذلك لفساد قلبه بالجهل بالله تعالى وآياته.
4) الاستدلال بالمحسوس الحاضر على المحسوس الغيبي.
5) بيان أن الكفار أموات، ولذا هم لا يسمعون ولا يبصرون وأن المؤمنين أحياء لأنهم يسمعون ويبصرون، إذ الحياة لها آثارها في الجسم الحي والموت كذلك.
[30.54-57]
شرح الكلمات:
الله الذي خلقكم من ضعف: أي من نطفة وهي ماء مهين.
ثم جعل من بعد ضعف قوة: أي من بعد ضعف الطفولة قوة الشباب.
ثم جعل من بعد قوة ضعفا: أي من بعد قوة الشباب والكهولة ضعف الكبر والشيب
وشيبة: أي الهرم.
كذلك كانوا يؤفكون: أي كما صرفوا عن معرفة الصدق في اللبث كانوا يصرفون في الدنيا عن الإيمان بالبعث والجزاء في الآخرة فانصرافهم عن الحق في الدنيا سبب لهم عدم معرفتهم لمدة لبثهم في قبورهم.
لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم: أي في انكارهم للبعث والجزاء.
ولا هم يستعتبون: أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى { الله الذي خلقكم } وحده { من ضعف } أي من ماء مهين وهي النطفة ثم جعل من بعد ضعف أي ضعف الطفولة { قوة } وهي قوة الشباب { ثم جعل من بعد قوة } أي قوة الشباب والكهولة { ضعفا } أي ضعف الكبر { وشيبة } أي الهرم وقوله تعالى { يخلق ما يشآء وهو العليم } بخلقه { القدير } على ما يشاء ويريده فهو تعالى قادر على إحياء الأموات وبعثهم، إذ القادر على إيجادهم من العدم قادر على بعثهم من الرمم وقوله تعالى { ويوم تقوم الساعة } أي القيامة { يقسم المجرمون } أي يحلف المجرمون من أهل الشرك والمعاصي { ما لبثوا غير ساعة } أي لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من زمن. وقوله تعالى { كذلك كانوا يؤفكون } أي كما صرفوا عن معرفة الصدق في اللبث في القبر كانوا يصرفون في الدنيا عن الإيمان بالله تعالى ولقائه، والصارف لهم ظلمة نفوسهم بسبب الشرك والمعاصي. وقوله تعالى: { وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله } أي في كتاب المقادير { إلى يوم البعث } وهو يوم القيامة { فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون } لعدم إيمانكم بالله وبآياته والكتاب الذي أنزله.
وقوله فيومئذ أي يوم إذ يأتي يوم البعث { لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم } أي عن شركهم وكفرهم بلقاء ربهم، { ولا هم يستعتبون } أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضى الله تعالى من الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي.
هداية الآيات :
من هداية الآيات:
1) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية التي لا ترد بحال.
2) بيان أطوار خلق الإنسان من نطفة إلى شيخوخة وهرم.
3) فضل العلم والإيمان وأهلهما.
4) بيان أن معذرة الظالمين لا تقبل منهم، ولا يستعتبون فيرضون الله تعالى فيرضى عنهم.
[30.58-60]
شرح الكلمات:
ولقد ضربنا للناس: أي جعلنا للناس.
من كل مثل: أي من كل صفة مستغربة تلفت الانتباه وتحرك الضمير كالأمثال لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا.
ولئن جئتهم بآية: أي ولئن أتيت هؤلاء المشركين بكل حجة خارقة.
إن أنتم إلا مبطلون: أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون إلا مبطلون فيما تقولون وتدعون إليه من الإيمان بآيات الله ولقائه.
الذين لا يعلمون: أي ما أنزل الله على رسوله وما أوحاه إليه من الآيات البينات.
فاصبر إن وعد الله حق : أي اصبر يا رسولنا على أذاهم فإن العاقبة لك إذ وعدك ربك بها ووعد الله حق.
ولا يستخفنك الذين لا يوقنون: أي لا يحملنك هؤلاء المشركون المكذبون بلقاء الله على الخفة والطيش فتترك دعوتك إلى ربك.
معنى الآيات:
بعد إيراد العديد من الأدلة وسوق الكثير من الحجج وعرض مشاهد القيامة في الآيات السابقة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون من قريش قال تعالى: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } أي جعلنا للناس في هذا القرآن من أساليب الكلام وضروب التشبيه، وعرض الأحداث بصور مثيرة للدهشة موقظة للحس، ومنبهة للضمير، كل ذلك لعلهم يذكرون فيؤمنوا فيهتدوا للحق فينجوا ويسعدوا، ولكن أكثرهم لم ينتفعوا بذلك، { ولئن جئتهم بآية } أي بحجة من معجزة وغيرها تدل على صدقك وصحة دعوتك وما جئت به { ليقولن الذين كفروا } أي منهم. { إن أنتم } أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون { إلا مبطلون } أي من أهل الباطل فيما تقولون وتدعون إليه من الدين الحق والبعث الآخر. وقوله { كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون } أي كذلك الطبع على قلوب الكافرين الذين لو جئتهم بكل آية لم يؤمنوا عليها لما ران على قلوبهم وما ختم به عليها ، يطبع على قلوب الذين لا يعلمون، إذ ظلمة الجهل كظلمة الشرك والكفر تحجب القلوب عن الفهم والإدراك فلا يحصل إيمان ولا استجابة لدعوة الحق وقوله { فاصبر إن وعد الله حق } يأمر تعالى رسوله أن يلتزم بالصبر على دعوته والثبات عليها في وجه هذا الكفر العنيد، حتى ينصره الله تعالى إذ واعده بالنصر في غير ما آية ووعد الله حق فهو ناجز لا يتخلف. وقوله: { ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } أي اصبر ولا يحملنك عناد المشركين وإصرارهم على الكفر والتكذيب على الخفة والطيش والاستجهال بترك الحلم والصبر. والمراد بالذين لا يوقنون كل من لا يؤمن بالله ولقائه إيمانا يقينا إذ هذا الصنف من الناس هو الذي يستفز الإنسان ويحمله على أن يخرج عن اللياقة والأدب والعياذ بالله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) اعذار الله تعالى إلى الناس بما ساقه تعالى في كتابه من أدلة الإيمان وحجج الهدى.
2) أسوأ أحوال الإنسان عندما يطبع على قلبه لكثرة ذنوبه فيصبح لا يفهم ولا يعقل شيئا وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم.
3) وجوب الصبر والتزام الحلم والأناة مهما جهل الجاهلون.
[31 - سورة لقمان]
[31.1-5]
شرح الكلمات:
الم: هذا أحد الحروف المقطعة التي تكتب الم، وتقرأ: ألف لام ميم.
تلك: أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات الكتاب الحكيم.
الحكيم: أي المحكم الذي لا نسخ يطرأ عليه بعد تمام نزوله، ولا خلل فيه، وهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا خلط ولا خبط فيما يحمل من هدى وتشريع.
هدى ورحمة: أي هو هدى يهتدي به ورحمة يرحم بها.
للمحسنين: أي الذين يراقبون الله تعالى في كل شؤونهم إذ هم الذين يجدون الهدى والرحمة في القرآن الكريم أما غيرهم من أهل الشرك والمعاصي فلا يجدون ذلك.
أولئك: أي المحسنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوقنون بالآخرة.
على هدى من ربهم: أي هم على هداية من الله تعالى فلا يضلون ولا يجهلون معها أبدا.
المفلحون: أي الفائزون بالنجاة من كل مرهوب وبالظفر بكل مرغوب محبوب.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { الم } أحسن ما يفسر به مثل هذه الحروف المقطعة قول: الله أعلم بمراده به وقد أفادت هذه الحروف فائدة عظيمة، وذلك من جهتين الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن خشية التأثر به فيهتدي إلى الحق من يحصل له ذلك، وقالوا:
لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون
[فصلت: 26] كانت هذه الحروف بنغمها الخاص ومدودها العجيبة تضطر المشرك إلى الإصغاء والاستماع فحصل ضد مقصودهم وكفى بهذه فائدة. والثانية أنهم لما ادعوا أن القرآن سحر وكهانة وشعر وأساطير الأولين كأنما قيل لهم هذا القرآن الذي ادعيتم فيه كذا وكذا قد تألف من هذه الحروف ص، ن، ق، يس، طس، الم، فألفوا سورة مثله وأتوا بها للناس فيصبح لكم ما تدعون فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فآمنوا ووحدوا واستقيموا على ذلك تعزوا وتكرموا وتكملوا وتسعدوا.
وقوله: { تلك آيات الكتاب الحكيم } أي هذه الآيات هي آيات القرآن الكريم الموصوف بالحكمة إذ هو لا يخلط ولا يغلط ولا يخبط بل يضع كل شيء في موضعه اللائق به في كل ما قال فيه وحكم به، وأخبر عنه أو به من سائر المعارف والعلوم التي حواها كما هو حكيم بمعنى محكم لا نسخ يطرأ عليه بعد تمامه كما طرأ على الكتب السابقة، ومحكم أيضا بمعنى لا خلل فيه، ولا تناقض بين أخباره وأحكامه على كثرتها وتنوع أسبابها ومقتضيات نزولها، وقوله: { هدى ورحمة للمحسنين } أي هو بيان هداية ورحمة تنال المحسنين وهم الذين أحسنوا عبادتهم لربهم فخلصوها من الشرك والرياء وأتوا بها على الوجه المرضي لله تعالى وهو ما بينه رسوله صلى الله عليه وسلم من كيفيات العبادات وبيان فعلها وأدائها عليه.
وقوله { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون } أي المحسنين الذين يقيمون الصلاة أي يؤدون الصلوات الخمس مراعى فيها شروطها مستوفاة أركانها وسننها الواجبة منها والمستحبة، ويؤتون الزكاة أي يخرجون زكاة أموالهم الصامتة كالذهب والفضة أو العمل القائمة مقامهما والحرث من تمر وزيتون، وحبوب مقتاة مدخرة والناطقة من إبل وبقر وغنم وذلك إن حال الحول في الذهب والفضة والعمل وفي بهيمة الأنعام أما الحرث والغرس فيوم حصاده وجداده. وقوله: { وهم بالآخرة هم يوقنون } أي والحال هم موقنون بما أعده الله من ثواب وجزاء على الإحسان والإيمان والإسلام الذي دلت عليه صفاتهم في هذا السياق الكريم وقوله: { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } يخبر تعالى عن المحسنين أصحاب الصفات الكريمة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان باليوم الآخر والإيقان بثواب الله تعالى فيه أنهم على هدى أي طريق مستقيم وهو الإسلام هداهم الله تعالى إليه ومكنهم من السير عليه وبذلك أصبحوا من المفلحين الذين يفوزون بالنجاة من النار، وبدخول الجنة دار الأبرار. اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم انك بر كريم تواب رحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) بيان إعجاز القرآن حيث ألف من مثل الم، وص، وطس، ولم يستطع خصومه تحديه.
2) بيان معنى الحكيم وفضل الحكمة.
3) بيان أن القرآن بيان للهدى المنجي المسعد ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه.
4) فضل الصلاة والزكاة واليقين.
5) بيان مبنى الدين: وهو الإيمان والإسلام والإحسان.
[31.6-11]
شرح الكلمات:
ومن الناس: أي ومن بعض الناس إنسان هو النضر بن الحارث بن كلدة حليف قريش.
لهو الحديث: أي الحديث الملهي عن الخير والمعروف وهو الغناء.
ليضل عن سبيل الله: أي ليصرف الناس عن الإسلام ويبعدهم عنه فيضلوا.
ويتخذها هزوا: أي ويتخذ الإسلام وشرائعه وكتابه هزوا أي مهزوءا به مسخورا منه.
ولى مستكبرا: أي رجع في كبرياء ولم يستمع إليها كفرا وعنادا وكبرا كأن لم يسمعها.
في أذنيه وقرا: أي ثقل يمنع من السماع كالصمم.
بغير عمد ترونها: أي بدون عمد مرئية لكم ترفعها حتى لا تقع على الأرض.
رواسي: أي جبال راسية في الأرض بها ترسو الأرض أي تثبت حتى لا تميل.
وبث فيها من كل دابة: أي وخلق ونشر فيها من صنوف الدواب وهي كل ما يدب في الأرض.
من كل زوج كريم: أي من كل صنف من النباتات جميل نافع لا ضرر فيه.
هذا خلق الله: أي المذكور مخلوقه تعالى إذ هو الخالق لكل شيء.
من دونه: أي من الآلهة المزعومة التي يعبدها الجاهلون.
بل الظالمون: أي المشركون.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى عباده المحسنين وأثنى عليهم بخير وبشرهم بالفلاح والفوز المبين ذكر صنفا آخر على النقيض من الصنف الأول الكريم فقال: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم } أي ومن بعض الناس إنسان هو النضر بن الحارث الكلدي حليف قريش يشتري لهو الحديث أي الغناء إذ كان يشتري الجواري المغنيات ويفتح ناديا للهو والمجون ويدعو الناس إلى ذلك ليصرفهم عن الإسلام حتى لا يجلسوا إلى نبيه ولا يقرأوا كتابه بغير علم منه بعاقبة صنيعه وما يكسبه من خزي وعار وعذاب النار. وقوله { ويتخذها هزوا } أي يتخذ سبيل الله التي هي الإسلام هزوا أي شيئا مهزوءا به مسخورا منه بما في ذلك الرسول والمؤمنون والآيات الكل يهزأ به ويسخر منه لجهله وظلمة نفسه. قال تعالى { أولئك } لهم عذاب مهين أي أولئك البعداء وهم كل من يشتري الغناء يغني به نساء ورجال أو آلات ممن اتخذوا الإسلام وشرائعه هزوا وسخرية ليصدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله الموصلة إلى رضاه ومحبته وجنته. أولئك من تلك صفتهم لهم عذاب مهين بكسر أنوفهم وبذلهم يوم القيامة وقوله تعالى: { وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا }.
أي وإذا قرئت على هذا الصنف من الناس آيات الله لتذكيره وهدايته رجع مستكبرا كأن لم يسمعها تتلى عليه وهي حالة من أقبح الحالات لدلالتها على خبث هذا الصنف من الناس وكبرهم. وقوله { كأن في أذنيه وقرا } كأن به صمم لا يسمع القول وهنا عجل الله له بما يحزنه ويخزيه فقال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { فبشره بعذاب أليم } والتبشير بما يضر ولا يسر يحمل معه التهكم وهذا النوع من الناس مستحق لذلك وقوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها } هذا صنف آخر مقابل لما قبله وهم أهل الإيمان والعمل الصالح بشرهم ربهم بجنات النعيم والخلود فيها وقوله { وعد الله حقا } أي وعدهم بذلك وعدا صادقا لا يخلف وأحقه لهم حقا لا يسقط.
{ وهو العزيز } أي الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه.
وقوله { خلق السموت بغير عمد ترونها } أي من مظاهر قدرته وعزته وحكمته خلقه السماوات ورفعها بغير عمد مرئية لكم وفي هذا التعبير إشارة إلى أن هناك أعمدة غير مرئية وهي سنة نظام الجاذبية التي خلقها بقدرته وجعل الأجرام السماوية متماسكة بها. وقوله: { وألقى في الأرض رواسي } أي من مظاهر قدرته وحكمته إلقاء الجبال الرواسي على الأرض لتحفظ توازنها حتى لا تميل بأهلها فيفسد ويسقط ما عليها وتنعدم الحياة عليها وهو معنى { أن تميد بكم } أي تميل، وإذا مالت تصدع كل ما عليها وخرب وقوله: { وبث فيها من كل دآبة } وهذا مظهر آخر من مظاهر القدرة والعلم والحكمة الموجبة للإيمان بالله ولقائه والمستلزمة لتوحيده تعالى في عبادته، فسائر أنواع الدواب على كثرتها واختلافها الله الذي خلقها وفرقها في الأرض تعمرها وتزينها. وقوله { وأنزلنا من السمآء مآء } وهو ماء المطر { فأنبتنا فيها من كل زوج } أي صنف من أصناف الزروع والنباتات مما هو نافع وصالح للإنسان هذا المذكور أيضا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة الربانية الموجبة للإيمان بالله وآياته ولقائه وتوحيده في عباداته ومن هنا قال تعالى: { هذا خلق الله } أي كل ما ذكر من المخلوقات في هذه الآيات هو مخلوق لله والله وحده خالقه فأروني أيها المشركون المكذبون ماذا خلق الذين تعبدونهم من دونه من سائر المخلوقات يتحداهم بذلك. فعجزوا. وقوله تعالى { بل الظالمون في ضلال مبين } أي إنهم عبدوا غير الله وكذبوا بلقاء الله لا عن علم لديهم أو شبهة كانت لهم بل الظالمون وهم المشركون في ضلال مبين فهم تائهون في أودية الضلال حيارى بجهلهم في حياتهم فدواؤهم العلم والإيمان فمتى آمنوا وعلموا لم يبق مجال لكفرهم وشركهم وعنادهم فلهذا فصل تعالى الآيات وعرض الأدلة والحجج عرضا عجيبا لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا فيكملوا ويسعدوا فضلا منه ورحمة. وهو العزيز الرحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) حرمة غناء النساء للرجال الأجانب.
2) حرمة شراء الأغاني في الأشرطة والاسطوانات التي بها غناء العواهر والخليعين من الرجال.
3) حرمة حفلات الرقص والغناء الشائعة اليوم في العالم كافره ومسلمه.
4) دعوة الله تقوم على دعامتي الترهيب والترغيب والبشارة والنذارة.
5) بيان شتى مظاهر القدرة والعلم والعز والحكمة الموجب للإيمان والتوحيد.
6) لا قصور في الأدلة والحجج الإلهية وإنما ضلال العقول بالشرك والمعاصي هو المانع من الاهتداء. والعياذ بالله تعالى.
[31.12-15]
شرح الكلمات:
ولقد آتينا لقمان الحكمة: أي أعطينا لقمان القاضي: أي الفقه في الدين والعقل والإصابة في الأمور.
أن اشكر لله: أي اشكر لله ما أنعم به عليك بطاعته وذكره.
لابنه وهو يعظه: أي ابنه ثاران وهو يعظه أي يأمره وينهاه مرغبا له مرهبا.
ووصينا الإنسان: أي عهدنا إليه ببرهما وهو كف الأذى عنهما والإحسان إليهما وطاعتهما في المعروف.
وهنا على وهن: أي ضعفا على ضعف وشدة على شدة وهي الحمل والولادة والإرضاع.
وفصاله في عامين: أي مدة رضاعه تنتهي في عامين، وبذلك يفصل عن الرضاع.
وإن جاهداك: أي بذلا جهدهما في حملك على الشرك.
وصاحبهما في الدنيا معروفا: أي واصحبهما في حياتهما بالمعروف وهو البر والإحسان وكف الأذى والطاعة في غير معصية الله.
من أناب إلي: أي رجع إلي بتوحيدي وطاعتي وطاعة رسولي محمد صلى الله عليه وسلم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين وهذه القصة اللقمانية اللطيفة مشوقة لذلك قال تعالى: { ولقد آتينا لقمان الحكمة } أي أعطينا عبدنا لقمان الحكمة وهي الفقه في الدين والإصابة في الأمور ورأسها مخافة الله تعالى بذكره وشكره الذي هو طاعته في عبادته وتوحيده فيها. وقوله: { أن اشكر لله } أي وقلنا له اشكر الله خالقك ما أنعم به عليك بصرف تلك النعم فيما يرضيه عنك ولا يسخطه عليك. وقوله تعالى { ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه } أي ومن شكر الله بطاعته فإن ثمرة الشكر وعائدته للشاكر نفسه بحفظ النعمة والزيادة فيها أما الله فإنه غني بذاته محمود بفعاله فلا يفتقر إلى خلقه في شيء إذ هم الفقراء إليه سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: { وإذ قال لقمان } أي واذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين قول لقمان لابنه وأخص الناس به وهو ينهاه عن الشرك الذي نهيتكم أنا عنه فغضبتم وأصررتم عليه عنادا ومكابره فقال له: بما أخبر به تعالى عنه في قوله: { وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه } أي يأمره وينهاه مرغبا له في الخير مرهبا له من الشر: { يبني لا تشرك بالله } أي في عبادته أحدا. وعلل لنهيه ليكون أوقع في نفسه فقال: { إن الشرك لظلم عظيم } والظلم وضع الشيء في غير موضعه ويترتب عليه الفساد والخسران الكبير، وعبادة غير الله وضع لها في غير موضعها إذ العبادة حق الله على عباده مقابل خلقهم ورزقهم وكلاءتهم في حياتهم وحفظهم وقوله تعالى: { ووصينا الإنسان بوالديه } أي عهدنا إلى الإنسان آمرين أياه ببر والديه أي أمه وأبيه، وبرهما بذل المعروف لهما وكف الأذى عنهما وطاعتهما في المعروف، وقوله تعالى: { حملته } أي الإنسان أمه أي والدته { وهنا على وهن } أي ضعفا على ضعف وشدة على أخرى وهي آلام وأتعاب الحمل والطلق والولادة والإرضاع فلهذا تأكد برها فوق بر الوالد مرتين لحديث الصحيح:
" من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك "
وقوله { وفصاله في عامين } أي فطام الولد من الرضاع في عامين فأول الرضاع ساعة الولادة وآخره تمام الحولين ويجوز فصله عن الرضاع خلال العامين، وقوله: { أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } هذا الموصى به وهو أن يشكر لله تعالى وذلك بطاعته تعالى فيما يأمره به وينهاه عنه، وذكره بقلبه ولسانه وقوله { ولوالديك } إذ هما قدما معروفا وجميلا فوجب شكرهما، وذلك ببرهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله ورسوله، لأن طاعة الله كشكره قبل طاعة الوالدين وشكرهما وقوله { إلي المصير } أي الرجوع بعد الموت وهذه الجملة مؤكدة لواجب شكر الله تعالى وبر الوالدين لما تحمله من الترغيب والترهيب فالمطيع إذا رجع إلى الله أكرمه والعاصي أهانه. وما دام الرجوع إليه تعالى حتميا فطاعته بشكره وشكر الوالدين متأكدة متعينة. وقوله تعالى { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا } أي وإن جاهداك أيها الإنسان والداك وبذلا جهدهما في حملك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم وهو عامة الشركاء إذ ما هناك من يصح إشراكه في عبادة الله قط. فلا تطعهما في ذلك ابدا، { وصاحبهما في الدنيا } أي في الحياة بالمعروف وهو برهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله تعالى ورسوله، وقوله: { واتبع سبيل من أناب إلي } أي اتبع طريق من أناب إلي بتوحيدي وعبادتي والدعوة إلي وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم والآية نزلت في سعد ابن أبي وقاص حيث أمرته أمه أن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك قبل إسلامها وبذلت جهدا كبيرا في مراودة ابنها سعد رضي الله عنهما وقوله { إلي مرجعكم } أي جميعا فأنبكم بما كنتم تعملون وأجزكم بعملكم الخير بالخير والشر بالشر فاتقوني بطاعتي وتوحيدي والإنابة إلي في كل أموركم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.
2) بيان الحكمة وهي شكر الله تعالى بطاعته وذكره إذ لا يشكر إلا عاقل فقيه.
3) مشروعية الوعظ والإرشاد للكبير والصغير والقريب والبعيد.
4) التهويل في شأن الشرك وإنه لظلم عظيم.
5) بيان مدة الرضاع وهي في خلال العامين لا تزيد.
6) وجوب بر الوالدين وصلتهما.
7) تقرير مبدأ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق بعدم طاعة الوالدين في غير المعروف.
8) وجوب اتباع سبيل المؤمنين من أهل السنة والجماعة وحرمة اتباع سبيل أهل البدع والضلالة.
[31.16-19]
شرح الكلمات:
إنها إن تك مثقال حبة: أي توجد زنة حبة من خردل.
فتكن في صخرة: أي في داخل صخرة من الصخور لا يعلمها أحد.
لطيف خبير: أي لطيف باستخراج الحبة خبير بموضعها حيث كانت.
وأمر بالمعروف وانه عن المنكر: أي مر الناس بطاعة الله تعالى، وانههم عن معصيته.
من عزم الأمور: أي مما أمر الله به عزما لا رخصة فيه.
ولا تصعر خدك للناس: أي ولا تعرض بوجهك عمن تكلمه تكبرا.
مرحا: أي مختالا تمشي خيلاء.
مختال فخور: أي متبختر فخور كثير الفخر مما أعطاه الله ولا يشكر.
واقصد في مشيك: أي إتئد ولا تعجل في مشيتك ولا تستكبر.
واغضض من صوتك: أي اخفض من صوتك وهو الاقتصاد في الصوت.
إن أنكر الأصوات: أي أقبح الأصوات وأشدها نكارة عند الناس لأن أوله زفير وآخره شهيق.
معنى الآيات
ما زال السياق الكريم في قصص لقمان عليه السلام فقال تعالى مخبرا عن لقمان بقوله لابنه ثاران { يبني إنهآ إن تك مثقال حبة من خردل } أي إن تك زنة حبة من خردل من خير أو شر من حسنة أو سيئة { فتكن في صخرة أو في السموت أو في الأرض يأت بها الله } ويحاسب عليها ويجزي بها، { إن الله لطيف } أي باستخراجها { خبير } بموضعها وعليه فاعمل الصالحات واجتنب السيئات وثق في جزاء الله العادل الرحيم هذا ما دلت عليه الآية الأولى [16] أما الآية الثانية [17] فقد تضمنت أمر ولده باقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذلك فقال له ما أخبر تعالى به عنه في قوله: { يبني أقم الصلاة } أي أدها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، { وأمر بالمعروف } أي بطاعة الله تعالى فيما أوجب على عباده { وانه عن المنكر } أي عما حرم الله تعالى على عباده من اعتقاد أو قول أو عمل. { واصبر على مآ أصابك } من أذى ممن تأمرهم وتنهاهم، وقوله { إن ذلك من عزم الأمور } أي إن اقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذات الله من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليست برخص. وقوله تعالى { ولا تصعر خدك للناس } هذا مما قاله لقمان لابنه نهاه فيه عن خصال ذميمة محرمة وهي التكبر على الناس بأن يخاطبهم وهو معرض عنهم بوجهه لاو عنقه، وهي مشية المرح والاختيال والتبختر، والفخر بالنعم مع عدم شكرها وقوله تعالى { إن الله لا يحب كل مختال فخور } هذا مما قاله لقمان لابنه لما نهاه عن التكبر والاختيال والفخر أخبره أن الله تعالى لا يحب من هذه حاله حتى يتجنبها ولده الذي يعظه بها وبغيرها وقوله في الآية [19] { واقصد في مشيك } أي إمش متئدا في غير عجلة ولا إسراع إذ الاقتصاد ضد الإسراف.
وقوله: { واغضض من صوتك } أمره أن يقتصد في صوته أيضا فلا يرفع صوته إلا بقدر الحاجة. كالمقتصد لا يخرج درهمه إلا عند الحاجة وبقدرها وقوله { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } ذكر هذه الجملة لينفره من رفع صوته بغير حاجة فذكر له أن أقبح الأصوات صوت الحمير لأنه عال مرتفع وأوله زفير وآخره شهيق. هذا آخر ما قص تعالى من نبأ لقمان العبد الصالح عليه السلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) وجوب مراقبة الله تعالى وعدم الاستخفاف بالحسنة والسيئة مهما قلت وصغرت.
2) وجوب إقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يلحق الآمر والناهي من أذى.
3) حرمة التكبر والاختيال في المشي ووجوب القصد في المشي والصوت فلا يسرع ولا يرفع صوته إلا على قدر الحاجة.
[31.20-21]
شرح الكلمات
ألم تروا: أي ألم تعلموا أيها الناس.
سخر لكم ما في السماوات: أي من شمس وقمر وكواكب ورياح وأمطار لمنافعكم.
وما في الأرض: أي من أشجار وأنهار وجبال وبحار وغيرها.
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة: أي أوسع وأتم عليكم نعمه ظاهرة وهي الصحة وكمال الخلق وتسوية الأعضاء.
وباطنة: أي المعرفة والعقل.
من يجادل في الله: أي يخاصم في توحيد الله منكرا له مكذبا به.
بغير علم: أي بدون علم عنده من وحي ولا هو مستفاد من دليل عقلي.
ولا هدى ولا كتاب منير: أي سنة من سنن الرسل، ولا كتاب إلهي منير واضح بين.
أو لو كان الشيطان: أي ايتبعونهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم إلى موجب عذاب السعير من الشرك والمعاصي.
معنى الآيات
عاد السياق بعد نهاية قصة لقمان إلى خطاب المشركين لهدايتهم فقال تعالى { ألم تروا } أيها الناس الكافرون بالله وقدرته ورحمته أي ألم تعلموا بمشاهدتكم { أن الله سخر لكم } أي من أجلكم { ما في السموت } من شمس وقمر وكواكب ومطر، وسخر لكم ما في الأرض من أشجار وأنهار وجبال ووهاد وبحار وشتى الحيوانات ومختلف المعادن كل ذلك لمنافعكم في مطاعمكم ومشاربكم وكل شؤون حياتكم، { وأسبغ عليكم نعمه } أي أوسعها وأتمها نعم الإيجاز ونعم الإمداد حال كونها ظاهرة كحسن الصورة وتناسب الأعضاء وكمال الخلق، وباطنة كالعقل والإدراك والعلم والمعرفة وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعد، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، ومع هذا البيان والإنعام والاستدلال على الخالق بالخلق وعلى المنعم بالنعم فإن ناسا يجادلون في توحيد الله وأسمائه وصفاته ووجوب طاعته وطاعة رسوله بغير علم من وحي ولا استدلال من عقل، ولا كتاب منير واضح بين يحتجون به ويجادلون بأدلته.
وقوله تعالى { وإذا قيل } أي لأولئك المجادلين في الله بالجهل والباطل { اتبعوا مآ أنزل الله } أي على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من هدى، قالوا لا، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وثنية وتقاليد جاهلية، قال تعالى: { أولو كان الشيطان يدعوهم } أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم { إلى عذاب السعير } أي النار المستعرة الملتهبة والجواب لا، ولكن اتبعوهم فسوف يردون معهم النار وبئس الورد المورود.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تعيين الاستدلال بالخلق على الخالق وبالنعمة على المنعم.
2) وجوب ذكر النعم وشكرها لله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
3) حرمة الجدال بالجهل ودون علم.
4) حرمة التقليد في الباطل والشر والفساد كتقليد بعض المسلمين اليوم للكفار في عاداتهم وأخلاقهم ومظاهر حياتهم.
[31.22-26]
شرح الكلمات:
ومن يسلم وجهه إلى الله: أي أقبل على طاعته مخلصا له العبادة لا يلتفت إلى غيره من سائر خلقه.
وهو محسن: أي والحال أنه محسن في طاعته إخلاصا واتباعا.
فقد استمسك بالعروة الوثقى: أي تعلق بأوثق ما يتعلق به فلا يخاف انقطاعه بحال.
وإلى الله عاقبة الأمور: أي مرجع كل الأمور إلى الله سبحانه وتعالى.
نمتعهم قليلا: أي متاعا في هذه الدنيا قليلا إي إلى نهاية آجالهم.
ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ: أي ثم نلجئهم في الآخرة إلى عذاب النار والغليظ: الثقيل.
قل الحمد لله: أي إحمد الله على ظهور الحجة بأن تقول الحمد لله.
لا يعلمون: أي من يستحق الحمد والشكر ومن لا يستحق لجهلهم.
معنى الآيات
بعد إقامة الحجة على المشركين في عبادتهم غير الله وتقليدهم لآبائهم في الشرك والشر والفساد قال تعالى مرغبا في النجاة داعيا إلى الإصلاح: { ومن يسلم وجهه إلى الله } أي يقبل بوجهه وقلبه على ربه يعبده متذللا له خاضعا لأمره ونهيه. { وهو محسن } أي والحال أنه محسن في عبادته إخلاصا فيها لله، واتباعا في أدائها لرسول الله { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي قد أخذ بالطرف الأوثق فلا يخاف انقطاعا أبدا وقوله تعالى: { وإلى الله عاقبة الأمور } يخبر تعالى أن مرد الأمور كلها لله تعالى يقضي فيها بما يشاء فليفوض العبد أموره كلها لله إذ هي عائدة إليه فيتخذ بذلك له يدا عند ربه، وقوله لرسوله: { ومن كفر فلا يحزنك كفره } أي أسلم وجهك لربك وفوض أمرك إليه متوكلا عليه ومن كفر من الناس فلا يحزنك كفره أي فلا تكترث به ولا تحزن عليه { إلينا مرجعهم } أي فإن مردهم إلينا بعد موتهم ونشورهم { فننبئهم بما عملوا } في هذا الدار من سوء وشر ونجزيهم به. { إن الله عليم بذات الصدور } أي بما تكنه وتخفيه من اعتقادات ونيات وبذلك يكون الحساب دقيقا والجزاء عاجلا. وقوله تعالى: { نمتعهم قليلا } أي نمهل هؤلاء المشركين فلا نعاجلهم بالعقوبة فيتمتعون مدة آجالهم وهو متاع قليل { ثم نضطرهم } بعد موتهم ونشرهم { إلى عذاب غليظ } أي نلجئهم إلجاء إلى عذاب غليظ ثقيل لا يحتمل ولا يطاق وهو عذاب النار. نعوذ بالله منها ومن كل عمل يؤدي إليها وقوله تعالى في الآية [25] { ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض ليقولن الله } أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين قائلا لهم: من خلق السماوات والأرض لبادروك بالجواب قائلين الله إذا قل الحمد لله على إقامة الحجة عليكم باعترافكم، وما دام الله هو الخالق الرازق كيف يعبد غيره أو يعبد معه سواه أين عقول القوم؟ وقوله { بل أكثرهم لا يعلمون } أي لا يعلمون موجب الحمد ولا مقتضاه، ولا من يستحق الحمد ومن لا يستحقه لأنهم جهلة لا يعلمون شيئا.
وقوله تعالى: { لله ما في السموت والأرض } أي خلقا وملكا وعبيدا ولذا فهو غني عن المشركين وعبادتهم فلا تحزن عليهم ولا تبال بهم عبدوا أو لم يعبدوا { إن الله هو الغني } عن كل ما سواه { الحميد } أي المحمود بعظيم فعله وجميل صنعه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) بيان نجاة أهل لا إله إلا الله وهم الذين عبدوا الله وحده بما شرع لهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
2) تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3) بيان أن المشركين من العرب موحدون في الربوبية مشركون في العبادة كما هي حال كثير من الناس اليوم يعتقدون أن الله رب كل شيء ولا رب سواه ويذبحون وينذرون ويحلفون بغيره، ويخافون غيره ويرهبون سواه. والعياذ بالله.
[31.27-28]
شرح الكلمات:
ولو أن ما في الأرض: أي من شجرة.
أقلام: أي يكتب بها.
والبحر: أي المحيط.
يمده سبعة أبحر: أي تمده.
ما نفدت كلمات الله: أي ما انتهت ولا نقصت.
إن الله عزيز حكيم: أي عزيز في انتقامه غالب على ما أراده حكيم في تدبير خلقه.
ما خلقكم ولا بعثكم: أي ما خلقكم ابتداء ولا بعثكم من قبوركم إعادة لكم إلا كخلق وبعث نفس واحدة.
معنى الآيتين
قوله تعالى { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } أي لو أن شجر الأرض كله قطعت أغصانه شجرة شجرة حتى لم تبق شجرة وبريت أقلاما، والبحر المحيط صار مدادا ومن ورائه سبعة أبحر أخرى تحولت إلى مداد وتمد البحر الأول وكتب بتلك الأقلام وذلك المداد كلمات الله لنفد البحر والأقلام ولم تنفد كلمات الله، وذلك لأن الأقلام والبحر متناهية، وكلمات الله غير متناهية فعلم الله وكلامه كذاته وصفاته لا تتناهى بحال، نزلت هذه الاية ردا على اليهود لما قيل لهم
ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا
[الإسراء: 85] قالوا وكيف هذا وقد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء. كما نزل ردا على أبي بن خلف قوله تعالى: { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم كيف يخلقنا الله خلقا جديدا في يوم واحد ليحاسبنا ويجزينا، ونحن خلقنا أطوارا وفي قرون عديدة فأنزل تعالى قوله { ما خلقكم ولا بعثكم } إلا كخلق وبعث نفس واحدة { إن الله سميع بصير } فكما يسمع المخلوقات ولا يشغله صوت عن صوت، ويبصرهم ولا تحجبه ذات كذلك هو يبعثهم في وقت واحد ولو أراد خلقهم جملة واحدة لخلقهم لأنه يقول للشيء كن فيكون.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1) بيان سعة علم الله تعالى وأنه تعالى متكلم وكلماته لا تنفد بحال من الأحوال.
2) بيان أن ما أوتيه الإنسان من علوم ومعارف ما هو بشيء إلى علم الله تعالى.
3) بيان قدرة الله تعالى وأنها لا تحد ولا يعجزها شيء.
4) إثبات صفات الله كالعزة والحكمة والسمع والبصر.
[31.29-32]
شرح الكلمات:
ألم تر: أي ألم تعلم أيها المخاطب.
أن الله يولج الليل في النهار: أي يدخل جزءا منه في النهار، ويدخل جزءا من النهار في الليل بحسب الفصول.
وسخر الشمس والقمر: يسبحان في فلكيهما الدهر كله لا تكلان إلى يوم القيامة وهو الأجل المسمى لهما.
ذلك بأن الله هو الحق: أي ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير بسبب أن الله هو الإله الحق.
وأن ما يدعون من دونه الباطل: أي وأن ما يدعون من دونه من آلهة هي الباطل.
بنعمت الله: أي بإفضاله على العباد وإحسانه إليهم حيث هيأ أسباب جريها.
لكل صبار شكور: أي صبار عن المعاصي شكور للنعم.
وإذا غشيهم موج: أي علاهم وغطاهم من فوقهم.
كالظلل: أي كالجبال التي تظلل من تحتها.
فمنهم مقتصد: أي بين الكفر والإيمان بمعنى معتدل في ذلك ما آمن ولا كفر.
كل ختار كفور: أي غدار كفور لنعم الله تعالى.
معنى الآيات
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال الشرك والكفر قال تعالى { ألم تر } أي ألم تعلم أيها النبي أن الله ذا الألوهية على غيره { يولج الليل في النهار } بإدخال جزء منه في النهار { ويولج النهار في الليل } بإدخال جزء منه في الليل وذلك بحسب الفصول السنوية { وسخر الشمس والقمر } يسبحان في فلكيهما لمنافع الناس إلى أجل مسمى أي إلى وقت محدد معين عنده سبحانه وتعالى وهو يوم القيامة، وأن الله تعالى بما تعملون خبير، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم صالحها وفاسدها وسيجزيكم بها وقوله { ذلك بأن الله هو الحق } أي ذلك الإيلاج لليل في النهار والنهار في الليل وتسخير الشمس والقمر، وعلم الله تعالى بأعمال العباد ومجازاتهم عليها قاطع لكل شك بأن الله هو إله الحق، وأن ما يدعون من دونه من أوثان هو الباطل، وقاطع بأن الله تعالى ذا الألوهية الحقة هو العلي الكبير أي ذو العلو المطلق الكبير الذي ليس شيء أكبر منه إذ هو رب كل شيء ومالكه والقاهر له والمتحكم فيه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقوله تعالى { ألم تر } يا محمد { أن الفلك } أي السفن { تجري في البحر بنعمت الله } تعالى على خلقه حيث يسر لها أسباب سيرها وجريها في البحر وهي تحمل السلع والبضائع والأقوات من إقليم إلى إقليم وهي نعم كثيرة. سخر ذلك لكم ليريكم من آياته الدالة على ربوبيته وألوهيته وهي كثيرة تتجلى في كل جزء من هذا الكون. وقوله { إن في ذلك لآيات } أي علامات ودلائل على قدرة الله ورحمته وهي موجبات عبادته وتوحيده فيها، وقوله { لكل صبار شكور } أي فيها عبر لكل عبد صبور على الطاعات صبور عن المعاصي صبور عما تجري به الأقدار شكور لنعم الله تعالى جليلها وصغيرها أما غير الصبور الشكور فإنه لا يجد فيها عبرة ولا عظة.
وقوله تعالى: { وإذا غشيهم موج كالظلل } أي إذا غشي المشركين موج وهم على ظهر السفينة فخافوا { دعوا الله مخلصين له الدين } أي دعوا الله وحده ولم يذكروا آلهتهم. فلما نجاهم بفضله { إلى البر } فلم يغرقوا { فمنهم مقتصد } أي في إيمانه وكفره لا يغالي في كفره ولا يعلن عن إيمانه. وقوله { وما يجحد بآياتنآ } القرآنية والكونية وهي مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لألوهيته { إلا كل ختار } أي غدار بالعهود { كفور } للنعم لا خير فيه البتة والعياذ بالله تعالى من أهل الغدر والكفر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير التوحيد وإبطال الشرك بذكر الأدلة المستفادة من مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته.
2) فضيلة الصبر والشكر والجمع بينهما خير من افتراقهما.
3) بيان أن المشركين أيام نزول القرآن كانوا يوحدون في الشدة ويشركون في الرخاء.
4) شر الناس الختار أي الغدار الكفور.
5) ذم الختر وهو أسوأ الغدر وذم الكفر بالنعم الإلهية.
[31.33-34]
شرح الكلمات
اتقوا ربكم: أي خافوا فآمنوا به واعبدوه وحده تنجوا من عذابه.
واخشوا يوما: أي خافوا يوم الحساب وما يجري فيه.
لا يجزي والد عن ولده: أي لا يغني والد فيه عن ولده شيئا.
إن وعد الله حق: أي وعد الله بالحساب والجزاء حق ثابت لا محالة هو كائن.
لا تغرنكم الحياة الدنيا: أي فلا تغتروا بالحياة الدنيا فإنها زائلة فأسلموا تسلموا.
ولا يغرنكم بالله الغرور: أي الشيطان يغتنم حلم الله عليكم وإمهاله لكم فيجسركم على المعاصي ويسوفكم في التوبة.
وينزل الغيث: أي المطر.
ويعلم ما في الأرحام: أي من ذكر أو أنثى ولا يعلم ذلك سواه.
ماذا تكسب غدا: أي من خير أو شر والله يعلمه.
معنى الآيتين الكريمتين
هذا نداء عام لكل البشر يدعوهم فيه ربهم تعالى ناصحا لهم بأن يتقوه بالإيمان به وبعبادته وحده لا شريك له وأن يخشوا يوما عظيما فيه من الأهوال والعظائم ما لا يقادر قدره بحيث لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إذ كل واحد لا يريد إلا نجاة نفسه فيقول نفسي نفسي وهذا لشدة الهول يوم لا يغني أحد عن أحد شيئا ولو كان أقرب قريب، وهو يوم آت لا محالة حيث وعد الله به الناس ووعد الله حق والله لا يخلف الميعاد، ويقول لهم بناء على ذلك { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } بملاذها وزخارفها وطول العمر فيها، { ولا يغرنكم بالله } ذي الحلم والكرم { الغرور } أي الشيطان من الإنس أو الجن يحملكم على تأخير التوبة ومزاولة أنواع المعاصي بتزيينها لكم وترغيبكم فيها فانتبهوا فإن الموت لا بد منه وقد يأتي فجأة فالتوبة التوبة يا عباد الله هذه نصيحة الرب تبارك وتعالى لعباده فهل من مستجيب؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى [33].
أما الآية الثانية [34] فالله جل جلاله يخبر عباده بأنه استقل بعلم الساعة متى تأتي والقيامة متى تقوم وليس لأحد أن يعلم ذلك كائنا من كان وهذه حال تتطلب من العبد أن يعجل التوبة ولا يؤخرها، كما استقل تعالى بعلم وقت نزول المطر في يوم أو ليلة أوساعة من ليل أو نهار، ويعلم ما في الأرحام أرحام الإناث من ذكر أو أنثى أو أبيض أو أحمر أو أسود ومن طول وقصر ومن إيمان أو كفر ولا يعلم ذلك سواه ويعلم ما يكسب كل إنسان في غده من خير أو شر أو غنى أو فقر، ويعلم أين تموت كل نفس من بقاع الأرض وديارها ولا يعلم ذلك إلا الله ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" مفاتح الغيب خمسة وقرأ: { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } "
" في الصحيح ".
وقوله إن الله عليم أي بكل شيء وليس بهؤلاء الخمسة فقط خبير بكل شيء من دقيق أو جليل من ذوات وصفات وأحوال وببواطن الأمور كظواهرها وبهذا وجب أن يعبد وحده بما شرع من أنواع العبادات التي هي سلم النجاح ومرقى الكمال والإسعاد في الدارين.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1) وجوب تقوى الله عز وجل بالإيمان به وتوحيده في عبادته.
2) تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3) التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا، والتحذير من الشيطان أي من اتباعه والاغترار بما يزينه ويحسنه من المعاصي.
4) بيان مفاتح الغيب الخمسة واختصاص الرب تعالى بمعرفتها.
5) كل مدع لمعرفة الغيب من الجن والإنس فهو طاغوت يجب لعنه ومعاداته.
6) ما ادعى اليوم من أنه بواسطة الآلات الحديثة قد عرف ما في رحم المرأة فهذه المعرفة ليست داخلة في قوله تعالى { ويعلم ما في الأرحام } لأنها بمثابة من فتح البطن ونظر ما فيه فقال هو كذا وذلك لوجود أشعة عاكسة أما المنفي عن كل حد إلا الله أن يقول المرء: إن في بطن امرأة فلان ذكرا أو أنثى ولا يقرب منها ولا يجربها في ولادتها السابقة، ولا يحاول أن يعرف ما في بطنها بأية محاولة.
[32 - سورة السجدة]
[32.1-4]
شرح الكلمات
الم: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب الم، ويقرأ ألف لام ميم.
لا ريب فيه: أي لا شك في أنه نزل من رب العالمين.
أم يقولون افتراه: أي بل أيقولون أي المشركون اختلقه وكذبه.
قوما ما أتاهم من نذير: أي من زمن بعيد وهم قريش والعرب.
لعلهم يهتدون: أي بعد ضلالهم إلى الحق الذي هو دين الإسلام.
في ستة أيام: هي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.
ثم استوى على العرش: أي استوى على عرشه يدير أمر خليقته.
من ولي ولا شفيع } : أي ليس لكم أيها المشركون من دون الله ولي يتولاكم ولا شفيع يشفع لكم.
أفلا تتذكرون: أي أفلا تتعظون بما تسمعون فتؤمنوا وتوحدوا.
معنى الآيات
قوله تعالى { الم } هذه الحروف المقطعة في فواتح عدة سور الأسلم أن لا تؤول ويكتفى فيها بقول الله أعلم بمراده بها. وقد اخترنا من أقاويل المفسرين أنها أفادت فائدتين: الأولى أنه لما كان المشركون من قريش في مكة يمنعون سماع القرآن مخافة أن يتأثر السامع به فيؤمن ويوحد فكانت هذه الحروف تستهويهم بنغمها الخاص فيستمعون فينجذبون ويؤمن من شاء الله إيمانه وهدايته والثانية بقرينة ذكر الكتاب بعدها غالبا: أن هذا القرآن الكريم قد تألف من مثل هذه الحروف الم، طس، حم، ق، فألفوا أيها المكذبون سورة من مثله وإلا فاعلموا أنه تنزيل من الله رب العالمين فلما عجزوا قامت عليهم الحجة ولم يبق شك في أنه تنزيل الله وكتابه أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: { تنزيل الكتاب } أي القرآن الكريم { لا ريب فيه } أي لا شك في أنه نزل من رب العالمين على محمد صلى الله عليه وسلم. وليس بشعر ولا بسجع كهان، ولا أساطير الأولين وقوله تعالى: { أم يقولون افتراه } أي بل أيقولون افتراه محمد واختلقه وأتى به من تلقاء نفسه اللهم لا إنه لم يفتره { بل هو الحق من ربك } أي جاءك من ربك وحيا أوحاه إليك، { لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك } وهم مشركوا العرب لتنذرهم بأس الله وعذابه إن بقوا على شركهم وكفرهم، وقوله { لعلهم يهتدون } أي رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا فيهتدوا إلى الحق بعد ضلالهم فينجوا ويكملوا ويسعدوا وقوله: { الله الذي خلق السموت والأرض وما بينهما } أي من مخلوقات { في ستة أيام } من مثل أيام الدنيا أولها الأحد وأخرها الجمعة ولذا كانت الجمعة من أفضل الأيام { ثم استوى على العرش } عرشه سبحانه وتعالى استوى استواء يليق به يدبر أمر مخلوقاته. الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما هو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسول وهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه ما للعرب ولا للبشرية كلها من إله غيره، وليس لها من غيره من ولي يتولاها بالنصر والإنجاء إن أراد الله خذلانها وإهلاكها، وليس لها شفيع يشفع لها عنده إذا أراد الانتقام منها لشركها وشرها وفسادها وقوله: { أفلا تتذكرون } فتعلموا أيها العرب المشركون أنه لا إله لكم إلا الله فتعبدوه وتوحدوه فتنجوا من عذابه وتكملوا وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير النبوة المحمدية بتقرير أن القرآن تنزيل الله ووحيه أوحاه إلى رسوله.
2) إبطال ما كان المشركون يقولون في القرآن بأنه شعر وسجع كهان وأساطير الأولين.
3) بيان الحكمة من إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإنذار.
4) بيان الزمان الذي خلق الله فيه السماوات والأرض وما بينهما.
5) إثبات صفة الاستواء على العرش لله تعالى.
6) تقرير أنه ما للبشرية من إله إلا الله وأنه ليس لها من دونه من ولي ولا شفيع فما عليها إلا أن تؤمن بالله وتعبده فتكمل وتسعد على عبادته.
[32.5-9]
شرح الكلمات:
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض: أي أمر المخلوقات طوال الحياة.
ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره: أي يوم القيامة حيث تنتهي هذه الحياة وسائر شؤونها.
ألف سنة مما تعدون: أي من أيام الدنيا.
عالم الغيب والشهادة: أي ما غاب عن الناس ولم يروه وما شاهدوه ورأوه.
بدأ خلق الإنسان من طين: أي بدأ خلق آدم عليه السلام من طين.
من سلالة من ماء مهين: أي خلق ذرية آدم من علقة من ماء النطفة.
ثم سواه ونفخ فيه من روحه: أي سوى الجنين في بطن أمه ونفخ فيه الروح فكان حيا كما سوى آدم أيضا ونفخ فيه من روحه فكان حيا.
والأفئدة: أي القلوب.
قليلا ما تشكرون: أي ما تشكرون الله على نعمة الايجاد والامداد إلا شكرا قليلا لا يوازي قدر النعمة.
معنى الآيات
ما زال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء يذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة الإلهية، فقوله تعالى { يدبر الأمر } أي أمر المخلوقات { من السمآء } حيث العرش وكتاب المقادير { إلى الأرض } حيث تتم الحياة والموت والصحة والمرض والعطاء والمنع، والغنى والفقر والحرب والسلم، والعز والذل فالله تعالى من فوق عرشه يدبر أمر الخلائق كلها في عوالمها المختلفة، وقوله ثم يعرج أي الأمر إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما يعد الناس اليوم من أيام هذه الدنيا. ومعنى { يعرج إليه } في يوم القيامة أي يرد إليه حيث عم الكون الفناء ولم يبق ما يدبر في هذه الأرض لفنائها وفناء كل ما كان عليها. وقوله { ذلك عالم الغيب والشهادة } أي ما غاب عن الناس وما حضر فشاهدوه أي العالم بكل شيء وقوله العزيز الرحيم: أي الغالب على مراده من خلقه الرحيم بالمؤمنين من عباده، وقوله { الذي أحسن كل شيء خلقه } أي أحسن خلق كل مخلوق خلقه أي جود خلقه وأتقنه وحسنه. وقوله { وبدأ خلق الإنسان من طين } أي وبدأ خلق آدم من طين وهو الإنسان الأول، { ثم جعل نسله } أي نسل الإنسان من { سلالة } وهي العلقة { من مآء مهين } وهو النطفة، وقوله { ثم سواه ونفخ فيه من روحه } أي سوى آدم ونفخ فيه من روحه، كما سوى الإنسان في رحم أمه أي سوى خلقه ثم نفخ فيه من روحه فكان إنسانا حيا، وقوله: { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } أي القلوب أي لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا لحاجتكم إلى ذلك لأن حياتكم تتطلب منكم مثل ذلك ومع هذه النعم الجليلة { قليلا ما تشكرون } أي لا تشكرون إلا شكرا قليلا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) بيان جلال الله وعظمته في تدبيره أمر الخلائق.
2) بيان صفات الله تعالى من العلم والعزة والرحمة.
3) بيان كيفية خلق الإنسان ومادة خلقه.
4) شكر العباد - إن شكروا - لا يوازي نعم الله تعالى عليهم.
5) وجوب شكر النعم بالاعتراف بها وذكرها وحمد الله تعالى عليها وصرفها في مرضاته.
[32.10-11]
شرح الكلمات
أئذا ضللنا في الأرض: أي غبنا فيها حيث فنينا وصرنا ترابا.
أئنا لفي خلق جديد: أي أنعود خلقا جديدا بعد فنائنا واختلاطنا بالتراب.
بل هم بلقاء ربهم كافرون: أي لم يقف الأمر عند استبعادهم للبعث بل تعداه إلى كفرهم بلقاء ربهم، وهو الذي جعلهم ينكرون البعث.
قل يتوفاكم ملك الموت: أي يقبض أرواحكم ملك الموت المكلف بقبض الأرواح.
ثم إلى ربكم ترجعون: أي بعد الموت، وما دمتم لا تمنعون أنفسكم من الموت سوف لا تمنعونها من الحياة فرجوعكم حتمي لا محالة.
معنى الآيتين
ما زال السياق في تقرير أصول العقيدة فأخبر تعالى عن منكري البعث فقال { وقالوا } أي منكروا البعث الآخر { أءذا ضللنا في الأرض } أي غبنا فيها بحيث صرنا ترابا فيها { أءنا لفي خلق جديد } أي لعائدون في خلق جديد. وهذا منهم انكار للبعث واستبعاد له، فقال تعالى مخبرا عن علة إنكارهم للبعث وهي أنهم بلقاء ربهم كافرون إذ لو كانوا يؤمنون بلقاء الله الذي وعدهم به لما أنكروا البعث والحياة لذلك، وقوله تعالى { قل يتوفاكم } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين للبعث ولقاء الرب تعالى: يتوفاكم عند نهاية آجالكم { ملك الموت } الذي وكله ربه يقبض أرواحكم، { ثم إلى ربكم ترجعون } بعد ذلك وما دمتم لا تدفعون الموت عن أنفسكم فكيف تدفعون الحياة عندما يريدها الله منكم؟ وهل دفعتموها عندما كنتم عدما فأوجدكم الله وأحياكم.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1) تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2) الذنب الذي هو سبب كل ذنب هو الكفر بلقاء الله تعالى.
3) بيان أن لقبض الأرواح ملكا وله أعوان من الملائكة وأن الأرض جعلت لملك الموت كالطست بين يديه يتناول منها ما يشاء.
[32.12-14]
شرح الكلمات:
إذ المجرمون: أي المشركون المكذبون بلقاء ربهم.
ناكسوا رؤوسهم: أي مطأطئوها من الحياء والذل والخزي.
ربنا أبصرنا: أي ما كنا ننكر من البعث.
وسمعنا: أي تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا.
فارجعنا: أي إلى دار الدنيا.
لآتينا كل نفس هداها: أي لو أردنا هداية الناس قسرا بدون اختيار منهم لفعلنا.
ولكن حق القول مني: أي وجب وهو لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين.
إنا نسيناكم: أي تركناكم في العذاب.
عذاب الخلد: أي العذاب الخالد الدائم.
بما كنتم تعملون: من سيئات الكفر والتكذيب والشر والشرك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها وما يجري للمكذبين بها في الدار الآخرة قال تعالى: { ولو ترى } يا رسولنا { إذ المجرمون } وهم الذين أجرموا على أنفسهم فدنسوها بالشرك والمعاصي الحامل عليها التكذيب بلقاء الله، { ناكسوا رءوسهم } أي مطئطئوها خافضوها عند ربهم من الحياء والخزي الذي أصابهم عند البعث. لرأيت أمرا فظيعا لا نظير له. وقوله تعالى { ربنآ أبصرنا وسمعنا } هذا قول المجرمين وهم عند ربهم أي يا ربنا لقد أبصرنا ما كنا نكذب به من البعث والجزاء وسمعنا منك أي تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا. { فارجعنا } أي إلى دار الدنيا { نعمل صالحا } أي عملا صالحا { إنا موقنون } أي الآن ولم يبق في نفوسنا شك بأنك الإله الحق، وبأن لقاءك حق، وقوله تعالى: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } وذلك لما طالب المجرمون بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا فأخبر تعالى أنه ما هناك حاجة إلى ردهم إلى الدنيا ليؤمنوا ويعملوا الصالحات، إذ لو شاء هدايتهم لهداهم قسرا منهم بدون اختيارهم، ولكن سبق أن قضى بدخولهم جهنم فلا بد هم داخلوها وهو معنى قوله: { ولكن حق القول مني } أي وجب العذاب لهم وهو معنى قوله { لأملأن جهنم من الجنة } أي الجن { والناس أجمعين } أي من كفار ومجرمي الجن والإنس معا.
وقوله { فذوقوا } أي العذاب والخزي { بما نسيتم } أي بسبب نسيانكم { لقآء يومكم هذآ } فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا إنا نسيناكم أي تركناكم في العذاب. { وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون } من الشرك والمعاصي هذا يقال لهم وهم في جهنم تبكيتا لهم وتقريعا زيادة في عذابهم، والعياذ بالله من عذاب النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) التنديد بالإجرام والمجرمين وبيان حالهم يوم القيامة.
2) بيان عدم نفع الإيمان عند معاينة العذاب.
3) بيان حكم الله في امتلاء جهنم من كل من مجرمي الإنس والجن.
4) تقرير حكم السببية فالأعمال سبب للجزاء خيرا كان أو شرا.
[32.15-17]
شرح الكلمات:
إذا ذكروا بها: أي وعظوا بما فيها من أمر ونهي ووعد ووعيد.
خروا سجدا: أي وقعوا على الأرض ساجدين بوضع جباههم وأنوفهم على الأرض.
وسبحوا بحمد ربهم: أي نزهوه وقدسوه وهم ساجدون يقولون سبحان ربي الأعلى.
وهم لا يستكبرون: أي عن عبادة ربهم في كل آحايينهم بل يأتونها خاشعين متذللين.
تتجافى جنوبهم: أي تتباعد عن الفرش من أجل قيامهم للصلاة في جوف الليل.
خوفا وطمعا: أي يسألونه النجاة من النار، ودخول الجنة.
ما أخفي لهم من قرة أعين: أي لا تعلم نفس ما أخفى الله تعالى لهم وادخر لهم عنده من النعيم الذي تقر به أعينهم أي تسر به وتفرح.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى جزاء المجرمين وهم المكذبون بآيات الله ولقائه ذكر جزاء المؤمنين وهم الذين آمنوا بآيات الله ولقائه ذكرهم بأجمل صفاتهم فقال: { إنما يؤمن بآياتنا } حق الإيمان { الذين إذا ذكروا بها } أي قرئت عليهم وكانت من الآيات التي فيها السجدات { خروا سجدا } أي وقعوا على الأرض ساجدين بوضع جباههم وأنوفهم على التراب، { وسبحوا بحمد ربهم } أي نزهوه وقدسوه أثناء سجودهم بقولهم سبحان ربي الأعلى، والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة الله مطلقا بل يأتونها متذللين خاشعين.
وقوله { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } هذه بعض صفاتهم أيضا وهي أنهم يباعدون جنوبهم عن فرشهم في الليل لصلاة التهجد. وقوله { يدعون ربهم خوفا وطمعا } أي في حال صلاتهم وفي غيرها وهو دعاء تميز بخوفهم من عذاب ربهم وطمعهم في رحمته فهم يسألون ربهم النجاة من النار ودخول الجنة. وقوله { ومما رزقناهم ينفقون } هذا وصف آخر لهم وهو أنهم يتصدقون بفضول أموالهم زيادة على أداء الزكاة كتهجدهم بالليل زيادة على الصلوات الخمس.
وقوله تعالى { فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين } يخبر تعالى عن جزائهم عنده فيقول: فلا تعلم نفس ما خبأ الله تعالى لهم من النعيم المقيم الذي تقر به أعينهم أي تسر وتفرح وقوله { جزآء بما كانوا يعملون } أي جزاهم بذلك النعيم بعملهم الخيري الإسلامي الذي كانوا في الدنيا يعملونه وقد ذكر بعضه في الآيات قبل كالصلاة والصدقات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) فضيلة التسبيح في الصلاة وهو سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود.
2) ذم الاستكبار وأهله ومدح التواضع لله وأهله.
3) فضيلة قيام الليل وهو المعروف بالتهجد والدعاء خوفا وطمعا.
4) بشرى المؤمنين الصادقين من ذوي الصفات المذكورة في الآيات وهو أنه تعالى [أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما جاء في الحديث
" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت "
الخ.
[32.18-22]
شرح الكلمات:
أفمن كان مؤمنا: أي مصدقا بالله ورسوله ولقاء ربه.
كمن كان فاسقا: أي كافرا لا يستوون.
جنات المأوى نزلا: النزل ما يعد للضيف من قرى.
من العذاب الأدنى: أي عذاب الدنيا من مصاب القحط والجدب والقتل والأسر.
العذاب الأكبر: هو عذاب الآخرة في نار جهنم.
لعلهم يرجعون: أي يصيبهم بالمصائب في الدنيا رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا.
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها: لا أحد أظلم منه أبدا.
إنا من المجرمين منتقمون: أي من المشركين أي بتعذيبهم اشد أنواع العذاب.
معنى الآيات:
قوله تعالى { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا } أي كافرا ينفي تعالى إستواء الكافر مع المؤمن فلذا بعد الاستفهام الإنكاري أجاب بقوله تعالى: { لا يستوون } ثم بين تعالى جزاء الفريقين وبذلك تأكد بعد ما بينهما فقال { أما الذين آمنوا } بالله ربا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا وبالإسلام شرعا ودينا { وعملوا الصالحات } بأداء الفرائض والنوافل في الغالب بعد اجتنابهم الشرك والمحارم { فلهم جنات المأوى نزلا } أي ضيافة لهم { بما كانوا يعملون } وأما الذين فسقوا عن أمر الله فلم يوحدوا ولم يطيعوا فعاشوا على الشرك والمعاصي حتى ماتوا { فمأواهم النار } أي مقرهم ومحل مثواهم وإقامتهم لا يخرجون { كلمآ أرادوا } أي هموا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها من قبل الزبانية تدفعهم عن أبوابها، { وقيل لهم } إذلالا لهم وإهانة { ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } إذ كانوا مكذبين بالبعث والجزاء وقالوا
أءذا ضللنا في الأرض أءنا لفي خلق جديد
[السجدة: 10].
وقوله تعالى { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } وهو عذاب الدنيا بالقحط والغلاء والقتل والأسر { دون العذاب الأكبر } وهو عذاب يوم القيامة { لعلهم يرجعون } يخبر تعالى أنه فاعل ذلك بكفار قريش لعلهم يتوبون إلى الإيمان والتوحيد فينجوا من العذاب وينعموا في الجنة وفعلا قد تاب منهم كثيرون وقوله { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنهآ } أي وعظ بها وخوف كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن وكان بعضهم يعرض عنها فلا يسمعها ويرجع وهو مستكبر والعياذ بالله فمثل هؤلاء لا أحد أشد منهم ظلما وقوله تعالى { إنا من المجرمين منتقمون } يخبر تعالى أنه لا محالة منتقم من أهل الاجرام وهم أهل الشرك والمعاصي، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أصناف من أهل الإجرام الخاص وهم:
1) من اعتقد " عقد " لواء في غير حق أي حمل راية الحرب على المسلمين وهو مبطل غير محق.
2) من عق والديه أي آذاهما بالضرب ونحوه ومنعهما برهما ولم يطعهما في معروف.
3) من مشى مع ظالم ينصره رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) بيان خطأ من يسوي بين المؤمن والكافر والبار والفاجر والمطيع والفاسق.
2) بيان جزاء كل من المؤمنين والفاسقين.
3) بيان أن الله تعالى كان يأخذ قريشا بألوان من المصائب لعلهم يتوبون.
4) بيان أنه لا أظلم ممن ذكر بآيات الله فيعرض عنها مستكبرا جاحدا معاندا.
[32.23-26]
شرح الكلمات:
ولقد آتينا موسى الكتاب: أي أنزلنا عليه التوراة.
فلا تكن في مرية من لقائه: أي فلا تشك في لقائك بموسى عليه السلام ليلة الإسراء والمعراج.
وجعلناه هدى لبني إسرائيل: أي وجعلنا الكتاب " التوراة " هدى أي هاديا لبني إسرائيل.
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا: أي وجعلنا من بني إسرائيل أئمة أي قادة هداة يهدون الناس بأمرنا لهم بذلك وإذننا به.
وكانوا بآياتنا يوقنون: أي وكان أولئك الهداة يوقنون بآيات ربهم وحججه على عباده وما تحمله الآيات من وعد ووعيد.
إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة: أي بين الأنبياء وأممهم وبين المؤمنين والكافرين والمشركين والموحدين.
فيما كانوا فيه يختلفون: من أمور الدين.
أو لم يهد لهم: أي أغفلوا ولم يتبين.
كم أهلكنا من قبلهم من القرون: أي إهلاكنا لكثير من أهل القرون من قبلهم بكفرهم وشركهم وتكذيبهم لرسلهم.
يمشون في مساكنهم: أي يمرون ماشين بديارهم وهي في طريقهم إلى الشام كمدائن صالح وبحيرة لوط ونحوهما.
إن في ذلك لآيات: أي دلائل وعلامات على قدرة الله تعالى وأليم عقابه.
أفلا يسمعون: أي أصموا فلا يسمعوا هذه المواعظ والحجج.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي أعطينا موسى بن عمران أحد أنبياء بني إسرائيل الكتاب الكبير وهو التوراة. إذا فلم ينكر عليك المشركون أن يؤتيك ربك القرآن كما آتى موسى التوراة، وفي هذا تقرير لأصل من أصول العقيدة وهي الوحي والنبوة المحمدية. وقوله { فلا تكن في مرية من لقآئه } أي فلا تكن يا محمد في شك من لقائك موسى ليلة الإسراء والمعراج فقد لقيه وطلب إليه أن يراجع ربه في شأن الصلاة فراجع حتى أصبحت خمسا بعد أن كانت خمسين وقوله { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } أي الكتاب أو موسى كلاهما كان هاديا لبني إسرائيل إلى سبيل السلام والصراط المستقيم.
وقوله { وجعلنا منهم أئمة } أي قادة هداة يهدون الناس إلى ربهم فيؤمنون به ويعبدونه وحده فيكملون على ذلك ويسعدون وذلك بأمره تعالى لهم بذلك. وقوله { لما صبروا } أي عن أذى أقوامهم، { وكانوا بآياتنا } الحاملة لأمرنا ونهينا، ووعدنا ووعيدنا { يوقنون } أي تأهلوا لحمل رسالة الدعوة بشيئين: الصبر على الأذى واليقين التام بصحة ما يدعون إليه ونفعه ونجاعته وقوله تعالى { إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } يخبر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه سبحانه وتعالى الذي يفصل بين المختلفين من الأنبياء وأممهم، وبين الموحدين والمشركين والسنيين والبدعيين فيحكم بإسعاد أهل الحق وإشقاء أهل الباطل وفي الآية تسلية للرسول وتخفيف عليه مما يجد في نفسه من خلاف قومه له.
وقوله { أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون } أي أعموا فلم يبين لهم إهلاكنا لأمم كثيرة { يمشون في مساكنهم } مارين بهم في أسفارهم إلى الشام كمدائن صالح، وبلاد مدين، وبحيرة لوط أنا قادرون على إهلاكهم إن أصروا على الشرك والتكذيب كما أهلكنا القرون من قبلهم. وقوله { إن في ذلك لآيات } أي في إهلاكنا أهل القرون الأولى لما أشركوا وكذبوا دلالات وحججا وبراهين على قدرة الله وشدة انتقامه ممن كفر به وكذب رسوله وقوله { أفلا يسمعون } أي أصموا فلا يسمعون هذه المواعظ التي تتلى عليهم فيتوبوا من الشرك والتكذيب فينجوا ويسعدوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير النبوة المحمدية وتأكيد قصة الإسراء والمعراج.
2) الكتاب والسنة كلاهما هاد للعباد إن طلبوا الهداية فيهما.
3) بيان ما تنال به الإمامة في الدين. وهو الصبر وصحة اليقين.
4) كل خلاف كان في هذه الحياة سينتهي بحكم الله تعالى فيه يوم القيامة.
5) في إهلاك الله تعالى للقرون السابقة أكبر واعظ لمن له قلب وسمع وبصيرة.
[32.27-30]
شرح الكلمات:
أو لم يروا أنا نسوق الماء: أي أغفلوا ولم يروا سوقنا للماء للإنبات والإخصاب فيدلهم ذلك على قدرتنا.
إلى الأرض الجرز: أي اليابسة التي لا نبات فيها.
تأكل منه أنعامهم: أي مواشيهم من إبل وبقر وغنم.
أفلا يبصرون: أي أعموا فلا يبصرون أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على البعث.
متى هذا الفتح: أي الفصل والحكم بيننا وبينكم يستعجلون العذاب.
ولا هم ينظرون: أي ولا هم يمهلون للتوبة أو الاعتذار.
وانتظر إنهم منتظرون: أي وانتظر يا رسولنا ما سيحل بهم من عذاب إن لم يتوبوا فإنهم منتظرون بك موتا أو قتلا ليستريحوا منك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإصلاح الاجتماعي فيقول تعالى { أولم يروا } أي أغفل أولئك المكذبون بالبعث والحياة الثانية ولم يروا { أنا نسوق المآء } ماء الأمطار أو الأنهار { إلى الأرض الجرز } اليابسة التي ما بها من نبات فنخرج بذلك الماء الذي سقناه إليها بتدابيرنا الخاصة { فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم } وهي إبلهم وأبقارهم وأغنامهم { وأنفسهم } فالأنعام تأكل الشعير والذرة وهم يأكلون البر والفول ونحوه { أفلا يبصرون } أي أعموا فلا يبصرون آثار قدرة الله على إحياء الموتى بعد الفناء والبلى كإحياء الأرض الجزر فيؤمنوا بالبعث الآخر وعليه يستقيموا في عقائدهم وكل سلوكهم. وقوله { ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } حكى تعالى عنهم ما يقولونه للمؤمنين لما يخوفونهم بعذاب الله يقولون لهم متى هذا الفتح أي الحكم والفصل يستعجلونه لخفة أحلامهم وعدم إيمانهم.
وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم. فقال { قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم } أي إذا جاء يوم الفتح بيننا وبينكم لا ينفع نفسا كافرة إيمانهم عند رؤية العذاب { ولا هم ينظرون } أي يؤخرون ويمهلون ليتوبوا ويستغفروا فيتاب عليهم ويغفر لهم إذ سنة الله أن من عاين العذاب لا تقبل توبته. وقوله تعالى { فأعرض عنهم } أي فأعرض يا رسولنا عن هؤلاء المكذبين { وانتظر } ما سينزل بهم من عذاب { إنهم منتظرون } ما قد يصيبك من مرض أو موت أو قتل ليستريحوا منك في نظرهم. كما هم منتظرون أيضا عذاب الله عاجلا أو آجلا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة المقررة لها.
2) استعجال الكافرين العذاب دال على جهلهم وطيشهم.
3) بيان أن التوبة لا تقبل عند معاينة العذاب أو مشاهدة ملك الموت ساعة الاحتضار.
[33 - سورة الأحزاب]
[33.1-3]
شرح الكلمات:
اتق الله: أي دم على تقواه بامتثالك أوامره واجتنابك نواهيه.
ولا تطع الكافرين: أي المشركين فيما يقترحون عليك.
والمنافقين: أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر بما يخوفونك به.
إن الله كان عليما حكيما: أي عليما بخلقه ظاهرا وباطنا حكيما في تدبيره وصنعه.
واتبع ما يوحى إليك من ربك: أي تقيد بما يشرع لك من ربك ولا تلتفت إلى ما يقوله خصومك لك من اقتراحات أو تهديدات.
وتوكل على الله: أي فوض أمرك إليه وامض في ما أمرك به غير مبال بشيء.
معنى الآيات:
لقد واصل المشركون اقتراحاتهم التي بدأوها بمكة حتى المدينة وهي عروض المصالحة بينه وبينهم بالتخلي عن بعض دينه أو بطرد بعض أصحابه، والمنافقون قاموا بدورهم في المدينة بتهديده صلى الله عليه وسلم بالقتل غيلة إن لم يكف عن ذكر آلهة المشركين في هذا الظرف بالذات نزل قوله تعالى { يأيها النبي } ناداه ربه تعالى بعنوان النبوة تقريرا لها وتشريفا له ولم يناده باسمه العلم كما نادى موسى وعيسى وغيرهما بأسمائهم فقال { يأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما } أي اتق الله فخفه فلا تقبل اقتراح المشركين ولا ترهب تهديد المنافقين بقتلك إن الله كان وما يزال عليما بكل خلقه وما يحدثون من تصرفات ظاهرة أو باطنة حكيما في تدبيره وتصريفه أمور خلقه وعباده فهو تعالى لعلمه وحكمته لا يخذلك ولا يتركك، ولا يمكن أعداءك وأعداءه منك بحال وقوله { واتبع ما يوحى إليك من ربك } من تشريعات خاصة وعامة ولا تترك منها صغيرة ولا كبيرة إذ هي طريق فوزك وسلم نجاحط أنت وأمتك تابعة لك في كل ذلك، وقوله { إن الله كان بما تعملون خبيرا } هذه الجملة تعليلية تحمل الوعد والوعيد إذ علم الله بأعمال العباد صالحها وفاسدها يستلزم الجزاء عليها فمتى كانت صالحة كان الجزاء حسنا وفي هذا وعده ومتى كانت فاسدة كان الجزاء سوءا وفي هذا الوعيد. وقوله { وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا } أمر تعالى رسوله وأمته تابعة له أن يتوكل على الله في أمره ويمضي في طريقه منفذا أحكام ربه غير مبال بالكافرين ولا بالمنافقين، وأعلمه ضمنا أنه كافيه متى توكل عليه وكفى بالله كافيا ووكيلا حافظا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) وجوب تقوى الله تعالى بفعل المأمور به وترك المنهي عنه.
2) حرمة طاعة الكافرين والمنافقين فيما يقترحون أو يهددون من أجله.
3) وجوب اتباع الكتاب والسنة والتوكل على الله والمضي في ذلك بلا خوف ولا وجل.
[33.4-5]
شرح الكلمات:
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه: أي لم يخلق الله رجلا بقلبين كما ادعى بعض المشركين.
تظاهرون منهن أمهاتكم: يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي.
وما جعل أدعياءكم أبناءكم: أي ولم يجعل الدعي إبنا لمن ادعاه.
ذلكم قولكم بأفواهكم: أي مجرد قول باللسان لا حقيقة له في الخارج فلم تكن المرأة أما ولا الدعي ابنا.
هو أقسط عند الله: أي أعدل.
فإخوانكم في الدين ومواليكم: أي أخوة الإسلام وبنو عمكم فمن لم يعرف أبوه فقولوا له: يا أخي أو ابن عمي.
ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به: أي لا حرج ولا إثم في الخطأ، فمن قال للدعي خطأ يا ابن فلان فلا إثم عليه.
ولكن ما تعمدت قلوبكم: أي الاثم والحرج في التعمد بأن ينسب الدعي لمن ادعاه.
وكان الله غفورا رحيما: ولذا لم يؤاخذكم بالخطأ ولكن بالتعمد.
معنى الآيات:
لما كان القلب محط العقل والإدراك كان وجود قلبين في جوف رجل واحد يحدث تعارضا يؤدي إلى الفساد في حياة الإنسان ذي القلبين لم يجعل الله تعالى لرجل قلبين في جوفه كما ادعى بعض أهل مكة أن أبا معمر جميل بن معمر الفهري كان له قلبان لما شاهدوا من ذكائه ولباقته وحذقه وغره ذلك فقال إن لي قلبين أعقل بهما أفضل من عقل محمد صلى الله عليه وسلم فكانت الآية ردا عليه قال تعالى { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } وفيه إشارة إلى أنه لا يجمع بين حب الله تعالى وحب أعدائه وطاعة الله وطاعة أعدائه، وقوله، { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } أي لم يجعل الله تعالى المرأة المظاهر ومنها أما لمن ظاهر منها كأن يقول لها أنت علي كظهر أمي وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار محرما للزوجة كالأم فأبطل الله تعالى ذلك وبين حكمه في سورة المجادلة، وأن من ظاهر من امرأته يجب عليه كفارة: عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا.
وقوله تعالى { وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم } أي لم يجعل الله الدعي إبنا إذ كانوا في الجاهلية وفي صدر الإسلام يطلقون على المتبني إبنا فيترتب على ذلك كامل حقوق البنوة من حرمة التزوج بامرأته إن طلقها أو مات عنها، وقوله { ذلكم قولكم بأفواهكم } أي ما هو إلا نطق بالفم ولا حقيقة في الخارج له إذ قول الرجل للدعي أنت ولدي لم يصيرة ولده وقول الزوج لزوجته أنت كأمي لم تكن أما له. وقوله تعالى { والله يقول الحق } فلا يطلق على المظاهر منها لفظ أم، ولا على الدعي لفظ ابن، { وهو يهدي السبيل } أي الأقوم والأرشد سبحانه لا إله إلا هو.
وقوله تعالى في الآية [5] من هذا السياق { ادعوهم لآبآئهم } أي ادعوا الأدعياء لآبائهم أي انسبوهم لهم يا فلان بن فلان. فإن دعوتهم إلى آبائهم أقسط وأعدل في حكم الله وشرعه. { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين } فادعوهم باسم الإخوة الإسلامية فقولوا هذا أخي في الإسلام. { ومواليكم } أي بنو عمكم فادعوهم بذلك فقولوا يا بن عمي وإن كان الدعي ممن حررتموه فقولوا له مولاي { وليس عليكم جناح } أي إثم أو حرج { فيمآ أخطأتم به } من قول أحدكم للدعي يا ابن فلان لمن ادعاه خطأ لسان بدون قصد، أو ظنا منكم أنه إبنه وهو في الواقع ليس ابنه ولكن الاثم في التعمد والقصد المتعمد، وقوله { وكان الله غفورا رحيما } أي غفورا لمن تاب رحيما لم يعاجل بالعقوبة من عصى لعله يتوب ويرجع.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) إبطال التحريم بالظهار الذي كان في الجاهلية.
2) إبطال عادة التبني، وما يترتب عليها من حرمة نكاح امرأة المتبنى.
3) وجوب دعاء الدعي المتبنى بأبيه إن عرف ولو كان حمارا.
4) إن لم يعرف للمدعي أب دعي بعنوان الإخوة الإسلامية، أو العمومة أو المولوية.
5) رفع الحرج والإثم في الخطأ عموما وفيما نزلت في الآية الكريمة خصوصا وهو دعاء الدعي باسم مدعيه سبق لسان بدون قصد، أو بقصد لأنه يرى أنه ابنه وهو ليس ابنه.
[33.6-8]
شرح الكلمات:
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم: أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلب منهم هو أحق به من أنفسهم.
وأزواجه أمهاتهم: في الحرمة وسواء من طلقت أو مات عنها منهن رضي الله عنهن.
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض: أي في التوارث من المهاجرين والمتعاقدين المتحالفين.
إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا: بأن توصوا لهم وصية جائزة وهي الثلث فأقل.
كان ذلك في الكتاب مسطورا: أي عدم التوارث بالإيمان والهجرة والحلف مكتوب في اللوح المحفوظ.
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم: أي أذكر لقومك أخذنا من النبيين ميثاقهم على أن يعبدوا الله وحده ويدعوا إلى عبادته.
ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى: أي وأخذنا بخاصة منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، وقدم محمد صلى الله عليه وسلم في الذكر تشريفا وتعظيما له.
وأخذنا منهم ميثاقا غليظا: أي شديدا والميثاق: العهد المؤكد باليمين.
ليسأل الصادقين عن صدقهم: أي أخذ الميثاق من أجل أن يسأل الصادقين وهم الأنبياء عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتا للكافرين بهم.
وأعد للكافرين عذابا أليما: أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين عذابا أليما أي موجعا.
معنى الآيات:
لما أبطل الله تعالى عادة التبني وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة الكلبي فكان يعرف بزيد بن محمد صلى الله عليه وسلم وأصبح بذلك يدعى بزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم تعالى كافة المؤمنين أن نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأن أزواجه أمهاتهم في الحرمة فلا تحل امرأة النبي لأحد بعده صلى الله عليه وسلم، ومعنى أن { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلبه منهم هو أحق به من أنفسهم، وبذلك أعطى الله تعالى رسوله من الرفعة وعلو الشأن ما لم يعط أحدا غيره جزاء له على صبره على ما أخذ منه من بنوة زيد رضي الله عنه الذي كان يدعى بزيد بن محمد فأصبح يعرف بزيد بن حارثة.
وقوله تعالى { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } يريد في الإرث فأبطل تعالى بهذه الآية التوارث بالإيمان والهجرة والحلف الذي كان في صدر الإسلام وأصبح التوارث بالنسب والمصاهرة والولاء لا غير. وقوله { كان ذلك في الكتاب مسطورا } التوارث بالأرحام أي بالقرابات مكتوب في اللوح المحفوظ وقوله { إلا أن تفعلوا إلى أوليآئكم معروفا } أي إلا أن توصوا بوصية جائزة وهي الثلث لأحد من المؤمنين والمهاجرين ومن حالفتم فلا بأس فهي جائزة ولا حرمة فيها، وقوله { كان ذلك } أي المذكور من التوارث بالقرابات لا غير وجواز الوصية بالثلث لمن أبطل إرثهم بالإيمان والهجرة والمؤاخاة، في اللوح المحفوظ وهو كتاب المقادير مسطورا أي مكتوبا مسطرا فلا يحل تبديله ولا تغييره.
وقوله تعالى { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } أي اذكر يا رسولنا لقومك أخذنا الميثاق وهو العهد المؤكد باليمين من النبيين عامة بأن يعبدوا الله وحده ويدعوا أممهم إلى ذلك، ومن أولي العزم من الرسل خاصة وهم أنت يا محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وقوله { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } أعيد اللفظ تكرارا لتقريره، وليرتب عليه قوله { ليسأل } تعالى يوم القيامة { الصادقين } وهم الأنبياء { عن صدقهم } في تبليغ رسالتهم تقريعا لأممهم الذين كفروا وكذبوا. فأثاب المؤمنين { وأعد للكافرين عذابا أليما } أي موجعا وهو عذاب النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) وجوب تقديم ما يريده الرسول من المؤمن على ما يريده المؤمن لنفسه.
2) حرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنهن أمهات المؤمنين وهو صلى الله عليه وسلم كالأب لهم.
3) بطلان التوارث بالمؤاخاة والهجرة والتحالف الذي كان في صدر الإسلام.
4) جواز الوصية لغير الوارث بالثلث فأقل.
5) وجوب توحيد الله تعالى في عبادته ودعوة الناس إلى ذلك.
6) تقرير التوحيد بأخذ الميثاق به على كافة الأنبياء والمرسلين.
[33.9-14]
شرح الكلمات:
اذكروا نعمة الله عليكم: أي اذكروا نعمة الله أي دفاعنا عنكم لتشكروا ذلك.
جنود: أي جنود المشركين المتحزبين.
ريحا وجنودا لم تروها: هي جنود الملائكة والريح ريح الصبا وهي التي تهب من شرق.
بما تعملون بصيرا: أي بصيرا بأعمالكم من حفر الخندق والاستعدادات للمعركة.
إذ جاءوكم من فوقكم: أي بنو أسد وغطفان أتوا من قبل نجد من شرق المدينة.
ومن أسفل منكم: أي من غرب وهم قريش وكنانة.
وإذ زاغت الأبصار: أي مالت عن كل شيء إلا عن العدو تنظر إليه من شدة الفزع.
وبلغت القلوب الحناجر: أي منتهى الحلقوم من شدة الخوف.
وتظنون بالله الظنونا: أي المختلفة من نصر وهزيمة، ونجاة وهلاك.
هنالك ابتلي المؤمنون: أي ثم في الخندق وساحة المعركة أختبر المؤمنون.
وزلزلوا زلزالا شديدا: أي حركوا حراكا قويا من شدة الفزع.
والذين في قلوبهم مرض: أي شيء من النفاق لضعف عقيدتهم.
ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا: أي ما وعدنا من النصر ما هو إلا غرورا وباطلا.
يا أهل يثرب لا مقام لكم: أي يا أهل المدينة لا مقام لكم حول الخندق فارجعوا إلى دياركم.
إن بيوتنا عورة: أي غير حصينة.
إن يريدون إلا فرارا: أي من القتال إذ بيوتهم حصينة.
ولو دخلت عليهم: أي المدينة أي دخلها العدو الغازي.
ثم سئلوا الفتنة: أي ثم طلب إليهم الردة إلى الشرك لآتوها أي اعطوها وفعلوها.
وما تلبثوا بها إلا يسيرا: أي ما تريثوا ولا تمهلوا بل أسرعوا الإجابة وارتدوا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود } الآيات هذه قصة غزوة الخندق أو الأحزاب قصها تبارك وتعالى على المؤمنين في معرض التذكير بنعمه تعالى عليهم ليشكروا بالإنقياد والطاعة لله ورسوله وقبول كل ما يشرع لهم لإكمالهم وإسعادهم في الحياتين فقال تعالى { يأيها الذين آمنوا } أي يا من آمنتم بالله ربا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا وبالإسلام دينا وشرعا { اذكروا نعمة الله عليكم } المتمثلة في دفع أكبر خطر قد حاق بكم وهو اجتماع جيوش عدة على غزوكم في عقر داركم وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود ألبهم عليهم وحزب أحزابهم حيي بن أخطب النضري يريد الانتقام من الرسول والمؤمنين إذ أجلوهم عن المدينة وأخرجوهم منها فالتحقوا بيهود خيبر وتيما، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم أمر بحفر الخندق تحت سفح جبل سلع غربي المدينة، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه إذ كانت له خبرة حربية علمها من ديار قومه فارس.
وتم حفر الخندق في خلال شهر من الزمن وكان صلى الله عليه وسلم يعطي لكل عشرة أنفار أربعين ذراعا أي عشرين مترا، وما إن فرغوا من حفره حتى نزلت جيوش المشركين وكانوا قرابة اثني عشر ألفا ولما رأوا الرسول والمسلمين وراء الخندق تحت جبل سلع قالوا هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها فتناوشوا بالنبال ورمى عمرو بن عبد ود القرشي بفرسه في الخندق فقتله علي رضي الله عنه ودام الحصار والمناوشة وكانت الأيام والليالي باردة والمجاعة ضاربة أطنابها قرابة الشهر.
وتفصيل الأحداث للقصة فيما ذكره تعالى فيما يلي:
فقوله تعالى { إذ جآءتكم جنود } هي جنود المشركين من قريش ومن بني أسد وغطفان { فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } لما جاءتكم جنود المشركين وحاصروكم في سفح سلع أرسلنا عليهم ريحا وهي ريح الصبا المباركة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور وهي الريح الغربية. وفعلت بهم الصبا الأفاعيل حيث لم تبق لهم نارا إلا أطفأتها ولا قدرا على الأثافي إلا أراقته، ولا خيمة ولا فسطاطا إلا أسقطته وأزالته حتى اضطروا إلى الرحيل وقوله { وجنودا لم تروها } وهم الملائكة فأصابتهم بالفزع والرعب الأمر الذي أفقدهم كل رشدهم وصوابهم ورجعوا يجرون أذيال الخيبة والحمد لله وقوله تعالى { وكان الله بما تعملون بصيرا } أي بكل أعمالكم من حفر الخندق والمشادات والمناورات وما قاله وعمله المنافقون لم يغب عليه تعالى شيء وسيجزيكم به المحسن بالإحسان والمسيئ بالإساءة.
وقوله تعالى: { إذ جآءوكم } أي المشركون { من فوقكم } أي من الشرق وهم غطفان بقيادة عيينة بن حصن وأسد، { ومن أسفل منكم } وهم قريش وكنانة أي من الجنوب الغربي وهذا تحديد لساحة المعركة، وقوله { وإذ زاغت الأبصار } أي مالت عن كل شيء فلم تبق تنظر إلا إلى القوات الغازية من شدة الخوف، { وبلغت القلوب الحناجر } أي ارتفعت بارتفاع الرئتين فبلغت منتهى الحلقوم. وقوله { وتظنون بالله الظنونا } المختلفة من نصر وهزيمة وسلامة وعطب، وهذا تصوير للحال أبدع تصوير وهو كما ذكر تعالى حرفيا.
وقوله تعالى { هنالك } أي في ذلك المكان والزمان الذي حدق العدو بكم { ابتلي المؤمنون } أي اختبرهم ربهم ليرى الثابت على إيمانه الذي لا تزعزعه الشدائد والفتن من السريع الانهزام والتحول لضعف عقيدته وقلة عزمه وصبره. وقوله تعالى { وزلزلوا زلزالا شديدا } أي أزعجوا وحركوا حراكا شديدا لعوامل قوة العدو وكثرة جنوده، وضعف المؤمنين وقلة عددهم، وعامل المجاعة والحصار، والبرد الشديد وما أظهره المنافقون من تخاذل وما كشفت عنه الحال من نقض بني قريظة عهدهم وانضمامهم إلى الأحزاب.
وقوله تعالى: { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } أي النفاق لضعف إيمانهم { ما وعدنا الله ورسوله } أي من النصر { إلا غرورا } أي باطلا: وذلك أنهم لما كانوا يحفرون في الخندق استعصت عليهم صخرة فأبت أن تنكسر فدعي لها الرسول صلى الله عليه وسلم فضربها بالمعول ضربة تصدعت لها وبرق منها بريق أضاء الساحة كلها فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون، ثم ضربها ثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير الفتح وكبر المسلمون وضرب ثالثة فكسرها وبرقت لها برقة كسابقتيها وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد سلمان فرقى من الخندق فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيته قط فالتفت رسول الله إلى القوم فقال هل رأيتم ما رأى سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله فأعلمهم أنه على ضوء ذلك البريق رأى قصور مدائن كسرى كأنياب الكلاب وإن جبريل أخبرني أن أمتي ظاهرة عليها كما رأيت في الضربة الثانية القصور الحمراء من أرض الروم وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ورأيت في الثالثة قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا أبشروا أبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعود صدق.
فلما طال الحصار واشتدت الأزمة واستبد الخوف بالرجال قال المنافقون وضعفاء الإيمان { ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } إذ قال معتب بن قشير يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا وخوفا ما هذا إلا وعد غرورا!!.
وقوله { وإذ قالت طآئفة منهم } أي من المنافقين. وهو أويس بن قيظى أحد رؤساء المنافقين { يأهل يثرب } أي المدينة قبل أن يبطل الرسول هذا الإسم لها ويسميها بالمدينة { لا مقام لكم } أي في سفح سلع عند الخندق { فارجعوا } إلى منازلكم داخل المدينة بحجة أنه لا فائدة في البقاء هنا دون قتال، وما قال ذلك إلا فرارا من القتال وهروبا من المواجهة، وقوله تعالى { ويستئذن فريق منهم النبي } أي يطلبون الإذن لهم بالعودة إلى منازلهم بالمدينة بدعوى أن بيوتهم عورة أي مكشوفة أمام العدو وهم لا يأمنون عليها وأكذبهم الله تعالى في قولهم فقال { وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا } أي ما يريدون بهذا الاعتذار إلا الفرار من وجه العدو، وقال تعالى فيهم ومن أصدق من الله قيلا. { ولو دخلت عليهم } المدينة { من أقطارها } أي من جميع نواحيها من شرق وغرب وشمال وجنوب { ثم سئلوا الفتنة } أي ثم طلب منهم العدو الغازي الذي دخل عليهم المدينة الردة أي العودة إلى الشرك { لآتوها } أعطوها فورا { وما تلبثوا بهآ إلا يسيرا } حتى يرتدوا عن الإسلام ويصبحوا كما كانوا مشركين والعياذ بالله من النفاق والمنافقين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) مشروعية التذكير بالنعم ليشكرها المذكرون بها فتزداد طاعتهم لله ورسوله.
2) عرض غزوة الأحزاب أو الخندق عرضا صادقا لا أمثل منه في عرض الأحداث للعبرة.
3) بيان أن غزوة الخندق كانت من أشد الغزوات وأكثرها ألما وتعبا على المسلمين.
4) بيان أن حسن الظن بالله ممدوح، وأن سوء الظن به تعالى كفر ونفاق.
5) بيان مواقف المنافقين الداعية إلى الهزيمة ليكون ذلك درسا للمؤمنين.
6) تقرير النبوة المحمدية بإخبار الغيب التي أخبر بها رسول الله فكانت كما أخبر من فتح فارس والروم واليمن.
[33.15-19]
شرح الكلمات:
ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل: أي من قبل غزوة الخندق وذلك يوم أحد قالوا: والله لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن ولا نولي الأدبار.
وكان عهد الله مسؤلا: أي صاحب العهد عن الوفاء به.
وإذا لا تمتعون إلا قليلا: أي وإذا فررتم من القتال فإنكم لا تمتعون بالحياة إلا قليلا وتموتون.
من ذا الذي يعصمكم من الله: أي من يجيركم ويحفظكم من الله.
إن أراد بكم سوءا: أي عذابا تستاءون له وتكربون.
قد يعلم الله المعوقين منكم: أي المثبطين عن القتال المفشلين إخوانهم عنه حتى لا يقاتلوا مع رسول الله والمؤمنين.
هلم إلينا: أي تعالوا إلينا ولا تخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يأتون البأس إلا قليلا: أي ولا يشهدون القتال إلا قليلا دفعا عن أنفسهم تهمة النفاق.
أشحة عليكم: أي بخلاء لا ينفقون على مشاريعكم الخيرية كنفقة الجهاد وعلى الفقراء.
تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت: أي تدور أعينهم من شدة الخوف لجبنهم كالمحتضر الذي يغشى عليه أي يغمى عليه من آلام سكرات الموت.
سلقوكم بألسنة حداد: أي آذوكم بألسنة ذربة حادة كأنها الحديد وذلك بكثرة كلامهم وتبجحهم بالأقوال دون الأفعال.
أشحة على الخير: أي بخلاء بالخير لا يعطونه ولا يفعلونه بل ولا يقولونه حتى القول.
أولئك لم يؤمنوا: أي إنهم لم يؤمنوا الإيمان الصحيح فلذا هم جبناء عند اللقاء بخلاء عند العطاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض أحداث غزوة الأحزاب فقوله تعالى: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } أي ولقد عاهد أولئك المنافقون الله من قبل غزوة الأحزاب وذلك يوم فروا من غزوة أحد إذ كانت قبل غزوة الأحزاب بقرابة السنتين فقالوا والله لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن ولا نولي الأدبار، فذكرهم الله بعهدهم الذي قطعوه على أنفسهم ثم نكثوه، { وكان عهد الله مسئولا } أي يسأل عنه صاحبه ويؤاخذ به. وقوله تعالى: { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } أي قل لهم يا رسولنا إنه لن ينفعكم الفرار أي الهروب من الموت أو القتل لأن الآجال محددة ومن لم يمت بالسيف مات بغيره فلا معنى للفرار من القتال إذا وجب وقوله { وإذا لا تمتعون إلا قليلا } أي وإذا فررتم من القتال فإنكم لا تمتعون بالحياة إلا قليلا من الزمن ثم تموتون عند نهاية أعماركم وهي فترة قليلة، فالفرار لا يطيل أعماركم والقتال لا ينقصها، وقوله تعالى { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة } أي قل لهم يا رسولنا تبكيتا لهم، وتأنيبا وتعليما أيضا: من ذا الذي يعصمكم أي يجيركم ويحفظكم من الله { إن أراد بكم سوءا } أي ما يسوءكم من بلاء وقتل ونحوه { أو أراد بكم رحمة } أي سلامة وخيرا فليس هناك من يحول دون وصول ذلك إليكم لأن الله تعالى يجير ولا يجار عليه وقوله تعالى { ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا } أي ولا يجد المخالفون لأمر الله العصاة له ولرسوله من دون الله وليا يتولاهم فيدفع عنهم ما أراد الله بهم من سوء، ولا نصيرا ينصرهم إذا أراد الله إذلالهم وخذلانهم لسوء أفعالهم، وقوله تعالى في الآية [18] في هذا السياق { قد يعلم الله المعوقين منكم } أخبرهم تعالى بأنه قد علم المعوقين أي المثبطين عن القتال والمخذلين بما يقولونه سرا في صفوف المؤمنين كالطابور الخامس في الحروب وهم أناس يذكرون في الخفاء عظمة العدو وقوته يرهبون منه ويخذلون عن قتاله.
وقوله { والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا } أي تعالوا إلينا إلى المدينة واتركوا محمدا وأصحابه يموتون وحدهم فإنهم لا يزيدون عن أكلة جزور. وقوله { ولا يأتون البأس إلا قليلا } أي ولا يشهد القتال ويحضره أولئك المنافقون المثبطون والذين قالوا إن بيوتنا عورة إلا قليلا إذ يتخلفون في أكثر الغزوات وإن حضروا مرة قتالا فإنما هم يدفعون به معرة التخلف ودفعا لتهمة النفاق التي لصقت بهم.
وقوله تعالى { أشحة عليكم } وصفهم بالبخل بعد وصفهم بالجبن وهما شر صفات المرء أي الجبن والبخل أشحة عليكم أي بخلاء لا ينفقون معكم لا على الجهاد ولا على الفقراء والمحتاجين وقوله تعالى { فإذا جآء الخوف } أي بسبب هجوم العدو { رأيتهم } أيها الرسول { ينظرون إليك } لائذين بك { تدور أعينهم } من الخوف { كالذي يغشى عليه من الموت } وهو المحتضر يغمى عليه لما يعاني من سكرات الموت وهذا تصوير هائل لمدى ما عليه المنافقون من الجبن والخوف وعلة هذا هو الكفر وعدم الإيمان بالقدر والبعث والجزاء.
وقوله { فإذا ذهب الخوف } أي راحت أسبابه بانتهاء الحرب { سلقوكم بألسنة } أي سلقكم أولئك الجبناء عند اللقاء أي ضربوكم بألسنة ذربة حادة كالحديد بالمطالبة بالغنيمة أو بالتبجح الكاذب بأنهم فعلوا وفعلوا. وهذا حالهم إلى اليوم.
وقوله { أشحة على الخير } أي بخلاء على مشاريع الخير وما ينفق في سبيل الله فلا ينفقون لأنهم لا يؤمنون بالخلف ولا بالثواب والأجر وذلك لكفرهم بالله ولقائه. ولذا قال تعالى { أولئك لم يؤمنوا } فسجل عليهم وصف الكفر ورتب عليه نتائجه فقال { فأحبط الله أعمالهم } أي أبطلها فلا يثابون عليها لأنها أعمال مشرك وأعمال المشرك باطلة، وقوله { وكان ذلك على الله يسيرا } أي إبطال أعمالهم وتخييبهم فيها وحرمانهم من جزائها يسير على الله ليس بالعسير. ولذا هو واقع كما أخبر تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) وجوب الوفاء بالعهد إذ نقض العهد من علامات النفاق.
2) ترك الجهاد خوفا من القتل عمل غير صالح إذ القتال لا ينقص العمر وتركه لا يزيد فيه.
3) الشح والجبن من صفات المنافقين وهما شر الصفات في الإنسان.
4) الثرثرة وكثرة الكلام والتبجح بالأقوال من صفات أهل الجبن والنفاق.
5) الكفر محبط للأعمال.
[33.20-25]
شرح الكلمات:
يحسبون الأحزاب: أي يحسب أولئك المنافقون الجبناء الأحزاب وهم قريش وغطفان.
لم يذهبوا: أي لم يعودوا إلى بلادهم خائبين.
وإن يأت الأحزاب: أي مرة أخرى فرضا.
يودوا لو أنهم بادون في الأعراب: أي من جبنهم وخوفهم يتمنون أن لو كانوا في البادية مع سكانها.
يسألون عن أنبائكم: أي إذا كانوا في البداية لو عاد الأحزاب يسألون عن أنبائكم أي أخباركم هل انهزمتم أو انتصرتم.
ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا: أي لو كانوا بينكم في الحاضرة ما قاتلوا معكم إلا قليلا.
أسوة حسنة: أي قدوة صالحة تقتدون به صلى الله عليه وسلم في القتال والثبات في مواطنه.
هذا ما وعدنا الله ورسوله: من الابتلاء والنصر.
وصدق الله ورسوله: في الوعد الذي وعد به.
وما زادهم إلا إيمانا وتسليما: أي تصديقا بوعد الله وتسليما لأمر الله.
صدقوا ما عاهدوا الله عليه: أي وفوا بوعدهم.
فمنهم من قضى نحبه: أي وفى بنذره فقاتل حتى استشهد.
ومنهم من ينتظر: أي ما زال يخوض المعارك مع رسول الله وهو ينتظر القتل في سبيل الله.
وما بدلوا تبديلا: أي في عهدهم بخلاف المنافقين فقد نكثوا عهدهم.
ورد الله الذين كفروا بغيظهم: أي ورد الله الأحزاب خائبين لم يظفروا بالمؤمنين.
وكفى الله المؤمنين القتال: أي بالريح والملائكة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في سرد أحداث غزوة الأحزاب فقوله تعالى { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } أي يحسب أولئك المنافقون الجبناء الذين قالوا إن بيوتنا عورة وقالوا لإخوانهم هلم إلينا أي اتركوا محمدا في الواجهة وحده إنهم لجبنهم ظنوا أن الأحزاب لم يعودوا إلى بلادهم مع أنهم قد رحلوا وهذا منتهى الجبن والخوف وقوله تعالى { وإن يأت الأحزاب } أي مرة أخرى على فرض وتقدير { يودوا } يومئذ { لو أنهم بادون في الأعراب } أي خارج المدينة مع الأعراب في البادية لشدة خوفهم من الأحزاب الغزاة، وقوله تعالى { يسألون عن أنبآئكم } أي أخباركم هل ظفر بكم الأحزاب أو لا، { ولو كانوا فيكم } أي بينكم ولم يكونوا في البادية { ما قاتلوا إلا قليلا } وذلك لجبنهم وعدم إيمانهم بفائدة القتال لكفرهم بلقاء الله تعالى وما عنده من ثواب وعقاب هذا ما تضمنته الآية الأولى [20].
وقوله تعالى في الآية الثانية [21] { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } أي: لقد كان لكم أيها المسلمون أي: من مؤمنين صادقين ومنافقين كاذبين في رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة أي قدوة صالحة فاقتدوا به في جهاده وصبره وثباته، فقد جاع حتى شد بطنه بعصابة وقاتل حتى شج وجهه وكسرت رباعيته ومات عمه وحفر الخندق بيديه وثبت في سفح سلع أمام العدو قرابة شهر فأتسوا به في الصبر والجهاد والثبات إن كنتم ترجون الله أي تنظرون ما عنده من خير في مستقبل أيامكم في الدنيا والآخرة وترجون اليوم الآخر أي ترتقبونه وما فيه من سعادة وشقاء، ونعيم مقيم أو جحيم وعذاب أليم.
وتذكرون الله تعالى كثيرا في كل حالاتكم وأوقاتكم، فاقتدوا بنبيكم فإن الاقتداء به واجب لايسقط إلا عن عجز والله المستعان.
وقوله تعالى في الآية الثالثة في هذا السياق [22] { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } أي لما رأى المؤمنون الصادقون جيوش الأحزاب وقد أحاطت بهم { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } بخلاف ما قاله المنافقون حيث قالوا
ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا
[الأحزاب: 12] وقوله { وما زادهم } أي رؤيتهم للأحزاب على كثرتهم { إلا إيمانا } بصادق وعد الله { وتسليما } لقضائه وحكمه، وهذا ثناء عطر على المؤمنين الصادقين من ربهم عز وجل.
وقوله تعالى { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } هذا ثناء آخر على بعض المؤمنين الذين لما تخلفوا عن بدر فتأسفوا ولما حصل انهزام لهم في أحد عاهدوا الله لئن أشهدهم الله قتالا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقاتلن حتى الاستشهاد فأخبر تعالى عنهم بقوله فمنهم من قضى نحبه أي وفي بنذره فقاتل حتى استشهد ومنهم من ينتظر القتل في سبيل الله، وقوله تعالى { وما بدلوا تبديلا } أدنى تبديل في موقفهم فثبتوا على عهدهم بخلاف المعوقين من المنافقين فإنهم بدلوا وغيروا ما عاهدوا الله عليه وقوله تعالى { ليجزي الله الصادقين بصدقهم } أي أجرى تعالى تلك الأحداث فكانت كما قدرها في كتاب المقادير، ليجزي الصادقين بصدقهم فيكرمهم وينعمهم في جواره ويعذب المنافقين بناره إن شاء ذلك فيميتهم قبل توبتهم، أو يتوب عليهم فيؤمنوا ويوحدوا ويدخلوا الجنة مع المؤمنين الصادقين وهو معنى قوله: { ويعذب المنافقين إن شآء } ذلك لهم قضاء وقدرا أو يتوب عليهم فيتوبوا فلا يعذبوا، وقوله { إن الله كان غفورا رحيما } إخبار منه تعالى عن نفسه بأنه كان ذا ستر على ذنوب التائبين من عباده رحيما بهم فلا يعاقبهم بعد توبتهم.
وقوله تعالى في آخر هذا السياق [25] { ورد الله الذين كفروا } وهم قريش وكنانة وأسد وغطفان ردهم بغيظهم أي بكربهم وغمهم حيث لم يظفروا بالرسول والمؤمنين ولم يحققوا شيئا مما أملوا تحقيقه، وكفى الله المؤمنين القتال حيث سلط على الأحزاب الريح والملائكة فانهزموا وفروا عائدين إلى ديارهم لم ينالوا خيرا. وكان الله قويا على إيجاد ما يريد إيجاده عزيزا أي غالبا على أمره لا يمتنع منه شيء أراده.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) تقرير أن الكفر والنفاق صاحبهما لا يفارقه الجبن والخور والشح والبخل.
2) وجوب الائتساء برسول الله في كل ما يطيقه العبد المسلم ويقدر عليه.
3) ثناء الله تعالى على المؤمنين الصادقين لمواقفهم المشرفة ووفائهم بعهودهم.
4) ذم الانهزاميين الناكثين لعهودهم الجبناء من المنافقين وضعاف الإيمان.
5) بيان الحكمة في غزوة الأحزاب، ليجزي الصادقين......الخ.
[33.26-27]
شرح الكلمات:
ظاهروهم: أي ناصروهم ووقفوا وراءهم يشدون أزرهم.
من صياصيهم: أي من حصونهم والصياصي جمع صيصية وهي كل ما يمتنع به.
وقذف في قلوبهم الرعب: أي ألقى الخوف في نفوسهم فخافوا.
وأرضا لم تطأوها: أي لم تطأوها بعد وهي خيبر إذ فتحت بعد غزوة الخندق.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب } هذا شروع في ذكر غزوة بني قريظة إذ كانت بعيد غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة في آخر شهر القعدة وخلاصة الحديث عن هذه الغزوة أنه لما ذهب الأحزاب وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينة وكان بنو قريظة قد نقضوا عهدهم وانضموا إلى الأحزاب من المشركين عونا لهم على رسول الله والمؤمنين فلما ذهب الأحزاب وانصرف الرسول والمؤمنون من الخندق إلى المدينة فما راع الناس إلا ومنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي إلى بني قريظة فلا يصلين أحدكم العصر إلا ببني قريظة وهي على أميال من المدينة وذلك أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم ظهر ذلك اليوم فقال يا رسول الله وضعت السلاح إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فقام رسول الله وأمر مناديا ينادي بالذهاب إلى بني قريظة وذهب رسول الله والمسلمون فحاصروهم قرابة خمس وعشرين ليلة وجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فقال لهم رسول الله أتنزلون على حكمي فأبوا فقال أتنزلون على حكم سعد بن معاذ؟ فقالوا نعم فحكمه فيهم فحكم بأن يقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسم الأموال، فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم مقررا للحكم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات. فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث من نساء بني النجار وخرج إلى سوق المدينة فحفر فيها خندقا ثم جيء بهم وفيهم حيي بن أخطب الذي حزب الأحزاب وكعب بن أسد رئيس بني قريظة، وأمر عليا والزبير بضرب أعناقهم وطرحهم في ذلك الخندق.
وبذلك انتهى الوجود اليهودي المعادي بالمدينة النبوية. والحمد لله.
فقوله تعالى { وأنزل } أي الله تعالى بقدرته { الذين ظاهروهم من أهل الكتاب } أي ظاهروا الأحزاب وكانوا عونا لهم على الرسول والمؤمنين وهم يهود بني قريظة { من صياصيهم } أي أنزلهم من حصونهم الممتنعين بها، { وقذف في قلوبهم الرعب } ولذا قبلوا التحكيم فحكم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم بقتل المقاتلة من الرجال وسبي النساء والذراري وهو معنى قوله تعالى { فريقا تقتلون } وهم الرجال { وتأسرون فريقا } وهم النساء والأطفال، وقوله { وأورثكم أرضهم } الزراعية { وديارهم } السكنية { وأموالهم } الصامتة والناطقة وقوله { وأرضا لم تطئوها } أي أورثكم أرضا لم تطئوها بعد وهي أرض خيبر حيث غزاهم رسول الله في السنة السادسة بعد صلح الحديبية وفتحها الله عليهم وقوله { وكان الله على كل شيء قديرا } تذييل المراد به تقرير ما أخبر تعالى به من نصر أوليائه وهزيمة أعدائه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) بيان عاقبة الغدر فإن قريظة لما غدرت برسول الله انتقم منها فسلط عليها رسوله والمؤمنين فأبادوهم عن آخرهم ولم يبق إلا الذين لا ذنب لهم وهم النساء والأطفال.
2) بيان صادق وعد الله إذ أورث المسلمين أرضا لم يكونوا قد وطئوها وهي خيبر والشام والعراق وفارس وبلاد أخرى كبيرة وكثيرة.
3) تقرير أن قدرة الله لا تحد أبدا فهو تعالى على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.
[33.28-30]
شرح الكلمات:
قل لأزواجك: أي اللائي هن تحته يومئذ وهن تسع طلبن منه التوسعة في النفقة عليهن ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوسع به عليهن.
فتعالين: أي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ قد اعتزلهن شهرا.
أمتعكن: أي متعة الطلاق المشروعة على قدر حال المطلق سعة وضيقا.
أسرحكن سراحا جميلا: أي أطلقكن طلاقا من غير إضرار بكن.
تردن الله ورسوله والدار الآخرة: أي تردن رضا الله ورسوله والجنة.
فإن الله أعد للمحسنات: أي عشرة النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على الإحسان العام.
بفاحشة مبينة: أي بنشوز خلق يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يضاعف لها العذاب ضعفين: أي مرتين على عذاب غيرهن ممن آذين أزواجهن.
وكان ذلك على الله يسيرا: أي مضاعفة العذاب يسيرة هينة على الله تعالى.
معنى الآيات:
شاء الله تعالى أن يجتمع نساء الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأين نساء الأنصار والمهاجرين قد وسع عليهن في النفقة لوجود يسر وسعة رزق بين أهل المدينة، أن يطالبن بالتوسعة في النفقة عليهن أسوة بغيرهن وكن يومئذ تسعا وهن عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب النضرية فأبلغت عائشة ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأثر لذلك، لعدم القدرة على ما طلب منه وقعد في مشربة له واعتزلهن شهرا كاملا حتى أنزل الله تعالى آية التخيير وهي هذه { يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } من لذيذ الطعام والشراب وجميل الثياب وحلي الزينة ووافر ذلك كله فتعالين إلى مقام الرسول الرفيع { أمتعكن } المتعة المشروعة في الطلاق { وأسرحكن } أي أطلقكن { سراحا جميلا } أي لا إضرار معه، { وإن كنتن تردن الله ورسوله } أي رضاهما { والدار الآخرة } أي الجنة { فإن الله أعد } أي هيأ وأحضر { للمحسنات } طاعة الله ورسوله { منكن أجرا عظيما } وهو المقامات العالية في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في دار السلام.
وخيرهن صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله في قوله { قل لأزواجك } وبدأ بعائشة فقال لها: إني أريد أن أذكر لك أمرا فلا تقضي فيه شيئا حتى تستأمري أبويك أي تطلبين أمرهما في ذلك وقرأ عليها الآية فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، وتتابعن على ذلك فما اختارت منهن امرأة غير الله ورسوله والدار الآخرة فأكرمهن الله لذلك وأنزل على رسوله:
لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا
[الأحزاب: 52].
وقوله تعالى { ينسآء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة } أي بخصلة قبيحة ظاهرة كسوء عشرة النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى { يضاعف لها العذاب } يوم القيامة لأن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبواب الكفر والعياذ بالله تعالى. { وكان ذلك على الله يسيرا } أي وكان تضعيف العذاب على من أتت بفاحشة مبينة شيئا يسيرا على الله لا يعجزه حتى لا يفعله وهذا لأمرين الأول لأن أذية الرسول من أبواب الكفر والثاني لعلو مقامهن وشرفهن فإن ذا الشرف والمنزلة العالية يستقبح منه القبيح أكثر مما يستقبح من غيره.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1) مشروعية تخيير الزوجات فإن اخترن الطلاق تطلقن وإن لم يخترنه فلا يقع الطلاق.
2) كمال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عن الدنيا وزينتها.
3) مشروعية المتعة بعد الطلاق وهي أن تعطى المرأة شيئا من المال بحسب غنى المطلق وفقره لقوله تعالى
على الموسع قدره وعلى المقتر قدره
[البقرة: 236].
4) وجوب الإحسان العام والخاص، الخاص بالزوج والزوجة والعام في طاعة الله ورسوله.
5) بيان أن سيئة العالم الشريف أسوأ من سيئة الجاهل الوضيع. ولذا قالوا حسنات الأبرار سيئات المقربين كمثل من الأمثال السائرة للعظة والاعتبار.
[33.31-34]
شرح الكلمات:
ومن يقنت منكن لله ورسوله: أي ومن يطع منكن الله ورسوله.
نؤتها أجرها مرتين: أي نضاعف لها أجر عملها الصالح حتى يكون ضعف عمل امرأة أخرى من غير نساء النبي.
وأعتدنا لها رزقا كريما: أي في الجنة.
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء: أي لستن في الفضل كجماعات النساء.
إن اتقيتن: بل أنتن أشرف وأفضل بشرط تقواكن لله.
فلا تخضعن بالقول: أي نظرا لشرفكن فلا ترققن العبارة.
فيطمع الذي في قلبه مرض: أي مرض النفاق أو مرض الشهوة.
وقلن قولا معروفا: أي جرت العادة أن يقال بصوت خشن لا رقة فيه.
وقرن في بيوتكن: أي أقررن في بيوتكن ولا تخرجن منها إلا لحاجة.
ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى: أي ولا تتزين وتخرجن متبخترات متغنجات كفعل نساء الجاهلية الأولى قبل الإسلام.
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس: أي إنما أمركن بما أمركن به من العفة والحجاب ولزوم البيوت ليطهركن من الأدناس والرذائل.
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة: أي الكتاب والسنة لتشكرن الله على ذلك بطاعته وطاعة رسوله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع أزواج النبي أمهات المؤمنين فبعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عن الحياة الدنيا وزينتها أصبحن ذوات رفعة وشأن عند الله تعالى، وعند رسوله والمؤمنين. فأخبرهن الرب تبارك وتعالى بقوله: { ومن يقنت منكن لله ورسوله } أي تطع الله بفعل الأوامر وترك النواهي وتطع رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فلا تعص له أمرا ولا تسيء إليه في عشرة، وتعمل صالحا من النوافل والخيرات نؤتها أجرها مرتين أي نضاعف لها أجر عملها فيكون ضعف أجر عاملة أخرى من النساء غير أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: { وأعتدنا لها رزقا كريما } أي في الجنة فهذه بشارة بالجنة لنساء النبي أمهات المؤمنين التسع اللاتي نزلت هذه الآيات في شأنهن.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [31] وقوله تعالى: { ينسآء النبي لستن كأحد من النسآء إن اتقيتن } أي يا زوجات النبي أمهات المؤمنين إنكن لستن كجماعات النساء إن شرفكن أعظم ومقامكن أسمى وكيف وأنتن أمهات المؤمنين وزوجات خاتم النبيين فاعرفن قدركن بزيادة الطاعة لله ولرسوله، وقوله إن اتقيتن أي إن هذا الشرف حصل لكن بتقواكن لله فلازمن التقوى إنكن بدون تقوى لا شيء يذكر شأنكن شأن سائر النساء. وبناء عليه { فلا تخضعن بالقول } أي لا تلين الكلمات وترققن الصوت إذا تكلمتن مع الأجانب من الرجال. وقوله تعالى: { فيطمع الذي في قلبه مرض } نفاق أو ضعف إيمان مع شهوة عارمة تجعله يتلذذ بالخطاب وقوله: { وقلن قولا معروفا } وهو ما يؤدي المعنى المطلوب بدون زيادة ألفاظ وكلمات لا حاجة إليها.
وقوله: { وقرن في بيوتكن } أي أقررن فيها بمعنى اثبتن فيها ولا تخرجن إلا لحاجة لا بد منها وقوله: { ولا تبرجن } أي إذا خرجتن لحاجة { تبرج الجاهلية الأولى } أي قبل الإسلام إذ كانت المرأة تتجمل وتخرج متبخترة متكسرة متغنجة في مشيتها وصوتها تفتن الرجال.
وقوله تعالى: { وأقمن الصلاة } بآدائها مستوفاة الشروط والأركان والواجبات في أوقاتها مع الخشوع فيها { وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } بفعل الأمر واجتناب النهي. أمرهن بقواعد الإسلام وأهم دعائمه. وقوله: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } أي إنما أمرناكن ونهيناكن إرادة إذهاب الدنس والإثم ابقاء على طهركن يا أهل البيت النبوي.
وقوله تعالى: { ويطهركم تطهيرا } أي كاملا تاما من كل ما يؤثم ويدسى النفس ويدنسها.
وقوله تعالى { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } من الكتاب والسنة وهذا أمر لهن على جهة الموعظة وتعدد النعمة.
وقوله تعالى: { إن الله كان لطيفا } أي بكم يا أهل البيت خبيرا بأحوالكم فثقوا فيه وفوضوا الأمر إليه. والمراد من أهل البيت هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة وابناها الحسن والحسين وعلي الصهر الكريم رضي الله عن آل بيت رسول الله أجمعين وعن صحابته اكتعين أبتعين أبصعين..
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا شرف إلا بالتقوى. إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
2- بيان فضل نساء النبي وشرفهن.
3- حرمة ترقيق المرأة صوتها وتليين عباراتها إذا تكلمت مع أجنبي.
4- وجوب بقاء النساء في منازلهن ولا يخرجن إلا من حاجة لا بد منها.
5- حرمة التبرج وهي أن تتزين المرأة وتخرج بادية المحاسن متبخترة في مشيتها.
6- على المسلم أن يذكر ما شرفه الله به من الإيمان والإسلام ليترفع عن الدنايا والرذائل.
7- بيان أن الحكمة هي السنة النبوية الصحيحة.
8- الإشارة إلى وجود جاهلية ثانية وقد ظهرت منذ نصف قرن وهي تبرج النساء بالكشف عن الرأس والصدور والسيقان وحتى الأفخاذ.
[33.35]
شرح الكلمات:
إن المسلمين والمسلمات: إن الذين أسلموا لله وجوههم فانقادوا لله ظاهرا وباطنا والمسلمات أيضا.
والمؤمنين والمؤمنات: أي المصدقين بالله ربا وإلها والنبي محمد نبيا ورسولا والإسلام دينا وشرعا والمصدقات.
والقانتين والقانتات: أي المطيعين لله ورسوله من الرجال والمطيعات من النساء.
والصادقين والصادقات: أي الصادقين في أقوالهم وأفعالهم والصادقات.
والصابرين والصابرات: أي الحابسين نفوسهم على الطاعات فلا يتركوها وعن المعاصي فلا يقربوها وعلى البلاء فلا يسخطوه ولا يشتكوا الله إلى عباده والحابسات.
والخاشعين والخاشعات: أي المتذللين لله المخبتين له والخاشعات من النساء كذلك.
والمتصدقين والمتصدقات: أي المؤدين الزكاة والفضل من أموالهم عند الحاجة إليه والمؤديات كذلك.
والحافظين فروجهم: أي عن الحرام والحافظات كذلك إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم بالنسبة للرجال أما النساء فالحافظات فروجهن إلا على أزواجهن فقط.
والذاكرين الله كثيرا والذاكرات: أي بالألسن والقلوب فعلى أقل تقدير يذكرن الله ثلاثمائة مرة في اليوم والليلة زيادة على ذكر الله في الصلوات الخمس.
أعد الله لهم مغفرة: أي لذنوبهم وذنوبهن.
وأجرا عظيما: أي الجنة دار الأبرار.
معنى الآيات:
هذه الآية وإن نزلت جوابا عن تساؤل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إذ قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية المباركة إن المسلمين والمسلمات، فإن مناسبتها لما قبلها ظاهرة وهي أنه لما أثنى على آل البيت بخير فإن نفوس المسلمين والمسلمات تتشوق لخير لهم كالذي حصل لآل البيت الطاهرين فذكر تعالى أن المسلمين والمسلمات الذين انقادوا لأمر الله ورسوله وأسلموا وجوههم لله فلا يلتفتون إلى غيره، كالمؤمنين والمؤمنات بالله ربا وإلها ومحمدا نبيا ورسولا والإسلام دينا وشرعا، كالقانتين أي المطيعين لله ورسوله والمطيعات في السراء والضراء والمنشط والمكره في حدود الطاقة البشرية، كالصادقين في أقوالهم وأفعالهم والصادقات كالصابرين أي الحابسين نفوسهم على الطاعات فعلا، وعن المحرمات تركا، وعلى البلاء رضا وتسليما والصابرات كالخاشعين في صلاتهم وسائر طاعاتهم والخاشعات لله تعالى كالمتصدقين بأداء زكاة أموالهم وبفضولها عند الحاجة إليها والمتصدقات كالصائمين رمضان والنوافل كعاشوراء والصائمات، كالحافظين فروجهم عما حرم الله عليهم من المناكح وعن كشفها لغير الأزواج والحافظات، كالذاكرين الله كثيرا بالليل والنهار ذكر القلب واللسان والذاكرات الكل الجميع أعد الله تعالى لهم مغفرة لذنوبهم إذ كانت لهم ذنوب، وأجرا عظيما أي جزاء عظيما على طاعاتهم بعد إيمانهم وهو الجنة دار السلام جعلنا الله منهم ومن أهل الجنة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بشرى المسلمين والمسلمات بمغفرة ذنوبهم ودخول الجنة إن اتصفوا بتلك الصفات المذكورة في هذه الآية وهي عشر صفات أولها الإسلام وآخرها ذكر الله تعالى.
2- فضل الصفات المذكورة إذ كانت سببا في دخول الجنة بعد مغفرة الذنوب.
3- تقرير مبدأ التساوي بين الرجال والنساء في العمل والجزاء في العمل الذي كلف الله تعالى به النساء والرجال معا وأما ما خص به الرجال أو النساء فهو على خصوصيته للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن والله يقول الحق ويهدي السبيل.
[33.36-40]
شرح الكلمات:
ما كان لمؤمن ولا مؤمنة: أي لا ينبغي ولا يصلح لمؤمن ولا مؤمنة.
أن يكون لهم الخيرة من أمرهم: أي حق الاختيار فيما حكم الله ورسوله فيه بالجواز أو المنع.
فقد ضل ضلالا مبينا: أي أخطأ طريق النجاة والفلاح خطأ واضحا.
أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أي أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق وهو زيد بن حارثة.
واتق الله: أي في أمر زوجتك فلا تحاول طلاقها.
وتخفي في نفسك: أي وتخفي في نفسك وهو علمك بأنك إذا طلق زيد زينب زوجكها الله إبطالا لما عليه الناس من حرمة الزواج من امرأة المتبنى.
ما الله مبديه: أي مظهره حتما وهو زواج الرسول من زينب بعد طلاقها.
وتخشى الناس: أي يقولوا تزوج محمد مطلقة مولاه زيد.
والله أحق أن تخشاه: وهو الذي أراد لك ذلك الزواج.
فلما قضى زيد منها وطرا: أي حاجته منها لم يبق له رغبة فيها لتعاليها عليه بشرف نسبها ومحتد آبائها.
زوجناكها: إذ تولى الله عقد نكاحها فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بدون إذن من أحد وذلك سنة خمس وأشبع الناس لحما وخبزا في وليمة عرسها.
كيلا يكون على المؤمنين حرج: أي إثم في تزوجهم من مطلقات أدعيائهم.
وكان أمر الله مفعولا: أي وما قدره الله في اللوح المحفوظ لا بد كائن.
ولا يخشون أحدا إلا الله: أي يفعلون ما أذن لهم فيه ربهم ولا يبالون بقول الناس.
وكفى بالله حسيبا: أي حافظا لأعمال عباده ومحاسبا لهم عليها يوم الحساب.
ما كان محمد ابا أحد من رجالكم: أي لم يكن أبا لزيد ولا لغيره من الرجال إذ مات أطفاله الذكور وهم صغار.
وخاتم النبيين: أي لم يجيء نبي بعده إذ لو جاء نبي بعده لكان ولده أهلا للنبوة كما كان أولاد إبراهيم ويعقوب، وداود مثلا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } الآيات هذا شروع في قصة زواج زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بنت عمة النبي أميمة بنت عبد المطلب إنه لما أبطل الله التبني وحرمه بقوله:
وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم
[الأحزاب: 4] وقوله:
ادعوهم لآبآئهم
[الأحزاب: 5] تبع ذلك أن لا يرث الدعي ممن ادعاه، وأن لا تحرم مطلقته على من تبناه وادعاه وهكذا بطلت الأحكام التي كانت لازمة للتبني، وكون هذا نزل به القرآن ليس من السهل على النفوس التي اعتادت هذه الأحكام في الجاهلية وصدر الإسلام أن تتقبلها وتذعن لها بسهولة فأراد الله تعالى أن يخرج ذلك لحيز الوجود فألهم رسوله أن يخطب زينب لمولاه زيد، واستجابت زينب للخطبة فهما منها أنها مخطوبة لرسول الله لتكون أما للمؤمنين ولمن تبين لها بعد ليال أنها مخطوبة لزيد بن حارثة مولى رسول الله وليست كما فهمت وهنا أخذتها الحمية وقالت لن يكون هذا لن تتزوج شريفة مولى من موالي الناس ونصرها أخوها على ذلك وهو عبد الله بن جحش.
فنزلت هذه الآية وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم الاية فما كان منها إلا أن قبلت عن رضى الزواج من زيد وتزوجها زيد وبحكم الطباع البشرية فإن زينب لم تخف شرفها على زيد وأصبحت تترفع عليه الأمر الذي شعر معه زيد بعدم الفائدة من هذا الزواج فأخذ يستشير رسول الله مولاه ويستأذنه في طلاقها والرسول يأبى عليه ذلك علما منه أنه إذا طلقها سيزوجه الله بها إنهاء لقضية جعل أحكام الدعى كأحكام الولد من الصلب فكان يقول له: اتق الله يا زيد لا تطلق بغير ضرورة ولا حاجة إلى الطلاق واصبر على ما تجده من امرأتك، وهنا عاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل إذ قال له: { وإذ تقول } اي اذكر إذ تقول { للذي أنعم الله عليه } أي بنعمة الإسلام، { وأنعمت عليه } بأن عتقته { أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك } وهو أمر زواجك منها، { ما الله مبديه } أي مظهره لا محالة من ذلك { وتخشى الناس } أن يقولوا محمد تزوج امرأة ابنه زيد، { والله أحق أن تخشاه }. وقد أراد منك الزواج من زينب بعد طلاقها وانقضاء عدتها هدما وقضاء على الأحكام التي جعلت الدعى كابن الصلب.
وقوله تعالى: { فلما قضى زيد منها وطرا } أي حاجته منها بالزواج بها وطلقها { زوجناكها } إذ تولينا عقد نكاحها منك دون حاجة إلى ولي ولا إلى شهود ولا إلى مهر أو صداق وذلك من أجل أن لا يكون على المؤمنين حرج أي إثم في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا، وقوله تعالى: { وكان أمر الله مفعولا } أي وما قضى به الله واقع لا محالة وقوله تعالى: { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } أي من إثم أو تضييق في قول أو فعل شيء افترضه الله تعالى عليه وألزمه به سنة الله في الذين خلوا من قبل من الأنبياء، وكان أمر الله أي مقضيه قدرا مقدورا أي واقعا نافذا لا محالة. وقوله: { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله } أي هؤلاء الأنبياء السابقون طريقتهم التي سنها الله لهم هي أنهم ينفذون أمر الله ولا يتلفتون إلى الناس يقولون ما يقولون، ويخشون ربهم فيما فرض عليهم ولا يخشون غيره، وكفى بالله حسيبا أي حافظا لأعمال عباده ومحاسبا عليها ومجاز بها، وقوله تعالى في ختام السياق { ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم } لا زيد ولا غيره إذ لم يكن له ولد ذكر قد بلغ الحلم إذ مات الجميع صغارا وهم أربعة ثلاثة من خديجة وهم القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم وهو من مارية القبطية، فلذا لا يحرم عليه أن يتزوج مطلقة زيد لأنه ليس بابنه وإن كان يدعى زيد بن محمد قبل إنهاء التبني وأحكامه ولكن رسول الله وخاتم النبيين فلا نبى بعده فلو كان له ولد ذكر رجلا لكان يكون نبيا ورسولا كما كان أولاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود، ولما أراد الله أن يختم الرسالات برسالته لم يأذن ببقاء أحد من أولاد نبيه بل توفاهم صغارا، أما البنات فكبرن وتزوجن وأنجبن ومتن حال حياته إلا فاطمة فقد ماتت بعده بستة أشهر وقوله تعالى: { وكان الله بكل شيء عليما } فما أخبر به هو الحق وما حكم به هو العدل وما شرعه هو الخير فسلموا لله في قضائه وحكمه فإن ذلك خير وأنفع.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن المؤمن الحق لا خيرة عنده في أمر قضى فيه الله ورسوله بالجواز أو المنع.
2- بيان أن من يعص الله ورسوله يخرج عن طريق الهداية إلى طريق الضلالة.
3- جواز عتاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.
4- بيان شدة حياء الرسول صلى الله عليه وسلم.
5- بيان إكرام الله لزيد بأن جعل اسمه يقرأ على ألسنة المؤمنين إلى يوم الدين.
6- بيان إفضال الله على زينب لما سلمت أمرها لله وتركت ما اختارته لما اختاره الله ورسوله فجعلها زوجة لرسول الله وتولى عقد نكاحها في السماء فكانت تفاخر نساءها بذلك.
7- تقرير حديث ما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه الله خيرا منه.
8- إبطال أحكام التبني التي كانت في الجاهلية.
9- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه خاتم الأنبياء فلا نبي بعده.
[33.41-44]
شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا: أي يا من آمنتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا.
اذكروا الله ذكرا كثيرا: أي بقلوبكم وألسنتكم.
وسبحوه بكرة وأصيلا: أي نزهوه بقول سبحان الله وبحمده صباحا ومساء.
هو الذي يصلي عليكم: أي يرحمكم.
وملائكته: أي يستغفرون لكم.
ليخرجكم من الظلمات: أي يرحمكم ليديم إخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
تحيتهم يوم يلقونه سلام: أي سلام عليكم فالملائكة تسلم عليهم.
وأعد لهم أجرا كريما: أي وهيأ لهم أجرا كريما وهو الجنة.
معنى الآيات:
هذا النداء الكريم من رب رحيم يوجه إلى المؤمنين الصادقين ليعلمهم ما يزيد به إيمانهم ونورهم، ويحفظون به من عدوهم وهو ذكر الله فقال تعالى لهم { يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا } لا حد له ولا حصر إذ هو الطاقة التي تساعد على الحياة الروحية، وسبحوه بكرة وأصيلا بصلاة الصبح وصلاة العصر. ويقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر دبر كل صلاة من الصلوات الخمس. وقوله تعالى: { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } وصلاته تعالى عليهم رحمته لهم، وصلاة ملائكته الاستغفار لهم وقوله ليخرجكم من الظلمات أي من ظلمات الكفر والمعاصي إلى نور الإيمان والطاعات. فصلاته تعالى وصلاة ملائكته هي سبب الإخراج من الظلمات إلى النور. وقوله تعالى { وكان بالمؤمنين رحيما } وهذه علاوة أخرى زيادة على الإكرام الأول وهو الصلاة عليهم وإنه بالمؤمنين عامة رحيم فلا يعذبهم ولا يشقيهم. وقوله { تحيتهم يوم يلقونه سلام } أي وتحيتهم يوم القيامة في دار السلام السلام إذ الملائكة يدخلون عليهم من كل باب قائلين سلام عليكم أي أمان وأمنة لكم فلا خوف ولا حزن. وقوله { وأعد لهم أجرا كريما } أي هيأ لهم وأحضر أجرا كريما وهي الجنة. فسبحان الله ما أكرمه وسبحان الله ما أسعد المؤمنين. فيا لفضيلة الإيمان وطاعة الرحمن طلب منهم أن يذكروه كثيرا وأن يسبحوه بكرة وأصيلا وأعطاهم ما لا يقادر قدره فسبحان الله ما أكرم الله. والحمد لله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب ذكر الله تعالى كثيرا ليل نهار ووجوب تسبيحه صباح مساء.
2- بيان فضل الله على المؤمنين بصلاته عليهم وصلاة ملائكته ورحمته لهم.
3- تقرير عقيدة البعث بذكر بعض ما يتم فيها من سلام الملائكة على أهل الجنة.
4- بشرى المؤمنين الصادقين بالجنة.
[33.45-48]
شرح الكلمات:
شاهدا: أي على من أرسلناك إليهم.
ومبشرا: أي من آمن وعمل صالحا بالجنة.
ونذيرا: أي لمن كفر وأشرك بالنار.
وداعيا إلى الله بإذنه: أي وداعيا إلى الإيمان بالله وتوحيده وطاعته بأمره تعالى.
وسراجا منيرا: أي وجعلك كالسراج المنير يهتدي به من أراد الهداية إلى سبيل الفلاح.
ولا تطع الكافرين والمنافقين: أي فيما يخالف أمر ربك وما شرعه لك ولأمتك.
ودع أذاهم: أي أترك أذاهم فلا تقابله بأذى آخر حتى تأمر فيهم بأمر.
وتوكل على الله: أي فوض أمرك إليه فإنه يكفيك.
معنى الآيات:
هذا نداء خاص بعد ذلك النداء العام فالأول كان للمؤمنين والرسول إمامهم على رأسهم. وهذا نداء خاص لمزيد تكريم الرسول وتشريفه وتكليفه أيضا فقال تعالى: { يأيها النبي } محمد صلى الله عليه وسلم { إنآ أرسلنك } حال كونك شاهدا على من أرسلناك إليهم يوم القيامة تشهد على من أجاب دعوتك ومن لم يجبها، ومبشرا لمن استجاب لك فآمن وعمل صالحا بالجنة، ونذيرا لمن أعرض فلم يؤمن ولم يعمل خيرا بعذاب النار، وداعيا إلى الله تعالى عباده إليه ليؤمنوا به ويوحدوه ويطيعوه بأمره تعالى لك بذلك، وسراجا منيرا يهتدي بك من أراد الاستهداء إلى سبيل السعادة والكمال.
وقوله تعالى: { وبشر المؤمنين } أي أنظر بعد دعوتك إياهم، وبشر المؤمنين منهم أي الذين استجابوا لك وآمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم من الله فضلا كبيرا ألا وهو مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة دار النعيم المقيم والسلام التام. وقوله تعالى: { ولا تطع الكافرين والمنافقين } فيما يقترحون عليك من أمور تتنافى مع دعوتك ورسالتك، ودع أذاهم أي اترك أذيتهم واصبر عليهم حتى يأمرك ربك بما تقوم به نحوهم، وتوكل على الله في أمرك كله، فإنه يكفيك وكفى بالله وكيلا أي حافظا وعاصما يعصمك من الناس.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان الكمال المحمدي الذي وهبه إياه ربه تبارك وتعالى.
2- مشروعية الدعوة إلى الله إذا كان الداعي متأهلا بالعلم والحلم وهما الإذن.
3- حرمة طاعة الكافرين والمنافقين والفجرة والظالمين فيما يتنافى مع مرضاة الله تعالى.
[33.49]
شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا: أي يا من صدقوا بالله ورسوله وكتابه وشرعه.
إذا نكحتم المؤمنات: أي إذا عقدتم عليهن ولم تبنوا بهن.
من قبل أن تمسوهن: أي من قبل الخلوة بهن ووطئهن.
فما لكم عليهن من عدة: أي ليس لكم مطالبتهن بالعدة إذ العدة على المدخول بها.
فمتعوهن: أي أعطوهن شيئا من المال يتمتعن به جبرا لخاطرهن.
وسرحوهن سراحا جميلا: أي اتركوهن يذهبن إلى أهليهن من غير إضرار بهن.
معنى الآية الكريمة:
ينادي الله تعالى عباده المؤمنين المسلمين فيقول لهم معلما مشرعا لهم: { إذا نكحتم المؤمنات } أي عقدتم عليهن، { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } أي من قبل الدخول عليهن الذي يتم بالخلوة في الفراش، { فما لكم عليهن من عدة } تعتدونها عليهن لا بالاقراء ولا بالشهور إذ العدة لمعرفة ما في الرحم وغير المدخول بها معلومة أن رحمها خالية، فإن سميتم لهن مهرا فلهن نصف المسمى والمتعة على سبيل الاستحباب، وإن لم تسموا لهن مهرا فليس لهن غير المتعة وهي هنا واجبة لهن بحسب يسار المطلق وإعساره وقوله: { وسرحوهن سراحا جميلا } أي خلوا سبيلهن يذهبن إلى ذويهن من غير إضرار بهن ولا أذى تلحقونه بهن.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- جواز الطلاق قبل البناء.
2- ليس على المطلقة قبل الدخول بها عدة بل لها أن تتزوج ساعة ما تطلق.
3- المطلقة قبل البناء إن سمى لها صداق فلها نصفه، وإن لم يسم لها صداق فلها المتعة واجبة يقدرها القاضي بحسب سعة المطلق وضيقه.
4- حرمة أذية المطلقة بأي أذى، ووجوب تخلية سبيلها تذهب حيث شاءت.
5- مشروعية المتعة لكل مطلقة.
[33.50]
شرح الكلمات:
آتيت أجورهن: أي أعطيت مهورهن.
مما أفاء الله عليك: أي مما يسبى كصفية وجويرية.
اللاتي هاجرن معك: أي بخلاف من لم تهاجر وبقيت في دار الكفر.
وهبت نفسها للنبي: أي وأراد النبي أن يتزوجها. بغير صداق.
خالصة لك من دون المؤمنين: أي بدون صداق.
قد علمنا ما فرضنا عليهم: أي على المؤمنين.
في أزواجهم: أي من الأحكام كأن لا يزيدوا على أربع، وأن لا يتزوجوا إلا بولي ومهر وشهود.
وما ملكت أيمانهم: أي بشراء ونحوه وأن تكون المملوكة كتابية، وأن تستبرأ قبل الوطء.
لكيلا يكون عليك حرج: أي ضيق في النكاح.
معنى الآية الكريمة:
هذا النداء الكريم لرسول رب العالمين يحمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إجازة ربانية تخفف عنه أتعابه التي يعانيها صلى الله عليه وسلم لقد علم الله ما يعاني رسوله وما يعالج من أمور الدين والدنيا فمن عليه بالتخفيف ورفع الحرج فقال ممتنا عليه { يأيها النبي إنآ أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أي مهورهن وأحللنا لك { وما ملكت يمينك ممآ أفآء الله عليك } من سبايا الجهاد كصفية بنت حبيب وجويرية بنت الحارث، { وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك } من مكة إلى المدينة.
أما اللاتي لم تهاجر فلا تحل لك، وامرأة مؤمنة أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة لا كافرة إن وهبت نفسها للنبي بدون مهر وأراد النبي أن يستنكحها حال كون هذه الواهبة خالصة لك دون المؤمنين فالمؤمن لو وهبت له امرأة نفسها بدون مهر لم تحل له بل لا بد من المهر والولي والشهود.
وقوله تعالى { قد علمنا ما فرضنا عليهم } أي على المؤمنين في أزواجهم من أحكام كأن لا يزيد الرجل على أربع، وأن لا يتزوج إلا بولي ومهر وشهود، والمملوكة لا بد أن تكون كتابية أو مسلمة، وأن لا يطأها قبل الاستبراء بحيضة قد علمنا كل هذا وأحللنا لك ما أحللنا خصوصية لك دون المؤمنين وذلك تخفيفا عليك لكيلا يكون عليك حرج أي ضيق ومشقة وكان الله غفورا لك ولمن تاب من المؤمنين رحيما بك وبالمؤمنين.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- بيان إكرام الله تعالى لنبيه في التخفيف عليه رحمة به فاباح له أكثر من أربع، وقصر المؤمنين على أربع أباح له الواهبة نفسها أن يتزوجها بغير مهر ولا ولي ولم يبح ذلك للمؤمنين فلا بد من مهر وولي وشهود.
2- تقرير أحكام النكاح للمؤمنين وأنه لم يطرأ عليها نسخ بتخفيف ولا بتشديد.
3- بيان سعة رحمة الله ومغفرته لعباده المؤمنين.
[33.51-52]
شرح الكلمات:
ترجي من تشاء منهن: أي تؤخر من نسائك.
وتؤوي إليك من تشاء: أي وتضم إليك من نسائك من تشاء فتأتيها.
ومن ابتغيت: أي طلبت.
ممن عزلت: أي من القسمة.
فلا جناح عليك: أي لا حرج عليك في طلبها وضمها إليك خيره ربه في ذلك بعد أن كان القسم واجبا عليه.
ذلك أدنى أن تقر أعينهن: أي ذلك التخيير لك في إيواء من تشاء وترك من تشاء أقرب إلى أن تقر أعينهن ولا يحزن.
ويرضين بما آتيتهن: أي مما أنت مخير فيه من القسم وتركه، والعزل والإيواء.
والله يعلم ما في قلوبكم: أي من حب النساء - أيها الفحول - والميل إلى بعض دون بعض وإنما خير الله تعالى رسوله تيسيرا عليه لعظم مهامه.
وكان الله عليما حليما: أي عليما بضعف خلقه حليما عليهم لا يعاجل بالعقوبة ويقبل التوبة.
لا يحل لك النساء من بعد: أي لا يجوز لك أن تتزوج بعد هؤلاء التسعة اللاتي اخترنك إكراما لهن وتخفيفا عنك.
ولا أن تبدل بهن من أزواج: أي بأن تطلق منهن وتتزوج أخرى بدل المطلقة لا. لا.
ولو أعجبك حسنهن: ما ينبغي أن تطلق من هؤلاء التسع وتتزوج من أعجبك حسنها.
إلا ما ملكت يمينك: أي فالأمر في ذلك واسع فلا حرج عليك في التسري بالمملوكة، وقد تسرى صلى الله عليه وسلم بمارية المهداة إليه من قبل ملك مصر وولدت له إبراهيم ومات في سن رضاعه عليه السلام.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في شأن التيسير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تقدم أنه أحل له النساء يتزوج من شاء مما ذكر له وخصه بالواهبة نفسها يتزوجها بدون مهر ولا ولي وفي هذه الآية الكريمة [51] { ترجي من تشآء منهن } الآية وسع الله تعالى عليه بأن أذن له في أن يعتزل وطء من يشاء، وأن يرجئ من يشاء، وأن يؤوي إليه ويضم من يشاء وأن يطلب من اعتزلها إن شاء فلا حرج عليه في كل ذلك، ومع هذا فكان يقسم بين نسائه، ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك اللهم إلا ما كان من سودة رضي الله عنها فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها. هذا ما دل عليه قوله تعالى: { ترجي من تشآء منهن وتؤوي إليك من تشآء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } وقوله ذلك أدنى أي ذلك التخيير لك في شأن نسائك أقرب أن تقر أعينهن أي يفرحن بك، ولا يحزن عليك، ويرضين بما تتفضل به عليهن من إيواء ومباشرة.
وقوله تعالى { والله يعلم ما في قلوبكم } أي أيها الناس من الرغبة في المخاطبة، وميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، وإنما خير الله رسوله هذا التخيير تيسيرا عليه وتخفيفا لما له من مهام لا يطمع فيها عظماء الرجال ولو كان في القوة والتحمل كالجبال أو الجمال.
وقوله تعالى { وكان الله عليما } أي بخلقه وحاجاتهم. حليما عليهم لا يعاجل بالعقوبة ويقبل ممن تاب التوبة.
وقوله تعالى في الآية [52] { لا يحل لك النسآء من بعد } أي لا يحل لك يا رسولنا النساء بعد هؤلاء التسع اللائي خيرتهن فاخترن الله واخترنك وأنت رسوله واخترن الدار الآخرة فاعترافا بمقامهن قصرك الله عليهن بعد الآن فلا تطلب امرأة أخرى ببدل أو بغير بدل، ومعنى ببدل: أن يطلق منهن واحدة أو أكثر ويتزوج بدلها. وهو معنى قوله تعالى: { ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن } وقوله { إلا ما ملكت يمينك } أي فلا بأس بأن تتسرى بالجارية تملكها وقد تسرى بمارية القبطية التي أهداها له المقوقس ملك مصر مع بغلة بيضاء تسمى الدلدل وهي أول بغلة تدخل الحجاز، وقد أنجبت مارية إبراهيم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفى في أيام رضاعه عليه وعلى والده ألف ألف سلام.
وقوله تعالى: { وكان الله على كل شيء رقيبا } أي حفيظا عليما فخافوه وراقبوه ولا تطلبوا رضا غيره برضاه فإنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه به حياتكم وإليه مرجعكم بعد مماتكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله تعالى لرسوله بالتيسير والتسهيل عليه لكثرة مهامه.
2- ما خير الله فيه رسوله لا يصح لأحد من المسلمين اللهم إلا أن يقول الرجل للمرأة كبيرة السن أو المريضة أي فلانة إني أريد أن أتزوج أحصن نفسي وأنت كما تعلمين عاجزه فإن شئت طلقتك، وإن شئت تنازلت عن ليلتك فإن اختارت البقاء مع التنازل عن حقها في الفراش فلا بأس بذلك.
3- في تدبير الله لرسوله وزوجاته من الفوائد والمصالح ما لا يقادر قدره.
4- تقرير مبدأ (ما ترك أحد شيئا لله إلا عوضه الله خيرا منه) تجلى هذا في اختيار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لله ورسوله والدار الآخرة.
5- وجوب مراقبة الله تعالى وعدم التفكير في الخروج عن طاعته بحال من الأحوال.
[تنبيه هام]
إذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالزواج بأكثر من أربع كان لحكم عالية، وكيف والمشرع هو الله العليم الحكيم من تلك الحكم العالية ما يلي:
(1) اقتضاء التشريع الخاص بالنساء ومنه ما لا يطلع عليه إلا الزوجان تعدد الزوجات ليروين الأحكام الخاصة بالنساء، ولصحة الرواية وقبولها في الأمة تعدد الطرق وكثرة الرواة والروايات.
(2) تطلب الدعوة الإسلامية في أيامها الأولى مناصرين لها أقوياء ولا أفضل من أصهار الرجل الداعي فإنهم بحكم العرف يقفون إلى جنب صهرهم محقا أو مبطلا كان.
(3) أن المؤمنين لا أحب إليهم من مصاهرة نبي الله ليظفروا بالدخول عليه في بيته والخلوة به وما أعزها. فأي المؤمنين من لا يرغب أن تكون أمه أو أخته أو بنته أما لكل المؤمنين إني والله لا أحب إلي من أن أكون أنا وزوجتي وسائر أولادي خدما في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلذا وسع الله على رسوله ليتسع على الأقل للأرامل وربات الشرف حتى لا يدنس شرفهن.
(4) قد يحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكافأة بعض من أحسن إليه ولم يجد ما يكافئه به ويراه راغبا في مصاهرته فيجيبه لذلك ومن هذا زواجه بكل من عائشة بنت الصديق وحفصة بنت الفاروق رضي الله عنهم أجمعين.
(5) قد زوجه ربه بزينب وهو كاره لذلك يتهرب منه خشية قالة الناس وما كانوا يعدونه منكرا وهو التزوج بامرأة الدعى المتبنى بعد طلاقها أو موت زوجها هذه بعض الحكم التي اقتضت الإذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في التزوج أكثر من أربع مع عامل آخر مهم وهو قدرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على العدل والكفاية الأمر الذي لن يكون لغيره ابدا.
[33.53-55]
شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا: أي يا من صدقوا بالله وعده ووعيده وبالرسول وما جاء يه.
إلا أن يؤذن لكم: أي في الدخول بأن يدعوكم إلى طعام.
غير ناظرين إناه: أي غير منتظرين وقت نضجه أي فلا تدخلوا قبل وقت إحضار الطعام وتقدم المدعوين إليه بأن يستغل أحدكم الإذن بالدعوة للطعام فيأتي قبل الوقت ويجلس في البيت فيضايق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله.
فإذا طعمتم فانتشروا: أي إذا أكلتم الطعام وفرغتم فانتشروا عائدين إلى بيوتكم أو أعمالكم ولا يبق منكم أحد.
ولا مستأنسين لحديث: أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث بعضكم بعضا.
إن ذلكم كان يؤذي النبي: أي ذلكم المكث في بيوت النبي كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم.
فيستحي منكم: أي أن يخرجكم.
والله لا يستحي من الحق: أن يقوله ويأمر به ولذا أمركم أن تخرجوا.
من وراء حجاب: أي ستر كباب ورداء ونحوه.
أطهر لقلوبكم وقلوبهن: أي من الخواطر الفاسدة.
إن ذلكم كان عند الله عظيما: أي إن أذاكم لرسول الله كان عند الله ذنبا عظيما.
إن تبدوا شيئا أو تخفوه: أي إن تظهروا رغبة في نكاح أزواج الرسول بعد وفاته أو تخفوه في نفوسكم فسيجزيكم الله به شر الجزاء.
لا جناح عليهن في آبائهن الخ: أي لا حرج على نساء الرسول في أن يظهرن لمحارمهن المذكورين في الآية.
ولا نسائهن: أي المؤمنات أما الكافرات فلا.
ولا ما ملكت أيمانهن: أي من الإماء والعبيد في أن يرونهن ويكملونهن من دون حجاب.
واتقين الله: أي يا نساء النبي فيما أمرتن به من الحجاب وغيره.
معنى الآيات:
لما بين تعالى لرسوله ما ينبغي له مراعاته من شأن أزواجه أمهات المؤمنين بين تعالى بهذه الآية [54] ما يجب على المؤمنين مراعاته أيضا نحو أزواج النبي أمهاتهم فقال { يأيها الذين آمنوا } حقا وصدقا { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } بالدخول إلى طعام تطعمونه غير ناظرين إناه أي وقته، وذلك أن هذه الآية والمعروفة بآية الحجاب نزلت في شأن نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أكلوا طعام الوليمة التي أقامها رسول الله لما زوجه الله بزينب بنت جحش رضي الله عنها، وكان الحجاب ما فرض بعد على النساء مكثوا بعد انصراف الناس يتحدثون فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أمامهم لعلهم يخرجون فما خرجوا وتردد رسول الله على البيت فيدخل ويخرج رجاء أن يخرجوا معه فلم يخرجوا واستحى صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هيا فاخرجوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله تعالى غير ناظرين إناه يعني ذلك النفر ومن يريد أن يفعل فعلهم فإذا وجه إليه أخوه استدعاء لحضور وليمة بعد الظهر مثلا أتى إلى المنزل من قبل الظهر يضايق أهل المنزل فهذا معنى غير ناظرين إناه أي وقته لأن الإنى هو الوقت.
وقوله ولكن إذا دعيتم فادخلوا أي فلا تدخلوا بدون دعوة أو إذن فإذا طعمتم أي فرغتم من الأكل فانصرفوا منتشرين في الأرض فهذا إلى بيته وهذا إلى بيت ربه وهذا إلى عمله. وقوله: { ولا مستأنسين لحديث } أي ولا تمكثوا بعد الطعام يحدث بعضكم بعضا مستأنسين بالحديث. حرم تعالى هذا عليكم أيها المؤمنون لأنه يؤذي رسوله. وان كان الرسول لكمال أخلاقه لا يأمركم بالخروج حياء منكم فالله لا يستحي من الحق فلذا أمركم بالخروج بعد الطعام مراعاة لمقام رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: { وإذا سألتموهن متاعا } أي طلبتم شيئا من الأمتعة التي توجد في البيت كإناء ونحوه فاسألوهن من وراء حجاب أي باب وستر ونحوهما لا مواجهة لحرمة النظر إليهن. وقوله ذلكم أطهر لقلوبكم أنتم أيها الرجال وقلوبهن أيتها الأمهات أطهر أي من خواطر السوء الفاسدة التي لا يخلو منها قلب الإنسان إذا خاطب فحل أنثى أو خاطبت امرأة فحلا من الرجال.
وقوله تعالى: { وما كان لكم } أي ما ينبغي ولا يصح أن تؤذوا رسول الله أي أذى ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أي ولا أن تتزوجوا بعد وفاته نساءه فإنهن محرمات على الرجال تحريم الأمهات تحريما مؤبدا لا يحل بحال، وقوله تعالى: { إن ذلكم } أي المذكور من أذى رسول الله والزواج من بعده بنسائه كان عند الله أي في حكمه وقضائه وشرعه ذنبا عظيما لا يقادر قدره ولا يعرف مدى جزائه وعقوبته إلا الله.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [53] وقوله تعالى إن تبدوا شيئا أي تظهروه أو تخفوه أي تستروه يريد من الرغبة في الزواج من نساء الرسول بعد موته صلى الله عليه وسلم فإن الله كان بكل شيء عليما وسيجزيكم بتلك الرغبة التي أظهرتموها أو أخفيتموها في نفوسكم شر الجزاء وأسوأه. فاتقوا الله وعظموا ما عظم من حرمات رسوله صلى الله عليه وسلم. هذا ما دلت عليه الآية [54].
وقوله تعالى في الآية [55] لا جناح عليهن أي لا تضييق ولا حرج ولا إثم على النساء المؤمنات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين في أن يظهرن وجوههن ويكلمن بدون حجاب أي وجها لوجه آباءهن الأب والجد وإن علا، وأبناءهن الابن وابن الابن وإن نزل وابن البنت كذلك وإن نزل. وإخوانهن وأبناء إخوانهن وإن نزلوا وأبناء أخواتهن وإن نزلوا، ومماليكهن من إماء وعبيد.
وقوله تعالى { واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا } أمر من الله لنساء النبي ونساء المؤمنين بتقوى الله فيما نهاهن عنه وحرمه عليهن من إبداء الوجه للأجانب غير المحارم المذكورين في الآية وتذكيرهم بشهود الله تعالى لكل شيء واطلاعه على كل شيء ليكون ذلك مساعادا على التقوى.
هدى الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما ينبغي للمؤمنين أن يلتزموه من الآداب في الاستئذان والدخول على البيوت لحاجة الطعام ونحوه.
2- بيان كمال الرسول صلى الله عليه وسلم في خلقه في أنه ليستحي أن يقول لضيفه أخرج من البيت فقد انتهى الطعام.
3- وصف الله تعالى نفسه بأنه لا يستحي من الحق أن يقوله ويأمر به عباده.
4- مشروعية مخاطبة الأجنبية من وراء حجاب ستر ونحوه.
5- حرمة أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها جريمة كبرى لا تعادل بأخرى.
6- بيان أن الإنسان لا يخلو من خواطر السوء إذا كلم المرأة ونظر إليها.
7- حرمة نكاح أزواج الرسول بعد موته وحرمة الخاطر يخطر بذلك.
8- بيان المحارم الذين للمسلمة أن تكشف وجهها أمامهم وتخاطبهم بدون حجاب.
9- الأمر بالتقوى ووعيد الله لمن لا يتقه في محارمه.
[33.56-59]
شرح الكلمات:
يصلون على النبي: صلاة الله على النبي هي ثناؤه ورضوانه عليه، وصلاة الملائكة دعاء واستغفار له، وصلاة العباد عليه تشريف وتعظيم لشأنه.
صلوا عليه وسلموا تسليما: أي قولوا: اللهم صل على محمد وسلم تسليما.
يؤذون الله ورسوله: أي بسبب أو شتم أو طعن أو نقد.
يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا: أي يرمونهم بأمور يوجهونها إليهم تهما باطلة لم يكتسبوا منها شيئا.
فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا: أي تحملوا كذبا وذنبا ظاهرا.
يدنين عليهن من جلابيبهن: أي يرخين على وجههن الجلباب حتى لا يبدو من المرأة إلا عين واحدة تنظر بها الطريق إذا خرجت لحاجة.
ذلك أدنى أن يعرفن: أي ذلك الإدناء من طرف الجلباب على الوجه أقرب.
فلا يؤذين: أي يعرفن أنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون بالأذى.
وكان الله غفورا رحيما: أي غفورا لمن تاب من ذنبه رحيما به بقبول توبته وعدم تعذيبه بذنب تاب منه.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة ما يجب على المؤمنين من تعظيم نبيهم واحترامه حيا وميتا أعلن في هذه الآية [56] عن شرف نبيه الذي لا يدانيه شرف وعن رفعته التي لا تدانيها رفعة فأخبر أنه هو سبحانه وتعالى يصلى عليه وأن ملائكته كذلك يصلون عليه وأمر المؤمنين كافة أن يصلوا عليه فقال: { إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } فكان واجبا على كل مؤمن ومؤمنة أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة في العمر يقول: اللهم صل على محمد وسلم تسليما. وقد بينت السنة أنواعا من صيغ الصلاة والسلام على الرسول أعظمها أجرا الصلاة الإبراهيمية وهي واجبة في التشهد الأخير من كل صلاة فريضة أو نافلة، وتستحب استحبابا مؤكدا عند ذكره صلى الله عليه وسلم وفي مواطن أخرى. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [56] أما الآية الثانية [57] فقد أخبر تعالى عباده أن الذين يؤذون الله بالكذب عليه أو انتقاصه بوصفه بالعجز أو نسبة الولد إليه أو الشريك وما إلى ذلك من تصوير الحيوان إذ الخلق اختص به الله فلا خالق إلا هو فلا تجوز محاكاته في الخلق، ويؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بسب أو شتم أو انتقاص أو تعرض له أو لآل بيته أو أمته أو سنته أو دينه هؤلاء لعنهم الله في الدنيا والآخرة أي طردهم من رحمته، وأعد لهم أي هيأ وحضر لهم عذابا مهينا لهم يذوقونه بعد موتهم ويوم بعثهم يوم القيامة. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة [58] أما الآية الرابعة [59] فإنه لما كان المؤمنات يخرجن بالليل لقضاء الحاجة البشرية إذ لم يكن لهم مراحيض في البيوت وكان بعض سفهاء المنافقين يتعرضون لهن بالغمز والكلمة السفيهة وهم يقصدون على عادتهم الإماء لا الحرائر فتأذى بذلك المؤمنات وشكون إلى أزواجهن ما يلقين من تعرض بعض المنافقين لهن فأنزل الله تعالى هذه الآية { يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونسآء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } والجلباب هو الملاءة أو العباءة تكون فوق الدرع السابغ الطويل، أي مرهن بأن يدنين من طرف الملاءة على الوجه حتى لا يبقى إلا عين واحدة ترى بها الطريق، وبذلك يعرفن أنهن حرائر عفيفات فلا يؤذيهن بالتعرض لهن أولئك المنافقون والسفهاء عليهم لعائن الله.
وقوله تعالى { وكان الله غفورا رحيما } أخبر عباده أنه تعالى كان وما زال غفورا لمن تاب من عباده رحيما به فلا يعذبه بعد توبته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان شرف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب الصلاة والسلام عليه في التشهد الأخير في الصلاة.
2- بيان ما يتعرض له من يؤذي الله ورسوله من غضب وعذاب.
3- بيان مقدار ما يتحمله من يؤذي المؤمنين والمؤمنات بالقول فينسب إليهم ما لم يقولوا أو لم يفعلوا أو يؤذيهم بالفعل بضرب جسم أو أخذ مال أو انتهاك عرض.
4- وجوب تغطية المؤمنة وجهها إذا خرجت لحاجتها إلا ما كان من عين ترى بها الطريق، واليوم بوجود الأقمشة الرقيقة لا حاجة إلى إبداء العين إذ تسبل قماشا على وجهها فيستر وجهها وترى معه الطريق واضحا والحمد لله.
[33.60-62]
شرح الكلمات:
لئن لم ينته المنافقون: أي عن نفاقهم وهو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
والذين في قلوبهم مرض: أي مرض حب الفجور وشهوة الزنا.
والمرجفون في المدينة: أي الذين يأتون بالأخبار الكاذبة لتحريك النفوس وزعزعتها كقولهم العدو على مقربة من المدينة أو السرية الفلانية قتل أفرادها وما إلى ذلك.
لنغرينك بهم: أي لنسلطنك عليهم ولنحرشنك بهم.
ثم لا يجاورنك فيها إلا قليلا: أي في المدينة إلا قليلا من الأيام ثم يخرجوا منها أو يهلكوا.
ملعونين: أي مبعدين عن الرحمة.
أينما ثقفوا أخذوا: أينما وجدوا أخذوا أسرى وقتلوا تقتيلا.
سنة الله في الذين خلوا من قبل: أي سن الله هذا سنة في الأمم الماضية أينما ثقف المنافقون والمرجفون أخذوا وقتلوا تقتيلا.
ولن تجد لسنة الله تبديلا: أي منه تعالى إذ هي ليست أحكاما يطرأ عليها التبديل والتغيير بل هي سر التشريع وحكمته.
معنى الآيات:
لقد تقدم أن بعض النسوة اشتكين ما يلقينه من تعرض المنافقين لهن عند خروجهن ليلا لقضاء الحاجة، وأن الله تعالى أمر نساء المؤمنين أن يدنين من جلابيبهن وعلة ذلك أن يعرفن أنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون وكان ذلك إجراء وقائيا لا بد منه، ثم أقسم الجبار بقوله { لئن لم ينته المنافقون } أي وعزتي وجلالي لئن لم ينته هؤلاء المنافقون من نفاقهم وأعمالهم الاستفزازية والذين في قلوبهم مرض الشهوة وحب الفجور والمرجفون الذين يكذبون الأكاذيب المرجفة أي المحركة للنفوس كقولهم: العدو زاحف على المدينة والسرية الفلانية انهزمت أو قتل أكثر أفرادها لئن لم ينته هؤلاء لنغرينك بهم أي لنحرشنك بهم ثم لنسلطنك عليهم. ثم لا يجاورونك فيها أي في المدينة إلا قليلا، ثم يخرجوا منها أو يهلكوا ملعونين أي يخرجون ملعونين أي مطرودين من الرحمة الإلهية التي تصيب سكان المدينة النبوية، وحينئذ أينما ثقفوا أي وجدوا وتمكن منهم أخذوا أي أسرى وقتلوا تقتيلا حتى لا يبقى منهم أحد.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [60] { لئن لم ينته المنافقون.. } والثانية [61] { ملعونين... } الخ. أما الآية الثالثة [62] سنة الله في الذين خلوا من قبل، أي لقد سن الله تعالى هذا سنة في المنافقين من أنهم إذا لم ينتهوا يلعنون ثم يسلط عليهم من يأخذهم ويقتلهم تقتيلا، وقوله: ولن تجد لسنة الله تبديلا يخبر تعالى أن ما كان من قبل السنن كالطعام يشبع والماء يروى والنار تحرق والحديد يقطع لا يبدله تعالى بل يبقى كذلك لأنه مبني على أساس الحكم التشريعية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بالمنافقين وتهديدهم بامضاء سنة الله تعالى فيهم إذا لم يتوبوا.
2- مشروعية إبعاد أهل الفساد من المدن الإسلامية أو يتوبوا بترك الفساد والإفساد، وخاصة المدينة النبوية الشريفة.
3- بيان أن ما كان من الأشياء من قبل السنن لا يتبدل بتبدل الأحوال والظروف بل يبقى كما هو لا يبدله الله تعالى ولا يغيره.
[33.63-68]
شرح الكلمات:
يسألك الناس عن الساعة: أي يهود المدينة كما سأله أهل مكة فاليهود سألوه امتحانا والمشركون تكذيبا لها واستعجالا لها.
قل إنما علمها عند الله: أي أجب السائلين قائلا إنما علمها عند ربي خاصة فلم يعلمها غيره.
وما يدريك: أي لا أحد يدريك أيها الرسول أي يخبرك بها إذ علمها لله وحده.
لعل الساعة تكون قريبا: أي وما يشعرك أن الساعة قد تكون قريبة القيام.
وأعد لهم سعيرا: أي نارا متسعرة.
خالدين فيها: أي مقدرا خلودهم فيها إذ الخلود يكون بعد دخولهم فيها.
تقلب وجوههم في النار: أي تصرف من جهة إلى جهة كاللحم عند شيه يقلب في النار.
يا ليتنا أطعنا الله: أي يتمنون بأقوالهم لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول.
وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا: هذا قول الأتباع يشكون إلى الله سادتهم ورؤساءهم.
فأضلونا السبيلا: أي طريق الهدى الموصل إلى رضا الله عز وجل بطاعته.
آتهم ضعفين من العذاب: أي اجعل عذابهم ضعفي عذابنا لأنهم أضلونا.
والعنهم لعنا كبيرا: أي أخزهم خزيا متعدد المرات في عذاب جهنم.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يسألك الناس عن الساعة } أي ميقات مجيئها والسائلون مشركون وأهل الكتاب فالمشركون يسألون عنها استبعادا لها فسؤالهم سؤال استهزاء واليهود يسألون امتحانا للرسول صلى الله عليه وسلم، فأمره تعالى أن يجيب السائلين بجواب واحد وهو إنما علمها عند الله، أي انحصر علمها في الله تعالى إذ أخفى الله تعالى أمرها عن الملائكة والمقربين منهم والأنبياء والمرسلين منهم كذلك فضلا عن غيرهم فلا يعلم وقت مجيئها إلا هو سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: { وما يدريك } أي لا أحد يعلمك بها أيها الرسول، وقوله { لعل الساعة تكون قريبا } أي وما يشعرك يا رسولنا لعل الساعة تكون قريبة القيام وهي كذلك قال تعالى:
اقترب للناس حسابهم
[الأنبياء: 1] وقال
اقتربت الساعة
[القمر: 1] فأعلم بالقرب ولم يعلم بالوقت لحكم عالية منها استمرار الحياة كما هي حتى آخر ساعة.
وقوله تعالى: { إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا } المكذبين بالساعة المنكرين لرسالتك الجاحدين بنبوتك لعنهم فطردهم من رحمته أعد لهم نارا مستعرة في جهنم خالدين فيها إذا دخلوها لم يخرجوا منها أبدا { لا يجدون وليا } أي يتولاهم فيدفع العذاب عنهم { ولا نصيرا } أي ينصرهم ويخلصهم من محنتهم في جهنم. وقوله: { يوم تقلب وجوههم في النار } تصرف من جهة إلى جهة كما يقلب اللحم عند شيه يقولون عند ذلك يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول يتحسرون متمنين لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا ولم يكونوا عصوا الله والرسول. وقوله تعالى: { وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا } هذه شكوى منهم واعتذارا وأنى لهم أن تقبل شكواهم وينفعهم اعتذارهم.
أطعناهم فيما كانوا يأمروننا به من الكفر والشرك وفعل الشر فأضلونا السبيلا أي طريق الهدى فعشنا ضالين ومتنا كافرين وحشرنا مع المجرمين. { ربنآ } أي يا ربنا آتهم ضعفين من العذاب أي ضاعف يا ربنا لسادتنا وكبراءنا الذين أضلونا ضاعف لهم العذاب فعذبهم ضعفي عذابنا، والعنهم أي واخزهم في العذاب خزيا كبيرا يتوالى عليهم دائما وأبدا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن علم الساعة استأثر الله به فلا يعلم وقت مجيئها غيره.
2- بيان أن الساعة قريبة القيام، ولا منافاة بين قربها وعدم علم قيامها.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوال الكافرين فيها.
4- بيان أن طاعة السادة والكبراء في معاصي الله ورسوله يعود بالوبال على فاعليه.
[33.69-73]
شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا: أي يا من صدقوا بالله ورسوله ولقاء الله وما جاء به رسول الله.
لا تكونوا كالذين آذوا موسى: أي لا تكونوا مع نبيكم كما كان بنو إسرائيل مع موسى إذ آذوه بقولهم إنه ما يمنعه من الاغتسال معنا إلا أنه آدر.
فبرأه الله مما قالوا: أي أراهم أنه لم يكن به أدرة وهي انتفاخ إحدى الخصيتين.
وكان عند الله وجيها: أي ذا جاه عظيم عند الله فلا يخيب له مسعى ولا يرد له مطلبا.
وقولوا قولا سديدا: أي صدقا صائبا.
يصلح لكم أعمالكم: أي الدينية والدنيوية إذ على الصدق والموافقة للشرع نجاح الأعمال والفوز بثمارها.
فقد فاز فوزا عظيما: أي نال غاية مطلوبة وهو النجاة من النار ودخول الجنة.
إنا عرضنا الأمانة: أي ما ائتمن عليه الإنسان من سائر التكاليف الشرعية وما ائتمنه عليه أخوه من حفظ مال أو قول أو عرض أو عمل.
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها: أي رفضن الالتزام بها وخفن عاقبة تضييعها.
وحملها الإنسان: أي آدم وذريته.
إنه كان ظلوما جهولا: أي لأنه كان ظلوما أي كثير الظلم لنفسه جهولا بالعواقب.
ليعذب الله المنافقين: أي وتحملها الإنسان قضاء وقدرا ليرتب الله تعالى على ذلك عذاب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب على المؤمنين والمؤمنات فيغفر لهم ويرحمهم وكان الله غفورا رحيما.
معنى الآيات:
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى ينادي الله تعالى مؤمني هذه الأمة ناهيا لهم عن أذى نبيهم بأدنى أذى، وأن لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا موسى في غير موطن ومن ذلك ما ذكره صلى الله عليه وسلم عنه في قوله من رواية مسلم أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده فقالوا: ما منعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر وأخذ يغتسل وإذا بالحجر يهرب بالثوب فيجري موسى وراءه حتى وقف به على جمع من بني إسرائيل فرأوا أنه ليس به أدره ولا برص كما قالوا فهذا معنى فبرأه الله مما قالوا، وكان عند الله وجيها أي ذا جاه عظيم.
ومما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى أذاه في إتهام زوجه بالفاحشة من قبل أصحاب الإفك وقول بعضهم له وقد قسم مالا هذه قسمة ما أريد به وجه الله.
وقول بعضهم اعدل فينا يا رسول الله فقال له ويحك إذا لم أعدل أنا فمن يعدل؟
وكان يقول يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر!! هذا ما دلت عليه الآية الأولى [69] اما الآية الثانية [70] فقد نادى تعالى عباده المؤمنين الذين نهاهم عن أذية نبيهم وأن لا يكونوا في ذلك كقوم موسى بن عمران ناداهم ليأمرهم بأمرين الأول بتقواه عز وجل إذ قال { يأيها الذين آمنوا } أي صدقوا الله ورسوله.
{ اتقوا الله } أي خافوا عقابه. فأدوا فرائضه واجتنبوا محارمه. والثاني بالتزام القول الحق الصائب السديد، ورتب على الأمرين صلاح أعمالهم ومغفرة ذنوبهم إذ قول الحق والتزام الصدق مما يجعل الأقوال والأعمال مثمرة نافعة، فتثمر زكاة النفس وطهارة الروح. ثم أخبرهم مبشرا إياهم بقوله: { ومن يطع الله ورسوله } في الأمر والنهي فقد فاز فوزا عظيما وهي سعادة الدارين: النجاة من كل مخوف والظفر بكل محبوب مرغوب ومن ذلك النجاة من النار ودخول الجنة. هذا ما تضمنه قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } وقوله تعالى: { إنا عرضنا الأمانة } يخبر تعالى منبها محذرا فيقول: { إنا عرضنا الأمانة } وهي شاملة للتكاليف الشرعية كلها ولكل ما أئتمن عليه الإنسان من شيء يحفظه لمن ائتمنه عليه حتى يرده إليه عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال بعد أن خلق لها عقلا ونطقا ففهمت الخطاب وردت الجواب فأبت تحملها بثوابها واشفقت وخافت من تبعتها، وعرضت على الإنسان آدم فحملها بتبعتها من ثواب وعقاب لأنه كان ظلوما لنفسه يوردها موارد السوء جهولا بعواقب الأمور. هذا ما دلت عليه الآية الرابعة [72] وهي قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا. وقوله تعالى: { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } أي بتبعة النفاق والشرك، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات أي تم عرض الأمانة وقبول آدم لها ليؤول الأمر إلى أن يكفر بعض أفراد الإنسان فيعذبوا بكفرهم الذي نجم عن تضييع الأمانة، ويؤمن بعض آخر فيفرط بعض التفريط ويتوب فيتوب الله عليه فيغفر له ويدخله الجنة وكان الله غفورا رحيما ومن آثار ذلك أن تاب الله على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم ورحمهم بإدخالهم الجنة فسبحان الله المدبر الحكيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب تقوى الله عز وجل بفعل الأوامر واجتناب المناهي.
2- صلاح الأعمال لتثمر للعاملين الزكاة للنفس، وطيب الحياة متوقف على التزام الصدق في القول والعمل وهو القول السديد المنافي للكذب والانحراف في القول والعمل.
3- طاعة الله ورسوله سبيل الفوز والفلاح في الدارين.
4- وجوب رعاية الأمانة وأدائها، ولم يخل أحد من أمانة.
5- وصف الإنسان بالظلم والجهل وبالكفر والمهانة والضعف في آيات أخرى يستلزم طلب علاج لهذه الصفات. وعلاجها جاء مبينا في سورة المعارج في قوله
إلا المصلين
[المعارج: 22] إلى قوله
والذين هم على صلاتهم يحافظون
[المعارج: 34].
[34 - سورة سبإ]
[34.1-2]
شرح الكلمات:
الحمد لله: أي الوصف بالجميل واجب لله مستحق له.
الذي له ما في السماوات وما في الأرض: أي خلقا وملكا وتصريفا وتدبيرا.
وله الحمد في الآخرة: أي يحمده فيها أولياؤه وهم في رياض الجنان، كما له الحمد في الدنيا.
وهو الحكيم الخبير: أي الحكيم في أفعاله الخبير بأحوال عباده.
يعلم ما يلج في الأرض: أي ما يدخل فيها من مطر وأموات وكنوز.
وما يخرج منها: أي من نبات وعيون ومعادن.
وما ينزل من السماء: أي من ملائكة وأمطار وأرزاق ونحوها.
وما يعرج فيها: أي وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد وأرواحهم بعد الموت.
وهو الرحيم الغفور: أي الرحيم بالمؤمنين الغفور للتائبين.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى عباده بأن له الحمد والشكر الكاملين التامين، دون سائر خلقه، فلا يحمد على الحقيقة إلا هو أما مخلوقاته فكل ما يحمد له هو من عطاء الله تعالى لها وإفاضته عليها فلا يستحق الحمد على الحقيقة إلا الله، كما أخبر تعالى بموجب حمده وشكره وهو أن له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا وتدبيرا وتصريفا وليس لأحد سواه من ذلك شيء هذا في الدنيا، { وله الحمد في الآخرة } إذ يكرم أولياءه فينزلهم دار السلام فيحمدونه على ذلك
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشآء
[الزمر: 74] وقوله تعالى { وهو الحكيم الخبير } في تصريف أمور عباده وسائر مخلوقاته وتدبيرها الخبير بأحوالها العليم بصفاتها الظاهرة والباطنة.
وقوله { يعلم ما يلج } أي ما يدخل في الأرض من مطر وكنوز وأموات، { وما يخرج منها } أي من الأرض من نبات ومعادن ومياه، وما ينزل من السماء من أمطار وملائكة وأرزاق، { وما يعرج فيها } أي يصعد من ملائكة وأعمال العباد. وهو مع القدرة والجلال والكمال هو وحده الرحيم بعباده المؤمنين الغفور للتائبين. بهذه الصفات الثابتة للذات الإلهية وهي صفات جلال وجمال وكمال استحق الرب تعالى العبادة دون سواه فكل تأليه لغيره هو باطل ومنكر وزور يجب تركه والتخلي عنه، والتنديد بفاعله حتى يتركه ويتخلى عنه.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب حمد الله تعالى وشكره بالقلب واللسان والجوارح والأركان.
2- بيان أن الحمد لا يصح إلا مع مقتضيه من الجلال والجمال.
3- لا يحمد في الآخرة إلا الله سبحانه وتعالى.
4- بيان علم الله تعالى بالظواهر والبواطن في كل خلقه.
5- تقرير توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته.
[34.3-6]
شرح الكلمات:
لا تأتينا الساعة: أي القيامة.
لا يعزب عنه: أي لا يغيب عنه.
مثقال ذرة: أي وزن ذرة: أصغر نملة.
ولا أصغر من ذلك ولا أكبر: أصغر من الذرة ولا أكبر منها.
إلا في كتاب مبين: أي موجود في اللوح المحفوظ مكتوب فيه.
ليجزي الذين آمنوا: أي اثبته في اللوح المحفوظ ليحاسب به ويجزي صاحبه.
والذين سعوا في آياتنا: أي عملوا على إبطالها وسعوا في ذلك جهدهم.
معاجزين: أي مغالبين لنا ظانين عجزنا عنهم، وأنهم يفوتوننا فلا نبعثهم ولا نحاسبهم ولا نجزيهم.
عذاب من رجز أليم: أي عذاب من أقبح العذاب وأسوأه.
ويرى الذين أوتوا العلم: أي ويعلم الذين أوتوا العلم وهم علماء أهل الكتاب كعبدالله ابن سلام وأصحابه.
الذي أنزل إليك من ربك هو الحق: أي القرآن هو الحق الموحى به من الله تعالى.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد: أي القرآن يهدي إلى صراط الله الموصل إلى رضاه وجواره الكريم وهو الإسلام. والعزيز ذو العزة والحميد المحمود.
معنى الآيات:
بعد ما قررت الآيات السابقة توحيد الله في ربوبيته وألوهيته ذكر تعالى في هذه الآيات تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى مخبرا بما قاله منكرا البعث والجزاء: { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } وهو إنكار منهم للبعث إذ الساعة هي ساعة الفناء والبعث بعدها، وأمر رسوله أن يقول لهم: { بلى وربي لتأتينكم } أي أقسم لهم بالله تعالى ربه ورب كل شيء لتأتينهم أحبوا أم كرهوا ثم أثنى الرب تبارك وتعالى على نفسه بصفة العلم إذ البعث يتوقف على العلم كما يتوقف على القدرة والقدرة حاصلة، إذ خلقهم ورزقهم ويميتهم. فذكر تعالى أنه عالم الغيب وهو كل ما غاب في السماوات وفي الأرض. وأخبر أنه لا يعزب أي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة أي وزن ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من الذرة ولا أكبر أيضا إلا في كتاب مبين أي بين وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل أحداث العالم فلا حركة ولا سكون وقع أو يقع في الكون إلا وله صورته ووقته في اللوح المحفوظ.
هذا ما تضمنته الآية الثالثة وقوله تعالى في الآية [4] ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي إذ الحكمة من كتابة الأحداث صغيرها وكبيرها ومن البعث الآخر هي ليجزي تعالى الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض والسنن بما ذكر من جزائهم في قوله: { أولئك لهم مغفرة } أي لذنوبهم { ورزق كريم } في الجنة وقوله في الآية [5] { والذين سعوا في آياتنا } بين فيه جزاء الكافرين بعد أن بين جزاء المؤمنين ذلك الجزاء الذي هو حكمة وعلة البعث وكتابة الأعمال في اللوح المحفوظ فقال: { والذين سعوا في آياتنا معاجزين } أي والذين عملوا جهدهم في إبطال آيات الله إذ قالوا فيها أنها من كلام الكهان وانها شعر وأساطير الأولين حتى لا يؤمنوا ولا يوحدوا أولئك البعداء في الخسة والانحطاط لهم جزاء، عذاب من رجز أليم والرجز سيء العذاب وأشده ومعنى أليم أي ذي ألم وإيجاع شديد.
وقوله تعالى: في الآية [6] ويرى الذين أوتوا العلم، أي ويعلم علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب. الذي أنزل إليك من ربك وهو القرآن الكريم هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، وعلم أهل الكتاب بأن القرآن حق ناتج عن موافقته لما في كتاب الله التوراة من عقيدة القدر وكتابة الأعمال دقيقها وجليلها في اللوح المحفوظ ليجزي بها الله تعالى المؤمنين والكافرين يوم القيامة.
هذا ما دلت عليه الآية [6] والأخيرة وهي قوله تعالى: { ويرى } أي وليعلم { الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } وهو الإسلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعد تقرير توحيد الألوهية.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر وكتابة الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ.
3- طلب شهادة أهل الكتاب على صحة الإسلام والحصول عليها لموافقة التوراة للقرآن.
4- تقرير النبوة إذ القرآن فرع نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ودليلها المقرر لها.
[34.7-9]
شرح الكلمات:
وقال الذين كفروا: أي قال بعضهم لبعض على جهة التعجيب.
هل ندلكم على رجل: أي محمد صلى الله عليه وسلم.
إذا مزقتم كل ممزق: أي قطعتم كل التقطيع.
إنكم لفي خلق جديد: أي تبعثون خلقا جديدا لم ينقص منكم شيء.
أم به جنة: أي جنون تخيل له بذلك.
بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد: أي ليس الأمر كما يقول المشركون من افتراء الرسول أو جنونه بل الأمر الثابت والواقع أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب في الآخرة، وفي الضلال البعيد في الدنيا.
أفلم يروا: أي ينظروا.
إلى ما بين أيديهم وما خلفهم: أي من أمامهم وورائهم وفوقهم وتحتهم إذ هم محاطون من كل جهة من السماء والأرض.
أو نسقط عليهم كسفا: أي قطعا جمع كسفة أي قطعة.
إن في ذلك لآية: أي علامة واضحة ودليلا قاطعا على قدرة الله عليهم.
لكل عبد منيب: أي لكل مؤمن منيب إلى ربه رجاع إليه في أمره كله.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء إنه لما قررها تعالى في الآيات قبل أورد هنا ما يتقاوله المشركون بينهم في تهكم واستهزاء واستبعاد للحياة الآخرة. فقال تعالى حاكيا قولهم: { وقال الذين كفروا } وهم مشركو مكة أي بعضهم لبعض متعجبين { هل ندلكم على رجل } يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم { ينبئكم } أي يخبركم بأنكم إذا متم وتمزقت لحومكم وتكسرت عظامكم وذهبتم في الأرض ترابا تبعثون في خلق جديد بعد أن مزقتم كل ممزق اي كل التمزيق فلم يبق شيء متصل ببعضه بعضا. { أفترى على الله كذبا } أي محمد فكذب على الله هذا القول وزوره عنه وادعى أنه أخبره بوجود بعث جديد للناس بعد موتهم لحسابهم وجزائهم؟! أم به جنة أي به مس من جنون فهي تخيل له صور البعث وما يجري فيه وهو يخبر به ويدعو إلى الإيمان به؟ وهنا رد الله تعالى عليهم كذبهم وباطلهم فقال { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } أي ليس الأمر كما يقولون من أن النبي افترى على الله كذبا، أو به جنون فتخيل له البعث وإنما الأمر الثابت والواقع المقطوع به أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب يوم القيامة. وفي الضلال البعيد اليوم في الدنيا وشؤمهم أتاهم من تكذيبهم بالآخرة.
ثم قال تعالى مهددا لهم لعلهم يرتدعون عن التهجم والتهكم بالنبي صلى الله عليه وسلم { أفلم يروا } أي أعموا فلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض أفلم ينظروا كيف هم محاطون من فوقهم ومن تحتهم ومن أمامهم ومن ورائهم أي الأرض تحتهم والسماء فوقهم { إن نشأ نخسف بهم الأرض } فيعودون فيها { أو نسقط عليهم كسفا } أي قطعا من السماء فتهلكهم عن آخرهم فلا يجدون مهربا والجواب لا، لأنهم مهما جروا هاربين لا تزال السماء فوقهم والأرض تحتهم والله قاهر لهم متى شاء خسف بهم أو أسقط السماء عليهم.
وقوله تعالى { إن في ذلك لآية لكل عبد منيب } أي إن في ذلك المذكور من إحاطة السماء والأرض وقدرة الله على خسف من شاء خسف الأرض بهم وإسقاط كسف من السماء على من شاء ذلك لهم آية. وعلامة بارزة على قدرة الله على إهلاك من شاء ممن كفروا بالله وبرسوله وكذبوا بلقائه. وكون المذكور آية لكل عبد منيب دون غيره لأن المنيب هو الرجاع إلى ربه كلما أذنب آب لخشيته من ربه فالخائف الخاشي هو الذي يجد الآية واضحة أمامه في إحاطة الأرض والسماء بالإنسان وقدرة الله على خسف الأرض به أو إسقاط السماء كسفا عليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان المشركون عليه من استهزاء وتكذيب وسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم.
2- تقرير البعث وأن المكذبين به محكوم عليهم بالعذاب فيه.
3- لفت الأنظار إلى قدرة الله تعالى المحيطة بالإنسان ليخشى الله تعالى ويرهبه فيؤمن به ويعبده ويوحده.
4- فضل الإنابة إلى الله وشرف المنيب. والإنابة الرجوع إلى التوبة بعد الذنب والمعصية، والمنيب الذي رجع في كل شيء إلى ربه تعالى.
[34.10-14]
شرح الكلمات:
ولقد آتينا داود منا فضلا: أي نبوة وملكا.
يا جبال أوبى معه: أي وقلنا يا جبال أوبي معه أي رجعي معه بالتسبيح.
والطير: أي والطير تسبح أيضا معه.
وألنا له الحديد: أي جعلناه له في اللين كالعجينة يعجنها كما يشاء.
أن اعمل سابغات: أي دروعا طويلة تستر المقاتل وتقيه ضرب السيف.
وقدر في السرد: أي اجعل المسمار مناسبا للحلقة، فلا يكن غليظا ولا دقيقا، أي اجعل المسامير مقدرة على قدر الحلق لما يترتب على عدم المناسبة من فساد الدرع وعدم الانتفاع بها.
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر: أي وسخرنا لسليمان الريح غدوها أي سيرها من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر ورواحها من منتصف النهار إلى الليل شهر كذلك أي مسافة شهر.
وأسلنا له عين القطر: أي وأسلنا له عين النحاس.
ومن يزغ منهم: أي ومن يعدل عن طاعة سليمان فلم يطعه نذقه من عذاب السعير.
من محاريب: جمع محراب المقصورة تكون إلى جوار المسجد للتعبد فيها.
وجفان كالجواب: أي وقصاع في الكبر كالحياض التي حول الآبار يجبى إليها الماء.
وقدور راسيات: أي وقدور كبار ثابتات على الأثافي لكبرها لا تحول.
إلا دابة الأرض : أي الأرضة.
تأكل منسأته: أي عصاه بلغة الحبشة.
فلما خر: أي سقط على الأرض ميتا.
تبينت الجن: أي انكشف لها فعرفت.
في العذاب المهين: وهو خدمة سليمان في الأعمال الشاقة.
معنى الآيات:
يذكر تعالى في هذا السياق الكريم مظاهر قدرته وإنعامه على عباده المؤمنين ترغيبا في طاعته وترهيبا من معصيته فيقول: { ولقد آتينا داوود منا فضلا } وهو النبوة والزبور " كتاب " والملك. وقلنا للجبال { أوبي معه } أي ارجعي صوت تسبيحه والطير أمرناها كذلك فكان إذا سبح ردد تسبيحه الجبال والطير. وهذا تسخير لا يقدر عليه إلا الله. وقوله: { وألنا له الحديد } وهذا امتنان آخر وهو تسخير الحديد له وتليينه حتى لكأنه عجينة يتصرف فيها كما شاء، وقلنا له اعمل دروعا طويلة سابغات تستتر بها في الحرب، (وقدر في السرد) وقوله { واعملوا صالحا } أي اعملوا بطاعتي وترك معصيتي فأدوا الفرائض والواجبات واتركوا الاثم والمحرمات. وقوله: { إني بما تعملون بصير } فيه وعد ووعيد إذ العلم بالأعمال يستلزم الثواب عليها إن كانت صالحة والعقاب عليها إن كانت فاسدة.
وقوله تعالى: { ولسليمان الريح } أي سخرنا لسليمان بن داود الريح { غدوها شهر ورواحها شهر } أي تقطع مسافة شهر في الصباح، وأخرى في المساء أي من منتصف النهار إلى الليل فتقطع مسيرة شهرين في يوم واحد، وذلك أنه كان لسليمان مركب من خشب يحمل فيه الرجال والعتاد وترفعه الجان من الأرض فإذا ارتفع جاءت عاصفة فتحملها ثم تتحول إلى رخاء فيوجه سليمان السفينة حيث شاء بكل ما تحمله وينزل بها كسفينة فضاء تماما.
وقوله تعالى { وأسلنا له عين القطر } وهو النحاس فكما ألان لداود الحديد للصناعة أجرى لسليمان عين النحاس لصناعته فيصنع ما شاء من آلات وأدوات النحاس.
وقوله تعالى { ومن الجن } أي وسخرنا من الجن من يعمل بين يديه أي أمامه وتحت رقابته يعمل له ما يريد عمله من أمور الدنيا. وذلك بإذن ربه تعالى القادر على تسخير ما يشاء لمن يشاء. وقوله { ومن يزغ منهم } أي ومن يعدل من الجن { عن أمرنا } أي عما أمرناهم بعمله وكلفناهم به { نذقه من عذاب السعير } وذلك يوم القيامة. وقوله { يعملون له ما يشآء } بيان لما في قوله { من يعمل بين يديه } من محاريب قصور أو بيوت تكون ملاصقة للمسجد للتعبد فيها، وتماثيل أي صور من نحاس أو خشب إذ لم تكن محرمة في شريعتهم وجفان جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة تتسع لعشرة من الأكلة، كالجواب أي في الكبر والجابية حوض يفرغ فيه ماء البئر ثم يسقى به الزرع أو قدور راسيات أي ويعملون له قدورا ضخمة لا تتحول بل تبقى دائما موضوعة على الأثافي ويطبخ فيها وهي في مكانها وذلك لكبرها ومعنى راسيات ثابتات على الأثافي.
وقوله تعالى { اعملوا } أي قلنا لهم اعملوا آل داود شكرا أي اعملوا الصالحات شكرا لله تعالى على هذا الإفضال والإنعام أي أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا ربكم في أمره ونهيه يكن ذلك منكم شكرا لله على نعمه. روى أنه لما أمروا بهذا الأمر قال داود عليه السلام لآله أيكم يكفيني النهار فإني أكفيكم الليل فصلوا لله شكرا فما شئت أن ترى في مسجدكم راكعا أو ساجدا في أية ساعة من ليل أو نهار إلا رايت. ويكفي شاهدا أن سليمان مات وهو قائم يصلي في المحراب. وقوله تعالى { وقليل من عبادي الشكور } هذا إخبار بواقع وصدق الله العظيم الشاكرون لله على نعمه قليل وفي كل زمان ومكان وذلك لإستيلاء الغفلة على القلوب من جهة ولجهل الناس بربهم وإنعامه من جهة أخرى.
وقوله تعالى في الآية [14] { فلما قضينا عليه الموت } أي توفيناه: ما دلهم على موته إلا دابة في الأرض أي الأرضة المعروفة تأكل منسأته فلما أكلتها خر على الأرض، وذلك أنه سأل ربه أن يعمى خبر موته عن الجن، حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب كما هم يدعون، فمات وهو متكئ على عصاه يصلي في محرابه، والجن يعملون لا يدرون بموته فلما مضت مدة من الزمن وأكلت الأرضة المنسأة وخر سليمان على الأرض علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان ولما أقاموا مدة طويلة في الخدمة والعمل الشاق وهم لا يدرون.
هذا معنى قوله تعالى { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب } - كما كان يدعى بعضهم - { ما لبثوا في العذاب المهين } أي الذي كان سليمان يصبه عليهم لعصيانهم وتمردهم على الطاعة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله تعالى لآل داود وما وهب داود وسليمان من الآيات.
2- فضيلة صنع السلاح وآلات الحرب لغرض الجهاد في سبيل الله.
3- مركبة سليمان سبقت صنع الطائرات الحالية بآلاف السنين.
4- شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما خصه الدليل كتحريم الصور والتماثيل علينا ولم تحرم عندهم.
5- وجوب الشكر على النعم، وأهم ما يكون به الشكر الصلاة والإكثار منها.
6- تقرير أن علم الغيب لله وحده.
[34.15-19]
شرح الكلمات:
لقد كان لسبأ في مسكنهم: أي لقد كان لقبيلة سبأ اليمانية في مسكنهم.
آية: أي علامة على قدرة الله وهي جنتان عن يمين وشمال.
بلدة طيبة ورب غفور: أي طيبة المناخ بعيدة عن الأوباء وأسبابها، والله رب غفور.
فأعرضوا: أي عن شكر الله وعبادته.
سيل العرم: أي سد السيل العرم.
ذواتي أكل خمط وأثل: أي صاحبتي أكل مر بشع وشجر الأثل.
ذلك: أي التبديل جزيناهم بكفرهم.
القرى التي باركنا فيها: هي قرى الشام مبارك فيها.
قرى ظاهرة: أي متواصلة من اليمن إلى الشام.
وقدرنا فيها السير: أي المسافات بينها مقدرة بحيث يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى.
فجعلناهم أحاديث: أي لمن جاء بعدهم أي أهلكناهم ولم يبق منهم إلا ذكرهم متداولا بين الناس.
ومزقناهم كل ممزق: أي فرقناهم في البلاد كل التفرق.
إن في ذلك لآيات: أي إن في ذلك المذكور من النعم وسلبها لعبرا.
لكل صبار شكور: أي صبار على الطاعات وعن المعاصي شكور على النعم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى إنعامه على آل داود وشكرهم له وأخبر أنه قليل من عباده من يشكر إنعامه عليه ذكر أولاد سبأ وأنه أنعم عليهم بنعم عظيمة وأنهم ما شكروها فأنزل بهم نقمته وسلبهم نعمته وذلك جزاء لكل كفور. فقال تعالى { لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال } أي لقد كان لأولاد سبأ وهم الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار، ومن أنمار جنعم وبجيلة ومن أولاد سبأ أربعة سكنوا في الشام وهم لخم وجدام وغسان، وعاملة وأبوهم سبأ هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقوله تعالى { في مسكنهم } أي في مساكنهم { آية } أي علامة على قدرة الله وإفضاله على عباده وهي جنتان عن يمين وشمال الوادي أي جنتان عن يمين الوادي وأخرى عن شماله كلها فواكه وخضر، تسقى بماء سد مأرب. كلوا من رزق ربكم أي قلنا لهم كلوا من رزق ربكم واشكروا له أي هذا الإنعام بالإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله.
وقوله { بلدة طيبة } أي هذه بلدة طيبة وهي صنعاء اليمن مناخها طيب وتربتها طيبة لا يوجد بها وباء ولا هوام ولا حشرات كالعقارب ونحوها، { ورب غفور } يغفر ذنوبكم متى أذنبتم وتبتم واستغفرتم. ولكن أبطرتهم هذه النعم فكفروها ولم يشكروا كما قال تعالى { فأعرضوا } بأن كذبوا رسل الله إليهم وعصوا الله ورسله فانتقم الله منهم لإعراضهم وعدم شكرهم كما هي سنته في عباده. قال تعالى { فأرسلنا عليهم سيل العرم } وذلك بأن خرب السد، وذهبت المياه وماتت الأشجار وأمحلت الأرض، وتبدلت قال تعالى: { وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط } أي مر بشع وهو شجر الأراك وأثل وهو الطرفاء، وشيء من سدر قليل.
هذا جزاء من أعرض عن ذكر الله وفسق عن أمره وخرج عن طاعته. قال تعالى { ذلك } أي الجزاء { جزيناهم بما كفروا } بسبب كفرهم وقوله: { وهل نجزي إلا الكفور } أي وهل نجازي بمثل هذا الجزاء وهو تحويل النعمة إلى نقمة غير الكفور.
وقوله تعالى: { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } وهي مدن الشام { قرى ظاهرة } أي مدنا ظاهرة على المرتفعات من الأرض، وذلك من صنعاء عاصمتهم إلى الشام قرابة أربعة آلاف وسبعمائة قرية أي مدينة ، وقوله { وقدرنا فيها السير } أي يجعل المسافات بين كل مدينة ومدينة متقاربة بحيث يخرج المسافر بلا زاد من ماء أو طعام فلا يقيل إلا في مدينة ويخرج بعد القيلولة فلا ينام إلا في مدينة أخرى حتى يصل إلى الشام أو إلى المدينة التي يريد. وهذا كان لهم قبل هدم السد وتفرقهم وقوله تعالى: { سيروا فيها ليالي وأياما آمنين } أي وقلنا لهم سيروا بين تلك المدن الليالي والأيام ذوات العدد آمنين من كل ما يخاف. وما كان منهم إلا أنهم بطروا النعمة وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم. أي حملهم بطر النعمة على أن سألوا ربهم بلسان حالهم أو قالهم أن يباعد بين مسافات أسفارهم بإزالة تلك المدن حتى يحملوا الزاد ويركبوا الخيول ويذوقوا طعم التعب وهذا في الواقع هو حسد من الأغنياء للفقراء الذين لا طاقة لهم على السفر في المسافات البعيدة بدون زاد ولا رواحل. قال تعالى { وظلموا أنفسهم } إذ بإعراضهم وحسدهم وبطرهم النعمة كانوا قد ظلموا أنفسهم فعرضوا لعذاب الحرمان في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، وقوله تعالى { فجعلناهم أحاديث } أي لمن بعدهم يروون أخبارهم ويقصون قصصهم بعد أن هلكوا وبادوا. وقوله تعالى { ومزقناهم كل ممزق } أي فرقناهم في البلاد كل تفريق بحيث لا يرجى لهم عود اتصال أبدا فذهب الأوس والخزرج إلى يثرب " المدينة النبوية " وهم الأنصار، وذهب غسان إلى الشام، والازد إلى عمان، وخزاعة إلى تهامة وأصبحوا مضرب المثل يقال: ذهبوا شذر مذر. وتفرقوا أيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. وقوله تعالى { إن في ذلك لآيات } أي إن في إنعام الله على أبناء سبأ ثم في نقمته عليهم لما بطروا النعمة وكفروا الطاعة لعبرا يعتبر بها كل صبور على الطاعات فعلا وعن المعاصي تركا، { شكور } أي كثير الشكر على النعم. اللهم اجعلنا لك من الشاكرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من الإعراض عن دين الله فإنه متى حصل لأمة نزلت بها النقم وسلبها الله النعم.
وكم هذه الحال مشاهدة هنا وهناك لا بين الأمم والشعوب فحسب بل حتى بين الأفراد.
2- التحذير من كفر النعم بالاسراف فيها وصرفها في غير مرضاة الله واهبها عز وجل.
3- خطر الحسد وانه داء لا دواء له، والعياذ بالله يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
4- فضيلة الصبر والشكر وعلو شأن الصبور الشكور.
[34.20-23]
شرح الكلمات:
ولقد صدق عليهم إبليس ظنه: أي صدق ظن إبليس فيهم أنه يستطيع إغواءهم.
فاتبعوه: في الكفر والضلال والإضلال.
إلا فريقا منهم: أي من بني آدم وهم المؤمنون المسلمون فإنهم لم يتبعوه وخاب ظنه فيهم زاده الله خيبة إلى يوم القيامة.
وما كان له عليهم من سلطان: أي ولم يكن لإبليس من تسليط منا عليهم لا بعصا ولا سيف وإنما هو التزيين والإغراء بالشهوات.
إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك: أي لكن أذنا له في إغوائهم - إن استطاع - بالتزيين والإغراء لنعلم علم ظهور من يؤمن ويعمل صالحا ممن يكفر ويعمل سوءا.
وربك على كل شيء حفيظ: أي وربك يا محمد على كل شيء حفيظ وسيجزى الناس بما كسبوا.
قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله: أي أنهم شركاء لله في ألوهيته.
لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض: أي ملكا استقلاليا لا يشاركهم الله فيه.
وما لهم فيها من شرك: أي وليس لهم من شركة في السماوات ولا في الأرض.
وما له منهم من ظهير: أي وليس لله تعالى من شركائكم الذين تدعونهم من معين على شيء.
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له: أي ولا تنفع الشفاعة أحدا عنده حتى يأذن هو له بها.
حتى إذا فزع عن قلوبهم: أي ذهب الفزع والخوف عنهم بسماع كلم الرب تعالى.
قالوا: ماذا قال ربكم؟: أي قال بعضهم لبعض استبشارا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق أي في الشفاعة.
وهو العلي الكبير: العلي فوق كل شيء علو ذات وقهر وهو الكبير المتعالي الذي كل شيء دونه.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ما حدث لسبأ من تقلبات وكان عامل ذلك هو تزيين الشيطان وإغواؤه أخبر تعالى عن حال الناس كل الناس فقال { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } أي فيهم لما علم ضعفهم أمام الشهوات فاستعمل تزيينها كسلاح لحربهم { فاتبعوه } فيما دعاهم إليه من الشرك والإسراف والمعاصي { إلا فريقا من المؤمنين } وهم المؤمنون الصادقون في إيمانهم الذين أسلموا لله وجوههم وهم عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سبيل لإغوائهم فإنهم لم يتبعوه. هذا ما دلت عليه الآية [20] وقوله تعالى: { وما كان له } أي للشيطان { عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك } أي قوة مادية ولا معنوية من حجج وبراهين، وإنما أذن له في التحريش والوسواس والتزيين وهذا الإذن لعلة وهي ظهور حال الناس ليعلم من يؤمن بالآخرة وما فيها من جنات ونيران، وقد حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات فالمؤمنون بالآخرة يتحملون مشاق التكاليف فينهضون بها ويتجنبون الشهوات فينجون من النار ويدخلون الجنة، والذين لا يؤمنون بالآخرة لا ينهضون بواجب ولا يتجنبون حراما فيخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين.
وقوله تعالى { وربك على كل شيء حفيظ } فهو يحصي أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم عليها ويجزيهم بها.
وقوله تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } أي قل يا رسولنا بعد هذا العرض والبيان الشافي الذي تقدم في هذا السياق للمشركين من قومك ما دمتم مصرين على الشرك بحجة أن شركاءكم ينفعون ويضرون وأنهم يشفعون لكم يوم تبعثون ادعوهم غير أن الحقيقة التي يجب أن تسمعوها وتعلموها - وأنتم بعد ذلك وما ترون وتهوون - هي أن الذين تدعونهم من دون الله وجعلتموهم لله شركاء لا يملكون مثقال ذرة أي وزن ذرة في السماوات ولا في الأرض لا يملكونها استقلالا ولا يملكونها شركة مع الله المالك الحق، وهو معنى قوله تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموت ولا في الأرض } { وما لهم فيهما } أي في السماوات والأرض من شرك بمعنى شركة ولو بأدنى نسبة. وشيء آخر وهو أن شركاءكم الذين تدعونهم ليس لله تعالى منهم من ظهير أي معين حتى لا يقال بحكم حاجة الرب إليه ندعوه فيشفع لنا عنده، وشيء آخر وهو أن الشفاعة عند الله لا تتم لأحد ولا تحصل له إلا إذا رضي الله تعالى بالشفاعة لمن أريد الشفاعة له، وبعد أن يأذن أيضا لمن أراد أن يشفع. فلم يبق إذا أي طمع في شفاعة آلهتكم لكم لا في الدنيا ولا في الآخرة إذا فكيف تصح عبادتهم وهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا يشفعون لأحد في الدنيا ولا الآخرة. وقوله تعالى { حتى إذا فزع عن قلوبهم } إلى آخره بيان لكيفية الشفاعة يوم القيامة وهي أن الشافع المأذون له في الشفاعة عندما يسأل الله تعالى فيجيبه الرب تعالى فيصاب بخوف وفزع شديد { حتى إذا فزع عن قلوبهم } أي زال ذلك الفزع والخوف قالوا لبعضهم البعض ماذا قال ربكم؟ فيقولون مستبشرين قالوا: الحق أي أذن لنا في الشفاعة وهو العلي الكبير أي العلي فوق خلقه بذاته وقهره وسلطانه الكبير الذي ليس كمثله شيء سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن إبليس صدق ظنه في بني آدم وأنهم سيتبعونه ويغويهم.
2- تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله ولا يستحق العبادة سواه.
3- بيان بطلان دعاء غير الله إذ المدعو كائنا من كان لا يملك مثقال ذرة في الكون لا بالاستقلال ولا بالشركة، وليس لله تعالى من ظهير أي ولا معينين يمكن التوسل بهم، وأخيرا والشفاعة لا تتم إلا بإذنه ولمن رضي له بها. ولذلك بطل دعاء غير الله ومن دعا غير الله من ملك أو نبي أو ولي أو غيرهم فقد ضل الطريق وأشرك بالله في أعظم عبادة وهي الدعاء، والعياذ بالله تعالى.
[34.24-30]
شرح الكلمات:
قل من يرزقكم من السماوات والأرض: من السماوات بإنزال المطر ومن الأرض بإنبات الزروع.
قل الله: أي إن لم يجيبوا فأجب أنت فقل الله، إذ لا جواب عندهم سواه.
وإنا وإياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين: وأخبرهم بأنكم أنتم أيها المشركون أو إيانا لعلى هدى أو في ضلال مبين، وقطعا فالموحدون هم الذين على هدى والمشركون هم في الضلال المبين، وإنما شككهم تلطفا بهم لعلهم يفكرون فيهتدون.
قل لا تسألون عما أجرمنا: أي أنكم لا تسألون عن ذنوبنا.
ولا نسأل عما تعملون: أي ولا نسأل نحن عما تعملون. وهذا تلطفا بهم أيضا ليراجعوا أمرهم، ولا يحملهم الكلام على العناد.
قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق: أي قل لهم سيجمع بيننا ربنا يوم القيامة ويفصل بيننا بالحق وهذا أيضا تلطف بهم وهو الحق.
قل أروني الذين ألحقتم به شركاء: أي قل لهؤلاء المشركين أروني شركاءكم الذين عبدتموهم مع الله فإن أروه إياهم أصناما لا تسمع ولا تبصر قامت الحجة عليهم. وقال لهم أتعبدون ما تنحتون وتتركون الله الذي خلقكم وما تعملون؟!.
كلا بل هو الله العزيز الحكيم: كلا: لن تكون الأصنام أهلا للعبادة بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله العزيز الحكيم.
كافة للناس: أي لجميع الناس أي عربهم وعجمهم.
بشيرا ونذيرا: بشيرا للمؤمنين بالجنة، ونذيرا للكافرين بعذاب النار.
قل لكم ميعاد يوم: هو يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تبكيت المشركين وإقامة الحجج عليهم بتقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم سل قومك مبكتا لهم: { قل من يرزقكم من السموت والأرض } بإنزال الأمطار وإرسال الرياح لواقح وإنبات النباتات والزروع والثمار وتوفير الحيوان للحم واللبن ومشتقاته؟ وإن تلعثموا في الجواب أو ترددوا خوف الهزيمة العقلية فأجب أنت قائلا الله. إذ ليس من جواب عندهم سواه.
وقوله { وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } هذا أسلوب التشكيك وحكمته التلطف بالخصم المعاند حتى لا يلج في العناد ولا يفكر في الأمر الذي يجادل فيه، وإلا فالرسول والمؤمنون هم الذين على هدى، والمشركون هم الذين في ضلال مبين وهو أمر مسلم لدى طرفي النزاع. وقوله تعالى { قل لا تسألون عمآ أجرمنا ولا نسأل عما تعملون } وهذا أيضا من باب التلطف مع الخصم المعاند لتهدأ عاصفة عناده ويراجع نفسه عله يثوب إلى رشده ويعود إلى صوابه. فقوله: { لا تسألون عمآ أجرمنا } هو حق فإنهم لا يسألون عن ذنوب الرسول والمؤمنين، ولكن الرسول والمؤمنين لا ذنب لهم وإنما هو من باب التلطف في الخطاب، وأما المشركون فإن لهم أعمالا من الشرك والباطل سيجزون بها والرسول والمؤمنون قطعا لا يسألون عنها ولا يؤاخذون بها ما داموا قد بلغوا ونصحوا.
وقوله: { قل يجمع بيننا ربنا } أي يوم القيامة { ثم يفتح بيننا } أي يحكم ويفصل بيننا { بالحق وهو الفتاح } أي الحاكم العليم بأحوال خلقه فأحكامه ستكون عادلة لعلمه بما يحكم فيه ظاهرا وباطنا. وفي هذا جذب لهم بلطف ودون عنف ليقروا بالبعث الآخر الذي ينكرونه بشدة. وقوله { قل أروني الذين ألحقتم به شركآء } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين أروني آلهتكم التي أشركتموها بالله والحقتموها به وقلتم في تلبيتكم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك. إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وهكذا يتحداهم رسول الله بإذن الله أن يروه شركاء لله حقيقة يسمعون ويبصرون ينفعون ويضرون ولما كان من غير الممكن الإتيان بهم غير أصنام وتماثيل زجرهم بعنف لعلهم يستفيقون من غفلتهم فقال: { كلا بل هو الله العزيز الحكيم } أي ليست تلك الأصنام بآلهة تعبد مع الله بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله رب العالمين وإله الأولين والآخرين { العزيز } أي الغالب على أمره ومراده الحكيم في تدبير خلقه وشؤون عباده.
وقوله: { ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا } أي لم نرسلك يا رسولنا لمهمة غير البشارة والنذارة فلذا لا يحزنك إعراضهم وعدم استجابتهم فبشر من آمن بك واتبعك فيما جئت به، وأنذر من كفر بك ولم يتابعك على الهدى الذي تدعو إليه.
وقوله: { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فيه تعزية للرسول أيضا إذ الواقع أن أكثر الناس لا يعلمون إذ لو علموا لما ترددوا في عبادة الله وتوحيده والتقرب إليه طمعا فيما عنده وخوفا مما لديه.
وقوله: { ويقولون } أي أهل مكة من منكري البعث والجزاء { متى هذا الوعد } أي العذاب الذي تهددنا وتخوفنا بنزوله بنا إن كنتم أيها المؤمنون صادقين فيما تقولون لنا وتعدونا به. وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد على استهزائهم وتكذيبهم بقوله: { قل لكم ميعاد } يوم معين عندنا محدد لا تستأخرون عنه ساعة لو طلبتم ذلك لتتوبوا وتستغفروا ولا تستقدمون أخرى لو طلبتم تعجيله إذ الأمر مبرم محكم لا يقبل النقص ولا الزيادة ولا التبديل ولا التغيير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية التلطف مع الخصم فسحا له في مجال التفكير لعله يثوب إلى رشده.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء وتنويع الأسلوب الدعوى في ذلك.
3- تقرير عقيدة النبوة المحمدية، وعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة.
4- يوم القيامة مقرر الساعة واليوم فلا يصح تقديمه ولا تأخيره بحال.
[34.31-33]
شرح الكلمات:
ولا بالذي بين يديه: أي من الكتب السابقة وهي التوراة والإنجيل.
يرجع بعضهم إلى بعض القول: أي يقول الاتباع كذا ويرد عليهم المتبوعون بكذا وهو المبين في الآيات.
أنحن صددناكم عن الهدى: أي ينكر المستكبرون وهم المتبوعون أن يكونوا صدوا التابعين لهم عن الهدى بعد إذ جاءهم بواسطة رسوله.
بل كنتم مجرمين: أي ظلمة فاسدين مفسدين.
بل مكر الليل والنهار: أي ليس الأمر كما ادعيتم بل مكركم بنا بالليل والنهار هو الذي جعلنا نكفر بالله.
ونجعل له أندادا: أي شركاء نعبدهم معه فنناده بهم.
وأسروا الندامة: أي أخفوها إذ لا فائدة منها أو أظهروها أي أظهروا الندم إذ أسر الندامة له معنيان أخفى وأظهر.
وجعلنا الأغلال في أعناق: أي وجعلنا الأغلال جمع غل حديدة تجعل في عنق المجرم.
هل يجزون إلا ما كانوا يعملون: أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء فيخبر تعالى فيقول: { وقال الذين كفروا } أي من مشركي مكة قالوا للرسول والمؤمنين لن نؤمن بهذا القرآن الذي أنزل على محمد، ولا بالذي أنزل على من تقدمه من الأنبياء كالتوراة والإنجيل، وذلك لما احتج عليهم بتقرير التوراة والإنجيل للتوحيد والنبوات والبعث والجزاء قالوا لن نؤمن بالجميع عنادا ومكابرة. وجحودا وظلما. ولازم هذا أنهم ظلمة معاندون ومن باب دعوتهم إلى الهدى ستعرض الآيات لهم حالهم يوم القيامة فيقول تعالى لرسوله وهم يسمعون { ولو ترى } يا رسولنا { إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول } أي يتحاورون متلاومين. يقول الذين استضعفوا وهم الفقراء المرءوسون الذين كانوا أتباعا لكبرائهم وأغنيائهم، يقولون للذين استكبروا عليهم في الدنيا: لولا أنتم أي صرفتمونا عن الإيمان واتباع الرسول لكنا مؤمنين فيرد عليهم الكبراء بما أخبر تعالى عنهم في قوله: { قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جآءكم } أي ما صددناكم أبدا بل كنتم مجرمين أي أصحاب إجرام وفساد ويرد عليهم المستضعفون قائلين بما أخبر تعالى به عنهم { وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر اليل والنهار } أي بل مكركم بنا في الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا. قال تعالى { وأسروا الندامة } أي أخفوها لما رأوا العذاب. قال تعالى: { وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } أي شدت أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال وهي جمع غل حديدة يشد بها المجرم، ثم أدخلوا الجحيم إذ كانوا في موقف خارج منهم، وقوله تعالى: { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون فالجزاء بحسب العمل إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر، وكانت أعمالهم كلها شرا وظلما وباطلا.
هذا وجواب لولا في أول السياق محذوف يقدر بمثل: لرأيت أمرا فظيعا واكتفي بالعرض لموقفهم عن ذكره فإنه أتم وأشمل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تشابه حال الظلمة والمجرمين فالعرب المشركون كانوا يركنون إلى أهل الكتاب يحتجون بما عندهم على الرسول والمؤمنين. ولما وجدوا التوراة والإنجيل يقرران عقيدة البعث والجزاء والنبوة تبرأوا منهما وقالوا لن نؤمن بالقرآن ولا بالتوراة والإنجيل.
واليهود كانوا يحتجون بالتوراة على المسلمين ولما وجدوا التوراة تقرر ما يقرره القرآن تركوا الاحتجاج بالتوراة وأخذوا يحتجون بالسحر كما تقدم في البقرة في قول الله تعالى
ولمآ جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله ورآء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشيطين على ملك سليمن
[البقرة: 101-102].
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض كامل لموقف من مواقف يوم القيامة، ومشهد من مشاهده.
3- بطلان احتجاج الناس بعمل العلماء أو الحكماء وأشراف الناس إذا كان غير موافق لشرع الله تعالى وما جاء به رسله من الحق والدين الصحيح.
[34.34-39]
شرح الكلمات:
إلا قال مترفوها: أي رؤساؤها المنعمون فيها من أهل المال والجاه.
نحن أكثر أموالا وأولادا: أي من المؤمنين.
يبسط الرزق لمن يشاء: امتحانا أيشكر العبد أم يكفر.
ويقدر: أي يضيق ابتلاء أيصبر المرء أم يسخط.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون: أي الحكمة في التوسعة على البعض والتضييق على البعض.
تقربكم عندنا زلفى: أي قربى بمعنى تقريبا.
إلا من آمن وعمل صالحا: أي لكن من آمن وعمل صالحا هو الذي تقربه تقريبا.
وهم في الغرفات آمنون: أي من المرض والموت وكل مكروه.
والذين سعوا في آياتنا: أي عملوا على إبطال القرآن والإيمان به وتحكيمه.
معاجزين: أي مقدرين عجزنا وأنهم يفوقوننا فلم نعاقبهم.
وما أنفقتم من شيء: أي من مال في الخير.
وهو خير الرازقين: أي المعطين الرزق. أما خلق الرزق فهو لله تعالى وحده.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { ومآ أرسلنا في قرية من نذير } هذا شروع في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان حال من سبق من الأمم وما واجهت به رسلها فقال تعالى { ومآ أرسلنا في قرية } أي مدينة من المدن { من نذير إلا قال مترفوهآ } أي أهل المال والثروة المتنعمون بألوان المطاعم والمشارب والملابس والمراكب.
قالوا لرسل الله { إنا بمآ أرسلتم به كافرون } فردوا بذلك دعوتهم. { وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا } فاعتزوا بقوتهم، { وما نحن بمعذبين } كذبوا بالبعث والجزاء كما أن كلامهم مشعر بأنهم مغترون بأن ما أعطاهم الله من مال وولد كان لرضاه عنهم وعدم سخطه عليهم. وقوله تعالى { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر } أي قل يا نبينا لأولئك المغترين بأن ما لديهم من مال وولد ناجم عن رضا الله عنهم قل لهم إن ربي جل جلاله يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا له لا لرضى عنه ولا لبغض له، كما أنه يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء له لا لبغضه ولا لمحبته، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ومن بينهم مشركو قريش لا يعلمون أن بسط الرزق كتضييقه عائد إلى تربية الناس بالسراء والضراء امتحانا وابتلاء. وقوله تعالى: { ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } يخبر تعالى المشركين المغترين بالمال والولد يقول لهم وما أموالكم ولا أولادكم بالحال التي تقربكم منا وتجعلنا نرضى عنكم وندنيكم منا زلفى أي قربى. { إلا من آمن وعمل صالحا } أي لكن من فعلوا الواجبات والمندوبات { فأولئك } أي المذكورون لهم جزاء الضعف، أي جزاء تضاعف لهم حسناتهم فيه، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، وذلك بسبب عملهم الصالحات { وهم في الغرفات } أي غرفات الجنة آمنون من الموت ومن كل مكروه ومنغص لسعادتهم.
وقوله تعالى: { والذين يسعون في آياتنا معاجزين } يخبر تعالى أن الذين يعملون بجد وحرص في إبطال آياتنا وإطفاء نور هدايتنا في كتابنا وقلوب عبادنا المؤمنين ويظنون أنهم معجزون لنا أي فائتوننا لا ندركهم ولا نعاقبهم هؤلاء المغرورون في العذاب محضرون أي كأنك بهم وهم محضرون في جهنم يعذبون فيها أبدا.
فقوله تعالى: { قل إن ربي } أي قل يا رسولنا مرة أخرى تقريرا لهذه الحقيقة العلمية التي خفيت على الناس وجهلها قومك وهي أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا لا حبا فيه ولا بغضا له. وإنما امتحانا له هل يشكر أو يكفر فإن شكر زدناه وأكرمناه وإن كفر سلبناه ما أعطيناه وعذبناه، { ويقدر له } أي لمن شاء من عباده ابتلاء له لا بغضا له ولا حبا فيه. وإنما لننظر هل يصبر على الابتلاء أو يسخط ويضجر فنزيد في بلائه وشقائه.. وقوله تعالى: { ومآ أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } في هذا دعوة إلى الإنفاق في سبيل الله وتشجيع عليه بإعلام الناس أن الإنفاق لا ينقص المال والبخل به لا يزيده فان التوسعة كالتضييق لحكمة فلا البخل يزيد في المال ولا الإنفاق في سبيل الله ينقص منه. وختم هذا بوعده الصادق وهو أن من أنفق في سبيل الله شيئا أخلفه الله عليه وهو تعالى خير من قيل إنه يرزق ووصف به.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في الأمم والشعوب وأنهم ما أتاهم من رسول إلا كفر به الأغنياء والكبراء.
2- بيان اغترار المترفين بما آتاهم الله من مال وولد ظانين أن ذلك من رضا الله تعالى عليهم.
3- بيان الحكمة في التوسعة على بعض والتضييق على بعض، وانها الامتحان والابتلاء فلا تدل على حب الله ولا على بغضه للعبد.
4- بيان ما يقرب إلى الله ويدنى منه وهو الإيمان والعمل الصالح ومن ذلك الإنفاق في سبيل الله لا كثرة المال والولد كما يظن المغرورون المفتنون بالمال والولد.
5- بيان حكم الله فيمن يحارب الإسلام ويريد إبطاله وأنه محضر في جهنم لا محالة.
6- بيان وعد الله تعالى بالخلف لكل من أنفق في سبيله مالا.
[34.40-42]
شرح الكلمات:
ويوم نحشرهم جميعا: أي واذكر يوم نحشرهم جميعا أي جميع المشركين.
أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟: أي يقول تعالى هذا للملائكة تقريعا للمشركين وتوبيخا لهم.
قالوا سبحانك: أي قالت الملائكة سبحانك أي تقديسا لك عن الشرك وتنزيها.
أنت ولينا من دونهم: أي لا موالاة بيننا وبينهم أي يتبرأوا منهم.
بل كانوا يعبدون الجن: أي الشياطين التي كانت تتمثل لهم فيحسبونها ملائكة فيطيعونها فتلك عبادتهم لها.
فاليوم لا يملك بعضكم لبعض: أي لا يملك المعبودون للعابدين.
نفعا ولا ضرا: أي لا يملكون نفعهم فينفعونهم ولا ضرهم فيضرونهم.
ونقول للذين ظلموا: أي أشركوا غير الله في عبادته من الملائكة والأنبياء أو الأولياء والصالحين.
عذاب النار التي كنتم بها تكذبون: أي كنتم في الدنيا تكذبون بالبعث والجزاء وهو الجنة أو النار.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء والتوحيد . قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم واذكر { ويوم يحشرهم } أي المشركين { جميعا } فلم نبق منهم أحدا، ثم نقول للملائكة وهم أمامهم تقريرا للمشركين وتأنيبا: { أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } فتتبرأ الملائكة من ذلك وينزهون الله تعالى عنه الشرك فيقولون: { سبحانك } أي تنزيها لك عن الشرك وتقديسا { أنت ولينا من دونهم } أما هم فلا ولاية بيننا وبينهم { بل كانوا يعبدون الجن } أي الشياطين { أكثرهم بهم مؤمنون } أي مصدقون فأطاعوهم في عبادة الأصنام وعصوك وعصوا رسلك فلم يعبدوك ولم يطيعوا رسلك.
وقوله تعالى { فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا } أي يقال لهم هذا القول تيئيسا وإبلاسا أي قطعا لرجائهم في أن يشفعوا لهم. وقوله تعالى { ونقول للذين ظلموا } وهم المشركون { ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون } أي كنتم تكذبون بها في الدنيا فذوقوا اليوم عذابها. والعياذ بالله من عذاب النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير لعقيدة البعث والجزاء بذكر بعض أحوالها.
2- أن من كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين إنما كانوا يعبدون الشياطين إذ هي التي زينت لهم الشرك. أما الملائكة والأنبياء والأولياء فلم يرضوا بذلك منهم فضلا عن أن يأمروهم به.
3- بيان توبيخ أهل النار بتكذيبهم في الدنيا بالآخرة وكفرهم بوجود نار يعذبون بها يوم القيامة.
[34.43-46]
شرح الكلمات:
آياتنا بينات: أي آيات القرآن الكريم واضحات ظاهرة المعنى بينة الدلالة.
قالوا ما هذا إلا رجل: أي ما محمد إلا رجل من الرجال.
يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم: أي يريد أن يصرفكم عن عبادتكم لآلهتكم التي كان يعبدها آباؤكم من قبل.
إلا إفك مفترى: أي إلا كذب مختلق مزور.
وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: أي قالوا للقرآن لما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
إن هذا إلا سحر مبين: أي ما هذا أي القرآن إلا سحر مبين أي محمد ساحر والقرآن سحر.
من كتب يدرسونها: أي يقرأونها فأباحت لهم الشرك وأذنت لهم فيه.
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير: أي ولم نرسل إليهم قبلك من رسول فدعاهم إلى الشرك.
وما بلغوا معشار ما آتيناهم: أي ولم يبلغ أولئك الأمم الذين أهلكناهم معشار ما آتينا هؤلاء من الحجج والبينات.
فكيف كان نكير: أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك والجواب كان واقعا موقعه لم يخطئه بحال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عرض مواقف المشركين المخزية والتنديد بهم والوعيد الشديد لهم. قال تعالى { وإذا تتلى عليهم } أي مشركي قريش وكفارها { آياتنا بينات } أي يتلوها رسولنا واضحات الدلالة بينات المعاني فيما تدعو إليه من الحق وتندد به من الباطل، كان جوابهم أن قالوا: ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم. أي ما محمد إلا رجل أي ليس بملك يريد أن يصدكم أي يصرفكم عما كان آباؤكم من الأوثان والأحجار. فسبحان الله أين يذهب بعقول المشركين أما يخجلون لما يقولون عما كان يعبد آباؤكم من الأصنام والأوثان، إنه يصدكم حقا عن عبادة الأوثان ولكن إلى عبادة الرحمن. وقالوا أيضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله: { ما هذآ إلا إفك } أو كذب { مفترى } أي اختلقه وتخرصه من نفسه أي قالوا في القرآن وما يحمل من تشريع وهدى ونور قالوا فيه إنه كذبه محمد صلى الله عليه وسلم سبحان الله ما أشد سخف هؤلاء المشركين: وقالوا أيضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { وقال الذين كفروا للحق لما جآءهم إن هذآ إلا سحر مبين } أي قالوا في الرسول وما جاءهم به من الدعوة إلى التوحيد والإصلاح { إن هذآ } أي ما هذا إلا سحر مبين، وذلك لما رأوا من تاثير الرسول والقرآن في نفوسهم إذ كان يحرك نفوسهم ويهزها هزا.
بعد هذا العرض لمواقف المشركين قال تعالى: { ومآ آتيناهم } أي مشركي قريش { من كتب يدرسونها } أي أصروا على الشرك وما أعطيناهم من كتب يقرأونها فوجدوا فيها الإذن بالشرك أو مشروعيته فتمسكوا به، { ومآ أرسلنا إليهم قبلك من نذير } أي رسول فأجاز لهم الشرك أو سنة لهم فهم على سنته، اللهم لا ذا ولا ذاك.
فكيف إذا هذا الإصرار على الشرك وهو باطل لم ينزل به كتاب ولم يبعث به رسول.
وقوله تعالى: { وكذب الذين من قبلهم } أي من الأمم البائدة { وما بلغوا } أي ولم يبلغ هؤلاء من القوة معشار ما كان لأولئك الأقوام الهالكين، ومع ذلك أهلكناهم، فكيف كان نكيري أي كيف كان إنكاري عليهم الشرك وتكذيب رسلي بإبادتهم واستئصالهم. أما يخاف هؤلاء الضعفاء أن تحل بهم عقوبتنا فنهلكهم عن آخرهم كما أهلكنا من قبلهم ولما لم يرد الله إبادتهم بعد أن استوجبوها بالتكذيب لرسوله والإصرار على الشرك والكفر قال لرسوله قل لهم { إنمآ أعظكم بواحدة } أي بخصله واحدة وهي أن تقوموا لله أي متجردين من الهوى والتعصب { مثنى } ، أي اثنين اثنين، { وفرادى } أي واحدا واحدا، ثم تتفكروا في حياة محمد صلى الله عليه وسلم ومواقفه الخيرة معكم وبعده عن كل أذى وشر وفساد فإنكم تعلمون يقينا أنه ما بصاحبكم محمد من جنة ولا جنون إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد، أي ما هو صلى الله عليه وسلم إلا نذير لكم أمام عذاب شديد قد ينزل بكم وهو مشفق عليكم في ذلك خائف لا يريده لكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان عناد المشركين وسخف عقولهم وهبوطهم الفكري.
2- ضعف كفار قريش وتشددهم وعتوهم إذا قيسوا بالأمم السابقة فإنهم لا يملكون من القوة نسبة واحد إلى ألف إذ المعشار هو عشر عشر العشر.
3- تقرير النبوة المحمدية وإثباتها وذلك ينفي الجنة عنه صلى الله عليه وسلم وإثبات أنه نذير.
[34.47-54]
شرح الكلمات:
قل إن ربي يقذف بالحق: أي يلقى بالوحي الحق إلى أنبيائه. ويقذف الباطل بالحق أيضا فيدمغه.
وما يبدئ الباطل وما يعيد: أي وما يبدي الباطل الذي هو الكفر، وما يعيد أي إنه لا أثر له.
فإنما أضل على نفسي: أي إثم ضلالي على نفسي لا يحاسب ولا يعاقب به غيري.
إنه سميع قريب: أي سميع لما أقول لكم قريب غير بعيد فلا يتعذر عليه مجازاة أحد من خلقه.
إذ فزعوا فلافوت: أي إذ فزعوا للبعث أي خافوا ونفروا فلا فوت لهم منا بل هم في قبضتنا.
وأثنى لهم التناوش من مكان بعيد: أي لما شاهدوا العذاب قالوا آمنا بالقرآن وكيف لهم ذلك وهم بعيدون إنهم في الآخرة والإيمان في الدنيا.
(التناوش) التناول من مكان بعيد.
كما فعل بأشياعهم من قبل: أي فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم من أمم الكفر والباطل.
في شك مريب: أي في شك بالغ من نفوسهم فأصبحوا به مضطربين لا يطمئنون إلى شيء أبدا.
معنى الآيات:
لما لج المشركون في الخصومة والعناد ودعاهم الله تعالى إلى أمثل حل وهو أن يقوموا متجردين لله تعالى من الهوى والتعصب يقوموا اثنين اثنين أو واحدا واحدا لأن الجماعة من شأنها أن تختلف مع الآراء ثم يتفكروا في حياة الرسول وما دعاهم إليه من الهدى والحق فإنكم تعلمون أنه ليس كما اتهمتموه بالجنون وإنما هو نذير لكم بين يدي عذاب شديد يخاف وقوعه بكم ونزوله عليكم هنا أمره تعالى أن يقول لهم وكوني نذيرا لكم مما أخاف عليكم لا أسألكم على إنذاري لكم أجرا { إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد } أي مطلع علي عالم بصدقي ويجزيني على إنذاري لكم إذ كلفني به فقمت به طاعة له. وقوله تعالى { قل إن ربي يقذف بالحق } أي قل لهم يا رسولنا إن ربي يقذف بالحق أن يلقى بالوحي على من يشاء من عباده { علام الغيوب } أي وهو علام الغيوب يعلم من هو أهل للوحي إليه والإرسال فيوحى إليه ويرسله كما أوحى إلي وأرسلني إليكم نذيرا وبشيرا. وقوله تعالى: { قل جآء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد } أي قل لهم يا رسولنا جاء الحق وهو الإسلام الدين الحق، فلم يبق للباطل الذي هو الشرك والكفر مكان ولا مجال، وما يبدئ الباطل وما يعيد؟ أي أنه كما لا يبدئ لا يعيد فهو ذاهب لا أثر له أبدا وقوله: { قل إن ضللت فإنمآ أضل على نفسي } أي أعلمهم بأنك إن ضللت فيما أنت قائم عليه تدعو إليه فإنما عائد ضلالك عليك لا عليهم، وإن اهتديت فهدايتك بفضل ما يوحى إليك من ربك من الهدى والنور { إنه سميع قريب } سميع لأقوالك وأقوال غيرك غير بعيد فيتعذر عليه مجازاة عباده صاحب الإحسان بالإحسان وصاحب السوء بالسوء.
وقوله تعالى: { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب } اي لرأيت أمرا قطعيا يقول تعالى لرسوله ولو ترى إذ فزع المشركون في ساحات فصل القضاء يوم القيامة فزعوا من شدة الهول والخوف وقد أخذوا من مكان قريب والقوا في جهنم لرأيت أمرا فظيعا في غاية الفظاعة. وقوله { فلا فوت } لهم لا يفوتون الله تعالى ولا يهربون من قبضته. وقوله تعالى: { وقالوا آمنا به } أي قالوا بعد ما بعثوا وفزعوا من هول القيامة قالوا آمنا به أي بالله وكتابه ولقائه ورسوله، قال تعالى { وأنى لهم التناوش } أي التناول للإيمان من مكان بعيد إذ هم في الآخرة والإيمان كان في الدنيا فكيف يتناولونه بهذه السهولة ويقبل منهم وينجون من العذاب هذا بعيد جدا ولن يكون أبدا وقد كفروا به من قبل أي لا سيما وأنهم قد عرض عليهم الإيمان وهم قادرون عليه فرفضوه فكيف يمكنون منه الآن. وقوله { ويقذفون بالغيب من مكان بعيد } أي وها هم اليوم في الدنيا يقذفون بالغيب محمدا صلى الله عليه وسلم بقواصم الظهر مرة يقولون كاذب ومرة ساحر ومرة شاعر وأخرى مجنون وكل هذا رجما بالغيب لا شبهة لهم فيه ولا أدنى ريبة تدعوهم إليه وأخيرا قال تعالى: { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } وهو الإيمان الموجب للنجاة كما فعل بأشياعهم أي أشباههم وأنصارهم من أهل الكفر والتكذيب لما جاءهم العذاب قالوا آمنا ولم ينفعهم إيمانهم وأهلكوا فألقوا في الجحيم، وقوله { إنهم كانوا في شك مريب } أي مشركو قريش وكفارها أخبر تعالى أنهم كانوا في الدنيا في شك من توحيدنا ونبينا ولقائنا مريب أي موقع لهم في الريب والاضطراب فلم يؤمنوا فماتوا على الكفر والشرك وهذا جزاء من يموت على الشرك والكفر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- دعوة الله تعالى ينبغي أن لا يأخذ الداعي عليها أجرا، ويحتسب أجره على الله عز وجل.
2- بيان صدق الله تعالى في قوله جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد إذ ما هو إلا سنيات والإسلام ضارب بجرانه في الجزيرة فلا دين فيها إلا الإسلام.
3- الإيمان الاضطراري لا ينفع صاحبه كإيمان من رأى العذاب.
4- الشك كفر ولا إيمان مع رؤية العذاب.
[35 - سورة فاطر]
[35.1-3]
شرح الكلمات:
الحمد لله: أي قولوا الحمد لله فإنه واجب الحمد ومقتضى الحمد ما ذكر بعد.
فاطر السماوات والأرض: أي خالقهما على غير مثال سابق.
جاعل الملائكة رسلا: أي جعل منهم رسلا إلى الأنبياء كجبريل عليه السلام.
أولي أجنحة: أي ذوي أجنحة جمع جناح كجناح الطائر.
يزيد في الخلق ما يشاء: أي يزيد على الثلاثة ما يشاء فإن لجبريل ستمائة جناح.
وما يمسك: أي الله من الرحمة فلا أحد يرسلها غيره سبحانه وتعالى.
وهو العزيز الحكيم: أي الغالب على أمره الحكيم في تدبيره وصنعه.
اذكروا نعمة الله عليكم: أي اذكروا نعمه تعالى عليكم في خلقكم ورزقكم وتأمينكم في حرمكم.
هل من خالق غير الله يرزقكم: أي لا خالق لكم غير الله ولا رازق لكم يرزقكم.
من السماء والأرض؟: أي بإنزال المطر من السماء وإنبات الزروع في الأرض.
لا إله إلا هو: أي لا معبود بحق إلا هو إذا فاعبدوه ووحدوه.
فأنى تؤفكون: أي كيف تصرفون عن توحيده مع اعترافكم بأنه وحده الخالق الرازق.
معنى الآيات:
قوله تعالى { الحمد لله فاطر السموت والأرض } أي الشكر الكامل والحمد التام لله استحقاقا، والكلام خرج مخرج الخبر ومعناه الإنشاء أي قولوا الحمد لله. واشكروه كما هو أيضا إخبار منه تعالى بأن الحمد له ولا مستحقه غيره ومقتضى حمده. فطره السماوات والأرض أي خلقه لهما على غير مثال سابق ولا نموذج حاكاه في خلقهما. وجعله الملائكة رسلا إلى الأنبياء وإلى من يشاء من عباده بالإلهام والرؤيا الصالحة. وقوله { أولي أجنحة } صفة للملائكة أي أصحاب أجنحة مثنى أي اثنين اثنين، وثلاث أي ثلاثة ثلاثة ورباع أي أربعة أربعة. وقوله { يزيد في الخلق } أي خلق الأجنحة ما يشاء فقد خلق لجبريل عليه السلام ستمائة جناح كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحاح ويزيد في خلق ما يشاء من مخلوقاته وهو على كل شيء قدير.
وقوله تعالى { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } يخبر تعالى أن مفاتيح كل شيء بيده فما يفتح للناس من أرزاق وخيرات وبركات لا يمكن لأحد من خلقه أن يمسكها دونه وما يمسك من ذلك فلا يستطيع أحد من خلقه أن يرسله، وهو وحده العزيز الغالب على أمره ومراده فلا مانع لما أعطى ولا راد لما قضى الحكيم في صنعه وتدبير خلقه. وقوله تعالى: { يأيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم } هذا نداؤه تعالى لأهل مكة من قريش يأمرهم بعده بأن يذكروا نعمه تعالى عليهم حيث خلقهم ووسع أرزاقهم وجعل لهم حرما آمنا والناس يتخطفون من حولهم خائفون يأمرهم بذكر نعمه لأنهم إذا ذكروها شكروها بالإيمان به وتوحيده.
وقوله { هل من خالق غير الله يرزقكم من السمآء والأرض }؟ والجواب لا أحد إذ لا خالق إلا هو ولا رازق سواه فهو الذي خلقهم ومن السماء والأرض رزقهم. السماء تمطر والأرض تنبت بأمره. إذا فلا إله إلا هو أي لا معبود بحق إلا هو فكيف إذا تصرفون عن الحق بعد معرفته إن حالكم لعجب.
هذا ما دل علي قوله تعالى { هل من خالق غير الله يرزقكم من السمآء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب حمد الله تعالى وشكره على إنعامه.
2- تقرير الرسالة والنبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم بإخباره أنه جاعل الملائكة رسلا.
3- وجوب اللجوء إلى الله تعالى في طلب الخير ودفع الضر فإنه بيده خزائن كل شيء.
4- وجوب ذكر النعم ليكون ذلك حافزا على شكرها بطاعة الله ورسوله.
5- تقرير التوحيد بالأدلة العقلية التي لا ترد.
6- العجب من حال المشركين يقرون بانفراد الله تعالى بخلقهم ورزقهم ويعبدون معه غيره.
[35.4-7]
شرح الكلمات :
وإن يكذبوك: أي يا رسولنا فيما جئت به من التوحيد وعقيدة البعث والجزاء ولم يؤمنوا بك.
فقد كذبت رسل من قبلك: أي فلست وحدك كذبت إذا فلا تأس ولا تحزن واصبر كما صبر من قبلك.
وإلى الله ترجع الأمور: وسوف يجزي المكذبين بتكذيبهم والصابرين بصبرهم.
ولا يغرنكم بالله الغرور: أي ولا يغرنكم بالله أي في حلمه وإمهاله الغرور أي الشيطان.
فاتخذوه عدوا: أي فلا تطيعوه ولا تقبلوا ما يغركم به وأطيعوا ربكم عز وجل.
إنما يدعو حزبه: أي أتباعه في الباطل والكفر والشر والفساد.
ليكونوا من أصحاب السعير: أي ليؤول أمرهم إلى أن يكونوا من أصحاب النار المستعرة.
لهم مغفرة وأجر كبير: أي لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير في الجنة وذلك لإيمانهم وعملهم الصالحات.
معنى الآيات:
لما أقام تعالى الحجة على المشركين في الآيات السابقة قال لرسوله صلى الله عليه وسلم { وإن يكذبوك } بعدما أقمت عليهم الحجة فلست وحدك المكذب فقد كذبت قبلك رسل كثيرون جاءوا أقوامهم بالبينات والزبر وصبروا إذا فاصبر كما صبروا { وإلى الله ترجع الأمور } وسوف يقضى بينك وبينهم بالحق فينصرك في الدنيا ويخذلهم، ويرحمك في الآخرة ويعذبهم.
وقوله { يأيها الناس إن وعد الله حق } أي يا أهل مكة وكل مغرور من الناس بالحياة الدنيا إعلموا أن وعد الله بالبعث والجزاء حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا بطول أعماركم وصحة أبدانكم وسعة أرزاقكم، فإن ذلك زائل عنكم لا محالة { ولا يغرنكم بالله } أي حلمه وإمهاله { الغرور } وهو الشيطان حيث يتخذ من حلم الله تعالى عليكم وإمهاله لكم طريقا إلى إغوائكم وإفسادكم بما يحملكم عليه من تأخير التوبة والإصرار على المعاصي، والاستمرار عليها { إن الشيطان لكم عدو } بالغ العداوة ظاهرها فاتخذوه أنتم عدوا كذلك فلا تطيعوه ولا تستجيبوا لندائه، { إنما يدعوا حزبه } أي أتباعه { ليكونوا من أصحاب السعير } أي النار المستعرة، إنه يريد أن تكونوا معه في الجحيم. إذ هو محكوم عليه بها أزلا وقوله تعالى: { الذين كفروا لهم عذاب شديد } أي في الآخرة، والذين آمنوا وعملوا الصالحات { لهم مغفرة } أي لذنوبهم { وأجر كبير } هو الجنة وما فيها من النعيم المقيم. هذا حكم الله في عباده وقراره فيهم: وهم فريقان مؤمن صالح وكافر فاسد ولكل جزاء عادل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيها كل دعاة الحق إذا كذبوا وأوذوا فعليهم أن يصبروا.
2- تقرير البعث والجزاء المتضمن له وعد الله الحق.
3- التحذير من الاغترار بالدنيا أي من طول العمر وسعة الرزق وسلامة البدن.
4- التحذير من الشيطان ووجوب الاعتراف بعداوته ومعاملته معاملة العدو فلا يقبل كلامه ولا يستجاب لندائه ولا يخدع بتزيينه للقبيح والشر.
5- بيان جزاء أولياء الرحمن أعداء الشيطان، وجزاء أعداء الرحمن أولياء الشيطان.
[35.8-11]
شرح الكلمات:
أفمن زين له سوء عمله: أي قبيح عمله من الشرك والمعاصي.
فرآه حسنا: أي رآه حسنا زينا لا قبح فيه.
فلا تذهب نفسك عليهم: أي على أولئك الذين زين لهم الشيطان قبيح أعمالهم.
حسرات: أي لا تهلك نفسك بالتحسر عليهم لكفرهم.
إن الله عليم بما يصنعون: وسيجزيهم بصنيعهم الباطل.
فتثير سحابا: أي تزعجه وتحركه بشدة فيجتمع ويسير.
فسقناه إلى بلد ميت: أي لا نبات به.
فأحيينا به الأرض: أي بالنبات والعشب والكلأ والزرع.
كذلك النشور: أي البعث والحياة الثانية.
فلله العزة جميعا: أي فليطلب العزة بطاعة الله فإنها لا تنال إلا بذلك.
إليه يصعد الكلم الطيب: أي إلى الله تعالى يصعد الكلم الطيب وهو سبحان الله والحمد لله والله أكبر.
والعمل الصالح يرفعه: أي أداء الفرائض وفعل النوافل يرفع إلى الله الكلم الطيب.
يمكرون السيئات: أي يعملونها ويكسبونها.
ومكر أولئك هو يبور: أي عملهم هو الذي يفسد ويبطل.
خلقكم من تراب: أي أصلكم وهو آدم.
ثم من نطفة: أي من ماء الرجل وماء المرأة وذلك كل ذرية آدم.
ثم جعلكم أزواجا: أي ذكرا وأنثى.
وما تحمل من أنثى: أي ما تحمل من جنين ولا تضعه إلا بإذنه.
وما يعمر من معمر: أي وما يطول من عمر ذي عمر طويل إلا في كتاب.
ولا ينقص من عمره: أي بأن يجعل أقل وأقصر من العمر الطويل إلا في كتاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقوية روح الرسول صلى الله عليه وسلم والشد من عزمه أمام تقلبات المشركين وعنادهم ومكرهم فقال تعالى: { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } أي أفمن زين له الشيطان ونفسه وهواه قبيح عمله وهو الشرك والمعاصي فرآه حسنا كمن هداه الله فهو على نور من ربه يرى الحسنة حسنة والسيئة سيئة والجواب: لا، لا. وقوله تعالى: { فإن الله يضل من يشآء ويهدي من يشآء } يضل بعدله وحسب سننه في الإضلال من يشاء من عباده، ويهدي بفضله من يشاء هدايته إذا فلا تذهب نفسك أيها الرسول على عدم هدايتهم حسرات فتهلك نفسك تحسرا على عدم هدايتهم. وقوله { إن الله عليم بما يصنعون } فلذا لا داعي إلى الحزن والغم ما دام الله تعالى وهو ربهم قد أحصى أعمالهم وسيجزيهم بها وقوله تعالى { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا } أي تزعجه وتحركه. { فسقناه إلى بلد ميت } أي لا نبات ولا زرع به { فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور } أي كما أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها كذلك يحي الموتى إذ بعد فناء العالم ينزل الله تعالى من تحت العرش ماء فينبت الإنسان من عظم يقال له عجب الذنب فيتم خلقه، ثم يرسل الله تعالى الأرواح فتدخل كل روح في جسدها فلا تخطئ روح جسدها.
وهكذا كما تتم عملية إحياء الأرض بالنبات تتم عملية إحياء الأموات ويساقون إلى المحشر ويجزي كل نفس بما كسبت والله سريع الحساب.
وقوله تعالى { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } فليطلبها من الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله فإن العزة لله جميعا فالعزيز من أعزه الله والذليل من أذله، إنهم كانوا يطلبون العزة بالأصنام فاعلموا أن من يريد العزة فليطلبها من مالكها أما الذي لا يملك العزة فكيف يعطيها لغيره إن فاقد الشيء لا يعطيه. وقوله { إليه يصعد الكلم الطيب } أي إلى الله يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه إلى الله تعالى فإذا كان قول بدون عمل فإنه لا يرفع إلى الله تعالى ولا يثيب عليه، وقد ندد الله تعالى بالذين يقولون ولا يعملون فقال
كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
[الصف: 3]. وقوله { والذين يمكرون السيئات } أي يعملونها وهي الشرك والمعاصي { لهم عذاب شديد } هذا جزاؤهم، { ومكر أولئك هو يبور } أي ومكر الذين يعملون السيئات { هو يبور } أي يفسد ويبطل.
وقوله تعالى { والله خلقكم من تراب } أي خلق أصلنا من تراب وهو آدم، ثم خلقنا نحن ذريته من نطفة وهي ماء الرجل وماء المرأة، { ثم جعلكم أزواجا } أي ذكرا وأنثى. هذه مظاهر القدرة الإلهية الموجبة لعبادته وتوحيده والمقتضية للبعث والجزاء، وقوله { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر } أي يزداد في عمره، ولا ينقص من عمره فلا يزاد فيه إلا في كتاب وهو كتاب المقادير. هذا مظهر من مظاهر العلم، وبالعلم والقدرة هو قادر على إحياء الموتى وبعث الناس للحساب والجزاء. ولذا قال تعالى { إن ذلك } أي المذكور من الخلق والتدبير ووجوده في كتاب المقادير على الله يسير أي سهل لا صعوبة فيه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من اتباع الهوى والاستجابة للشيطان فان ذلك يؤدي بالعبد إلى أن يصبح يرى الأعمال القبيحة حسنة ويومها يحرم هداية الله فلا يهتدي أبدا وهذا ينتج عن الإدمان على المعاصي والذنوب.
2- عملية إحياء الأرض بعد موتها دليل واضح على بعث الناس أحياء بعد موتهم.
3- مطلب العزة مطلب غال، وهو طاعة الله ورسوله ولا يعز أحد عزا حقيقيا بدون طاعة الله ورسوله.
4- علم الله المتجلي في الخلق والتدبير يضاف إليه قدرته تعالى التي لا يعجزها شيء بهما يتم الخلق والبعث والجزاء.
5- تقرير البعث والجزاء وتقرير كتاب المقادير وهو اللوح المحفوظ.
[35.12-14]
شرح الكلمات:
عذب فرات: أي شديد العذوبة.
وهذا ملح أجاج: أي شديد الملوحة.
ومن كل تأكلون : أي ومن كل منهما.
لحما طريا: أي السمك.
حلية تلبسونها: أي اللؤلؤ والمرجان.
مواخر : أي تمخر الماء وتشقه عند جريانها في البحر.
لتبتغوا من فضله: أي لتطلبوا الرزق بالتجارة من فضل الله تعالى.
ولعلكم تشكرون: أي رجاء أن تشكروا الله تعالى على ما رزقكم.
يولج الليل في النهار: أي يدخل الليل في النهار فيزيد.
ويولج النهار في الليل: أي يدخل النهار في الليل فيزيد.
وسخر الشمس والقمر: أي ذللهما.
كل يجري لأجل مسمى: أي في فلكه إلى يوم القيامة.
والذين تدعون: أي تعبدون بالدعاء وغيره من العبادات وهم الأصنام.
ما يملكون من قطمير: أي من لفافة النواة التي تكون عليه وهي بيضاء رقيقة.
ولو سمعوا: أي فرضا ما استجابوا لكم.
يكفرون بشرككم: أي يتبرأون منكم ومن عبادتكم إياهم.
ولا ينبئك مثل خبير: أي لا ينبئك أي بأحوال الدارين مثلي فإني خبير بذلك عليم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمة تدبيره لخلقه وهي مظاهر موجبة لله العبادة وحده دون غيره، ومقتضيه للبعث الذي أنكره المشركون قال تعالى { وما يستوي البحران } أي لا يتعادلان. { هذا عذب فرات سآئغ شرابه } أي ماؤه عذب شديد العذوبة { وهذا ملح أجاج } أي ماؤه شديد الملوحة لمرارته مع ملوحته، فهل يستوي الحق والباطل هل تستوي عبادة الأصنام مع عبادة الرحمن؟ والجواب لا. وقوله: { ومن كل تأكلون } أي ومن كل من البحرين العذب والملح تأكلون لحما طريا وهو السمك { وتستخرجون حلية تلبسونها } أي اللؤلؤ والمرجان. وهي حلية يتحلى بها النساء للرجال، وقوله { وترى الفلك فيه مواخر } أي وترى أيها السامع لهذا الخطاب { الفلك } أي السفن مواخر في البحر تمخر عباب البحر وتشق ماءه غادية رائحة تحمل الرجال والأموال، سخرها وسخر البحر { لتبتغوا من فضله } أي الرزق بالتجارة، { ولعلكم تشكرون } أي سخر لكم البحر لتبتغوا من فضله ورجاء أن تشكروا. لم يقل لتشكروا كما قال لتبتغوا لأن الابتغاء حاصل من كل راكب، وأما الشكر فليس كذلك بل من الناس من يشكر ومنهم من لا يشكر، ولذا جاء بأداة الرجاء وهي لعل وقوله { يولج الليل في النهار } أي يدخل جزءا من الليل في النهار فيطول، ويقصر الليل { ويولج النهار في الليل } أي يدخل جزءا منه في الليل فيطول كما أنه يدخل النهار في الليل، والليل في النهار بالكلية فإنه إذا جاء أحدهما ذهب الآخر ويشهد له قوله تعالى
وآية لهم اليل نسلخ منه النهار
[يس: 37] ولازمه والنهار نسلخ منه الليل، فإذا الليل ليل والنهار نهار.
وقوله { وسخر الشمس والقمر } أي ذللهما فما يسيران الدهر كله بلا كلل ولا ملل لصالح العباد إذ بهما كان الليل والنهار، وبهما تعرف السنون والحساب وقوله { كل يجري } أي كل منهما يجري { لأجل مسمى } أي إلى وقت محدد وهو يوم القيامة. ولما عرف تعالى نفسه بمظاهر القدرة قدرته وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته قال للناس { ذلكم الله ربكم } أي بعد أن أقام الحجة وأظهر الدليل لم يبق إلا الإعلان عن الحقيقة التي يتنكر لها الكافرون فأعلنها بقوله { ذلكم } ذو الصفات العظام والجلال والإكرام هو الله ربكم الذي لا رب لكم سواه له الملك، وليس لغيره فلا يصح طلب شيء من غيره، إذ الملك كله لله وحده، وأما الذين تدعون من دونه أي تعبدونهم من دونه وهي الأصنام والأوثان وغيرها من الملائكة والأنبياء والأولياء فإنهم لا يملكون من قطمير فضلا عن غيره ثمرة فما فوقها لأن الذي لا يملك قطميرا - وهو القشرة الرقيقة على النواة - لا يملك بعيرا.
وقوله { إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم } نعم لا يسمعون لأنهم جمادات وأصنام من حجارة فكيف يسمعون وعلى فرض لو أنهم سمعوا ما استجابوا لداعيهم لعدم قدرتهم على الاستجابة وقوله تعالى { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } فهم إذا محنة لكم في الدنيا تنحتونهم وتحمونهم وتعبدونهم ويوم القيامة يكونون أعداء لكم وخصوما فيتبرءون من شرككم إياهم في عبادة الله، فتقوم عليكم الحجة بسببهم فما الحاجة إذا إلى الإصرار على عبادتهم وحمايتهم والدفاع عنهم وقوله تعالى { ولا ينبئك } أيها السامع { مثل خبير } وهو الله تعالى فالخبير أصدق من ينبئ وأصح من يقول فالله هو العليم الخبير وما أخبر به عن الآلهة في الدنيا والآخرة في الدنيا عن عجزها وعدم غناها وفي الآخرة عن براءتها وكفرها بعبادة عابديها. فهو الحق الذي لا مرية فيه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير ربوبية الله المستلزمة لألوهيته.
2- بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة وبها تقرر ربوبيته تعالى وألوهيته لعباده.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر يوم القيامة وبراءة الآلهة من عابديها.
4- بيان عجز الآلهة عن نفع عابديها في الدنيا وفي الآخرة.
5- تقرير صفات الكمال لله تعالى من الملك والقدرة والعلم، والخبرة التامة الكاملة وبكل شيء.
[35.15-18]
شرح الكلمات:
أنتم الفقراء إلى الله: أي المحتاجون إليه في كل حال.
والله هو الغني الحميد: أي الغني عنكم أيها الناس وعن سائر خلقه، المحمود بأفعاله وأقواله وحسن تدبيره فكل الخلائق تحمده لحاجتها إليه وغناه عنها.
ويأت بخلق جديد: أي بدلا عنكم.
وما ذلك على الله بعزيز: أي بشديد ممتنع بل هو سهل جائز الوقوع.
ولا تزر وازرة وزر أخرى: أي في حكم الله وقضائه بين عباده أن النفس المذنبة الحاملة لذنبها لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل وازرة تحمل وزرها وحدها.
وإن تدع مثقلة: أي بأوزارها حتى لم تقدر على المشي أو الحركة.
لا يحمل منه شيء: أي لا تجد من يستجيب لها ويحمل عنها بعض ذنبها حتى لو دعت ابنها أو أباها أو أمها فضلا عن غيرهم، وبهذا حكم الله سبحانه وتعالى.
يخشون ربهم بالغيب: أي لأنهم ما رأواه بأعينهم.
ومن تزكى: أي طهر نفسه من الشرك والمعاصي.
فإنما يتزكى لنفسه: أي صلاحه واستقامته على دين ثمرتها عائدة عليه.
معنى الآيات:
بعد تلك الأدلة والحجج التي سيقت في الآيات السابقة وكلها مقررة ربوبية الله تعالى وألوهيته وموجبة توحيده وعبادته نادى تعالى الناس بقوله { يأيها الناس } ليعلمهم بأنه وإن خلقهم لعبادته وأمرهم بها وتوعد بأليم العذاب لمن تركها ولم يكن ذلك لفقر منه إليها ولا لحاجة به إليهم فقال { يأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغني الحميد } إن عبادة الناس لربهم تعود عليهم فيكملون عليها في أخلاقهم وأرواحهم ويسعدون عليها في دنياهم وآخرتهم أما الله جل جلاله فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية. وهو الغني عن كل ما سواه { الحميد } أي المحمود بنعمه فكل نعمة بالعباد موجبة له الحمد والشكر. وقوله { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } وهذا دليل غناه؛ وافتقارهم كما هو دليل قدرته وعلمه، وقوله: { وما ذلك على الله بعزيز } أي إذهابهم والإتيان بخلق جديد غيرهم ليس بالأمر العزيز الممتنع ولا بالصعب المتعذر بل هو اليسير السهل عليه تعالى.
وقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } هذا مظهر عدالته تعالى فهو مع قدرته وقهره لعباده ذو عدل فيهم فلا يؤاخذ بغير جرم، ولا يحمل وزر نفس نفسا أخرى لم تذنب ولم تزر بل كل نفس تؤخذ بذنبها إن كانت مذنبة هذه عدالته تتجلى لعباده يوم يعرضون عليه في يوم كله هول وفزع يدل عليه قوله { وإن تدع مثقلة } أي بذنوبها { إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان } من تدعوه { ذا قربى } كالولد والبنت. وقوله تعالى: { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة } أي إنما تنذر يا رسولنا ويقبل إنذارك وينتفع به من يخشون ربهم ويخافون عذابه بالغيب وأقاموا الصلاة، أما غيرهم من أهل الكفر والعناد والجحود فإنهم لا يقبلون إنذارك ولا ينتفعون به لظلمة جهلهم وكفرهم وقساوة قلوبهم، ومع هذا فأنذر ولا عليك في ذلك شيء فإن من تزكى بالإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي فإنما يتزكى لنفسه لا لك ولا لنا، ومن أبى فعليه إباؤه، وإلينا مصير الكل وسنجزي كلا بما كسب من خير وشر.
هذا ما دل عليه قوله تعالى: { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فقر العباد إلى ربهم وحاجتهم إليه وإزالة فقرهم وسد حاجتهم يكون باللجوء إليه والاطراح بين يديه يعبدونه ويسألونه.
2- بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة.
3- بيان صعوبة الموقف في عرصات القيامة لا سيما عند وضع الميزان ووزن الأعمال.
4- بيان أن الإنذار والتخويف من عذاب الله لا ينتفع به غير المؤمنين الصالحين.
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة.
6- تقرير حقيقة وهي أن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.
[35.19-26]
شرح الكلمات:
وما يستوي الأعمى والبصير: أي لا يستويان فكذلك الكافر والمؤمن لا يستويان.
ولا الظلمات ولا النور: أي لا يستويان فكذلك الكفر والإيمان لا يستويان.
ولا الظل ولا الحرور: أي لا يستويان فكذلك الجنة والنار لا يستويان.
وما يستوي الأحياء ولا الأموات: فكذلك لا يستوي المؤمنون والكافرون.
وما أنت بمسمع من في القبور: أي فكذلك لا تسمع الكفار فإنهم كالأموات.
إن أنت إلا نذير: ما أنت إلا منذر فلا تملك أكثر من الإنذار.
إنا أرسلناك بالحق: أي بالدين الحق والهدى والكتاب.
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير: أي سلف فيها نبي ينذرها.
جاءتهم رسلهم بالبينات: أي بالحجج والأدلة الواضحة.
وبالزبر وبالكتاب المنير: أي وبالصحف كصحف إبراهيم وبالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل.
فكيف كان نكير: أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك والجواب هو واقع موقعه والحمد لله.
معنى الآيات:
لما تقدم في السياق الكريم أن إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينتفع به إلا المؤمن المقيم للصلاة وإن الكافر المكذب الجاحد لا ينتفع به ذكر تعالى هنا مثلا للكافر والمؤمن وإنهما لا يستويان فقال { وما يستوي الأعمى والبصير } فالأعمى الكافر والبصير المؤمن وهما لا يستويان في عقل ولا شرع { ولا الظلمات ولا النور } أي ولا تستوي الظلمات ولا النور كما لا يستوي الكفر والإيمان ولا الظل ولا الحرور، فبرودة الجو، لا تستوي مع حرارته فكذلك الجنة لا تستوى مع النار، وقوله { وما يستوي الأحيآء ولا الأموات } أي ولا المؤمنون مع الكافرين كذلك وقوله تعالى { إن الله يسمع من يشآء ومآ أنت بمسمع من في القبور } هذا شروع في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل ما يجد في نفسه من إعراض قومه وعدم استجابتهم لدعوته، فأخبره ربه بأنه تعالى قادر على أن يسمع من يشاء إسماعه وذلك لقدرته على خلقه أما أنت أيها الرسول فإنك لا تسمع الأموات وإنما تسمع الأحياء، والكفار شأنهم شأن الأموات في القبور فلا تقدر على إسماعهم. ولا يحزنك ذلك فإنك ما أنت إلا نذير، والنذير ينذر ولا يسأل عمن أجابه ومن لم يجبه.
وقوله تعالى { إنآ أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا } بهذا الخبر يقرر تعالى رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا لمن آمن به واتبع هداه بالجنة، ونذيرا لمن كفر به وعصاه بالنار. وقوله { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } ، يخبر تعالى أن رسوله محمدا ليس الرسول الوحيد الذي أرسل في أمة بل إنه ما من أمة من الأمم إلا مضى فيها نذير، فلا يكون إرساله عجبا لكفار قريش إذ هذه سنة الله تعالى في عباده يرسل إليهم من يهديهم إلى نجاتهم وسعادتهم ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم معزيا له مسليا { وإن يكذبوك } فلم يكونوا أول من كذب فقد كذب الذين من قبلهم { جآءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير } أي جاءتهم رسلهم بالحجج القواطع والبراهين السواطع، والمعجزات الخوارق، وبالصحف والكتب المنيرة لسبيل الهداية وطريق النجاة والفلاح.
ومنهم من آمن ومنهم من كذب وكفر وبعد إمهال وإنظار دل عليه العطف بثم أخذ الذين كفروا بعذاب ملائم لكفر الكافرين. { فكيف كان نكير } أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة الشديدة والإهلاك التام إنه كان واقعا موقعه، موافيا لطالبه بكفره وعناده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال للكشف عن الحال وزيادة البيان.
2- الكفار عمى لا بصيرة لهم، وأموات لا حياة فيهم، والدليل عدم انتفاعهم بحياتهم ولا بأسماعهم ولا أبصارهم.
3- تقرير نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتأكيد رسالته.
4- تسلية الدعاة ليتدرعوا بالصبر ويلتزموا الثبات.
5- بيان سنة الله في المكذبين الكافرين وهي أخذهم عند حلول أجلهم.
[35.27-30]
شرح الكلمات:
ثمرات مختلفا ألوانها: أي كأحمر وأخضر وأصفر وأزرق وغيره.
ومن الجبال جدد: أي طرق في الجبال إذ الجدة الطريق ومنه جادة الطريق.
بيض وحمر مختلف ألوانه : أي طرق وخطط في الجبال ذوات ألوان كالجبال أيضا.
وغرابيب سود: منها الأبيص والأصفر والأسود الغربيب.
ومن الناس والدواب والأنعام: فمنها أبيض وهذا أحمر وهذا أسود.
مختلف ألوانه كذلك: أي كاختلاف الثمار والجبال والطرق فيها.
إنما يخشى الله من عباده العلماء: أي العالمين بجلاله وكماله، إذ الخشية متوقفة على معرفة المخشي.
يتلون كتاب الله: أي يقرأونه تعبدا به.
تجارة لن تبور: أي لن تهلك ولن تضيع بدون ثواب عليها.
غفور شكور: أي غفور لذنوب عباده التائبين شكور لأعمالهم الصالحة.
معنى الآيات:
هذا السياق الكريم { ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء } في بيان تفاوت المخلوقات واختلافاتها فمن مؤمن إلى كافر، ومن صالح إلى فاسد ومن أبيض إلى أحمر أو أسود وابتدأه تعالى بخطاب رسوله مقررا له بقوله { ألم تر } أي ألم تبصر بعينك أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ما بين تمر أصفر وآخر أحمر، وآخر أسود وهذا واضح في التمر والعنب والفواكه والخضر، ومن الجبال كذلك. فإن فيها جدد أي خطط حمراء وصفراء وبيضاء وسوداء والجبال نفسها كذلك، ومن الناس والدواب والأنعام ففي جميعها الأبيض والأسود والأحمر والأصفر كما في جدد الجبال نفسها وكما في الثمار. ولما كان هذا لا يدركه إلا المفكرون ولا يجنى منه العبرة إلا العالمون قال تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } وأهل مكة جهال لا يفكرون ولا يهتدون فلا غرابة إذا لم يخشوا الله تعالى ولم يوحدوه وذلك لجهلهم وعدم تفكيرهم.
وقوله تعالى في ختام السياق: { إن الله عزيز غفور } كشف عن حقيقة ينبغي أن يعرفها أهل مكة المصرون على الكفر والتكذيب وهي أن الله قادر على أخذهم والبطش بهم فإنه عزيز لا يمانع فيما يريده وغفور لذنوب التائبين من عباده ومهما كانت ذنوبهم إلا فليتب أهل مكة فإن توبتهم خير لهم من إصرارهم على الشرك والكفر والتكذيب إذ في التوبة نجاة، وفي الإصرار هلاك.
وقوله تعالى: { إن الذين يتلون كتاب الله } وهم المؤمنون { وأقاموا الصلاة } أدوها أداء وافيا لا نقص فيه { وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية } الزكاة والصدقات بحسب الأحوال والظروف سرا أحيانا وعلانية أحيانا أخرى. يخبر تعالى عنهم بعدما وصفهم بما شرفهم به من صفات أنهم يرجون تجارة لن تبور أي لن تهلك ولن تخسر وذلك يوم القيامة وقوله { ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } أي هداهم لذلك ووفقهم إليه تعالى ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله. وعلة ذلك أنه غفور لعباده المؤمنين التائبين فيغفر ذنوبهم ويدخلهم جنته شكور لطاعاتهم وصالح أعمالهم فلذا يضاعف لهم أجورهم ويزيدهم من فضله وله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر القدرة والعلم الإلهي في اختلاف الألوان والطباع والذوات.
2- العلم سبيل الخشية فمن لا علم له بالله فلا خشية له إنما يخشى الله من عباده العلماء.
3- فضل تلاوة القرآن الكريم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقات.
4- في وصف الله تعالى بالغفور والشكور ترغيب للمذنبين أن يتوبوا، وللعاملين أن يزيدوا.
[35.31-35]
شرح الكلمات:
من الكتاب: أي القرآن الكريم.
مصدقا لما بين يديه: أي من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل.
ثم أورثنا الكتاب: أي الكتب التي سبقت القرآن إذ محصلها في القرآن الكريم.
الذين اصطفينا: أي اخترنا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فمنهم ظالم لنفسه: بارتكاب الذنوب.
ومنهم مقتصد: مؤد للفرائض مجتنب للكبائر.
ومنهم سابق بالخيرات: مؤد للفرائض والنوافل مجتنب للكبائر والصغائر.
بإذن الله: أي بتوفيقه وهدايته.
ذلك: أي إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير.
ولؤلؤا: أي أساور من لؤلؤ مرصع بالذهب.
أحلنا دار المقامة: أي الإقامة وهي جنات عدن.
لا يمسنا فيها نصب: أي تعب.
ولا يمسنا فيها لغوب: أي إعياء من التعب، وذلك لعدم التكليف فيها.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والذي أوحينآ إليك من الكتاب } أي القرآن الكريم هو { الحق } أي الواجب عليك وعلى أمتك العمل به لا ما سبقه من الكتب كالتوراة والإنجيل، { مصدقا لما بين يديه } أي أمامه من الكتب السابقة، وقوله { إن الله بعباده لخبير بصير } فهو تعالى يعلم أن الكتب السابقة لم تصبح تحمل هداية الله لعباده لما داخلها من التحريف والتغيير فلذا مع علمه بحاجة البشرية إلى وحي سليم يقدم إليها فتكمل وتسعد عليه متى آمنت به وأخذته نورا تمشي به في حياتها المادية هذه أرسلك وأوحى إليك هذا الكتاب الكريم وأوجب عليك وعلى أمتك العمل به.
وقوله تعالى: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } يخبر تعالى أنه أورث أمة الإسلام الكتاب السابق إذ كل ما في التوراة والإنجيل من حق وهدى قد حواه القرآن الكريم فأمه القرآن قد ورثها الله تعالى كل الكتاب الأول. وقوله تعالى: { فمنهم ظالم لنفسه } بالتقصير في العمل وارتكاب بعض الكبائر، { ومنهم مقتصد } وهو المؤدي للفرائض المجتنب للكبائر، { ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } وهو المؤدي للفرائض والنوافل المجتنب للكبائر والصغائر.
وقوله: { ذلك } أي الإيراث للكتاب هو الفضل الإلهي الكبير وهو { جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور } جمع سوار ما يجعل في اليد { من ذهب ولؤلؤا } أي أساور من لؤلؤ، ولباسهم فيها حرير.
وقوله: { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } أي كل الحزن فلا حزن يصيبهم إذ لا موت في الجنة ولا فراق ولا خوف ولا هم ولا كرب فمن أين يأتي الحزن. وقولهم { إن ربنا لغفور شكور } قالوا هذا لأنه تعالى غفر للظالم وشكر للمقتصد عمله فأدخل الجميع الجنة فهو الغفور الشكور حقا حقا.
وقولهم: { الذي أحلنا دار المقامة } أي الإقامة من فضله هذا ثناء منهم على الله تعالى بإفضاله عليهم، وقولهم { لا يمسنا فيها نصب } أي تعب { ولا يمسنا فيها لغوب } أي إعياء من التعب وصف لدار السلام وهي الجنة الخالية من النصب واللغوب جعلنا الله من أهلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب العمل بالقرآن الكريم عقائد وعبادات وآدابا وأخلاقا وقضاء وحكما.
2- بيان شرف هذه الأمة، وأنها الأمة المرحومة فكل من دخل الإسلام بصدق وأدى الفرائض واجتنب المحارم فهو ناج فائز ومن قصر وظلم نفسه بارتكاب الكبائر ومات ولم يشرك بالله شيئا فهو آئيل إلى دخول الجنة راجع إليها بإذن الله.
3- بيان نعيم أهل الجنة وحلية أهلها وهي الأساور من الذهب واللؤلؤ.
[35.36-39]
شرح الكلمات:
لا يقضى عليهم: أي بالموت فيموتوا ويستريحوا.
كذلك نجزي كل كفور: أي كذلك الجزاء نجزي كل كفور بنا وبآياتنا ولقائنا.
وهم يصطرخون فيها: أي يصيحون بأعلى أصواتهم يطلبون الخروج منها.
يقولون: أي في عويلهم وصراخهم ربنا أخرجنا أي منها نعمل صالحا.
أو لم نعمركم ما يتذكر فيه: أي وقتا يتذكر فيه من تذكر.
وجاءكم النذير: أي الرسول فلم تجيبوا وأصررتم على الشرك والمعاصي.
إنه عليم بذات الصدور: أي بما في القلوب من إصرار على الكفر ولو عاش الكافر طوال الحياة.
خلائف في الأرض: يخلف بعضكم بعضا. والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف غيره.
فعليه كفره: أي وبال كفره.
إلا مقتا: أي إلا غضبا شديدا عليهم من الله عز وجل.
إلا خسارا: أي في الآخرة إذ يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
معنى الآيات:
بعدما ذكر تعالى جزاء أهل الإيمان والعمل الصالح ذكر جزاء أهل الكفر والمعاصي فقال: { والذين كفروا } أي بالله وآياته ولقائه { لهم نار جهنم } أي جزاء لهم { لا يقضى عليهم } أي بالموت فيموتوا حتى يستريحوا ولا يخفف عنهم من عذابها ولا طرفة عين. وقوله تعالى { كذلك } أي الجزاء { نجزي كل كفور } أي مبالغ في الكفر مكثر منه. وقوله: { وهم يصطرخون فيها } أي في جهنم أي يصرخون بأعلى أصواتهم في بكاء وعويل يقولون: { ربنآ أخرجنا } أي من النار وردنا إلى الحياة الدنيا { نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } أي من الشرك والمعاصي. فيقال لهم: { أولم نعمركم } أي أتطلبون الخروج من النار لتعملوا صالحا ولم نعمركم أي نطل أعماركم بحيث يتذكر فيها من يريد أن يتذكر وجاءكم النذير فلم تجيبوه وأصررتم على الشرك والمعاصي، إذا فذوقوا عذاب النار { فما للظالمين } أي الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي من نصير ينصرهم فيخرجهم من النار. وقوله تعالى: { إن الله عالم غيب السموت والأرض } أي كل ما غاب في السماوات والأرض { إنه عليم بذات الصدور } ومن ذلك أنه عليم بما في قلوبكم وما كنتم مصرين عليه من الشرك والشر والفساد ولو عشتم الدهر كله.
وقوله تعالى: { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } أي يخلف بعضكم بعضا وفي ذلك ما يمكن من العظة والاعتبار إذ العاقل من اعتبر بغيره فقد هلكت قبلكم أمم بذنوبهم فلم لا تتعظون بهم وقد خلفتموهم وجئتم بعدهم إذا فلا عذر لكم أبدا.
وبعد هذا البيان فمن كفر فعليه كفره هو الذي يتحمل جزاءه، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم { إلا مقتا } أي بعدا عن الرحمة وبغضا شديدا، { ولا يزيد الكافرين } أي المصرين على الكفر كفرهم { إلا خسارا } أي هلاكا في الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مر العذاب وأليمه الذي هو جزاء الكافرين.
2- الإعذار لمن بلغه الله من العمر أربعين سنة.
3- الكافر يعذب أبدا لعلم الله تعالى به وأنه لو عاش آلاف السنين ما أقلع عن كفره ولا حاول أن يتوب منه فلذا يعذب أبدا.
4- في كون البشرية أجيالا جيلا يذهب وآخر يأتي مجال للعظة والعبرة والعاقل من اعتبر بغيره.
5- الاستمرار على الكفر لا يزيد صاحبه إلا بعدا عن الرحمة ومقتا عند الله تعالى والمقت أشد الغضب.
[35.40-43]
شرح الكلمات:
قل أرأيتم: أي أخبروني.
تدعون من دون الله: أي تعبدون من غير الله وهي الأصنام.
أروني ماذا خلقوا: أي أخبروني ماذا خلقوا من الأرض أي أي جزء منها خلقوه.
أم لهم شرك: أي أم لهم شركة في خلق السماوات.
إلا غرورا: أي باطلا إذ قالوا إنها آلهتنا تشفع لنا عند الله يوم القيامة وتقربنا إلى الله زلفى.
يمسك السماوات والأرض أن تزولا: أي يمنعها من الزوال.
إن أمسكهما من أحد من بعده: أي ولو زالتا ما أمسكهما أحد من بعده لعجزه عن ذلك.
إنه كان حليما غفورا: أي حليما لا يعجل بالعقوبة غفورا لمن ندم واستغفر.
لئن جاءهم نذير: أي رسول.
من إحدى الأمم: أي اليهود والنصارى.
فلما جاءهم نذير: أي محمد صلى الله عليه وسلم.
ما زادهم إلا نفورا: أي مجيئه إلا تباعدا عن الهدى ونفرة منه.
ومكر السيئ: أي الشرك والمعاصي.
ولا يحيق المكر السيئ: أي ولا يحيط إلا بأهله العاملين له.
سنة الأولين: أي سنة الله فيهم وهي تعذيبهم بكفرهم وإصرارهم عليه.
ولن تجد لسنة الله تبديلا: أي فلا يبدل العذاب بغيره.
ولن تجد لسنة الله تحويلا: أي تحويل العذاب عن مستحقه إلى غير مستحقه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل للمشركين من قومك: { أرأيتم شركآءكم الذين تدعون } أي تعبدون من دون الله أخبروني: ماذا خلقوا من الأرض حتى استحقوا العبادة مع الله فعبدتموهم معه؟ أم لهم شرك في السماوات بأن خلقوا جزءا وملكوه بالشركة. والجواب قطعا لم يخلقوا شيئا من الأرض وليس لهم في خلق السماوات شركة أيضا إذا فكيف عبدتموهم مع الله؟ وقوله تعالى: { أم آتيناهم } أي أم آتينا هؤلاء المشركين كتابا يبيح لهم الشرك ويأذن لهم فيه فهم لذلك على بينة بصحة الشرك. والجواب ومن أين لهم هذا الكتاب الذي يبيح الشرك؟ بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا { إلا غرورا } أي باطلا إذ الحقيقة أن المشركين لم يكن لهم كتاب يحتجون به على صحة الشرك، وإنما هو أن الظالمين وهم المشركون ما يعد بعضهم بعضا وهو أن الآلهة ستشفع لنا وتقربنا إلى الله زلفى إلا غرورا وباطلا فالرؤساء غرروا بالمرء وسين وكذبوا عليهم بأن الآلهة تشفع لهم عند الله وتقربهم منه زلفى فلهذا عبدوها من دون الله وقوله تعالى: { إن الله يمسك السموت والأرض أن تزولا } يخبر تعالى عن عظيم قدرته ولطفه بعباده، ورحمته بهم وهي أنه تعالى يمسك السماوات السبع والأرض أن تزولا أي تتحول عن أماكنهما، إذ لو زالتا لخرب العالم في لحظات، وقوله: { ولئن زالتآ } أي ولو زالتا { إن أمسكهما من أحد من بعده } أي لا يقدر على ذلك إلا هو سبحانه وتعالى، وقوله إنه كان حليما غفورا إذ حلمه هو الذي غر الناس فعصوه، ولم يطيعوه، وأشركوا به ولم يوحدوه ومغفرته هي التي دعت الناس إلى التوبة إليه، والإنابة إلى توحيده وعبادته.
وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق [42] { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم } يخبر تعالى عن المشركين العرب بأنهم في يوم من الأيام كانوا يحلفون بالله جهد أيمانهم أي غاية اجتهادهم فيها لئن جاءهم رسول يرشدهم ويعلمهم لكانوا أهدى أي أعظم هداية من إحدى الطائفتين اليهود والنصارى. هكذا كانوا يحلفون ولما جاءهم نذير أي الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم ما زادهم مجيئه { إلا نفورا } أي بعدا عن الدين ونفرة منه، واستكبارا في الأرض، ومكر السيئ الذي هو عمل الشرك والظلم والمعاصي.
وقوله تعالى { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } إخبار منه تعالى بحقيقة يجهلها الناس وهي أن عاقبة المكر السيئ تعود على الماكرين بأسوأ العقاب وأشد العذاب وقوله تعالى: { فهل ينظرون } أي ينتظرون وهم مصرون على المكر السيئ وهو الشرك ومحاربة الرسول وأذية المؤمنين. إلا سنة الأولين وهي إهلاك الماكرين الظالمين { فلن تجد لسنت الله } أيها الرسول { تبديلا } بأن يتبدل العذاب بغيره بالرحمة مثلا { ولن تجد لسنت الله تحويلا } بأن يتحول العذاب عن مستحقه إلى غير مستحقه إذا فليعاجل قومك الوقت بالتوبة وإلا فهم عرضة لأن تمضي فيهم سنة الله بعذابهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.
2- بيان أن المشركين لا دليل لهم على صحة الشرك لا من عقل ولا من كتاب.
3- بيان قدرة الله ولطفه بعباده ورحمته بهم في إمساك السماوات والأرض عن الزوال.
4- بيان كذب المشركين، ورجوعهم عما كانوا يتقاولونه بينهم من أنه لو أرسل إليهم رسولا لكانوا أهدى من اليهود أو النصارى.
5- تقرير حقيقة وهي أن المكر السيئ عائد على أهله لا على غيرهم وفي هذا يرى أن ثلاثة على أهلها رواجع، وهي المكر السيئ، والبغي، والنكث لقوله تعالى
إنما بغيكم على أنفسكم
[يونس: 23]. وقوله
فمن نكث فإنما ينكث على نفسه
[الفتح: 10] وقوله { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله }.
[35.44-45]
شرح الكلمات:
وكانوا أشد منهم قوة: أي وأهلكهم الله تعالى بتكذيبهم رسلهم.
وما كان الله ليعجزه من شيء: أي ليسبقه ويفوته فلم يتمكن منه.
إنه كان عليما قديرا: أي عليما بالأشياء كلها قديرا عليها كلها.
بما كسبوا: أي من الذنوب والمعاصي.
ما ترك على ظهرها: أي ظهر الأرض من دابة أي نسمة تدب على الأرض وهي كل ذي روح.
إلى أجل مسمى: أي يوم القيامة.
فإن الله كان بعباده بصيرا: فيحاسبهم ويجزيهم بحسب كسبهم خيرا كان أو شرا.
معنى الآيات:
لما هدد الله تعالى المشركين بإمضاء سنته فيهم وهي تعذيب وإهلاك المكذبين إذا أصروا على التكذيب ولم يتوبوا. قال { أولم يسيروا } أي المشركون المكذبون لرسولنا { في الأرض } شمالا أو جنوبا { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } كقوم صالح وقوم هود، إنها كانت دمارا وخسارا { وكانوا أشد منهم قوة } أي من هؤلاء المشركين اليوم قوة وقوله تعالى { وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض } أي لم يكن ليعجز الله شيء فيفوت الله ويهرب منه ولا يقدر عليه بل إنه غالب لكل شيء وقاهر له وقوله: { إنه كان عليما قديرا } تقرير لقدرته وعجز كل شيء أمامه، فإن العليم القدير لا يعجزه شيء بالاختفاء والتستر، ولا بالمقاومة والهرب.
وقوله تعالى { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة } وهي الآية الأخيرة من هذا السياق [45] أي ولو كان الله يؤاخذ الناس بذنوبهم فكل من أذنب ذنبا انتقم منه فأهلكه ما ترك على ظهر الأرض من نسمة ذات روح تدب على وجه الأرض، ولكنه تعالى يؤخر الظالمين { إلى أجل مسمى } أي معين الوقت محدده إن كان في الدنيا ففي الدنيا، وإن كان يوم القيامة ففي القيامة. وقوله { فإذا جآء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا } يخبر بأنه إذا جاء أجل الظالمين فإنه تعالى بصير بهم لا يخفى عليه منهم أحد فيهلكهم ولا يبقى منهم أحدا لكامل علمه وعظيم قدرته، الا فليتق الله الظالمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية السير في الأرض للعبرة لا للتنزه واللهو واللعب.
2- بيان أن الله لا يعجزه شيء وذلك لعلمه وقدرته وهي حال توجب الترهيب منه تعالى والإنابة إليه.
3- حرمة استعجال العذاب فإن لكل شيء أجلا ووقتا معينا لا يتم قبله فلا معنى للاستعجال بحال.
[36 - سورة يس]
[36.1-12]
شرح الكلمات:
يس: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا يس، ويقرأ هكذا ياسين والله أعلم بمراده به.
والقرآن الحكيم: أي ذي الحكمة إذ وضع القرآن كل شيء في موضعه فهو لذلك حكيم ومحكم أيضا بعجيب النظم وبديع المعاني.
إنك لمن المرسلين: أي يا محمد من جملة الرسل الذين أرسلناهم إلى أقوامهم.
على صراط مستقيم: أي طريق مستقيم الذي هو الإسلام.
تنزيل العزيز الرحيم: أي القرآن تنزيل العزيز في انتقامه ممن كفر به الرحيم بمن تاب إليه.
ما أنذر آباؤهم: أي لم ينذر آباؤهم إذ لم يأتهم رسول من فترة طويلة.
فهم غافلون: أي لا يدرون عاقبة ما هم فيه من الكفر والضلال، ولا يعرفون ما ينجيهم من ذلك وهو الإيمان وصالح الأعمال.
لقد حق القول على أكثرهم: أي وجب عليهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون.
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا: أي جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالأغلال.
فهي إلى الأذقان: أي أيديهم مجموعة إلى أذقناهم، والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين.
فهم مقمحون: أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، فلذا لا يكسبون بأيديهم خيرا، ولا يذعنون برؤوسهم إلى حق.
فأغشيناهم فهم لا يبصرون: أي جعلنا على أبصارهم غشاوة فهم لذلك لا يبصرون.
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون: أي استوى إنذارك لهم وعدمه في عدم إيمانهم.
من اتبع الذكر: أي القرآن.
وأجر كريم: أي بالجنة دار النعيم والسلام.
إنا نحن نحي الموتى: أي نحن رب العزة نحيى الموتى للبعث والجزاء.
ونكتب ما قدموا وآثارهم: أي ما عملوه من خير وشر لنحاسبهم، وآثارهم أي خطاهم إلى المساجد وما استن به أحد من بعدهم.
في إمام مبين: أي في اللوح المحفوظ.
معنى الآيات:
{ يس } الله أعلم بمراده به { والقرآن الحكيم } أي المحكم نظما ومعنى وذي الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه أقسم تعالى بالقرآن الحكيم على أن محمد صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا فقال { والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } الذي هو الإسلام. وقوله { تنزيل العزيز الرحيم } أي هذا القرآن هو تنزيل الله { العزيز } في الانتقام ممن كفر به وكذب رسوله { الرحيم } بأوليائه وصالحي عباده. وقوله { لتنذر قوما مآ أنذر آبآؤهم } أي أرسلناك وأنزلنا إليك الكتاب لأجل أن تنذر قوما ما أنذر آباؤهم من فترة طويلة وهم مشركو العرب إذ لم يأتهم رسول من بعد إسماعيل عليه السلام { فهم غافلون } أي لا يدرون عاقبة ما هم عليه من الشرك والشر والفساد، ومعنى تنذرهم تخوفهم عذاب الله تعالى المترتب على الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى { لقد حق القول على أكثرهم } أي أكثر خصوم النبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش كأبي جهل حق عليهم القول الذي هو قوله تعالى
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود: 119، السجدة: 13] فوجب لهم العذاب فلذا هم لا يؤمنون إذ لو آمنوا لما عذبوا، وعدم إيمانهم لم يكن مفروضا عليهم وإنما هو باختيارهم وحرية إرادتهم إذ لو كان جبرا لما استحقوا العذاب عليه. وقوله تعالى { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهى } أي أيديهم { إلى الأذقان } مشدودة بالأغلال { فهم مقمحون } أي رافعوا رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، وهذا تمثيل لحالهم في عدم مد أيديهم للإنفاق في الخير، وعدم إذعان رؤوسهم لقبول الحق وقوله { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا } وهذا تمثيل آخر لحالهم وهي أنهم زينت لهم الحياة الدنيا فأصبحوا لا يرون غيرها فهو سد أمامهم ومانع لهم من الإيمان وترك الشرك والمعاصي، وصورت لهم الآخرة بصورة باطلة مستحيلة الوقوع فكان ذلك سدا من خلفهم فهم لذلك لا يتوبون ولا يذكرون لعدم خوفهم من عذاب الآخرة وقوله تعالى { فأغشيناهم } هذا مبالغة في إضلالهم فجعل على أعينهم غشاوة من كره الرسول صلى الله عليه وسلم وبغض ما جاء به فهم لذلك عمي لا يبصرون. وقوله تعالى { وسوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } هذا إخبار منه تعالى بأن هذه المجموعة من خصوم الرسول صلى الله عليه وسلم من أكابر مجرمي مكة استوى فيهم الإنذار النبوي وعدمه فهم لا يؤمنون فكأن الله تعالى يقول لرسوله إن هؤلاء العتاة من خصومك إنذارك لهم لا ينفعهم فأنذر الذين ينفعهم إنذارك ودع من سواهم وهو قوله تعالى { إنما تنذر من اتبع الذكر } أي القرآن { وخشي الرحمن بالغيب } أي خافه فلم يعصه وهو لا يراه، كما لم يعصه عندما يخلو بنفسه ولا يراه غيره فمثل هذا بشره بمغفرة منا لذنوبه وأجر كريم على صالح عمله وهو الجنة دار المتقين وقوله تعالى: { إنا نحن نحيي الموتى } أي للبعث والجزاء { ونكتب ما قدموا } أي أولئك الأموات أيام حياتهم من خير وشر، { وآثارهم } أي ونكتب آثارهم وهو ما استن به من سننهم الحسنة أو السيئة. { وكل شيء } أي من أعمال العبادة وغيرها { في إمام مبين } وهو اللوح المحفوظ، وسنجزي كلا بما عمل. وفي هذا الخطاب تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية وتأكيد رسالته صلى الله عليه وسلم.
2- بيان الحكمة من إرسال الرسول وإنزال الكتاب الكريم.
3- بيان أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم بعث على فترة من الرسل.
4- بيان أن حب الدنيا والإقبال عليها والإعراض عن الآخرة وعدم الالتفات إليها يضعان الإنسان بين حاجزين لا يستطيع تجاوزهما والتخلص منهما.
5- بيان أن الذنوب تقيد صاحبها وتحول بينه وبين فعل الخير أو قبول الحق.
6- بيان أن من سن سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده يجزى بها كما يجزى على عمله الذي باشره بيده.
7- تقرير عقيدة القضاء والقدر وأن كل شيء في كتاب المقادير المعبر عنه بالإمام. ومعنى المبين أي أن ما كتب فه بين واضح لا يجهل منه شيء.
[36.13-19]
شرح الكلمات:
واضرب لهم مثلا: أي واجعل لهم مثلا.
أصحاب القرية: أي انطاكية عاصمة بلا يقال لها العواصم بأرض الروم.
إذ جاءها المرسلون: أي رسل عيسى عليه السلام.
فعززنا بثالث: أي قوينا أمر الرسولين ودعوتهما برسول ثالث وهو حبيب بن النجار.
وما علينا إلا البلاغ المبين: أي التبليغ الظاهر البين بالأدلة الواضحة وهي إبراء الأكمه والأبرص والمريض وإحياء الموتى.
إنا تطيرنا بكم: أي تشاءمنا بكم وذلك لانقطاع المطر عنا بسببكم.
قالوا طائركم معكم: أي شؤمكم معكم وهو كفركم بربكم.
أئن ذكرتم: أي وعظتم وخوفتم تطيرتم وهذا توبيخ لهم.
بل أنتم قوم مسرفون: أي متجاوزون للحد في الشرك والكفر.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { واضرب لهم مثلا } أي واضرب أيها الرسول لقومك المصرين على الشرك والتكذيب لك ولما جئتهم به من الهدى ودين الحق { مثلا أصحاب القرية } فإن حالهم في التكذيب والغلو في الكفر والعناد كحال هؤلاء. إذ جاءها المرسلون وهم رسل عيسى عليه السلام إذ بعث برسولين ثم لما آذوهما بالضرب والسجن بعث بشمعون الصفي رأس الحواريين تعزيزا لموقفهما كما قال تعالى { فكذبوهما فعززنا بثالث } ، فقالوا لأهل أنطاكية { إنآ إليكم مرسلون } من قبل عيسى عليه السلام ندعوكم إلى عبادة الرحمن وترك عبادة الأوثان { قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا ومآ أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون } أي ما أنتم إلا تكذبون علينا في دعواكم أنكم رسل إلينا فقال الرسل { ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون } فواجهوا شك القوم فيهم بما يدفع الشك من القسم وتأكيد الخبر بالجملة الاسمية ولام التوكيد فقالوا: { ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون وما علينآ إلا البلاغ المبين } أي البين الواضح فإن قبلتم ما دعوناكم إليه فذلك حظكم من الخير والنجاة وإن أبيتم فذلك حظكم من الهلاك والخسار. ورد أهل أنطاكية على الرسل قائلين: { إنا تطيرنا بكم } أي تشاءمنا بكم حيث انقطع عنا المطر بسببكم فرد عليهم المرسلون بقولهم { طائركم معكم } أي شؤمكم في كفركم وتكذيبكم، ولذا حبس الله المطر عليكم. ثم قالوا لهم موبخين لهم: { أئن ذكرتم } أي وعظتم وخوفتم بالله لعلكم تتقون تطيرتم. بل أنتم أيها القوم { مسرفون } أي متجاوزون الحد في الكفر والشرك والعدوان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- استحسان ضرب المثل وهو تصوير حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما هنا في قصة حبيب بن النجار.
2- تشابه حال الكفار في التكذيب والإصرار في كل زمان ومكان.
3- لجوء أهل الكفر بعد إقامة الحجة عليهم إلى التهديد والوعيد.
4- حرمة التطير والتشاؤم في الإسلام.
[36.20-27]
شرح الكلمات:
وجاء رجل: أي جاء حبيب بن النجار صاحب يس.
من أقصى المدينة: أي من أقصا دور المدينة وهي أنطاكيا العاصمة.
يسعى: أي يشتد مسرعا لما بلغه أن أهل البلد عزموا على قتل رسل عيسى الثلاثة.
قال يا قوم اتبعوا المرسلين: أي رسل عيسى عليه السلام.
اتبعوا من لا يسألكم أجرا: اتبعوا من لا يطلبكم أجرا على إبلاغ دعوة الحق.
وهم مهتدون: أي الرسل إنهم على هداية من ربهم ما هم بكذابين.
فطرني: أي خلقني.
إن يردن الرحمن بضر: أي بمرض ونحوه.
ولا ينقذون: أي مما أراد الله لي من ضر في جسمي وغيره.
إني إذا لفي ضلال مبين: أي إني إذا اتخذت من دون الله آلهة أعبدها لفي ضلال مبين.
إني آمنت بربكم فاسمعون: أي صارح قومه بهذا القول وقتلوه.
قيل ادخل الجنة: قالت له الملائكة عند الموت ادخل الجنة.
يا ليت قومي يعلمون: قال هذا لما شاهد مقعه في الجنة.
بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين: وهو الإيمان والتوحيد والصبر على ذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مثل أصحاب القرية إنه بعد أن تعزز موقف الرسل الثلاثة وأعطاهم الله من الكرامات ما أبرأوا به المرضى بل وأحيوا الموتى بإذن الله وأصبح لهم أتباع مؤمنون غضب رؤساء البلاد وأرادوا أن يبطشوا بالرسل، وبلغ ذلك حبيب بن النجار وكان شيخا مؤمنا موحدا يسكن في طرف المدينة الأقصى فجاء يشتد سعيا على قدميه فأمر ونهى وصارح القوم بإيمانه وتوحيده فقتلوه رفسا بأرجلهم قال تعالى { وجآء من أقصا المدينة } - أنطاكية - { رجل يسعى } أي يمشي بسرعة لما بلغه أن أهل البلاد قد عزموا على قتل الرسل الثلاثة وما إن وصل إلى الجماهير الهائجة حتى قال بأعلى صوته: { يقوم اتبعوا المرسلين } وسأل الرسل هل طلبتم على إبلاغكم دعوة عيسى أجرا قالوا لا. فقال { اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون } فاتبعوهم تهتدوا بهدايتهم. وقال له القوم وأنت تعبد الله مثلهم ولا تعبد آلهتنا؟ فقال: { وما لي لا أعبد الذي فطرني } أي وأي شيء يجعلني لا أعبده وهو خلقني { وإليه ترجعون } أي بعد موتكم فيحاسبكم ويجزيكم بعملكم. ثم اغتنم الفرصة ليدعو إلى ربه فقال مستفهما { أأتخذ من دونه آلهة } أي أصناما وأوثانا لا تسمع ولا تبصر { إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا } وإن قل ولا ينقذون مما أراده بي من ضر ونحوه { إني إذا لفي ضلال مبين } أي إني إذا أنا عبدت هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لفي ضلال مبين واضح لا يحتاج إلى دليل عليه. ورفع صوته مبلغا { إني آمنت بربكم } أي بخالقكم ورازقكم ومالك أمركم دون هذه الأصنام والأوثان { فاسمعون } وهنا وثبوا عليه فقتلوه.
ولما قيل له ادخل الجنة ورأى نعيمها ذكر قومه ناصحا لهم فقال: { يليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } أي يعلمون بما غفر له وجعله من المكرمين وهو الإيمان والتوحيد حتى يؤمنوا ويوحدوا فنصح قومه حيا وميتا وهذا شأن المسلم الحسن الإسلام والمؤمن الصادق الإيمان ينصح ولا يغش ويرشد ولا يضل ومهما قالوا له وفيه ومهما عاملوه به من شدة وقسوة حتى الموت قتلا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان كرامة حبيب بن النجار الذي نصح قومه حيا وميتا.
2- بيان ما يلاقي دعة التوحيد والدين الحق في كل زمان ومكان من شدائد وأهوال.
3- وجوب إبلاغ دعوة الحق والتنديد بالشرك ومهما كان العذاب قاسيا.
4- بشرى المؤمن عند الموت لا سيما الشهيد فإنه يرى الجنة رأي العين.
[36.28-32]
شرح الكلمات:
وما أنزلنا على قومه: أي على قوم حبيب بن النجار وهم أهل أنطاكية.
من بعده: أي من بعد موته.
من جند من السماء: أي من الملائكة لإهلاكهم.
وما كنا منزلين: أي الملائكة لإهلاك الأمم التي استوجبت الهلاك.
إن كانت إلا صيحة واحدة: أي ما هي إلا صيحة واحدة هي صيحة جبريل عليه السلام.
فإذا هم خامدون: أي ساكتون لا حراك لهم ميتون.
يا حسرة على العباد: أي يا حسرة العباد هذا أوان حضورك فاحضري وهذا غاية التألم. والعباد هم المكذبون للرسل الكافرون بتوحيد الله.
ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون: هذا سبب التحسر عليهم.
ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون: أي ألم ير أهل مكة المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم.
وإن كل لما جميع لدينا محضرون: أي وإن كل الخلائق إلا لدينا محضرون يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ومآ أنزلنا على قومه } أي قوم حبيب بن النجار { من بعده } أي بعد موته { من جند من السمآء } للانتقام من قومه الذين قتلوه لأنه أنكر عليهم الشرك ودعاهم إلى التوحيد وما كنا منزلين إذ لا حاجة تدعو إلى ذلك. إن كانت إلا صيحة واحدة من جبريل عليه السلام فإذا هم خامدون أي هلكى ساكنون ميتون لا حراك لهم ولا حياة فيهم وقوله تعالى { يحسرة على العباد } أي يا حسرة العباد على أنفسهم احضري ايتها الحسرة هذا أوان حضورك { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } هذا موجب الحسرة ومقتضيها وهو استهزاؤهم بالرسل. وقوله تعالى { ألم يروا } أي أهل مكة { كم أهلكنا قبلهم من القرون } أي ألم يعلموا القرون الكثيرة التي أهلكناها قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب مدين، { أنهم إليهم لا يرجعون } فيكون هذا هاديا لهم واعظا فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب ويسعدوا. وقوله تعالى { وإن كل } أي من الأمم الهالكة وغيرها من سائر العباد { لما جميع لدينا محضرون } أي إلا لدينا محضرون لفصل القضاء يوم القيامة فينجو المؤمنون ويهلك الكافرون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر قدرة الله تعالى في إهلاك أهل أنطاكية بصيحة واحدة.
2- إبداء التحسر على العباد من أنفسهم إذ هم الظالمون المكذبون فالحسرة منهم وعليهم.
3- حرمة الاستهزاء بما هو من حرمات الله تعالى التي يجب تعظيمها.
4- طلب العبرة من أخبار الماضين وأحوالهم، والعاقل من اعتبر بغيره.
5- تقرير المعاد والحساب والجزاء.
[36.33-36]
شرح الكلمات:
وآية لهم الأرض الميتة: أي على صحة البعث ووجوده لا محالة.
أحييناها: بإنزال المطر عليها فأصبحت حية بالنبات والزروع.
وجعلنا فيها جنات: أي بساتين.
وما عملته أيديهم: أي لم تصنعه أيديهم وإنما هو صنع الله وخلقه.
أفلا يشكرون: أي أفيرون هذه النعم ولا يشكرونها إنه موقف مخز منهم.
سبحان الذي خلق الأزواج كلها: أي تنزيها وتقديسا لله الذي خلق الأصناف كلها.
ومن أنفسهم: أي الذكور والإناث.
ومما لا يعلمون: من المخلوقات كالتي في السماوات وتحت الأرضين.
معنى الآيات:
لما تقدم في الآيات قبل هذه تقرير عقيدة البعث والجزاء في قوله وإن كل لما جميع لدينا محضرون ذكر هنا الدليل العقلي على صحة إمكان البعث فقال { وآية لهم } أي على صحة البعث الأرض الميتة التي أصابها المحل فلا نبات فيها ولا زرع أحييناها بالمطر فأنبتت من كل زوج بهيج فهذه آية أي علامة كبرى وحجة واضحة على إمكان البعث إذ الخليفة تموت ولم يبق إلا الله تعالى
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
[الرحمن: 26-27] ثم ينزل الله تعالى ماء من تحت العرش فتحيا البشرية على طريقة الأرض الميتة ينزل عليها المطر فتحيا بالنبات. وهذه المرة تحيا بالبشر إذ يركب خلقهم من عظم يقال له عجب الذنب هو في بطن الأرض لا يتحلل ومنه يركب الخلق كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح. هذا معنى قوله تعالى في الاستدلال على البعث { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا } أي حب البر فمنه أي من ذلك يأكلون الخبز. وقوله { وجعلنا فيها } أي في الأرض الميتة جنات أي بساتين من نخيل وأعناب، وفجرنا فيها من العيون أي عيون الماء، هذه مظاهر القدرة والعلم الإلهي وكلها تشهد بصحة البعث وإمكانه وأن الله تعالى قادر عليه وعلى مثله. وقوله تعالى { ليأكلوا من ثمره } أي من ثمر المذكور من النخل والعنب وغيره. وقوله { وما عملته أيديهم } أي لم تخلقه ولم تكونه أيديهم بل يد الله هي التي خلقته افلا يشكرون يوبخهم على عدم شكره تعالى على ما أنعم به عليهم من نعمة الغذاء. وقوله تعالى { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } أي تنزيها وتقديسا لله الذي خلق الأزواج كلها { مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } يقدس تعالى نفسه وينزهها عن العجز عن إعادة الخلق ويذكر بآيات القدرة والعلم وهي نظام الزوجية إذ كل المخلوقات أزواج أي أصناف من ذكر وأنثى فالنباتات على سائر اختلافها ذكر وأنثى والناس كذلك وما هو غائب عنا في السماوات وفي بطن الأرض أزواج كذلك ولا وتر أي لا فرد إلا الله تعالى فقد تنزه عن صفات الخلائق، ومنها كان للحياة الدنيا نوع آخر هو لها كالزوج وهي الحياة الآخرة فهذا دليل عقلي من أقوى الأدلة على الحياة الثانية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء التي هي القوة الدافعة للإنسان على فعل الخيرات وترك الشرور والمنكرات.
2- دليل نظام الزوجية وهو آية على أن القرآن وحي الله وكلامه إذ قرر القرآن نظام الزوجية قبل معرفة الناس لهذا النظام في الذرة وغيرها في القرن العشرين.
3- وجوب شكر الله تعالى بالإيمان وبطاعته وطاعة رسوله على نعمه ومنها نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد أي بالغذاء والماء والهواء.
[36.37-40]
شرح الكلمات:
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار: وآية لهم على إمكان البعث الليل نسلخ منه النهار أي نزيل النهار عن الليل فإذا هم مظلمون بالليل.
لمستقر لها: أي مكان لها لا تتجاوزه.
ذلك تقدير العزيز العليم: أي جريها في فلكها تقدير أي تقنين العزيز في ملكه العليم بكل خلقه.
والقمر قدرناه منازل: وآية أخرى هي تقدير منازل القمر التي هي ثمان وعشرون منزلة.
حتى عاد كالعرجون القديم: أي حتى رجع كعود العذق الذي أصله في النخلة وآخره في الشماريخ وهو أصفر دقيق مقوس كالقمر لما يكون في آخر الشهر.
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر: أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر فيجتمعان في الليل.
ولا الليل سابق النهار: أي بأن يأتي قبل انقضائه.
وكل في فلك يسبحون: أي كل من الشمس والقمر والنجوم السيارة في فلك يسبحون أي يسيرون والفلك دائرة مستديرة كفلكه المغزل وهو مجرى النيرين والكواكب السيارة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في البرهنة على إمكان البعث ووقوعه لا محالة فقال تعالى { وآية } أي علامة لهم أخرى على قدرة الله على البعث { اليل نسلخ منه النهار } أي نفصل عنه النهار بمعنى نزيله عنه فإذا هم في الليل مظلمون أي داخلون في ظلام فهذه آية على قدرة الله على البعث وقوله { والشمس تجري لمستقر لها } أي تجري في فلكها منه تبتدئ سيرها وإليه ينتهي سيرها وذلك مستقرها، ولها مستقر آخر وهو نهاية الحياة الدنيا، وإنها لتسجد كل يوم تحت العرش وتستأذن باستئناف دورانها فيأذن لها كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وكونها تحت العرش فلا غرابة فيه فالكون كله تحت العرش وكونها تستأذن فيؤذن لها لا غرابة فيه إذا كانت النملة تدبر أمر حياتها بإذن ربها وتقول وتفكر وتعمل فالشمس أحرى بذلك وأنها تنطق بنطقها الخاص وتستأذن ويؤذن لها وقوله تعالى { ذلك تقدير العزيز } أي الغالب على مراده العليم بكل خلقه، وتقدير سير الشمس في فلكها بالثانية وتقطع فيه ملايين الأميال أمر عجب ونظام سيرها طوال الحياة فلا يختل بدقيقة ولا يرتفع مستواها شبرا ولا ينخفض شبرا إذ يترتب على ذلك خراب العالم الأرضي كل ذلك لا يقدر عليه إلا الله، أليس المبدع هذا الإبداع في الخلق والتدبير قادر على إحياء من خلق وأمات؟ بلى، بلى إن الله على كل شيء قدير. وقوله تعالى { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } هذه آية أخرى على إمكان البعث وحتميته والقمر كوكب منير يدور حول الأرض يتنقل في منازله الثمانية والعشرين منزلة بدقة فائقة وحساب دقيق ليعرف بذلك سكان الأرض عدد السنين والحساب إذ لولاه لما عرف يوم ولا اسبوع ولا شهر ولا سنة ولا قرن.
فالقمر يبدأ هلالا صغيرا ويأخذ في الظهور فيكبر بظهوره شيئا فشيئا حتى يصبح في نصف الشهر بدرا كاملا، ثم يأخذ في الأفول والاضمحلال بنظام عجب حتى يصبح في آخر الشهر كالعرجون القديم أي كعود العرجون أصفر دقيق مقوس كل ذلك لفائدة الإنسان الذي يعيش على سطح هذه الأرض أليس هذا آية كبرى على قدرة الله العزيز العليم على إعادة الحياة لحكمة الحساب والجزاء؟ بلى إنها لآية كبرى فقوله { لا الشمس ينبغي لهآ أن تدرك القمر } أي لا يسهل على الشمس ولا يصح منها أن تدرك القمر فيذهب نوره بل لكل سيره فلا يلتقيان إلا نادرا في جزء معين من الأفق فيحصل خسوف القمر وكسوف الشمس. وقوله { ولا اليل سابق النهار } بل كل من الليل والنهار يسير في خط مرسوم لا يتعداه فلذا لا يسبق الليل النهار ولا النهار الليل فلا يختلطان إلا بدخول جزء من هذا في هذا وجزء من ذاك في ذا وهو معنى
يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل
[الحديد: 6] وقوله { وكل في فلك يسبحون } أي كل واحد مون الشمس والقمر والكواكب السيارة في فلك يسبحون فلذا لا يقع فيها خلط ولا ارتطام بعضها ببعض إلى نهاية الحياة فيقع ذلك ويخرب الكون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إقامة الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على إمكان البعث ووقوعه حتما.
2- ذكر القرآن لأمور الفلك التي لم يعرف عنها الناس اليوم إلا جزء يسير آية عظمى على أنه وحي الله وأن من أوحي إليه هو رسول الله قطعا.
3- ما ذكره القرآن عن الكون العلوي من الوضوح بحيث يعرفه الفلاح والراعي كالعالم المتبحر والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب وذلك لتقوم الحجة على الناس إن هم لم يؤمنوا بالله ولم يوحدوه في عبادته ويخلصوا له في طاعته وطاعة رسوله.
[36.41-46]
شرح الكلمات:
وآية لهم: أي وعلامة لهم على قدرتنا على البعث.
أنا حملنا ذريتهم: أي ذريات قوم نوح الذين أهلكناهم بالطوفان. نجينا ذريتهم لأنهم مؤمنون موحدون وأغرقنا آباءهم لأنهم مشركون .
في الفلك المشحون: أي في سفينة نوح المملوءة بالأزواج من كل صنف.
وخلقنا لهم من مثله: أي من مثل فلك نوح ما يركبون.
فلا صريخ لهم: أي مغيث ينجيهم فيكف صراخهم.
ومتاعا إلى حين: أي وتمتيعا لهم بالطعام والشراب إلى نهاية آجالهم.
اتقوا ما بين أيديكم: أي من عذاب الدنيا أي بالإيمان والاستقامة.
وما خلفكم: أي من عذاب الآخرة إذا أصررتم على الكفر والتكذيب.
وما تأتيهم من آية: أي وما تأتيهم من آية أو من حجة من حجج القرآن وبينة من بيناته الدالة على توحيد الله وصدق الرسول إلا كانوا عنها معرضين غير ملتفتين إليها ولا مبالين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عرض الآيات الكونية للدلالة على البعث والتوحيد والنبوة فقال تعالى { وآية لهم } أي أخرى غير ما سبق { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } اي حملنا ذرية قوم نوح المؤمنين فأنجيناهم بإيمانهم وتوحيدهم وأغرقنا المشركين فهي آية واضحة عن رضا الله تعالى عن المؤمنين الموحدين وسخطه على الكافرين المشركين المكذبين إن في هذا الإنجاء للموحدين والإغراق للمشركين آية وعبرة لو كان مشركو قريش في مكة يفقهون. وقوله تعالى { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } وهذه آية أخرى أيضا وهي أن الله أنجى الموحدين في فلك لم يسبق له مثيل ثم خلق لهم مثله ما يركبون إلى يوم القيامة ولو شاء عدم ذلك لما كان لهم فلك إلى يوم القيامة وآية أخرى { وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } وهي قدرته تعالى على إغراق ركاب السفن الكافرين وإن فعلنا لم يجدوا صارخا ولا مغيثا يغيثهم وينجيهم من الغرق { إلا رحمة منا } اللهم إلا رحمتنا فإنها تنالهم فتنجيهم ليتمتعوا في حياتهم بما كانوا يتمتعون به إلى حين حضور آجالهم المحدودة لهم. وقوله تعالى { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون } أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بآيات الله المعرضين عن دينه المشركين به اتقوا ما بين أيديكم من العذاب حيث موجبه قائم وهو كفركم وعنادكم، وما خلفكم من عذاب الآخرة إذ مقتضيه موجود وهو الشرك والتكذيب رجاء أن ترحموا فلا تعذبوا أعرضوا كأنهم لم يسمعوا. وقوله { وما تأتيهم من آية من آيات } كلام ربهم القرآن الكريم تحمل الحجج والبراهين على صحة ما يدعون إليه من الإيمان والتوحيد إلا كانوا عنها معرضين تمام الإعراض كأن قلوبهم قدت من حجر والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الله على البشرية في إنجاء ذرية قوم نوح الكافرين ومنهم كان البشر وإلا لو أغرق الله الجميع المؤمنين الذرية والكافرين الآباء لم يبق في الأرض أحد.
2- حماية الله تعالى للعباد ورعايته لهم وإلا لهلكوا أجمعين ولكن أين شكرهم؟
3- بيان إصرار كفار قريش وعنادهم الأمر الذي لم يسبق له مثيل.
4- الإشارة بالمثلية في قوله { من مثله } إلى تنوع السفن من البوارج والغواصات والطربيدات الحربية.
[36.47-54]
شرح الكلمات:
وإذا قيل لهم أنفقوا: أي وإذا قال فقراء المؤمنين في مكة للأغنياء الكافرين أنفقوا علينا.
مما رزقكم الله: أي من المال.
أنطعم من لو يشاء الله أطعمه: أي قالوا للمؤمنين استهزاء بهم أنطعم من لو يشاء الله أطعمه.
إن أنتم إلا في ضلال مبين: أي ما أنتم أيها الفقراء إلا في ضلال مبين في اعتقادكم الذي أنتم عليه.
متى هذا الوعد: أي البعث الآخر إن كنتم صادقين فيه.
ما ينظرون إلا صيحة واحدة: أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي نفخة إسرافيل.
تأخذهم وهم يخصمون: أي تأخذهم الصيحة وهم يتخاصمون في البيع والشراء والأكل والشرب إذ تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.
فلا يستطيعون توصية: أي فلا يقدر أحدهم أن يوصي وصية.
ولا إلى أهلهم يرجعون: بل يهلكون في أماكنهم من الأسواق والمزارع والمصانع أو المقاهي والملاهي.
فإذا هم من الأجداث: أي القبور إلى ربهم ينسلون أي يخرجون بسرعة.
قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا: أي قال الكفار: من بعثنا من قبورنا؟
هذا ما وعد الرحمن: أي هذا ما وعد به الرحمن وصدق المرسلون أي فيما أخبروا به.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وإذا قيل لهم } أي وإذا قيل لأولئك المشركين المكذبين الملاحدة والقائل هم المؤمنون فقد روي أن أبا بكر الصديق كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم. قال: فما باله لا يطعمهم؟ قال ابتلى قوما بالفقر وقوما بالغنى وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء، فقال أبو جهل، والله يا أبا بكر إن أنت إلا في ضلال مبين. أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء، وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت فنزلت هذه الآية وبهذه الرواية اتضح معنى الآية الكريمة { وإذا قيل لهم } أي للكفار { أنفقوا مما رزقكم الله } على المساكين { قال الذين كفروا للذين آمنوا } الآمرين لهم بالإنفاق { أنطعم من لو يشآء الله أطعمه } قالوا هذا استهزاء وكفروا { إن أنتم } أي ما أنتم أيها المسلمون { إلا في ضلال مبين } أي إلا في ذهاب عن الحق وجور عن الرشد مبين لمن تأمله وتدبر فيه.
وقوله { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } أي ويقول أولئك الملاحدة المكذبون بالبعث استهزاء واستعجالا: متى هذا الوعد الذي تعدوننا به أيها المسلمون إن كنتم صادقين في دعواكم.
قال تعالى { ما ينظرون إلا صيحة واحدة } وهي نفخة إسرافيل في الصور وهي نفخة الفناء { تأخذهم وهم يخصمون } أي يختصمون في أسواقهم يبيعون ويشترون، وفي مجالسهم العامة والخاصة إذ تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون قال تعالى { فلا يستطيعون توصية } يوصي بها أحدهم لابنه أو أخيه، ولا إلى أهلهم أي منازلهم وأزواجهم وأولادهم يرجعون بل يصعقون في أماكنهم.
وقوله تعالى { ونفخ في الصور } أي صور إسرافيل وهو قرن ويقال له البوق أيضا نفخة البعث من القبور أحياء فإذا هم من الأجداث جمع جدث وهو القبر ينسلون أي ماشين مسرعين إلى ربهم لفصل القضاء والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه في هذه الدنيا من إيمان وكفر وإحسان وإساءة وعدل وظلم. قالوا يا ويلنا أي نادوا ويلهم وهلاكهم لما شاهدوا من أهوال الموقف { من بعثنا من مرقدنا } وأجابهم المؤمنون بقولهم { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } إذ واعدنا الله بلقائه وأخبرتنا الرسل به وبتفاصيله وقوله تعالى { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون } أي ما هي إلا صيحة واحدة لإسرافيل فإذا الكل واقف بين يدي الله تعالى ليحاسب ويجزي قال تعالى { فاليوم لا تظلم نفس شيئا } أي في هذا اليوم الذي وقفت الخليقة فيه بين يدي ربها لا تظلم نفس شيئا لا بنقص حسنة من حسناتها ولا بزيادة سيئة على سيئاتها، ولا تجزون أيها العباد إلا ما كنتم تعملون من خير وشر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان علو الكافرين وطغيانهم وسخريتهم واستهزائهم، وذلك لظلمة الكفر على قلوبهم.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مبادئها ونهاياتها.
3- الساعة لا تأتي إلا بغتة.
4- الانقلاب الكوني الذي يحدث لعظمه اختلفت آراء أهل العلم في تحديد النفخات فيه والظاهر أنها أربع الأولى نفخة الفناء والثانية نفخة البعث والثالثة نفخة الفزع والصعق والرابعة نفخة القيام بين يدي رب العالمين.
5- تقرير العدل الإلهي يوم الحساب والجزاء ليطمئن كل عامل على أنه يجزى بعمله لا غير.
[36.55-58]
شرح الكلمات:
في شغل فاكهون: أي أهل الجنة في شغل عما فيه أهل النار من عذاب وشقاء. وشغلهم الشاغل لهم هو النعيم المقيم في دار السلام.
فاكهون: أي ناعمون بالتلذذ بالنعم وذلك لطيب العيش.
على الأرائك: أي الأسرة ذات الحجلة.
ولهم ما يدعون: أي ما يتمنون ويطلبون.
سلام قولا من رب رحيم: أي سلام بالقول من رب رحيم أي يسلم عليهم ربهم سبحانه وتعالى.
معنى الآيات:
ما إن حضروا بين يدي الله سبحانه وتعالى للحساب والجزاء حتى أعلن عما يلي: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون أي إنهم في شغل عما فيه أصحاب النار إنهم في شغل بالنعيم المقيم فاكهون أي ناعمون بالتلذذ بألوان المطاعم والمشارب والحور العين إنهم وأزواجهم في ظلال الجنة على الأرائك أي الأسرة ذات الحجلة متكئون. لهم فيها أي في دار السلام فاكهة من كل زوج ولون ونوع ولهم ما يدعون أي ما يتمنون ويطلبون، وأعظم من ذاك سلام الرب تعالى عليهم سلام قولا من رب رحيم أي سلام من الله بالقول لا بغيره من أنواع السلامة والسلام. فقد روى البغوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ يسطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذ الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله تعالى سلام قولا من رب رحيم فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ".
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير المعاد.
2- بيان نعيم الجنة.
3- سلام الله تعالى على أهل الجنة ونظرهم إلى وجهه الكريم.
[36.59-68]
شرح الكلمات:
وامتازوا اليوم أيها المجرمون: أي انفردوا عن المؤمنين وانحازوا على جهة وسيروا أيها الصالحون إلى الجنة.
ألم أعهد إليكم: أي ألم أوصكم بترك عبادة الشيطان وهي طاعته.
وأن اعبدوني: أي وبأن تعبدوني وحدي وذلك في كتبي وعلى ألسنة رسلي.
هذا صراط مستقيم: أي بترك عبادة الشيطان والقيام بطاعة الرحمن. هو الإسلام الموصل إلى دار السلام.
ولقد أضل منكم جبلا كثيرا: أي ولقد أضل الشيطان منكم يا بني آدم خلقا كثيرا.
أفلم تكونوا تعقلون: أي أطعتموه فلم تكونوا تعقلون عداوته لكم.
هذه جهنم التي كنتم بها تكذبون: أي تقول لهم الملائكة هذه جهنم... الخ.
اليوم نختم على أفواههم: أي عندما يقولون: والله ربنا ما كنا مشركين.
ولو نشاء لطمسنا على أعينهم: أي ولو أردنا طمس أعين هؤلاء المشركين المجرمين لفعلنا، ولكنا لم نشأ ذلك رحمة منا.
فاستبقوا الصراط: أي فابتدروا الطريق كعادتهم فكيف يبصرون.
ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم: أي بدلنا خلقهم حجارة أو قردة أو خنازير في أمكنتهم التي هم فيها فلا يستطيعون مضيا ولا يرجعون.
ومن نعمره ننكسه في الخلق: أي ومن نطل عمره ننكسه في الخلق فيكون بعد قوته ضعيفا عاجزا.
أفلا يعقلون: أي أن القادر على ما ذكرنا لكم قادر على بعثكم بعد موتكم. فتؤمنون وتوحدون فتنجون من العذاب وتسعدون.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } أي يأمر تعالى المجرمين وهم الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك وارتكاب المعاصي فأفسدوها يأمرهم بأن يتميزوا عن المؤمنين فينفردوا وحدهم ويسار بأهل الجنة إلى الجنة، ثم يوبخ تعالى المجرمين أهل النار بقوله { ألم أعهد إليكم } موصيا إياكم على ألسنة رسلي وفي كتبي بأن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وبأن تعبدوني وحدي، ولا تعبدوا الشيطان معي فتشركوه في عبادتي هذا صراط مستقيم أي ترك عبادة الشيطان والقيام بعبادة الرحمن هذا هو الإسلام الصراط المستقيم الذي لا ينتهي بالسالكين إلا إلى باب دار السلام. وقوله { ولقد أضل منكم جبلا } اي خلقا كثيرا هذا من كلام الله الموبخ به للمجرمين. وقوله { أفلم تكونوا تعقلون } وهذا تقريع وتوبيخ أيضا أي أطعتموه وهو عدوكم وعصيتموني وأنا ربكم فلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم، وواجب عبادتي عليكم لأني خلقتكم ورزقتكم وكلأتكم الليل والنهار إذا فهذه جهنم التي كنتم بها تكذبون اصلوها أي احترقوا بها بما كنتم تكفرون بالله وآياته ولقائه وتكذبون رسله. وقوله تعالى { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } هذا يحدث لما يعرضون على ربهم فيعرض عليهم أعمالهم فينكرون فعندئذ يختم الله على أفواههم فلا يستطيعون الكلام وتنطق باقي جوارحهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون قوله تعالى { ولو نشآء لطمسنا على أعينهم } فأعميناهم { فاستبقوا الصراط } أي ابتدروا الطريق كعادتهم فأنى يبصرون الطريق وقد طمس على أعينهم فلا مقلة فيها ولا حاجب، ولكن الله لم يشأ ذلك لرحمته وحلمه على عباده، وقوله { ولو نشآء لمسخناهم على مكانتهم } أي ولو نشاء مسخ هؤلاء المجرمين من المشركين لمسخناهم في أماكنهم من منازلهم فلا يستطيعون مضيا في الطريق ولا رجوع إلى خلف أي لا ذهابا ولا إيابا، وقوله تعالى { ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون } فنرده رأسا على عقب فكما كان طفلا ينمو شيئا فشيئا في قواه العقلية والبدنية حتى شب واكتهل فكذلك ننكسه في خلقه فيأخذ يضعف في قواه العقلية والبدنية يوما فيوما حتى يصبح أضعف عقلا وبدنا منه وهو طفل.
وقوله أفلا تعقلون أيها المكذبون المجرمون أن القادر على هذا وغيره وعلى كل شيء يريده قادر على أن يحييكم بعد موتكم ويبعثكم من قبوركم ويحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير المعاد وبيان مواقف منه.
2- تأكيد عداوة الشيطان للإنسان.
3- عجز الإنسان يوم القيامة عن كتمان شيء من سيء أعماله وفاسدها.
4- التحذير من عقوبة الله في الدنيا بالمسخ ونحوه.
5- مظاهر قدرة الله تعالى في رد الإنسان بعد القوة إلى حالة الضعف الأولى.
[36.69-76]
شرح الكلمات:
وما علمناه الشعر: أي وما علمنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فما هو بشاعر.
وما ينبغي له: أي وما يصلح له ولا يصح منه.
إن هو إلا ذكر وقرآن مبين: أي ليس كما يقول المشركون من أن القرآن شعر ما هو أي القرآن الذي يقرأ محمد صلى الله عليه وسلم إلا ذكر أي عظة وقرآن مبين لا يشك من يسمعه أنه ليس بشعر لما يظهر من الحقائق العلمية.
لينذر من كان حيا: أي يعقل ما يخاطب به وهم المؤمنون.
ويحق القول على الكافرين: أي ويحق القول بالعذاب على الكافرين لأنهم ميتون لا يقبلون النذارة.
أنعاما فهم لها مالكون: الأنعام هي الإبل والبقر والغنم.
وذللناها لهم: أي سخرناها لهم وجعلناهم قاهرين لها يتصرفون فيها.
فمنها ركوبهم ومنها يأكلون: أي من بعضها يركبون وهي الإبل ومنها يأكلون اي ومن جميعها يأكلون.
ولهم فيها منافع ومشارب: المنافع كالصوف والوبر والشعر، والمشارب الألبان.
أفلا يشكرون: أي يوبخهم على عدم شكرهم الله تعالى على هذه النعم بالإيمان والطاعة.
واتخذوا من دون الله آلهة: أي أصناما يعبدونها زعما منهم أنها تنصرهم بشفاعتها لهم عند الله.
لا يستطيعون نصرهم: أي لا تقدر تلك الأصنام على نصرهم بدفع العذاب عنهم.
وهم لهم جند محضرون: أي لا يقدرون على نصرتهم والحال أنهم أي المشركين جند محضرون. لتلك الآلهة ينصرونها من أن يمسها أحد بسوء فبدل أن تنصرهم هم ينصرونها كجند معبئون لنصرتها.
فلا يحزنك قولهم: أي إنك لست مرسلا وإنك شاعر وكاهن ومفتر.
إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون: أي إنهم ما يقولون ذلك إلا حسدا وهم يعلمون أنك رسول الله وما جئت به هو الحق وسوف نجزيهم بتكذيبهم لك وكفرهم بنا وبلقائنا وديننا الحق.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وما علمناه الشعر } رد على المشركين الذين قالوا في القرآن شعر وفي الرسول شاعر فقال تعالى { وما علمناه } أي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم { الشعر وما ينبغي له } أي لا يصح منه ولا يصلح له. { إن هو إلا ذكر } أي ما هو الذي يتلوه إلا ذكر يذكر به الله وعظة يتعظ به المؤمنون { وقرآن مبين } مبين للحق مظهر لمعالم الهدى أنزلناه على عبدنا ورسوله لينذر به من كان حيا أي القلب والضمير لإيمانه وتقواه لله ويحق أي به القول وهو العذاب على الكافرين لأنهم لا يهتدون به فيعيشون على الضلال ويموتون عليه فيجب لهم العذاب في الدار الآخرة. وقوله { أولم يروا } أي أعمي أولئك المشركون ولم يروا مظاهر قدرتنا وإحساننا الموجبة لعبادتنا وهي { أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون } يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه، والمراد بالأنعام الماشية من إبل وبقر وغنم وقوله { وذللناها لهم } أي سخرناها لهم بحيث يركبون ويحلبون ويحملون وينحرون ويذبحون ويأكلون، ولولا هذا التسخير لما قدروا عليها أبدا.
وقوله { ولهم فيها منافع ومشارب } المنافع كالصوف والوبر والشعر (والمشارب) جمع مشرب وهي الألبان في ضروعها يحلبون منها ويشربون. وقوله { أفلا يشكرون } يوبخهم على أكل النعم وعدم الشكر عليها، وشكر الله عليها هو الإيمان به وتوحيده في عبادته. وقوله { واتخذوا من دون الله آلهة } أي اتخذ أولئك المشركون آلهة هي أصنامهم التي يعبدونها لعلهم ينصرون أي رجاء نصرتها لهم وذلك بشفاعتها لهم عند الله تعالى كما يزعمون. قال تعالى في إبطال هذا الرجاء وقطعه عليهم { لا يستطيعون نصرهم } لأنهم أصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر وقوله { وهم لهم جند محضرون } اي والحال أن المشركين هم جند تلك الأصنام محضرون وعندما يدافعون عنها ويحمونها ويغضبون لها فكيف ينصرك من هو مفتقر إلى نصرتك. وقوله تعالى { فلا يحزنك قولهم } أي لا تحزن لما يقول قومك من أنك لست مرسلا، وأنك شاعر وساحر وكاهن إلى غير ذلك من أقاويلهم، { إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } وسنجزيهم عن قولهم الباطل ونأخذهم بكذبهم وافترائهم عليك كما نحن نعلم أنهم ما قالوا الذي قالوا إلا حسدا لك، وإلا فهم يعلمون أنك رسول الله وما أنت بالساحر ولا الشاعر ولا المجنون، ولكن حملهم على ما يقولون الحسد والعناد والكبر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن ذكر وليس شعر كما يقول المبطلون.
2- الحكمة من نزول القرآن هي أن ينذر به الرسول الأحياء من أهل الإيمان.
3- بيان خطأ الذين يقرأون القرآن على الأموات ويتركون الأحياء لا يقرأونه عيهم وعظا لهم وإرشادا وتعليما وتذكيرا.
4- وجوب ذكر النعم وشكرها بالاعتراف بها، وصرفها في مرضاة واهبها وحمده عليها.
5- بيان سخف المشركين في عبادتهم أصناما يرجون نصرها وهم جند معبأ لنصرتها من أن يمسها أحد بسوء.
[36.77-83]
شرح الكلمات:
أو لم ير الإنسان: أي المنكر للبعث كالعاصي بن وائل السهمي، وأبي بن خلف.
أنا خلقناه من نطفة: أي من مني إلى أن صيرناه رجلا قويا.
فإذا هو خصيم مبين: أي شديد الخصومة بينها في نفي البعث.
وضرب لنا مثلا: أي في ذلك، إذ أخذ عظما وفته أمام رسول الله وقال أيحيي ربك هذا؟
ونسي خلقه: أي وأنه مخلوق من ماء مهين وأصبح رجلا يخاصم فالقادر على الخلق الأول قادر على الثاني.
من يحيي العظام وهي رميم: أي وقد رمت وبليت.
من الشجر الأخضر نارا: أي من شجر المرخ والعفار يحك أحدهما على الآخر فتشتعل النار.
بقادر على أن يخلق مثلهم: أي مثل الأناسي.
بلى: أي قادر على ذلك إذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.
إذا أراد شيئا: أي خلق شيء وإيجاده.
بيده ملكوت: أي ملك كل شيء، زيدت التاء للمبالغة في كبر الملك واتساعه.
وإليه ترجعون: أي تردون بعد الموت وذلك في الآخرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء تلك العقيدة التي يتوقف عليها غالبا هداية الإنسان وإصلاحه فقال تعالى ردا على العاصي بن وائل السهمي وأبي بن خلف حيث جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم ففته وذراه وقال أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم يميتك ثم يحييك ثم يحشرك إلى جهنم ونزلت هذه الآيات { أولم ير الإنسان } أي أينكر البعث وهو يعلم أنا خلقناه من نطفة أي من ماء مهين وسويناه رجلا فإذا هو خصيم لنا أي مخاصم يرد علينا ويشرك بنا وينكر إحياءنا للأموات وبعثهم يوم القيامة فكيف يعمى هذا العمى ويجهل هذا الجهل القبيح، إذ القادر على البدء قادر عقلا على الإعادة وهي أهون عليه. وقوله { وضرب لنا } أي هذا المنكر للبعث مثلا أي جعل لنا مثلا وهو إنكاره علينا قدرتنا على البعث حيث جعل إعادتنا للخلق أمرا عجبا وغريبا إذ قال { من يحيي العظام وهي رميم } أي قد رمت وبليت. ونسي خلقه من ماء حقير وكيف جعله الله بشرا سويا يجادل ويخاصم فلو ذكر أصل نشأته لخجل أن ينكر إحياء العظام وهي بالية رميم؟ ولما قال من يحيى العظام وهي رميم؟.
وقوله تعالى { قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة } وهذا هو القياس العقلي الجلي الواضح إذ بالبداهة أن من أوجد شيئا من العدم قادر على إيجاد مثله. وقوله { وهو بكل خلق } أي مخلوق عليم فالعلم والقدرة إذا اجتمعا كان من السهل إيجاد ما أعدم بعد أن كان موجودا فأعدم لا سيما أن الموجود من العدم هو المخبر بالإعادة وبقدرته عليها.
هذا برهان قطعي وثاني برهان في قوله { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون } أي النار وتشعلونها، ووجه الاستدلال أن البعث لو كان مستحيلا عقلا وما هو بمستحيل بل هو واجب الوقوع لكان على الله غير مستحيل لأن الله تعالى قد أوجد من المستحيل ممكنا وهو النار من الماء، إذ الشجر الأخضر ماء سار في أغصان الشجرة. ومع هذا يوجد منها النار، فكان هذا برهانا عقليا يسلم به العقلاء ولا ينازعون فيه أبدا، وبرهان ثالث وهو في قوله { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم }؟ ووجه البرهنة فيه أننا ننظر إلى السماوات السبع وما فيها من خلق عجيب وإلى الأرض وما فيها كذلك وننظر إلى الإنسان فنجده لا شيء إذا قوبل بالسماوات والأرض فنحكم بأن من خلق السماوات والأرض على عظمها قادر من باب أولي على خلق الإنسان مرة أخرى بعد موته وبلاه وفنائه. ولذا أجاب تعالى عن سؤاله بنفسه فقال { بلى وهو الخلاق العليم } أي الخلاق لكل ما أراد خلقه العليم بكل مخلوقاته لا يخفى عليه شيء منها، وبرهان رابع في قوله { إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ووجه الاستدلال أن من كان شأنه في إيجاد ما أراد إيجاده أن يقول له كن فهو يكون. لا يستنكر عليه عقلا أن يحيي الأموات بكلمة كونوا أحياء فيكونون كما طلب منهم.
وأخيرا ختم هذا الرد المقنع بتنزيه نفسه عن العجز فقال { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } أي ملك كل شيء { وإليه ترجعون } أحببتم أم كرهتم أيها الآدميون منكرين كنتم للبعث أم مقرين به مؤمنين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بإيراد أربعة براهين قاطعة.
2- مشروعية استعمال العقليات في الحجج والمجادلة.
3- تنزيه الله تعالى عن العجز والنقص وعن الشريك والولد وسائر النقائص.
4- تقرير أن الله تعالى بيده وفي تصرفه وتحت قهره كل الملكوت فلذا لا يصح طلب شيء من غيره إذ هو المالك الحق وغيره لا ملك له.
[37 - سورة الصافات]
[37.1-10]
شرح الكلمات:
والصافات صفا: أي الملائكة تصف أنفسها في الصلاة وأجنحتها في الهواء.
فالزاجرات زجرا: أي الملائكة تزجر السحاب أي تسوقه حيث يأذن الله.
فالتاليات ذكرا: أي فالجماعات التاليات للقرآن ذكرا.
إن إلهكم لواحد : أي إن إلهكم المعبود الحق لكم أيها الناس لواحد.
رب السماوات والأرض وما بينهما: أي هو رب السماوات والأرض وما بينهما أي خالقهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما.
ورب المشارق: أي والمغارب وهي مشارق الشمس ومغاربها إذ للشمس كل يوم مشرق ومغرب.
وحفظا من كل شيطان مارد: أي وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد خارج عن الطاعة.
لا يسمعون إلى الملأ الأعلى: أي لا يستمعون إلى الملائكة في السماوات العلا.
ويقذفون من كل جانب دحورا: يرمون بالشهب من كل جوانب السماء دحورا أي إبعادا لهم.
عذاب واصب: أي دائم لا يفارقهم.
إلا من خطف الخطفة: أي اختطف الكلمة من الملائكة بسرعة وهرب.
فاتبعه شهاب ثاقب: أي كوكب مضيء ثاقب يثقبه أو يحرقه أو يخلبه أي يفسده.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والصافات صفا } هذا قسم إلهي يؤكد به تعالى إلهيته على عباده فقد أقسم بالصافات والزاجرات والتاليات ذكرا أي قرآنا، وسواء قلنا أقسم بهذه المخلوقات إذ لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وإنما الممنوع أن يقسم العبد بغير ربه تعالى. أو قلنا أقسم تعالى بنفسه أي ورب الصافات الخ فالقسم حاصل من أجل تقرير التوحيد، وهذا الإقسام جار على عرف البشر في أنهم إذا أخبروا بشيء يشكون في صحته فيؤكد لهم المخبر الخبر باليمين ليزيل الشك من نفوسهم. وقوله { إن إلهكم لواحد } هو المقسم عليه وهو أن إله البشرية كلها واحد وهو الله خالقها ورازقها وليس لها من إله غيره، وما عندها من آلهة فهي آلهة باطلة ويكفي في بطلانها أنها أصنام وصور وتماثيل وصلبان لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر. وقوله { رب السموت والأرض وما بينهما ورب المشارق } تدليل على وحدانية الله تعالى إذ هو خالق السماوات والأرض وما بينهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما، ورب المشارق أيضا والمغارب أي مشارق الشمس ومغاربها إذ كل يوم تشرق وتغرب في درجة معينة فالإله الحق هو الخالق للعوالم والمدبر لها لا الذي ينحته الرجل بيده ويقول هو إلهي زورا وباطلا . ألا فليتحرر المشركون من أسر الشيطان ويعبدوا الرحمن. وقوله تعالى { إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب } هذه مظاهر القدرة والعالم والحكمة إنه وحده تعالى زين السماء الدنيا أي القريبة من الأرض بزينة هي الكواكب المشرقة المنيرة. وقوله { وحفظا من كل شيطان مارد } أي وحفظنا السماء حفظا تاما من كل شيطان عاد متمرد عن الطاعة.
وقوله { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } أي لا يتسمعون إلى الملائكة في السماء حتى لا ينقلوا أخبار الغيب إلى أوليائهم من الكهان في الأرض. وقوله { ويقذفون من كل جانب } أي ويرمى أولئك المردة من الشياطين من قبل الملائكة من كل جهة من جهات السماء دحورا أي لدحرهم وإبعادهم. وقوله تعالى { ولهم عذاب واصب } لأولئك المردة من الشياطين عذاب واصب موجع دائم وقوله { إلا من خطف الخطفة } أي اختطف الكلمة بسرعة { فأتبعه شهاب ثاقب } أي كوكب مضيئ فثقبه فقتله أو أحرقه أو خبله أي أفسده، وبهذا حميت السماء بالملائكة من دخول الشياطين إليها واستراق السمع. والحمد لله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الله تعالى يقسم ببعض مخلوقاته إما تنويها بعظمتها المقرر ضمنا لعظمة خالقها وإما بيانا لفضلها وإما لفتا لنظر العباد إلى ما فيها من الفوائد.
2- تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله.
3- بيان الحكمة من وجود النجوم في السماء الدنيا.
4- بيان أن الشياطين حرموا من استراق السمع، ولم يبق مجال لكذب الشياطين على الناس بعد أن منعوا من استراق السمع.
[37.11-21]
شرح الكلمات:
فاستفتهم: أي استخبر كفار مكة تقريرا وتوبيخا.
أهم أشد خلقا أم من خلقنا: أي خلقهم في ذواتهم وإعادتهم بعد موتهم، أم من خلق تعالى من الملائكة والسماوات والأرض وما فيها من سائر المخلوقات.
من طين لازب: أي يلصق باليد.
بل عجبت ويسخرون: أي عجبت يا نبي الله من إنكارهم للبعث، وهم يسخرون من دعوتك إلى الإيمان به.
وإذا ذكروا لا يذكرون: أي وإذا وعظوا لا يتعظون.
وإذا رأوا آية يستسخرون: أي إذا رأوا حجة من الحجج التي تحمل الآيات القرآنية تقرر البعث والتوحيد والنبوة يسخرون أي يستهزئون.
قل نعم وأنتم داخرون: أي قل لهم يا رسولنا نعم تبعثون وأنتم صاغرون أذلاء.
فإنما هي زجرة واحدة: أي صيحة تزجرهم وهي نفخة إسرافيل في الصور النفخة الثانية.
هذا يوم الدين: أي يوم الحساب والجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء وقوله تعالى فاستفتهم أي استخبرهم واطلب جوابهم أي بقولك آنتم أشد خلقا أي في ذواتكم وفي إحيائكم بعد مماتكم أم من خلقه الله من الملائكة والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما؟ والجواب معلوم وهو أن خلق غيرهم من العوالم أشد خلقا إذا فكيف ينكرون البعث بدعوى استحالة وجوده لصعوبته قال تعالى { إنا خلقناهم من طين لازب } أي خلقنا أباهم آدم من طين لازب أي لاصق يلصق باليد ثم خلقناهم بطريق التناسل أفيعجزنا إعادة خلقهم مرة أخرى والجواب لا. لا وقوله تعالى { بل عجبت } أي من تكذيبهم بالبعث لوضوح الأدلة على إمكانه ووجوب وجوده { ويسخرون } أي وهم يسخرون من ذلك أي يستهزئون من قولك بالبعث وإمكانه. وقوله تعالى { وإذا ذكروا } أي بالآيات لعلهم يذكرون فيؤمنون ويوحدون لا يذكرون لقساوة قلوبهم وظلمة ذنوبهم بالشرك والمعاصي. وقوله { وإذا رأوا آية يستسخرون } أي يسخرون ويستهزئون { وقالوا إن هذآ إلا سحر مبين } أي ما هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القول والعمل إلا سحر مبين أي بين ظاهر وهم في ذلك كاذبون قطعا للفرق بين السحر الذي هو تخيل باطل وبين الحق الثابت عقلا ووحيا من دقائق الشرع وأصول الدين من الإيمان بالله واليوم الآخر وقوله { أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون } هذا قول المكذبين من المشركين يقولونه متعجبين مستبعدين للبعث قال تعالى ردا عليهم قل يا رسولنا لهم { نعم } تبعثون أحياء { وأنتم داخرون } أي صاغرون ذليليون وأمر إعادتكم لا يتطلب أكثر من أن ينفخ إسرافيل في الصور فإذا أنتم أحياء تخرجون من قبوركم { فإنما هي زجرة } أي صيحة { واحدة فإذا هم } قيام { ينظرون } ويقولوا أي عند قيامهم من قبورهم { يويلنا } أي يا هلاكنا احضر هذا أوان حضورك أي يدعون على أنفسهم بالهلاك لشدة ما شاهدوا من هول القيامة كقول أحدهم ياليتها كانت القاضية.
وقولهم هذا يوم الدين اعتراف منهم بالبعث والجزاء ولكن في وقت ما هو بنافع لهم الاعتراف فيه أي هذا يوم الحساب والجزاء فيقال لهم { هذا يوم الفصل } الذي يفصل الله تعالى فيه بين عباده فيما كانوا فيما يختلفون فيحكم بينهم بالعدل، وقوله تعالى { الذي كنتم به تكذبون } فيه توبيخ لهم أي هذا يوم البعث الذي كنتم تكذبون به وتقولون مستبعدين له أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو أباؤنا الأولون أي وآباؤنا الأولون أيضا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أصل خلق الإنسان وهو الطين اللازب أي اللاصق باليد.
2- بيان موقفين متضادين الرسول يعجب من كفر المشركين وتكذيبهم والمشركون يسخرون من دعوته إياهم إلى الإيمان وعدم التكذيب بالله ولقائه.
3- تقرير البعث وبيان طريقة وقوعه.
4- عدم الانتفاع بالإيمان عند معاينة العذاب.
[37.22-30]
شرح الكلمات:
احشروا الذين ظلموا: أي أنفسهم بالشرك والمعاصي.
وأزواجهم: أي قرناءهم من الشياطين.
من دون الله: أي من غير الله من الأوثان والأصنام.
فاهدوهم: أي دلوهم وسوقوهم.
إلى صراط الجحيم: أي إلى طريق النار.
وقفوهم إنهم مسؤولون: أي احبسوهم عند الصراط إنهم مسؤولون عن جميع أقوالهم وأفعالهم.
ما لكم لا تناصرون: أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا توبيخا لهم.
إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين: أي عن يمين أحدنا تزينون له الباطل وتحسنون له الشر فتأمرونه بالشرك وتنهونه عن التوحيد.
قالوا بل لم تكونوا مؤمنين: أي قال قرناؤهم من الجن ردا عليهم بل لم تكونوا أساسا مؤمنين.
وما كان لنا عليكم من سلطان: أي من حجة ولا قوة على حملكم على الشرك والشر والباطل.
بل كنتم قوما طاغين: أي بل كنتم طغاة ظلمة تعبدون غير الله وتجبرون الناس على ذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في موقف عرصات القيامة إنهم بعد اعترافهم بأن هذا يوم الدين ورد الله تعالى عليهم بقوله
هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون
[الصافات: 21] يقول الجبار عز وجل { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } أي احشروا الذين ظلموا بالشرك والمعاصي، وقوله { وأزواجهم } أي قرناءهم من الجن { وما كانوا يعبدون من دون الله } من الأصنام والأوثان. وقوله تعالى { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } يقول الله عز وجل فاهدوهم أي دلوهم إلى طريق النار.
ويقول { وقفوهم إنهم مسئولون } ثم يسألون { ما لكم لا تناصرون } أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا. كيف ينصر بعضهم بعضا في مثل هذا الموقف الرهيب بل هم اليوم مستسلمون أي منقادون ذليلون وقوله تعالى { وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون } أي أقبل الأتباع على المتبوعين يتساءلون أي يتلاومون كل يلقي بالمسؤولية على الآخر. فقال الأتباع من الإنس لقرنائهم من الجن ما أخبر تعالى به عنهم { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } أي والشمال أي توسوسون لنا فتحسنون لنا الشرك والشر بل تأمروننا به وتحضوننا عليه. فرد عليهم قرناؤهم بما أخبر تعالى به عنهم في قوله { قالوا بل لم تكونوا مؤمنين } أي ما كنتم مؤمنين فكفرناكم ولا صالحين فأفسدناكم، ولا موحدين فحملناكم على الشرك. هذا أولا وثانيا ما كان لنا عليكم من سلطان أي من حجج قوية أقنعناكم بها، ولا قدرة لنا أزهقناكم فاتبعتمونا، بل كنتم أنتم قوما طاغين أي ظلمة متجاوزين الحد في الإسراف والظلم والشر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان صورة لموقف من مواقف عرصات القيامة.
2- بيان أن الأشباه في الكفر أو في الفجور أو في الفسق تحشر مع بعضها بعضا.
3- عدم جدوى براءة العابدين من المعبودين واحتجاج التابعين على المتبوعين.
[37.31-37]
شرح الكلمات:
فحق علينا قول ربنا: أي وجب علينا العذاب.
إنا لذائقون: أي العذاب نحن وأنتم.
فأغويناكم إنا كنا غاوين: أي أضللناكم إنا كنا ضالين.
فإنهم يومئذ: أي يوم القيامة.
في العذاب مشتركون: لأنهم كانوا في الغواية مشتركين.
إنا كذلك نفعل بالمجرمين: كما عذبنا هؤلاء التابعين والمتبوعين نعذب التابعين والمتبوعين في كل ضلال وكفر وفساد.
إنهم كانوا إذا قيل لهم: أي إن أولئك المشركين من عبدة الأوثان إذا قال لهم الرسول.
لا إله إلا الله يستكبرون: أي قولوا لا إله إلا الله ولا تعبدوا إلا الله يستكبرون ولا يقولون ولا يوحدون.
لشاعر مجنون: يعنون محمد صلى الله عليه وسلم.
بل جاء بالحق وصدق المرسلين: أي بل جاء بلا إله إلا الله وهو الحق الذي جاءت به الرسل وقد صدقهم فيما جاءوا به من قبله وهو التوحيد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما ذكر تعالى من تساؤلات الظالمين وما قاله الأتباع للمتبوعين وما قاله المتبوعون للاتباع فقوله تعالى { فحق علينا قول ربنآ إنا لذآئقون } هذا قول المتبوعين لأتباعهم قالوا لهم فبسبب غوايتنا وضلالنا وجب علينا العذاب إنا وأنتم لذائقوه لا محالة. وقالوا لهم أيضا معترفين بإغوائهم لهم فأغويناكم إنا كنا غاوين هذا قول الجن للإنس قال تعالى { فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون } وذلك لاشتراكهم في الشرك والشر والفساد. وقوله تعالى { إنا كذلك نفعل بالمجرمين } من سائر الأصناف كالزناة وأكلة الربا وسافكي الدماء فنعذب الصنف مع صنفه وهذا عائد إلى قوله احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي أشياعهم وأضرابهم وقوله تعالى { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } يخبر تعالى عن مشركي قريش أنهم كانوا في الدنيا إذا قال لهم رسول الله أو أحد المؤمنين قولوا لا إله إلا الله يستكبرون ويشمئزون ولا يقولونها بل ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون يعنون النبي محمدا صلى الله عليه وسلم يصفون القرآن بالشعر ومحمدا صلى الله عليه وسلم تاليه وقارئه بالشعر ولما يدعوهم إليه من الإيمان بالبعث والجزاء بالجنون والرسول في نظرهم مجنون. فرد تعالى عليهم بقوله { بل جآء بالحق } أي لم يمكن رسولنا بشاعر ولا مجنون بل جاء بالحق فأنكرتموه وكذبتم به تقليدا وعنادا فقلتم ما قلتم. وإنما هو قد جاء بالحق الذي هو لا إله إلا الله { وصدق المرسلين } الذين جاءوا قبله بكلمة لا إله إلا الله والدعوة إليها والحياة والموت عليها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان هلاك الضال ومن أضله والغاوي ومن أغواه.
2- بيان ما كان يوجهه المشركون لرسول الله من التهم الباطلة ورد الله تعالى عليها.
3- التعظيم من شأن لا إله إلا الله وانها دعوة كل الرسل التي سبقت النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
4- تقرير التوحيد والبعث والجزاء والنبوة المحمدية.
[37.38-49]
شرح الكلمات:
وما تجزون إلا ما كنتم تعملون: أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه من الشرك والمعاصي.
إلا عباد الله المخلصين: أي لكن عباد الله المخلصين أي العبادة لله وحده فإنهم يجزون بأكثر أعمالهم إذ الحسنة بعشر أمثالها وأكثر.
لهم رزق معلوم: أي في الجنة بكرة وعشيا.
فواكه: أي طعامهم وشرابهم فيها للتلذذ به كما يتلذذ بالفواكه فليس هو لحفظ أجسامهم حية كما في الدنيا.
وهم فيها مكرمون: أي لا تلحقهم فيها إهانة بل يقال لهم هنيئا بخلاف أهل النار يقال لهم ذوقوا عذاب النار بما كنتم تعملون.
من معين: أي يجري على وجه الأرض كعيون الماء الجارية على الأرض.
لذة للشاربين: أي الخمرة موصوفة بأنها لذة للشاربين.
لا فيها غول: أي ما يغتال عقولهم وأجسامهم فيهلكهم.
ولا هم عنها ينزفون: أي لا يسكرون عنها أي بسببها كما هي خمر الدنيا.
قاصرات الطرف: أي لا ينظرن إلى غير أزواجهن لحسنهم وجمالهم عندهن.
عين: أي واسعات الأعين الواحدة عيناء.
بيض مكنون: أي كأنهن بيض مكنون أي مستور لا يصله غبار ولا غيره.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إنكم لذآئقو العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون } هذا يقال لأهل النار وهم موقوفون يتساءلون ومن جملة ما يقال لهم عندئذ هذا القول فيخبرون بأنهم ذائقوا العذاب الأليم الموجع، وأنهم ما يجزون إلا بما كانوا يعملون فلا يظلمون بالجزاء بل هو جزاء عادل السيئة بمثلها. وهنا استثنى تعالى جزاء عباده المؤمنين الذي استخلصهم لعبادته فعبدوه ووحدوه فإنهم يجزون بأكثر من أعمالهم فضلا منه عليهم وإحسانا إليهم فالحسنة بعشر أمثالها وبأكثر إلى سبعمائة وأكثر، فقال { إلا عباد الله المخلصين } وبين تعالى بعض جزائهم فقال { أولئك لهم رزق معلوم } أي يأكلونه بكرة وعشيا، وقوله فواكه فيه إشارة إلى أنهم لا يأكلون ولا يشربون لحفظ أجسادهم من الموت والفناء، وإنما يأكلون ما يأكلون ويشربون ما يشربون تلذذا بذلك لا لدفع غائلة الجوع كما في الدنيا. { وهم مكرمون } أي في الجنة حيث لا تلحقهم إهانة أبدا، وقوله في جنات النعيم أضاف الجنة إلى النعيم مبالغة في وصفها بالنعيم حتى جعل الجنة جنة النعيم فجعل للنعيم وهو النعيم جنة، وأخبر أنهم متكئون فيها على سرر متقابلين ينظر بعضهم إلى بعض وهم في جلسات تنعم، وأخبر عنهم أنهم في حال جلوسهم متقابلين يسقون بواسطة خدم من الملائكة خاص فقال { يطاف عليهم بكأس من معين } أي من خمر تجري بها الأنهار كأنها عيون الماء، ووصف الخمر بأنها بيضاء وأنها لذة عظيمة للشاربين لها، وأنها لا فيها غول وهو ما يغتال أبدانهم كالصداع ووجع البطن فقال { لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون } أي لا يسكرون بها فتذهب بعقولهم.
وقوله { وعندهم قاصرات الطرف } يعني أن لهم نساء هن أزواج لهم ومعنى قاصرات الطرف أي على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم وذلك لحسنهم وجمالهم فلا تنظر الواحدة منهن إلا إلى زوجها. وقوله { عين } أي واسعات الأعين { كأنهن بيض مكنون } هذا وصف لنساء الجنة وأنهن بيض الأجسام بياضا كبياض بيض النعام إذ هو أبيض مشرب بصفرة وهو من أحسن أنواع الجمال في النساء ومعنى { مكنون } مستور لا يناله غبار ولا أي أذى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان عدالة الحق تبارك وتعالى في أنه يجزي السيئة بمثلها ولا يؤاخذ أحدا بغير كسبه في الحياة الدنيا.
2- بيان فضل الله تعالى إذ يجزي المؤمنين الحسنة بعشر أمثالها إلى أكثر من سبعمائة.
3- تقرير البعث وبيان بعض ما يجري فيه من قول وعمل.
4- وصف نعيم أهل الجنة طعاما وشرابا وجلوسا واستمتاعا.
[37.50-61]
شرح الكلمات:
فأقبل بعضهم على بعض: أي أقبل أهل الجنة.
يتساءلون: أي عما مر بهم في الدنيا وما جرى لهم فيها.
إني كان لي قرين: أي كان لي صاحب ينكر البعث الآخر .
يقول لي أئنك لمن المصدقين: أي يقول تبكيتا لي وتوبيخا أي بالبعث والجزاء.
أءنا لمدينون: أي محاسبون ومجزيون بأعمالنا في الدنيا إنكارا وتكذيبا.
هل أنتم مطلعون: أي معي إلى النار لننظر حاله وما هو فيه من العذاب.
فاطلع فرآه في سواء الجحيم: أي في وسط النار.
تالله إن كدت لتردين: أي قال هذا تشميتا به، ومعنى تردين تهلكني.
لكنت من المحضرين: أي المسوقين إلى جهنم المحضرين فيها.
أفما نحن بميتين: أمخلدون فما نحن بميتين، والاستفهام للتقرير أي نعم.
إلا موتتنا الأولى: التي ماتوها في الدنيا.
لمثل هذا فليعمل العاملون: أي لمثل هذا النعيم من الخلود في الجنة والنعم فيها فليعمل العاملون وذلك بكثرة الصالحات واجتناب السيئآت.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان نعيم أهل الجنة فقد قال بعضهم لبعض بعد أن جلسوا على السرر متقابلين يتجاذبون أطراف الحديث متذكرين ما مر بهم من أحداث في الحياة الدنيا فقال أحدهم إني كان لي في الدنيا قرين أي صاحب يقول لي استهزاء وإنكارا للبعث الآخر { أءنك لمن المصدقين } أي بالبعث والجزاء على الأعمال في الدنيا. ويقول أيضا مستبعدا منكرا { أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون } أي محاسبون ومجزيون. ثم قال ذلك القائل لبعض أهل مجلسه { هل أنتم مطلعون } أي معي على أهل النار لنرى صاحبي فيها ونسأله عن حاله فكأنهم أبوا عليه ذلك وأبوا أن يطلعوا أما هو فقد اطلع فرآه في سواء الجحيم أي في وسطها، وقال له ما أخبر تعالى به عنه في قوله { قال تالله } أي والله { إن كدت لتردين } أي تهلكني لما كنت تنكر علي الإيمان بالبعث وتسخر مني وتشمت بي لإيماني وعملي الصالح الذي كنت أرجو ثوابه وهو حاصل الآن وقال أيضا { ولولا نعمة ربي } علي بالعصمة والحفظ لكنت من المحضرين الآن في جهنم معك. ثم قال له { أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى } والاستفهام تقريري فهو يقرره ليقول نعم مخلدون نحن في الجنة وأنتم في النار. ثم قال إن هذا أي الخلود في دار النعيم { لهو الفوز العظيم } إذ كان نجاة من النار وهي أعظم مرهوب مخوف، ودخولا للجنة دار السلام والنعيم المقيم. قال تعالى { لمثل هذا } أي هذا الفوز العظيم بالنجاة من النار والخلود في دار الأبرار { فليعمل العاملون } أي فليواصلوا عملهم وليخلصوا فيه لله رب العالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان عظمة الله تعالى في إقدار المؤمن على أن يتكلم مع من هو في وسط الجحيم ويرى صورته ويتخاطب معه ويفهم بعضهم بعضا، والعرض التلفازي اليوم قد سهل إدراك هذه الحقيقة.
2- التحذير من قرناء السوء كالشباب الملحد وغيره.
3- بيان كيف كان المكذبون يسخرون من المؤمنين ويعدونهم متخلفين عقليا.
4- لا موت في الآخرة وإنما حياة أبدية في النعيم أو في الجحيم.
5- الحث على كثرة الأعمال الصالحة، والبعد عن الأعمال الفاسدة.
[37.62-74]
شرح الكلمات:
أذلك خير نزلا: أي ذلك المذكور لأهل الجنة خير نزلا وهو ما يعد للنازل من ضيف وغيره.
أم شجرة الزقوم: المعدة لأهل النار وهي من أخبث الشجر طعما ومرارة.
إنا جعلناها فتنة للظالمين: أي امتحانا واختبارا لهم في الدنيا وعذابا لهم في الآخرة.
تخرج في أصل الجحيم: أي في قعر الجحيم وأغصانها في دركاتها.
طلعها كأنه رؤوس الشياطين: أي ما يطلع من ثمرها أولا كالحيات القبيحة المنظر.
إن لهم عليها لشوبا من حميم: أي بعد أكلها يسقون ماء حميما فذلك الشوب أي الخلط.
إنهم ألفوا آباءهم: أي وجدوا آباءهم.
فهم على أثارهم يهرعون: أي يسرعون مندفعين إلى اتباعهم بدون فكر ولا روية.
ولقد أرسلنا فيهم منذرين: أي رسلا منذرين لهم من العذاب.
فانظر كيف كان عاقبة المنذرين: إنها كانت عذابا أليما لإصرارهم على الكفر.
إلا عباد الله المخلصين: فإنهم نجوا من العذاب ولم يهلكوا.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ما أعده لأهل الإيمان به وطاعته وطاعة رسوله من النعيم المقيم في الجنة دار الأبرار قال أذلك المذكور من النعيم في الجنة خير نزلا والنزل ما يعد من قرى للضيف النازل وغيره أم شجرة الزقوم، أي ثمرها وهو ثمر سمج مر قبيح المنظر. ثم أخبر تعالى أنه جعلها فتنة للظالمين من كفار قريش إذ قالوا لما سمعوا بها كيف تنبت الشجرة في النار والنار تحرق الشجر، فكذبوا بها فكان ذلك فتنة لهم. ثم وصفها بقوله { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أي في قعرها وتمتد فروعها في دركات النار. وقوله طلعها أي ما يطلع من ثمرها في قبح منظره { كأنه رءوس الشياطين } لأن العرب تضرب المثل بالشيطان في القبح كما أن هناك حيات يسمونها بالشيطان قبيحة المنظر وقوله فإنهم أي الظلمة المشركين لآكلون منها أي من شجرة الزقوم لشدة جوعهم فمالئون منها البطون أي بطونهم { ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم } وذلك أنهم لما يأكلون يعطشون فيسقون من حميم فذلك الشوب من الحميم إذ الشوب الخلط والمزج يقال شاب اللبن بالماء أي خلطه به وقوله { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } أي مردهم إلى الجحيم بعدما يأكلون ويشربون في مجالس خاصة بالأكل والشرب يردون إلى نار الجحيم.
وقوله تعالى { إنهم ألفوا آبآءهم ضآلين } أي وجدوا آباءهم ضالين عن طريق الهدى والرشاد { فهم على آثارهم يهرعون } أي يهرولون مسرعين وراءهم يتبعونهم في الشرك والكفر والضلال وقوله تعالى { ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين } أي فليس هؤلاء أول من ضل { ولقد أرسلنا } أي في أولئك الضالين من الأقوام السالفين منذرين أي رسلا ينذرونهم فلم يؤمنوا فأهلكناهم فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إنها كانت هلاكا ودمارا للكافرين. وقوله تعالى { إلا عباد الله المخلصين } استثناء منه تعالى لعباده المؤمنين الصالحين وهم الذين استخلصهم لعبادته بذكره وشكره فآمنوا وأطاعوا فإنه تعالى نجاهم وأهلك أعداءهم الكافرين المكذبين وفي الآية تهديد ووعيد لكفار قريش بما لا مزيد عليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أحسن الأساليب في الدعوة وهو الترهيب والترغيب.
2- تقرير البعث والجزاء بأسلوب العرض للأحداث التي تتم في القيامة.
3- التنديد بالاتباع في الضلال للآباء والأجداد وأهل البلاد.
4- إهلاك الله تعالى للظالمين وإنجاؤه للمؤمنين عند الأخذ بالذنوب في الدنيا والآخرة.
[37.75-82]
شرح الكلمات:
ولقد نادانا نوح: أي قال إني مغلوب فانتصر " من سورة القمر ".
فلنعم المجيبون: أي له إذ نجيناه وأهلكنا الكافرين من قومه.
من الكرب العظيم: أي عذاب الغرق بالطوفان.
وجعلنا ذريته هم الباقين: إذ عامة الناس كانوا من ذريته سام، وحام ويافث.
وتركنا عليه في الآخرين: أي أبقينا عليه ثناء حسنا عند سائر الأمم والشعوب.
سلام على نوح في العالمين: أي سلام منا على نوح في العالمين أي في الناس أجمعين.
إنا كذلك نجزي المحسنين: أي كما جزينا نوحا بالذكر الحسن والسلام في العالمين نجزي المحسنين.
ثم أغرقنا الآخرين: أي كفار قومه المشركين بعد إنجاء المؤمنين في السفينة.
معنى الآيات:
على إثر ذكره تعالى إهلاك المنذرين وإنجائه المؤمنين من عباده المخلصين ذكر قصة تاريخية لذلك وهي نوح وقومه حيث أنذر نوح قومه ولما جاء العذاب أنجى الله عباده المخلصين وأهلك المكذبين المنذرين فقال تعالى في ذكر هذه القصة الموجزة { ولقد نادانا نوح } أي دعانا لنصرته من قومه
قال رب انصرني بما كذبون
[المؤمنون: 26، 39] وقال
أني مغلوب فانتصر
[القمر: 10] { فلنعم المجيبون } نحن له { ونجيناه وأهله } باستثناء امرأته وولده كنعان { من الكرب العظيم } وهو عذاب الغرق. وقوله { وجعلنا ذريته هم الباقين } إلى يوم القيامة وهذا جزاء له على صبره في دعوته وإخلاصه وصدقه فيها إذ كل الناس اليوم من أولاده الثلاثة وهم سام وهو أبو العرب والروم وفارس، وحام وهو أبو السودان ويافث وهو أبو الترك والخزر وهم التتار ضيقوا العيون ولهذا سموا الخزر من خزر العين وهو ضيقها وصغرها، ويأجوج ومأجوج، وقوله { وتركنا عليه في الآخرين } أي في أجيال البشرية التي أتت بعده وهو الذكر الحسن والثناء العطر المعبر عنه بقوله تعالى { سلام على نوح في العالمين } وقوله تعالى { إنا كذلك نجزي المحسنين } أي كما جزينا نوحا لإيمانه وصبره وتقواه وصدقه ونصحه وإخلاصه نجزي المحسنين في إيمانهم وتقواهم وهذه بشرى للمؤمنين وقوله { إنه من عبادنا المؤمنين } ثناء عليه وبيان لعلة الإكرام والإنعام عليه. ودعوة إلى الإيمان بالترغيب فيه، وقوله { ثم أغرقنا الآخرين } أي أغرقناهم بالطوفان بكفرهم وشركهم وتكذيبهم بعد أن أنجينا المؤمنين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله لأوليائه، وإهانته لإعدائه.
2- إجابة دعاء الصالحين لا سيما عندما يظلمون.
3- فضل الإحسان وحسن عاقبة أهله.
4- فضل الإيمان وكرامة أهله عند الله في الدنيا والآخرة.
5- قول سلام على نوح في العالمين إذا قاله المؤمن حين يمسي أو يصبح يحفظه الله تعالى من لسعة العقرب. وأصح منه قول: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق لصحة الحديث في ذلك.
[37.83-98]
شرح الكلمات:
وإن من شيعته لإبراهيم: وإن من أشياع نوح على ملته ومنهاجه إبراهيم الخليل عليهما السلام.
إذ جاء ربه بقلب سليم: أي أتى ربه بقلب سليم من الشرك والشك والالتفات إلى غير الرب سبحانه وتعالى.
إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟: أي حين قال لأبيه وقومه المشركين أي شيء تعبدون؟
أئفكا آلهة دون الله تريدون؟: أي كذبا هو أسوأ الكذب تريدون آلهة غير الله؟
فما ظنكم برب العالمين: أي شيء هو؟ أترون أنه لا يسخط عليكم ولا يعاقبكم فتعبدون غيره وهو ربكم ورب العالمين.
فنظر نظرة في النجوم: أي إيهاما لهم إذ كانوا يؤلهون النجوم.
فقال إني سقيم: أي عليل أي ذو سقم وهو المرض والعلة.
فتولوا عنه مدبرين: أي رجعوا إلى ما هم فيه وتركوه قابلين عذره.
فراغ إلى آلهتهم: أي مال إليها خفية.
فراغ عليهم ضربا باليمين: أي بقوة يمينه فكسرها بفأس وحطمها.
فأقبلوا إليه يزفون: أي يمشون بقوة وسرعة.
ما تنحتون: من الحجارة والأخشاب والمعادن كالذهب والفضة.
وما تعملون: أي وخلق ما تعبدون من أصنام وكواكب.
فقالوا ابنوا له بنيانا: واملأوه حطبا وأضرموا فيه النار فإذا التهب ألقوه فيه.
فجعلناهم الأسفلين: أي المقهورين الخائبين في كيدهم إذ نجى الله إبراهيم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى قصة نوح مقررا بها نصرة أوليائه وخذلان أعدائه ذكر قصة أخرى هي قصة إبراهيم وهي أكبر موعظة لكفار قريش لأنهم ينتمون إلى إبراهيم ويدعون أنهم على ملته وملة ولده إسماعيل فلذا أطال الحديث فيها فقال سبحانه وتعالى { وإن من شيعته لإبراهيم } أي وإن من أشياع نوح الذين هم على ملته ومنهجه إبراهيم خليل الرحمن { إذ جآء ربه بقلب سليم } أي إذ أتى ربه بقلب سليم من الشرك والشك والالتفات إلى غير الرب تعالى في الوقت الذي قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون، منكرا عليهم عبادة الصنام فلو كان في قلبه أدنى التفاتة إلى غيره طمعا أو خوفا ما أمكنه أن يقول الذي قال بل كان في تلك الساعة سليم القلب ليس فيه نظر لغير الله تعالى وقوله { أإفكا آلهة دون الله تريدون } أي أكذبا هو أسوأ الكذب تريدون آلهة غير الله حيث جعلتموها بكذبكم بألسنتكم آلهة وهي أحجار وأصنام. وقوله { فما ظنكم برب العالمين } وقد عبدتم الكذب دونه إذ آلهتكم ما هي إلا كذب بحت. أترون أن الله لا يسخط عليكم ولا يعاقبكم؟ وقوله { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } هنا كلام محذوف دل عليه المقام وهو أن أهل البلد قد عزموا على الخروج إلى عيد لهم يقضونه خارج البلد، فعرضوا عليه الخروج معهم فاعتذر بقوله إني سقيم أي ذو سقم بعد أن نظر في النجوم موهما لهم أنه رأى ما دله على أنه سيصاب بسقم وهو مرض الطاعون وكان القوم منجمين ينظرون إلى النجوم فيدعون أنهم يعرفون بذلك الخير والشرك الذي ينزل إلى الأرض بواسطة الكواكب فأوهمهم بذلك فتركوه خوفا من عدوى الطاعون، أو تركوه قبولا لعذره هذا ما دل عليه قوله تعالى { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } { فتولوا عنه } أي لذلك ورجعوا إلى أمورهم وما هم عازمون عليه من الخروج إلى العيد خارج البلد وهو معنى فتولوا عنه مدبرين وهنا وقد خلا له المكان الذي فيه الآلهة من الحراس والعباد والزوار للآلهة في بهوها الخاص فنفذ ما حلف على تنفيذه في مناظرة كانت بينه وبين بعضهم إذ قال
وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين
[الأنبياء: 57] وبدأ المهمة فقال للآلهة وأنواع الأطعمة أمامها تلك الأطعمة من الحلويات وغيرها التي يتركها المشركون لتباركها الآلهة ثم يأكلونها رجاء بركتها { ألا تأكلون } عارضا عليها الأكل سخرية بها فلم تجبه ولم تأكل فقال لها { ما لكم لا تنطقون } ثم انهال عليها ضربا بفأس بيده اليمنى فكسرها وجعلها جذاذا أي قطعا متناثرة. فلما رجعوا من عيدهم مساء وجاءوا بهو الآلهة ليأخذوا الأطعمة وجدوا الآلهة مكسرة. { فأقبلوا إليه يزفون } أي مسرعين بأن طلبوا من رجالهم إحضاره على الفور فأحضروه وأخذوا يحاكمونه فقال في دفاعه { أتعبدون ما تنحتون } أي بأيديكم من أصنام بعضها من حجر وبعض من خشب ومن فضة ومن ذهب أيضا، { والله خلقكم وما تعملون } من كل عمل من أعمالكم فلم لا تعبدونه، وتعبدون أصناما لا تنفع ولا تضر، ولما غلبهم في الحجة وانهزموا أمامه اصدروا أمرهم بإحراقه بالنار فقالوا { ابنوا له بنيانا } أي فرنا عظيما واملأوه حطبا وأضرموا فيه النار حتى إذا التهب فألقوه في جحيمه وهو معنى قوله تعالى { قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم } وقوله تعالى { فأرادوا } أي بإبراهيم { كيدا } أي شرا وذلك بعزمهم على إحراقه وتنفيذهم ما عزموا عليه { فجعلناهم الأسفلين } أي المتهورين المغلوبين إذ قال تعالى للنار
كوني بردا وسلما على إبراهيم
[الأنبياء: 69] فكانت فخرج منها إبراهيم ولم يحرق سوى كتافيه الذي في يديه ورجليه وخيب الله سعي المشركين وأذلهم أمام إبراهيم وأخزاهم وهو معنى قوله تعالى
فجعلناهم الأخسرين
[الأنبياء: 70] وقد جمع الله تعالى لهم بين الخسران في كل ما أملوه من عملهم والذي الذي ما فارقهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- أصل الدين واحد فالإسلام هو دين الله الذي تعبد به آدم فمن بعده إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
2- كمال إبراهيم في سلامة قلبه من الالتفات إلى غير الله تعالى حتى إن جبريل قد عرض له وهو في طريقه إلى الجحيم الذي أعده له قومه فقال [هل لك حاجة يا إبراهيم فقال أما إليك فلا].
3- من أقبح الكذب ادعاء أن غير الله يعبد مع الله تبركا به أو طلبا لشفاعته.
4- وجوب تغيير المنكر عند القدرة عليه.
5- بيان ابتلاء إبراهيم وأنه ألقي في النار فصبر ، ولذا أكرمه ربه بما سيأتي في السياق بيانه.
[37.99-113]
شرح الكلمات:
إني ذاهب إلى ربي سيهدين: أي إني مهاجر إلى ربي سيهدين إلى مكان أعبده فيه فلا أمنع فيه من عبادته.
رب هب لي من الصالحين: أي ولدا من الصالحين.
بغلام حليم: أي ذي حلم وصبر كثير يولد له.
فلما بلغ معه السعي: أي بلغ من العمر ما أصبح يقدر فيه على العمل كسبع سنين فأكثر.
فانظر ماذا ترى: أي من الرأي الرشد.
من الصابرين: أي على الذبح الذي أمرت به.
فلما أسلما: أي خضعا لأمر الله الولد والوالد وانقادا له.
وتله للجبين: أي صرعه على جبينه بأن وضع جبينه على الأرض ولكل إنسان جبينان أيمن وأيسر والجبهة بينهما.
قد صدقت الرؤيا: أي بما عزمت عليه وفعلته من الخروج بالولد إلى منى وصرعه على الأرض وإمرار السكين على حلقه.
إن هذا لهو البلاء المبين: أي الأمر بالذبح اختبار عظيم.
وفديناه بذبح عظيم: أي كبش كبير.
وتركنا عليه في الآخرين: أي أبقينا عليه ثناء وذكرا حسنا فيمن جاء بعده من الناس.
وباركنا عليه وعلى إسحاق: أي وباركنا عليه بتكثير ذريته وذرية إسحاق حتى إن عامة الأنبياء من ذريتهما.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة إبراهيم الخليل إنه بعد أن ألقي به في النار وخرج بحمد الله سالما قرر الهجرة وترك البلاد، وقال { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } أي إني ذاهب إلى حيث أذن لي ربي بالهجرة إليه حيث أتمكن من عبادته فذهب إلى بلاد الشام ونزل أولا بحران من الشام، وقوله سيهدين أي يثبتني بدوام هدايته لي. ودعا ربه قائلا { رب هب لي من الصالحين } أي ارزقني أولادا صالحين. فاستجاب الله تعالى له وذلك أنه سافر في أرض القدس مع زوجته سارة وانتهى إلى مصر، وحدث أن وهب طاغية مصر جارية لسارة تسمى هاجر فوهبتها سارة لزوجها إبراهيم فتسراها فولدت له غلاما هو إسماعيل وهو استجابة الله تعالى لإبراهيم في دعائه عند هجرته { رب هب لي من الصالحين } وهو قوله تعالى { فبشرناه بغلام حليم }. وقد أخذ سارة ما يأخذ النساء من الغيرة لما رأت جارية إبراهيم أنجبت له إسماعيل فأمر الله إبراهيم بأن يأخذها وطفلها إلى مكة إبعادا لها عن سارة ليقل تألمها. وهناك بمكة رأى إبراهيم رؤيته ورؤيا الأنبياء وحي وقال لإسماعيل ما أخبر تعالى به في قوله، { فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي } كابن سبع سنين فأكثر بمعنى أصبح قادرا على العمل معه { قال يبني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } أي استشارة ليرى رأيه في القبول أو الرفض فأجاب إسماعيل قائلا { يأبت افعل ما تؤمر } أي ما يأمرك به ربك { ستجدني إن شآء الله من الصابرين } وفعلا خرج به إبراهيم من حول البيت إلى منى وانتهى إلى مكان تجاوز به مكان الجمرات الثلاث وتله للجبين أي صرعه على جبينه بأن وضع جبينه على الأرض وأخذ المدية ووضعها على رقبته والتفت لأمر ما وإذا بكبش أملح والهاتف يقول اترك ذاك وخذ هذا فترك الولد وذبح الكبش وكانت آية.
وهو قوله تعالى { وفديناه بذبح عظيم } ، وقوله تعالى { وناديناه أن يإبراهيم قد صدقت الرؤيآ إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين } أي الاختبار البين وبذلك تأهل للخلة وأصبح خليل الرحمن، وقوله تعالى { وفديناه } أي إسماعيل { بذبح عظيم } أي بكبش عظيم. وهو الذي ذبحه إبراهيم وترك إسماعيل وقوله { وتركنا عليه في الآخرين } أي أبقينا عليه ثناء عاطرا وذكرا حسنا فيمن جاء بعده من الأمم والشعوب. { سلام على إبراهيم } أي سلام من الله على إبراهيم كذلك أي كذلك الجزاء الذي جزى به الله تعالى إبراهيم على إيمانه وهجرته وصبره وطاعته يجزي المحسنين وقوله { إنه من عبادنا المؤمنين } وفي هذا ثناء عاطر على المؤمنين، وقوله { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين } وهذا يوم جاءه الضيف من الملائكة وهم في طريقهم إلى المؤتفكات قرى قوم لوط، وذلك بعد أن بلغ من العمر عتيا وامرأته سارة كذلك إذ قالت ساعة البشرى
ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا
[هود: 72] وعجبا لمن يقول إن الذبيح إسحاق وليس إسماعيل وقوله تعالى { وباركنا عليه وعلى إسحاق } أي وباركنا عليه بتكثير ذريته وذرية إسحاق حتى إن عامة الأنبياء من بعدهما من ذريتهما، وقوله تعالى { ومن ذريتهما } أي إبراهيم وإسحاق { محسن } أي مؤمن صالح { وظالم لنفسه } بالشرك والعاصي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل الهجرة في سبيل الله وأن أول هجرة كانت في الأرض هي هجرة إبراهيم من العراق إلى الشام.
2- بيان أن الذبيح هو إسماعيل وليس هو إسحاق كما يقول البعض وكما يدعي اليهود.
3- وجوب بر الوالدين وطاعتهما في المعروف.
4- فضل إبراهيم وعلو مقامه وكرامته عند ربه.
5- فضل الإحسان وجزاء المحسنين.
[37.114-122]
شرح الكلمات:
ولقد مننا على موسى وهارون: أي بالنبوة والرسالة.
ونجيناهم وقومهما: أي بني إسرائيل.
من الكرب العظيم: أي استعباد فرعون إياهم واضطهاده لهم.
ونصرناهم: على فرعون وجنوده.
الكتاب المستبين: أي التوراة الموضحة الأحكام والشرائع.
وهديناهما الصراط المستقيم: أي الإسلام لله رب العالمين.
وتركنا عليهما في الآخرين: أي أبقينا عليهما في الآخرين ثناء حسنا.
سلام على موسى وهارون: أي سلام منا على موسى وهارون.
إنا كذلك: أي كما جزيناهما نجزي المحسنين من عبادنا المؤمنين.
إنهما من عبادنا المؤمنين: أي جزيناهما بما جزيناهما به لإيمانهما.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إفضال الله وإنعامه على من يشاء من عباده فبعد ذكر إنعامه على إبراهيم وولده إسحاق ذكر من ذريتهما المحسنين موسى وهارون فقال تعالى { ولقد مننا على موسى وهارون } أي بالنبوة والرسالة، { ونجيناهما وقومهما } أي بني إسرائيل { من الكرب العظيم } الذي هو استعباد فرعون والأقباط لهم واضطهادهم زمنا طويلا { ونصرناهم } أي على فرعون وملائه { فكانوا هم الغلبين } { وآتيناهما } أي أعطيناهما { الكتاب المستبين } وهو التوراة الواضحة الأحكام البين الشرائع لا خفاء فيها ولا غموض. { وهديناهما الصراط المستقيم } وهو الدين الصحيح الذي هو الإسلام دين الله الذي بعث به كافة رسله { وتركنا عليهما في الآخرين } أي وأبقينا عليهما الذكر الحسن والثناء العطر فيمن بعدهما { سلام على موسى وهارون } { إنا كذلك نجزي المحسنين } أي كما جزيناهما لإحسانهما نجزي المحسنين { إنهما من عبادنا المؤمنين } فيه بيان لعلة ما وهبهما من الإنعام والإفصال وهو الإيمان المقتضي للإسلام والإحسان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله تعالى لرسوليه موسى وهارون عليهما السلام.
2- بيان إنعام الله تعالى على بني إسرائيل بإنجائهم من آل فرعون ونصرته لهم عليهم.
3- بيان أن الإسلام دين سائر الأنبياء وليس خاصا بأمة الإسلام.
4- بيان فضل الإحسان والإيمان.
[37.123-132]
شرح الكلمات:
وإن إلياس لمن المرسلين: إلياس هو أحد أنبياء بني إسرائيل من سبط هارون أرسله الله تعالى إلى أهل مدينة بعلبك بالشام.
أتدعون بعلا: أي صنما يسمى بعلا.
وتذرون أحسن الخالقين: أي وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين.
فإنهم لمحضرون: أي في النار.
إلا عباد الله المخلصين: أي فإنهم نجوا من النار.
وتركنا عليه في الآخرين: أي أبقينا عليه في الآخرين ذكرا حسنا.
سلام على إل ياسين: أي سلام منا على إلياس.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إنعام الله تعالى على بعض أنبيائه ورسله فقال تعالى { وإن إلياس لمن المرسلين } وهو من سبط هارون عليه السلام أحد أنبياء بني إسرائيل أخبر تعالى أنه من المرسلين أي اذكر إذ قال لقومه وهم أهل مدينة بعلبك وما حولها { ألا تتقون } أي الله تعالى بعبادته وترك عبادة غيره، وهذا دليل على أنه رسول. وقوله عليه السلام { أتدعون بعلا } هذا إنكار منه لهم على عبادة صنم كبير لهم يسمونه بعلا، أي كيف تعبدون صنما بدعائه والعكوف عليه والذبح والنذر له، وتتركون عبادة الله أحسن الخالقين، الله ربكم ورب آبائكم الأولين. قال تعالى { فكذبوه } أي في أنه لا إله إلا الله
وماتوا وهم كافرون
[التوبة: 125] فاحضروا في جهنم فهم من المحضرين فيها، وقوله تعالى { إلا عباد الله المخلصين } أي الموحدين فإنهم ليسوا في النار بل هم في الجنة. وقوله تعالى { وتركنا عليه في الآخرين } أي وأبقينا له ذكرا حسنا في الذين جاءوا من بعده من الناس. وقوله تعالى { سلام } أي منا { على إل ياسين } { إنا كذلك } أي كما جزينا إلياس لإحسانه في طاعتنا { نجزي المحسنين } وقوله { إنه من عبادنا المؤمنين } أي استحق تكريمنا والجزاء الحسن لأنه من عبادنا المؤمنين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد، والتنديد بالشرك.
2- هلاك المشركين ونجاة الموحدين يوم القيامة.
3- فضل الإحسان ومجازاة أهله بحسن الجزاء.
4- فضل الإيمان وأنه سبب كل خير وكمال.
[37.133-138]
شرح الكلمات:
وإن لوطا لمن المرسلين: أي وإن لوطا وهو ابن هاران أخي إبراهيم الخليل لمن جملة الرسل أيضا.
إذ نجيناه وأهله أجمعين: أي اذكر يا رسولنا ممن أنعمنا عليهم بالنبوة والرسالة لوطا إذ نجيناه وأهله أجمعين من عذاب مطر السوء.
إلا عجوزا في الغابرين: أي إلا امرأته الكافرة هلكت في الغابرين أي الباقين في العذاب.
ثم دمرنا الآخرين: أي أهلكنا الآخرين ممن عدا لوطا والمؤمنين معه.
وإنكم لتمرون عليهم: أي في أسفاركم إلى فلسطين وغزة ومصر بالليل والنهار.
أفلا تعقلون: أي يا أهل مكة ما حل بهم فتعتبرون وتتعظون فتؤمنوا وتوحدوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إنعام الله على من اصطفى من عباده فقال تعالى { وإن لوطا } وهو ابن هاران أخي إبراهيم عليهما السلام { لمن المرسلين } أي لمن جملة رسلنا { إذ نجيناه } أي اذكر إنعامنا عليه إذ نجيناه من العذاب وأهله أجمعين { إلا عجوزا في الغابرين } وهي امرأته إذ كانت مع الكافرين فبقيت معهم فهلكت بهلاكهم. وقوله تعالى { ثم دمرنا الآخرين } أي ممن عدا لوطا ومن آمن به من قومه. وقوله { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل } هذا خطاب لأهل مكة المشركين إذ كانوا يسافرون للتجارة إلى الشام وفلسطين ويمرون بالبحر الميت وهو مكان الهالكين من قوم لوط أصبح بعد الخسف بحرا ميتا لا حياة فيه البتة. وقوله { أفلا تعقلون } توبيخ لهم وتقريع على عدم التفكر والتدبر إذ لو فكروا لعلموا أن الله تعالى أهلكهم لتكذيبهم برسولهم وكفرهم بما جاءهم به من الهدى والدين الحق، وقد كذب هؤلاء فأي مانع يمنع من وقوع عذاب بهم كما وقع بقوم لوط من قبلهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة لوط ورسالته.
2- بيان العبرة في إنجاء لوط والمؤمنين معه وإهلاك الكافرين المكذبين به.
3- بيان أن لا شفاعة تنفع ولو كان الشافع أقرب قريب إلا بعد أن يأذن الله للشافع وبعد رضائه عن المشفوع له.
4- وجوب التفكر والتعقل في الأحداث الكونية للاهتداء بذلك إلى معرفة سنن الله تعالى في الكون والحياة.
[37.139-148]
شرح الكلمات:
وإن يونس لمن المرسلين: أي وإن يونس بن متى الملقب بذي النون لمن جملة المرسلين.
إذ أبق إلى الفلك المشحون: أي إذ هرب إلى السفينة المملوءة بالركاب.
فساهم فكان من المدحضين: أي اقترع مع ركاب السفينة فكان من المغلوبين.
فالتقمه الحوت وهو مليم: أي ابتلعه الحوت وهو آت بما يلام عليه.
للبث في بطنه إلى يوم يبعثون: أي لكان بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.
فنبذناه بالعراء: أي فألقيناه في بطن الحوت بالعراء أي بوجه الأرض بالساحل.
وهو سقيم: أي عليل كالفرخ المنتوف الريش.
شجرة من يقطين: أي الدباء: القرع.
إلى مائة ألف أو يزيدون: أي أرسلناه إلى مائة ألف نسمة بل يزيدون بكذا الف.
فآمنوا فمتعناهم إلى حين: أي فآمن قومه عند معاينة أمارات العذاب فأبقاهم الله إلى آجالهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر من أنعم الله تعالى عليهم بما شاء من وجوه الإنعام. فقال عز وجل عطفا عما سبق { وإن يونس لمن المرسلين } أي وإن عبدنا يونس بن متى ذا النون لمن جملة من مننا عليهم بالنبوة والرسالة. { إذ أبق } أي في الوقت الذي هرب من قومه لما لم يؤمنوا به وواعدهم العذاب وتأخر عنهم فاستعجل فهرب من المدينة وهي نينوي من أرض الموصل بالعراق، فوصل الميناء فوجد سفينة مبحرة فركب وكانت حمولتها أكبر من طاقتها فوقفت في عرض البحر لا تتقدم ولا تتأخر فرأى ربان السفينة أنه لا بد من تقليل الشحنة وإلا غرق الجميع، وشح كل راكب بنفسه فاقترعوا فكان يونس من المدحضين أي المغلوبين في القرعة فرموه في البحر فالتقمه حوته، وهو مليم أي فاعل ما يلام عليه من فراره من دعوة قومه إلى الله لما ضاق صدره ولم يطق البقاء معهم. وهذا معنى قوله تعالى { إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم }. وقوله تعالى { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه } أي بطن الحوت { إلى يوم يبعثون } أي يوم القيامة بأن يصير بطن الحوت قبرا له أي فلولا أن يونس كان من المسبحين أي المكثرين من الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح قبل البلاء لما كان يلهم قوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ولما كان يستجاب له ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة "
فإن صوت يونس سمع تحت العرش فعرفه بعض الملائكة فذكروا ذلك لربهم تعالى فأخبرهم أنه عبده يونس، وأنه كان من المكثرين الصلاة والذكر والدعاء قبل البلاء فلذا استجاب الله تعالى ونجاه من الغم، وهو معنى قوله تعالى { فنبذناه بالعرآء } أي بوجه الأرض العارية من الشجر وكل ظل وهو كالفرخ المنتوف الريش نضج لحمه من حرارة جوف الحوت وأنبت تعالى عليه شجرة من يقطين أي فرع تظلله بأوراقها الحريرية الناعمة والتي لا ينزل بساحتها الذباب، وسخر له أروية " غزالة " فكانت تأتيه صباح مساء فتفشح عليه أي تفتح رجليها وتدني ضرعها منه فيرضع حتى يشبع إلى أن تماثل للشفاء وعاد إلى قومه فوجدهم مؤمنين لتوبة أحدثوها عند ظهور امارات العذاب فتاب الله عليهم.
وقوله تعالى { وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون } أي أرسلناه إلى قومه وهم أهل نينوي وكان تعدادهم مائة ألف وزيادة كذا ألفا فآمنوا أي بالله ربا وبالإسلام دينا وبيونس نبيا ورسولا وتابوا بترك الشرك والكفر فجزيناهم على إيمانهم وتوبتهم بأن كشفنا عنهم العذاب الذي أظلهم، ومتعناهم أي أبقينا عليهم يتمتعون بالحياة إلى نهاية آجالهم المحدودة لهم في كتاب المقادير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة يونس ورسالته وضمن ذلك تقرير رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
2- مشروعية الركوب في السفن البحرية.
3- مشروعية الاقتراع لفض النزاع في قسمة الأشياء ونحوها.
4- فضل الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح وعظيم نفعها عند الوقوع في البلاء.
5- تقرير مبدأ " تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة ".
6- بركة أكل اليقطين أي الدباء القرع إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكلها ويلتقطها من حافة القصعة.
7- فضل قوم يونس إذ آمنوا كلهم ولم تؤمن أمة بكاملها إلا هم.
[37.149-160]
شرح الكلمات:
فاستفتهم: أي استخبر كفار مكة توبيخا لهم وتقريعا.
ولهم البنون: أي فيختصون بالأفضل الأشرف.
ليقولون ولد الله: أي لقولهم الملائكة بنات الله.
اصطفى البنات: أي اختار البنات على البنين.
أفلا تذكرون: أي إن الله تعالى منزه عن الصاحبة والولد.
أم لكم سلطان مبين: أي ألكم حجة واضحة على صحة ما تدعون.
فأتوا بكتابكم: أي الذي تحتجون بما فيه، ومن أين لكم ذلك.
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا: إذ قالوا الملائكة بنات الله.
ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون: أي في العذاب.
سبحان الله عما يصفون: أي تنزيها لله تعالى عما يصفونه به من كون الملائكة بنات له.
إلا عباد الله المخلصين: أي فإنهم ينزهون ربهم ولا يصفونه بالنقائص كهؤلاء المشركين.
معنى الآيات:
بعد تقرير البعث والتوحيد والنبوة في السياق السابق بالأدلة والحجج والبراهين القاطعة أراد تعالى إبطال فرية من أسوأ الفرى التي عرفتها ديار الجزيرة وهي قول بعضهم إن الله تعالى قد أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة وهم بنات الله، وهذا لا شك أنه من إيحاء الشيطان لإغواء الإنسان وإضلاله فقال تعالى لرسوله استفتهم أي استخبرهم موبخا لهم مقرعا قائلا لهم { ألربك البنات ولهم البنون } ، أي أما تخجلون عندما تنسبون لكم الأسنى والأشرف وهو البنون، وتجعلون لله الآخس والأدنى وهو البنات وقوله تعالى { أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون } أي حضروا يوم خلقنا الملائكة فعرفوا بذلك أنهم إناث، والجواب لا إنهم لم يشهدوا خلقهم إذا فلم يكذبون وقوله تعالى { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون } أي ألا إن هؤلاء المشركين الضالين من كذبهم الذي عاشوا عليه واعتادوه يقولون ولد الله وذلك بقولهم الملائكة بنات الله، وإنهم ورب العزة لكاذبون في قيلهم هذا الذي هو صورة لإفكهم الذي يعيشون عليه. وقوله تعالى { أصطفى البنات على البنين } هذا توبيخ لهم وتقريع أصطفى أي هل الله اختار البنات على البنين فلذا جعلهم إناثا كما تزعمون. ما لكم كيف تحكمون هذا الحكم الباطل الفاسد. أفلا تذكرون فتذكروا أن الله تعالى منزه عن الصاحبة والولد أم لكم سلطان مبين أي ألكم حجة قوية تثبت دعواكم والحجة القوية تكون بوحي من الله في كتاب أنزله يخبر فيه بما تقولون إذا { فأتوا بكتابكم } الذي فيه ما تدعون { إن كنتم صادقين } في زعمكم.
ومن أين لكم الكتاب، وقد كفرتم بكتابكم الذي نزل لهدايتكم وهو القرآن الكريم. وهكذا أبطل الله هذه الفرية بأقوى الحجج. وقوله تعالى: { وجعلوا بينه } أي بين الله تعالى { وبين الجنة نسبا } بقولهم أصهر الله تعالى إلى الجن فتزوج سروات الجن إذ سألهم أبو بكر: من أمهات الملائكة فقالوا سروات الجن وقوله تعالى { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } أي في العذاب، فكيف يكون لهم نسب ويعذبهم الله بالنار.
فالنسيب يكرم نسيبه لا يعذبه بالنار، وبذلك بطلت هذه الفرية الممقوتة، فنزه الله تعالى نفسه عن مثل هذه الترهات والأباطيل فقال { سبحان الله عما يصفون }. { إلا عباد الله المخلصين } أي فإنهم لا يصفون ربهم بمثل هذه النقائص التي هي من صفات العباد العجزة المفتقرين إلى الزوجة والولد أما رب كل شيء ومالكه وخالقه فلا يقبل العقل أن ينسب إليه الصاحبة والولد. فلذا عباد الله الذين استخلصهم لمعرفته والإيمان به وعبادته لا يصفون ربهم جل جلاله بصفات المحدثين من خلق الله. ولا يكونون من المحضرين في النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إبطال فرية بني ملحان من العرب الذين زين لهم الشيطان فكرة الملائكة بنات الله، ووجود نسب بين الله تعالى وبين الجن.
2- مشروعية دحض الباطل بأقوى الحجج وأصح البراهين.
3- الحجة الأقوى ما كانت من وحي الله في كتاب من كتبه التي أوحى بها إلى رسله.
[37.161-170]
شرح الكلمات:
وما تعبدون: أي من الأصنام.
إلا من هو صال الجحيم: أي مقدر له عذاب النار.
إلا له مقام معلوم: أي مكان في السماء يعبد الله تعالى فيه لا يتعداه.
وإنا لنحن الصافون: أي أقدامنا في الصلاة.
وإنا لنحن المسبحون: أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به.
وإن كانوا ليقولون: أي كفار مكة.
لو أن عندنا ذكرا: أي كتابا من كتب الأمم السابقة.
فكفروا به: أي بالكتاب الذي جاءهم وهو القرآن.
فسوف يعلمون: أي عاقبة كفرهم إن لم يتوبوا فيؤمنوا ويوحدوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إبطال باطل المشركين فقد قال لهم تعالى { فإنكم وما تعبدون } من اصنام ايها المشركون. ما أنتم بمضلين أحدا إلا أحدا هو صال الجحيم حيث كتبنا عليه ذلك في كتاب المقادير فهو لا بد عامل بما يوجب له النار فهذا قد يفتتن بكم وبعبادتكم فيضل بضلالكم. وقوله تعالى { وما منآ إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصآفون وإنا لنحن المسبحون } هذا قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بأن الملائكة تصف في السماء للصلاة كما يصف المؤمنون من الناس في الصلاة، وإنهم من المسبحين لله الليل والنهار وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما من موضع شبر في السماء إلا عليه ملك ساجدا أو قائم وقوله تعالى { وإن كانوا ليقولون } أي مشركو العرب { لو أن عندنا ذكرا من الأولين } أي كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل، لكنا عباد الله المخلصين أي لكنا عبادا لله تعالى نعبده ونوحده ولا نشرك به أحدا. فرد تعالى على قولهم هذا إذ هو مجرد تمن كاذب بقوله فكفروا به أي فكفروا بالكتاب الذي جاءهم وهو القرآن الكريم. إذا فسوف يعلمون عاقبة تكذيبهم إن لم يتوبوا وهو هلاكهم وخسرانهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ من كتب الله عليه النار فسوف يصلاها.
2- تقرير عبودية الملائكة وطاعتهم لله وأنهم لا يتجاوزون ما حد الله تعالى لهم.
3- فضل الصفوف في الصلاة وفضل تسويتها.
4- بيان كذب المشركين إذ كانوا يدعون أنهم لو أنزل عليهم كتاب كما أنزل على من قبلهم لكانوا عباد الله المخلصين أي الذين يعبدونه ويخلصون له العبادة.
5- تهديد الله تعالى للمشركين على كذبهم بقوله فسوف يعلمون.
[37.171-182]
شرح الكلمات:
سبقت كلمتنا: هي قوله تعالى لأغلبن أنا ورسلي.
وإن جندنا لهم الغالبون: أي للكافرين بالحجة والنصرة.
فتول عنهم حتى حين: أي أعرض عنهم حتى تؤمر فيهم بالقتال.
وأبصرهم: أي أنظرهم.
فإذا نزل بساحتهم: أي العذاب.
وتول عنهم: أي أعرض عنهم.
سبحان ربك: أي تنزيها لربك يا محمد.
عما يصفون: أي تنزيها له عما يصفه به هؤلاء المشركون من الصاحبة والولد والشريك.
وسلام على المرسلين: أي أمنة من الله لهم في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين: أي الثناء بالجميل خالص لله رب الثقلين الإنس والجن على نصر أوليائه وإهلاك أعدائه.
معنى الآيات:
لما ختم السياق الأول بتهديد الكافرين بقوله تعالى
فكفروا به فسوف يعلمون
[الصافات: 170] أخبر تعالى رسوله بما يطمئنه على نصر الله تعالى له فقال { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } وهي قوله { إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون }.
أي بالحجة والبرهان، وبالرمح والسنان. وقوله { فتول عنهم حتى حين } يأمر رسوله أن يعرض عن المشركين من قومه حتى حين يأمره فيهم بأمر، أو ينزل بهم بلاء أو بأسا وقوله { وأبصرهم } أي أنظرهم فسوف يبصرون لا محالة ما ينزل بهم من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى { أفبعذابنا يستعجلون } ، ينكر تعالى عليهم استعجالهم العذاب الدال على سفههم وخفة أحلامهم إذ ما يستعجل العذاب إلا أحمق جاهل وعذاب من استعجلوا إنه عذاب الله!! قال تعالى { فإذا نزل بساحتهم } أي بفناء دارهم { فسآء صباح المنذرين } أي بئس صباحهم من صباح إنه صباح هلاكهم ودمارهم ثم أمر تعالى مرة أخرى رسوله أن يتول عنهم وينتظر ما يحل بهم فقال { وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون } وفي الآية من التهديد والوعيد لهؤلاء المشركين ما لا يقادر قدره. وأخيرا نزه تعالى نفسه عما يصفه به المشركون من الولد والشريك وسلم على المرسلين، وحمد نفسه مشيرا إلى مقتضى الحمد وموجبه وهو كونه رب العالمين فقال { سبحان ربك } يا محمد { رب العزة } ومالكها يعز بها من يشاء ويذل من يشاء { عما يصفون } من الصاحبة والولد والشريك، { وسلام } منا { على المرسلين } وأنت منهم { والحمد لله رب العالمين } على نصره أولياءه وإهلاكه أعداءه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية.
2- وعد الله تعالى لرسوله بالنصر وقد أنجزه ما وعده والحمد لله.
3- استحباب ختم الدعاء أو الكلام بقراءة جملة { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين } لورود ذلك في السنة.
[38 - سورة ص]
[38.1-11]
شرح الكلمات:
ص: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب ص ويقرأ صاد الله أعلم بمراده به.
والقرآن ذي الذكر: أي أقسم بالقرآن ذي الذكر إذ به يذكر الله تعالى ما الأمر كما يقول هؤلاء الكافرون من أن النبي ساحر وشاعر وكاذب.
بل الذين كفروا في عزة وشقاق: أي أهل مكة في عزة نفس وشقاق مع النبي والمؤمنين وعداوة فلذا قالوا في الرسول ما قالوا، وإلا فهم يعلمون براءته مما قالوا فيه.
وكم أهلكنا قبلهم من قرن: أي كثيرا من الأمم الماضية أهلكناهم.
فنادوا ولات حين مناص: أي صرخوا واستغاثوا وليس الوقت وقت مهرب ولا نجاة.
وعجبوا: أي وما اعتبر بهم أهل مكة وعجبوا أن جاءهم منذر منهم محمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا ساحر كذاب: أي لما يظهره من الخوارق ولما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال.
أجعل الآلهة إلها واحدا: أي لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله، فقالوا كيف يسع الخلائق إله واحد؟
إن هذا لشيء عجاب: أي جعل الآلهة إلها واحدا أمر عجيب.
وانطلق الملأ منهم أن امشوا: أي خرجوا من بيت أبي طالب حيث كانوا مجتمعين بالنبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا منه قوله لهم قولوا لا إله إلا الله.
إن هذا لشيء يراد: أي إن هذا المذكور من التوحيد لأمر يراد منا تنفيذه.
في الملة الآخرة: أي ملة عيسى عليه السلام.
إن هذا إلا اختلاق: أي ما هذا إلا كذب مختلق.
أأنزل عليه الذكر من بيننا: أي كيف يكون ذلك وليس هو بأكبر منا ولا أشرف.
بل هم في شك من ذكري: أي بل هم في شك من القرآن والوحي ولذا قالوا في الرسول ما قالوا.
بل لما يذوقوا عذاب: أي بل لم يذوقوا عذابي إذ لو ذاقوه لما كذبوا بل آمنوا ولا ينفعهم إيمان.
أم عندهم خزائن رحمة ربك: أي من النبوة وغيرها فيعطوا منها من شاءوا ويحرموا من شاءوا.
أم لهم ملك السماوات والأرض: أي ليس لهم ذلك.
فليرتقوا في الأسباب: أي الموصلة إلى السماء فيأتوا بالوحي فيخصوا به من شاءوا أو يمنعوا الوحي النازل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنى لهم ذلك.
جند ما هنالك مهزوم: أي هم جند حقير في تكذيبهم لك مهزوم أمامك وفي بدر.
من الأحزاب: أي من الأمم الماضية التي تحزبت على رسلها وأهلكها الله تعالى.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ص والقرآن ذي الذكر } أما ص فإنه أحد حروف الهجاء ومذهب السلف فيه أن يقال الله أعلم بمراده به إذ هو من المتشابه الذي يجب الإيمان به ويوكل أمر معناه إلى من أنزله، وقد ذكرنا غير ما مرة أن هذه الحروف قد أفادت فائدتين فليطلبهما من شاء من القراء الكرام من السور المفتتحة بمثل هذه الحروف نحو طس، الم.
وأما قوله { والقرآن } هو كتاب الله هذا المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { ذي الذكر } معناه التذكير إذ به يذكر الله تعالى والجملة قسم أقسم الله به فقال { والقرآن ذي الذكر } وجواب القسم محذوف تقديره ما الأمر كما يقول هؤلاء المشركون من أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ساحر وشاعر وكاذب { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } أي بل هم في عزة نفس وكبرياء وخلاف وعداوة مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فحملهم ذلك على أن يقولوا في الرسول ما قالوا، وإلا فهم يعلمون يقينا أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن السحر والشعر والكذب والجنون. وقوله تعالى { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } أي كثيرا من الأمم الماضية أهلكناها بتكذيبها لرسلها فلما جاءهم العذاب نادوا صارخين مستغيثين { ولات حين مناص } أي وليست الساعة ساعة نجاة ولا هرب، فلم لا يعتبر مشركو مكة بمثل هؤلاء. لم يعتبروا { وعجبوا أن جآءهم منذر منهم } ينذرهم عذاب الله في الدنيا والآخرة وهو محمد صلى الله عليه وسلم. { وقال الكافرون } أي لم يعتبروا وعجبوا وقالوا فيه صلى الله عليه وسلم { ساحر كذاب }. { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } أي عجيب أي كيف يسع العباد إله واحد إن هذا لأمر يتعجب منه غاية العجب، لأنهم قاسوا الغائب وهو الله تعالى على الشاهد وهو الإنسان الضعيف فوقعوا في أفحش خطأ وأقبحه.
وقوله تعالى { وانطلق الملأ منهم } وهم يقولون لبعضهم بعضا امشوا واصبروا على آلهتكم { إن هذا لشيء يراد } أي منا إمضاؤه وتنفيذه. قالوا هذا وما بعده من القول لما اجتمعوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في منزل عمه أبي طالب لمفاوضة الرسول في شأن دعوته فلما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم قولوا لا إله إلا الله قاموا من المجلس وانطلقوا يمشون ويقولون ما أخبر تعالى به عنهم { أن امشوا واصبروا على آلهتكم } أي على عبادتها فلا تتخلوا عنها { إن هذا } أي الدعوة إلى لا إله إلا الله لشيء كبير يراد منا إمضاؤه وتنفيذه لصالح غيرنا. ما سمعنا بهذا أي بالتوحيد في الملة الآخرة أي الدين الأخير وهو ما جاء به عيسى بن مريم عليه السلام. { إن هذا إلا اختلاق } أي ما هذا الذي يدعو إليه محمد إلا كذب اختلقه لم ينزل عليه ولم يوح به إليه. وواصلوا كلامهم قائلين { أءنزل عليه الذكر } أي القرآن { من بيننا } وليس هو بأكبرنا سنا ولا بأشرفنا نسبا. فكيف يكون هذا؟ وقوله تعالى { بل هم في شك من ذكري } أي لم يكن بالقوم جهل بصدق محمد في قوله وسلامة عقله، وإنما حملهم على ذلك هو شكهم في القرآن وما ينزل به من الحق ويدعو إليه من الهدى، وهذا أولا وثانيا إنهم لما يذوقوا عذابي إذ لو ذاقوا عذاب الله على تكذيبهم ما كذبوا، وسوف يذوقونه ولكن لا ينفعهم يؤمئذ تصديق ولا إيمان.
وقوله تعالى { أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب } أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك يا رسولنا العزيز أي الغالب الوهاب أي الكثير العطاء من النبوة وغيرها وعندئذ لهم أن يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولكن فهل لهم من خزائن رحمة ربك شيء والجواب لا إذا فلم ينكرون هبة الله لمحمد بالنبوة والوحي والرسالة.. وقوله تعالى { أم لهم ملك السموت والأرض } أي بل ألهم ملك السماوات والأرض وما بينهما؟ إذا كان هذا لهم { فليرتقوا فى الأسباب } سببا بعد سبب حتى ينتهوا إلى السماء السابعة ويمنعوا الوحي النازل على محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى. ومن أين لهم ذلك وهم الضعفاء الحقيرون إنهم كما قال تعالى فيهم { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } أي جند حقير من جملة أحزاب الباطل والشر مهزوم هنالك ببدر ويوم الفتح بإذن الله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لله تعالى أن يقسم بما يشاء بخلاف العبد لا يقسم إلا بربه تعالى.
2- بيان ما كان عليه المشركون من كبرياء وعداء للنبي صلى الله عليه وسلم.
3- بيان جهل المشركين في استنكارهم للا إله إلا الله محمد رسول الله.
4- تحدي الرب تعالى للمشركين إظهارا لعجزهم ودعوته لهم إلى النزول إلى الحق وقبوله.
5- إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك.
6- ذم كلمة الأحزاب ومدلولها إذ لا تأتي الأحزاب بخير.
[38.12-20]
شرح الكلمات:
كذبت قبلهم: أي قبل هؤلاء المشركين من قريش.
وفرعون ذو الأوتاد: أي صاحب أوتاد أربعة يشد إليها من أراد تعذيبه.
وأصحاب الأيكة: أي الغيضة وهم قوم شعيب.
إن كل إلا كذب الرسل: أي ما كل واحد منهم إلا كذب الرسل ولم يصدقهم فيما دعوا إليه.
فحق عقاب: أي وجبت عقوبتي عليهم.
صيحة واحدة: هي نفخة إسرافيل في الصور نفخة.
مالها من فواق: أي ليس لها من فتور ولا انقطاع حتى تهلك كل شيء.
عجل لنا قطنا: أي صك أعمالنا لنرى ما أعددت لنا إذ القط الكتاب.
ذا الأيد: أي القوة والشدة في طاعة الله تعالى.
إنه أواب: أي رجاع إلى الله في كل أموره.
بالعشي والإشراق: أي بالمساء بعد العصر إلى الغروب والاشراق من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى.
والطير محشورة له: أي والطيور مجموعة.
وأتيناه الحكمة وفصل الخطاب: أي وأعطينا داود الحكمة. وهي الإصابة في الأمور والسداد فيها وفصل الخطاب. الفقة في القضاء ومن ذلك البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
معنى الآيات:
السياق الكريم في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد المشركين علهم يتوبون إلى الله ويرجعون قال تعالى { كذبت قبلهم } أي قبل قومك يا محمد { قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد } أي صاحب الأوتاد التي كان يشد إليها من أراد تعذيبه ويعذبه عليها كأعواد المشانق، { وثمود وقوم لوط وأصحاب لئيكة } أي الغيضة وهي الشجر الملتف وهم قوم شعيب، { أولئك الأحزاب } أي الطوائف الكافرة الهالكة { إن كل إلا كذب الرسل } أي ما كل واحدة منها إلا كذبت الرسل { فحق عقاب } أي وجب عقابي لهم فعاقبتهم، وما ينظر هؤلاء من قومك { إلا صيحة واحدة ما لها من فواق } أي من فتور ولا انقطاع حتى يهلك كل شيء ولا يبقى إلا وجه الله ذو الجلال والإكرام. وقوله تعالى { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } قالوا هذا لما نزل
فأما من أوتي كتبه بيمينه
[الآية: 19] الآيات من سورة الحاقة. قال غلاة الكافرين كأبي جهل وغيره استهزاء، ربنا عجل لنا قطنا أي كتابنا لنرى ما فيه من حسنات وسيئات قبل يوم القيامة والحساب والجزاء وهم لا يؤمنون ببعث ولا جزاء، وإنما قالوا هذا استهزاء وعنادا أو مكابرة فلذا قال تعالى لرسوله { اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد } أي القوة في دين الله { إنه أواب } أي رجاع إلى الله تعالى اذكره لتتأسى به في صبره وقوته في الحق وقوله تعالى { إنا سخرنا } الآيات بيان لإنعام الله تعالى على داود لتعظم الرغبة في الاقتداء به، والرغبة إلى الله تعالى فيما لديه من إفضالات { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق } أي إذا سبح داود في المساء من بعد العصر إلى الغروب وفي الاشراق وهو وقت الضحى سبحت الجبال معه أي رددت تسبيحه كرامة له والطير محشورة أي وسخرنا الطير محشورة أي مجموعة تردد التسبيح معه، وقوله { كل له أواب } أي كل من الجبال والطير أواب أي رجاع يسبح الله تعالى.
وقوله { وشددنا ملكه } أي قوينا ملك داود بمنحنا إياه كل أسباب القوة المادية والروحية. { وآتيناه الحكمة } وهي النبوة والإصابة في الأمور والسداد فيها قولا كانت أو فعلا. { وفصل الخطاب } أي حسن القضاء والبصيرة فيه، والبيان الشافي في كلامه. فبه اقتده يا رسولنا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر على أذى قريش وتكذيبها وعنادها.
2- تهديد قريش إذا أصرت على التكذيب باشد أنواع العقوبات.
3- بيان استهزاء المشركين واستخفافهم بأخبار الله تعالى وشرائعه.
4- مشروعية الأسوة والاقتداء بالصالحين.
5- بيان آية تسخير الله تعالى الجبال والطير لداود تسبح الله تعالى معه.
6- حسن صوت داود في قراءته وتسبيحه.
7- مشروعية صلاة الإشراق والضحى.
[38.21-25]
شرح الكلمات:
هل أتاك: الاستفهام هنا للتعجب أي حمل المخاطب على التعجب.
نبأ الخصم: أي خبر الخصم الغريب في بابه العجيب في واقعه.
إذ تسوروا المحراب: أي محراب مسجده إذ منعوا من الدخول من الباب فقصدوا سوره ونزلوا من أعلى السور.
بغى بعضنا على بعض: أي تعدى بعضنا على بعض.
فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط: أي احكم بالعدل ولا تجر في حكمك.
واهدنا إلى سواء الصراط: أي أرشدنا إلى العدل في قضيتنا هذه ولا تمل بنا إلى غير الحق.
إن هذا أخي: أي على ديني في الإسلام.
فقال أكفلنيها: أي اجعلني كافلها بمعنى تنازل لي عنها وملكنيها.
وعزتي في الخطاب: أي غلبني في الكلام الجدلي فأخذها مني.
لقد ظلمك بسؤال نعجتك: أي بطلبه نعجتك وضمها إلى نعاجه.
من الخلطاء ليبغي بعضهم: أي الشركاء يظلم بعضهم بعضا.
وظن داود أنما فتناه: أي أيقن داود أنما فتنه ربه أي اختبره.
فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب: أي طلب المغفرة من ربه بقوله استغفر الله وسقط ساجدا على الأرض وأناب أي رجع تائبا إلى ربه.
وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب: أي وحسن مرجع عندنا وهي الجنة والدرجات العلا فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تسلية الرسول وحمله على الصبر على ما يعاني من كفار قريش من تطاول وأذى فقال له ربه تعالى { وهل أتاك } إلى آخر الآيات. وذلك أن داود عليه السلام ذكر مرة في نفسه ما أكرم الله تعالى به إبراهيم وإسحاق ويعقوب من حسن الثناء الباقي لهم في الناس، فتمنى مثله فقيل له إنهم امتحنوا فصبر فسأل أن يبتلى كالذي ابتلوا به ويعطى كالذي أعطوا إن هو صبر فاختبره الله تعالى بناء على رغبته فأرسل إليه ملكين في صورة رجلين فتسورا عليه المحراب كما يأتي تفصيله في الآيات وهو قوله تعالى { وهل أتاك } يا رسولنا نبأ الخصم وهما ملكان في صورة رجلين، ولفظ الخصم يطلق على الواحد والأكثر كالعدو فيقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي، وهذا عدوي، وهؤلاء عدو لي. وقوله { إذ تسوروا المحراب } أي طلعوا على سور المنزل الذي هو المحراب في عرف بني إسرائيل ولم يدخلوا من الباب لأن الحرس منعهم من ذلك، لأن لداود وقتا ينقطع فيه للعبادة فلا يسمح بمقابلة أحد وقوله { إذ دخلوا على داوود ففزع منهم } أي ارتاع واضطرب نفسا { قالوا لا تخف خصمان } أي نحن خصمان { بغى بعضنا على بعض } أي اعتدى بعضنا على بعض جئنا نتحاكم إليك { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } أي لا تجر في الحكم { واهدنآ إلى سوآء الصراط } أي إلى وسط الطريق فلا تمل بنا عن الحق.
ثم عرضنا عليه القضية فقال أحدهما وهو المظلوم عارضا مظلمته { إن هذآ أخي } أي في الإسلام { له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها } أي ملكنيها أضمها إلى نعاجي، { وعزني في الخطاب } أي وغلبني في الكلام والجدال وأخذها مني. فقال داود على الفور وبدون أن يسمع من الخصم الثاني { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } وعلل لذلك بقوله { وإن كثيرا من الخلطآء } أي الشركاء في زرع أو ماشية أو تجارة { ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وهم أهل الإيمان والتقوى فإنهم يسلمون من مثل هذه الاعتداءات، { وقليل ما هم } أي وهم قليل جدا، وهنا طار الملكان من بين يدي داود وعرجا إلى السماء فعلم عندئذ أنما فتنه ربه كما رغب إليه وأنه لم يصبر حيث قضى بدون أن يسمع من الخصم الثاني فكانت زلة صغيرة أرته أن ما ناله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الكمال كان نتيجة ابتلاء عظيم، وهنا استغفر داود ربه { وخر راكعا } يبكي ويطلب العفو وأناب إلى ربه في أمره كله، وذكر تعالى أنه قبل توبته وعفا عنه فقال تعالى { فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى } أي لقربه عندنا { وحسن مآب } أي مرجع وهو الدرجات العلا في دار الأبرار، جعلنا الله تعالى من أهلها بفضله ورحمته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فائدة عرض مثل هذا القصص تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده وحمله على الصبر.
2- تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذا القصص لا يتأتى له قصه إلا بوحي إلهي.
3- تقرير جواز تشكل الملائكة في صورة بني آدم.
4- حرمة إصدار القاضي أو الحاكم الحكم قبل أن يسمع الدعوى من الخصمين معا إذ هذا محل الفتنة التي كانت لداود عليه السلام.
5- وجوب التوبة عند الوقوع في الذنب.
6- مشروعية السجود عند قراءة هذه الآية { وخر راكعا وأناب }.
[38.26-29]
شرح الكلمات:
إنا جعلناك خليفة: أي خلفت من سبقك تدبر أمر الناس بإذننا.
ولا تتبع الهوى: أي هوى النفس وهو ما تميل إليه مما تشتهيه.
فيضلك عن سبيل الله: أي عن الطريق الموصل إلى رضوانه.
إن الذين يضلون عن سبيل الله: أي يخطئون الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإيمان والتقوى.
بما نسوا يوم الحساب: أي بنسيانهم يوم القيامة فلم يتقوا الله تعالى.
باطلا: أي عبثا لغير حكمة مقصودة من ذلك الخلق.
ذلك ظن الذين كفروا: أي ظن أن السماوات والأرض وما بينهما خلقت عبثا لا لحكمة مقصودة منها ظن الذين كفروا.
فويل للذين كفروا من النار: أي من واد في النار بعيد غوره كريه ريحه لا يطاق.
مبارك: أي لا تفارقه البركة يجدها قارئه والعامل به والحاكم بما فيه.
وليتذكر أولوا الألباب: أي ليتعظ به أصحاب العقول الراجحة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر قصة داود للعظة والاعتبار وتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى { يداوود } أي وقلنا له أي بعد توبته وقبولها يا داود { إنا جعلناك خليفة في الأرض } خلفت من قبلك من الأنبياء تدبر أمر الناس { فاحكم بين الناس بالحق } أي بالعدل الموافق لشرع الله ورضاه، { ولا تتبع الهوى } وهو ما تهواه نفسك دون ما هو شرع الله، { فيضلك } أي اتباع الهوى يضلك عن سبيل الله المفضي بالعباد إلى الإسعاد والكمال وذلك أن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الإلهية انتظمت بها مصالح العباد ونفعت العامة والخاصة أما إذا كانت على وفق الهوى وتحصيل مقاصد النفس للحاكم لا غير أفضت إلى تخريب العالم بوقوع الهرج والمرج بين الناس وفي ذلك هلاك الحاكم والمحكومين، وقوله تعالى { إن الذين يضلون عن سبيل } القائم على الإيمان والتقوى وإقامة الشرع والعدل هؤلاء { لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } أي بسبب نسيانهم ليوم القيامة فتركوا العمل له وهو الإيمان والتقوى التقوى التي هي فعل الأوامر الإلهية واجتناب النواهي في العقيدة والقول والعمل، وقوله تعالى في الآية [27] { وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما باطلا } ينفي تعالى ما يظنه المشركون وهو أن خلق الكون لم يكن لحكمة اقتضت خلقه وإيجاده وهي أن يعبد الله تعالى بذكره وشكره المتمثل في الإيمان والتقوى. وقوله { ذلك ظن الذين كفروا } أي ظن أن الله خلق السماء والأرض وما بينهما لا لحكمة مقصودة وهي عبادة الله تعالى بما يشرع لعباده من العبادات القلبية والقولية والفعلية ظن الذين كفروا من كفار مكة وغيرهم. ثم توعدهم تعالى على كفرهم وظنهم الخاطئ الذي نتج عنه كفرهم وعصيانهم فقال { فويل للذين كفروا من النار } أي ويل للذين كفروا من واد في جهنم بعيد الغور كريه الريح.
وقوله تعالى في الآية [28] { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } هذا أولا رد لما زعمه المشركون من أنهم يعطون في الآخرة من النعيم مثل ما يعطى المؤمنون، وثانيا ينفي تعالى أن يسوى بين من آمن به واتبع هداه فأطاعه في الأمر والنهي، وبين من أفسد في الأرض بالشرك والمعاصي كما نفى أن يجعل المتقين الذين آمنوا واتقوا فتركوا الشرك والمعاصي كالفجار الذين فجروا أي خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلم يؤمنوا ولم يوحدوا فعاشوا كفارا فجارا وماتوا على ذلك. أي فحاشا لله رب العالمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين أن يسوي بين أهل الإيمان والتقوى وبين أهل الشرك والمعاصي بل ينعم الأولين في دار النعيم، ويعذب الآخرين في سواء الجحيم وقوله تعالى في الآية [29] { كتاب أنزلناه } أي هذا كتاب مبارك أنزلناه على رسولنا ليدبروا آياته بمعنى يتأملوها ويترووها بعقولهم فيحصلوا على هداية القلوب والعقول فيؤمنوا بالله ويعملوا بطاعته فينجوا ويسعدوا. وليذكر أولوا الألباب أي وليتعظ بمواعظه وينزجر بزواجره أولو الألباب اي العقول السليمة ووصف الكتاب وهو القرآن بالبركة هو كما أخبر الله لا تفارق القرآن البركة وهي الخير الدائم فكل من قرأه متدبرا عرف الهدى ومن قرأه تقربا حصل على القرب وفاز به ومن قرأه حاكما عدل في حكمه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الحكم بالعدل على كل من حكم ولا عدل في غير الشرع الإلهي.
2- حرمة اتباع الهوى لما يفضي بالعبد إلى الهلاك والخسار.
3- تقرير البعث والجزاء.
4- إبطال ظن من يظن أن الحياة الدنيا خلقت عبثا وباطلا.
5- تنزيه الرب تعالى عن العبث والظلم.
6- فضيلة العقول لمن استعملها في التدبر والتذكر.
7- بركة القرآن لا تفارقه أبدا وما طلبها أحد إلا وجدها.
[38.30-33]
شرح الكلمات:
ووهبنا لداود سليمان: أي ومن جملة هباتنا لداود الأواب أن وهبنا له سليمان ابنه.
نعم العبد إنه أواب: أي سليمان أي رجاع إلى ربه بالتوبة والإنابة.
الصافنات الجياد: أي الخيل الصافنات أي القائمة على ثلاث الجياد أي السوابق.
حب الخير: أي حب الخيل عن ذكر ربي وهي صلاة العصر لإنشغاله باستعراض الخيل للجهاد.
حتى توارت بالحجاب: أي استترت الشمس في الأفق وتغطت عن أعين الناظرين.
ردوها علي: أي ردوا الخيل التي استعرضتها آنفا فشغلتني عن ذكر ربي.
فطفق مسحا بالسوق: أي فأخذ يمسح بسوق تلك الخيل وأعناقها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إفضال الله على داود حيث قال { ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد } فذكر تعالى أنه وهبه سليمان وأثنى على سليمان بأنه نعم العبد لله، وعلل لتلك الأفضلية بقوله { إنه أواب } أي كثير الأوبة إلى الله تعالى، وهي الرجوع إلى الله بذكره واستغفاره عند الغفلة والنسيان العارض للعبد، وأشار تعالى إلى ذلك بقوله { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد } أي الخيل القوية على السير التي إذا وقفت تأبى أن تقف على أربع كالحمير بل تقف على ثلاث وترفع الرابعة، والجياد هي السريعة العدو، وهذا العرض كان استعراضا منه لها إعدادا لغزو أراده فاستعرض خيله فانشغل بذلك عن صلاة العصر فلم يشعر إلا وقد غربت الشمس وهو معنى قوله تعالى.
{ حتى توارت } أي استترت الشمس { بالحجاب } أي بالأفق الذي حجبها عن أعين الناظرين. فندم لذلك وقال { إني أحببت حب الخير } أي الخيل { عن ذكر ربي } وصلى العصر، ثم عاد إلى إكمال الاستعراض فردها رجاله عليه فجعل يمسح بيده سوقها وأعناقها حتى أكمل استعراضها هذا وجه الأوبة التي وصف بها سليمان عليه السلام في قوله تعالى { إنه أواب }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الولد الصالح هبة إلهية لوالده فليشكر الله تعالى من وهب ذلك.
2- الثناء على العبد بالتوبة الفورية التي تعقب الذنب مباشرة.
3- جواز استعراض الحاكم القائد قواته تفقدا لها لما قد يحدثه فيها .
4- اطلاق لفظ الخير على الخيل فيه تقرير أن الخيل إذا ربطت في سبيل الله كان طعامها وشرابها حسنات لمن ربطها في سبيل الله كما في الحديث الصحيح " الخيل لثلاث..... ".
5- ربط الطائرات النفاثة في الحظائر اليوم والمدرعات وإعدادها للقتال في سبيل الله حل محل ربط الجياد من الخيل في سبيل الله.
[38.34-40]
شرح الكلمات:
ولقد فتنا سليمان: أي ابتليناه.
وألقينا على كرسيه جسدا: أي شق ولد ميت لا روح فيه.
ثم أناب: أي رجع إلى ربه وتاب إليه من عدم استثنائه في يمينه.
وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي: أي أعطني ملكا لا يكون لسواي من الناس.
فسخرنا له الريح: أي استجبنا له فسخرنا له الريح تجري بأمره.
رخاء حيث أصاب: أي لينة حيث أراد.
والشياطين كل بناء وغواص: أي وسخرنا له الشياطين من الجن منهم البناء ومنهم الغواص في البحر.
مقرنين في الأصفاد: أي مشدودين في الأصفاد أيديهم إلى أعناقهم في السجون المظلمة وذلك إذا تمردوا وعصوا أمرا من أوامره.
هذا عطاؤنا: أي وقلنا له هذا عطاؤنا.
فامنن أو امسك: أي أعط من شئت وما شئت وامنع كذلك.
بغير حساب: أي منا لك.
وإن له عندنا لزلفى: أي وإن لسليمان عندنا لقربة يوم القيامة.
وحسن مآب: أي مرجع في الجنة في الدرجات العلا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إنعام الله على آل داود فقد أخبر تعالى هنا عما من به على سليمان فأخبر تعالى أنه ابتلاه كما ابتلى أباه داود وتاب سليمان كما تاب داود ولم يسقط ذلك من علو منزلتهما وشرف مقامهما قال تعالى في الآية [34] { ولقد فتنا سليمان } أي ابتليناه، وذلك أنه كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأطأن الليلة مائة جارية تلد كل جارية ولدا يصبح فارسا يقاتل في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله أي لم يستثن ووطئ نساءه في تلك الليلة فعوقب لعدم استثنائه فلم يلدن إلا واحدة جاءت بولد مشلول بالشلل النصفي فلما وضعته أمه أتوا به إلى سليمان ووضعوه على كرسيه. وهو قوله تعالى { وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } سليمان إلى ربه فاستغفر وتاب فتاب الله عليه وقال { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } أي لا يكون مثله لسواي من الناس وتوسل إلى الله في قبول دعائه بقوله { إنك أنت الوهاب } فاستجاب الله تعالى له فسخر له الريح تجري بأمره حيث يريد لأنها تحمل بساطه أو سفينته الهوائية التي غدوها شهر ورواحها رخاء أي لينة حيث أصاب أي أراد، كما سخر له شياطين الجن منهم البناء الذي يقوم بالبناء للدور والمصانع ومنهم الغواص في أعمال البحر لاستخراج اللآلي، ومنهم من إذا عصاه وتمرد عليه جمع يديه إلى عنقه بصفد ووضعه تحت الأرض. هذا ما جاء في قول الله تعالى { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخآء حيث أصاب والشياطين كل بنآء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد } وقوله تعالى { هذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } أي أعطيناه ما طلب منا وقلنا له هذا اعطاؤنا لك فامنن أي أعط ما شئت لمن شئت وامنع ما شئت عمن شئت بغير حساب منا عليك.
وفوق هذا وإن لك عندنا يوم القيامة للقربة وحسن المرجع وهو قوله تعالى { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير قول بعضهم حسنات الأبرار سيئات المقربين إذ عدم الاستثناء في قوله لأطأن الليلة مائة جارية الحديث عوقب به فلم تلد امرأة من المائة إلا واحدة وولدت طفلا مشلولا، وعوقب به نبينا صلى الله عليه وسلم فانقطع عنه الوحي نصف شهر وأكربه ذلك لأنه لم يستثن عندما سئل عن ثلاث مسائل وقال غدا أجيبكم.
2- مشروعية التوبة من كل ذنب صغيرا كان أو كبيرا.
3- مشروعية التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى.
4- بيان إنعام الله تعالى على عبده سليمان.
5- بيان تسخير الله تعالى لسليمان الريح والجن وهذا لم يكن لأحد غيره من الناس.
[38.41-44]
شرح الكلمات:
واذكر عبدنا أيوب: أي اذكر يا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبدنا أيوب بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم.
بنصب وعذاب: أي بضر وألم شديد نسب هذا للشيطان لكونه سببا وتأدبا مع الله تعالى.
اركض برجلك: أي اضرب برجلك الأرض تنبع عين ماء.
هذا مغتسل بارد وشراب: أي وقلنا له هذا ماء بارد تغتسل منه، وتشرب فتشفى.
ضغثا: أي حزمة من حشيش يابس.
ولا تحنث: بترك ضربها.
نعم العبد: أي أيوب عليه السلام.
إنه أواب: أي رجاع إلى الله تعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر قصص الأنبياء ليثبت به فؤاد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى له { واذكر عبدنآ أيوب } وهو أيوب بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام { إذ نادى ربه } أي دعاه قائلا { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } أي ألم شديد، وذلك بعد مرض شديد دام مدة تزيد على كذا سنة، وقال في ضراعة أخرى ذكرت في سورة الأنبياء
ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين
[الآية: 83] قال تعالى
فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم
[الآية: 84] وقوله { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } أي لما أراد الله كشف الضر عنه قال له اركض برجلك اي اضرب برجلك الأرض ينبع منها ماء فاشرب منه واغتسل تشف ففعل فشفي كأن لم يكن به ضر البتة. وقوله تعالى { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم } أي عوضه الله تعالى عما فقد من أهل وولد، وقوله { رحمة منا } أي كان ذلك التعويض لأيوب رحمة منا { وذكرى لأولي الألباب } أي عبرة لأولي القلوب الحية الواعية يعلمون بها أن الله قد يبتلي أحب عباده إليه ليرفعه بذلك درجات عالية ما كان ليصل إليها دون الابتلاء في ذات الله والصبر عليه. وقوله { وخذ بيدك ضغثا } أي قلنا له خذ بيدك ضغثا أي حزمة من حشيش يابس واضرب به امرأتك ضربة واحدة إذ في الحزمة مائة عود وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة لما حصل منها من تقصير في يوم من أيام حياتهما، فأفتاه ربه تعالى بما ذكر في هذه الآية. وقوله تعالى { إنا وجدناه صابرا } أي قد اختبرناه بالمرض وفقد الأهل والمال والولد فوجدناه صابرا، وبذلك أثنى عليه بقوله { نعم العبد } أي أيوب { إنه أواب } رجاع إلى ربه في كل أمره لا يعرف إلا الله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من طريق هذا القصص الذي لا يتأتى إلا بالوحي الإلهي.
2- قد يبتلي الله تعالى من يحبه من عباده ليزيد في علو مقامه ورفعة شأنه.
3- فضل الصبر وعاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة.
4- مشروعية الفتيا وهي خاصة بأهل الفقه والعلم.
5- وجوب الكفارة على من حنث في يمينه.
[38.45-54]
شرح الكلمات:
واذكر عبادنا: أي اذكر صبرهم على ما أصابهم فإن لك فيهم أسوة.
أولي الأيدي: أي أصحاب القوى في العبادة.
والأبصار: أي البصائر في الدين بمعرفة الأسرار والحكم.
بخالصة: أي هي ذكر الدار الآخرة والعمل لها.
لمن المصطفين الأخيار: أي من المختارين الأخيار جمع خير.
هذا ذكر: أي لهم بالثناء الحسن الجميل هنا في الدنيا.
وإن للمتقين: أي هم وغيرهم من سائر المؤمنين والمؤمنات.
لحسن مآب: أي مرجع أي عندما يرجعون إلى ربهم بالوفاة.
متكئين فيها: أي على الأرائك.
يدعون فيها بفاكهة: أي يطالبون فيها بفاكهة وذكر الفاكهة دون الطعام والشراب إيذانا بأن طعامهم وشرابهم لمجرد التلذذ لا للتغذية كما في الدنيا.
قاصرات الطرف: أي حابسات العيون على الأزواج فلا ينظرن إلى غيرهم.
أتراب: أي أسنانهن متساوية وهي ثلاث وثلاثون سنة.
ماله من نفاد: أي ليس له انقطاع أبدا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر الأنبياء وما أكرموا به على صبرهم ليكون ذلك مثبتا للنبي صلى الله عليه وسلم على دعوته والصبر عليها والتحمل في سبيل الوصول بها إلى غاياتها فقال تعالى له { واذكر } أي يا نبينا { عبادنآ } لتتأسى بهم وهم { إبراهيم وإسحاق } وولده { يعقوب } حفيده { أولي } أي أصحاب { الأيدي } أي القوى في العبادة والطاعة { والأبصار } أي أبصار القلوب وذلك بالفقه في الدين ومعرفة أسرار التشريع، وقوله تعالى { إنآ أخلصناهم } أي خصصناهم { بخالصة } أي بخاصة امتازوا بها هي ذكر الدار أي ذكر الدار الآخرة بالعمل لها والدعوة إليها بالإيمان والتقوى، وقوله { وإنهم عندنا لمن المصطفين } أي المختارين { الأخيار } جمع خير وهو المطبوع على الخير وقوله { واذكر } أي يا نبينا للائتساء { إسماعيل واليسع وذا الكفل } وقوله { وكل } أي من داود ومن ذكر بعده من الأنبياء كانوا من الأخيار، وقوله { هذا ذكر } أي لهم بالثناء الحسن لهم في الدنيا، { وإن للمتقين } هم وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات { لحسن مآب } أي مرجع وهو الجنة حيث يرجعون إلى الله تعالى بعد الموت، وفسر ذلك المرجع بقوله تعالى { جنات عدن } أي إقامة { مفتحة لهم الأبواب } { متكئين فيها } أي على الأرائك الأسرة بالحجلة، { يدعون فيها } أي يطالبون فيها { بفاكهة كثيرة وشراب } ولم يذكر الطعام إشارة إلى أن مآكلهم ومشاربهم لمجرد التلذذ لا للتغذي بها كما في الدنيا، وقوله { وعندهم قاصرات الطرف } يخبر تعالى أن لأولئك المتقين في الجنة قاصرات الطرف أي نساء قاصرات الطرف أي حابسات له على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم من الأزواج وقوله { أتراب } أي في سن واحدة وهي ثلاث وثلاثون سنة. وقوله تعالى { هذا ما توعدون } أي يقال لهم هذا ما توعدون { ليوم الحساب } أي هذا المذكور من النعيم هو ما يعدكم به ربكم يوم القيامة.
وقوله { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } أي ليس له انقطاع ولا فناء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة القوة في العبادة والبصيرة في الدين وفي الحديث
" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ".
2- فضل ذكر الدار الآخرة وتذكرها دائما لأنها تساعد على الطاعة.
3- فضل التقوى وأهلها وبيان ما أعد لهم يوم الحساب.
4- نعيم الآخرة لا ينفد كأهلها لا يموتون ولا يهرمون.
5- فضيلة الائتساء بالصالحين والاقتداء في الخير بهم وهم أولوا القوة في العبادة والبصيرة في الدين.
[38.55-64]
شرح الكلمات:
هذا: أي المذكور للمتقين.
وإن للطاغين: أي الذين طغوا في الكفر والشر والفساد.
لشر مآب: أي جهنم يصلونها.
فبئس المهاد: أي الفراش الذي مهدوه لأنفسهم في الدنيا بالشرك والمعاصي.
هذا فليذوقوه: أي العذاب المفهوم مما بعده فليذوقوه.
حميم: أي ماء حار محرق.
وغساق: أي قيح وصديد يسيل من لحوم وفروج الزناة في النار.
وآخر من شكله أزواج: أي وعذاب آخر كالحميم والغساق أصناف.
هذا فوج مقتحم معكم: أي يقال لهم عند دخولهم النار هذا فوج مقتحم معكم.
لا مرحبا بهم: أي لا سعة عليهم ولا راحة لهم إنهم صالو النار.
قالوا أي الاتباع للطاغين: بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا.
قالوا ربنا من قدم لنا هذا: أي الأتباع أي من كان سببا في عذابنا هذا في جهنم فزده عذابا.
وقالوا ما لنا لا نرى رجالا: أي قال الطاغون وهم في النار مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار في الدنيا يعنون فقراء المسلمين كبلال وعمار وصهيب.
اتخذناهم سخريا: أي كنا نسخر منهم في الدنيا.
أم زاغت عنهم الأبصار: أي امفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار؟ فلم نرهم.
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار: أي إن ذلك المذكور لأهل النار لحق ثابت وهو تخاصم أهل النار.
معنى الآيات:
بعد ذكر نعيم أهل الإيمان والتقوى ناسب ذكر شقاء أهل الكفر والفجور وهو أسلوب الترهيب والترغيب الذي امتاز به القرآن الكريم في هداية العباد. فقال تعالى { هذا } أي ما تقدم ذكره من نعيم أهل السعادة { وإن للطاغين } وهم المشركون الظلمة كأبي جهل وعتبة بن معيط والعاص بن وائل { لشر مآب } أي لأسوأ مرجع وأقبحه وهو { جهنم يصلونها فبئس المهاد } هي يمهدها الظالمون لأنفسهم. وقوله تعالى { هذا فليذوقوه حميم وغساق } أي هذا حميم وغساق فليذوقوه والحميم الماء الحار المحرق والغساق ما سال من جلود ولحوم وفروج الزناة من أهل النار كالقيح والصديد وقوله { وآخر من شكله } أي وعذاب آخر من شكل الأول { أزواج } أي أصناف عديدة وقوله تعالى { هذا فوج مقتحم معكم } أي يقال عند دخولهم النار هذا فوج أي فريق مقتحم معكم النار، فيقول الطاغون { لا مرحبا بهم } أي لا سعة ولا راحة لهم { إنهم صالوا النار } أي داخلوها محترقون بحرها ولهبها، فيرد الأتباع عليهم قائلين { بل أنتم لا مرحبا بكم } أي لا سعة ولا راحة { أنتم قدمتموه لنا } إذ كنتم تأمروننا بالشرك والكفر والفجور قال تعالى { قالوا فبئس القرار } أي الذي انتهى إليه الطاغون وأتباعهم في النار، وقالوا أيضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { قالوا ربنا من قدم لنا هذا } أي العذاب { فزده عذابا ضعفا في النار } أي يا ربنا ضاعف لهم العذاب مرتين لأنهم هم الذين قدموه لنا يوم كانوا يدعوننا إلى الشرك والباطل ويحضوننا عليه.
وقوله تعالى { وقالوا } أي الطغاة { ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار } بيننا { أتخذناهم } في الدنيا { سخريا } نسخر منهم يعنون فقراء المسلمين كبلال وعمار وصهيب وخبيب، أمفقودون هم { أم زاغت عنهم } أبصارنا فلم نرهم، قال تعالى { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } أي إن ذلك الكلام الذي دار بين أهل النار حق وصدق هو تخاصم أهل النار فاسمعوه ايها المشركون اليوم آيات تتلى وغدا يوم الحساب حقائق تشاهدوه وغصص تتجرع وحسرات تمزق الأكباد والقلوب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ذم الطغيان وهو مجاوزة الحد في الظلم والكفر وبيان جزاء أهله يوم القيامة.
2- بيان ما يجري من خصام بين أهل النار للعظة والاعتبار.
3- شكوى الأتباع ممن اتبعوهم في الضلال ومطالبتهم بمضاعفة العذاب لهم.
4- تذكر أهل النار فقراء المسلمين الذين كانوا يعدونهم متخلفين ورجعيين لأنهم كانوا لا يأتون الفجور والشرور مثلهم.
[38.65-74]
شرح الكلمات:
قل: أي يا رسولنا لمشركي قومك أي مخوفا من عذاب الله.
وما من إله إلا الله الواحد القهار: أي وليس هناك من إله قط إلا الله الواحد القهار.
العزيز الغفار: أي الغالب الذي لا يمانع في مراده الغفار للتائبين من عباده.
قل هو نبأ عظيم: أي قل يا رسولنا لكفار مكة القرآن نبأ عظيم وخبر جسيم.
أنتم عنه معرضون: لا ترغبون في سماعه ولا في تدبر معانيه.
بالملأ الأعلى: أي بالملائكة عندما شووروا في خلق آدم.
إذ قال ربك للملائكة: أي اذكر لهم تدليلا على أنه يوحى إليك القرآن إذ قال ربك للملائكة.
خالق بشرا من طين: أي خالق آدم من مادة الطين وقيل فيه بشر لبدو بشرته.
من روحي: الروح جسم لطيف يسري في الجسم سريان النار في الفحم أو الماء في الشجر أو الكهرباء في الأسلاك.
إلا إبليس: أي لم يسجد.
استكبر: عن السجود لآدم كبرا وحسدا له.
معنى الآيات:
بعد كل ذلك العرض للقصص ولما في الجنة والنار وما تقرر به من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء أمر تعالى رسوله أن يقول لمشركي قريش { إنمآ أنا منذر } أي مخوف من عذاب الله الواجب لكل من كفر به وكذب بآياته ولقاه وترك عبادته وعبد الشيطان عدوه، كما أخبركم مقررا أنه ليس هناك من إله قط إلا الله الواحد في ذاته وصفاته وربوبيته وعبادته القهار لكل قاهر والجبار لكل جبار رب السماوات والأرض وما بينهما أي مالك لها متصرف فيها دون شريك له في ذلك. العزيز الانتقام ممن كفر به وعصاه الغفار لمن أناب إليه واتبع هداه. وقوله تعالى { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون } أي يأمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين من أهل مكة هو أي القرآن وما حواه من تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وعرض القصص والأحداث ووصف الجنة والنار نبأ عظيم أي خبر ذو شأن عظيم أنتم عنه معرضون تأبون سماعه والإيمان به والاهتداء بهديه. بدعوى أني اختلقته وافتريته وهي حجة داحضة وأدلتكم في ذلك واهية. كيف يكون ما اتلوه عليكم من القرآن افتراء مني عليكم وعلى الله ربي وربكم. وانه ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون عندما قال الله للملائكة { إني خالق بشرا من طين } وقال
إني جاعل في الأرض خليفة
[البقرة: 30] فقال الملائكة
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء
[البقرة: 30] كيف عرفت أنا هذا وحدثت به لو لم يكن وحيا من الله أوحاه إلي. يا قوم إنه ما يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين أي بين النذارة . فلم يوح إلي الأمر بالتسلط عليكم وأخذكم بالشدة لأستعبدكم وتكونوا خولا لي وخدما لا، لا.
إنما يوحى إلي لتقرير حقيقة واحدة وهي أني نذير لكم ولغيركم من عذاب الله المعد لمن كفر به وأشرك في عبادته، وفسق عن طاعته. وقوله تعالى في الآية [71] { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين } هو آدم عليه السلام { فإذا سويته } أي أتممت خلقه { ونفخت فيه من روحي } فحييى وصار بشرا سويا { فقعوا له ساجدين } أي خروا على الأرض ساجدين له طاعة لأمرنا وتحية لعبدنا، { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } سواء من كان منهم في السماوات أو في الأرض { إلا إبليس } استكبر عن السجود لآدم لزعمه الكاذب أنه خير منه لكونه من النار وآدم من طين، ولحسده أيضا حيث فضله وفضل عليه، وكان بذلك الكبر الحسد من الكافرين إذ جحد معلوما من طاعة الله بالضرورة وكيف وهو يتلقى الخطاب من الله تعالى بلا واسطة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بأدلته.
2- تقرير النبوة والوحي بشواهده من نبأ الملأ الأعلى.
3- عداوة إبليس لآدم وأن الحامل عليها الحسد والكبر وهما من شر صفات العبد.
4- تقرير أن من القياس وما هو شر وباطل كقياس إبليس إذ قاس النار على التراب فرأى أن النار أفضل فهلك بذلك، إذ التراب أفضل النار تحرق والتراب يحيي، وشتان ما بين الموت والحياة.
[38.75-88]
شرح الكلمات:
لما خلقت بيدي: أي للذي خلقته بيدي وهو آدم فدل ذلك على شرفه.
استكبرت أم كنت من العالين: استكبرت الآن أم كنت من قبل من العالين المتكبرين والاستفهام للتوبيخ. والتقريع لإبليس.
فاخرج منها: أي من الجنة.
فإنك رجيم: أي مرجوم مطرود.
وأن عليك لعنتي إلى يوم الدين: أي طرده من الجنة وألحقه لعنة وهي الطرد من الرحمة إلى يوم الدين أي الجزاء وهو يوم القيامة.
قال رب فانظرني: أي أخر موتي وأبق علي حيا إلى يوم يبعثون أي الناس.
إلى يوم الوقت المعلوم: أي إلى النفخة الأولى وهي نفخة الموت والفناء.
إلا عبادك منهم المخلصين: أي الذين استخلصتهم للإيمان بك وعبادتك ومجاورتك في الجنة.
قل ما أسألكم عليه من أجر: لا أسألكم على البلاغ أجرا تعطونه لي.
وما أنا من المتكلفين: أي المتقولين القرآن ومات أنذركم به من تلقاء نفسي.
إن هو إلا ذكر للعالمين: أي ما أتلوه من القرآن وما أقوله من الهدى إلا ذكر للعالمين.
ولتعلمن نبأه بعد حين: أي ولتعلمن أيها المكذبون نبأ القرآن الذي أنبأ به من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين بعد حين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر ما دار بين الرب تعالى وعدوه إبليس من حديث في الملأ الأعلى إذ قال تعالى بعد أن امتنع إبليس من السجود لآدم { يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } أي أي شيء جعلك تمتنع من السجود لآدم وقد أمرتك بذلك { أستكبرت } أي الآن { أم كنت } من قبل { من العالين } أي المستكبرين، وهذا الاستفهام من الله تعالى توبيخ لإبليس وتقريع له. وأجابه إبليس بما أخبر تعالى به عنه في قوله { قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } فاستعمل اللعين القياس الفاسد المردود عند أرباب العقول، إذ النار لم تكن أبدا خيرا من الطين، النار تحرق ونهايتها رماد، والطين لا يحرق ومنه سائر أنواع المغذيات التي بها الحياة الحبوب والثمار والفواكه والخضر واللحوم وحسبه أنه أصل الإنسان ومادة خلقته. فأي شرف للنار أعظم لو كان اللعين يعقل. وهنا قال تعالى له { فاخرج منها } أي من الجنة { فإنك رجيم } أي مطرود مبعد لا ينبغي أن تبقى في رحمة الله، { وإن عليك لعنتي } لا تفارقك على مدى الحياة وهي بعد من رحمتي طوال الحياة.
وهنا قال اللعين لما آيس من الرحمة { رب فأنظرني } أي ابق علي حيا لا تمتني { إلى يوم يبعثون } حتى يتمكن من إغواء بني آدم، ولا يموت إذا ماتوا في النفخة الأولى فلا يذوق هو الموت وعلم الله ما أضمره في نفسه فرد عليه بقوله { فإنك من المنظرين } أي الممهلين المبقى على حياتهم { إلى يوم الوقت المعلوم } وهو النفخة الأولى حتى يموت مع سائر الخلائق ولما علم اللعين أنه أنظر قال في صفاقة وجه ووقاحة قول مقسما بعزة الله { فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } فاستثنى اللعين عباد الله المؤمنين المتبقين الذين استخلصهم الله لطاعته وجواره في دار كرامته.
وهنا قال تعالى ردا على اللعين { قال فالحق } أي أنا الحق { والحق أقول } { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم } أي من الإنس والجن أجمعين. وإلى هنا انتهى ما دار من خصومة في الملأ الأعلى، وكيف عرف محمد صلى الله عليه وسلم هذا وأخبر به لولا أنه وحي يوحى إليه. وهنا قال تعالى لرسوله قل لقومك المكذبين برسالتك { مآ أسألكم عليه } أي على البلاغ { من أجر ومآ أنآ من المتكلفين } الذين يتقولون على الله ويقولون ما لم يقل { إن هو } أي القرآن { إلا ذكر للعالمين } من الإنس والجن يذكرون به فيؤمنون ويهتدون { ولتعلمن نبأه بعد حين } أي ولتعرفن صدق ما أخبر به من وعد ووعيد وصلاحية ما تضمنه من تشريع بعد حين، وقد عرف بعضهم ذلك يوم بدر، ويوم الفتح، ويوم موته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ذم الكبر والحسد وحرمتهما وبيان جزائهما.
2- مشروعية القياس إن كان قياس صحيحا، وبيان أخطار القياس الفاسد.
3- مشروعية القسم بالله وبصفاته وأسمائه.
4- بيان أن من كتب الله سعادتهم لا يقوى الشيطان على إغوائهم وإضلالهم.
5- لا يجوز أخذ الأجرة على بيان الحق والدين.
6- ذم التكلف المفضي إلى الكذب والتقول على الله وعلى الرسول والمؤمنين.
7- ظهر مصداق ما أخبر به القرآن بعد حين قصير وطويل.
[39 - سورة الزمر]
[39.1-4]
شرح الكلمات:
تنزيل الكتاب: أي القرآن من الله.
العزيز الحكيم: أي العزيز في ملكه وانتقامه الحكيم في صنعه وتدبير خلقه.
مخلصا له الدين: أي مفردا إياه بالعبادة فلا تشرك بعبادته أحدا.
لله الدين الخالص: أي له وحده خالص العبادة لا يشاركه في ذلك أحد سواه.
أولياء: أي شركاء وهي الأصنام.
ليقربونا إلى الله زلفى: أي تقريبا وتشفع لنا عند الله.
من هو كاذب كفار: أي كاذب أي على الله كفار بعبادته غير الله تعالى.
سبحانه: أي تنزيها له عن الولد والشريك.
هو الله الواحد القهار: أي المعبود الحق الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه القهار لخلقه.
معنى الآيات:
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم يخبر تعالى أن تنزيل القرآن كان منه سبحانه وتعالى وهو العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبير خلقه. ولم يكن عن غيره بحال من الأحوال وقوله تعالى { إنآ أنزلنآ إليك الكتاب بالحق } يخبر تعالى رسوله بقوله { إنآ أنزلنآ إليك الكتاب } أي القرآن العظيم { بالحق } في كل ما جاء فيه ودعا إليه من العقائد والعبادات والأحكام وعليه { فاعبد الله مخلصا له الدين } أي العبادة فلا تعبد معه غيره فإن العبادة لا تصلح لغيره أبدا { ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أوليآء } أي شركاء يعبدونهم ويقولون { ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى } أي تقريبا ويشفعوا لنا عند الله في قضاء حوائجنا هؤلاء يحكم الله بينهم في ما هم فيه مختلفون مع المؤمنين الموحدين وذلك يوم القيامة وسيجزي بعدله كلا بما يستحقه من إنعام وتكريم أو شقاء وتعذيب. وقوله تعالى { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } يخبر تعالى بحرمان أناس من هدايته وهم الذين توغلوا في الفساد فكذبوا على الله تعالى وعلى عباده وأصبح الكذب وصفا لازما لهم، وكفروا وبالغوا في الكفر بالله وآياته ورسوله ولقائه فأصبح الكفر وصفا ثابتا لهم، إذ هذه سنته في حرمان العبد من الهداية ليمضي فيه حكم الله باشقائه وتعذيبه يوم القيامة. وقوله تعالى { لو أراد الله أن يتخذ ولدا } كما يزعم المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله، وكما قال النصارى المسيح ابن الله، وكما قال اليهود عزير بن الله، ولو أراد الله أن يكون له ولد لاصطفى واختار مما يخلق ما يشاء، ولا يتركهم ينسبون إليه الولد افتراء عليه وكذبا، ولكنه تعالى منزه عن صفات المحدثين وافتقار المخلوقين إذ هو الله ذو الألوهية على سائر خلقه الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه وحكمه القهار لسائر خلقه فسبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية.
2- تقرير التوحيد.
3- بطلان الشرك والتنديد بالمشركين.
4- تقرير البعث والجزاء يوم القيامة.
[39.5-7]
شرح الكلمات:
خلق السماوات والأرض بالحق: أي من أجل أن يذكر ويشكر لا من أجل اللهو العبث.
يكور الليل على النهار: أي يدخل أحدهما في الآخر فإذا جاء الليل ذهب النهار والعكس كذلك.
وسخر الشمس والقمر: أي ذللهما فلا يزالان يدوران في فلكيهما إلى نهاية الحياة وبدورتهما تتم مصالح سكان الأرض.
خلقكم من نفس واحدة: هي آدم عليه السلام.
ثم جعل منها زوجها: هي حواء خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر.
وأنزل لكم من الأنعام: أي أنزل المطر فأنبت العشب فخلق الأنعام فهذا وجه لإنزالها.
ثمانية أزواج: أي من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين.
يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق: أي أطوارا طورا بعد طور نطفة فعلقة فمضغة.
في ظلمات ثلاث: أي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة.
ولا تزر وازرة وزر أخرى: أي لا تحمل نفس ذات وزر وزر نفس أخرى.
إنه عليم بذات الصدور: أي ما يخفيه المرء في صدره وما يسره في ضميره.
معنى الآيات:
هذه الآيات الكريمة في تقرير التوحيد بذكر الأدلة والبراهين التي لا تدع للشك مجالا في نفوس العقلاء فقال تعالى في الآية [5] { خلق السموت والأرض } أي أوجدهما خلقا على غير مثال سابق وخلقهما بالحق لغايات سامية شريفة وليس للباطل والعبث ومن تلك الغايات أن يعبد فيها فيذكر ويشكر. وقوله { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } أي يغشى هذا هذا فيغطيه به ويستره كأنما لفه عليه وغشاه به وهذا برهان ثان فالأول برهان الخلق للسماوات والأرض وبرهان ثالث في قوله { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } يدوران في فلكيهما إلى قيام الساعة وفي ذلك من الفوائد والمصالح للعباد مالا يقادر قدره من ذلك معرفة عدد السنين والحساب. وقوله { ألا هو العزيز الغفار } إعلان وتنبيه بأنه تعالى عزيز في بطشه وانتقامه من أعدائه غفار لعباده التائبين إليه. وقوله تعالى في الآية [6] { خلقكم من نفس واحدة } هي آدم عليه السلام فقد صح أنه لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذريته وأشهدهم على أنفسهم، ولهذا جاء العطف بثم إذ قال { خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها } أي بعد أن مسح على ظهر آدم وأخرج ذريته من ظهره وأشهدهم على أنفسهم خلق حواء من ضلعه الأيسر، وهذا برهان وآخر في قوله { وأنزل لكم من الأنعام } وهي الإبل والبقر والغنم ضأن وماعز وهي ذكر وأنثى فالذكر زوج والأنثى زوج فهي ثمانية أزواج وجائز أن يكون أصل هذه الأنعام قد أنزله من السماء كما أنزل آدم وحواء من السماء، وجائز أن يكون أنزل الماء فنبت العشب وتكونت هذه الأنعام من ذلك فالأصل الإنزال من السماء وتدرج الخلق كان في الأرض.
وبرهان رابع في قوله { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق } أي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم نكسو العظام لحما فإذا هو إنسان كامل وقوله { أزواج في ظلمات ثلاث } هي ظلمة بطن الأم، ثم ظلمة الرحم، ثم ظلمة المشيمة، وهي غشاء يكون للولد وفي الحيوان يقال له السلي وقوله بعد ذكر هذه البراهين قال { ذلكم الله ربكم } أي خالقكم ومعبودكم الحق { له الملك لا إله إلا هو } أي لا معبود إلا هو إذ لا تصلح العبادة إلا له { فأنى تصرفون } أي كيف تصرفون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال إن أمركم عجب. وقوله في الآية [7] { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } أي بعد أن بين بالأدلة القاطعة وجوب الإيمان به ووجوب عبادته، وأنه الرب الحق وإله الحق أعلم عباده أن كفرهم به لا يضره أبدا لأنه غني عنهم وعن سائر خلقه إلا أنه لرحمته بعباده لا يرضى لهم الكفر لما يسببه لهم من شقاء وخسران، كما أنهم إن آمنوا وشكروا يرضه لهم فيثيبهم أحسن ثواب ويجزيهم أحسن جزاء . وقوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } هذا مظهر من مظاهر عدله بين عباده وهو أن نفسا ذات وزر أي ذنب لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل نفس تحمل وزرها وتتحمل تبعته ونتائجه وحدها. وقوله تعالى { ثم إلى ربكم مرجعكم } أي بعد الموت { فينبئكم بما كنتم تعملون } أي فيخبركم بأعمالكم خفيها وجليها صغيرها وكبيرها { إنه عليم بذات الصدور } فضلا عما كان عملا ظاهرا غير باطن ويجزيكم بذلك الخير بمثله والشر بمثله. فهذا ربكم الحق وإلهكم الصدق فآمنوا به ووحدوه ولا تشركوا به وأطيعوه ولا تعصوه تنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة. ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان آيات الله في الكون وإيرادها أدلة على التوحيد.
2- بيان إفضال الله تعالى على العباد في خلقهم ورزقهم.
3- بيان أن الكفر أعجب من الإيمان إذ أدلة الإيمان لا تعد كثرة وأما الكفر فلا دليل عليه البتة ومع هذا أكثر الناس كافرون.
4- بيان غنى الله تعالى عن خلقه وافتقار الخلق إليه.
5- بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة وتقريرها.
6- بيان إحاطة علم الله بالخلق وعلمه بأفعالهم وأحوالهم ظاهرا وباطنا.
[39.8-9]
شرح الكلمات:
وإذا مس الإنسان: الإنسان أي المشرك.
ضر: أي مرض أو خوف غرق ونحوه من كل مكروه لا يقدر على دفعه.
دعا ربه منيبا إليه: أي سأل ربه كشف ما أصابه من ضر راجعا إليه معرضا عمن سواه.
إذا خوله نعمة منه: أي أعطاه نعمة منه بأن كشف ما به من ضر.
نسي ما كان يدعو إليه من قبل: أي ترك ما كان يتضرع إليه من قبل وهو الله سبحانه وتعالى.
وجعل لله أندادا: أي شركاء.
ليضل عن سبيله: أي ليضل نفسه وغيره عن الإسلام.
قل تمتع بكفرك قليلا: أي قل يا نبينا لهذا الكافر الضال المضل تهديدا تمتع بكفرك بقية أجلك.
إنك من أصحاب النار: أي أهلها المتأهلين لها بخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم.
قانت آناء الليل: أي مطيع لله آناء الليل أي ساعات الليل ساجدا وقائما في الصلاة .
إنما يتذكر أولوا الألباب: أي يتعظ بما يسمع من الآيات أصحاب العقول النيرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد، فقال تعالى مخبرا عن حال المشرك بربه المتخذ له أندادا يعبدها معه { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه } أي سأل ربه راجعا إليه رافعا إليه يديه يا رباه يا رباه سائلا تفريج ما به وكشف ما نزل به { ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل } حتى إذا فرج الله كربه ونجاه، ترك دعاء الله، وأقبل على عبادة غير الله، { وجعل لله أندادا } أي شركاء { ليضل } نفسه وغيره. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول له نيابة عن الله تعالى قل يا رسولنا لهذا المشرك الكافر تمتع بكفرك قليلا أي مدة بقية عمرك إنك من أصحاب النار، هكذا هدده ربه وخوفه بعاقبة أمر الشرك والتنديد لعله ينتهي فيتوب توبة صادقة ويرجع إلى الله رجوعا حسنا جميلا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [8] أما الآية الثانية [9] فيقول تعالى { أمن هو قانت } أي مطيع لله ورسوله في أمرهما ونهيهما { آنآء اليل } أي ساعات الليل تراه ساجدا في صلاته أو قائما يتلو آيات الله في صلاته، وفي نفس الوقت هو يحذر عذاب الآخرة ويسأل الله تعالى أن يقيه منه، ويرجو رحمة ربه وهي الجنة أن يجعله الله من أهلها أهذا خير أم ذلك الكافر الذي قيل له تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار، والجواب معلوم للعقلاء وقوله تعالى { هل يستوي الذين يعلمون } محاب الله ومكارهه وهم يعملون على الإتيان بمحاب الله تقربا إليه، وعلى ترك مكارهه تحببا إليه، هل يستوي هؤلاء العاملون مع الذين لا يعلمون ما يحب وما يكره فهم يتخبطون في الضلال تخبط الجاهلين؟ والجواب لا يستوون وإنما يتذكر بمثل هذا التزجيه الإلهي والإرشاد الرباني أصحاب الألباب أي العقول السليمة الراجحة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.
2- الكشف عن داخلية الإنسان قبل أن يؤمن ويسلم وهو أنه إنسان متناقض لا خير فيه ولا رشد له، فلا يرشد ولا يكمل إلا بالإيمان والتوحيد.
3- بشرى الضالين عن سبيل الله المضلين عنه بالنار.
4- مقارنة بين القانت المطيع، والعاصي المضل المبين، وبين العالم والجاهل، وتقرير أفضلية المؤمن المطيع على الكافر العاصي. وأفضلية العالم بالله وبمحابة ومكارهه والجاهل بذلك.
5- فضل العالم على الجاهل لعمله بعلمه ولولا العمل بالعلم لاستويا في الخسة والانحطاط.
[39.10-16]
شرح الكلمات:
اتقوا ربكم: أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بالإيمان والتقوى.
للذين أحسنوا: أي أحسنوا العبادة.
حسنة: أي الجنة.
أرض الله واسعة: أي فهاجروا فيها لتتمكنوا من عبادة الله إن منعتم منها في دياركم.
أمرت: أي أمرني ربي عز وجل.
مخلصا له الدين: أي مفردا إياه بالعبادة.
أول المسلمين: أي أول من يسلم في هذه الأمة فينقاد لله بعبادته والإخلاص له فيها.
عذاب يوم عظيم: أي عذاب يوم القيامة.
قل: أي يا رسولنا للمشركين.
الله أعبد: أي لا أعبد معه سواه.
مخلصا له ديني: أي مفردا إياه بطاعتي وانقيادي.
فاعبدوا ما شئتم: أي إن أبيتم أيها المشركون عبادة الله وحده فاعبدوا ما شئتم من الأوثان فإنكم خاسرون.
خسروا أنفسهم: أي فحرموها الجنة وخلدوها في النار.
وأهليهم: أي الحور العين اللائي كن لهم في الجنة لو آمنوا واتقوا بفعل الطاعات وترك المنهيات.
ظلل من النار: أي دخان ولهب وحر من فوقهم ومن تحتهم.
ذلك: أي المذكور من عذاب النار.
يا عباد فاتقون: أي يا من أنا خالقهم ورازقهم ومالكهم وما يملكون فلذلك اتقون بالإيمان والتقوى.
معنى الآيات:
لقد تضمنت هذه الآيات الخمس توجيهات وإرشادات ربانية للمؤمنين والرسول صلى الله عليه وسلم ففي الآية الأولى [10] يأمر تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين اتقوا ربكم أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية وذلك بطاعته وطاعة رسوله، ويعلمهم معللا أمره إياهم بالتقوى بأن للذين أحسنوا الطاعة المطلوبة منهم الجنة، كما يعلمهم أنهم إذا لم يقدروا على الطاعة بين المشركين فليهاجروا إلى أرض يتمكنون فيها من طاعة الله ورسوله فيقول { وأرض الله واسعة } أي فهاجروا فيها ويشجعهم على الهجرة لأجل الطاعة فيقول { إنما يوفى الصابرون } أي على الاغتراب والهجرة لأجل طاعة الله والرسول { أجرهم بغير حساب } أي بلا كيل ولا وزن ولا عد وذلك لأنه فوق ذلك. وفي الآية الثانية [11] والثالثة [12] يأمر تعالى رسوله موجها له بأن يقول للناس { إني أمرت } أي أمرني ربي أن أعبد الله باعتقاد وقول وفعل ما يأمرني به وترك ما ينهاني عنه من ذلك مخلصا له الدين، فلا أشرك في دين الله أحدا أي في عبادته أحدا، كما أمرني أن أكون أول المسلمين في هذه الأمة أي أول من يسلم قلبه وجوارحه الظاهرة والباطنة لله تعالى وفي الآيات الرابعة [13] والخامسة [14] يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للمشركين إني أخاف إن عصيت ربي، فرضيت بعبادة غيره وأقررتها عذاب يوم عظيم كما يأمره أن يقول الله أعبد أي الله وحده لا شريك له أعبد حال كوني مخلصا له ديني. وأما أنتم أيها المشركون إن أبيتم التوحيد فاعبدوا ما شئتم من آلهة دونه تعالى ويأمره أن يقول لهم إن الخاسرين بحق ليسوا أولئك الذي يخسرون دنياهم فيفقدون الدار والبعير أو المال والأهل والولد بل هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وذلك بتخليدهم في النار، وبعدم وصولهم إلى الحور العين المعدة لهم في الجنة لو أنهم آمنوا واتقوا.
ألا ذلك أي هذا هو الخسران المبين ثم يوضح ذلك الخسران بالحال التالية وهي أن لهم وهم في النار من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل أي طبقات من فوقهم طبقة ومن تحتهم أخرى وكلها دخان ولهب وحر وأخيرا قوله تعالى { ذلك } أي المذكور من الخسران وعذاب الظلل يخوف الله تعالى به عباده المؤمنين ليواصلوا طاعتهم وصبرهم عليها فينجوا من النار ويظفروا بالجنان وقوله يا عباد فاتقون أي يا عبادي المؤمنين فاتقون ولا تعصون يحذرهم تعالى نفسه، والله رءوف بالعباد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان عناية الله تعالى برسوله والمؤمنين إذ أرشدهم إلى ما يكملهم ويسعدهم.
2- وجوب التقوى والصبر على الأذى في ذلك.
3- تقرير التوحيد بأن يعبد الله وحده.
4- فضل الإسلام وشرف المسلمين.
5- تقرير البعث والجزاء بيان شيء من أهوال الآخرة وعذاب النار فيها.
6- كل خسران في الدنيا إذا قيس بخسران الآخرة لا يعد خسرانا أبدا.
[39.17-20]
شرح الكلمات:
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها: أي تركوا عبادة الأصنام وغيرها مما يعبد من دون الله.
وأنابوا إلى الله: أي بالإيمان به وعبادته وتوحيده فيها.
لهم البشرى: أي بالجنة عند الموت وفي القبر وعند القيام من القبور.
فيتبعون أحسنه: أي أوفاه وأكمله وأقربه إلى مرضاة الله تعالى.
أولوا الألباب: أي العقول السليمة.
أفمن حق عليه كلمة العذاب: أي وجب عليه العذاب بقول الله تعالى لأملأن جهنم.
أفأنت تنقذ من في النار: أي تخلصه منها وتخرجه من عذابها.
لكن الذين اتقوا ربهم: أي خافوه فآمنوا به وأطاعوه موحدين له في ذلك.
تجري من تحتها الأنهار: أي من خلال قصورها وأشجارها.
وعد الله: أي وعدهم الله تعالى وعدا فهو منجزه لهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال أهل النار من عبدة الأوثان وأن لهم من فوقهم ظللا من النار ومن تحتهم ظللا ذكر تعالى حال الذين اجتنبوا تلك الطواغيت فلم يعبدوها، وما أعد لهم من النعيم المقيم فجمع بذلك بين الترهيب والترغيب المطلوب لهداية البشر وإصلاحهم فقال عز وجل { والذين اجتنبوا الطاغوت } أي أن يعبدوها وهي الأوثان وكل ما زين الشيطان عبادته ودعا الناس إلى عبادته وأضافوا إلى اجتناب الطاغوت الإنابة إلى الله تعالى بعبادته وتوحيده فيها هؤلاء لهم البشرى وهي في كتاب الله وعلى لسان رسول الله ويرونها عند نزول الموت وفي القبر وفي الحشر وكل هذا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى { فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } يأمر تعالى رسوله أن يبشر صنفا من عباده بما بشر به الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله وهم الذين يستمعون القول من قائله فيتبعون أحسن ما يسمعون، ويتركون حسنه وسيئه معا فهؤلاء لهم همم عالية ونفوس تواقة للخير والكمال شريفة فاستوجبوا بذلك البشرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء الجميل من رب العالمين إذ قال تعالى فيهم { أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب } فحسبهم كمالا أن اثنى تعالى عليهم. اللهم اجعلني منهم ومن سأل لي وله ذلك. وقوله { أفمن حق عليه كلمة العذاب } أي وجب له العذاب قضاء وقدرا فأسرف في الكفر والظلم والإجرام والعدوان كأبي جهل والعاص بن وائل فأحاطت به خطيئاته فكان من أصحاب النار فهل تستطيع أيها الرسول انقاذه من النار وتخليصه منها؟ والجواب لا. إذا فهون على نفسك واتركهم لشأنهم وما خلقوا له وحكم به عليهم. وقوله تعالى { لكن الذين اتقوا } فآمنوا وعملوا الصالحات لهم غرف في الجنة من فوقها غرف وهي العلية تكون فوق الغرفة تجري من تحتها الأنهار من تحت القصور والأشجار أنهار الماء واللبن والعسل والخمر.
وقوله { وعد الله } أي وعدهم الله تعالى بها وعدا حقا فهو منجزه لهم إذ هو تعالى لا يخلف الميعاد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كرامة زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي إذ هذه الآية تعنيهم فقد رفضوا عبادة الطاغوت في الجاهلية قبل الإسلام ثم أنابوا إلى ربهم فصدقت الآية عليهم.
2- فضيلة أهل التمييز والوعي والإدراك الذين يميزون بين ما يسمعون فيتبعون الأحسن ويتركون ما دونه من الحسن والسيء.
3- إعلام من الله تعالى أن من وجبت له النار أزلا لا تمكن هدايته مهما بذل الداعي في هدايته وإصلاحه ما بذل.
4- بيان ما أعد الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى من نعيم الجنة وكرامة الله لأهلها.
[39.21-23]
شرح الكلمات:
فسلكه ينابيع في الأرض: أي أدخله في الأرض فصار جاريا تحتها ينبع منها فكان بذلك ينابيع.
مختلفا ألوانه: أي ما بين أخضر وأبيض وأحمر وأصفر وأنواعه من بر وشعير وذرة.
ثم يهيج فتراه مصفرا: أي ييبس فتراه أيها الرائي بعد الخضرة مصفرا.
ثم يجعله حطاما: أي فتاتا متكسرا.
إن في ذلك لذكرى: أي إن في ذلك المذكور من إنزال الماء إلى أن يكون حطاما تذكيرا.
أفمن شرح الله صدره للإسلام: أي فاهتدى به كمن لم يشرح الله صدره فلم يهتد؟.
فهو على نور من ربه: أي فهو يعيش في حياته على نور من ربه وهو معرفة الله وشرائعه.
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله: ويل كلمة عذاب للقاسية قلوبهم عن قبول القرآن فلم تؤمن به ولم تعمل بما فيه.
أحسن الحديث كتابا: هو القرآن الكريم.
متشابها: أي يشبه بعضه بعضا في النظم والحسن وصحة المعاني.
مثاني: أي ثنى فيه الوعد والوعيد كالقصص والأحكام.
تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم: أي ترتعد منه جلود الذين يخشون ربهم وذلك عند ذكر وعيده.
ثم تلين جلودهم وقلوبهم: أي تطمئن وتلين.
إلى ذكر الله: أي عند ذكر وعده لأهل الإيمان والتقوى بالجنة وما فيها من نعيم مقيم.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ألم تر } هذه الآية الكريمة تقرر التوحيد والبعث والجزاء بذكر مظاهر القدرة والعلم الإلهيين، وهما مقتضيان لوجود الله أولا ثم وجوب الإيمان به وبلقائه فقال تعالى مخاطبا رسوله { ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء } وهو المطر { فسلكه ينابيع في الأرض } أي أدخله فيها وأخرجه منها ينابيع بواسطة حفر وبدونه، ثم يخرج به زرعا من قمح وشعير وذرة وغيرها مختلفا ألوانه من أحمر وأبيض وأصفر { ثم يهيج } حسب سنة الله تعالى في ذلك فيجف { فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما } أي فتاتا متكسرا كالتبن كل هذا يتم بقدرة الله وعلمه وتدبيره ففيه موعظة وذكرى لأولي القلوب الحية تهديهم إلى الإيمان بالله وبآياته ولقائه، وما يستتبع ذلك من الطاعة والتوحيد وقوله تعالى { أفمن شرح الله صدره للإسلام } أي وسع صدره وفسحه فقبل الإسلام دينا فاعتقد عقائده وعمل بشرائعه فامتثل أوامره واجتنب نواهيه فهو يعيش على نور من ربه ومقابل هذا محذوف اكتفى بالأول عنه وتقديره كمن طبع الله على قلبه وجعل صدره حرجا ضيقا فلم يقبل الإسلام ولم يدخل فيه، وعاش على الكفر والشرك والمعاصي فهو يعيش على ظلمة الكفر ودخن الذنوب وعفن الفساد والشر. وقوله تعالى { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر } يتوعد الله تعالى بالعذاب أصحاب القلوب القاسية من سماع القرآن وهذه أسوأ حال العبد إذا كان يهلك بالدواء ويضل بالهدى فسماع القرآن الأصل فيه أن يلين القلوب الصالحة للحياة فإذا كانت القلوب ميتة غير قابلة للحياة سماع القرآن زادها موتا وقسوة، ويدل على هذا قوله { أولئك في ضلال مبين } فهدايتهم متعذرة إذا كان الدواء يزيد في علتهم وآيات الهداية تزيد في ضلالتهم.
وقوله تعالى { الله نزل أحسن الحديث } هذه الآية نزلت لما قال أصحاب الرسول يوما لرسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى قوله { الله نزل أحسن الحديث } وهو القرآن { كتابا متشابها } أي يشبه بعضه بعضا في حسن اللفظ وصحة المعاني { مثاني } أي يثني فيه الوعد والوعيد والأمر والنهي والقصص، { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } أي عند سماع آيات الوعيد فيه { ثم تلين جلودهم } إذا سمعوا آيات الوعد { وقلوبهم } إذا سمعوا حججه وأدلته وقوله { إلى ذكر الله } أي القرآن وذكر الله بوعده ووعيده وأسمائه وصفاته ويشهد له قوله تعالى من سورة الرعد
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الآية: 28] وقوله تعالى { ذلك هدى الله يهدي به من يشآء } أي ذلك المذكور وهو القرآن الكريم هدى الله إذ هو الذي أنزله وجعله هاديا يهدي به من يشاء هدايته بمعنى يوفقه للإيمان والعمل به وترك الشرك والمعاصي. وقوله { ومن يضلل الله فما له من هاد } لما سبق في علم الله ولوجود مانع منع من هدايته كالإصرار والعناد والتقليد. فهذا ليس له من هاد يهديه بعد الله أبدا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر العلم والقدرة الإلهية الموجبة للإيمان به وبرسوله ولقائه.
2- بيان أن القلوب قلبان قلب قابل للهداية وآخر غير قابل لها.
3- بيان أن القرآن أحسن ما يحدث به المؤمن إذ أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل.
4- فضيلة أهل الخشية من الله إذ هم الذين ينفعلون لسماع القرآن فترتعد فرائصهم عند سماع وعيده، وتلين قلوبهم وجلودهم عند سماع وعده.
[39.24-26]
شرح الكلمات:
أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب: أي يتلقى العذاب بوجهه لا شيء يقيه منه كمن أمن.
سوء العذاب: أقساه وأشده.
وقيل للظالمين: أي المشركين في جهنم.
ذوقوا ما كنتم تكسبون: أي جزاء كسبكم الشر والفساد.
كذب الذين من قبلهم: أي من قبل أهل مكة.
فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون: أي من حيث لا يدرون أنه آتيهم منه. أو من حيث لا يخطر ببالهم.
فأذاقهم الله عذاب الخزي: أي المسخ والذل والإهانة.
ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون: أي لو كانوا يعلمون ذلك ما كذبوا ولا كفروا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير البعث والجزاء فقوله تعالى { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } يوم القيامة إذ ليس له ما يتقي به العذاب لأن يديه مغلولتان إلى عنقه فهو يتلقى العذاب بوجهه وهو أشرف أعضائه أفهذا الذي يتلقى العذاب بل سوء العذاب كمن أمن العذاب ودخل الجنة؟ والجواب لا يستويان. وقوله تعالى { وقيل للظالمين } أي المشركين وهم في النار يقول لهم زبانية جهنم توبيخا لهم وتقريعا ذوقوا ما كنتم تكسبون من أعمال الشرك والمعاصي هذا جزاؤه فذوقوه عذابا أليما. وقوله تعالى { كذب الذين من قبلهم } أي كذب قبل أهل مكة أمم وشعوب كذبوا رسلهم فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا وذلك كالذل والمسخ والقتل والأسر والسبي ولعذاب الآخرة أكبر من عذاب الدنيا وهم صائرون إليه لا محالة وقوله { لو كانوا يعلمون } أي لو كانوا يعلمون عنه علما يقينيا ما كذبوا رسلهم ولا كفروا بربهم. فهلكوا بجهلهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء بذكر شيئ من أحوال يوم القيامة.
2- تهديد قريش على إصرارها على التكذيب للرسول وما جاءها به من الإسلام.
3- العذاب على التكذيب والمعاصي منه الدنيوي، ومنه الآخروي.
4- لو علم الناس عذاب الآخرة علما يقينا ما كذبوا ولا كفروا ولا ظلموا فالجهل هو سبب الهلاك والشقاء دائما.
[39.27-31]
شرح الكلمات:
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل: أي جعلنا للعرب في هذا القرآن من كل مثل من الأمم السابقة .
لعلهم يتذكرون: أي يتعظون فينزجرون عما هم فيه من الشرك والتكذيب إلى الإيمان والتوحيد.
قرآنا عربيا غير ذي عوج: أي حال كون المثل المجعول قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا اختلاف فلا عذر لهم في عدم فهمه وإدراك معناه وفهم مغزاه.
متشاكسون: أي متنازعون لسوء أخلاقهم.
ورجلا سلما: أي خالصا سالما لرجل لا شركة فيه لأحد.
هل يستويان مثلا: الجواب لا الأول في تعب وحيرة والثاني في راحة وهدوء بال.
الحمد لله: أي على ظهور الحق وبطلان الباطل.
إنك ميت: أي مقضي عليك بالموت في وقته.
وإنهم ميتون: أي كذلك محكوم عليهم به عند انقضاء آجالهم.
عند ربكم تختصمون: أي تحتكمون إلى الله في ساحة فصل القضاء فيحكم الله بينكم.
فيما كنتم فيه تختلفون: أي من الشرك والتوحيد والإيمان والتكذيب.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } يخبر تعالى بما من به على العرب لهدايتهم حيث جعل لهم في القرآن الكريم من أمثال الأمم السابقة في إيمانها وتكذيبها، وصلاحها وفسادها ونجاتها وخسرانها وكل ذلك بقرآن عربي لا عوج فيه أي لا لبس ولا خفاء ولا اختلاف، فعل ذلك لهم لعلهم يتذكرون أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون فينجون من العذاب ويسعدون. وقوله تعالى { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركآء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان } إلى آخر الآية، هذا مثل من جملة الأمثال التي ضرب الله للناس لعلهم يتذكرون وهو مثل للمشرك الذي يعبد عدة آلهة. والموحد الذي لا يعبد إلا الله فالمشرك مثله رجل يملكه عدد من الرجال من ذوي الأخلاق الشرسة والطباع الجافة فهم يتنازعونه هذا يقول له تعالى والآخر يقول له اجلس والثالث يقول له قم فهو في حيرة من أمره لا راحة بدن ولا راحة ضمير ونفس. والموحد مثله رجل سلم أي خالص وسالم لرجل واحد آمره وناهيه واحد هل يستويان أي الرجلان والجواب لا إذ بينهما كما بين الحرية والعبودية وأعظم وقوله تعالى { الحمد لله } أي الثناء بالجميل لله والشكر العظيم له سبحانه وتعالى على أنه رب واحد وإله واحد لا إله غيره ولا رب سواه. وقوله { بل أكثرهم لا يعلمون } أي بل أكثر المشركين لا يعلمون عدم تساوي الرجلين، وذلك لجهلهم وفساد عقولهم.
وقوله تعالى { إنك ميت وإنهم ميتون } نزلت لما استبطأ المشركون موت الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا شماتة في الموت إنك ستموت يا رسولنا ويموتون. وقوله تعالى { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } أي مؤمنكم وكافركم قويكم وضعيفكم تقفون بين يدي الله ويحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من أمور الدين والدنيا معا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية ضرب الأمثال للمبالغة في الإفهام والهداية لمن يراد هدايته.
2- بيان مثل المشرك والموحد، فالمشرك في حيرة وتعب، والموحد في راحة وهدوء بال.
3- تقرير أن كل نفس ذائقة الموت.
4- بيان أن خصومة ستكون يوم القيامة ويقضي الله تعالى فيها بالحق لأنه هو الحق.
[39.32-35]
شرح الكلمات:
ومن أظلم ممن كذب على الله؟: أي بأن نسب إليه ما هو برئ منه كالزوج والولد والشريك.
وكذب بالصدق إذ جاءه؟: أي بالقرآن والنبي والتوحيد والبعث والجزاء.
مثوى للكافرين: أي مأوى، ومكان إقامة ونزول.
والذي جاء بالصدق وصدق به: محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر وكل أصحاب رسول الله.
أولئك هم المتقون: أي لعذاب الله بإيمانهم وتقواهم بترك الشرك والمعاصي.
ذلك جزاء المحسنين: أي المذكور من نعيم الجنة جزاء المحسنين في أعمالهم.
ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا: أي ييسر الله لهم ذلك ويوفقهم إليه ليكفر عنهم ذنوبهم.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عباده منذرا محذرا بأنه لا أظلم من أحد كذب على الله. فقال عنه ما لم يقل أو حرم ولم يحرم أو أذن ولم يأذن، أو شرع ولم يشرع، أو كذب بالصدق وهو القرآن والنبي وما جاء به من الهدى ودين الحق أي فلا أحد أظلم ممن كان هذا حاله كذب على الله وكذب بالصدق.
وقوله تعالى: { أليس في جهنم مثوى للكافرين }؟ هذا بيان لجزاء الكاذبين والمكذبين وهم الكافرون بسبب كذبهم على الله وتكذيبهم له فيخبر تعالى مقررا أن جزاءهم الإقامة الدائمة في جهنم. وقوله تعالى: { والذي جآء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } هذا إخبار بفريق الفائزين من عباد الله وهم الصادقون في كل يخبرون به، والمصدقون بما أوجب الله تعالى التصديق به ويدخل في هذا الفريق دخولا أوليا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق ثم سائر الصحابة والمؤمنين إلى يوم الدين.
وقوله تعالى: { أولئك هم المتقون } يشير إليهم بأنهم اتقوا كل ما يغضب الله من الشرك والمعاصي، وبذلك استوجبوا النجاة من النار ودخول الجنة المعبر عنه بقوله تعالى: { لهم ما يشآءون عند ربهم } من نعيم بعضه لم يخطر على بال أحد، ولم تره عين أحد ولا تسمع به أذنه.
وقوله: { ذلك جزآء المحسنين } أي ذلك المذكور في قوله لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو جزاؤهم وجزاء المحسنين كلهم والمحسنون هم الذين أحسنوا الاعتقاد والقول والعمل وقوله تعالى: { ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا } أي من الذنوب والآثام والخطايا والسيئات أي وفقهم للإحسان ويسره لهم، ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا وسيئه ويجزيهم أجرهم على إيمانهم وتقواهم وإحسانهم في ذلك بأحسن ما كانوا يعملون وحسنه أيضا وإنما يضاعف لهم الأجر فتكون الحسنات الصغيرة كالكبيرة فاصبح الجزاء كله على الأحسن والذي كانوا يعملون هو كل ما شرعه الله تعالى لعباده وتعبدهم به من الإيمان وسائر الطاعات والقربات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بالكذب على الله تعالى والتكذيب به، وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من الدين.
2- بيان جزاء الكاذبين على الله والمكذبين بما جاء به رسول الله عن الله من الشرع والدين.
3- الترغيب في الصدق في الاعتقادات والأقوال والأعمال.
4- فضل التقوى والإحسان وبيان جزائهما عند الله تعالى يوم القيامة.
[39.36-40]
شرح الكلمات:
أليس الله بكاف عبده؟: بلى هو كاف عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم كل ما يهمه.
ويخوفونك بالذين من دونه: أي بالأصنام والأوثان أن تصيبك بما يسوءك ويضرك.
أليس الله بعزيز ذي انتقام: بلى بل هو عزيز غالب على أمره صاحب انتقام شديد على من عاداه.
ليقولن الله: أي لوضوح البرهان وقوة الدليل وانقطاع الحجة.
قل أفرأيتم: أي أخبروني.
هل هن ممسكات رحمته: والجواب لا لا إذا فقل حسبي الله، ولا حاجة لي بغيره.
اعملوا على مكانتكم: أي على حالتكم التي أنتم من الكفر والعناد.
إني عامل: أي على حالتي التي أنا عليها من الإيمان والانقياد.
من يأتيه عذاب يخزيه: أي في الدنيا بالقتل والأسر والجوع والقحط.
ويحل عليه عذاب مقيم: أي وينزل عليه عذاب مقيم لا يبرح وهو عذاب النار بعد الموت.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الدفاع عن الرسول والرد على مناوئيه وخصومه الذين استبطأوا موته فرد الله تعالى عليهم بقولهم:
إنك ميت وإنهم ميتون
[الزمر: 30] فلا شماتة إذا في الموت وقوله: { أليس الله بكاف عبده } دال على أن القوم حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم لما لم يمت بأجله وفعلا قد قرروا قتله وأعطوا الجوائز لمن يقتله، ففي هذه الآية طمأن الله رسوله على أنهم لا يصلون إليه وأنه كافيه مؤامراتهم وتهديداتهم فقال عز وجل { أليس الله بكاف عبده }؟ والجواب بلى إذ الاستفهام تقريري كافيه كل ما يهمه ويسوءه وقوله: { ويخوفونك بالذين من دونه } أي ويخوفك يا رسولنا المشركون بما يعبدون من دوننا من أصنام وأوثان بأن تصيبك بقتل أو خبل فلا يهمك ذلك فإن أوثانهم لا تضر ولا تنفع ولا تجلب ولا تدفع، وقوله: { ومن يهد الله فما له من مضل } ، وقد هداك ربك فليس لك من يضلك أبدا، كما أن من أضله الله كقومك فليس له من هاد يهديه أبدا. وقوله تعالى: { أليس الله بعزيز ذي انتقام } بلى فهو إذا سينتقم من أعدائه لأوليائه إن استمروا في أذاهم وكفرهم وعنادهم، وقد فعل سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض } أي أوجدهما من غير مثال سابق { ليقولن الله } فما دام اعترافهم لازما بأن الله تعالى هو الخالق فلم عبادة غيره والإصرار عليها مما أفضى بهم إلى أذية المؤمنين وشن الحرب عليهم وقوله: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله } أي من الأصنام والأوثان أخبروني { إن أرادني الله بضر } ما { هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة } صحة وعافية وغنى ونصر { هل هن ممسكات رحمته } والجواب لا فإنها جماد لا تقدر على إعطاء ولا على إمساك إذا فقل حسبي الله أعبده وأتوكل عليه إذ هو الذي يضر وينفع ويجلب الخير ويدفع السوء والشر.
وقوله { عليه يتوكل المتوكلون } أي على الله وحده يتوكل المتوكلون فيثقون في كفايته لهم فيفوضون أمورهم إليه ويتعلقون به. وينفضون أيديهم من غيره.
وقوله تعالى: { قل يقوم اعملوا على مكانتكم } أي لما أبيتم إلا العناد مصرين على الشرك بعد ما قامت الحجج والأدلة القاطعة على بطلانه فاعملوا على مكانتكم أي حالتكم التي عليها من الشرك والعناد { إني عامل } أنا على حالتي من الإيمان والتوحيد والانقياد. والنتيجة ستظهر فيما بعد لا محالة ويعلم المحق من المبطل، والمهتدي من الضال وهي قوله تعالى:
{ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } أي يذله ويكسر أنفه بالقتل والأسر والجوع والقحط وقد أصاب المشركين هذا في مكة وبدر. وقوله: { ويحل عليه عذاب مقيم } وهو عذاب النار في الآخرة نعوذ بالله من العذابين عذاب الخزي في الحياة الدنيا وعذاب النار في الدار الآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير كفاية الله وولايته لعباده المؤمنين وخاصة ساداتهم من الأنبياء والأولياء.
2- تقرير مقتضى الولاية وهو النقمة من أعدائه تعالى لأوليائه وإن طال الزمن.
3- تقرير التوحيد وإبطال التنديد.
4- مظاهر ربوبية الله الموجبة لألوهيته.
5- وجوب التوكل على الله واعتقاد كفايته لأوليائه.
6- تقرير إنجاز الله وعده لرسوله والمؤمنين.
[39.41-45]
شرح الكلمات:
إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق: أي أنزلنا عليك يا رسولنا القرآن بالحق أي ملتبسا به.
وما أنت عليهم بوكيل: أي ليس عليك أمر هدايتهم فتجبرهم على الإيمان.
الله يتوفى الأنفس حين موتها: أي ينهى حياة العباد بقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم.
والتي لم تمت في منامها: أي يتوفاها وقت النوم يحبسها عن التصرف كأنها شيء مقبوض.
فيمسك التي قضى عليها الموت: أي يقبضها لحكمة بالموت عليها حال النوم.
ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى: أي التي لم يحكم بموتها يرسلها فيعيش صاحبها إلى نهاية أجله المعدود له.
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون: أي في قبض الأرواح وإرسالها، والقدرة على ذلك دلائل وبراهين على قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره المشركون.
أم اتخذوا من دون الله شفعاء: أي أن كفار مكة لا يتفكرون ولو كانوا يتفكرون لما أنكروا البعث، ولا ما اتخذوا من دون الله شفعاء لوضوح بطلان ذلك.
قل أولو كانوا لا يملكون شيئا: أي قل لهم أيشفع لكم شركاؤكم ولو كانوا لا يملكون شيئا ينكر عليهم دعواهم الشفاعة لهم وهي أصنام لا تملك ولا تعقل.
قل لله الشفاعة جميعا: أي أخبرهم أن جميع الشفاعات لله وحده فشفاعة الأنبياء والشهداء والعلماء والأطفال مملوكة لله فلا يشفع أحد إلا بإذنه.
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت: أي وإذا ذكر الله وحده كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله نفرت نفوس المشركين وانقبضت وظهر الغضب والسخط في وجوههم.
وإذا ذكر الذين من دونه: أي الأصنام والأوثان التي يعبدونها من دون الله تعالى.
إذا هم يستبشرون: أي فرحون جذلون وذلك لافتتانهم بها ونسيانهم لحق الله تعالى وهو عبادته وحده مقابل خلقه ورزقه لهم.
معنى الآيات:
إن السياق الكريم كان في عرض الصراع الدائر بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه المشركين فدافع الله تعالى عن رسوله ودفع عنه كل أذى ومكروه وتوعد خصومه بالعذاب في الدنيا والآخرة وهنا يسليه ويصبره فيقول له { إنآ أنزلنا عليك الكتاب } أي القرآن { للناس } أي لهداية الناس وإصلاحهم { بالحق } أي ملتبسا بالحق، فمن اهتدى بالقرآن فآمن وعمل صالحا فعائد ذلك له حيث ينجو من النار ويدخل الجنة، ومن ضل لعدم قبوله هداية القرآن فأصر على الشرك والمعاصي فإنما يضل على نفسه أي عائد ضلاله على نفسه إذ هو الذي يحرم الجنة ورضا الله تعالى ويلقى في النار خالدا فيها وعليه غضب من الله لا يفارقه أبدا.
وقوله: { ومآ أنت عليهم بوكيل } أي لم يوكل إليك أمر هدايتهم فتجد نفسك في هم من ذلك إن عليك إلا البلاغ المبين إنك لم تكلف حفظ أعمالهم ومحاسبتهم عليها، ولا أمر هدايتهم فتجيرهم على ذلك.
وقوله تعالى: في الآية الثانية من هذا السياق [42] { الله يتوفى الأنفس } أي يقبض أرواحها { حين موتها } أي عند نهاية أجلها فيأمر تعالى ملك الموت فيخرج الروح بإذن الله ويقبضها، { والتي لم تمت في منامها } أي يقبضها بمعنى يحبسها عن التصرف، حال النوم، فإن أراد موتها قبضها ولم يردها إلى جسدها، وإن لم يرد وفاتها أرسلها فتعود إلى الجسد ويعيش صاحبها إلى الأجل المسمى له وهي نهاية عمره إن في ذلك القبض للروح والإرسال، والوفاة والإحياء لآيات أي دلائل وحجج كلها قاضية بأن القادر على هذا قادر على البعث والنشور الذي كذب به المشركون كما أن صاحب هذه القدرة العظيمة هو صاحب الحق المطلق في الطاعة والعبادة ولا تنبغي العبادة إلا له. وقوله { لقوم يتفكرون } وهم الأحياء بالإيمان أما الأموات وهم الكافرون فلا يجدون في ذلك آية ولا دليلا وذلك لموتهم بالشرك والكفر.
وقوله تعالى: في الآية الثالثة [43] { أم اتخذوا من دون الله شفعآء } أي بل اتخذ المشركون الذين كان المفروض فيهم أن يهتدوا على الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة لو كانوا يتفكرون بدل أن يهتدوا إلى توحيد الله اتخذوا من دونه أوثانا سموها شفعاء يرجون شفاعتها لدى الله في قضاء حوائجهم. وذلك لجهلهم وسخف عقولهم. قال تعالى لرسوله: { قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } أي قل لهم أيشفعون لكم ولو كانوا لا يملكون شيئا من أسباب الشفاعة ومقتضياتها ولو كانوا لا يعقلون معنى الشفاعة ولا يفهمونه لأنهم أصنام وأحجار والاستفهام للتبكيت والتقريع. لو كان القوم يشعرون. ثم أمر تعالى رسوله أن يعلن عن الحقيقة وإن كانت عند المشركين مرة { قل لله الشفاعة جميعا } أي جميع أنواع الشفاعة هي ملك لله مختصة به فلا يشفع أحد إلا بإذنه، إذا فاطلبوا الشفاعة من مالكها الذي له ملك السماوات والأرض، لا ممن هو مملوك له، ولا يعقل حتى معنى الشفاعة ولا يفهمها وقوله ثم إليه ترجعون أي بعد الموت أحببتم أم كرهتم؟ فاتخذوا لكم يدا عنده بالإيمان به وتوحيده في عبادته.
وقوله تعالى: { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } هذا كشف عن حال المشركين، وما هم عليه من الجهل والسفه إنهم إذا سمعوا لا إله إلا الله ينفرون وينقبضون ويظهر ذلك غضبا في وجوههم، يكادون يسطون على من قال لا إله إلا الله، وإذا ذكر الذين من دونه أي وإذا ذكر الأصنام التي يعبدونها من دون الله إذا هم يستبشرون فرحون مسرورون، وهذا عائد إلى افتتانهم بأصنامهم، ونسيانهم لحقوق ربهم عليهم وهي الإيمان به وعبادته وحده مقابل ما خلقهم ورزقهم ودبر حياتهم، ولكن أنى لأهل ظلمة النفس وانتكاس القلب أن يعوا ويفهموا؟.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات في أصعب الظروف.
2- مظاهر قدرة الله في الموت والحياة مما يقتضي الإيمان به وبلقائه وتوحيده.
3- إبطال حجة المشركين في عبادة الأوثان من أجل الشفاعة لهم إذ الشفاعة كلها لله.
4- بيان خطأ من يطلب الشفاعة من غير الله، إذ لا يملك الشفاعة إلا هو.
5- بيان سفه المشركين وضلالهم في غضبهم عند سماع التوحيد، وفرحهم عند سماع الشرك.
[39.46-48]
شرح الكلمات:
قل اللهم فاطر السماوات والأرض: قل يا نبينا: يا الله يا خالق السماوات والأرض.
عالم الغيب والشهادة: أي يا عالم الغيب وهو كل ما غاب عن الأبصار والحواس والشهادة خلاف الغيب.
فيما كانوا فيه يختلفون: أي من أمور الدين عقائد وعبادات.
ولو أن للذين ظلموا: أي ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي.
وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون: أي وظهر لهم من عذاب الله ما لم يكونوا يظنونه.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون: وأحاط بهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزئون به.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { قل اللهم } هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله أن يفزع إليه بالدعاء والضراعة إذ استحكم الخلاف بينه وبين خصومه وضاق الصدر اي قل يا رسولنا يا الله { فاطر السموت والأرض } أي خالقها، { عالم الغيب والشهادة } أي ما غاب عن الأبصار والحواس فلم يدرك، والشهادة وهو ما رؤي بالأبصار وأدرك بالحواس { أنت تحكم بين عبادك } مؤمنهم وكافرهم { في ما كانوا فيه يختلفون } من الإيمان بك وبلقائك وصفاتك وعبادتك ووعدك ووعيدك اهدني لما اختلفوا فيه من الحق باذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وقوله تعالى: { ولو أن للذين ظلموا } أي أنفسهم بالشرك وهو الظلم العظيم وبغشيان المعاصي والذنوب لو أن لهم عند معاينة العذاب يوم القيامة { ما في الأرض جميعا } من أموال ونفائسها ومثله معه وقبل منهم الفداء { لافتدوا به من سوء العذاب } ولما ترددوا أبدا وهذا دال على شدة العذاب وأنه لا يطاق ولا يحتمل مع حرمانهم من الجنة ونعيمها.
وقوله تعالى: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } أي وظهر لهم أي لأولئك الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم وإذا ذكرت الأصنام فرحوا بذلك واستبشروا وبدا لهم من ألوان العذاب ما لم يكونوا يظنون ولا يحتسبون. وقوله تعالى: { وبدا لهم سيئات ما كسبوا } أي من الشرك والكفر والفسق والعصيان أي ظهر لهم وتجلى أمامهم فاشتد كربهم وعظم الأمر عندهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون أي أحاط بهم وحدق عليهم العذاب الذي كانوا إذا ذكر لهم وعيدا وتخويفا استهزأوا به وسخروا منه وممن يذكرهم به ويخوفهم منه كالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية اللجوء إلى الله تعالى عند اشتداد الكرب وعظم الخلاف والدعاء بهذا الدعاء وهو " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " إذ ثبتت السنة به.
والآية ذكرت أصله.
2- بيان عظم العذاب وشدته يوم القيامة وأن المرء لو يقبل منه فداء لافتدى منه بما في الأرض من أموال ومثله معه.
3- التحذير من الاستهزاء بأخبار الله تعالى ووعده ووعيده.
[39.49-52]
شرح الكلمات:
فإذا مس الإنسان ضر دعانا: أي أصاب الإنسان الكافر ضر أي مرض وغيره مما يضره دعانا أي سأل كشف ضره.
ثم إذا خولناه نعمة منا: ثم إذا خولناه أي أعطيناه نعمة منا من صحة أو مال وغيرهما.
قال إنما أوتيته على علم: قال أي ذلك الكافر إنما أوتيت ذلك العطاء على علم من الله بأني استحقه.
بل هي فتنة: أي تلك النعمة لم يعطها لأهليته لها، وإنما أعطيها فتنة واختبارا له.
ولكن أكثرهم لا يعلمون: أي أن ما أعطوه من مال وصحة وعافية هو فتنة لهم وليس لرضا الله تعالى عنهم.
قد قالها الذين من قبلهم: أي قال قولتهم من كان قبلهم كقارون فلم يلبثوا أن أخذوا فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون.
والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم: أي والذين ظلموا بالشرك من هؤلاء أي من كفار قريش.
سيئات ما كسبوا: أي كما أصاب من قبلهم وقد أصابهم قحط سبع سنين وقتلوا في بدر.
وما هم بمعجزين: أي فائتين الله تعالى ولا غالبين له.
أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق: أي أقالوا تلك المقالة ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق.
لمن يشاء ويقدر: أي يوسعه لمن يشاء امتحانا، ويضيقه ابتلاء.
إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون: أي إن في ذلك المذكور من التوسعة امتحانا والتضييق ابتلاء لآيات أي علامات على قدرة الله وكمال تدبيره لأمور خلقه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان حيرة المشركين وفساد قلوبهم نتيجة كفرهم وجهلهم فقوله تعالى: { فإذا مس الإنسان ضر دعانا } يعني ذاك الكافر الذي إذا ذكر الله وحده اشمأزت نفسه وإذا ذكرت الأوثان سر وفرح واستبشر هذا الإنسان إذا مسه ضر من مرض أو غيره مما يضر ولا يسر دعا ربه منيبا إليه ولم يشرك معه في هذه الحال أحدا لعلمه أن الأوثان لا تكشف ضرا ولا تعطي خيرا، وإذا خوله الله تعالى نعمة من فضله ابتلاء له قال إنما أوتيت الذي أوتيت على علم من الله بأني أهل لذلك، فأكذبه الله تعالى فقال بل هي فتنة، ولكن أكثرهم أي أكثر المشركين لا يعلمون أن الله تعالى إذا أعطاهم إنما أعطاهم ليفتنهم لا لحبه لهم ولا لرضا عنهم. والدليل على أن ذلك العطاء للمشركين فتنة لا غير أن قولتهم هذه قد قالها الذين من قبلهم كقارون وغيره فلم يلبثوا حتى أخذهم الله بذنوبهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون من أموال طائلة، قال تعالى: { فأصابهم سيئات ما كسبوا } فلم يؤخذوا بدون ذنب بل أخذوا بذنوبهم وهو قوله تعالى { فأصابهم سيئات ما كسبوا } وقوله تعالى { والذين ظلموا من هؤلاء } أي من كفار قريش سيصيبهم أيضا سيئات ما كسبوا من الشرك والعناد والظلم، وماهم بمعجزين لله فائتينه أبدا وكيف وقد أصابهم قحط سبع سنين وقتلوا وأسروا في بدر والفتح.
وقوله تعالى { أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر } أي أقالوا مقالتهم تلك ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا له أيشكر أم يكفر ويقدر أي يضيق على من يشاء ابتلاء له أيصبر أم يضجر ويسخط فلم يكن بسطه الرزق حبا في المبسوط له، ولا التضييق كرها للمضيق عليه، وإنما البسط كالتضييق لحكمة التربية والتدبير، ولكن الكافرين لا يعلمون هذا فجهلهم بالحكم جعلهم يقولون الباطل ويعتقدونه أما المؤمنون فلا يقولون مقالتهم لعلمهم ونور قلوبهم فلذا هم يجدون الآيات في مثل هذا التدبير واضحة دالة على علم الله وحكمته وقدرته فيزدادون إيمانا ونورا وبصيرة.
هداية الآيات:
1- بيان تناقض أهل الكفر والجهل والضلال في كل حياتهم لأنهم يعيشون على ظلمة الجهل والكفر.
2- تقرير ما من مصيبة إلا بذنب جلي أو خفي كبير أو صغير.
3- بيان أن بسط الرزق وتضييقه على الأفراد أو الجماعات لا يعود إلى حب الله للعبد أو كرهه له، وإنما يعود لسنن التربية الإلهية وحكم التدبير لشؤون الخلق.
4- أهل الإيمان هم الذين ينتفعون بالآيات والدلائل لأنهم أحياء يبصرون ويعقلون أما أهل الكفر فهم أموات لا يرون الآيات ولا يعقلونها.
5- تهديد الله تعالى للظالمين ووعيده الشديد بأنه سيصيبهم كما أصاب غيرهم جزاء ظلمهم وكسبهم الفاسد.
[39.53-59]
شرح الكلمات:
يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم: أي أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي.
لا تقنطوا من رحمة الله: أي لا تيأسوا من المغفرة لكم ودخول الجنة.
إن الله يغفر الذنوب جميعا: أي ذنوب من أشرك وفسق إن هو تاب توبة نصوحا.
وأنيبوا إلى ربكم: أي ارجعوا إليه بالإيمان والطاعة.
وأسلموا له: أي أخلصوا له أعمالكم.
واتبعوا أحسن من أنزل إليكم من ربكم: أي القرآن الكريم فأحلوا حلاله وحرموا حرامه.
أن تقول نفس يا حسرتى: أي نفس الكافر والمجرم يا حسرتى أي يا ندامتي.
على ما فرطت في جنب الله: أي في جانب حق الله فلم أطعه كما أطاعه غيري.
وإن كنت لمن الساخرين: أي المستهزئين بدين الله تعالى وعباده المؤمنين.
لو أن لي كرة فأكون من المحسنين: أي لو أن لي رجعة إلى الدنيا فأكون إذا من المؤمنين الذين أحسنوا القصد والعمل.
بلى قد جاءتك آياتي: أي ليس الأمر كما تزعم أنك تتمنى الهداية بل قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت.
معنى الآيات:
لقد صح أن أناسا كانوا قد أشركوا وقتلوا وزنوا فكبر عليهم ذلك وقالوا نبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسأله لنا هل لنا من توبة فإن قال: نعم، وإلا بقينا على ما نحن عليه وقبل أن يصل رسولهم نزلت هذه الآية { قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أي أفرطوا في ارتكاب الجرائم فكانوا بذلك مسرفين على أنفسهم { لا تقنطوا } أي لا تيأسوا { من رحمة الله } في أن يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الجنة، إن أنتم تبتم إليه وأنبتم { إن الله يغفر الذنوب جميعا } لمن تاب منها فإنه تعالى لا يستعصي عليه ذنب فلا يقدر على مغفرته وعدم المؤاخذة عليه إنه هو الغفور الرحيم.
وقوله تعالى: { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } أي أيها المذنبون المسرفون أنيبوا إلى ربكم أي ارجعوا إلى طاعته بفعل المأمور وترك المنهي وأسلموا له أي أخلصوا أعمالكم ظاهرا وباطنا له مبادرين بذلك حلول العذاب قبل أن يحل بكم ثم لا تنصرون أي لا تقدرون على منعه منكم ولا دفعه عنكم.
{ واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم } في هذا القرآن العظيم فامتثلوا الأمر واجتنبوا النهي وخذوا بالعزائم واتركوا الرخص مبادرين بذلك أيضا حلول العذاب قبل أن يحل بكم بغتة أي فجأة وأنتم لا تشعرون به، بادروا بالتوبة والإنابة والإسلام الصادق ظرفا تقول فيه النفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله أي يا حسرتي يا ندامتى الحاملة لي الغم والحزن احضري هذا وقت حضورك على تفريطي في جانب حق الله تعالى حيث ما عبدته حق عبادته فلا ذكرته ولا شكرت له { وإن كنت لمن الساخرين } أي المستهزئين بدينه وعباده المؤمنين يا له من اعتراف يودي بصاحبه في سواء الجحيم، بادروا يا عباد الله هذا وذاك { أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة } أي رجعة إلى الحياة الدنيا { فأكون من المحسنين } أي المؤمنين الذين أحسنوا النية والقصد والعمل.
قال تعالى: رادا على تمنياتهم الكاذبة { بلى } أي ليس الأمر كما زعمت أيها المتمني بقولك { لو أن الله هداني لكنت من المتقين } للشرك والمعاصي التي وقعت بها في جهنم بل جاءتك آياتي هادية لك مرشدة فكذبت بها واستكبرت عن العمل بما جاء فيها وكنت من الكافرين بذلك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الله ورحمته على عباده بقبول توبة العبد إن تاب مهما كانت ذنوبه.
2- دعوة الله الرحيم إلى عباده المذنبين - بالإنابة إليه والإسلام الخالص له.
3- تقرير البعث والجزاء بذكر ما يحدث فيه وما يجرى في ساحته من أهوال.
4- وجوب تعجيل التوبة والمبادرة بها قبل حلول العذاب في الدنيا أو الموت والموت أدهى وأمر حيث لا تقبل توبة بعد الموت أبدا .
5- الترغيب في الأخذ بالعزائم وترك الرخص لغير ضرورة.
6- إبطال مذهب الجبرية الذين يرون أنهم مجبورون على فعل المعاصي وغشيان الذنوب، كقول أحدهم لو أن الله هداني لفعلت كذا أو تركت كذا.
7- فضل التقوى والإحسان وفضل المتقين والمحسنين.
[39.60-66]
شرح الكلمات:
ويوم القيامة: أي بأن يبعث الناس من قبورهم.
ترى الذين كذبوا على الله: أي باتخاذ أولياء من دونه وبالقول الكاذب عليه سبحانه وتعالى.
وجوههم مسودة: أي سوداء من الكرب والحزن وعلامة على أنهم من أهل النار وأنهم ممن كذبوا على ربهم.
أليس في جهنم مثوى للمتكبرين: أي أليس في جهنم مأوى ومستقر للمتكبرين؟ بلى إن لهم فيها لمثوى بئس هو من مثوى للمتكبرين عن عبادة الله تعالى.
وينجي الله الذين اتقوا: أي ينجيهم من النار بسبب تقواهم للشرك والمعاصي.
بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون: أي بفوزهم بالجنة ونزولهم فيها لا يمسهم السوء أي العذاب ولا هم يحزنون لما نالهم من النعيم.
له مقاليد السماوات والأرض: أي مفاتيح خزائن السماوات والأرض.
أولئك هم الخاسرون: أي الخاسرون لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
قل أفغير الله تأمروني أعبد: قل يا رسولنا للذين طلبوا منك أن تعبد معهم آلهتهم أتأمروني بعبادة غير الله، فهل تصلح العبادة لغيره وهو رب كل شيء وإلهه فما أسوأ فهمكم أيها الجاهلون.
لئن أشركت: أي من باب الفرض لو أشركت بالله غيره في عبادته لحبط عملك ولكنت من الخاسرين.
بل الله فاعبد وكن من الشاكرين: أي بل أعبد الله وحده، إذ لا يستحق العبادة إلا هو وكن من الشاكرين له على إنعامه عليك بالنبوة والرسالة والعصمة والهداية.
معنى الآيات:
لقد تقدم في السياق الأمر بتعجيل التوبة قبل الموت فيحصل الفوت، وذلك لأن يوم القيامة يوم أهوال وتغير أحوال وفي الآيتين الآتيتين بيان ذلك قال تعالى: { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله } بأن نسبوا إليه الولد والشريك والتحليل والتحريم وهو من ذلك براء هؤلاء { وجوههم مسودة } علامة أنهم كفروا وكذبوا وأنهم من أهل النار.
وقوله تعالى: { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } أي بلى في جهنم مأوى ومستقر للمتكبرين الذين تكبروا عن الإيمان والعبادة. وقوله تعالى: { وينجي الله } أي تلك حال وهذه أخرى وهي أن الله تعالى ينجي يوم القيامة الذين اتقوا الشرك والمعاصي بالإيمان والطاعة هؤلاء بفوزهم بالجنة لا يمسهم السوء في عرصات القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا لأن ما نالهم من نعيم الجنة أنساهم ما تركوا وراءهم وقوله تعالى: { الله خالق كل شيء } أي ما من كائن سوى الله تعالى إلا وهو مخلوق والله خالقه { وهو على كل شيء وكيل } أي قيم حافظ، فسبحانه ما أعظم قدرته وما أوسع علمه فلذا وجبت له العبادة ولم تجز فضلا عن أن تجب لسواه.
وقوله تعالى: { له مقاليد السموت والأرض } أي له ملكا حقا مفاتيح خزائن الرحمات والخيرات والبركات فهو يفتح ما يشاء ويمسك ما يشاء فلا يصح الطلب إلا منه ولا تجوز الرغبة إلا فيه وما عبد الناس الأوثان والأصنام إلا رغبة ورهبة فلو علموا أن رهبتهم لا تكون إلا من الذي يقدر على كل شيء وأن رغبتهم لا تكون إلا في الذي بيده كل شيء لو علموا هذا ما عبدوا غير الله تعالى بحال.
وقوله تعالى { والذين كفروا بآيات الله } الحاوية لإيمانه وصفاته وبيان محابه ومكارهه وحدوده وشرائعه ولذا من كفر بآيات الله فلم يؤمن بها ولم يعمل بما فيها خسر خسرانا مبينا بحيث يخسر يوم القيامة نفسه وأهله، وذلك هو الخسران المبين.
وقوله تعالى: { قل أفغير الله } الآية هذا رد على المشركين الذين طلبوا من الرسول أن يعترف بآلهتهم ويرضى بها مقابل أن يعترفوا له بما جاء به ويدعو إليه فأمر تعالى أن يفاصلهم بقوله: { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } لن يكون هذا مني أبدا كيف أعبد غير الله وهو ربي ومالك أمري وهو الذي كرمني بالعلم به وأوحى إلي شرائعه. فلتياسوا فإن مثل هذا لن يكون أبدا، ووصفهم بالجهل لأن جهلهم بالله وعظمته هو الذي سول لهم عبادة غيره والتعصب لها .
وقوله تعالى: { ولقد أوحي إليك } أي أوحى الله إليك كما أوحى إلى الأنبياء من قبلك بالتالي وهو وعزة الله وجلاله { لئن أشركت } بنا غير نافي في عبادتنا ليحبطن عملك أي يبطل كله ولا تثاب على شيء منه وإن قل، ولتكونن بعد ذلك من جملة الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين. ثم أمر تعالى رسوله مقررا التوحيد مبطلا الشرك بقوله: { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } أي الله وحده فاعبده وكن من الشاكرين له على إنعامه وأفضاله عليك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إسوداد الوجه يوم القيامة علامة الكفر والخلود في جهنم.
2- ابيضاض الوجوه يوم القيامة علامة الإيمان والخلود في الجنة.
3- تقرير البعث والجزاء بوصف أحواله وما يدور فيه.
4- بيد الله كل شيء فلا يصح أن يطلب شيء من غيره أبدا، ومن طلب شيئا من غير الله فهو من أجهل الخلق.
5- التنديد بالشرك وبيان خطورته إذ هو محبط للأعمال بالكلية.
6- وجوب عبادة الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه ووجوب حمده وشكره إذ كل إنعام منه وكل إفضال له. فلله الحمد والمنة.
[39.67-70]
شرح الكلمات:
وما قدروا الله حق قدره: أي ما عظموا الله حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته حين أشركوا في عبادته غيره من أوثانهم.
والأرض جميعا قبضته: أي والأرض بجميع أجزائها قبضته.
والسماوات مطويات: أي والسماوات السبع مطويات بيمينه.
سبحانه وتعالى عما يشركون: أي تقدس وتنزه عما يشرك به المشركون من أوثان.
ونفخ في الصور: أي نفخ إسرافيل نفخة الصعق.
ثم نفخ فيه أخرى: أي مرة أخرى وهي نفخة القيام لرب العالمين.
وأشرقت الأرض بنور ربها: أي أضاءت الأرض بنور الله تعالى حين يتجلى لفصل القضاء.
ووضع الكتاب: أي كتاب الأعمال للحساب.
وجيئ بالنبين والشهداء: أي بالنبيين ليشهدوا على أممهم، والشهداء محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته.
وقضي بينهم بالحق: أي بالعدل وهم لا يظلمون لا بنقص حسناتهم ولا بزيادة سيئاتهم.
وهو أعلم بما يفعلون: أي أعلم حتى من العاملين أنفسهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } إنه بعد أن قرر تعالى التوحيد وندد بالشرك والمشركين أخبر تعالى ناعيا على المشركين شركهم ودعوتهم نبيه للشرك بأنهم بفعلهم ذلك ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه حق عظمته وذلك لجهلهم به تعالى حين عبدوا معه غيره ودعوا نبيه إلى ذلك، وقوله: { والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسموت مطويات بيمينه } فالذي يجعل الأرض بكل طبقاتها وأجزائها في قبضته والسماوات يطويها بيمينه فالسماوات والأرض جميعا في يده، ويقول أنا الملك أين الملوك. فصاحب هذه القدرة العظمى كيف يعبد معه آلهة أخرى هي أصنام وتماثيل أوثان. ولذا نزه تعالى نفسه بقوله { سبحانه } أي تنزه وتقدس عن الشريك والنظير والصاحبة والولد وعن صفات المحدثين، وتعالى عما يشركون أي ترفع عن أن يكون له شريك وهو رب كل شيء ومليكه.
وقوله تعالى: { ونفخ في الصور } الآية هذا عرض لمظاهر القدرة التي يتنافى معها عقلا وجود من يستحق العبادة معه سبحانه وتعالى، والنافخ في الصور أي البوق إسرافيل قطعا إذ هو الموكل بالنفخ في الصور فإذا نفخ هذه النفخة صعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فهذا استثناء دال على أن بعضا من المخلوقات لم يصعق في هذه النفخة، { ثم نفخ فيه } أي في الصور نفخة { أخرى فإذا هم قيام ينظرون } هذه النفخة تسمى نفخة القيام لله رب العالمين لأجل الحساب وقوله تعالى: { وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب } أي كتاب الأعمال للحساب { وجيء بالنبيين } ليشهدوا على أممهم وجيء بالشهداء وهم أمة محمد يشهدون على الأمم السابقة بأن رسلها قد بلغتهم دعوة الله، وشهادة أمة محمد قائمة على ما أخبرهم تعالى في كتابه القرآن الكريم أن الرسل قد بلغت رسالات ربها لأممها، ويدل لهذا قوله تعالى:
وكذلك جعلناكم أمة وسطا
[البقرة: 143] أي خيارا عدولا
لتكونوا شهدآء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا
[البقرة: 143] وقوله: { وقضي بينهم بالحق } أي وحكم الله تعالى بين العباد بالعدل، ووفي كل نفس ما عملت من خير أو شر، وهو تعالى أعلم بما يفعلون حتى من العاملين أنفسهم ولذا سيكون الحساب عادلا لا حيف فيه لخلوه من الخطأ والغلط والجهل والنسيان لتنزه البارئ عز وجل عن ذلك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر عظمة الرب تعالى التي يتنافى معها الشرك به عز وجل في عباداته.
2- تقرير البعث والجزاء بيان أحواله وما يجري.
3- بيان عدالة الله في قضائه بين عباده في عرصات القيامة.
4- فضيلة هذه الأمة بقبولها شاهدة على الأمم التي سبقتها.
[39.71-75]
شرح الكلمات:
وسيق الذين كفروا: أي وساق الملائكة بعنف الذين كفروا.
إلى جهنم زمرا: أي جماعات، جماعة المشركين، وجماعة المجرمين وجماعة الظالمين.
وقال لهم خزنتها: أي الموكلون بالنار من الملائكة الواحد خازن.
ألم يأتكم رسل: هذا الاستفهام للتقرير والتوبيخ.
حقت كلمة العذاب: أي وجب العذاب للكافرين.
وسيق الذين اتقوا: أي وساقت الملائكة بلطف على النجائب الذين اتقوا ربهم أي أطاعوه ولم يشركوا به.
وفتحت أبوابها: أي والحال أن أبواب الجنة قد فتحت لاستقبالهم.
والحمد لله الذي صدقنا وعده: أي أنجز لنا وعد بالجنة.
وأورثنا الأرض: أي أرض الجنة وصورة الإرث نظرا إلى قوله تعالى في وعده لهم تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا.
نتبوأ من الجنة حيث نشاء: أي ننزل من حيث نشاء.
فنعم أجر العاملين: أي الجنة.
حافين من حول العرش: أي محدقين بالعرش من كل جانب.
يسبحون بحمد ربهم: أي يقولون سبحان الله وبحمده.
وقضي بينهم بالحق: أي وقضي الله بمعنى حكم بين جميع الخلائق بالعدل.
وقيل الحمد لله رب العالمين: أي وقالت الملائكة والمؤمنون الحمد لله رب العالمين على استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
معنى الآيات:
بعد الفراغ من الحكم على أهل الموقف وذلك بأن حكم تعالى فيهم بحسب عملهم فوفى كل عامل بعمله من كفر ومعاص، أو إيمان وطاعة قال تعالى مخبرا عن مصير الفريقين { وسيق الذين كفروا } أي ساقتهم الملائكة بشدة وعنف لأنهم لا يريدون الذهاب { إلى جهنم زمرا } أي جماعات ولفظ الزمرة مشتق من الزمر الذي هو الصوت إذ الغالب في الجماعة أن يكون لها صوت. وقوله تعالى: { حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها } إذ كانت مغلقة كأبواب السجون لا تفتح إلا عند المجيء بالسجناء، { وقال لهم خزنتهآ } قبل الوصول إليها موبخين لهم { ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم } أي المبينة لكم الهدى من الضلال والحق من الباطل، وما يحب ربكم من العقائد والأقوال والأعمال والصفات والذوات وما يكره من ذلك، ويدعوكم إلى فعل المحاب لتنجوا وترك المكاره لتنجوا وتسعدوا. فأجابوا قائلين بلى أي جاءتنا بالذي قلتم ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ونحن منهم فوجب لنا العذاب، وعندئذ تقول لهم الملائكة ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، فبئس أي جهنم مثوى المتكبرين أي قبح مأوى المتكبرين في جهنم من مأوى.
وقوله تعالى: { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة } وسوقهم هو سوق النجائب التي يركبونها فهو سوق لطف وتكريم إلى الجنة دار السلام زمرا زمرة الجهاد وزمرة الصدقات وزمرة العلماء وزمرة الصلوات.... { حتى إذا جآءوها } وقد فتحت أبوابها من قبل لاستقبالهم معززين مكرمين، فقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم أي طابت أرواحكم بأعمالكم الطيبة فطاب مقامكم في دار السلام فنعم التحية حيوا بها مقابل تأنيب وتوبيخ الزبانية لأهل النار.
وقوله لهم فادخلوها أي الجنة حال كون خلودكم مقدرا لكم فيها. فقالوا بعد دخولهم الجنة ونزولها في قصورها الحمدلله الذي صدقنا وعده يعنون قوله تعالى:
تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا
[مريم: 63]، وقولهم { وأورثنا الأرض } أي أرض الجنة نتبوأ منها حيث نشاء أي ننزل منها حيث نريد النزول، وفي قولهم أورثنا الأرض إشارة إلى أنهم ورثوها من أبويهم آدم وحواء إذ كانت لهم قبل نزولهما منها. وقولهم فنعم أجر العاملين أي الجنة والمراد من العمل الإيمان والتقوى في الدنيا بأداء الفرائض واجتناب النواهي وقوله تعالى: { وترى الملائكة } أيها الرائي { حآفين من حول العرش } أي محدقين بعرش الرحمن أي سريره { يسبحون بحمد ربهم } أي قائلين: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. قال تعالى مخبرا عن نهاية الموقف: { وقضي بينهم بالحق } أي وقضى الله بين الخلائق بالعدل، ولما استقر أهل النار وأهل الجنة حمد الله على الاستقرار التام والحكم العادل الرحيم وقيل الحمد لله رب العالمين أي حمدت الملائكة ربها وحمده معهم المؤمنون وهم في دار النعيم المقيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان إهانة أهل النار بسوقهم على أرجلهم بعنف وتأنيبهم وتوبيخهم.
2- التنديد بالاستكبار عن عبادة الله تعالى، وعبادة المؤمنين به، المتقين له.
3- بيان إكرام الله تعالى لأوليائه إذ يحملون على نجائب رحالها من ذهب إلى الجنة، ويلقون فيها تحية وسلاما. تحية احترام وإكرام، وسلام أمان من كل مكروه.
4- بيان نهاية الموقف باستقرار أهل النار من الكفار والفجار في النار، واستقرار أهل الجنة من المؤمنين الاتقياء الأبرار في الجنة دار الأبرار.
5- ختم كل عمل بالحمد فقد ابتدأ الله الخالق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وختم بالحمد، وقيل الحمد لله رب العالمين.
[40 - سورة غافر]
[40.1-6]
شرح الكلمات:
حم: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا: حم ويقرأ هكذا: حا ميم.
تنزيل الكتاب من الله: أي تنزيل القرآن كائن من الله.
العزيز العليم: أي الغالب على مراده، العليم بعباده ظاهرا وباطنا حالا ومآلا.
غافر الذنب: أي ذنب من تاب إلى الله فرجع إلى طاعته بعد معصيته.
شديد العقاب ذي الطول: أي مشدد العقوبة على من كفر به، ذي الطول أي الإنعام الواسع على من آمن به وأطاعه.
لا إله إلا هو إليه المصير: أي لا معبود بحق إلا هو إليه مرجع الخلائق كلهم.
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا: أي في القرآن لإبطالها إلا الكافرون.
فلا يغررك تقلبهم في البلاد: أي فلا تغتر بمعاشهم سالمين فإن عاقبتهم النار.
والأحزاب من بعدهم: أي وكذبت الأحزاب من بعد قوم نوح، وهم عاد وثمود وقوم لوط.
وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه: أي ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل.
وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق: أي ليزيلوا به الحق ويبطلوه.
فكيف كان عقاب: أي كان واقعا موقعه حيث أهلكهم ولم يبق منهم أحدا.
كذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا: أي وجبت كلمة العذاب على الذين كفروا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: حم: الله أعلم بمراده به.
وقد ذكرنا غير ما مرة أن هذه الحروف أفادت فائدتين الأولى أن العرب المشركين في مكة كانوا قد منعوا المواطنين من سماع القرآن حتى لا يتأثروا به فيكفروا بآلهتهم فقد أخبر تعالى عنهم في قوله من سورة فصلت فقال:
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون
[الآية: 26] فكانت هذه الحروف المقطعة بنغمها الخاص تستهويهم فيسمعوا فكانت فائدة عظيمة. والثانية أن المشركين لما أصروا على أن القرآن لم يكن وحيا وإنما هو من جنس ما يقوله الشعراء والكهان، وأصحاب الأساطير تحداهم الله تعالى بالإتيان بمثله وهو مركب ومؤلف من هذه الحروف الم طس حم والذي قوى هذه النظرية أنه غالبا ما يذكر القرآن بعد ذكر هذه الحروف مثل الم تلك آيات الكتاب، حم تنزيل الكتاب، حم والكتاب المبين فهاتان الفائدتان من أحسن ما استنبطه ذو الشأن في تفسير القرآن، وما عدا ذلك فلا يحسن روايته لخلوه من فائدة معقولة، ولا رواية عن الرسول وأصحابه منقولة.
وقوله تعالى: { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } يخبر تعالى أنه عز وجل هو مصدر هذا القرآن إذ هو الذي نزله تنزيلا على عبده ورسوله، ووصف نفسه بالعزة والعلم فقال العزيز أي في انتقامه من أعدائه الغالب على أمره ومراده فلا يحال بينه وبين ما يريده العليم بخلقه وحاجاتهم ومتطلباتهم، فأنزل الكتاب لهدايتهم وإصلاحهم.
وقوله: { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } أعلم أنه تعالى يغفر ذنب المستغفرين ويقبل توبة التائبين وأنه شدد العقوبة على من كفر به وعصاه. وقوله ذي الطول أي الإنعام الواسع والفضل العظيم { لا إله إلا هو } أي لا معبود بحق إلا هو العزيز الحكيم العزيز الغالب على أمره الحكيم في تدبير خلقه.
لما أثنى تبارك وتعالى على نفسه بما هو أهله أخبر رسوله بأنه { ما يجادل في آيات الله } القرآنية الحاوية للحجج القواطع والبراهين السواطع على توحيد الله ولقائه وعلى نبوة رسول الله ما يجادل فيها { إلا الذين كفروا } وذلك لظلمة نفوسهم وفساد قلوبهم، وعليه فاصبر ولا تغتر بظاهر ما هم عليه من سعة الرزق وسلامة البدن، وهو معنى قوله: { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } أي آمنين معافين في أبدانهم وأرزاقهم فإنهم ممهلون لا مهملون، والدليل فقد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون، وقد همت كل أمة من تلك الأمم برسولها لتأخذه فتقتله أو تنكل به. وقد جادلوا بالباطل كما جادل. قومك من قريش ليدحضوا به الحق أي ليزيلوه ويبعدوه بباطلهم. فأخذتهم فكيف كان عقاب أي كان واقعا موقعه والحمدلله إذ قطع الله دابرهم وأنهى وجودهم وخصومتهم.
وقوله { وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار } أي كما وجب حكمه بإهلاك تلك الأمم المكذبة لرسلها الهامة بقتلها وقد أهلكهم الله فعلا حقت كلمة ربك على الذين كفروا لأنهم أصحاب النار والمراد من كلمة ربك قوله لأملأن جهنم الآية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير أن القرآن الكريم مصدر تنزيله هو الله تعالى إذ هو الذي أوحاه ونزله على رسول محمد صلى الله عليه وسلم وبذلك تقررت نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
2- بيان عظمة الرب تعالى المتجلية في أسمائه العزيز العليم الحكيم ذي الطول غافر الذنب قابل التوب لا إله إلا هو.
3- تقرير التوحيد والبعث والجزاء.
4- تقرير مبدا أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وأن بطشه شديد.
[40.7-9]
شرح الكلمات:
الذين يحملون العرش: أي الملائكة حملة العرش.
ومن حوله: أي والملائكة الذي يحفون بالعرش من جميع جوانبه.
يسبحون بحمد ربهم: أي يقولون سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم هذه صلاتهم وتسبيحهم.
ويؤمنون به: كيف لا وهم عنده، ولكن هذا من باب الوصف بالكمال لهم.
ويستغفرون للذين آمنوا: أي يطلبون المغفرة للمؤمنين لرابطة الإيمان بالله التي تربطهم بهم.
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما : أي يقولون يا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك: أي فبما أن رحمتك وعلمك وسعا كل مخلوقاتك فاغفر للذين تابوا إليك فعبدوك ووحدوك واتبعوا سبيلك الذي هو الإسلام.
وقهم عذاب الجحيم: أي احفظهم من النار فلا تعذبهم بها.
جنات عدن: أي بساتين فيها قصور وأنهار للإقامة الدائمة.
التي وعدتهم: أي بقوله تعالى: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتهم الأنهار.
ومن صلح من آبائهم: أي ومن صلح بالإيمان ولم يفسد بالشرك والكفر.
وقهم السيئات: أي احفظهم من جزاء السيئات التي عملوها فلا تؤاخذهم بها.
ومن تق السيئات يومئذ: أي ومن تقه جزاء سيئاته يوم القيامة فلم تؤاخذه.
فقد رحمته: أي حيث سترته ولم تفضحه وعفوت عنه ولم تعذبه.
وذلك: أي الوقاية من العذاب وإدخال الجنة هو الفوز العظيم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { الذين يحملون العرش } يخبر تعالى عن عظمته وموجبات الإيمان به وبآياته وتوحيده ولقائه فيقول الذي يحملون العرش أي عرشه من الملائكة كالملائكة الذين يحفون بعرشه الجميع { يسبحون بحمد ربهم } تسبيحا مقرونا بالحمد بأن يقولوا سبحان الله وبحمده ويؤمنون به أي يؤمنون بوحدانيته وعدم الإشراك في عبادته { ويستغفرون للذين آمنوا } لرابطة الإيمان التي ربطتهم بهم ولعل هذا السر في ذكر إيمانهم لأن المؤمنين إخوة واستغفارهم هو طلب المغفرة من الله للمؤمنين من عباده. وهو معنى قوله: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } أي يقولون متوسلين إليه سبحانه وتعالى بصفاته { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } أي يا ربنا وسعت رحمتك وعلمك سائر المخلوقات فاغفر للذين تابوا أي إليك فتركوا الشرك واتبعوا سبيلك الذي هو الإسلام فانقادوا لأمرك ونهيك، وقهم عذاب الجحيم أي احفظهم يا ربنا من عذاب النار وأدخلهم جنات عدن أي إقامة من دخلها لا يخرج منها ولا يبغي عنها حولا لكمال نعيمها ووفرة السعادة فيها. ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم أي وادخل كذلك من صلح بالإيمان والتوحيد من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم فألحقهم بدرجاتهم ليكونوا معهم وإن قصرت بهم أعمالهم. وقولهم إنك أنت العزيز الحكيم توسل أيضا إليه تعالى بصفتي العزة والغلبة والقهر لكل المخلوقات والحكمة المتجلية في سائر الكائنات.
وقولهم: { وقهم السيئات } أي واحفظهم من جزاء سيئاتهم بأن تغفرها لهم وتسترها عليهم حتى يتأهلوا للحاق بأبنائهم الذين نسألك أن تلحقهم بهم، { ومن تق السيئات يومئذ } أي يوم القيامة { فقد رحمته } ، { وذلك هو الفوز العظيم } أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم لقوله تعالى:
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز
[آل عمران: 185]. ومعنى ومن تق السيئآت أي تقيه عذابها وذلك بأن يغفرها لهم ويعفو عنهم فلا يؤاخذهم بها، فينجوا من النار ويدخلوا الجنة وذلك أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان عظم الرب تعالى.
2- بيان فضل الإيمان وأهله.
3- فضل التسبيح بقول: سبحان الله وبحمده فقد صح أن من قالها مائة مرة حين يصبح أو حين يمسي غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر أي في الكثرة.
4- بشرى المؤمنين بأن الله تعالى يجمعهم بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم في الجنة، وقد استجاب الله للملائكة وقد أخبر تعالى عن ذلك بقوله:
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم
[الطور: 21].
[40.10-17]
شرح الكلمات:
ينادون لمقت الله: أي تناديهم الملائكة لتقول لهم لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنتم لأنفسكم، والمقت أشد البغض.
إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون: أي مقت الله تعالى لكم عندما كنتم في الدنيا تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم لما رأيتم العذاب.
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين: أي أمتنا مرتين الأولى عندما كنا عدما فخلقتنا، والثانية عندما أمتنا في الدنيا بقبض أرواحنا، وأحييتنا مرتين الأولى لما أخرجتنا من بطون أمهاتنا أحياء فهذه مرة والثانية بعد أن بعثتنا من قبورنا أحياء.
فاعترفنا بذنوبنا: أي بذنوبنا التي هي التكذيب بآياتك ولقائك والشرك بك.
فهل إلى خروج من سبيل: أي فهل من طريق إلى العودة إلى الحياة الدنيا مرة ثانية لنؤمن بك ونوحدك ونطيعك ولا نعصيك.
ذلكم: أي العذاب الذي أنتم فيه.
بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم: أي بسبب أنه إذا دعي الله وحده كفرتم بالتوحيد.
يريكم آياته: أي دلائل توحيده وقدرته على بعثكم ومجازاتكم.
وما يتذكر إلا من ينيب: أي وما يتعظ إلا من ينيب إلى الله ويرجع إليه بتوحيده.
يلقي الروح من أمره: أي يلقي بالوحي من أمره على من يشاء من عباده.
لينذر يوم التلاق: أي لينذر من يوحي إليه من البشر وهو الرسول يوم تلاقي أهل السماء وأهل الأرض وذلك يوم القيامة.
يوم هم بارزون: أي لا يسترهم شيء لا جبل ولا شجر ولا حجر.
لمن الملك اليوم: أي لمن السلطان اليوم.
معنى الآيات:
بعد أن بين تعالى حال المؤمنين وأنهم هم وأزواجهم وذرياتهم في دار النعيم يبين في هذه الآيات الثلاث حال الكافرين في النار جريا على أسلوب القرآن في الترغيب والترهيب فقال تعالى مخبرا عن أهل النار: { إن الذين كفروا } أي بربهم ولقائه وتوحيده ينادون أي تناديهم الملائكة فتقول لهم - بعد أن يأخذوا في مقت أنفسهم ولعن بعضهم بعضا - { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } وذلك لأنكم كنتم تدعون إلى الإيمان بالله وتوحيده وطاعته فتكفرون وتجحدون متكبرين.
وهنا في الآية الثانية [11] يقولون وهم في جهنم { ربنآ } أي يا ربنا { أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } يعنون بالموتتين الأولى وهم نطف ميتة والثانية بقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم، ويعنون بالحياتين الأولى التي كانت لهم في الدنيا قبل موتهم والثانية التي بعد البعث، وقولهم: { فاعترفنا بذنوبنا } أي التي قارفناها في الحياة الدنيا وهي الكفر والشرك والمعاصي. وقولهم بعد هذا الاعتذار { فهل إلى خروج من سبيل } أي فهل من طريق إلى الخروج من النار والعودة إلى الحياة الدنيا لنصلح ما أفسدنا، ونطيع من عصينا؟ والجواب قطعا لا سبيل إلى ذلك أبدا، وبقاؤكم في العذاب ليس ظلما لكم وإنما هو جزاء وفاق لكم ثم ذكر تعالى علة عذابهم بقوله { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم } بالله وتوحيده { وإن يشرك به تؤمنوا } أي وإن يشرك بالله تؤمنوا كقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملك وما ملك وقوله فالحكم لله العلي الكبير، وقد حكم بعذابكم فلا سبيل إلى نجاتكم.
فامقتوا أنفسكم ونوحوا على أرواحكم فما ذلكم بمجديكم ولا بمخفف العذاب عنكم. وقوله تعالى: { هو الذي يريكم آياته } هذا خطاب للناس في هذه الحياة الدنيا خطاب لمشركي قريش بعد أن عرض عليهم صورة صادقة حية لحالهم في جهنم يوم القيامة عاد يخاطبهم داعيا لهم إلى الإيمان فقال هو أي المعبود بحق الله الذي يريكم آياته أي حججه ودلائل وحدانيته وقدرته على بعثكم ومجازاتكم { وينزل لكم من السمآء رزقا } من المطر وغيره. ومع ذاك البيان وهذا الإفصال، { وما يتذكر إلا من ينيب } أي فلا يتعظ إلا من شأنه الإنابة إلى ربه تعالى في كل شأنه.
وقوله تعالى: { فادعوا الله مخلصين له الدين } هذا خطاب للموحدين يأمرهم تعالى بالاستمرار على توحيد الله في عباداته والاخلاص لله تعالى في كل أعمالهم، ولو كره الكافرون ذلك منهم فإنه غير ضائرهم.
وقوله تعالى: { رفيع الدرجات ذو العرش } أي هو الله ذو الدرجات الرفيعة والعرش العظيم { يلقي الروح من أمره على من يشآء من عباده } أي يلقي بالوحي من أمره الذي يريد إنفاذه إلى خلقه على من يشاء من عباده ممن يصطفيهم وينبئهم من اجل أن ينذروا عباده يوم التلاقي وهو يوم القيامة إذ يلتقي أهل الأرض بأهل السماء والمخلوقون بخالقهم وهو قوله { لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون } من قبورهم لا شيء يسترهم، { لا يخفى على الله منهم شيء } وفي هذا الموقف العظيم يقول الجبار سبحانه وتعالى: { لمن الملك اليوم }؟ فلا يجيبه أحد رهبة منه وخوفا فيجيب نفسه بنفسه قائلا: { لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } من خير وشر لتمام العدالة الإلهية، ويؤكد ذلك قوله: { لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب } ويأخذ في محاسبتهم فلا ينتصف النهار إلا وأهل الجنة في الجنة قائلون في أحسن مقيل اللهم اجعلني منهم ومن قال آمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عدم جدوى الاعتذار يوم القيامة هذا فيما لو أذن للعبد أن يعتذر فلا ينفعه اعتذار.
2- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.
3- بيان أفضال الله على العباد إذ يريهم آياته لهدايتهم ويرزقهم وهم يكفرون به.
4- وجوب إخلاص الدعاء وسائر العبادات لله وحده ولو كره ذلك المشركون.
5- تقرير النبوة، وبيان الحكمة فيها وهي إنذار الناس من عذاب يوم القيامة حيث الناس بارزون لله لا يخفى على الله منهم شيء فيحاسبهم بعلمه وعدله فلا ينقضي نهار إلا وقد استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار اللهم أعذنا من نار جهنم.
[40.18-20]
شرح الكلمات:
يوم الآزفة: أي يوم القيامة.
إذ القلوب لدى الحناجر: أي من شدة الخوف تكون القلوب قد ارتفعت حتى وصلت عند الحناجر.
كاظمين: أي لقلوبهم يريدون ردها فلم يقدروا.
ما للظالمين من حميم: أي ليس للمشركين من محب قريبا كان أو بعيدا.
يعلم خائنة الأعين: أي الله تعالى يعلم العين إذا سرقت النظر إلى محرم.
والله يقضي بالحق: أي لكمال قدرته وعلمه يحكم بالحق.
والذين يدعون من دونه: أي والذين يدعوهم مشركو قريش من أصنام لا يقضون بشيء عدلا كان أو جورا لأنهم أصنام لا تسمع ولا تبصر.
معنى الآيات:
بعد بيان الموقف الصعب في عرصات القيامة في الآيات السابقة قال تعالى لرسوله { وأنذرهم } يا رسولنا أي خوف قومك { يوم الأزفة } وهي القيامة القريبة والتي قد قربت فعلا وكل ما هو ات قريب أنذرهم قربها حتى لا يوافوها بالشرك والمعاصي فيخسروا خسرانا مبينا، أنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب من شدة الخوف ترتفع إلى الحناجر وهم يكظمونها فلا هي تخرج فيموتوا ولا هي تعود إلى أماكنها فيستريحوا.
{ ما للظالمين } وهم أهل الشرك والمعاصي { من حميم } قريب أو حبيب يدفع عنهم العذاب { ولا شفيع } يشفع لهم وتقبل شفاعته ويطاع فيها لا ذا ولا ذاك يا لفظاعة الحال وقوله تعالى: { يعلم خآئنة الأعين } يخبر تعالى عن سعة علمه وواسع اطلاعه أنه يعلم خائنة الأعين وهي العين تسترق النظر إلى المحارم، ويعلم { وما تخفي الصدور } أي وما تكتمه صدور العباد وما تضمره من خير وشر، ولذا فسوف يكون الحساب دقيقا ومن نوقش الحساب عذب. { والله يقضي بالحق } اي يحكم بالعدل، { والذين يدعون من دونه } أي والذين يعبدهم المشركون من أصنام وأوثان { لا يقضون بشيء } لأنهم لا يسمعون ولا يبصرون.
وقوله { إن الله هو السميع البصير } السميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم فلذا إذا حكم يحكم بالحق ويقدر على إنفاذ الحكم فيجزى السيئة بالسيئة والحسنة بعشر أمثالها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان هول يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه.
2- إنعدام الحميم والشفيع للظالمين يوم القيامة.
3- بيان سعة علم الله تعالى حتى إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
4- قضاء الله عدل وحكمه نافذ وذلك لكمال علمه وقدرته.
[40.21-22]
شرح الكلمات:
أو لم يسيروا في الأرض: أي أغفل كفار قريش ولم يسيروا في الأرض.
فينظروا: أي بأعينهم.
كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم: إنها كانت دمارا وخسارا ووبالا عليهم.
كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض: ولم يغن ذلك عنهم من الله شيئا.
فأخذهم الله بذنوبهم: أي عاقبهم بذنوبهم فدمرهم وأهلكهم.
وما كان لهم من الله من واق: أي ولم يوجد لهم من عقاب الله من واق يقيهم منه.
ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات: أي بالحجج والبراهين والأدلة والمعجزات.
فكفروا: أي بتلك الحجج والآيات.
فأخذهم الله: أي لما كفروا أخذهم بكفرهم.
إنه قوي شديد العقاب: هذا تعليل لأخذه إياهم.
معنى الآيات:
تقدم في السياق تخويف الله تعالى لمشركي قريش بعذاب الآخرة، ومبالغة في نصحهم وطلب هدايتهم خوفهم بعد عذاب الآخرة بعذاب الدنيا لعلهم يتوبون فقال: أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض أي أغفل هؤلاء المجاحدون المعاندون ولم يسيروا في البلاد شمالا وجنوبا حيث ديار عاد في الجنوب وديار ثمود في الشمال فينظروا بأعينهم كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كعاد وثمود كان أولئك أشد من هؤلاء قوة وآثارا في الأرض من حيث البناء والعمران والقدرة على الحرب والقتال، فأخذهم الله بذنوبهم أي بذنوب الشرك والتكذيب والمعاصي، ولما أخذهم لم يوجد لهم من عقاب الله وعذابه من واق يقيهم ما أنزل الله بهم وما أحله بساحتهم. فما لهؤلاء المشركين لا يتعظون ولا يعتبرون والعاقل من اعتبر بغيره.
وقوله تعالى: { ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله } هذا تعليل لأخذ الله لأولئك الأقوام من عاد وثمود وغيرهم إذ ما أخذهم إلا بعد أن أنذرهم وأعذر إليهم فلما أصروا على الكفر والتكذيب أخذهم بذنوبهم. وقوله { إنه قوي شديد العقاب } تعليل أيضا للأخذ الكامل الذي أخذهم به لعظم قوته وشدة عقابه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير الحكمة القائلة: العاقل من اعتبر بغيره.
2- الأخذ بالذنوب سنة من سنن الله في الأرض لا تتبدل ولا تتحول.
3- من أراد الله عقابه لا يوجد له واق يقيه، ولا حام يحميه، ومن تاب تاب الله عليه.
[40.23-27]
شرح الكلمات:
بآياتنا وسلطان مبين: أي بحججنا، وبرهان بين ظاهر.
هامان وقارون: هامان وزير فرعون، وقارون رجل الملايين.
فقالوا ساحر كذاب: أي لما رأوا آية العصا واليد البيضاء قالوا: ساحر كذاب دفعا لقومهم حتى لا يؤمنوا به.
فلما جاءهم بالحق من عندنا: أي جاءهم موسى بالصدق فيما أخبرهم به من أنه رسول الله وطالبهم بإرسال بني إسرائيل معه.
قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه: أي اقتلوا الأولاد الذكران.
واستحيوا نساءهم: أي بناتهم بمعنى أتركوهن حيات.
وما كيد الكافرين إلا في ضلال: أي وما مكرهم إلا في خسران وضياع.
ذروني أقتل موسى وليدع ربه: أي دعوني واتركوني وليدع ربه ليمنعه مني.
إني أخاف أن يبدل دينكم: أي يغير عبادتكم لآلهتكم لعبادة إلهه.
أو أن يظهر في الأرض الفساد: بالقتل والتخريب ونحوه.
إني عذت بربي وربكم: أي استجرت بخالقي وخالقكم.
من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب: أي من كل إنسان متكبر لا يؤمن بيوم الحساب والجزاء على الأعمال.
معنى الآيات:
بعد تلك الدعوة الربانية لقريش إلى الإيمان والتوحيد والتصديق بالبعث والجزاء، وما فيها من مظاهر لقدرة الله وعلمه وحكمته وعدله، وبعد ذلك العرض لأحوال القيامة، وبيان الجزاء لكل من الكافرين والمؤمنين فيها كأنه يرى رأي العين، وبعد ذلك الترغيب والترهيب مما في الدنيا والآخرة والمشركون لا يزدادون إلا عتوا وطغيانا بعد كل ذلك قص الله تعالى على رسوله قصة موسى مع فرعون ليسليه بها ويصبره وليعلمه أن البلاء مهما اشتد يعقبه الفرج، وأن الله ناصره على قومه كما نصر موسى على فرعون وقومه فقال تعالى: { ولقد أرسلنا } أي قبلك يا رسولنا - موسى بن عمران بآياتنا أي بأدلتنا وحججنا على صدق دعوته وصحة رسالته، وسلطان مبين أي وبرهان ظاهر بين أرسلناه إلى فرعون وهامان وقارون فهامان وزير فرعون وقارون من أرباب الملايين وهو وإن لم يكن من آل فرعون لأنه من بني إسرائيل إلا أنه مالأ فرعون ووقف في صفه، فلما بلغهم موسى دعوة ربه وأراهم الحجج والبراهين قالوا ساحر كذاب فرموه بقاصمتين السحر والكذب حماية لمصالحهم وخوفا من تغيير الوضع عليهم.
وقوله تعالى: { فلما جآءهم بالحق من عندنا } أي فلما جاءهم موسى بالصدق من عند الله كان رد الفعل منهم أن أمروا بقتل الذكور من أولاد الذين آمنوا معه، واستحياء بناتهم للخدمة والامتهان وهو ما أخبر تعالى به في قوله: { قالوا اقتلوا أبنآء الذين آمنوا معه واستحيوا نسآءهم } وقوله تعالى { وما كيد الكافرين إلا في ضلال } عام في كل كيد كافر يبطله الله تعالى ولا يضر به أولياءه وقوله تعالى: { وقال فرعون ذروني أقتل موسى } لا شك أن هذا القول الدال على طغيان فرعون كان بعد أن انهزم في ميادين عدة أراد أن يسترد بعض ما فقد فقال ذروني أقتل موسى أي اتركوني أقتل موسى { وليدع ربه } أي ليمنعه مني، وعلل لقوله هذا بقوله إني أخاف أن يبدل دينكم، أي بعد أن يغلب عليكم فتدينون بدينه أو أن يظهر في الأرض الفساد بالقتل والفتن.
ورد موسى عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه في قوله: { وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } قال موسى هذا لما سمع مقالة فرعون التي يهدده فيها بالقتل فأعلمهم أنه قد استجار بالله وتحصن به فلا يقدر أحد على قتله، وقوله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، لأن من يؤمن بيوم الحساب لا يقدم على جريمة القتل وإنما يقدم عليها من لا يؤمن بحساب ولا جزاء في الدار الآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول وحمله على الصبر والتحمل وهو في أشد الظروف صعوبة.
2- عدم تورع الظلمة في كل زمان عن الكذب وتلفيق التهم للأبرياء.
3- التهديد بالقتل شنشنة الجبارين والطغاة في العالم.
4- أحسن ملاذ للمؤمن من كل خوف هو الله تعالى رب المستضعفين.
[40.28-29]
شرح الكلمات:
وقال رجل من آل فرعون: هو شمعان بن عم فرعون.
أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟: أي لأن يقول ربي الله؟ والرجل هو موسى عليه السلام.
بالبينات من ربكم: أي بالمعجزات الظاهرات.
فعليه كذبه: أي ضرر كذبه عليه لا عليكم.
يصبكم بعض الذي يعدكم: أي بعض العذاب الذي يعدكم به في الدنيا عاجلا غير آجل.
من هو مسرف كذاب: أي مسرف في الكفر والظلم كذاب لا يقول الصدق ولا يفوه به.
ظاهرين في الأرض: أي غالبين في بلاد مصر وأراضيها.
فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا: أي من عذاب الله إن جاءنا وقد قتلنا أولياءه.
ما أريكم إلا ما أرى: أي ما أشير به عليكم إلا ما أشير به على نفسي وهو قتل موسى
وما أهديكم إلا سبيل الرشاد: أي إلا طريق الرشد والصواب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عما دار في قصر فرعون فقد أبدى فرعون رغبته في إعدام موسى معللا ذلك بأمرين أن يبدل دين الدولة والشعب، والثاني أن يظهر الشغب في البلاد والتعب للدولة والمواطنين معا. وها هو ذا رجل مؤمن من رجالات القصر يكتم إيمانه بموسى وبما جاء به من التوحيد خوفا من فرعون وملئه. ولنستمع إلى ما أخبر تعالى به عنه: { وقال رجل مؤمن } أي بموسى { من آل فرعون } إذ هو ابن عم فرعون واسمه شمعان كسلمان قال: { أتقتلون } ينكر عليهم قرار القتل { رجلا أن يقول ربي الله } أي لأن قال ربي الله { وقد جآءكم بالبينات } وهي الحجج والبراهين كالعصا واليد { من ربكم } الحق الذي لا رب لكم سواه. { وإن يك كاذبا } أي وإن فرضنا أنه كاذب فإن ضرر كذبه عائد عليه لا عليكم { وإن يك صادقا } وهو صادق { يصبكم بعض الذي يعدكم } من العذاب العاجل. إن الله تعالى لا يهدي أي لا يوفق إلى النصر والفوز في أموره { من هو مسرف } متجاوز الحد في الاعتداء والظلم { كذاب } مفتر يعيش على الكذب فلا يعرف الصدق. وبعد أن بين لهم هذه الحقيقة العلمية الثابتة أقبل عليهم يعظهم فقال: { يقوم لكم الملك اليوم ظاهرين } أي غالبين في الأرض أي أرض مصر بكامل ترابها وحدودها. لكن إن نحن أسرفنا في الظلم والافتراء فقتلنا أولياء الله فجاءنا بأس الله عقوبة لنا فمن ينصرنا؟ إنه لا ناصر لنا أبدا من الله فتفهموا ما قلت لكم جيدا، ولا يهلك على الله إلا هالك، وهنا قام فرعون يرد على كلمة الرجل المؤمن فقال ما أخبر تعالى به عنه في قوله: { قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى } أي ما أشير عليكم بشيء إلا وقد رأيته صائبا وسديدا، يعني قتل موسى عليه السلام، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد أي إلا إلى طريق الحق والصواب، وكذب والله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل الإيمان وفضل صاحبه فقد ورد الثناء على هذا الرجل في ثلاثة رجال هم مؤمن آل فرعون هذا، وحبيب النجار مؤمن آل ياسين وأبو بكر الصديق رضي الله عنه.
2- فصاحة مؤمن آل فرعون هي ثمرة إيمانه وبركته العاجلة فإن لكلماته وقع كبير في النفوس.
3- التنديد بالإسراف في كل شيء والكذب والافتراء في كل شيء وعلى أي شيء.
4- من عجيب أمر فرعون ادعاؤه أن يهدي إلى الرشد والسداد والصواب في القول والعمل، حتى ضرب به المثل فقيل: فرعون يهدي إلى الرشد.
[40.30-35]
شرح الكلمات:
وقال الذي آمن: أي مؤمن آل فرعون.
مثل يوم الأحزاب: أي عذابا مثل عذاب الأحزاب وهم قوم نوح وعاد وثمود.
مثل دأب قوم نوح: أي مثل جزاء عادة من كفر قبلكم وهي استمرارهم على الكفر حتى الهلاك فهذا الذي أخافه عليكم.
يوم التناد: أي يوم القيامة وقيل فيه يوم التنادي لكثرة النداءات فيه إذ ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة.
يوم تولون مدبرين: أي هاربين من النار إلى الموقف.
ولقد جاءكم يوسف من قبل: أي يوسف بن يعقوب الصديق بن الصديق عليهما السلام من قبل مجيء موسى إليكم اليوم.
قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا: أي قلتم هذا من دون دليل فبقيتم كافرين إلى اليوم.
كذلك يضل الله من هو مسرف: أي مثل إضلالكم هذا يضل الله من هو مسرف في الشرك والظلم.
مرتاب: أي شاك فيما قامت الحجج والبينات على صحته.
يجادلون في آيات الله بغير سلطان: أي يخاصمون في آيات الله لإبطالها بدون سلطان أي حجة وبرهان.
كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا: أي كبر جدالهم بالباطل مقتا عند الله وعند الذين آمنوا.
كذلك: أي مثل إضلالهم يطبع الله أي يختم بالضلال على كل قلب متكبر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما دار من كلام في مجلس الحكومة، وها هو ذا مؤمن آل فرعون يتناول الكلمة بعد فرعون الذي أعاد تقرير ما عزم عليه من قتل موسى عليه السلام فقال ما أخبر تعالى به عنه في قوله: { وقال الذي آمن } وهنا أعلن عن إيمانه الذي كان يكتمه يا قوم إني أخاف عليكم أي إن أنتم أصررتم على قتل موسى وقتلتموه { أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب } وهو اليوم الذي أخذ الله فيه قوم نوح، وعاد وثمود أي أخاف عليكم جزاء عادتهم وهي استمرارهم على الكفر والشك والتكذيب حتى حلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه وواصل وعظه قائلا، { ويقوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين } أي فارين من النار هاربين إلى الموقف وهو يوم القيامة الذي تكثر فيه النداءات والصرخات { ما لكم من الله من عاصم } يعصمكم من العذاب وينجيكم منه. وبعد هذا الوعظ البليغ قال { ومن يضلل الله فما له من هاد } إشارة إلى أن القوم لم يتأثروا بكلامه فقال متعزيا بعلمه بتدبير الله في خلقه فقال: { ومن يضلل الله فما له من هاد } فإن من كتب الله عليه الضلالة ليصل إلى الشقاوة بكسبه فلا هادي له أبدا، إذ الله لا يهدي من يضل ثم قال لهم مواصلا كلامه { ولقد جآءكم يوسف من قبل } أي من قبل موسى وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام بالبينات والحجج الدالة على توحيد الله ووجوب طاعته، غير أنكم مع الأسف { فما زلتم في شك مما جآءكم به } فلم تؤمنوا ولم توقنوا { حتى إذا هلك } أي مات عليه السلام فرحتم بموته { قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا } متخرصين متقولين على الله بدون علم فأضلكم الله بكذبكم عليه { كذلك يضل الله من هو مسرف } في الكذب مثلكم { مرتاب } في كل شيء لا يعرف اليقين في شيء، والعياذ بالله، ثم أعلمهم أن الذين يجادلون في آيات الله يريدون إبطال الحق وإطفاء نوره بكلامهم بغير حجة لديهم ولا برهان أتاهم جدالهم ذلك أكبر مقتا أي أشد شيء يمقته الله ويبغضه من صاحبه، وكذلك عند الذين آمنوا.
وختم كلامه بقوله { كذلك يطبع الله } أي كإضلال من هو مسرف مرتاب يطبع الله { على كل قلب متكبر } أي قلب كل إنسان متكبر على الإيمان والطاعة متجبر متعاظم يريد إجبار الناس على مراده وما يهواه. وإلى هنا انتهى كلام الرجل المؤمن والكلمة الآن إلى فرعون الطاغية وسنقرأها في الآيات التالية بعد رؤية ما في الآيات من هداية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- قوة الإيمان تفجر قلب المؤمن بأنواع من المعرفة والحكمة في قوله إذا قال.
2- التذكير بالأمم الهالكة إذ العاقل من اعتبر بغيره.
3- التخويف من عذاب الآخرة وأهوال القيامة.
4- التنديد بالإسراف والارتياب وعدم اليقين.
5- حرمة الجدال بغير علم ، وأن صاحبه عرضة لمقت المؤمنين بعد مقت الله تعالى.
6- عرضة المتكبر الجبار للطبع على قلبه ويومها يحرم الهداية فلا يهدى أبدا.
[40.36-40]
شرح الكلمات:
يا هامان ابن لي صرحا: هامان وزير فرعون والصرح البناء العالي.
أسباب السماوات: أي طرقها الموصلة إليها.
وإني لأظنه كاذبا: أي وإني لأظن موسى كاذبا في زعمه أن له إلها غيري.
سوء علمه: أي قبيح عمله.
وصد عن السبيل: أي عن طريق الهدى.
إلا في تباب: أي خسار وضياع بلا فائدة تذكر.
إنما هذه الحياة الدنيا متاع: أي ما هذه الدنيا إلا متاع يتمتع به وقتا ثم يزول.
دار القرار: أي الاستقرار والبقاء الأبدي.
يرزقون فيها بغير حساب: أي رزقا واسعا بلا تبعة ولا تعقيب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما يدور من كلام بين مؤمن آل فرعون وفرعون نفسه إذ تقدم قول المؤمن وما حواه من نصح وإرشاد وها هو ذا فرعون يرد بطريق غير مباشر على ما قاله المؤمن فقال: لوزيره هامان { يهامان ابن لي صرحا } أي بناء عاليا { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموت فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } أي في دعواه أن له إلها غيري وهذا من فرعون مجرد مناورة كاذبة يريد أن يموه بها على غيره إبقاء على مركزه وقوله تعالى: { وكذلك زين لفرعون سوء عمله } أي ومثل هذا التزيين في قول فرعون زين له سوء عمله وهو أقبح ما يكون، { وصد عن السبيل } أي وصرف عن طريق الحق والهدى، وقوله تعالى: { وما كيد فرعون } أي مكره وتدبيره لقتل موسى عليه السلام وقتل أبناء المؤمنين { إلا في تباب } أي خسار وضياع لم يتحقق منه شيء، لأن الله تعالى ولي موسى والمؤمنين فلم يمكن فرعون منهم بحال. وبعد أن أخبر تعالى عن فرعون في محاولته الفاشلة أخبر تعالى عن الرجل المؤمن وما قاله للقوم من نصح وإرشاد فقال: { وقال الذي آمن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد } أي طريق الرشد والصواب في حياتكم لتنجوا من العذاب وتفوزوا بالنعيم المقيم في الجنة. فقال : { يقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع } أي لا تعدو كونها متاعا قليلا يتمتع به ثم يذهب سريعا، { وإن الآخرة } أي الحياة الآخرة بعد انتهاء هذه الحياة { هي دار القرار } أي الاستقرار والإقامة الأبدية، فاعملوا لدار البقاء وتجافوا عن دار الفناء واعلموا أن الحساب سريع وأن { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } وذلك لعدالة الرب تبارك وتعالى، ومن عمل صالحا من الأعمال الصالحة التي شرعها الله لعباده وتعبدهم بها والحال أنه مؤمن أي مصدق بالله وبوعده ووعيده يوم لقائه فأولئك أي المؤمنون العاملون للصالحات من الذكور والإناث يدخلون الجنة دار السلام يرزقون فيها بغير حساب أي رزقا واسعا لا يلحق صاحبه تبعة ولا تعب ولا نصب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من تزيين الأعمال القبيحة نتيجة الإدمان عليها والاستمرار على فعلها فإن من زينت له أعماله السيئة فأصبح يراها حسنة هلك والعياذ بالله.
2- التحذير من الاغترار بالدنيا والغفلة من الآخرة إذ الأولى زائلة والآخرة باقية واختبار الباقي على الفاني من شأن العقلاء.
3- مشروعية التذكير بالحساب والجزاء وما يتم في الدار الآخرة من سعادة وشقاء.
[40.41-46]
شرح الكلمات:
أدعوكم إلى النجاة: أي من الخسران في الدنيا والآخرة، وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
وتدعونني إلى النار: أي إلى عذاب النار وذلك بالكفر والشرك بالله تعالى.
ما ليس لي به علم: أي لا علم لي بصحة إشراكه في عبادة الله تعالى.
وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار: أي وأنا أدعوكم إلى الإيمان وعبادة الله العزيز أي الغالب على أمره الغفار لذنوب التائبين من عبادة المؤمنين به.
لا جرم أن ما تدعونني إليه: أي حقا أن ما تدعونني إلى الإيمان به وبعبادته.
لي له دعوة في الدنيا والآخرة: أي ليس له دعوة حق إلى عبادته، ولا دعوة استجابة بأن يستجيب لمن دعاه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وأن المسرفين هم أصحاب النار: أي وأن المسرفين في الكفر والشرك والمعاصي هم أهل النار الواجبة لهم.
فوقاه الله سيئات ما مكروا: أي فحفظه الله من مكرهم به ليقتلوه.
وحاق بآل فرعون سوء العذاب: أي عذاب الغرق إذ غرق فرعون وجنده أجمعون.
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا: أي أن سوء العذاب هو النار يعرضون عليها صباحا ومساء وذلك أن أرواحهم في أجواف طير سود تعرض على النار كل يوم مرتين.
ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون: أي ويوم القيامة يقال أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر نصائح وإرشاد مؤمن آل فرعون فقد قال ما أخبر به تعالى عنه في قوله: { ويقوم ما لي أدعوكم إلى النجاة } أي من النار وذلك بالإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي { وتدعونني إلى النار } وذلك بدعوتكم لي إلى الشرك والكفر تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم أي ما لا علم لي بصحة إشراكه في عبادة الله تعالى. وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار أي لتؤمنوا به وتعبدوه وحده ولا تشركوا معه غيره أدعوكم إلى العزيز أي الغالب الذي لا يغلب الغفار لذنوب التائبين من عباده مهمات كانت، وأنتم تدعونني إلى أذل شيء وأحقره لا ينفع ولا يضر لأنه لا يسمع ولا يبصر. لا جرم أي حقا أن ما تدعونني إليه لأومن به وأعبده ليس له دعوة حق يدعى بها إليه، ولا دعوة استجابة فإنه لا يستجيب لي دعاء أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة. وشيء آخر يا قوم وهو أن مردنا إلى الله أي لا محالة ترجع إليه فالواجب أن نؤمن به ونعبده ونوحده ما دام رجوعنا إليه، وآخر وهو { وأن المسرفين هم أصحاب النار } المسرفين الذين أسرفوا في الكفر والشرك والمعاصي فتجاوزوا الحد في ذلك هم أصحاب النار أي أهلها الذين لا يفارقونها ولا تفارقهم.
وقوله: { فستذكرون مآ أقول لكم } يبدو أنه قال هذا القول لما رفضوا دعوته وهموا بقتله ويدل عليه قوله: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.
وقوله تعالى: { فوقاه الله سيئات ما مكروا } أي حفظه الله تعالى من مكرهم به ليقتلوه فنجاه الله تعالى إذ هرب منهم فبعث فرعون رجالا في طلبه فلم يقدروا عليه ونجا مع موسى وبني إسرائيل وقوله { وحاق بآل فرعون سوء العذاب } وذلك بأن أغرقهم الله في البحر أجمعين.
وقوله { النار يعرضون عليها } إخبار بأن أرواح آل فرعون تعرض في البرزخ على النار غدوا وعشيا وذلك بأن تكون في أجواف طير سود على خلاف أرواح المؤمنين فإنها تكون في أجواب طير خضر ترعى في الجنة. إلى يوم القيامة.
ويوم تقوم الساعة يقال أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وهو عذاب جهنم والعياذ بالله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان الفرق الكبير بين من يدعو إلى النجاة وبين من يدعو إلى النار، بين من يدعو إلى العزيز الغفار ليؤمن به ويعبد وبين من يدعو إلى أوثان لا تسمع ولا تبصر وهي أحقر شيء وأذله في الحياة، وبين من يدعو من لا يستجيب له في الدنيا والآخرة وبين من يدعو من يستجيب له في الدنيا والآخرة.
2- التنديد بالإسراف وفي كل شيء.
3- نعم ما ختم به مؤمن آل فرعون وعظه ونصحه لقومه وهي فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.
4- إثبات عذاب القبر ونعيمه إذ آل فرعون تعرض أرواحهم على النار صباح مساء.
[40.47-52]
شرح الكلمات:
وإذ يتحاجون في النار: أي وأنذرهم يوم الآزفة وإذ يتحاجون في النار أي يتخاصمون.
فيقول الضعفاء: أي الاتباع الضعفاء الذين اتبعوا الأغنياء والأقوياء في الشرك.
إنا كنا لكم تبعا: أي تابعين لكم فيما كنتم تعتقدونه وتفعلونه.
فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار؟: أي فهل تدفعون عنا شيئا من النار.
إن الله قد حكم بين العباد: فلا مراجعة أبدا فقد حكم لأهل الإيمان والتقوى بالجنة فهم في الجنة ولأهل الشرك والمعاصي بالنار فهم في النار.
لخزنة جهنم: أي جمع خازن وهو الموكل بالنار وأهلها.
يخفف عنا يوما من العذاب: أي قدر يوم من أيام الدنيا إذ الآخرة يوم واحد لا ليل له.
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا: أي بأن نظهر دينهم، أو نهلك قومهم وننجيهم من الهلاك.
ويوم يقوم الأشهاد: أي وتنصرهم يوم يقوم الأشهاد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ.
ولهم اللعنة ولهم سوء الدار: أي ولهم اللعنة أي البعد من الرحمة ولهم سوء الدار أي الآخرة أي شدة عذابها.
معنى الآيات:
هذا عرض آخر للنار وما يجرى فيها بعد العرض الذي كان لآل فرعون في النار يعرض على كفار قريش ليشاهدوا مصيرهم من خلاله إذا لم يتوبوا إلى الله من الكفر والتكذيب والشرك تضمنته ست آيات قال تعالى: { وإذ يتحآجون في النار } أي وأنذرهم واذكر لهم إذ يتحاجون في النار أي يتخاصمون فيها فيقول الضعفاء الأتباع الذين كانوا يتبعون أغنياء وأقوياء البلاد طمعا فيهم وخوفا منهم. قالوا للذين استكبروا بقوتهم عن الإيمان ومتابعة الرسل، إنا كنا لكم تبعا أي تابعين، فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار؟ أي فهل في إمكانكم أن تخففوا عنا حظا من عذاب النار؟ فأجابوهم قائلين بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: { قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ } أي نحن وأنتم إن الله قد حكم بين العباد فقضى بالجنة لأهل الإيمان والتقوى، وبالنار لأهل الشرك والمعاصي هذه كانت خصومة الأتباع مع المتبوعين ولم تنته إلى طائل إلا زيادة الحسرة والغم والهم. وقوله تعالى: { وقال الذين في النار لخزنة جهنم } وهم الملائكة المكلفون بالنار وعذابها قالوا لهم { ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب } أي مقدار يوم من أيام الدنيا إذ الآخرة لا ليل فيها وإنما هي يوم واحد. فردت عليهم الملائكة قائلة بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: { قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } أي أتقولون ادعوا لنا ربكم ليخفف عنكم العذاب أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات أي بالحجج الظاهرة الدالة على وجوب الإيمان والتقوى بترك الشرك والمعاصي. قالوا بلى أي اعترفوا فقالت لهم الملائكة إذا فادعوا أنتم ربكم ولكن لا يستجاب لكم إذ ما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلا يستجاب له أبدا.
وقوله تعالى: { إنا لننصر رسلنا } تقرير لحقيقة عظمى، وهي أن من سنة الله في رسله أنه ينصرهم بانتصار دينهم وما يهدون ويدعون إليه، وإن طال الزمن واشتدت الفتن والمحن، أو بإهلاك أممهم المكذبة لهم وإنجائهم والمؤمنين معهم قال تعالى: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } وقوله: { ويوم يقوم الأشهاد } أي وينصرهم في الآخرة يوم يقوم الأشهاد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكافرين بالتكذيب.
وقوله: { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم } إذا أذن لهم في الاعتذار لا تقبل معذرتهم { ولهم اللعنة } أي البعد من الرحمة والجنة { ولهم سوء الدار } الآخرة وهو أشد عذابها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان تخاصم أهل النار وهو ما يتم من خصومة بين الأتباع والمتبوعين.
2- التنديد بالكبر والاستكبار إذ الكبر عائق عن الطاعة والاستقامة.
3- عدم استجابة دعاء الكافر في الدنيا والآخرة إلا ما شاء الله.
4- عدم قبول المعذرة يوم القيامة.
5- عدم استجابة الدعاء في النار.
6- بيان وعد الله لرسله والمؤمنين وهو أنه ينصرهم بأحد أمرين الأول أن ينصر دينهم ويظهره ويقرره وإن طال الزمن، والثاني أن يهلك عدوهم وينجيهم.
[40.53-57]
شرح الكلمات:
ولقد آتينا موسى الهدى: أي أعطينا موسى بني إسرائيل المعجزات والتوراة.
وأورثنا بني إسرائيل: أي أبقينا فيهم التوراة كتاب الهداية الإلهية يهتدون به في ظلمات الحياة ويذكرون به الله في تراكم النسيان.
واصبر إن وعد الله حق: أي واصبر يا محمد على ما تلاقي من قومك إن وعد الله بنصرك حق.
واستغفر لذنبك: ليقتدي بك في ذلك ولزيادة طهارة لروحك وتزكية لنفسك.
وسبح بحمد ربك: أي نزه ربك وقدسه بالصلاة والذكر والتسبيح فيها وخارجها.
بالعشي والإبكار: بالمساء وأول النهار أي في أوقات الصلوات الخمس كلها.
إن في صدورهم إلا كبر: أي ما في صدورهم إلا كبر حملهم على الجدال في الحق، لا أن لهم علما يجادلون به، وإنما حبهم العلو والغلبة حملهم على ذلك.
فاستعذ بالله: أي استعذ من شرهم بالله السميع لأقوالهم العليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم.
لخلق السماوات والأرض: أي لخلق السماوات والأرض ابتداء ولأول مرة.
أكبر من خلق الناس: أي أعظم من خلق الناس مرة أخرى بعد الأولى.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ولقد آتينا موسى الهدى } الآية شروع في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من قومه فأعلمه تعالى أنه قد سبق أن أرسل موسى وآتاه الكتاب الذي هو التوراة وأورثه في بني إسرائيل هدى أي هاديا لهم في ظلمات الحياة إلى الحق والدين الصحيح الذي هو الإسلام وذكرى لأولي الألباب أي يذكر به أولوا العقول، ولاقى موسى من قومه أشد مما لاقيت إذا فاصبر على ما تعانيه من قريش وأن العاقبة لك فإن وعد الله حق وقد قال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد أي يوم القيامة.
وقوله: { واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار } أرشده إلى مقومات الصبر والموفرات له وهي ذكر الله تعالى بالاستغفار والدعاء والصلاة والتسبيح فيها وخارجها. فأعظم عون على الصبر الصلاة فلذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وقوله { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان } أي حجة من علم إلهي أتاهم بطريق الوحي إن في صدورهم أي ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أي لا يصلون إليه بحال وهو الرئاسة عليك والتحكم فيك وفي أصحابك. وعليه فاستعذ بالله من شرهم ومن مكرهم إنه تعالى هو السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم وأعمالهم، وسوف لا يمكن لهم منك أبدا لقدرته وعلمه وعجزهم وجهلهم.
وقوله تعالى: { لخلق السموت والأرض } هذا رد على منكري البعث والجزاء الآخر فلما قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون.. قال تعالى: وعزتنا وجلالنا لخلق السماوات والأرض ابتداء من غير مثال سابق ولا مادة قائمة موجودة أكبر من خلق الناس مرة أخرى بعد خلقهم المرة الأولى، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق العلمية لجهلهم وبعدهم عن العقليات لما عليهم من طابع البداوة وإلا فإعادة الشيء أهون من بدئه عقلا فليس الاختراع كالإصلاح للمخترع إذا فسد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان منة الله تعالى على موسى وبني إسرائيل تتكرر لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بإنزال الكتاب وتوريثه فيهم هدى وذكرى لأولي الألباب.
2- وجوب الصبر والتحمل في ذات الله، والاستعانة على ذلك بالاستغفار والذكر والصلاة.
3- أكثر من يجادل بالباطل ليزيل به الحق إنما يجادل من كبر يريد الوصول إليه وهو التعالي والغلبة والقهر للآخرين.
4- تقرير عقيدة البعث بالبرهان العقلي، وهو أن البدء أصعب من الإعادة ومن أبدأ أعاد، ولا نصب ولا تعب!!
[40.58-63]
شرح الكلمات:
وما يستوي الأعمى والبصير: لا يستويان فكذلك الكافر والمؤمن لا يستويان.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء: لا يستويان أيضا فكذلك لا يستوي الموقن والشاك.
قليلا ما تتذكرون: أي ما يتذكرون إلا تذكرا قليلا والتذكر الاتعاظ.
إن الساعة لآتية: أي إن ساعة نهاية هذه الحياة وإقبال الأخرى جائية لا شك فيها.
إن الذين يستكبرون عن عبادتي: أي عن دعائي.
سيدخلون جهنم داخرين : أي صاغرين ذليلين.
لتسكنوا فيه: أي لتنقطعوا عن الحركة فتستريحوا.
والنهار مبصرا: أي مضيئا لتتمكنوا فيه من الحركة والعمل.
ولكن أكثر الناس لا يشكرون: أي الله تعالى بحمده والثناء عليه وطاعته.
ذلكم الله ربكم: أي ذلكم الذي أمركم بدعائه ووعدكم بالاستجابة الذي جعل لكم الليل والنهار وأنعم عليكم بجلائل النعم الله ربكم الذي لا إله لكم غيره ولا رب لكم سواه.
فأنى تؤفكون: أي كيف تصرفون عنه وهو ربكم وإلهكم الحق إلى أوثان وأصنام لا تسمع ولا تبصر.
كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون: أي كما صرف أولئك عن الإيمان والتوحيد يصرف الذين يجحدون بآيات الله يصرفون عن الحق.
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد، فقوله تعالى { وما يستوي } أي في حكم العقلاء { الأعمى } الذي لا يبصر شيئا والبصير الذي يبصر كل شيء يقع عليه بصره فكذلك لا يستوي المؤمن السميع المبصر، والكافر الأعمى عن الدلائل والبراهين فلا يرى منها شيئا الأصم الذي لا يسمع نداء الحق والخير، ولا كلمات الهدى والرشاد. كما لا يستوي في حكم العقلاء المحسن المؤمن العامل للصالحات، والمسيىء الكافر والعامل للسيئات ، وإذا كان الأمر كما قررنا فلم لا يتعظ القوم به ولا يتوبون إنهم لظلمة نفوسهم { قليلا ما تتذكرون } أي لا يتعظون إلا نادرا.
وقوله تعالى: { إن الساعة لآتية } يخبر تعالى أن الساعة التي كذب بها المكذبون ليستمروا على الباطل والشر فعلا واعتقادا لآتية حتما، { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } بها لوجود صارف قوي وهو عدم تذكرهم، وانكبابهم على قضاء شهواتهم.
وقوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم }. إنه لما قرر ربوبيته تعالى وأصبح لا محالة من الاعتراف بها قال لهم: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } أي سلوني أعطكم وأطيعوني أثبكم فأنتم عبادي وأنا ربكم. ثم قال لهم: { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } ودعائي فلا يعبدونني ولا يدعونني سوف أذلهم وأهينهم وأعذبهم جزاء استكبارهم وكفرهم وهو معنى قوله: { سيدخلون جهنم داخرين } أو صاغرين ذليلين يعذبون بها أبدا.
وفي الآية [61] عرفهم تعالى بنفسه ليعرفوه فيؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه، ويكفروا بما سواه من مخلوقاته فقال: { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } أي جعله مظلما لتنقطعوا فيه عن الحركة والعمل فتستريحوا { والنهار مبصرا } أي وجعل لكم النهار مبصرا أي مضيئا يمكنكم التحرك فيه والعمل والتصرف في قضاء حاجاتكم، وليس هذا من إفضال الله عليكم بل إفضاله وإنعامه أكثر من أن يذكر وقرر ذلك بقوله: { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } الله على إفضاله وإنعامه عليهم فلا يعترفون بإنعامه ولا يحمدونه بألسنتهم ولا يطيعونه بجوارحهم، وذلك لاستيلاء الشيطان والغفلة عليهم ثم واصل تعريف نفسه لهم ليؤمنوا به بعد معرفته ويكفروا بالآلهة العمياء الصماء التي هم عاكفون عليها صباح مساء فقال جل من قائل: { ذلكم الله ربكم } الذي عرفكم بنفسه { خلق كل شيء لا إله إلا هو } أي لا معبود بحق إلا هو.
وقوله: { فأنى تؤفكون } أي كيف تصرفون عنه وهو ربكم والمنعم عليكم، إلى أوثان وأصنام لا تنفعكم ولا تضركم. فسبحان الله كيف تؤفكون كذلك يؤفك أي كانصرافكم أنتم عن الإيمان والتوحيد مع وفرة الأدلة وقوة الحجج يصرف أيضا الذين كانوا بآيات الله يجحدون في كل زمان ومكان لأن الآيات الإلهية حجج وبراهين فالمكذب بها سيكذب بكل شيء حتى بنفسه والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حقيقة وهي أن الضدين لا يجتمعان فالكفر والإيمان، والإحسان والإساءة والعمى والبصر والصمم والسمع هذه كلها لا تستوي بعضها ببعض فمحاولة الجمع بينها محاولة باطلة ولا تنبغي.
2- قرب الساعة مع تحتم مجيئها والأدلة على ذلك العقلية والنقلية كثيرة جدا.
3- فضل الدعاء وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله. وللدعاء المستجاب شروط منها: أن يكون القلب متعلقا بالله معرضا عما سواه وأن لا يسأل ما فيه إثم، ولا يعتدي في الدعاء فيسأل ما لم تجر سنة الله به كأن يسأل أن يري الجنة يقظة أو أن يعود شابا وهو شيخ كبيرا أو أن يرزق الولد وهو لا يتزوج.
4- الدعاء هو العبادة ولذا من دعا غير الله فقد أشرك بالله.
5- بيان إنعام الله وإفضاله والمطالبة بشكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته بفعل محابه وترك مكارهه.
[40.64-68]
شرح الكلمات:
قرارا: أي قارة بكم لا تتحرك فيفسد ما عليها من إنشاء وتعمير.
بناء: أي محكمة إحكام البناء فلا تقسط عليكم ولا يسقط منها شيء يؤذيكم.
وصوركم: أي في أرحام أمهاتكم فأحسن صوركم.
من الطيبات: أي الحلال المستلذ غير المستقذر وهي كثيرة.
فتبارك الله: أي تعاظم وكثرت بركاته.
فادعوه مخلصين له الدين: أي أعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا في عباداته دعاء كان أو غيره.
قل إني نهيت: أي نهاني ربي أن أعبد الأوثان التي تعبدون.
وأمرت أن أسلم لرب العالمين: أي وأمرني ربي أن أسلم له وجهي وأخلص له عملي.
هو الذي خلقكم من تراب: أي خلق أبانا آدم من تراب وخلقنا نحن ذريته مما ذكر من نطفة ثم من علقة.
ثم لتبلغوا أشدكم: أي كمال أجسامكم وعقولكم في سن ما فوق الثلاثين.
ومنكم من يتوفى من قبل: أي ومنكم من يتوفاه ربه قبل سن الشيخوخة والهرم.
ولتبلغوا أجلا مسمى: أي فعل ذلكم بكم لتعيشوا ولتبلغوا أجلا مسمى وهو نهاية العمر المحددة لكل إنسان.
ولعلكم تعقلون: أي طوركم هذه الأطوار من نطفة إلى علقة إلى طفل إلى شاب إلى كهل إلى شيخ رجاء أن تعقلوا دلائل قدرة الله وعلمه وحكمته فتؤمنوا به وتعبدوه موحدين له فتكملوا وتسعدوا.
يحيي ويميت: أي يخلق الإنسان وقد كان عدما، ويميته عند نهاية أجله.
فإذا قضى أمرا: أي حكم بوجوده.
فإنما يقول له كن فيكون: أي فهو لا يحتاج إلى وسائط وإنما هي الإرادة فقط فإذا أراد شيئا قال له كن فهو يكون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم ف تعريف العباد بربهم سبحانه وتعالى حتى يؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه إذ كمالهم وسعادتهم في الدارين متوقفان على ذلك قال تعالى: { الله الذي جعل لكم الأرض قرارا } أي قارة في مكانها ثابتة في مركز دائرتها لا تتحرك بكم ولا تتحول عليكم فتضطرب حياتكم فتهلكوا، وجعل السماء بناء محكما وسقفا محفوظا من التصدع والانفطار والسقوط كلا أو بعضا، وصوركم في أرحام أمهاتكم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات التي خلقها لكم وهي كل ما لذ وطاب من حلال الطعام والشراب واللباس والمراكب ذلكم الفاعل لكل ذلك الله ربكم الذي لا رب لكم سواه ولا معبود يحق لكم غيره. فتبارك الله رب العالمين أي خالق الإنس والجن ومالكهما والمدبر لأمرهما، هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتمون لا إله أي لا معبود للعالمين إلا هو فادعوه مخلصين له الدين أي اعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحدا قائلين الحمد لله رب العالمين أي حامدين له بذلك، هذا ماتضمنته الآيتان [64، 65] وقوله تعالى: { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } أي قل يا نبينا لقومك إني نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون من دون الله من أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر وذلك لما جاءني البينات من ربي وهي الحجج والبراهين على بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادته سبحانه وتعالى، وأمرت أن أسلم لرب العالمين أي وأمرني ربي أن أسلم له فأنقاد وأخضع لأمره ونهيه وأطرح بين يديه وأفوض أمري إليه وقوله: { هو الذي خلقكم من تراب } نظرا إلى أصلهم وهو آدم، ثم من نطفة مني ثم من علقة دم متجمد، ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا، ثم لتبلغوا أشدكم أي اكتمال أبدانكم وعقولكم بتخطيكم الثلاثين من أعماركم، ثم لتكونوا شيوخا بتجاوزكم الستين.
ومنكم من يتوفى أي يتوفاه الله قبل بلوغه سن الشيخوخة والهرم وما أكثرهم، وفعل بكم ذلك لتعيشوا ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون إذا تفكرتم في خلق الله لكم على هذه الأطوار فتعرفوا أن ربكم واحد وأنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم سواه.
وقوله هو الذي يحيي ويميت يحيي النطف الميتة فإذا هي بعد أطوارها بشرا أحياء ويميت الأحياء عند نهاية آجالهم وهو حي لا يموت والإنس والجن يموتون ومن أعظم مظاهر قدرته أنه يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ولا يتخلف أبدا هذا هو الله رب العالمين وإله الأولين والآخرين وجبت محبته وطاعته ولزمت معرفته إذ بها يحب ويعبد ويطاع.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله تعالى في الخلق والإيجاد والإرزاق والإحياء والإماتة وكلها معرفة به تعالى وموجبة له العبادة والمحبة والإنابة والرغبة والرهبة ونافية لها عما سواه من سائر خلقه.
2- تقرير التوحيد ووجوب عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
3- بيان خلق الإنسان وأطوار حياته وهي من الآيات الكونية الموجبة للإيمان بالله وتوحيده في عبادته إذ هو الخالق الرازق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه.
[40.69-76]
شرح الكلمات:
يجادلون في آيات الله: أي في القرآن وما حواه من حجج وبراهين دالة على الحق هادية إليه.
أنى يصرفون: أي كيف يصرفون عن الحق مع وضوح الأدلة وقوة البراهين.
الذين كذبوا بالكتاب: أي بالقرآن.
وبما أرسلنا به رسلنا: من وجوب الإسلام لله بعبادته وحده وطاعته في أمره ونهيه والإيمان بلقائه.
فسوف يعلمون: أي عقوبة تكذيبهم.
إذ الأغلال في أعناقهم: أي وقت وجود الأغلال في أعناقهم يعلمون عاقبة كفرهم وتكذيبهم.
ثم في النار يسجرون: أي يوقدون.
ثم يقال لهم أين ما كنتم: أي يسألون هذا السؤال تبكيتا لهم وخزيا.
تشركون من دون الله: أي تعبدونهم مع الله.
قالوا ضلوا عنا: أي غابوا عنا فلم نرهم.
بل لم نكن ندعو من قبل شيئا: أي أنكروا عبادة الأصنام، أو لم يعتبروا عبادتها شيئا وهو كذلك.
كذلك يضل الله الكافرين: أي مثل إضلال هؤلاء المكذبين يضل الله الكافرين.
بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق: أي بالشرك والمعاصي.
وبما كنتم تمرحون: أي بالتوسع في الفرح، لأن المرح شدة الفرح.
فبئس مثوى المتكبرين: أي دخول جهنم والخلود فيها بئس ذلك مأوى للمتكبرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد وإلى الإيمان بالبعث والجزاء، وتقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى { ألم تر } أي يا محمد { إلى الذين يجادلون في آيات الله } القرآنية لإبطالها وصرف الناس عن قبولها أو حملهم على إنكارها وتكذيبها والتكذيب بها وهذا تعجيب من حالهم. وقوله تعالى: { أنى يصرفون } أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته. وقوله { الذين كذبوا بالكتاب } الذي هو القرآن { وبمآ أرسلنا به رسلنا } من التوحيد والإيمان { فسوف يعلمون } عاقبة تكذيبهم وقت ما تكون الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أرجلهم يسحبون أي تسحبهم الزبانية في الحميم هو ماء حار تناهى في الحرارة في النار يسجرون أي توقد بهم النار كما توقد بالحطب، هذا عذاب جسماني ووراءه عذاب روحاني إذ تقول لهم الملائكة توبيخا وتبكيتا وتأنيبا وتقريعا: { أين ما كنتم تشركون } أي أين أوثانكم التي كنتم تعبدونها مع الله؟ فيقولون: ضلوا عنا أي غابوا فلم نرهم، بل ما كنا ندعو من قبل شيئا هذا إنكار منهم حملهم عليه الخوف أو هو بحسب الواقع أنهم ما كانوا يعبدون شيئا إذ عبادة الأصنام ليست شيئا لبطلانها.
وقوله { ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون } أي حل بكم هذا العذاب بسبب فرحكم بالباطل من شرك وتكذيب وفسق وفجور ، في الدنيا، وبسبب مرحكم أيضا وهو أشد الفرح وأخيرا يقال لهم { ادخلوا أبواب جهنم } بابا بعد باب وهي أبواب الدركات { خالدين فيها } لا تموتون ولا تخرجون { فبئس مثوى المتكبرين } أي ساء وقبح مثواكم في جهنم من مثوى أي مأوى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التعجيب من حال المكذبين بآيات الله المجادلين فيها كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح أدلته وقوة براهينه.
2- إبراز صورة واضحة للمكذبين بالآيات المجادلين لإبطال الحق وهم في جهنم يقاسون العذاب بعد أن وضعت الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أرجلهم يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون.
3- ذم الفرح بغير فضل الله ورحمته، وذم المرح وهو أشد الفرح.
4- ذم التكبر وسوء عاقبة المتكبرين الذين يمنعهم الكبر من الاعتراف بالحق ويحملهم على احتقار الناس وازدراء الضعفاء منهم.
[40.77-81]
شرح الكلمات:
فاصبر إن وعد الله حق: أي فاصبر يا رسولنا على دعوتهم متحملا أذاهم فإن وعد ربك بنصرك حق.
فإما نرينك بعض الذي نعدهم: أي من العذاب في حياتك.
منهم من قصصنا عليك: أي ذكرنا لك قصصهم وأخبارهم وهم خمسة وعشرون.
أن يأتي بآية إلا بإذن الله: أي لأنهم عبيد مربوبون لا يفعلون إلا ما يأذن لهم به سيدهم.
وخسر هنالك المبطلون: أي هلك أهل الباطل بعذاب الله فخسروا كل شيء.
جعل لكم الأنعام: أي الإبل وإن كان لفظ الأنعام يشمل البقر والغنم أيضا.
ولكم فيها منافع: أي من اللبن والنسل والوبر.
ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم: أي حمل الأثقال وحمل أنفسكم من بلد إلى بلد، لأنها كسفن البحر.
فأي آيات الله تنكرون: أي فأي آية من تلك الآيات تنكرون فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار.
معنى الآيات:
بعد تلك الدعوة الإلهية للمشركين إلى الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء والتي تلون فيها الأسلوب وتنوعت فيها العبارات والمعاني، والمشركون يزدادون عتوا قال تعالى لرسوله آمرا إياه بالصبر على الاستمرار على دعوته متحملا الأذى في سبيلها { فاصبر إن وعد الله حق } فيخبره بأن ما وعده به ربه حق وهو نصره عليهم وإظهار دعوة الحق ولو كره المشركون. وقوله { فإما نرينك بعض الذي نعدهم } أي من العذاب الدنيوي { أو نتوفينك } قبل ذلك { فإلينا يرجعون } فنعذبهم بأشد أنواع العذاب في جهنم، وننعم عليك بجوارنا في دار الإنعام والتكريم أنت والمؤمنون معك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [77] وقوله تعالى في الآية الثانية [78] { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك } يخبر تعالى رسوله مؤكدا له الخبر مسليا له حاملا له على الصبر بأنه أرسل من قبله رسلا كثيرين منهم من قص خبرهم عليه ومنهم من لم يقصص وهم كثير وذلك بحسب الفائدة من القصص وعدمها وأنه لم يكن لأحدهم أن يأتي بآية كما طالب بذلك قومه، والمراد من الآية المعجزة الخارقة للعادة، إلا بإذن الله، إذ هو الوهاب لما يشاء لمن يشاء، فإذا جاء أمر الله بإهلاك المطالبين بالآيات تحديا وعنادا ومكابرة قضى بالحق أي حكم الله تعالى بين الرسول وقومه المكذبين له المطالبين بالعذاب تحديا، فنجى رسوله والمؤمنين وخسر هنالك المبطلون من أهل الشرك والتكذيب.
وقوله تعالى في الآية الثالثة [79] الله الذي جعل لكم الأنعام يعرفهم تعالى بنفسه مقررا ربوبيته الموجبة لألوهيته فيقول الله أي المعبود بحق هو الذي جعل لكم الأنعام على وضعها الحالي الذي ترون لتركبوا منها وهي الإبل، ومنها تأكلون ومن بعضها تأكلون كالبقر والغنم ولا تركبون، ولكن فيها منافع وهي الدر والوبر والصوف والشعر والجلود ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وهي حمل أثقالكم والوصول بها إلى أماكن بعيدة لا يتأتى لكم الوصول إليها بدون الإبل سفائن البر، وقوله وعليها أي على الإبل وعلى الفلك " السفن " تحملون أي يحملكم الله تعالى حسب تسخيرها لكم.
وأخيرا يقول تعالى بعد عرض هذه الآيات القرآنية والكونية يقول لكم { ويريكم آياته } في أنفسكم وفي الآفاق حولكم { فأي آيات الله تنكرون } وكلها واضحة في غاية الظهور والبيان والاستفهام للإنكار عليهم علهم يرعوون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الصبر على دعوة الحق والعمل في ذلك إلى أن يحكم الله تعالى.
2- الآيات لا تعطي لأحد إلا بإذن الله تعالى إذ هو المعطي لها فهي تابعة لمشيئته.
3- من الرسل من لم يقصص الله تعالى أخبارهم، ومنهم من قص وهم خمسة وعشرون نبيا ورسولا. وعدم القص لأخبارهم لا ينافي بيان عددهم إجمالا لحديث أبي ذر في مسند أحمد أن أبا ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله كم عدة الأنبياء؟ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشرة جما غفيرا.
4- ذكر منة الله على الناس في جعل الأنعام صالحة للانتفاع بها أكلا وركوبا لبعضها لعلهم يشكرون بالإيمان والطاعة والتوحيد.
[40.82-85]
شرح الكلمات:
أفلم يسيروا في الأرض: أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض شمالا وجنوبا وغربا.
كيف كان عاقبة الذين من قبلهم: أي عاقبة المكذبين من قبلهم قوم عاد وثمود وأصحاب مدين.
وآثارا في الأرض: أي وأكثر تأثيرا في الأرض من حيث الإنشاء والتعمير.
فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون: أي لم يمنع العذاب عنهم كسبهم الطائل وقوتهم المادية.
فرحوا بما عندهم من العلم: أي فرح الكافرون بما عندهم من العلم الذي هو الجهل بعينه.
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا: أي عذابنا الشديد النازل بهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية قريش بما يذكرهم به وما يعرض عليهم من صور حية لمن كذب ولمن آمن لعلهم يهتدون قال تعالى { أفلم يسيروا في الأرض } أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض أرض الجزيرة شمالا ليروا آثار ثمود في مدائنها وجنوبا ليروا آثار عاد، وغربا ليرو آثار أصحاب الأيكة قوم شعيب والمؤتفكات قرى قوم لوط: فينظروا نظر تفكر واعتبار كيف كان عاقبة الذين من قبلهم. كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض من مصانع وقصور وحدائق وجنات فما أغنى عنهم لما جاءهم العذاب ما كانوا يكسبونه من مال ورجال وقوة مادية.
هذا ما دلت عليه الاية الأولى [82] أما الآية الثانية [83] فهي قوله تعالى { فلما جآءتهم رسلهم بالبينات } يخبر تعالى عن المكذبين الهالكين أنهم لما جاءتهم رسلهم بالحجج والأدلة الظاهرة على توحيد الله والبعث والجزاء وصدقهم في النبوة والرسالة { فرحوا بما عندهم من العلم } المادي وسخروا من العلم الروحي واستهزأوا بأهله فرحا ومرحا، { وحاق بهم } أي أحاط بهم العذاب الذي كان نتيجة كفرهم وتكذيبهم واستهزائهم، فلما رأوا عذاب الله الشديد وقد حاق بهم أعلنوا عن توبتهم { قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } أي قالوا لا إله إلا الله. قال تعالى { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } أي شديد عذابنا { سنت الله التي قد خلت في عباده } وأخبر تعالى أن هذه سنة من سننه في خلقه وهي أن الإيمان لا ينفع عند معاينة العذاب إذ لو كان يقبل الإيمان عند رؤية العذاب وحلوله لما كفر كافر ولما دخل النار أحد. وقوله { وخسر هنالك } أي عند رؤية العذاب وحلوله { الكافرون } أي المكذبون المستهزئون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية السير في البلاد للعظة والاعتبار تقوية للإيمان.
2- القوى المادية لا تغني عن أصحابها شيئا إذا أرادهم الله بسوء.
3- بيان سنة بشرية وهي أن الماديين يغترون بمعارفهم المادية ليستغنوا بها عن العلوم الروحية في نظرهم إلا أنها لا تغني عنهم شيئا عند حلول العذاب بهم في الدنيا وفي الآخرة.
[41 - سورة فصلت]
[41.1-5]
شرح الكلمات:
حم: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا حم، ويقرأ هكذا حا ميم.
تنزيل من الرحمن الرحيم: أي من الله إذ هو الرحمن الرحيم.
فصلت آياته: أي بينت آياته غاية البيان بلسان عربي لقوم يعلمون إذ هم الذين ينتفعون.
بشيرا ونذيرا: أي مبشرا أهل الإيمان والعمل الصالح بالفوز، ومنذرا المكذبين الكافرين بالخسران.
فأعرض أكثرهم: أي أعرض عن سماع القرآن أكثر مشركي مكة وكفار قريش.
فهم لا يسمعون: أي سماع تعقل وتدبر لينتفعوا بما يسمعون.
في أكنة: أي أغطية جمع كنان: ما فيه يكن الشيء ويستر.
وفي آذاننا وقر: أي ثقل فلم نطق السمع.
ومن بيننا وبينك حجاب: أي مانع وفاصل بيننا فلا نسمع ما تقول ولا نرى ما تفعل.
معنى الآيات:
قوله تعالى { حم } هذا أحد الحروف المقطعة وتفسيره أن يقال فيه وفي أمثاله من الحروف المقطعة الله أعلم بمراده به. وقد ذكرنا ما أثرنا عن أهل العلم فائدتين هامتين لمثل هذه الحروف المقطعة في أول سورة غافر، وفي العديد من السور المفتتحة بهذه الحروف فليرجع إليها ولتعرف وتحفظ وقوله { تنزيل من الرحمن الرحيم } أي هو منزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وليس كما يقول المبطلون. وقوله { كتاب فصلت آياته } أي هو كتاب فخم جليل القدر فصلت آيته أي بينت حال كون ذلك التفصيل { قرآنا عربيا لقوم يعلمون } لسان العرب ويفهمون معاني الكلام وأسراره. وقوله { بشيرا ونذيرا } وحال كونه أيضا بشيرا لأهل الإيمان وصالح الأعمال بالفوز بالجنة والنجاة من النار؟ ونذيرا للمشركين المكذبين من عذاب النار، وقوله تعالى: { فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } يخبر تعالى أنه مع بيان الكتاب ووضوح ما جاء به ودعا إليه من التوحيد والخير أعرض أكثر كفار قريش عنه ولم يلتفتوا إليه فهم لا يسمعونه ولا يريدون سماعه بحال، وقالوا معتذرين بأقبح الأعذار: قلوبنا في أكنة أي أغطية تسترها من أجل أن لا نفهم ما تدعونا إليه من التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء المقتضي لمتابعتك والسير وراءك، وفي آذاننا وقر أي ثقل فلا تقوى على سماع ما تقول ومن بيننا وبينك حجاب ساتر وحائل لنا عنك فلا نسمع ما تقول ولا نرى ما تعمل فاتركنا كما تركناك، واعمل على نصرة دينك فإننا عاملون كذلك على نصرة ديننا والحفاظ على معتقداتنا وهذه نهاية المفاصلة التي أبدتها قريش للرسول صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تعين تعلم اللغة العربية على كل مسلم يريد أن يفهم كلام الله القرآن العظيم.
2- اشتمال القرآن على أسلوب الترغيب والترهيب وهي البشارة والنذارة.
3- بيان شدة عداوة المشركين للتوحيد والداعين إليه في كل زمان ومكان.
[41.6-8]
شرح الكلمات:
قل إنما أنا بشر مثلكم: أي لست ملكا وإنما أنا بشر مثلكم من بني آدم.
يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد: أي يوحي الله إلي بأن إلهكم أي معبودكم أيها الناس إله واحد لا ثاني له ولا أكثر.
فاستقيموا إليه: يا خلاص العبادة له دون سواه.
واستغفروه: أي اطلبوا منه أن يغفر لكم ذنوبكم التي كانت قبل الاستقامة وهي الشرك والمعاصي.
وويل للمشركين: أي عذاب شديد سيحل بهم لإغضابهم الرب بمضادته بآلهة باطلة.
لا يؤتون الزكاة: أي زكاة أموالهم وزكاة أنفسهم بما يطهرها من أوضار الشرك والمعاصي.
لهم أجر غير ممنون: أي ثواب الآخرة وهو الجنة ونعيمها لا ينقطع بحال هو أجر غير ممنون.
معنى الآيات:
إنه بعد تلك المفاصلة التي قام بها المشركون حفاظا على الوثنية وجهل الجاهلية أمر تعالى رسوله أن يقول لهم إنما أنا بشر مثلكم في آدميتي لم أدع يوما غيرها فلم اقل إني ملك، إلا أني أفضلكم بشيء وهو أنه يوحى إلي من قبل ربي، والموحي به إلي هو أنما إلهكم الحق إله واحد لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته، وعليه فاخلعوا تلك الأوثان واستقيموا إليه تعالى بإخلاص العبادة والوجوه إليه، واستغفروه من آثار الذنب السابق قبل الاستقامة على الإيمان والتوحيد وقوله تعالى: { وويل للمشركين } يخبر تعالى أن الويل وهو مر العذاب إذ من معاني الويل أنه صديد وقيح أهل النار وما يسيل من أبدانهم وفروجهم للمشركين بربهم الذين لا يؤتون زكاة أموالهم، وهم بالآخرة هم كافرون أي لا يؤمنون بالبعث والجزاء فلذا هم لا يتركون شرا ولا يفعلون خيرا إلا ما قل وندر والنادر لا حكم له.
وقوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي آمنوا بالله وعده وعيده وشرعه وعملوا الصالحات بأداء الفرائض والكثير من النوافل بعد تجنبهم الشرك والكبائر من الذنوب والمعاصي هؤلاء لهم أجر غير ممنون مقابل إيمانهم وصالح أعمالهم، والأجر هو الثواب والمراد به الجنة إذ نعيمها لا ينقطع على من ناله وفاز به بحال من الأحوال.
هداية الآيات:
1- تقرير النبوة والتوحيد.
2- وجوب الاستقامة على شرع الله.
3- وجوب الاستغفار من كل ذنب صغيرا كان أو كبيرا.
4- وجوب الزكاة في الأموال، ووجوب تزكية النفوس بالإيمان وصالح الأعمال.
[41.9-12]
شرح الكلمات:
بالذي خلق الأرض في يومين: أي الأحد والإثنين.
وتجعلون له أندادا: أي شركاء وهذا داخل في حيز الإنكار الشديد عليهم.
ذلك رب العالمين: أي الله مالك العالمين وهم كل ما سواه عز وجل من سائر الخلائق.
وجعل فيها رواسي: أي جبالا ثوابت.
وبارك فيها: أي في الأرض بكثرة المياه والزروع والضروع.
وقدر فيها أقواتها: أي أقوات الناس والبهائم.
في أربعة أيام: أي في تمام أربعة أيام وهي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء.
سواء للسائلين: أي في أربعة أيام هي سواء لمن يسأل فإنها لا زيادة فيها ولا نقصان.
ثم استوى إلى السماء: أي قصد بإرادته الربانية إلى السماء وهي دخان قبل أن تكون سماء.
فقضاهن سبع سماوات في يومين: أي الخميس والجمعة ولذا سميت الجمعة جمعة لاجتماع الخلق فيها.
وأوحى في كل سماء أمرها: أي ما أراد أن يكون فيها من الخلق والأعمال.
وزينا السماء الدنيا بمصابيح: أي بنجوم.
وحفظا: أي وحفظناها من إستراق الشياطين السمع بالشهب الموجودة فيها.
ذلك تقدير العزيز العليم: أي خلق العزيز في ملكه العليم بخلقه.
معنى الكلمات:
إنه بعد الإصرار على التكذيب والإنكار من المشركين أمر تعالى رسوله أن يقول لهم { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إن كفرهم عجب منكم هل تعلمون بمن تكفرون إنكم لتكفرون بالذي خلق الأكوان كلها علويها وسفليها في ستة أيام، أين يذهب بعقولكم ياقوم أتستطيعون جحود الله تعالى وجحود آياته وهذه الأكوان كلها آيات شاهدات على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته وموجبة له الربوبية عليها والألوهية له فيها دون غيره من سائر خلقه وأعجب من ذلك أنكم تجعلون له أندادا أي شركاء تسوونهم به وهم أصنام لا تسمع ولا تبصر فكيف تسوى بالذي خلق الأرض في يومين أي الأحد والاثنين، وهو رب العالمين أجمعين أي رب كل شيء ومليكه ومالكه.
وقوله تعالى في الآية الثانية [9] { وجعل فيها } أي في الأرض رواسي أي جبالا ثوابت ترسو في الأرض حتى لا تميد بأهلها ولا تميل فيخرب كل شيء عليها، { وبارك فيها } بكثرة المياه والرزق والضروع والخيرات { وقدر فيهآ أقواتها } تقديرا يعجز البيان عن وصفه، والقلم عن رقمه وآلالات الحاسبة عن عدة. وذلك كله من الخلق والتقدير { في أربعة أيام سوآء } لمن يسأل عنها إنها الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء أي مقدرة بأيامنا هذه التي تكونت نتيجة الشمس والقمر والليل والنهار فلا تزيد يوما ولا تنقص آخر.
وقوله { ثم استوى إلى السمآء } في الآية الثالثة [10] يخبر تعالى أنه بعد خلق الأرض استوى إلى السماء أي قصد بإرادته التي تعلو فوق كل إرادة { إلى السمآء وهي دخان } أي بخار وسديم ارتفع من الماء الذي كان عرشه تعالى عليه فقال لها كما قال { للأرض ائتيا طوعا أو كرها } أي طائعتين أو مكرهتين لا بد من مجيئكما حسب ما أردت وقصدت فأجابتا بما أخبر تعالى عنهما في قوله: { قالتآ أتينا طآئعين } أي لم يكن لنا أن نخالف أمر ربنا، { فقضهن سبع سموت في يومين } وهما الخميس والجمعة، { وأوحى في كل سمآء أمرها } أي ما أراد أن يخلقه فيها ويعمرها به من المخلوقات والطاعات.
وقوله: { وزينا السمآء الدنيا بمصبيح } وهي النجوم وحفظا أي وجعلناها أي النجوم حفظا من الشياطين أن تسترق السمع فإن الملائكة يرجمونهم بالشهب من النجوم فيحترقون أو يخبلون. وقوله: { ذلك تقدير العزيز العليم } أي ذلك المذكور من الخلق والتقدير تقدير العزيز في ملكه أي الغالب على أمره العليم بتدبير ملكه وأعمال وأحوال خلقه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الكفر بالله لا ذنب فوقه فما بعد الكفر ذنب، وهو عجيب وأعجب منه اتخاذ أصنام وأحجار أوثانا تعبد مع الله الحي القيوم مالك الملك ذي الجلال والإكرام.
2- بيان الأيام التي خلق الله فيها العوالم العلوية والسفلية وهي ستة أيام أي على قدر ستة أيام من أيام الدنيا هذه مبدوءة بالأحد منتهية بالجمعة، وقدرة الله صالحة لخلق السماوات والأرض وبكل ما فيهما بكلمة التكوين " كن " ولكن لحكم عالية أرادها الله تعالى منها تعليم عباده الأناة والتدرج في إيجاد الأشياء شيئا فشيئا.
4- لا تعارض بين قوله تعالى في هذه الآية ثم استوى إلى السماء المشعر بأن خلق السماوات كان بعد خلق الأرض، وبين قوله، والأرض بعد ذلك دحاها من سورة والنازعات المفهم أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء، إذ فسر تعالى دحو الأرض بإخراج مائها ومرعاها وهو ما ترعاه الحيوانات التي سيخلقها عليها، ثم قوله خلق الأرض في يومين على صورة يعلمها هو ولا نعلمها نحن، وتقدير الأقوات في قوله وقدر فيها أقواتها لا يستلزم أن يكون فعلا أظهر ما قدره إلى حيز الوجود، وحينئذ لا تعارض بين ما يدل من الآيات على خلق الرض أولا ثم خلق السماوات وهو الذي صرحت به الأحاديث إذ خلق الأرض في يومين وقدر الأقوات في يومين وبعد أن خلق السماوات دحا الأرض فأخرج منها ما قدره فيها من أقوات وأرزاق الحيوانات حسب سنته في ذلك.
4- بيان فائدتين عظيمتين للنجوم الأولى أنها زينة السماء بها تضاء وتشرق وتذهب الوحشة منها والثانية أن ترمي الشياطين بالشهب من النجوم ذات التأجج الناري.
[41.13-18]
شرح الكلمات:
فإن أعرضوا: أي كفار قريش عن الإيمان والتوحيد بعد ذلك البيان المفصل.
فقل أنذرتكم صاعقة: أي خوفتكم صاعقة تنزل بكم فتهلككم إن أصررتم على هذا الكفر.
من بين أيديهم ومن خلفهم: أي أتتهم رسلهم تعرض عليهم دعوة الحق من أمامهم ومن ورائهم.
لو شاء ربنا لأنزل ملائكة: أي بدلا عنكم أيها الرسل من البشر.
بغير الحق: أي بغير أن يأذن الله لهم بذلك العلو والاستكبار والتجبر.
ريحا صرصرا: أي ذات صوت يسمع له صرصرة مع البرودة الشديدة.
في أيام نحسات: أي مشئومات عليهم لم يفلحوا بعدها.
ولعذاب الآخرة أخزى: أي أشد خزيا من عذاب الدنيا.
فاستحبوا العمى على الهدى: أي استحبوا الكفر على الإيمان إذ الكفر ظلام والإيمان نور.
الذين آمنوا وكانوا يتقون: أي الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية قريش فقال تعالى: { فإن أعرضوا } بعد ذلك البيان الذي تقدم لهم في الآيات السابقة المبين لقدرة الله وعلمه وحكمته والموجب للإيمان ولقائه وتوحيده فقل لهم أنذرتكم أي خوفتكم صاعقة تنزل بكم إن أصررتم على إعراضكم مثل صاعقة عاد وثمود أي عذابا مهلكا كالذي أهلك الله به عادا وثمودا.
وقوله: { إذ جآءتهم الرسل } وهم هود وصالح من بين أيديهم ومن خلفهم كناية أن الرسول بلغهم دعوة الله لهم إلى الإيمان والتوحيد بعناية فائقة يأتيهم من أمامهم ومن خلفهم يدعوهم، قائلا لهم: لا تعبدوا إلا الله فإنه الإله الحق وما عداه فباطل فكان جوابهم لهم لا نؤمن لكم ولا نقبل منكم لو شاء الله ما تقولون لنا لأنزل به ملائكة يدعوننا إليه لا أن يرسل مثلكم من البشر وأخيرا قالوا لهم فإننا بما أرسلتم به كافرون فأياسوا الرسل من إجابتهم. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى [13] والثانية [14) وفي الآية الثالثة [15] بين تعالى حال القوم كلا على حدة فقال فأما عاد أي قوم هود فاستكبروا في الأرض بغير الحق فحملهم الكبر الناجم عن القوة المادية على رفض دعوة هود عليه السلام وقالوا فيه وفي دعوته الكثير وقد مر في سورة هود ويأتي في سورة الأحقاف مفصلا ما أجمل هنا، وقوله بغير الحق أي أن استكبارهم لا حق لهم فيه أولا لضعفهم أمام قوة الله عز وجل، وثانيا لم يأذن الله تعالى لهم بالاستكبار فهو بغير حق إذا. وقوله: { وقالوا من أشد منا قوة } وهذا منهم تحد صريح وعلو وعتو واضحان، ولذا تحداهم الله تعالى بالقوة فقال عز وجل أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة أي أعموا ولم يروا أن الله الذي خلقهم قطعا هو أشد منهم قوة: إذ كل قوة لهم مصدرها الله هو خالقهم وواهب القوة لهم، فقوتهم ليست ذاتية ولكنها موهوبة إذ يخلق أحدهم وهو لا يقدر على دفع أدنى شيء عن نفسه وقوله: وكانوا بآياتنا يجحدون هذا تسجيل عليهم أكبر ذنب وهو جحودهم بآيات الله التي جاء بها رسول الله هود عليه السلام كما جحدت قريش آيات الله، وقوله تعالى فأرسلنا أي بمجرد أن تأكد كفرهم بجحودهم بآيات الله أرسل الله تعالى عليهم ريحا صرصرا أي باردة ذات صوت مزعج دامت سبع ليال وثمانية أيام فلم تبق منهم أحدا وهي أيام نحسات عليهم مشؤمات قال تعالى لنذيقهم أي أرسلناها عليهم لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا.
ولعذاب الآخرة أخزى أي أشد خزيا وإهانة لهم وذلة، وهم لا ينصرون أي لا ناصر لهم من الله عز وجل. هذا بيان حال عاد. وأما ثمود فقد قال تعالى وأما ثمود قوم صالح فاستحبوا الضلال على الهدى والكفر على الإيمان وقتلوا الناقة وهموا بقتل صالح فأخذتهم صاعقة العذاب الهون وذلك صباح السبت فأخذتهم صيحة انخلعت لها قلوبهم فرجفت الأرض من تحتهم فهلكوا عن آخرهم، وذلك بما كانوا يكسبون من الشرك والظلم والكفر والعناد. ونجى الله تعالى صالحا ومن معه من المؤمنين الذين آمنوا وكانوا يتقون الشرك والمعاصي وكانوا أربعة آلاف مؤمن ومؤمنة وهو معنى قوله تعالى في ختام الحديث: ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من الإعراض عن إجابة دعوة الحق، والاستمرار في التمرد والعصيان.
2- تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله.
3- دعوة الرسل واحدة وهي الأمر بالكفر بالطاغوت، والإيمان بالله وعبادته وحده بما شرع للناس من عبادات.
4- التنديد بالاستكبار وأنه سبب الكفر والعصيان.
5- لا مصيبة إلا بذنب " بما كانوا يكسبون " أي من الذنوب.
6- الإيمان والتقوى هما سبيل النجاة من العذاب في الدنيا والآخرة وهما ركنا الولاية ولاية الله تعالى لقوله ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.
[41.19-24]
شرح الكلمات:
فهم يوزعون: أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم ليساقوا إلى النار مجتمعين.
حتى إذا ما جاءوها: أي حتى إذا جاءوها أي النار.
بما كانوا يعملون: أي من الذنوب والمعاصي.
وهو خلقكم أول مرة: أي بدأ خلقكم في الدنيا فخلقكم ثم أماتكم ثم أحياكم.
وما كنتم تستترون: أي عند ارتكابكم الفواحش والذنوب أي تستخفون من أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم فتتركوا الفواحش والذنوب.
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم: أي ولكن عند ارتكابكم الفواحش ظننتم أن الله لا يعلم ذلك منكم.
أرداكم : أي أهلككم.
فإن يصبروا فالنار مثوى لهم: أي فإن صبروا على العذاب فالنار مثوى أي مأوى لهم.
وإن يستعتبوا: أي يطلبوا العتبى وهي الرضا فلا يعتبون أي لا يرضى عنهم هذه حالهم أبدا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة قريش إلى أصول الدين التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وفي هذا السياق عرض لمشهد من مشاهد القيامة وهو مشهد حي رائع يعرض أمامهم.
إذ يقول تعالى: { ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار } أي اذكر لهم يوم يحشر أعداء الله أي الذين كفروا به فلم يؤمنوا ولم يتقوا؛ إلى النار فهم يوزعون يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيساقون مع بعضهم بعضا. حتى إذا ما جاءوها أي انتهوا إليها، وادعوا أنهم مظلومون وأخذوا يتنصلون من ذنوبهم، وقالوا إنهم لا يقبلون شاهدا من غير أنفسهم فيأمر الله تعالى أسماعهم وأبصارهم وجلودهم فتشهد عليهم بما كانوا يعملون، وهو قوله تعالى: { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } وهنا رجعوا إلى جلودهم يلومون عليهم ويعتبون وهو ما أخبر تعالى به في قوله: وقالوا لجلودهم { لم شهدتم علينا } فأجابتهم جلودهم بما أخبر تعالى عنهم في هذا السياق { قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة } أي النشأة الأولى في الدنيا ثم أماتكم ثم أحياكم { وإليه ترجعون } وها أنتم قد رجعتم فالقادر على هذا كله قادر على أن ينطقنا وعلى كل شيء أراد إنطاقه، وقوله { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } أي وما كنتم تستخفون فتتركوا محارم الله بل كنتم تجاهرون بذلك لعدم إيمانكم بالبعث والجزاء { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم } وهو ظن سيء { أرداكم } أي أهلككم { فأصبحتم من الخاسرين } الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وهذا هو الخسران المبين وقوله تعالى في الآية الأخيرة من هذا السياق [24] فإن يصبروا أي أعداء الله الذين شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم فالنار مثوى أي مأوى لهم لا يخرجون منها أبدا، وإن يستعتبوا أي يطلبوا العتبى أي الرضا فيرضى عنهم فيدخلوا الجنة { فما هم من المعتبين } أي فما هو بحاصل لهم أبدا فهم إذا بشر التقديرين والعياذ بالله تعالى من حال أهل النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض مفصل بحال أهل النار فيها.
2- التحذير من فعل الفواحش وكبائر الذنوب فإن جوارح المرء تشهد عليه.
3- التحذير من سوء الظن بالله تعالى ومن ذلك أن يظن المرء أن الله لا يطلع عليه. أولا يعلم ما يرتكبه، أو أنه لا يحاسبه أو لا يجزيه.
4- وجوب حسن الظن بالله تعالى وهو أن يرجو أن يغفر الله له إذا تاب من زلة زلها، وأن يرجو رحمته وعفوه إذا كان في حال العجز عن الطاعات ولا سيما عند العجز عن العمل للمرض والضعف كالكبر ونحوه فيغلب جانب الرجاء على جانب الخوف.
[41.25-29]
شرح الكلمات:
وقيضنا لهم قرناء: أي وبعثنا لكفار مكة المعرضين قرناء من الشياطين.
فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم: أي حسنوا لهم الكفر والشرك، وإنكار البعث والجزاء.
وحق عليهم القول في أمم قد خلت: أي وجب لهم العذاب في أمم مضت قبلهم من الجن والإنس.
والغوا فيه لعلكم تغلبون: أي الغطوا فيه بالباطل إذا سمعتم من يقرأه.
ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون: أي بأقبح جزاء أعمالهم التي كانوا يعملون.
أعداء الله: أي من كفروا به ولم يتقوه.
أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس: أي إبليس من الجن، وقابيل بن آدم.
نجعلهما تحت أقدامنا: أي في أسفل النار ليكونا من الأسفلين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المعرضين من كفار قريش، فقال تعالى: { وقيضنا لهم } أي بعثنا لهم قرناء من الشياطين، وذلك بعد أن أصروا على الباطل والشر فخبثوا خبثا سهل لأخباث الجن الاقتران بهم فزينوا لهم الكفر والمعاصي القبيحة في الدنيا فها هم منغمسون فيها، كما زينوا لهم الكفر بالبعث والجزاء وإنكار الجنة والنار حتى لا يقصروا في الشر ولا يفعلوا الخير أبدا، وهو معنى قوله تعالى: { فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم }.
وقوله تعالى: { وحق عليهم القول } أي بالعذاب { في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } في حكم الله وقضائه بمقتضى سنة الله في الخسران.
هذا ما دلت عليه الأولى [25] وهي قوله تعالى: { وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين }.
وقوله تعالى في الاية الثانية [26] { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } يخبر تعالى عن أولئك المعرضين عن كفار قريش وأنهم قالوا لبعضهم بعضا لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يقرأه محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا تتأثروا به، والغوا فيه أي الغطوا وصيحوا بكلام لهو وصفقوا وصفروا حتى لا يتأثر به من يسمعه من الناس لعلكم تغلبون أي رجاء أن تغلبوا محمدا على دينه فتبطلوه ويبقى دينكم. وهذا منتهى الكيد والمكر من أولئك المعرضين عن دعوة الإسلام.
وكان رد الله تعالى على هذا المكر في الآية التالية [27] { فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا } يخبر تعالى مؤكدا الخبر بأنه سيذيق الذين كفروا عذابا شديدا وذلك يوم القيامة وليجزينهم أسوأ أي أقبح الذي كانوا يعملون أي يجزيهم بحسب أقبح سيئاتهم التي كانوا يعملون. ثم قال تعالى: ذلك الجزاء المتوعد به الذين كفروا هو جزاء أعداء الله الذين حاربوا رسوله ودعوته وحتى كتابه أيضا.
وذلك الجزاء هو النار لهم فيها دار الخلد أي الإقامة الدائمة جزاء بما كانوا بأياتنا يجحدون فلم يؤمنوا بها ولم يعملوا بما فيها وقوله تعالى في الآية [29] { وقال الذين كفروا } الآية يخبر تعالى عن الكافرين وهم في النار إذ يقولون ربنا أي يا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس أي اللذين كانا سببا في إضلالنا بتزيينهم لنا الباطل وتقبيحهم لنا الحق أرناهم نجعلهما تحت أقدامنا في النار ليكونا من الأسفلين أي في الدرك الأسفل من النار إذا النار دركات واحدة تحت الأخرى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في العبد إذا أعرض عن الحق الذي هو الإسلام فخبث من جراء كسبه. الشر والباطل وتوغله في الظلم والفساد يبعث الله تعالى عليه شيطانا يكون قرينا له فزين له كل قبيح، ويقبح له كل حسن.
2- بيان ما كان المشركون يكيدون به الإسلام ويحاربونه به حتى باللغو عند قراءة القرآن حتى لا يسمع ولا يهتدي به.
3- تقرير البعث والجزاء.
4- بيان نقمة أهل النار على من كان سببا في إضلالهم وإغوائهم، ومن سن لهم سنة شر يعملون بها كإبليس، وقابيل بن آدم عليه السلام. إذ الأول سن كل شر والثاني سن سنة القتل ظلما وعدوانا.
[41.30-32]
شرح الكلمات:
قالوا ربنا الله: قالوا ذلك معلنين عن إيمانهم بأن الله هو ربهم الذي لا رب لهم غيره وإلههم الذي لا إله لهم سواه.
ثم استقاموا: أي ثبتوا على ذلك فلم يبدلوا ولم يغيروا ولم يتركوا عبادة الله بفعل الأوامر وترك النواهي.
تتنزل عليهم الملائكة: أي عند الموت وعند الخروج من القبر بحيث تتلقاهم هناك.
أن لا تخافوا ولا تحزنوا: أي بأن لا تخافوا مما أنتم مقبلون عليه فإنه رضوان الله ورحمته ولا تحزنوا عما خلفتم وراءكم.
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة: أي فبحكم ولايتنا لكم في الدنيا والآخرة فلا تخافوا ولا تحزنوا.
ولكم فيها ما تدعون: أي ويلكم فيها ما تطلبون من سائر المشتهيات لكم.
نزلا من غفور رحيم: أي رزقا مهيأ لكم من فضل رب غفور رحيم.
معنى الآيات:
لما بين تعالى حال الكافرين في الدار الآخرة وهو أسوأ حال بين حال المؤمنين في الآخرة وهي أحسن حال وأطيب مآل فقال إن الذين قالوا ربنا الله أي لا رب لنا غيره ولا إله لنا سواه، ثم استقاموا فلم يشركوا به في عبادته أحدا فأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي وماتوا على ذلك هؤلاء تتنزل عليهم الملائكة أي تهبط عليهم وذلك عند الموت بأن تقول لهم لا تخافوا على ما أنتم مقدمون عليه من البرزخ والدار الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم وأبشروا بالجنة دار السلام التي كنتم توعدونها في الكتاب وعلى لسان الرسول. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا إذا كنا نسددكم ونحفظكم من الوقوع في المعاصي، وفي الآخرة نستقبلكم عند الخروج من قبوركم حتى تدخلوا جنة ربكم. ولكم فيها أي في الجنة ما تشتهي أنفسكم من الملاذ ولكم فيها ما تدعون أي تطلبون مما ترغبون فيه وتشتهون. نزلا أي قرى وضيافة من لدن رب غفور لكم رحيم بكم لا إله إلا هو ولا رب سواه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل الإيمان والاستقامة عليه بأداء الفرائض واجتناب النواهي.
2- بشرى أهل الإيمان والاستقامة عند الموت بالجنة وهؤلاء هم أولياء الله المؤمنون المتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وهي هذه وفي الآخرة عند خروجهم من قبورهم.
3- في الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين، ولأحدهم كل ما يطلبه ويدعيه وفوق ذلك النظر إلى وجه الله الكريم وتلقي التحية منه والتسليم.
[41.33-36]
شرح الكلمات:
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله: أي لا أحد أحسن قولا منه أي ممن دعا إلى توحيد الله وطاعته.
وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين: وعمل صالحا وهي شرط أيضا وقال إنني من المسلمين شرط ثالث.
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة : أي لا تكون الحسنة كالسيئة ولا السيئة كالحسنة.
ادفع بالتي هي أحسن: أي ادفع أيها المؤمن السيئة بالخصلة التي هي أحسن كالغضب بالرضى، والقطيعة بالصلة.
كأنه ولي حميم: أي كأنه صديق قريب في محبته لك إذا فعلت ذلك.
وما يلقاها إلا الذين صبروا: أي وما يعطي هذه الخصلة التي هي أحسن.
إلا ذو حظ عظيم: أي ثواب عظيم وأجر جزيل هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالخلق الحسن والكمال.
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ: أي وإن يوسوس لك الشيطان بترك خير أو فعل شر.
فاستعذ بالله: أي فاستجر بالله قائلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
إنه هو السميع العليم: أي هو تعالى السميع لأقوال عباده العليم بما يصيبهم وينزل بهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى بشرى أهل الإيمان وصالح الأعمال ذكر هنا بشرى ثانية لهم أيضا فقال: { ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } هذه ثلاثة شروط الأول دعوته إلى الله تعالى بأن يعبد فيطاع ولا يعص ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر والثاني وعمل صالحا فأدى الفرائض واجتنب المحارم، والثالث وفاخر بالإسلام معتزا به وقال إنني من المسلمين، فلا أحد أحسن قولا من هذا الذي ذكرت شروط كما له، ويدخل في هذا أولا الرسل، وثانيا العلماء، وثالثا المجاهدون ورابعا المؤذنون وخامسا الدعاة الهداة المهديون هذا ما دلت عليه الآية الأولى [33]. وقوله تعالى: { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } هذا تقرير إلهي يجب أن يعلم وهو أن الحسنة لا تستوي مع السيئة وأن السيئة لا تستوي مع الحسنة فالإيمان لا يساوى بالكفر، والتقوى لا تساوى بالفجور، والعدل لا يساوى بالظلم.
كما أن جنس الحسنات لا يتساوى، وجنس السيئآت لا يتساوى بل يتفاضل فصيام رمضان لا يساوي صيام رجب أو محرم تطوعا، وسيئة قتل المؤمن لا تستوي مع شتمه أو ضربه وقوله تعالى: { ادفع بالتي هي أحسن } أي بعد أن عرفت يا رسولنا عدم تساوي الحسنة مع السيئة إذا فادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن من غيرها فإذا الذي بينك وبينه عداوة قد انقلب في بره بك واحترامه لك واحتفائه بك كأنه ابن عم لك يحبك ويحترمك ولما كانت هذه الخصلة وهي الدفع بالتي هي أحسن لا تتأتى إلا لذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكاملة الشريفة قال تعالى: { وما يلقاها } أي وما يعطي هذه الخصلة { إلا الذين صبروا } فكان الصبر خلقا من أخلاقهم { وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم } في الأخلاق والكمال النفسي، في الدنيا، والأجر العظيم وهو الجنة في الآخرة.
وقوله تعالى: { وإما ينزغنك من الشيطن نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } يرشد الرب تعالى عبده ورسوله وكل فرد من أفراد أمته إن نزغه من الشيطان نزغ بأن وسوس له بفعل شر أو ترك خير، أو خطر له خاطر سوء أن يفزع إلى الله تعالى يستجير به فإن الله تعالى هو السميع العليم فالاستجارة به من الشيطان تحمي العبد وتقيه من وسواس الشيطان وما يلقيه في النفس من خواطر سيئة، ولله الحمد والمنة على هذه الارشاد الرباني الذي لا يستغنى عنه أحد من عباده.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الدعوة إلى الله تعالى وشرف الدعاة العاملين.
2- فضل الإسلام والاعتزاز به والتفاخر الصادق به.
3- تقرير أن الحسنة لا تتساوى مع السيئة. كما أن الحسنات تتفاوت والسيئآت تتفاوت.
4- وجوب دفع السيئة من الأخ المسلم بالحسنة من القول والفعل.
5- فضل العبد الذي يكمل في نفسه وخلقه فيصبح يدفع السيئة بالحسنة.
6- وجوب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم إذا وسوس أو ألقى بخاطر سوء إذ لا يقي منه ولا يحفظ إلا الله السميع العليم.
[41.37-39]
شرح الكلمات:
ومن آياته: أي ومن جملة آياته الدالة على ألوهية الرب تعالى وحده.
الليل والنهار: أي وجود الليل والنهار والشمس والقمر.
لا تسجدوا للشمس ولا للقمر: أي لا تعبدوا الشمس ولا القمر فإنهما من جملة مخلوقاته الدالة عليه.
إن كنتم إياه تعبدون: أي إن كنتم حقا تريدون عبادته فاعبدوه وحده فإن العبادة لا تصلح لغيره.
فالذين عند ربك: أي الملائكة.
وهم لا يسأمون: أي لا يملون من عبادته ولا يكلون.
ترى الأرض خاشعة: أي يابسة جامدة لا نبات فيها ولا حياة.
اهتزت وربت: أي تحركت، وانتفخت وظهر النبات فيها.
إن الذي أحياها لمحيي الموتى: أي إن الذي أحيا الأرض قادر على إحياء الموتى يوم القيامة.
معنى الآيات:
قوله تعالى ومن آياته أي ومن جملة آياته العديدة الدالة على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته والموجبة للإيمان به وعبادته وتوحيده، الليل والنهار وتعاقبهما وانتظام ذلك بينهما فليس الليل سابق النهار، وكذا الشمس والقمر خلقهما وسيرهما في فلكيهما بانتظام ودقة فائقة وحساب دقيق وعليه فلا تسجدوا للشمس ولا للقمر أيها الناس فانهما مخلوقان من جملة المخلوقات، ولكن اسجدوا لخالقهما إن كنتم إياه تعبدون كما تزعمون. ثم قال تعالى: لرسوله فإن أبوا أن يستجيبوا لك ويسمعوا ما قلت لهم مستكبرين فاعلم أن الذين عند ربك وهم الملائكة يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون من ذلك ولا يملون.
وقوله: ومن آياته آي علامات قدرته على إحياء الموتى للبعث والجزاء إنك أيها الإنسان ترى الأرض أيام المحل والجدب هامدة جامدة لا حركة لها فإذا أنزل الله تعالى عليها ماء المطر اهتزت وربت أي تحركت تربتها وانتفخت وعلاها النبات وظهرت فيها الحياة كذلك إذا أراد الله إحياء الموتى أنزل عليهم ماء من السماء وذلك بين النفختين نفخة الفناء ونفخة البعث فينبتون كما ينبت البقل وقوله: إن الذي أحياها بعد موتها لمحيي الموتى إنه تعالى على فعل كل شيء أراده قدير لا يمتنع عنه ولا يعجزه، وكيف لا، وهو إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بالأدلة القطعية الموجبة لله العبادة دون غيره من خلقه.
2- بيان أن هناك من الناس من يعبدون الشمس ويسجدون لها من العرب والعجم وأن ذلك شرك باطل فالعبادة لا تكون للمخلوقات الخاضعة في حياتها للخالق وإنما تكون لخالقها ومسخرها لمنافع خلقه.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر دليل من أظهر الأدلة وهو موت الأرض بالجدب ثم حياتها بالغيث، إذ لا فرق بين حياة النبات والأشجار في الأرض بالماء وبين حياة الإنسان بالماء كذلك في الأرض بعد تهيئة الفرصة لذلك بعد نفخة الفناء ومضي أربعين عاما عليها ينزل من السماء ماء فيحيا الناس وينبتون من عجب الذنب كما ينبت النبات، بالبذرة الكامنة في التربة.
5- تقرير قدرة الله على كل شيء أراده، وهذه الصفة خاصة به تعالى موجبة لعبادته وطاعته. بعد الإيمان به وتأليهه.
[41.40-42]
شرح الكلمات:
يلحدون في آياتنا: أي يجادلون فيها ويميلون بها فيؤلونها على غير تأويلها لابطال حق أو إحقاق باطل.
لا يخفون علينا: أي إنهم مكشوفون أمامنا وسوف نبطش بهم جزاء إلحادهم.
أم من يأتي آمنا يوم القيامة: أي نعم الذي يأتي آمنا يوم القيامة خير ممن يلقى في النار.
اعملوا ما شئتم: هذا تهديد لهم على إلحادهم وليس إذنا لهم في العمل كما شاءوا.
إن الذين كفروا بالذكر: أي جحدوا بالقرآن أو الحدوا فيه فكفروا بذلك.
وإنه لكتاب عزيز: أي القرآن لكتاب عزيز أي منيع لا يقدر على الزيادة فيه ولا النقص منه.
لا يأتيه الباطل من بين يديه: أي لا يقدر شيطان من الجن والإنس أن يزيد فيه شيئا وهذا معنى من بين يديه.
ولا من خلفه: أي ولا يقدر شيطان من الجن ولا من الإنس أن ينقص منه شيئا وهذا معنى من خلفه، كما أنه ليس قبله كتاب ينتقصه، ولا بعده كتاب ينسخه، فهو كله حق وصدق ليس فيه ما لا يطابق الواقع.
معنى الآيات:
يتوعد الجبار عز وجل الذين يلحدون في آيات كتابه بالتحريف والتبديل والتغيير بأنهم لا يخفون عليه، وأنه سينزل بهم نقمته إن لم يكفوا عن إلحادهم.
وقوله: أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة إذا كان لا يوجد عاقل يقول الذي يلقى في النار خير ممن يأتي آمنا يوم القيامة فالإلقاء في النار سببه الكفر والإلحاد والباطل فليترك هذه من أراد النجاة من النار، والأمن يوم القيامة من كل خوف من النار وغيرها سببه الإيمان والتوحيد فليؤمن ويوحد الله تعالى في عبادته ولا يلحد في آياته من أراد الأمن يوم القيامة بعلمه أنه خير من الإلقاء في النار. هذا أسلوب في الدعوة عجيب انفرد به القرآن الكريم.
وقوله تعالى: { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } هذا الكلام للمستهترين بالأحكام الشرعية المستخفين بها فهو تهديد لهم وليس إذنا وإباحة لهم أن يفعلوا ما شاءوا من الباطل والشرك والشر، ويدل على التهديد قوله بعد إنه بما تعملون بصير.
ومثله قوله أن الذين كفروا بالذكر أي القرآن، وإنه لكتاب عزيز أي منيع بعيد المنال لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه بالزيادة والنقصان أو التبديل والتغيير.
ولما كان المراد من هذا الكلام التهديد سكت عن الخبر إذ هو أظهر من أن يذكر والعبارة قد تقصر عن أدائه بالصورة الواقعة له. وقد يقدر لنفعلن بهم كذا وكذا ...
وقوله تنزيل من حكيم حميد أي القرآن المنيع كما له وشرفه ومناعته أتته أنه تنزيل من حكيم في أفعاله وسائر تصرفاته حميد بذلك وبغيره من فواضله وآلائه ونعمه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة الإلحاد في آيات الله بالميل بها عن القصد والخروج بها إلى الباطل.
2- التهديد الشديد لكل من يحرف آيات الله أو يؤولها على غير مراد الله منها.
3- تقرير مناعة القرآن وحفظ الله تعالى له، وأنه لا يدخله النقص ولا الزيادة إلى أن يرفعه الله إليه إذ منه بدأ وإليه يعود.
[41.43-46]
شرح الكلمات:
ما يقال لك: أي من التكذيب أيها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
إلا ما قد قيل للرسل من قبلك: أي من التكذيب لهم والكذب عليهم.
إن ربك لذو مغفرة: أي ذو مغفرة واسعة تشمل كل تائب إليه صادق في توبته.
وذو عقاب أليم: أي معاقبة شديدة ذات ألم موجع للمصرين على الكفر والباطل.
ولو جعلناه قرءانا أعجميا: أي القرآن كما اقترحوا إذ قالوا: هلا أنزل القرآن بلغة العجم.
لقالوا: لولا فصلت آياته: أي بينت حتى نفهمها.
أأعجمي وعربي: أي أقرآن أعجمي والمنزل عليه وهو النبي عربي يستنكرون ذلك تعنتا منهم وعنادا ومجاحدة.
هدى وشفاء: أي هدى من الضلالة، وشفاء من داء الجهل وما يسببه من أمراض.
والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر: أي ثقل فهم لا يسمعونه هو عليهم عمى فلا يفهمونه.
أولئك ينادون من مكان بعيد: والمنادي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادي له.
ولقد آتينا موسى الكتاب: أي التوراة.
فاختلف فيه: أي بالتصديق والتكذيب وفي العمل ببعض ما فيه وترك البعض الآخر كما هي الحال في القرآن الكريم.
ولولا كلمة سبقت من ربك: أي ولولا الوعد بجمع الناس ليوم القيامة وحسابهم ومجازاتهم هناك.
لقضي بينهم: أي لحكم بين المختلفين اليوم وأكرم الصادقون وأهين الكاذبون.
وما ربك بظلام للعبيد: أي وليس ربك يا رسولنا بذي ظلم للعبيد.
معنى الآيات:
بعد توالي الآيات الهادية من الضلالة الموجبة للإيمان كفار قريش لا يزيدهم ذلك إلا عنادا وإصرارا على تكذيب الرسول والكفر به وبما جاء به من عند ربه، ولما كان الرسول بشرا يحتاج إلى عون حتى يصبر أنزل تعالى هذه الآيات في تسليته صلى الله عليه وسلم وحمله على الثبات والصبر فقال تعالى: { ما يقال لك } يا رسولنا من الكذب عليك والتكذيب لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك.
وقوله تعالى: { إن ربك لذو مغفرة } أي لمن تاب فلذا لا يتعجل بإهلاك المكذبين رجاء أن يتوبوا ويؤمنوا ويوحدوا، وذو عقاب أليم اي موجع شديد لمن مات على كفره.
وقوله تعالى: { ولو جعلناه قرآنا أعجميا } أي كما اقترح بعض المشركين، لقالوا: لولا فصلت آياته أي هلا بينت لنا حتى نفهمها، ثم قالوا: أأعجمي وعربي أي أقرآنا عجمي ونبي عربي مستنكرين ذلك متعجبين منه وكل هذا من أجل الإصرار على عدم الإيمان بالقرآن الكريم والنبي الكريم وتوحيد الرب الكريم.
ولما علم تعالى ذلك منهم أمر رسوله أن يقول لهم قل هو أي القرآن الكريم هدى وشفاء هدى يهتدي به إلى سبل السعادة والكمال والنجاح، وشفاء من أمراض الشك والشرك والنفاق والعجب والرياء والحسد والكبر، والذين لا يؤمنون بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا هو أي القرآن في آذانهم وقر أي حمل ثقيل أولئك ينادون من مكان بعيد ولذا فهم لا يسمعون ولا يفهمون.
هذه تسلية وأخرى في قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة فاختلفوا فيه فمنهم المصدق ومنهم المكذب، ومنهم العامل بما فيه المطبق ومنهم المعرض عنه المتبع لهواه وشيطانه الذي أغواه وقوله تعالى { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم } فيما اختلفوا فيه لحكم لأهل الصدق بالنجاة وأهل الكذب بالهلاك والخسران وقوله: { وإنهم لفي شك منه } أي من القرآن مريب أي موقع في الريبة وذلك من جراء محادته والمعاندة والمجاحدة، وقوله: { من عمل صلحا فلنفسه } وهذه تسلية أعظم فإن من عمل صالحا في حياته بعد الإيمان فإن جزاءه قاصر عليه ينتفع به دون سواه، ومن أساء أي عمل السوء وهو ما يسوء النفس من الذنوب والآثام فعلى نفسه عائد. سوءه الذي عمله ولا يعود على غيره، وأخرى في قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد أي ليس هو تعالى بذي ظلم لعباده. فقوله تعالى من عمل صالحا فلنفسه عائد ذلك ومن أساء فعليها أي عائد الإساءة إن فيه لتسلية لكل من أراد أن يتسلى ويصبر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول أي حمله على الصبر والسلوان ليواصل دعوته إلى نهايتها.
2- بيان مدى ما كان عليه المشركون من التكذيب للرسول والمعاندة والمجاحدة.
3- القرآن دواء وشفاء لأهل الإيمان، وأهل الكفر فهم على العكس من أهل الإيمان.
4- بيان سنة الله في الأمم السابقة في اختلافها على أنبيائها وما جاءتها به من الهدى والنور.
5- قوله تعالى { من عمل صلحا فلنفسه ومن أسآء فعليها } أجرى مجرى المثل عند العالمين.
6- نفي الظلم عن الله مطلقا.
[41.47-48]
شرح الكلمات:
إليه يرد علم الساعة: أي إلى الله يرد علم الساعة أي متى تقوم إذ لا يعلمها إلا هو.
وما تخرج من ثمرات من أكمامها: أي من أوعيتها واحد الإكمام كم وكم الثوب مخرج اليد.
وما تحمل من أنثى: أي من أي جنس كان إنسانا أو حيوانا.
ولا تضع إلا بعلمه: أي ولا تضع حملها إلا ملابسا بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء.
قالوا آذناك: أي أعلمناك الآن.
مامنا من شهيد: أي ليس منا من يشهد بان لك شريكا أبدا.
وظنوا مالهم من محيص: أي أيقنوا أنه مالهم من مهرب من العذاب.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى أن علم الغيب قد انحصر فيه فليس لأحد من خلقه علم الغيب وخاصة علم الساعة أي علم قيامها متى تقوم؟ كما أخبر عن واسع علمه وأنه محيط بكل الكائنات فما تخرج من ثمرة من كمها وعائها وتظهر منه إلا يعلمها على كثرة الثمار والأشجار ذات الأكمام، وما تحمل من أنثى بجنين ولا تضعه يوم ولادته أو إسقاطه إلا يعلمه أي يتم ذلك بحسب علمه تعالى وإذنه، وهذه مظاهر الربوبية المستلزمة للألوهية فلا إله غيره ولا رب سواه، ومع هذا فالجاهلون يتخذون له شركاء أندادا من أحجار وأوثان يعبدونها معه ظلما وسفها. ويوم يناديهم وذلك في يوم القيامة أين شركائي؟ أي الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لي، فيتبرءون منهم ويقولون: آذناك أعلمناك الآن أنه ما منا من شهيد يشهد بأن لك شريكا إنه لا شريك لك وضل عنهم أي غاب عنهم ما كانوا يدعون من قبل في الدنيا، وظنوا أيقنوا مالهم من محيص أي مهرب من عذاب الله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استئثار الله تعالى بعلم الغيب وخاصة علم متى تقوم الساعة.
2- إحاطة علم الله تعالى بكل شيء فما تخرج من ثمرة من أوعيتها ولا تحمل من أنثى ولا تضع حملها إلا بعلم الله تعالى وإذنه.
3- براءة المشركين يوم القيامة من شركهم، وغياب شركائهم عنهم.
[41.49-51]
شرح الكلمات:
لا يسأم الإنسان من دعاء الخير: أي لا يمل ولا يكل من سؤال طلب المال والصحة والعافية.
وإن مسه الشر فيئوس قنوط: أي المرض والفقر وغيرهما فيئوس من رحمة الله قنوط ظاهر عليه اليأس.
من بعد ضراء مسته: أي من بعد شدة أصابته وبلاء نزل به.
ليقولن هذا لي: أي استحققته بعملي ومما لي من مكانة.
وما أظن الساعة قائمة: أي ينكر البعث ويقول: ما أظن الساعة قائمة.
إن لي عنده للحسنى: أي وعلى فرض صحة ما قالت الرسل من البعث إن لي عند الله الجنة.
أعرض ونأى بجانبه: أي أعرض عن الشكر ونأى بجانبه متبخترا مختالا في مشيته.
فذو دعاء عريض: أي فهو ذو دعاء لربه طويل عريض يارباه يارباه.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن الإنسان الكافر الذي لم تزك نفسه ولم تطهر روحه بالإيمان وصالح الأعمال إنه لا يسأم ولا يمل من دعاء الخير أي المال والولد والصحة والعافية فلا يشبع من ذلك بحال. ولئن مسه الشر من ضر وفقر ونحوهما فهو يئوس قنوط يؤوس من الفرج وتبدل الحال من عسر إلى يسر قنوط ظاهر عليه آثار اليأس في منطقة وفي حاله كله هذا ما تضمنته الآية الأولى [49] { لا يسأم الإنسان من دعآء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط } وأما الآية [50] فإن الله تعالى يخبر أيضا عن الإنسان الكافر إذا أذاقه الله رحمة منه من مال وصحة واجتماع شمل مثلا، وذلك من بعد ضراء مسته من مرض وفقر ونحوهم ليقولون لجهله وسفهه: هذا لي أي استحققته بمالي من جهد ومكانه وعلم وإذا ذكر بالساعة من أجل أن يرفق أو يتصدق يقول ما أظن الساعة قائمة كما تقولون وإن قامت على فرض صحة قولكم إن لي عنده أي عند الله للحسنى أي للحالة الحسنى من غنى وغيره وجنة إن كانت كما تقولون.
وقوله تعالى { فلننبئن الذين كفروا بما عملوا } أي يوم القيامة عند عرضهم علينا، ولنذيقهم من عذاب غليظ يخلدون فيه لا يخرجون منه أبدا.
وقوله تعالى في الآية الأخيرة [51] وإذا أنعمنا على الإنسان بنعمة المال والولد والصحة أعرض عن ذكرنا وشكرنا وتخلى عن طاعتنا ونأى بجانبه متباعدا متبخترا مختالا يكاد يضاهى الطاووس في مشيته. وإذا سلبناه ذلك ومسه الشر من مرض وفقر وجهد وبلاء فهو ذو دعاء عريض لنا يارب يارب يارب. هذا ليس الرجل الأول الذي ييأس ويقنط، ذاك كافر، وهذا مؤمن ضعيف الإيمان جاهل لا أدب عنده ولا خلق. وما أكثر هذا النوع من الرجال في المسلمين اليوم والعياذ بالله تعالى فالأول عائد إلى ظلمة نفسه بالكفر، وهذا عائد إلى سوء تربيته وسوء خلقه وظلمة جهله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حال الإنسان قبل الإيمان والاستقامة فإنه يكون أحط المخلوقات قدرا وأضعفها شأنا.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض الأحداث فيها.
3- ذم اليأس والقنوط والكبر والاختيال، والكفر للنعم ونسيان المنعم وعدم شكره.
[41.52-54]
شرح الكلمات:
قل أرأيتم إن كان من عند الله: أي أخبروني إن كان القرآن من عند الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم كفرتم به: أي ثم كفرتم به بعد العلم أنه من عند الله.
من أضل ممن هو في شقاق بعيد: أي من يكون أضل منكم وأنتم في شقاق بعيد؟ لا أحد.
في الآفاق وفي أنفسهم: أي في أقطار السماوات والأرض من المخلوقات وأسرار خلقها وفي أنفسهم من لطائف الصنعة وعجائب وبدائع الحكمة.
حتى يتبين لهم أنه الحق: أي أن القرآن كلام الله ووحيه إلى رسوله حقا، وأن الإسلام حق.
ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم: أي في شك من البعث الآخر حيث يعرضون على الله تعالى.
ألا إنه بكل شيء محيط: أي علما وقدرة وعزة وسلطانا.
معنى الآيات:
يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمكذبين بالوحي الإلهي الذي يمثله القرآن الكريم حيث قالوا فيه شعر وسحر وأساطير الأولين يأمره أن يقول لهم مستفهما لهم أرأيتم أي أخبروني إن كان أي القرآن الذي كذبتم به من عند الله وكفرتم به أي كذبتم؟ من يكون أضل منكم وأنتم تعيشون في شقاق بعيد اللهم لا أحد يكون أضل منكم عن طريق الهدى إذا فلم لا تثوبون إلى رشدكم وتؤمنون بآيات ربكم فتكملوا عليها وستعدوا.
ثم قال تعالى: { سنريهم آياتنا } الدالة على صدقنا وصدق رسولنا فيما أخبرناهم به ودعوناهم إليه من الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء وذلك في الآفاق أي من أقطار السماوات والأرض مما ستكشف عنه الأيام من عجائب تدبير الله ولطائف صنعه، وفي أنفسهم أيضا أي في ذواتهم حتى يتبين لهم أنه الحق، من ذلك فتح القرى والأمصار وانتصار الإسلام كما أخبر به القرآن، ووقعة بدر وفتح مكة من ذلك وما ظهر لحد الآن من كشوفات في الآفاق وفي الأنفس مما أشار إليه القرآن ما هو أعجب من ذلك قوله تعالى:
ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون
[الذاريات: 49] فنظام الزوجية الساري في كل جزئيات الكون شاهد قوي على صدق القرآن وأنه الحق من عند الله، وأن الله حق وأن الساعة حق وقوله تعالى: { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد }؟ هذا توبيخ لهؤلاء المكذبين بإعلامهم أن شهادة الله كافية في صدق محمد وما جاء به إن الله هو المخبر بذلك والآمر بالإيمان به فكيف يطالبون بالآيات على صدق القرآن ومن نزل عليه والله المرسل للرسول والمنزل للكتاب وقوله تعالى: { ألا إنهم في مرية من لقآء ربهم } إعلام منه تعالى بما عليه القوم من الشك في البعث والجزاء وهو الذي سبب لهم كثيرا من أنواع الشر والفساد.
وقوله: { ألا إنه بكل شيء محيط } علما وقدرة وعزة وسلطانا فما أخبر به عنهم من علمه وما سيجزيهم به من عذاب إن أصروا على كفرهم من قدرته وعزته. ألا فليتق الله امرؤ مصاب بالشك في البعث وكل الظواهر دالة على حتميته ووقوعه في وقته المحدد له.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بالكفر بالقرآن والتكذيب بما جاء فيه من الهدى والنور.
2- لا أضل ممن يكذب بالقرآن لأنه يعيش في خلاف وشقاق لا أبعد منه.
3- صدق وعد الله تعالى حيث أرى المشركين وغيرهم آياته الدالة على وحدانيته وصحة دينه وصدق أخباره ما آمن عليه البشر الذين لا يعدون كثرة.
4- ما من اكتشاف ظهر ويظهر إلا والقرآن أدخله في هذه الآية سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم.
5- الإشارة إلى أن الإسلام سيعلم صحته وسيدين به البشر أجمعون في يوم ما من الأيام.
6- تقرير البعث والجزاء. ومظاهر قدرة الله تعالى المقررة له.
[42 - سورة الشورى]
[42.1-6]
شرح الكلمات:
حم عسق: هذه أحد الحروف المقطعة تكتب هكذا: حم عسق وتقرأ هكذا حاميم عين سين قاف.
كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك: أي مثل ذلك الإيحاء يوحى إليك وإلى الذين من قبلك. الذي يوحى إليك.
له ما في السماوات وما في الأرض: أي خلقا وملكا وتصرفا.
وهو العزيز الحكيم: أي العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه.
يتفطرن من فوقهن: أي يتشققن من عظمة الرحمن وجلاله.
والذين اتخذوا من دونه أولياء: أي آلهة يعبدونها.
الله حفيظ عليهم: أي يحصي لهم أعمالهم ويجزيهم بها.
وما أنتم عليهم بوكيل: أي ولست موكلا بحفظ أعمالهم وإنما عليك البلاغ.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { حم عسق } الله أعلم بمراده به وقد تقدم التنبيه إلى أن هذا من المتشابه الذي يجب الإيمان به وتفويض أمر فهم معناه إلى منزله وهو الله سبحانه وتعالى وقد ذكرنا أن له فائدتين جليلتين تقدمتا في كثير من فواتح السور المبدوءة بمثل هذه الحروف المقطعة فليرجع إليها.
وقوله { كذلك يوحي إليك } أي مثل ذلك الإيحاء بأصول الدين الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والبعث يوحى إليك بمعنى أوحى إليك وإلى الذين من قبلك من الرسل الله العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه وقوله { له ما في السموت وما في الأرض } أي خلقا وملكا وهو العلي أي ذو العلو المطلق على خلقه العظيم في ذاته وشأنه وحكمه وتدبيره سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقوله تعالى { تكاد السموت يتفطرن } أي يتصدعن ويتشققن من فوقهن من عظمة الرب تبارك وتعالى والملائكة يسبحون بحمد ربهم أي يصلون له ويستغفرون لمن فى الأرض أي يطلبون المغفرة للمؤمنين فهذا من العام الخاص بما في صورة المؤمن إذ فيها ويستغفرون للذين آمنوا وقوله تعالى { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } إخبار بعظيم صفاته عز وجل وهما المغفرة والرحمة يغفر لمن تاب من عباده ويرحم بالرحمة العامة سائر مخلوقاته في هذه الحياة ويرحم بالرحمة الخاصة عباده الرحماء وسائر عباده المؤمنين في دار السلام وقوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أوليآء } أي شركاء آلهة يعبدونهم هؤلاء الله حفيظ عليهم فيحصي عليهم أعمالهم ويجزيهم بها يوم القيامة، وليس على الرسول من ذلك شيء إن عليه إلا البلاغ وقد بلغ وهو معنى قوله: { ومآ أنت عليهم بوكيل } تحفظ عليهم أعمالهم وتجزيهم بها وفي الآية تسلية للرسول وتخفيف عليه لأنه كان يشق عليه إعراض المشركين وإصرارهم على الشرك بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وحدة الوحي بين سائر الأنبياء إذ هي تدور على التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والترغيب في العمل الصالح، والترهيب من العمل الفاسد.
2- بيان عظمة الله تعالى وجلاله وكماله حتى إن السماوات تكاد يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمده تعالى ويستغفرون للمؤمنين.
3- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه بأنه غير موكل بحفظ أعمال المشركين ومجازاتهم عليها إنما هو الله تعالى، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
[42.7-9]
شرح الكلمات:
وكذلك أوحينا إليك: أي ومثل ذلك الإيحاء إليك وإلى من قبلك أوحينا إليك.
قرآنا عربيا: أي بلسان عربي.
لتنذر أم القرى ومن حولها: أي علة الإيحاء هي إنذارك أهل أم القرى مكة ومن حولها من القرى أي تخوفهم عذاب الله إن بقوا على الشرك.
وتنذر يوم الجمع: أي وتنذر الناس من يوم القيامة إذ هو يوم يجمع الله فيه الخلائق.
لا ريب فيه: أي لا شك في مجيئه وجمع الناس فيه.
فريق في الجنة: أي المؤمنون المتقون.
وفريق في السعير: أي الكافرون.
ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة: أي على دين الإسلام وبذلك يكون الجميع في الجنة.
ولكن يدخل من يشاء في رحمته: أي في الإسلام أولا ثم في الجنة ثانيا.
والظالمون مالهم من ولي ولا نصير: أي المشركون ليس لهم من ولي يتولاهم ولا نصير ينصرهم فهم في النار.
أم اتخذوا من دون الله أولياء: أي بل اتخذوا من دونه تعالى شركاء ألهوهم من دون الله.
فالله هو الولي: أي الولي الحق ومن عداه فلا تنفع ولايته ولا تضر.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وكذلك أوحينآ إليك قرآنا عربيا } أي ومثل ذلك الإيحاء الذي أوحينا إليك وإلى الذين من قبلك أوحينا إليك قرآنا عربيا أي بلسان عربي يفهمه قومك لأنه بلسانهم لتنذر به أي تخوف أم القرى ومن حولها من الناس عاقبة الشرك والكفر والظلم والفساد وتنذر أيضا الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة فإنه يوم هول عظيم وشر مستطير ليتوقوه بالإيمان والتقوى. إنه يوم يكون فيه الناس والجن فريقين لا ثالث لهما: فريق في الجنة بإيمانه وتقواه لله بفعل أوامره وترك نواهيه، وفريق في السعير بشركه وكفره بالله وعدم تقواه فلا امتثل أمرا ولا اجتنب نهيا.
وقوله تعالى: { ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة } أي في الدنيا على دين الإسلام الذي هو دين آدم فنوح فإبراهيم فسائر الأنبياء موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. إذ هو عبارة عن الإيمان بالله وبما أمر الله بالإيمان به، والانقياد لله ظاهرا وباطنا بفعل محابه تعالى وترك مكارهه ولو كانوا في الدنيا على ملة الإسلام لكانوا في الآخرة فريقا واحدا وهو فريق الجنة ولكن لم يشأ ذلك لحكم عالية فهو تعالى يدخل من يشاء في رحمته في الدنيا وهي الإسلام وفي الآخرة هي الجنة، والظالمون أي المشركون الذين رفضوا التوحيد والإسلام لله مالهم من ولي ولا نصير فهم إذا في عذاب السعير. وقوله تعالى: { أم اتخذوا } أي الظالمون من دون الله أولياء من دون الله ليشفعوا لهم جهلا منهم بأنه لا يشفع أحد إلا بإذن الله ورضاه فعلوا ذلك وما كان لهم ذلك لأن الولي الحق هو الله فلم لا يتخذونه وليا، وهو الولي الحميد وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير فمن أحق بأن يتولى من يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير أم من لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، والجواب معلوم، ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بإثبات الوحي الإلهي.
2- شرف مكة بتسميتها أم القرى أي أم المدن والحواضر.
3- مشروعية التعليل للأفعال والأحكام.
4- إنقسام الناس يوم القيامة إلى سعيد وشقي لا غير.
5- لم يشأ الله أن يجعل الناس أمة واحدة لحكم عالية علمها إليه سبحانه وتعالى.
6- من طلب ولاية غير الله هلك؟ ومن والى الله دون من سواه كفاه الله ما أهمه في دنياه وأخراه.
[42.10-12]
شرح الكلمات:
وما اختلفتم فيه من شيء: أي من أمور الدين والدنيا مع الكفار أو مع المؤمنين.
فحكمه إلى الله: هو الذي يقضي فيه في الدنيا بما ينزل من وحي على رسوله وفي الآخرة إذ الحكم له دون غيره.
ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب: أي قل لهم يا رسولنا ذلكم الحاكم العدل العظيم الله ربي عليه توكلت أي فوضت أمري إليه، وإليه لا إلى غيره أرجع في أموري كلها.
فاطر السماوات والأرض: أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق.
جعل لكم من أنفسكم أزواجا: أي بأن جعلكم ذكرا وأنثى، ومن الأنعام كذلك.
يذرؤكم فيه: أي يخلقكم في هذا التدبير وهو من الذكر والأنثى يخرجكم.
ليس كمثله شيء: أي ليس مثل الله شيء إذ هو الخالق لكل شيء فلا يكون مخلوق مثله بحال من الأحوال.
وهو السميع البصير: أي السميع لأقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم.
معنى الآيات:
يقول تعالى وما اختلفتم فيه من شيء من أمور الدين والدنيا أيها الناس فحكمه إلى الله تعالى هو الذي يحكم فيه بالعدل فردوه إليه سبحانه وتعالى فإنه يقضي بينكم بالحق. وهنا أمر رسوله أن يقول للمشركين ذلكم المذكور بصفات الجلال والكمال الحكم العدل الذي يقضي ولا يقضى عليه الله ربي الذي ليس لي رب سواه عليه توكلت ففوضت أمري إليه واثقا في كفايته وإليه وحده أنيب أي أرجع في أموري كلها، ثم واصل ذكر صفاته الفعلية فقال فاطر السماوات والأرض أي خالق السماوات السبع والأرض مبدعهما من غير مثال سابق { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } إذ خلق حواء من ضلع آدم ثم جعلكم تتناسلون من ذكر وأنثى ومن الأنعام أزواجا أيضا وهما الذكر والأنثى وقوله { يذرؤكم فيه } أي يخلقكم فيه أي في هذا النظام نظام الذكر والأنثى كأن الذكورة والأنوثة معمل من المعامل يتم فيه خلق الإنسان والحيوان فسبحان الخلاق العليم.
وقوله: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } هذا تعريف عرف تعالى به نفسه ليعرف بين عباده وهو أنه عز وجل ليس مثله شيء أي فلا شيء مثله فعرف بالتفرد بالوحدانية فالذي ليس له مثل ولا مثله شيء هو الله ذو الأسماء الحسنى والصفات العليا وهو السميع لكل الأصوات العليم بكل الكائنات.
وقوله تعالى: { له مقاليد السموت والأرض } أي له مفاتيح خزائن السماوات والأرض، وله مغاليقها فهو تعالى يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا ويضيق ابتلاء، لأنه بكل شيء عليم فلا يطلب الرزق إلا منه، ولا يلجأ فيه إلا إليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب رد ما اختلف فيه إلى الله تعالى ليحكم فيه وهو الرد إلى الكتاب والسنة.
2- وجوب التوكل عليه والإنابة إليه في كل الأمور.
3- تنزيه الله تعالى عن مشابهته لخلقه مع وجوب الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
4- وجوب الإيمان بأن الله هو الرزاق بيده مفاتح خزائن الأرزاق فمن شاء وسع عليه، ومن شاء ضيق، وأنه يوسع لحكمه ويضيق لأخرى.
[42.13-14]
شرح الكلمات:
ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك: أي شرع لكم من الدين الذي وصى به نوحا والذي أوحينا به إليك.
وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أي والذي وصينا باقي أولي العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى وهو أن يعبدوا الله وحده بما شرع من العبادات.
أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه: أي بأن أقيموا الدين الذي شرع لكم ولا تضيعوه ولا تختلفوا فيه.
كبر على المشركين ما تدعوهم إليه: أي عظم على كفار قريش ما تدعوهم إليه وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الله يجتبي إليه من يشاء: أي يختار إلى الإيمان به والعمل بطاعته من يريده لذلك.
ويهدي إليه من ينيب: أي ويوفق لطاعته من ينيب إليه في أموره ويرجع إليه في جميع شأنه، بخلاف المعرضين المستكبرين.
بغيا بينهم: أي حملهم البغي على التفرق في دين الله.
ولولا لكمة سبقت من ربك: أي ولولا ما قضى الله به من تأخير العذاب على هذه الأمة إلى يوم القيامة.
لقضي بينهم: أي لحكم الله بينهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين.
وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم: أي وإن الذين أورثوا الكتاب من بعد الأولين وهم اليهود والنصارى ومشركو العرب.
لفي شك منه مريب: أي لفي شك مما جئتهم به من الدين الحق وهو الإسلام.
معنى الآيات:
يخاطب تعالى رسوله والمؤمنين فيقول وقوله الحق: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } إذ هو أول حامل شريعة من الرسل { والذي أوحينآ إليك } يا محمد { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } من أولي العزم من الرسل { أن أقيموا الدين } وهو دين واحد قائم على الإيمان والتوحيد والطاعة لله في أمره ونهيه وإقامة ذلك بعدم التفريط فيه أو في شيء منه، وعدم التفرق فيه، لأن التفرق فيه بسبب تضيعه كلا أو بعضا.
وقوله تعالى: { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } أي عظم عليهم ولم يطيقوا حمله ما تدعوهم إليه من عبادة الله تعالى وحده وترك عبادة الأصنام، إذا فادعهم واصبر على أذاهم والله يجتبي إليه أي يختار للإيمان به وعبادته من يشاء ممن لا يصرون على الباطل، ولا يستكبرون عن الحق إذا عرفوه، ويهدي إليه أي ويوفق لطاعته من من شأنه الإنابة والرجوع إلى ربه في أموره كلها.
وقوله تعالى: { وما تفرقوا } أي وما تفرق العرب واليهود والنصارى في دين الله فآمن بعض وكفر بعض الأمن بعد ما جاءهم العلم الصحيح يحمله القرآن الكريم ونبيه محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. والحامل لهم على ذلك هو البغي والحسد. وقوله ولولا كلمة سبقت من ربك وهو عدم معالجة هذه الأمة المحمدية بعذاب الإبادة والاستئصال، وترك عذابهم إلى يوم القيامة لولا هذا لعجل لهم العذاب من أجل اختلافهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين.
وهو معنى قوله تعالى { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم } أي فرغ منهم بالفصل بينهم بإهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين.
وقوله تعالى: { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } أي من بعد اليهود والنصارى وهم العرب إذ أنزل الله فيهم كتابه القرآن الكريم لفي شك منه أي من القرآن والنبي والدين الإسلامي مريب أي بالغ الغاية في الريبة والاضطراب النفسي، كما أن اللفظ يشمل اليهود والنصارى إذ هم أيضا ورثوا الكتابين عمن سبقهم وأنهم فعلا في شك من القرآن ونبيه والإسلام وشرائعه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- دين الله واحد وهو الإيمان والاستقامة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- حرمة الاختلاف في دين الله المسبب تضييع الدين كلا أو بعضا.
3- مرد التفرق في الدين إلى الحسد والبغي بين الناس، فلو لم يحسد بعضهم بعضا ولم يبغ بعضهم على بعض لما تفرقوا في دين الله ولأقاموه متجمعين فيه.
[42.15-16]
شرح الكلمات:
فلذلك فادع: أي فإلى ذلك الدين الذي شرع الله لكم ووصى به نوحا وأوحاه إليك يا محمد فادع عباد الله.
واستقم كما أمرت: أي استقم على العمل به ولا تزغ عنه واثبت عليه كما أمرك الله.
ولا تتبع أهواءهم: أي ولا تتبع أهواء المشركين وأهل الكتاب فتترك الحنيفية التي بعثت بها فإنها الحق.
وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب: أي ولست كالذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
وأمرت لأعدل بينكم: أي أمرني ربي أن أحكم بينكم بالعدل الذي هو خلاف الجور.
الله ربنا وربكم: أي خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم وإلهنا وإلهكم.
لنا أعمالنا ولكم أعمالكم: وسيجزى كل منا بعمله خيرا كان أو شرا.
لا حجة بيننا وبينكم: أي ما هناك حاجة إلى المحاجة الآن بعد ظهور الحق.
الله يجمع بيننا: أي يوم القيامة.
والذين يحاجون في الله: أي يجادلون في دين الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.
من بعد ما استجيب له: أي بالإيمان لظهور معجزته وهم اليهود.
حجتهم داحضة: أي باطلة عند ربهم.
وعليهم غضب: أي من الله ولهم عذاب شديد يوم القيامة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { فلذلك فادع } أي فإلى ذلك الدين الحق الذي هو الإسلام الذي شرعه الله لكم ووصى به نوحا وأوحاه إليك فادع جميع الناس عربهم وعجمهم فإنه دين الله الذي لا يقبل دينا سواه، ولا يكمل الإنسان في أخلاقه ومعارفه وأدابه ولا يسعد في الدارين إلا عليه واستقم عليه كما أمرك ربك، فلا تزغ عنه ولا تعدل به غيره فإنه الصراط المستقيم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك ولا تتبع أهواء المشركين ولا أهواء أهل الكتاب. وقل في صراحة ووضوح آمنت بما أنزل الله من كتاب فلا أومن ببعض وأكفر ببعض كما أنتم عليه معشر اليهود والنصارى، وقل لهم أمرني ربي أن أعدل بينكم في الحكم إذا تحاكمتم إلي، كما أني لا أفرق بينكم إذا اعتبركم على الكفر سواء فكل من لم يكن على الإسلام الذي كان عليه نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والذي عليه أنا وأصحابي اليوم فهو كافر من أهل النار.
وقوله تعالى { الله ربنا وربكم } أي أمرني أن أقول لكم هذا الله ربنا وربكم إذ لا رب سواه فهو رب كل شيء ومليكه، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم وسيجزى كل منا بعمله السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها، إلا أن الكافر لا تكون له حسنة مادام قد كفر بأصل الدين فلم يؤمن بالله ولقائه، ولا بوحيه ولا برسوله وقوله { لا حجة بيننا وبينكم } أي اليوم إذ ظهر الحق ولاح الصبح لذي عينين فلا داعي إلى الجدال والخصومة معكم يا أهل الكتابين من يهود ونصارى الله يجمع بيننا يوم القيامة إذ المصير في النهاية إليه لا إلى غيره وسوف يحكم بيننا فيما اختلفنا فيه فيقضى لأهل الحق بالنجاة من النار ودخول الجنة ويقضى لأهل الباطل بالنار والخلود فيها.
وقوله تعالى: { والذين يحآجون في الله } أي في دين الله النبي والمؤمنين يريدون أن يردوهم إلى باطلهم من بعد ما استجيب للرسول ودخل الناس في دين الله أفواجا، هؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم أي باطلة، وعليهم غضب أي من ربهم ولهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة هذه الآية نزلت في يهود بالمدينة نصبوا أنفسهم خصوما لأصحاب رسول الله يجادلونهم يريدون تشكيكهم في الإسلام والعودة بهم إلى وثنية الجاهلية وكان هذا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فرد تعالى عليهم وأسكتهم بهذه الآية متوعدا إياهم بالغضب والعذاب الشديد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الدعوة إلى الإسلام بين أمم العالم إذ لا نجاة للبشرية إلا بالإسلام.
2- حرمة اتباع أهواء أهل الأهواء والسير معهم وموافقتهم في باطلهم.
3- وجوب الاستقامة على الإسلام عقائد وعبادات وأحكام قضائية وآداب وأخلاق.
4- تعين ترك الحجاج والمخاصمة مع أهل الكتاب وكذا أهل الأهواء والبدع لأنا على الحق وهم على الباطل، فكيف نحاجهم إذ الواجب أن يسلموا وكفى.
[42.17-21]
شرح الكلمات:
الله الذي أنزل الكتاب الحق: أي أنزل القرآن متلبسا بالحق والصدق لا يفارقه أبدا.
والميزان: أي وأنزل الميزان وهو العدل ليحق الحق.
وما يدريك لعل الساعة قريب: أي أي شيء يجعلك تدري قرب الساعة إلا أن يكون الوحي الإلهي.
يستعجل بها الذين لا يؤمنون: أي يطالب المكذبون بها لأنهم لا يخافون ما فيها لعدم إيمانهم به.
والذين آمنوا مشفقون منها: أي خائفون وذلك لإيمانهم فهم لا يدرون ما يكون لهم فيها من سعادة أو شقاء ولذا هم مشفقون.
ويعلمون أنها الحق: أي أن الساعة حق واجبة الإتيان لا محالة.
إن الذين يمارون في الساعة: أي إن الذين يجادلون في الساعة شاكين في وقوعها.
الله لطيف بعباده: أي برهم وفاجرهم بدليل أنهم يعصونه وهو يرزقهم ولا يعاقبهم.
من كان يريد حرث الآخرة: أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة.
نزد له في حرثه: أي نضاعف له ثوابه الحسنة بعشر أمثالها وأكثر.
ومن كان يريد حرث الدنيا: أي من كان يريد بعمله متاع الحياة الدنيا من طيباتها.
نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب: أي نعطه منها ما قدر له وليس له في الآخرة من حظ ولا نصيب.
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين: أي بل لهم شركاء من الشياطين شرعوا لهم من الدين.
ما لم يأذن به الله: أي ما لم يشرعه الله تعالى وهو الشرك.
ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم: أي ولولا كلمة الفصل التي حكم الله بها بتأخير العذاب إلى يوم القيامة لأهلكم اليوم على شركهم وأنجى المؤمنين.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنه هو الذي أنزل الكتاب أي القرآن بالحق والصدق وأنزل الميزان وذلك من أجل إحقاق الحق في الأرض وإبطال الباطل فيها، فلا يعبد إلا الله ولا يحكم إلا شرع الله وفي ذلك كمال الإنسانية وسعادتها، وقوله تعالى: { وما يدريك لعل الساعة قريب } أي أي شيء جعلك تدري قرب الساعة إنه الوحي الإلهي لا غير وقوله { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } أي الذين لا يؤمنون بالبعث الآخر والجزاء فيه هم الذي يكالبون بإتيانها في غير وقتها ويستعجلون الرسول بها بقولهم متى الساعة؟ أما المؤمنون بالبعث والجزاء فإنهم مشفقون أي خائفون من وقوعها لأنهم لا يدرون مصيرهم فيها ولا يعلمون ما هم صائرون إليه من سعادة أو شقاء وقوله { ويعلمون أنها الحق } أي والمؤمنون يعلمون أن الساعة حق واجبة الوقوع ليحكم الله فيها بين عباده ويجزى كل واحد بعمله، ويقتص فيها من المظلوم للظالم فلذا هي واقعة حتما لا تتخلف أبدا.
وقوله تعالى: { ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد } يخبر تعالى مؤكدا الخبر بأن الذين يشككون في الساعة ويجادلون في صحة وقوعها في ضلال عن الهدى والصواب والرشد، بعيد لا يرجى لهم معه العودة إلى الصواب والهدى في هذه المسالة من مسائل العقيدة.
وقوله تعالى { الله لطيف بعباده يرزق من يشآء وهو القوي العزيز } يخبر تعالى بأنه ذو لطف بعباده مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم يكفر به الكافرون ويعصيه العاصون وهو يطعمهم ويسقيهم ويعفو عنهم ولا يهلكهم بذنوبهم فهذا من دلائل لطفه بهم. يرزق من يشاء أي يوسع الرزق على من يشاء ويقدر على من يشاء حسب ما تقضيه تربيتهم فلا يدل الغنى على الرضاء ولا الفقر على السخط. وهو تعالى القوي القادر الذي لا يعجزه شيء العزيز في انتقامه ممن أراد الانتقام منه وقوله تعالى: { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } ، وهذا من مظاهر لطفه بعباده وهو أن من أراد منهم بعمله ثواب الآخرة وما أعد الله فيها للمؤمنين المتقين نزد له في حرثه أي يضاعف له أجر عمله الحسنة بعشر إلى سبعمائة ويضاعف لمن يشاء ومن كان يريد بعمله حرث الدنيا أي متاع الحياة الدنيا يؤته على قدر عمله للدنيا وهو ما قدره له أزلا وجعله مقدورا له لا بد نائله، وماله في الآخرة من نصيب لأنه لم يعمل لها فلاحظ ولا نصيب له فيها إلا النار وبئس القرار.
وقوله تعالى في الآية [21] { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } يقول أللمشركين من كفار قريش شركاء من الشياطين شرعوا لهم دينا وهو الشرك لم يأذن به الله، وهذا إنكار عليهم، وإعلان غضب شديد من أجل شركهم الذي زينته لهم الشياطين فصرفتهم عن الدين الحق إلى الدين الباطل، ولذا قال: ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم أي ولولا أنه تعالى قضى بأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة لعذبهم في الدنيا وأهلكهم فيها قبل الآخرة، وذلك لاتخاذهم دينا لم يشرعه لهم، وقوله تعالى وإن الظالمين اي المشركين لهم عذاب أليم أي موجع وذلك يوم القيامة وهذا وعيد للمشركين الذين اتخذوا الجاهلية والشرك وعبادة الأوثان دينا وأعرضوا عن دين الله الذي أوصى به نوحا وأوحاه إلى محمد خاتم رسله، كما أوصي به إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان بعض الحكمة في إنزال الكتاب أي القرآن والميزان وهو أن يحكم الناس بالقسط.
2- بيان قرب الساعة وأن معرفة قربها كان بالوحي الإلهي مثل اقترب للناس حسابهم.
3- المستعجلون بالساعة هم الكافرون الجاحدون لها.
4- بيان لطف الله بعباده فله الحمد وله المنة والشكر.
5- بيان وجوب إصلاح النيات فإن مدار العمل قبولا ورفضا بحسبها.
6- حظر التشريع بجميع أنواعه عن غير الله ورسوله.
[42.22-26]
شرح الكلمات:
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا: أي ترى أيها المرء الظالمين يوم القيامة خائفين من جزاء ما عملوا.
وهو واقع بهم: أي وهو أي جزاء ما كسبوا من الباطل والشرك نازل بهم معذبون به لا محالة.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات: آمنوا بالله ولقائه وآياته ورسوله وأدوا الفرائض واجتنبوا المحارم.
في روضات الجنات: أي هم في روضات الجنات، والروضة في الجنة أنزه مكان فيها.
لهم ما يشاءون عند ربهم: أي لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم في جوار ربهم.
قل لا أسالكم عليه أجرا: أي قل يا رسولنا لقومك لا أسألكم على التبليغ أجرا أي ثوابا.
إلا المودة في القربى: أي لكن أسألكم أن تودوا قرابتي فتمنعوني حتى أبلغ رسالتي.
ومن يقترف حسنة: أي ومن يكتسب حسنة بقول أو عمل صالح.
نزد له فيها حسنا: أي نضاعفها له أضعافا.
أم يقولون افترى على الله كذبا: أي أيقول هؤلاء المشركون إن محمدا افترى على الله كذبا فنسب إليه القرآن وهو ليس بكلامه ولا بوحيه.
فان يشاء الله يختم على قلبك: أي إن يشإ الله تعالى يطبع على قلبك وينسيك القرآن أي إن الله قادر على أن يمنعك من الافتراء عليه كما زعم المشركون.
ويمحو الله الباطل ويحق الحق: أي إن من شأن الله تعالى أنه يمحو الباطل.
بكلماته: أي بالآيات القرآنية وقد محا الباطل وأحق الحق بالقرآن.
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده: أي هو تعالى الذي يقبل توبة التائبين من عباده.
ويعفو عن السيئات: أي لا يؤاخذ بها من تاب منها فهذا هو الإله الحق لا الأصنام التي ليس لها شيء مما هو لله ألبتة.
ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات: أي ويجيب تعالى عباده الذين آمنوا به وعملوا الصالحات إلى ما دعوه فيه فيعطيهم سؤلهم.
ويزيدهم من فضله: أي يعطيهم ما سألوا ويعطهم ما لم يسألوه من الخير.
والكافرون لهم عذاب شديد: أي والكافرون بالله ورسوله ولقاء الله وآياته لهم عذاب شديد.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله ترى الظالمين يوم القيامة مشفقين أي خائفين مما كسبوا أي من جزاء ما كسبوا من الشرك والمعاصي، وهو أي العذاب واقع بهم نازل عليهم لا محالة وقوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير } أي في الوقت الذي يكون فيه الظالمون مشفقين مما كسبوا يكون الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وعملوا الصالحات من الفرائض والنوافل بعد اجتناب الشرك والكبائر في روضات الجنات وهي أنزهها وأحسنها لهم ما يشاءون من النعيم مما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين كل ذلك في جوار رب كريم وقوله تعالى { ذلك هو الفضل الكبير } أي ذاك الذي أخبر تعالى به أنهم فيه من روضات الجنات وغيره هو الفضل الكبير الذي تفضل الله تعالى عليهم به.
وقوله في الآية الثانية [23] { ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي ذلك المذكور من روضات الجنات وغيره هو الذي يبشر الله تعالى به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات في كتابه وعلى لسان رسوله.
وقوله تعالى: { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } يأمر تعالى رسوله أن يقول لقومه من المشركين لا أسألكم على إبلاغي إياكم دعوة ربي إلى الإيمان به وتوحيده لتكملوا وتسعدوا أجرا أي مالا لكن أسألكم أن تودوا قرابتي منكم فلا تؤذوني وتمنعوني من الناس حتى أبلغ دعوة ربي.
وقوله تعالى: { ومن يقترف حسنة } أي من يعمل حسنة نزد له فيها حسنا بأن نضاعفها له إذ الله غفور للتائبين من عباده شكور للعاملين منهم فلا يضيع أجر من أحسن عملا.
وقوله: { أم يقولون افترى على الله كذبا } أي بل يقولون أفترى على الله كذبا أي يقول المشركون إن محمدا افترى على الله كذبا فادعى أن القرآن من كلام الله ووحيه وما هو إلا افتراء افتراه على الله. فأبطل الله تعالى هذه الدعوة وقال: { فإن يشإ الله يختم على قلبك } أي يطبع على قلبك فتنسى القرآن ولا تقدر على قوله والنطق به، فكيف إذا يقال إنه يفترى على الله كذبا والله قادر على منعه والإحالة بينه وبين ما يقوله. وقوله: { ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور } هذا شأنه تعالى يمحو الباطل ويحق الحق بالقرآن وقد فعل فمحا الباطل وأحق الحق فمامات رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الجزيرة من يعبد غير الله تعالى. وقوله { إنه عليم بذات الصدور } فلواسع علمه وعظيم قدرته محا الباطل وأحق الحق بالقرآن ولو كان القرآن مفترى ما محا باطلا ولا أحق حقا وقوله تعالى: { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } أي إن تابوا إليه وأنابوا، ويعفوا عن سيئاتهم فلا يؤاخذهم بها، ويعلم ما يفعلون في السر والعلن ويجزى كلا بما عمل وهو على كل شيء قدير.
وقوله تعالى: { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي يجيب دعاءهم فيما طلبوه ويزيدهم من فضله فيعطيهم ما لم يطلبوه فما أعظم كرمه وما أوسع رحمته!! هذا للذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأما الكافرون فلهم عذاب شديد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير حق القرابة ووجوب المودة فيها. واحترام قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديرها.
2- تبرئة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الافتراء على الله عز وجل.
3- مضاعفة الحسنات، وشكر الله للصالحات من أعمال عباده المؤمنين.
4- وجوب التوبة وقبول الله تعالى لها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة. وللتوبة ثلاثة شروط. الإقلاع الفوري عن المعصية، والاستغفار، والندم على ما فعل من المعصية بترك الواجب أو بفعل المحرم. وإن كان الذنب يتعلق بحق آدمي زاد شرط رابع وهو التحلل من الآدمي بآداء الحق أو بطلب العفو منه.
5- وعد الله تعالى باستجابة دعاء المؤمنين العاملين للصالحات وهم أولياء الله تعالى الذين إن سألوا أعطاهم وإن استعاذوه أعاذهم وإن استنصروه نصرهم. اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم.
[42.27-31]
شرح الكلمات:
ولو بسط الله الرزق لعباده: أي لو وسع الرزق لجميع عباده.
لبغوا في الأرض: أي لطغوا في الأرض جميعا.
ولكن ينزل بقدر ما يشاء: أي ينزل من الأرزاق ما يشاء فيبسط ويضيق.
إنه بعباده خبير بصير: أي إنه بأحوال عباده خبير إذ منهم من يفسده الغنى ومنهم من يصلحه ومنهم من يصلحه الفقر ومنهم من يفسده.
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا: أي المطر من بعد يأسهم من نزوله.
وينشر رحمته: أي بركات المطر ومنافعه في كل سهل وجبل ونبات وحيوان.
وهو الولي الحميد: أي المتولي لعباده المؤمنين المحسن إليهم المحمود عندهم.
وما بث فيهما من دابة: أي فرق ونشر من كل ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم.
وهو على جمعهم إذا يشاء قدير: أي للحشر والحساب والجزاء يوم القيامة قدير.
وما أصابكم من مصيبة: أي بليه وشدة من الشدائد كالمرض والفقر.
فيما كسبت أيديكم: أي من الذنوب والآثام.
ويعفو عن كثير: أي منها فلا يؤاخذ به، وما عفا عنه في الدنيا لا يؤاخذ به في الآخرة.
وما أنتم بمعجزين في الأرض: أي ولستم بفائتي الله ولا سابقيه هربا منه إذا أراد مؤاخذتكم بذنبكم.
معنى قوله:
قوله تعالى: { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } هذا شروع في عرض مظاهر القدرة والعلم والحكمة الموجبة لربوبية الله تعالى المستلزمة لألوهيته على عبادته فقال تعالى: { ولو بسط الله } أي رب العباد الرزق فوسعه عليهم لبغوا في الأرض فطغا بعضهم على بعض وظلم بعضهم بعضا ولزم ذلك فساد كبير في الأرض قد تتعطل معه الحياة بكاملها.
ولكن ينزل بقدر ما يشاء أي ينزل من الأرزاق بمقادير محددة حسب تدبيره لحياة عباده ويدل على هذا قوله إنه بعباده خبير بصير أي إنه بما تتطلبه حياة عباده ذات الآجال المحدودة، والأعمال المقدرة الموزونة، والنتائج المعلومة أزلا. هذا مظهر من مظاهر العلم والقدرة والحكمة ومظهر آخر في قوله، { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته } ، فإنزال المطر بكميات ومقادير محدودة وفي أماكن محددة، وفي ظروف محددة هذا التصرف ما قام إلا على مبدأ القدرة القاهرة والخبرة التامة، إنه يمنع عن عباده المطر فيمحلوا ويجدبوا حتى ييأسوا ويظهر عجزهم وعجزا آلهتهم التي يعبدونها ظلما فاضحا إذ لا تستحق العبادة بحال من الأحوال ثم ينزل الغيث وينشر الرحمة فتعم الأرزاق والخيرات والبركات، وهو الولي الذي لا تصلح الولاية لغيره الحميد أي المحمود بصنائع بره وعوائد خيره ومظاهر رحمته. هو الولي بحق والمحمود بحق، ومظهر آخر في قوله تعالى ومن آياته الدالة على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لربوبيته لسائر خلقه والمستلزمة لألوهيته على سائر عباده: { خلق السموت والأرض } إيجادهما بما هما عليه من عجائب الصفة، وما بث أي فرق ونشر فيهما من دابة تدب على الأرض، أو ملك يسبح في السماء.
فهذا الخلق والإبداع ناطق بربوبيته تعالى صارخ بألوهيته لعباده فلم إذا يعبد غيره من مخلوقاته وتترك عبادته وفوق هذا المظهر للخلق والرزق والتدبير مظهر آخر وهو قدرته تعالى على جمع سائر خلقه في صعيد واحد ومتى؟ وإنه بعد إفنائهم وتصييرهم عظاما ورفاتا، وهو معنى قوله: وهو على جمعهم إذا يشاء قدير.
وقوله تعالى: { ومآ أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير } ، وهذا مظهر آخر للقدرة والعلم يتجلى فيما يصيب الإنسان من مصيبة في نفسه وولده وماله إن كل مصاب ينزل بالإنسان في هذه الحياة ناتج عن مخالفة لله تعالى فيما وضع من القوانين والشرائع والسنن. وأعظم دلالة أن يعطل القانون الماضي ويوقف مفعوله فيكسب العبد الذنب ولا يؤاخذ به عفوا من الله تعالى عليه، وهو معنى قوله تعالى { ويعفوا عن كثير }. فله الحمد وله المنة.
ومظهر آخر من مظاهره قدرة الله وعلمه وحكمته هو أن الناس مهما أوتوا من قوة وتدبير وعلم ومعرفة لم ولن يعجزوا الله تعالى { ومآ أنتم بمعجزين في الأرض } فالسماء فوقهم والأرض تحتهم إن يشأ يخسف الأرض من تحتهم أو يسقط السماء كسفا من فوقهم. فإلى أين المهرب والجواب إلى الله فقط بالاستسلام له والانقياد بالطاعة وفي ذلك نجاتهم وعزهم وكرامتهم زيادة على سعادتهم وكمالهم في الحياتين وقوله: { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } أي وليس لكم أيها الناس مع عجزكم من ولي يتولاكم ولا ناصر ينصركم. إذا ففروا إلى الله بالإيمان به والإسلام له تنجوا وتسعدوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان الحكمة في تقدير الأرزاق وإعطائها بمقادير محددة.
2- من مظاهر ربوبية الله تعالى الموجبة لألوهيته على عباده إنزال الغيث بعد اليأس والقنوط وخلق السماوات والأرض وما بث فيها من دابة.
3- بيان حقيقة علمية ثابتة وهي أن المخالفة للقوانين يترتب عليه ضرر يصيب المخالف.
4- بيان أن ما من مصيبة تصيب المرء في نفسه أو ولده أو ماله إلا بذنب ارتكبه.
5- بيان أن من الذنوب ما يعفو الله تعالى عنه ولا يؤاخذ به تكرما وإحسانا.
[42.32-35]
شرح الكلمات:
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام: أي ومن علامات ربوبيته للخلق إيجاد السفن كالجبال في البحار وتسخير البحار للسير فيها لمنافع العباد.
إن يشأ يسكن الريح: أي يوقف هبوب الريح فلا نسيم ولا عواصف.
فيظللن رواكد على ظهره: أي تقف السفن وتظل راكدة حابسة على ظهر البحر.
إن في ذلك لآيات: أي في هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن وركودها عند سكون الرياح لدلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته.
لكل صبار شكور: أي إن هذه الآيات لا يراها ولا ينتفع بها إلا من كان صبارا عند الشدايد والمحن شكورا عند الآلاء والنعم.
أو يوبقهن بما كسبوا: أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيهلك تلك السفن ويغرقها بمن فيها بسبب ذنوب أصحابها، وهو على ذلك قدير.
ويعفو عن كثير: أي وإنه تعالى ليعفو عن كثير من الذنوب والخطايا فلا يؤاخذ بها إذ لو آخذ بكل ذنب ما بقي أحد على وجه الأرض لقلة من لا يذنب فيها.
ويعلم الذين يجادلون في آياتنا: أي ويعلم المكذبون بآيات الله من المشركين عندما تعصف العواصف وتضطرب السفن ويخاف الغرق.
ما لهم من محيص: أي ليس لهم من مهرب إلا إلى الله فيجأرون بدعائه وحده ناسين آلهتهم الباطلة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مظاهر الربوبية المستلزمة لألوهية الله تعالى ووجوب عبادته وحده دون سواه فقال تعالى: { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام } أي ومن حججه عليكم يا عباد الله الدالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته أيضا هذه السفن الجوار في البحر كأنها جبال عالية تسير من إقليم إلى إقليم بتسخير الله تعالى البحار وإرسال الرياح وهي تجري بمنافعكم حيث تنقل الركاب والبضائع من إقليم إلى آخر. فهذا مظهر قدرة الله ورحمته، وإن يشأ تعالى إسكان الريح فإنها تسكن فلا تهب ولا تنسم بنسيم ألبته فتقف السفن وتركد على سطح الماء فلا تتحرك، وإن يشأ أيضا يرسل عليها عواصف من الريح فتضطرب وتغرق بما فيها ومن فيها وذلك بذنوب أصحابها إن القاعدة الثابتة المقررة أنه ما من مصيبة إلا بذنب. وهذا معنى قوله { إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره }.
وقوله تعالى { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } أي إن في هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن عليها وركودها عند سكون الريح لحجج واضحة قوية على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته ولكن لا يراها ولا ينتفع بها أمثال البهائم، ولكن هي من نصيب كل عبد صبار على طاعة الله وبلائه شكور لآلائه ونعمه عليه.
.
وقوله { أو يوبقهن بما كسبوا }. وقوله { ويعف عن كثير } أي ولا يؤاخذ بكل ذنب فقد يعفو عن كثير من الذنوب. إذ لو عاقب على كل ذنب وآخذ بكل خطيئة لما بقي على الأرض أحد إذ ما من أحد إلا ويذنب اللهم إلا ما كان من المعصومين من الأنبياء والمرسلين فإنهم لا يذنبون، ولكن قد يذنب أصولهم وفروعهم فيهلكون ومن أين يوجدون!!
وقوله تعالى: { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } أي وعندما تكون الريح عاصفة وتضطرب السفن وتشرف على الغرق هنا يعلم المشركون الذين يخاصمون رسول الله ويجادلونه في الوحي الإلهي ويكذبون به يعلمون أنهم في هذه الحال مالهم من محيص أي من ملجأ ولا مهرب من الله إلا إليه فيجأرون بدعاء الله وحده كما قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر ربوبية الله وألوهيته على خلقه.
2- فضل الصبر والشكر وفضيلة الصابرين الشاكرين.
3- تقرير قاعدة ما من مصيبة إلا بذنب مع عفو الله عن كثير.
4- عند معاينة العذاب يعرف الإنسان ربه ولا يعرف غيره.
[42.36-41]
شرح الكلمات:
فما أوتيتم من شيء: أي فما أعطيتم من شيء من متاع الدنيا كالمال والولد والمطعم والمشرب والملبس والمسكن والمنكح والمركب.
فمتاع الحياة الدنيا: أي يتمتع به زمنا ثم يزول ولا يبقى.
وما عند الله خير وأبقى: أي وما عند الله من ثواب الآخرة فهو خير في نوعه وأبقى في مدته.
للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون: أي ما عند الله خير وأبقى لأصحاب الصفات التالية:
الإيمان، والتوكل على الله، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، والتجاوز عمن أساء إليهم، والاستجابة لربهم في كل ما دعاهم إليه فعلا أو تركا، وإقام الصلاة والمشورة بينهم والإنفاق مما رزقهم الله، والانتصار عند البغي عليهم هذه عشر صفات أصحابها ما أعده الله تعالى لهم يوم يلقونه خير من متاع الدنيا بكامله.
وجزاء سيئة سيئة مثلها: أي جزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه.
فمن عفا وأصلح فأجره على الله: أي فمن عفا عمن أساء إليه وأصلح ما بينه وبينه فأجره على الله ثابت له.
إنه لا يحب الظالمين: أي لا يحب البادئين بالظلم، ومن لم يحبه الله أذن في عقوبته.
ولمن انتصر بعد ظلمه: أي ومن ظلمه ظالم فأخذ منه بحقه.
فأولئك ما عليهم من سبيل: أي لمؤاخذتهم، لأنهم ما بدأوا بالظلم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { فمآ أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا } هذا شروع في بيان صفات الكمال في المسلم التي يستوجب بها نعيم الآخرة ضمن التعريض بزينة الحياة الدنيا الفانية فقال تعالى { فمآ أوتيتم } أيها الناس من مؤمن وكافر من شيء في هذه الحياة الدنيا من لذيذ الطعام والشراب وجميل اللباس، وفاخر المساكن وأجمل المناكح وأفره المراكب كل ذلك متاع الحياة الدنيا يزول ويفنى. أما ما عند الله أي ما أعده الله لأوليائه في الدار الآخرة فهو خير وأبقى ولكن لمن أعده؟ والجواب للذين آمنوا أي بالله وآياته ولقائه ورسوله وبكل ما جاء به والذين على ربهم لا على سواه يتوكلون ثقة في كفايته واعتمادا عليه، والذين يجتنبون أي يتركون كبائر الإثم كالشرك والقتل والظلم وشرب الخمر وأكل الحرام والفواحش كالزنى واللواط. والذين إذا غضبوا يتجاوزون عمن أغضبهم ويغفرون له زلته أو إساءته إليهم والذين استجابوا لربهم عندما ناداهم ودعاهم لكل ما طلبه منهم، والذين أقاموا الصلاة فأدوها على وجهها المطلوب لها من خشوع مراعين شرائطها وأركانها وواجباتها وسننها وآدابها، والذين أمرهم شورى بينهم أي أمرهم الذي يهمهم في حياتهم أفرادا وجماعات وأمما وشعوبا يجتمعون عليه ويتشاورون فيه ويأخذون بما يلهمهم ربهم بوجه الصواب فيه. والذين مما رزقهم الله من مال وعلم وجاه وصحة وبدن ينفقون شكرا لله على ما رزقهم واستزاده للثواب يوم الحساب.
والذين إذا أصابهم البغي أي إذا بغي عليهم البغاة الظلمة من الكافرين ينتصرون لأنفسهم إعذارا لها وإكراما لأنها أنفس الله وليها فالعزة واجبة لها. هذه عشر صفات متى اتصف بها العبد لا يضره شيء لو عاش الدهر كله فقيرا نقيا محروما من لذيذ الطعام والشراب ومن جميل اللباس، والسكن والمركب إذ ما عند الله تعالى. له خير وأبقى مع العلم أن أهل تلك الصفات سوف لا يحرمون من طيبات الحياة الدنيا هم أولى بها من غيرهم إلا أنها ليست شيئا يذكر إلى جانب ما عند الله يوم يلقونه ويعيشون في جواره.
وقوله تعالى: { وجزآء سيئة سيئة مثلها } هذا هو الحكم الشرعي جزاء المسيء العقوبة بما أوجب الله تعالى له في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى فمن عفا عمن أساء إليه، وأصلح ما بينه وبينه فعادت المودة وعاد الإخاء فأجره على الله وهو خير له وأبقى من شفاء صدره بعقوبة أخيه الذي أساء إليه. وقوله تعالى { إنه لا يحب الظالمين } تعليل لعظم الأجر لمن عفا أي كونه تعالى لا يحب الظالمين ضاعف الأجر وأجزل المثوبة للمظلوم إذا عفا وأصلح. وقوله: { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } أي وللذي ظلم فانتصر لنفسه ورد الظلم عنها فهؤلاء لا سبيل لكم إلى أذيتهم وعقوبتهم. هذا حكم الله وشرعه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- متاع الحياة الدنيا إذا قوبل بما أعد الله للمؤمنين المتقين لا يعد شيئا يذكر أبدا.
2- بيان أكمل الشخصيات الإسلامية وهي الشخصية التي تتصف بالصفات العشر التي تضمنتها الآيات الأربع ذات الرقم، [36- 37- 38- 39].
3- مشروعية القصاص وعقوبة الظالم.
4- عدم مؤاخذة من ظلم فأخذ بحقه بلا زيادة عنه ما لم يكن حدا فإن الحدود يقيمها الإمام.
5- فضيلة العفو على الإخوة المسلمين والإصلاح بينهم.
[42.42-46]
شرح الكلمات:
إنما السبيل: أي بالعقوبة والأذية.
على الذين يظلمون الناس: أي يعتدون عليهم في أعراضهم أو أبدانهم وأموالهم.
ويبغون في الأرض بغير الحق: أي ويطلبون في الأرض الفساد فيها بالشرك والظلم والإجرام.
ولمن صبر وغفر: أي ولمن صبر فلم ينتصر لنفسه وغفر وتجاوز عمن أساء إليه.
إن ذلك: أي إن ذلك الصبر والتجاوز عن المسيء.
لمن عزم الأمور: أي لمن معزومات الأمور المطلوبة شرعا.
ومن يضلل الله: أي حسب سنته في الإضلال.
فما له من ولي من بعده: أي فليس له من أحد يتولى هدايته ويقدر عليها.
هل إلى مرد من سبيل: أي هل إلى مرد إلى الحياة الدنيا من سبيل نسلكها لنعود إلى الدنيا.
وتراهم يعرضون عليها: أي على النار خاشعين خائفين متواضعين.
ينظرون من طرف خفي: أي من عين ضعيفة النظر كما ينظر المقتول إلى السيف لا يملأ عينه منه.
يوم القيامة: أي لخلودهم في النار، وعدم وصولهم إلى الحور العين في دار السلام.
إلا إن الظالمين: أي المشركين.
في عذاب مقيم: أي دائم لا يخرجون منه وهو عذاب الجحيم.
ومن يضلل الله فما له من سبيل: أي طريق إلى الهداية في الدنيا، وإلى الجنة يوم القيامة.
معنى الآيات:
لقد تقدم قوله تعالى في الآية قبل هذه: { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } فلما نفى عن المنتصرين السبيل إلى عقوبتهم أثبت هنا أن السبيل إلى العقوبة والمؤاخذة هو على الذين يظلمون الناس بالاعتداء عليهم في أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم ويبغون في الأرض بغير الحق أي ويطلبون الفساد فيها بالشرك والظلم والمعاصي، وليس في الشرك والظلم والمعاصي من حق يبيحها، وقوله { أولئك لهم عذاب أليم } أي للذين يبغون في الأرض بغير الحق لهم عذاب أليم أي موجع وهو عذاب الدنيا بعقوبتهم الصارمة ويوم القيامة إن لم يتوبوا من الظلم والفساد في الأرض.
وقوله تعالى: { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } يخبر تعالى مؤكدا الخير بلام الابتداء إن من صبر فلم ينتصر لنفسه من أخيه المسلم وغفر لأخيه زلته فتجاوز له عنها فإن ذلك المذكور من الصبر والتجاوز من معزومات الأمور المطلوبة شرعا.
وقوله تعالى: { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } أي ومن يضلله الله تعالى حسب سنته في الإضلال فليس له من أحد من بعد الله يهديه. وقوله تعالى: { وترى الظالمين } أي المشركين لما رأوا العذاب أي عذاب النار يقولون: متمنيين الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويوحدوا حتى ينجوا من عذاب النار ويدخلوا الجنة مع الأبرار: هل إلى مرد من سبيل؟ أي هل إلى مرد إلى الدنيا من طريق؟ قال تعالى { وتراهم يعرضون عليها } أي على النار خاشعين خاضعين متواضعين من الذل ينظرون من طرف خفي يسترقون النظر لا يملأون أعينهم من النظر إلى النار لشدة خوفهم منها.
وهنا يقول الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك لخلودهم في النار وحرمانهم من الوصول إلى الحور العين في الجنة دار الأبرار، ويعلن معلن فيقول: ألا إن الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي في عذاب مقيم لا يبرح ولا يزول وقوله تعالى { وما كان لهم من أوليآء ينصرونهم من دون الله } يخبر تعالى بأنه لم يكن لأولئك الظالمين من أهل النار من أولياء من دون الله ينصرونهم بتخليصهم من العذاب. وقوله { ومن يضلل الله فما له من سبيل } أي فما له طريق إلى هدايته في الدنيا وإلى الجنة يوم القيامة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا سبيل إلى معاقبة من انتصر لنفسه بعد ظلمه.
2- وجوب معاقبة الظالم والضرب على يديه.
3- فضيلة الصبر والتجاوز عن المسلم إذا أساء بقول أو عمل.
4- لا أعظم خسرانا ممن يخلد في النار ويحرم الجنة وما فيها من نعيم مقيم.
[42.47-50]
شرح الكلمات:
استجيبوا لربكم: أي أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والعبادة.
من قبل أن يأتي يوم: أي يوم القيامة.
لا مرد له من الله: أي إذا أتى لا يرد بحال.
ما لكم من ملجأ يومئذ: أي تلجأون إليه وتتحصنون فيه.
وما لكم من نكير: أي وليس لكم ما تنكرون به ذنوبكم لأنها في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فإن أعرضوا: أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة.
إن عليك إلا البلاغ: وقد بلغت فلا مسئولية تخشاها بعد البلاغ.
وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة: أي نعمة كالغنى والصحة والعافية.
وإن تصبهم سيئة: أي بلاء كالمرض والفقر وغير ذلك.
بما قدمت أيديهم: أي من الذنوب والخطايا.
فإن الإنسان كفور: أي للنعمة والنعم والإنسان هو غير المؤمن التقي.
لله ملك السماوات والأرض: أي خلقا وملكا وتصرفا.
يهب لمن يشاء إناثا: أي يرزق من يشاء من الناس بنات.
ويهب لمن يشاء الذكور: أي ويعطي من يشاء الأولاد الذكور.
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا: أي يجعلهم ذكورا وإناثا.
ويجعل من يشاء عقيما: أي لا يلد ولا يولد له.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض الهائل لأهوال وأحوال الظالمين في عرصات القيامة طلب الرب تعالى من عباده أن يجيبوه لما طلبه منهم إنقاذا لأنفسهم من النار فقال: { استجيبوا لربكم } بمعنى أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والطاعات قبل فوات الفرصة وذلك قبل الموت وقبل يوم القيامة اليوم الذي إذا جاء لا مرد له من الله، إذ لا يقدر على رده إلا الله والله أخبر أنه لا يرده فمن يرده إذا؟ فبادروا بالتوبة إلى ربكم قبل مجيئه حيث لا يكون لكم يومئذ ملجأ تلجأون إليه هاربين من العذاب ولا يكون لكم نكير يمكنكم أن تنكروا به ذنوبكم إذ قد جمعت لكم في كتاب واحد لم يترك صغيرة من الذنوب ولا كبيرة إلا أحصاها عدا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى [47] وهي قوله تعالى: { استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير }. وقوله تعالى في الآية الثانية [48] { فإن أعرضوا } أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والطاعة فما أرسلناك عليهم حفيظا رقيبا تحصي أعمالهم وتحفظها لهم وتجازيهم بها. إن عليك إلا البلاغ أي ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت وبرئت ذمتك فلا يهمك أمرهم ولا تحزن على اعراضهم. وقوله تعالى: { وإنآ إذآ أذقنا الإنسان منا رحمة } أي نعمة كسعة رزق وصحة بدن وكثرة مال وولد فرح بها فرح البطر والأشر، وهذا الإنسان هو الكافر أو الجاهل الضعيف الإيمان.
وإن تصبهم سيئة أي ضيق عيش ومرض وفقر بما قدمت أيديهم من الذنوب فإن الإنسان كفور سرعان ما ينسى النعمة والمنعم ويقع في اليأس والقنوط هذا الإنسان قبل أن يؤمن ويسلم ويحس فإذا آمن وأسلم وأحسن تغير طبعه وطهر نبعه وأصبح يشكر عند النعمة ويصبر عند النقمة. وقوله تعالى: { لله ملك السموت والأرض يخلق ما يشآء } إنه بحكم سلطانه على الأرض والسماء فانه يتصرف كيف يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم له ذكورا وإناثا، ويجعل من يشاء من الناس عقيما لا يلد ولا يولد له، وهذا ناتج عن علم أحاط بكل شيء، وقدرة أخضعت لها كل شيء وهذا معنى قوله { إنه عليم قدير } فالواجب أن يسلم العبد لربه فيما وهبه وأعطاه إذ الله يعطى لحكمة ويمنع لحكمة، ومن السفه الاعتراض على حكم الله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الاستجابة لله تعالى في كل ما دعا العبد إليه، وذلك قبل أن يطلب الاستجابة ولا يمكن منها.
2- على الدعاة إلى الله تعالى إبلاغ مطلوب الله تعالى من عباده، ولا يضرهم بعد ذلك شيء.
3- بيان طبع الإنسان وحاله قبل أن يهذب بالإيمان واليقين والطاعات.
4- لله مطلق التصرف في الملكوت كله فلا يصح الاعتراض عليه في شيء فهو يهب ويمنع لحكم عالية لا تدركها عقول العباد.
5- وجود عقم في الرجال وعقم في النساء، ولا بأس بالعلاج الجائز المشروع عند الشعور بالعقم أو العقر. اما ما ظهر الآن من بنوك المني، والإنجاب بطريق صب ماء فحل في فرج امرأة عاقر وما إلى ذلك فهذه من أعمال الملاحدة الذين لا يدينون لله بالطاعة له والتسليم لقضائه، وإن صاموا وصلوا وادعوا أنهم مؤمنون إذ لا حياء لهم ولا إيمان لمن لا حياء له، وحسبهم قبحا في سلوكهم هذا الكشف عن السوءات بدون انقاذ حياة ولا طلب رضا الله رب الأرض والسماوات.
[42.51-53]
شرح الكلمات:
إلا وحيا أو من وراء حجاب: أي إعلاما خفيا سريعا في يقظة أو منام، أو يكلمه من وراء حجاب فيسمع الكلام ولا يرى الذات.
أو يرسلوا رسولا: أي أو يرسل ملكا في صورة إنسان فيكلمه مبلغا عن الله تعالى.
إنه علي حكيم: أي الله تعالى ذو علو على سائر خلقه حكيم في تدبير خلقه.
وكذلك أوحينا إليك: أي كما كنا نوحي إلى سائر رسلنا أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن.
روحا من أمرنا: أي وحيا ورحمة من أمرنا الذي نوحيه إليك.
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان: أي لم تكن قبل تدري أي شيء هو الكتاب، ولا الإيمان الذي هو قول وعمل واعتقاد.
ولكن جعلناه نورا نهدي به: أي جعلنا القرآن نورا نهدي به من نشاء من عبادنا إلى صراطنا.
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم: أي الإسلام.
ألا إلى الله تصير الأمور: أي ترجع أمور جميع العباد في يوم القيامة إلى الله تعالى.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } يخبر تعالى أنه ليس من شأن البشر كائنا من كان أن يكلمه الله تعالى إلا وحيا بأن يعلمه بطريق سريع خفي إلهاما أو مناما فيفهم عن الله تعالى ما ألقاه في روعه جازما أنه كلام الله ألقاه إليه، هذه طريقة وثانية أن يكلمه الله تعالى فيسمعه كلامه بدون أن يرى ذاته كما كلم موسى عليه السلام غير مرة. وثالثة أن يرسل إليه رسولا كجبريل عليه السلام فيبلغه كلام ربه تعالى هذا معنى قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشآء إنه علي } أي ذو علو على خلقه { حكيم } في تدبيره لخلقه.
وقوله: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا أي كما كنا نوحي إلى سائر رسلنا أوحينا إليك يا محمد روحا وهو القرآن وسمى روحا لأن القلوب تحيا به كما تحيا الأجسام بالأرواح، وقوله { من أمرنا } أي الذي نوحيه إليك الشامل للأمر والنهي والوعد والوعيد وقوله تعالى: { ما كنت تدري ما الكتاب } أي القرآن { ولا الإيمان } الذي هو عقيدة وقول وعمل. وقوله: { ولكن جعلناه نورا } أي جعلنا القرآن نورا نهدي به من نشاء من عبادنا إلى الإيمان بنا وتوحيدنا وطلب مرضاتنا بفعل محابنا وترك مساخطنا.
وقوله: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } أي وأنك يا رسولنا لتهدي إلى صراط مستقيم الذي هو الدين الإسلامي وقوله { صراط الله الذي له ما في السموت وما في الأرض } أي خلقا وملكا وعبيدا { ألا إلى الله تصير الأمور } أي وإليه تعالى مصير كل شيء، ومرد كل شيء إذ هو المالك الحق والمدبر لأمر المخلوقات كلها، ولذا وجب تفويض الأمر إليه والرضا بحكمه وقضائه ثقة فيه وفي كفايته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان طرق الوحي وهي ثلاثة الأولى الإلقاء في الروع يقظة أو مناما والثانية أن يكلم الله النبي بدون أن يرى ذاته عز وجل كما كلم موسى في الطور وكلم محمدا صلى الله عليه وسلم في الملكوت الأعلى والثالث أن يرسل إليه الملك إما في صورته الملائكية أو في صورة رجل من بني آدم فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه من أمره.
2- القرآن الكريم روح تحيا به القلوب الميتة كما تحيا الأجسام بالأرواح.
3- القرآن نور يستضاء به في الحياة فتعرف به طرق السعادة وسبل النجاة.
[43 - سورة الزخرف]
[43.1-8]
شرح الكلمات:
حم: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب حم ويقرأ: حاميم.
والكتاب المبين: أي والقرآن الموضح لطريق الهدى وسبيل السلام.
إنا جعلناه قرآنا عربيا: أي جعلناه قرآنا بلسان العرب يقرأ بلسانهم ويفهم به.
لعلكم تعقلون: أي رجاء أن تعقلوا أيها العرب، ما تؤمرون به وما تنهون عنه.
وإنه في أم الكتاب لدينا: أي في اللوح المحفوظ كتاب المقادير كلها عندنا.
لعلي حكيم: أي لذو علو وشأن على الكتب قبله لا يوصل إلى مستواه في علوه ورفعته حكيم أي ذو حكمة بالغة عالية لا يرام مثلها.
أفنضرب عنكم الذكر صفحا: أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا أي لا ننزل القرآن بأمركم ونهيكم ووعدكم ووعيدكم.
أن كنتم قوما مسرفين: لأن كنتم قوما مسرفين متجاوزين الحد في الشرك والكفر كلا لا نفعل.
وكم أرسلنا من نبي في الأولين: أي وكثيرا من الأنبياء أرسلناهم في القرون الأولى من الأمم الماضية.
فأهلكنا أشد منهم بطشا: أي فأنزلنا عذابنا بأشدهم قوة وبطشا من قومك فأهلكناهم.
ومضى مثل الأولين: أي ومضى في الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين.
معنى الآيات:
{ حم } الله أعلم بمراده به، { والكتاب المبين } أي والقرآن الموضح لكل ما ينجى من عذاب الله ويكسب جنته ورضاه وهذا قسم أقسم الله به، والمقسم عليه قوله: { إنا جعلناه قرآنا عربيا } أي جعلنا الكتاب المبين الذي هو القرآن عربيا أي بلسان العرب ولغتهم.
وقوله { لعلكم تعقلون } بيان للحكمة في جعل القرآن عربيا أي كي تعقلوا معاينة وتفهموا مراد الله منزله منه فيما يدعوكم إليه فيسهل عليكم العمل به فتكملوا وتسعدوا وقوله { وإنه } أي القرآن { في أم الكتاب } أي اللوح المحفوظ لدينا عندنا { لعلي } أي ذو علو وشأن على سائر الكتب قبله حكيم ذو حكمة بالغة عالية لا يرام مثلها.
وقوله تعالى: { أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين } أي أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا فلا ننزل القرآن حتى لا تؤمروا ولا تنهوا من أجل أنكم قوم مسرفون في الشرك والكفر والتكذيب كلا لا نفعل إذا الاستفهام للانكار عليهم وقوله { وكم أرسلنا من نبي في الأولين } أي وكثيرا من الأنبياء أرسلنا في الأمم السابقة وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون أي ما أتى أمة من تلك الأمم رسول منا إلا سخروا منه واستهزأوا به، وبما جاءهم به من الإيمان والتوحيد ودعاهم إليه من فعل الصالحات وترك المحرمات إذا فاصبر على قومك فإنهم سالكون سبيل من سبقهم في الكفر والتكذيب والسخرية والاستهزاء. وقوله تعالى: { فأهلكنآ أشد منهم بطشا } أي أهلكنا من هم أشد بطشا في تلك الأمم الماضية لما كذبوا رسلنا واستهزأوا بهم فكيف بهؤلاء الذين هم أضعف منهم وأقل قوة وقدرة فأحرى بهم أن لا يمتنعوا من عذابنا متى أردنا إنزاله بهم.
وقوله { ومضى مثل الأولين } أي مضى في الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين كقوم عاد وثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات ألم يكن لقومك في ذلك عبرة لو كانوا يعتبرون؟.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الإقسام بالله تعالى.
2- بيان شرف القرآن الكريم وعلو مكانته على سائر الكتب السابقة.
3- كون الناس مسرفين في الشرك والفساد لا يمنع وعظهم ونصحهم وإرشادهم.
4- بيان سنة بشرية وهي أنهم ما يأتيهم من رسول إلا استهزأوا به.
5- في إهلاك الأقوى دليل على أن إهلاك من هو دونه أحرى وأولى لا سيما مع شدة كفره.
[43.9-14]
شرح الكلمات:
ولئن سألتهم: أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من قومك يا رسولنا.
من خلق السماوات والأرض: أي من بدأ خلقهن وأوجدهن ليقولن خلقهن الله ذو العزة والعلم.
الذي جعل لكم الأرض مهادا: أي الله الذي جعل لكم الأرض فراشا كالمهد للصبي.
وجعل لكم فيها سبلا: أي طرقا.
لعلكم تهتدون: أي إلى مقاصدكم في أسفاركم.
ماء بقدر: أي على قدر الحاجة ولم يجعله طوفانا مغرقا ومهلكا.
فأنشرنا به بلدة ميتا: أي فأحيينا به بلدة ميتا أي لا نبات فيها ولا زرع.
كذلك تخرجون: أي مثل هذا الإحياء للأرض الميتة بالماء تحيون أنتم وتخرجون من قبوركم.
والذي خلق الأزواج كلها: أي خلق كل شيء إذا الأشياء كلها زوج ولم يعرف فرد إلا الله.
وجعل لكم من الفلك والأنعام: أي السفن، والإبل.
لتستووا على ظهوره: أي تستقروا على ظهور ما تركبون.
وما كنا له مقرنين: أي مطيقين ولا ضابطين.
وإنا إلى ربنا لمنقلبون: أي لصائرون إليه راجعون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد بقوله تعالى: { ولئن سألتهم } أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين من قومك قائلا من خلق السماوات والأرض أي من أنشأهن وأوجدهن بعد عدم لبادروك بالجواب قائلين الله ثم هم مع اعترافهم بربوبيته تعالى لكل شيء يشركون في عبادته أصناما وأوثانا. في آيات أخرى صرحوا باسم الجلالة الله وفي هذه الآية قالوا: العزيز العليم أي الله ذو العزة التي لا ترام والعلم الذي لا يحاط به. وقوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض مهدا } أي فراشا وبساطا كمهد الطفل وهذا من كلام الله تعالى لا من كلام المشركين إذ انتهى كلامهم عند العزيز العليم فلما وصفوه تعالى بصفتي العزة والعلم ناسب ذلك ذكر صفات جليلة أخرى تعريفا لهم بالله سبحانه وتعالى فقال تعالى: { الذي جعل لكم الأرض مهدا } أي بساطا وفراشا، وجعل لكم فيها سبلا أي طرقا لعلكم تهتدون إلى مقاصدكم لنيل حاجاتكم في البلاد هنا وهناك، والذي نزل من السماء ماء بقدر وهو المطر بقدر أي بكميات موزونة على قدر الحاجة منها فلم تكن ضحلة قليلة لا تنفع ولا طوفانا مغرقا مهلكا، وقوله { فأنشرنا } أي أحيينا بذلك المطر بلدة ميتا أي أرضا يابسة لا نبات فيها ولا زرع. وقوله { كذلك تخرجون } أي مثل ذلك الأحياء للأرض الميتة يحييكم تعالى ويخرجكم من قبوركم أحياء.
وقوله { والذي خلق الأزواج كلها } هذا وصف آخر له تعالى بأنه خلق الأزواج كلها من الذكر والأنثى، والخير والشر والصحة والمرض، والعدل والجور، إذ لا فرد إلا هو سبحانه وتعالى وفي الحديث الصحيح الله وتر يحب الوتر قل هو الله أحد وقوله { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } هذا وصف آخر بصفاته الفعلية الدالة على وجوده وقدرته وعلمه والموجبة لألوهيته إذ جعل للناس من الفلك أي السفن ما يركبون ومن الأنعام كالإبل ومن البهائم كالخيل والبغال والحمير كذلك وقوله { لتستووا على ظهوره } أي تستقروا على ظهوره أي ظهور ما تركبون، ثم تذكروا نعمة ربكم بقلوبكم إذا استويتم عليه وتقولوا بألسنتكم سبحان الذي سخر لنا هذا أي الله لنا واقدرنا على التحكم فيه، وما كنا له أي لذلك الحيوان المركوب بمقرنين أي بمطيقين ولا ضابطين لعجزنا وقوته، { وإنآ إلى ربنا لمنقلبون } أي لصائرون إليه بعد موتنا راجعون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد يذكر صفات الربوبية المقتضية للألوهية.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3- معجزة القرآن في الأخبار بالزوجية وقد قرر العلم الحديث نظام الزوجية وحتى في الذرة فهي زوج موجب وسالب.
4- مشروعية التسمية والذكر عند ركوب ما يركب فإن كان سفينة أو سيارة قال العبد بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم، وإن كان حيوانا قال عند الشروع باسم الله وإذا استوى قاعدا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
[43.15-23]
شرح الكلمات:
وجعلوا له من عباده جزءا: أي وجعل أولئك المشركون المقرون بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض من عباده جزءا إذ قالوا الملائكة بنات الله.
إن الإنسان لكفور مبين: أي إن الإنسان المعترف بأن الله خلق السماوات وجعل من عباده جزءا هذا الإنسان لكفور مبين أي لكثير الكفر بينه.
وأصفاكم بالبنين: أي خصكم بالبنين وأخلصهم لكم.
بما ضرب للرحمن مثلا: أي بما جعل للرحمن شبها وهو الولد.
ظل وجهه مسودا وهو كظيم: أي أقام طوال نهاره مسود الوجه من الحزن وهو ممتلئ غيظا.
أو من ينشأ في الحلية: أي أيجترئون على الله ويجعلون له جزءا هو البنت التي تربي في الزينة.
وهو في الخصام غير مبين: أي غير مظهر للحجة لضعفه بالأنوثة.
عباد الرحمن إناثا: أي لأنهم قالوا بنات الله.
أشهدوا خلقهم: أي أحضروا خلقهم عندما كان الرحمن يخلقهم.
ستكتب شهادتهم: أي سيكتب قولهم إن الملائكة إناثا.
ويسألون: أي يوم القيامة عن شهاداتهم الباطلة ويعاقبون عليها.
مالهم بذلك من علم: أي دعواهم أن الله راض عنهم بعبادة الملائكة لا دليل لهم عليه ولا علم.
إن هم إلا يخرصون: أي ما هم إلا يكذبون يتوارثون الجهل عن بعضهم بعضا.
أم آتيناهم كتابا من قبله: أي أم أنزلنا عليهم كتابا قبل القرآن.
فهم به مستمسكون: أي متمسكون بما جاء فيه، والجواب لم يقع ذلك أبدا.
بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة: أي إنهم لا حجة لهم إلا التقليد الأعمى لآبائهم.
وإنا على آثارهم مهتدون: أي على طريقتهم وملتهم ماشون وهي عبادة غير الله من الملائكة وغيرهم من الأصنام والأوثان.
إلا قال مترفوها: أي متنعموها.
إنا وجدنا آباءنا على أمة: أي ملة ودين.
وإنا على آثارهم مقتدون: أي على طريقهم متبعون لهم فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد، والمكذبين إلى التصديق فقال تعالى منكرا عليهم باطلهم موبخا لهم على اعتقاده والقول به، فقال { وجعلوا له من عباده جزءا } أي وجعل أولئك المشركون الجاهلون لله جزءا أي نصيبا من خلقه حيث قالوا الملائكة بنات الله، وهذا من أكذب الكذب وأكفر الكفر إذ كيف عرفوا أن الملائكة إناث، وأنهم بنات الله، وأنهم يستحقون العبادة مع الله فعبدوهم؟ حقا إن الإنسان لكفور مبين أي كثير الكفر وبينه لا يحتاج فيه إلى دليل وقوله تعالى: { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } أي أتقولون أيها المشركون المفترون اتخذ الله مما يخلق من المخلوقات بنات، وخصكم بالبنين، بمعنى أنه فضلكم على نفسه بالذكور الذين تحبون ورضي لنفسه بالإناث اللاتي تبغضون. عجبا منكم هذا الفهم السقيم.
وقوله تعالى وإذا بشر أحدكم بما ضرب للرحمن مثلا أي بما جعل لله شبها وهو الولد ظل وجهه مسودا وهو كظيم، أي إن هؤلاء الذين يجعلون لله البنات كذبا وافتراء، إذا ولد لأحدهم بنت فبشر بها أي أخبر بأن امرأته جاءت ببنت ظل وجهه طوال النهار مسودا من الكآبة والغم وهو كظيم أي ممتلئ غما وحزنا.
وقوله تعالى: { أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } ينكر تعالى عليهم ويوبخهم على كذبهم وسوء فهمهم فيقول: أيجترئون ويبلغون الغاية في سوء الأدب ويجعلون لله من يربى في الزينة لنقصانه وهو البنات، وهو في الخصام غير مبين لخفة عقله حتى قيل ما أدلت امرأة بحجة إلا كانت عليها لا لها. فقوله { غير مبين } أي غير مظهر للحجة لضعفه بالخلقة وهي الأنثى والضمير عائد على من في قوله { أومن ينشأ في الحلية } أي الزينة.
وقوله تعالى { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } أي حيث قالوا الملائكة بنات الله وعبدوهم لذلك طلبا لشفاعتهم والانتفاع بعبادتهم. قال تعالى: موبخا لهم مقيما الحجة على كذبهم أشهدوا خلقهم أي أحضروا خلقهم عندما كان الله يخلقهم، والجواب لا، ومن أين لهم ذلك وهم ما زالوا لم يخلقوا بعد ولا آباؤهم بل ولا آدم أصلهم عليه السلام وقوله تعالى { ستكتب شهادتهم } هذه وهي قولهم إن الملائكة بنات الله ويسألون عنها ويحاسبون ويعاقبون عليها بأشد أنواع العقاب، لأنها الكذب والافتراء، وعلى؟ إنه على الله، والعياذ بالله وقوله تعالى: { وقالوا لو شآء الرحمن ما عبدناهم }. أي قال أولئك المشركون المفترون لمن أنكر عليهم عبادة الملائكة وغيرها من الأصنام قالوا: لو شاء الرحمن منا عدم عبادتهم ما عبدناهم. قال تعالى في الرد عليهم { ما لهم بذلك من علم } أي ليس لهم أي علم برضا الله تعالى بعبادتهم لهم، ما هم في قولهم ذلك إلا يخرصون أي يقولون بالخرص والكذب إذ العلم يأتي من طريق الكتاب أو النبي ولا كتاب عندهم ولا نبي فيهم قال بقولتهم، ولذا قال تعالى منكرا عليهم قولتهم الفاجرة { أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون }؟ لا لا، ما آتاهم الله من كتاب ولا جاءهم قبل محمد من نذير إذا فلا حجة لهم إلا التقليد الأعمى للآباء والأجداد الجهال الضلال وهو ما حكاه تعالى عنهم في قوله: { بل قالوا إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة } أي ملة { وإنا على ءاثارهم مهتدون } أي ماشون مقتفون آثارهم وقوله تعالى: { وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير } أي رسول إلا قال مترفوها اي متنعموها بنضارة العيش وغضارته { إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة } أي ملة ودين { وإنا على ءاثارهم مقتدون } أي متبعون لهم فيها. فهذه سنة الأمم قبل أمتك يا رسولنا فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق بما يقولون ويعتقدون ويفعلون أيضا.
وهو معنى قوله تعالى { وكذلك مآ أرسلنا من قبلك } إلى آخر الآية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير صفة من صفات الإنسان قبل شفائه بالإيمان والعبادة وهي الكفر الواضح المبين.
2- وجوب إنكار المنكر ومحاولة تغييره في حدود ما يسمح به الشرع وتتسع له طاقة الإنسان.
3- بيان حال المشركين العرب في الجاهلية من كراهيتهم البنات خوف العار وذلك لشدة غيرتهم.
4- بيان ضعف المرأة ونقصانها ولذا تكمل بالزينة، وإن النقص فيها فطري في البدن والعقل معا.
5- بيان أن من قال قولا وشهد شهادة باطلة سوف يسأل عنها يوم القيامة ويعاقب عليها.
6- حرمة القول على الله بدون علم فلا يحل أن ينسب إلى الله تعالى شيء لم ينسبه هو تعالى لنفسه.
7- حرمة التقليد للآباء وأهل البلاد والمشايخ فلا يقبل قول إلا بدليل من الشرع.
[43.24-32]
شرح الكلمات:
قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم: قال لهم رسولهم: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بأهدى أي بخير مما وجدتم عليه آباءكم هداية إلى الحق والسعادة والكمال.
قالوا إنا بما ارسلتم به كافرون: أي قال المشركون لرسلهم ردا عليهم إنا بما أرسلتم به كافرون أي جاحدون منكرون غير معترفين به.
فانظر كيف كان عاقبة المكذبين: أي كانت دمارا وهلاكا إذا فلا تكترث بتكذيب قومك يا رسولنا.
وإذ قال إبراهيم: أي وأذكر إذ قال إبراهيم أبو الأنبياء خليل الرحمن.
إنني براء مما تعبدون: أي برئ مما تعبدون من أصنام لا أعبدها ولا أعترف بها.
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين: أي لكن الذي خلقني فإني أعبده وأعترف به فإنه سيهدني أي يرشدني إلى ما يكملني ويسعدني في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وجعلها كلمة باقية في عقبه: أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد: " لا إله إلا الله " باقية دائمة في ذريته إذ وصاهم بها كما قال تعالى ووصى بها إبراهيم بنيه.
لعلهم يرجعون: أي رجاء أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إلى توحيده كلما ذكروها وهي لا إله إلا الله.
بل متعت هؤلاء وآباءكم: أي هؤلاء المشركين وآباءهم بالحياة فلم أعاجلهم بالعقوبة.
حتى جاءهم الحق ورسول مبين: أي إلى أن جاء القرآن يحمل الدين الحق، ورسول مبين لا شك في رسالته وهو محمد صلى الله عليه وسلم يبين لهم طريق الهدى والأحكام الشرعية.
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم: أي وقال هؤلاء المشركون الذين متعناهم بالحياة فلم نعاقبهم، هلا نزل هذا القرآن على أحد رجلين من قريتي مكة أو الطائف أي الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي في الطائف.
أهم يقسمون رحمة ربك؟: أي ينكر تعالى عليهم هذا التحكم والاقتراح الفاسد فقال أهم يقسمون رحمة ربك إذ النبوة رحمة من أعظم الرحمات. وليس لهم حق في تنبئة أي أحد إذ هذا من حق الله وحده.
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا: أي إذا كنا نحن نقسم بينهم معيشتهم فنغني هذا ونفقر هذا ونملك هذا ونعزل هذا، فكيف بالنبوة وهي أجل وأغلى من الطعام والشراب فنحن أحق بها منهم فننبئ من نشاء.
ليتخذ بعضهم بعضا سخريا: أي جعلنا هذا غنيا وذاك فقيرا ليتخذ الغنى الفقير خادما يسخره في خدمته بأجرة مقابل عمله.
ورحمة ربك خير مما يجمعون: أي والجنة التي أعدها الله لك ولأتباعك خير من المال الذي يجمع هؤلاء المشركون الكافرون.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى قول المشركين لرسلهم: { إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة } " ملة " { وإنا على ءاثارهم مقتدون } ، قال مخبرا عن قول الرسول لأمته المكذبة المقلدة للآباء الظالمين { قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبآءكم } أي اتتبعون آباءكم ولا تتبعوني ولا جئتكم بأهدى إلى الخير والسعادة مما وجدتم عليه آباءكم، وهذا إنكار من الرسول عليهم في صورة استفهام وهو توبيخ أيضا إذ العاقل يتبع الهدى جاء به من جاء قريبا كان أو بعيدا.
وقوله تعالى { قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون } هذا قول الأمم المكذبة المشركة لرسلهم أي كل أمة قالت هذا لرسولها: إنما بما أرسلتم به من التوحيد وعقيدة البعث والجزاء والشرع وأحكامه كافرون أي منكرون مكذبون غير مصدقين، قال تعالى: { فانتقمنا منهم } أي لتكذيبهم فأهلكناهم فانظر يا رسولنا كيف كان عاقبتهم وهم المكذبون إنها دمار شامل وهلاك تام. وليذكر هذا قومك لعلهم يذكرون.
وقوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برآء مما تعبدون } أي واذكر يا رسولنا لقومك قول إبراهيم الذي ينتسبون إليه باطلا لأبيه وقومه: إنني براء مما تعبدون أي إني بريء من آلهتكم التي تعبدونها فلا أعبدها ولا أعترف بعبادتها. وقوله { إلا الذي فطرني } أي لكن اعبد الله الذي خلقني فهو أحق بعبادتي مما لم يخلقني ولم يخلق شيئا وهو مخلوق أيضا. وقوله فإنه سيهدين أي يرشدني دائما إلى ما فيه سعادتي وكمالي. وقوله تعالى: { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } أي وجعل براءته من الشرك والمشركين، وعبادته خاصة بالله رب العالمين جعلها كلمة باقية في ذريته حيث وصاهم بها كما جاء ذلك في سورة البقرة إذ قال تعالى:
ووصى بهآ إبراهيم بنيه
[الآية: 132] أي بأن لا يعبدوا إلا الله وهي إذا كلمة لا إله إلا الله ورثها إبراهيم في بنيه لعلهم يرجعون إليها كلما غفلوا ونسوا وتركوا عبادة الله تعالى والإنابة إليه بعوامل الشر والفساد من شياطين الإنس والجن فيذكرون ويتوبون إلى الله تعالى فيوحدونه ويعبدونه فجزى الله إبراهيم عن المؤمنين خيرا. وقوله تعالى: { بل متعت هؤلاء وآبآءهم حتى جآءهم الحق ورسول مبين } أي بل لم يتحقق ما ترجاه إبراهيم كاملا إذا أشرك من بنيه من أشرك ومنهم هؤلاء المشركون المعاصرون لك أيها الرسول وآباءهم، ومتعهم بالحياة حتى جاءهم الحق الذي هو هذا القرآن يتلوه هذا الرسول المبين أي الموضح لكل الأحكام والمبين لكل الشرائع. ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون هكذا قالت قريش لما جاءها الحق الذي هو القرآن الحامل للشرائع والأحكام والرسول المبين لذلك والموضح له قالوا هذا سحر يسحرنا به، وإنا به أي بالقرآن والرسول كافرون أي جاحدون منكرون مكذبون وقالوا أبعد من ذلك في الشطط والغلط وهو ما حكاه تعالى عنهم في قوله: { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } أي هلا نزل هذا القرآن على رجل شريف ذي مكانه مثل الوليد بن المغيرة في مكة أو عروة بن مسعود في الطائف وهذه نظرة مادية بحتة إذ رأوا أن الشرف بالمال، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم لا مال له ولا ثراء رأوا أنه ليس أهلا للرسالة ولا للمتابعة عليها، فرد تعالى عليهم نظريتهم المادية الهابطة هذه بقوله: { أهم يقسمون رحمت ربك }؟ أما يخجلون عندما قالوا أهم يقسمون رحمة ربك فيعطون منها من شاءوا ويمنعون من شاءوا أم نحن القاسمون؟ إنا قسمنا بينهم معيشتهم: طعامهم وشرابهم وكساهم وسكنهم ومركوبهم في الحياة الدنيا فالعاجز حتى عن إطعام نفسه وسقيها وكسوتها كيف لا يستحي أن يعترض على الله في اختياره من هو أهل لنبوته ورسالته؟ وقوله تعالى: { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } أي في الرزق فهذا غني وذاك فقير من أجل أن يخدم الفقير الغني وهو معنى قوله تعالى: { ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } ، إذ لو كانوا كلهم أغنياء لما خدم أحد أحدا وتعطلت الحياة وقوله تعالى: { ورحمت ربك } أي الجنة دار السلام خير مما يجمعون من المال الذي فضلوا أهله وإن كانوا من أحط الناس قدرا وأدناهم شرفا.
ورأوا أنهم أولى بالنبوة منك لمرض نفوسهم بحب المال والشهوات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- من الكمال العقلي أن يتبع المرء الهدى ولو خالفه قومه وأهل بلاده.
2- وجوب البراءة من الشرك والمشركين وهذا معنى لا إله إلا الله.
3- فضيلة من يورث أولاده هدى وصلاحا.
4- لا يعترض على الله أحد في شرعه وتدبيره إلا كفر والعياذ بالله تعالى.
5- بيان الحكمة في الغنى والفقر، والصحة والمرض والذكاء والغباء.
[43.33-35]
شرح الكلمات:
أمة واحدة: أي على الكفر.
ومعارج: أي كالسلم والمصعد الحديث والمعارج جمع معرج وهو المصعد.
عليها يظهرون: أي يعلون عليها إلى السطوح.
وزخرفا: أي ذهبا أي لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة وذهب وكذلك الأبواب والمصاعد والسرر بعضها من فضة وبعضها من ذهب.
وإن كل ذلك: أي وما كل ذلك المذكور.
لما متاع الحياة الدنيا: أي وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا يتمتع به فيها ثم يزول.
والآخرة: أي الجنة ونعيمها خير لأهل الإيمان والتقوى من متاع الدنيا.
معنى الآيات:
لما فضل تعالى الجنة على المال والمتاع الدنيوي في الآيات السابقة قال هنا: { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } أي على الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن (يعني نفسه عز وجل) لبيوتهم سقفا من فضة، ومعارج عليها يظهرون أي مراقى ومصاعد عليها يعلون إلى الغرف والسطوح من فضة ولجعلنا كذلك لبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون من فضة أيضا، وزخرفا أي وذهبا أي بعض المذكور من فضة وبعضه من ذهب ليكون أجمل وأبهى من الفضة وحدها، وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا أي وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا يتمتع به الناس ثم يزول ويذهب بزوالهم وذهابهم. والآخرة عند ربك أي الجنة وما فيها من نعيم مقيم للمتقين الذين آمنوا واتقوا الشرك والمعاصي وما عند الله خير مما عند الناس، وما يبقى خير مما يفنى، ولذا قال الحكماء لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف " طين " لاختار العاقل الآخرة على الدنيا، وهو اختيار ما يبقى على ما يفنى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الميل إلى الدنيا وطلب متاعها فطري في الإنسان فلذا لو أعطيها الكافر بكفره لمال إليها كل الناس وطلبوها بالكفر.
2- هوان الدنيا على الله وعدم الاكتراث بها إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء "
رواه الترمذي وصححه وفي صحيح مسلم:
" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ".
3- بيان أن الآخرة خير للمتقين.
[43.36-40]
شرح الكلمات:
ومن يعش عن ذكر الرحمن: أي يعرض متعاميا متغافلا عن ذكر الرحمن الذي هو القرآن متجاهلا له.
نقيض له شيطانا: أي نجعل له شيطانا يلازمه لإضلاله وإغوائه.
فهو له قرين: أي فهو أي من عشا عن ذكر الرحمن قرين للشيطان.
وإنهم ليصدونهم عن السبيل: أي وإن الشياطين المقارنين لهم ليصدونهم عن طريق الهدى.
ويحسبون أنهم مهتدون: أي ويحسب العاشون عن القرآن وحججه وعن ذكر الرحمن وطاعته أنهم مهتدون أي أنهم على الحق والصواب وذلك بتزيين القرين لهم.
بعد المشرقين: أي كما بين المشرق والمغرب من البعد قال هذا تبرؤا منه.
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم: أي ولن ينفعكم اليوم أيها العاشون إذ ظلمتم أنفسكم بالشرك والمعاصي.
إنكم في العذاب مشتركون: اشتراككم في العذاب غير نافع لكم.
أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي: أي إنك يا رسولنا لا تسمع الصم، ولا تهدي العمي والقوم قد أصمهم الله وأعمى أبصارهم لأنهم عشوا عن ذكره.
ومن كان في ضلال مبين: أي كما أنك لا تقدر على هداية من كان في ضلال مبين عن الحق والهدى.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض الهداية على الضالين بالكشف عن أحوالهم واضاءة الطريق لهم قال تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن } أي يعرض متعاميا متغافلا عن ذكر الرحمن الذي هو القرآن وعبادة الرحمن متجاهلا ذلك نقيض له شيطانا أي نسبب له نتيجة إعراضه شيطانا ونجعله له قرينا لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة. فهو له قرين دائما. وقوله تعالى: { وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } أي وإن القرناء الذين جعلهم تعالى حسب سنته في الأسباب والمسببات للعاشين عن ذكره يصدونهم بالتزيين والتحسين لكل المعاصي حتى انغمسوا في كل إثم وولغوا في كل باطل وشر، وضلوا عن سبيل الهدى والرشد ومع هذا يحسبون أنهم مهتدون وغيرهم هم الظالمون.
وقوله تعالى: { حتى إذا جآءنا } أي يوم القيامة قال العاشي عن ذكر الرحمن يا ليت متمنيا بيني وبينك بعد المشرقين أي يتمنى لو أن بينه وبين قرينه من الشياطين من البعد كما بين المشرق والمغرب. قال تعالى لأولئك العاشين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنفسكم بالشرك والمعاصي في الدنيا أنكم في العذاب مشتركون أي إن اشتراككم في العذاب غير نافع لكم ولا مجد أبدا. وقوله تعالى لرسوله: { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين } ينكر تعالى على رسوله ظنه أنه يقدر على هدايتهم وحده بدون إرادة الله تعالى ذلك لهم إذ كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في دعائهم، وهم لا يزدادون إلا تعاميا وتجاهلا وكفرا فقال تعالى يخاطب رسوله { أفأنت } والاستفهام للانكار تسمع الصم الذين ذهب الله بأسماعهم، أو تهدي العمي الذين ذهب الله بأبصارهم، ومن كان في ضلال مبين عن الحق وسبيل الرشد والهدى إنك لا تقدر على ذلك فهون على نفسك وترفق في دعوتك فإنك لا تكلف غير البلاغ وقد بلغت.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى فيمن يعرض عن ذكر الله فإنه يسبب له شيطانا يضله ويحرمه الهداية أبدا فيقيم على الذنوب والآثام ضالا الطريق المنجى المسعد وهو يحسب أنه مهتد، وهذا يتعرض له المعرضون عن الكتاب والسنة كالمبتدعة وأصحاب الأهواء والشهوات والعياذ بالله تعالى.
2- الاشتراك في العذاب يوم القيامة لا يخففه.
3- بيان أن من أعماه الله وأصمه حسب سنته في ذلك لا هادي له ولا مسمع له ولا مبصر.
[43.41-45]
شرح الكلمات:
فإما نذهبن بك: أي فإن نذهبن بك أي نميتك قبل تعذيبهم، وما زائد ادغمت فيها إن الشرطية فصارت إما.
فإنا منهم منتقمون: أي معذبوهم في الدنيا وفي الآخرة.
وإما نرينك الذي وعدناهم: أي وإن نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب.
فإنا عليهم مقتدرون: أي لا يعوقنا عائق لأنا عليهم قادرون.
فاستمسك بالذي أوحي إليك: أي دم على استمساكك بالقرآن سواء عجلنا لك بالموعود به أو أخرناه.
إنك على صراط مستقيم: أي إنك على طريق الحق والهدى فواصل سيرك.
وإنه لذكر لك ولقومك: أي وإن القرآن لشرف لك وشرف لقومك.
وسوف تسألون: أي عن القرآن أي عن العمل به بتطبيق شرائعه وإبلاغه لغيركم.
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا: أي اسأل مؤمني أهل الكتابين التوراة والإنجيل.
اجعلنا من دون الرحمن آلهة: أي هل جعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون والجواب لم نجعل أبدا فليفهم هذا مشركو مكة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة كفار قريش إلى الإيمان والتوحيد فقوله تعالى: { فإما نذهبن بك } أي إن نذهب بك أي نخرجك من بين أظهرهم فإنا منهم منتقمون أي فنعذبهم كما عذبنا الأمم من قبلهم عندما يخرجون رسولهم أو نرينك الذي وعدناهم من نصرك عليهم وغلبتك لهم فإنا عليهم مقتدرون أي قادرون على أن نفعل بهم ذلك.
وقوله تعالى: { فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم } أي فتمسك يا رسولنا بما يأمرك به هذا القرآن الذي أوحاه إليك ربك إنك على صراط مستقيم وهو الإسلام الذي لا يشقى من تمسك به فعاش عليه ومات عليه. وقوله تعالى: { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } أي وإن القرآن الذي أوحي إليك وأمرت بالتمسك به هو ذكر لك أي شرف وأي شرف ولقومك من قريش كذلك إذا آمنوا به وعملوا بما جاء وسوف تسألون عن العمل به وتطبيق أحكامه والإلتزام بشرائعه.
وقوله { وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }؟ أي وأسأل يا رسولنا مؤمني أهل الكتابين التوراة والإنجيل إذ سؤالهما سؤال رسلهم الذين ماتوا من قبلك هل جعل الله تعالى من دونه آلهة يعبدون؟ وسوف يجيبونك بقولهم حاشا لله أن يأذن بعباده غيره من خلقه وهو الله لا إله إلا هو، وهذا من أجل تنبيه أذهان قريش إلى خطأها الفاحش في إصرارها على عبادة الأصنام إن القرآن نزل لهدايتهم وهداية غيرهم من بني آدم على الإطلاق إلا أنهم هو أولا وغيرهم ثانيا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- من سنة الله في الأمم إذا أخرج الرسول قومه مكرها انتقم الله تعالى له منهم فأهلكهم.
2- صدق وعد الله تعالى لرسوله فإنه ما توفاه حتى أقر عينه بنصره على أعدائه.
3- وجوب التمسك بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا.
4- شرف هذه الأمة بالقرآن فإن أضاعته أضاعها الله وأذلها وقد فعل.
[43.46-50]
شرح الكلمات:
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا: أي أرسلناه بالمعجزات الدالة على صدق رسالته.
إلى فرعون وملإه: أي وقومه من القبط.
إذ هم منها يضحكون: أي سخرية واستهزاء.
وما نريهم من آية: أي من آيات العذاب كالطوفان.
إلا هي أكبر من أختها: أي من قرينتها التي قبلها من الآيات.
وقالوا يا أيها الساحر: أي أيها العالم بالسحر المتبحر فيه.
بما عهد عندك: أي من كشف العذاب عنا إن آمنا.
إنا لمهتدون: أي إن كشفت عنا العذاب إنا مؤمنون.
إذا هم ينكثون: أي ينقضون عهدهم فلم يؤمنوا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا } إيراد هذا القصص هنا كان لمشابهة حال قريش بحال فرعون من جهة إذ قال رجال قريش لم لا يكون من ذوي المال والجاه كالوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود وقال فرعون: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين أي حقير يعني موسى عليه السلام. ومن جهة أخرى كان لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر كما صبر موسى وهو أحد أولي العزم الخمسة فقال تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآيتنآ } أي بحججنا الدالة على صدق موسى في رسالته إلى فرعون وقومه بأن يعبدوا الله ويتركوا عبادة غيره، وأن يرسلوا مع موسى بني إسرائيل ليذهب بهم إلى أرض المعاد " فلسطين " فلما جاءهم قال إني رسول رب العالمين جئتكم لآمركم بعبادة الله وحدة وترك عبادة من سواه، إذ لا يستحق العبادة إلا الله. فطالبوه بالآيات على صدق دعواه فلما جاءهم بالآيات العظام فاجأوه بالضحك منها والسخرية والاستهزاء بها وهو معنى قوله تعالى: { فلما جآءهم بآياتنآ إذا هم منها يضحكون }.
وقوله تعالى: { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } أي وما نرى فرعون وملأه من آية إلا هي أكبر دلالة على صدق موسى من الآية التي سبقتها. قال تعالى وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون إلى الحق فيؤمنون ويوحدون. وقالوا لموسى يا أيها الساحر أي العليم بالسحر المتبحر فيه ظنا منهم أن المعجزات كانت عمل ساحر. أدع لنا ربك بما عهد عندك إنا لمهتدون أي سل ربك يرفع عنا هذا العذاب كالطوفان والجراد والقمل والضفادع إنا مؤمنون وكانوا كلما نزل بهم العذاب سألوا موسى ووعده بالإيمان به إن رفع الله عنهم العذاب وفي كل مرة ينكثون عهدهم وهو قوله تعالى { فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } أي ينقضون العهد ولا يؤمنون كما واعدوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الآيات دليل على صدق من جاء بها، ولكن لا تستلزم الإيمان ممن شاهدها.
2- قد يؤاخذ الله الأفراد او الجماعات بالذنب المرة بعد المرة لعلهم يتوبون إليه.
3- حرمة خلف الوعد ونكث العهد، وأنهما من آيات النفاق وعلاماته.
[43.51-56]
شرح الكلمات:
ونادى فرعون في قومه: أي نادى فيهم افتخارا وتبجحا بما عنده.
وهذه الأنهار تجري من تحتي: أي من النيل تجري من تحت قصوري.
أفلا تبصرون: أي عظمتي وما أنا عليه من الجلال والكمال.
أم أنا خير: أي من موسى الذي هو مهين ولا يكاد يبين أي يفصح للثغة التي في لسانه.
فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب: أي هلا ألقي عليه أسورة من ذهب من قبل الذي أرسله.
أو جاء معه الملائكة مقترنين: أي أو جاءت الملائكة يتبع بعضها بعضا تشهد له بالرسالة.
إنهم كانوا قوما فاسقين: أي أطاعوه لكونهم قوما فاسقين ففسقهم هو علة طاعتهم.
فلما آسفونا انتقمنا منهم: أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم.
فجعلناهم سلفا: أي فرعون وقومه سلفا أي سابقين ليكونوا عبرة لمن بعدهم.
ومثلا للآخرين: أي يتمثلون بحالهم فلا يقدمون على مثل فعلهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة موسى مع فرعون قال تعالى: { ونادى فرعون في قومه } لأجل الافتخار والتطاول إرهابا للناس قال يا قوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار أي أنهار النيل تجر من تحتي أي من تحت قصوره، أفلا تبصرون فإذا أبصرتم فقولوا أنا خير من هذا الذي هو مهين أي حقير يتولى الخدمة بنفسه، ولا يكاد يبين أي يفصح بلسانه لعلة به وهي اللثغة أم هو؟. فلولا ألقى عليه أساوره من ذهب أي هلا ألقى عليه من أرسله أساورة من ذهب أو بعث معه الملائكة مقترنين يشهدون له بالرسالة. قال تعالى: { فاستخف قومه } أي استفزهم بقوله هذا وحركهم فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين، والفاسق جبان يستجيب بسرعة للباطل إن كان ممن يخاف عادة كالحاكم الظالم.
وقوله تعالى: { فلمآ آسفونا } أي أغضبونا بنكثهم وكفرهم وكبريائهم وظلمهم أغرقناهم أجمعين أي فلم نبق منهم أحدا والمراد فرعون وجنوده. وقوله تعالى فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين أي جعلنا فرعون، ومن أغرقنا معه من ملائه وجيوشيه سلفا أي سابقين ليكونوا عبرة لمن بعدهم، ومثلا يتمثل به من بعدهم فلا يقدمون على ما أقدموا عليه من الكفر والظلم والعلو والفساد، وأولى من يعتبر بهذا قريش التي نزل لينبهها ويحرك كامن نفسها لتنتبه من غفلتها فتؤمن وتوحد فتنجو وتكمل وتسعد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ذم الفخر والمباهاة إذ هما من صفات المتكبرين والظالمين.
2- الاحتقار للفقراء والازدراء بهم من صفات الجبارين الظلمة المتكبرين.
3- الفسق يجعل صاحبه مطية لكل ظالم أداة يسخره كما يشاء.
4- التحذير من غضب الرب تبارك وتعالى فإنه متى غضب انتفم فبطش.
[43.57-62]
شرح الكلمات:
ولما ضرب ابن مريم مثلا: أي ولما جعل عيسى بن مريم مثلا، والضارب ابن الزبعرى.
إذا قومك منه يصدون: أي إذ المشركون من قومك يصدون أي يضحكون فرحا بما سمعوا.
وقالوا ألهتنا خير أم هو؟: أي ألهتنا التي نعبدها خير أم هو أي عيسى بن مريم فنرضى أن تكون آلهتنا معه.
ما ضربوه لك إلا جدلا: أي ما جعلوه أي المثل لك إلا خصومة بالباطل لعلمهم أن ما لغير العاقل فلا يتناول اللفظ عيسى عليه السلام.
بل هم قوم خصمون: أي شديدو الخصومة.
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه: أي ما هو أي عيسى إلا عبد أنعمنا عليه بالبنوة.
وجعلناه مثلا لبني إسرائيل: أي لوجوده من غير أب كان مثلا لبني إسرائيل لغرابته يستدل به على قدرة الله على ما يشاء.
ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة: أي ولو شاء لأهلكناكم وجعلنا بدلكم ملائكة.
في الأرض يخلفون: أي يعمرون الأرض ويعبدون الله فيها يخلفونكم فيها بعد إهلاككم.
وإنه لعلم للساعة: أي وإن عيسى عليه السلام لعلم للساعة تعلم بنزوله إذا نزل.
فلا تمترن بها: أي لا تشكن فيها أي في إثباتها ولا في قربها.
واتبعون هذا صراط مستقيم: أي وقل لهم اتبعون على التوحيد هذا صراط مستقيم وهو الإسلام.
ولا يصدنكم الشيطان: أي ولا يصرفنكم الشيطان عن الإسلام.
إنه لكم عدو مبين: أي إن الشيطان لكم عدو بين العداوة فلا تتبعوه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } روي أن ابن الزبعرى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لما نزلت آية الأنبياء إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون قال: أهذا لنا ولألهتنا أم جميع الأمم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم، فقال ابن الزبعرى خصمتك ورب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون العزير وبنو مليح يعبدون الملائكة فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرح بها المشركون وضحكوا وضجوا بالضحك مرتفعة أصواتهم بذلك ونزلت في هذه الحادثة الآية: { ولما ضرب ابن مريم مثلا } أي ولما جعل ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا إذ جعله مشابها للأصنام من حيث أن النصارى اتخذوه إلها وعبدوه من دون الله، وقال فإذا كان عيسى والعزير والملائكة في النار فقد رضينا أن نكون وآلهتنا معهم ففرح بها المشركون وصدوا وضجوا بالضحك. وقالوا آلهتنا خير أم هو أي المسيح؟ قال تعالى لرسوله: ما ضربوه لك إلا جدلا أي ما ضرب لك ابن الزبعرى هذا المثل طلبا للحق وبحثا عنه وإنما ضربه لك لأجل الجدل والخصومة بل هم قوم خصمون مجبولون على الجدل والخصام.
.
وقوله إن هو أي عيسى إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة والرسالة، وجعلناه مثلا لبني إسرائيل يستدلون به على قدرة الله وإنه عز وجل على كل ما يشاء قدير إذ خلقه من غير أب كما خلق آدم من تراب ثم قال له كن فكان.
وقوله تعالى: { ولو نشآء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } أي ولو نشاء لأهلكناكم يا بني آدم ولم نبق منكم أحدا. وجعلنا بدلكم في الأرض ملائكة يخلفونكم فيها فيعمرونها ويعبدون الله تعالى فيها ويوحدونه ولا يشركون به سواء.
وقوله { وإنه لعلم للساعة } أي وإن عيسى عليه السلام لعلامة للساعة أي إن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان علامة على قرب الساعة. فلا تمترن بها أي فلا تشكن في إتيانها فانها آتية وقريبة. وقوله واتبعون أي وقل لهم يا رسولنا واتبعون على التوحيد وما جئتكم به من الهدى هذا صراط مستقيم أي الإسلام القائم على التوحيد الذي نزل به القرآن وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يصدنكم الشيطان عن الإسلام بوساوسه وإغوائه فيصرفكم عن التوحيد والإسلام إنه لكم عدو مبين وليس أدل على عداوته من أنه أخرج آدم بإغوائه من الجنة حسدا له وبغيا عليه. فمثل هذا العدو لا يصح أبدا الإستماع إليه والمشي وراءه واتباع خطواته. ومن يتبع خطواته يهلك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن قريشا أوتيت الجدل والقوة في الخصومة.
2- ذم الجدل لغير إحقاق حق وإبطال باطل وفي الحديث ما ضل قوم هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.
3- شرف عيسى وعلو مكانته وأن نزوله إلى الأرض علامة كبرى من علامات قرب الساعة.
4- تقرير البعث والجزاء.
5- حرمة اتباع الشيطان لأنه يضل ولا يهدي.
[43.63-66]
شرح الكلمات:
ولما جاء عيسى بالبينات: أي ولما جاء عيسى بن مريم إلى بني إسرائيل بالمعجزات والشرائع.
قال قد جئتكم بالحكمة: أي قال لبني إسرائيل قد جئتكم بالنبوة وشرائع الإنجيل.
ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه: أي وجئتكم لأبين لكم ما اختلفتم فيه من أحكام التوراة من أمر الدين وغيره.
فاتقوا الله وأطيعون: أي خافوا الله وأطيعون فيما أبلغكموه عن الله من الأمر والنهي.
إن الله ربي وربكم فاعبدوه: أي إن الله إلهي وإلهكم فاعبدوه بحبه وتعظيمه والذلة له.
هذا صراط مستقيم: أي تقوى الله وطاعة الرسول وعبادة الله بما شرع هو الإسلام المعبر عنه بالصراط المستقيم.
فاختلف الأحزاب من بينهم: أي في شأن عيسى أهو الله: أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة.
فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم: أي فويل للذين كفروا بما قالوا في عيسى من الكذب والباطل.
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون: أي ما ينتظر هؤلاء الأحزاب مع إصرارهم على ما قالوه في عيسى إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فجأة وهو لا يشعرون.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى جدل المشركين في مكة وفرحهم بالباطل الذي قاله ابن الزبعرى في شأن الملائكة والعزير وعيسى عليهم السلام من أنهم في النار مع من عبدوهم، وبرأ تعالى الملائكة والعزيز وعيسى لأنهم ما أمروا الناس بعبادتهم حتى يؤاخذوا بها، وإنما أمر بعبادتهم الشيطان فالشيطان ومن عبدوهم الذين في النار، وذكر تعالى شرف عيسى ومكانته وإنه عبد أنعم عليه بالنبوة وجعله مثلا لبني إسرائيل يستدلون به على قدرة الله تعالى إذ خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم وإنما خلقه من تراب ذكر رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ليكون ذلك موعظة لكفار مكة فقال تعالى ولما جاء عيسى بالبينات أي جاء بني إسرائيل مصحوبا بالبينات هي الإنجيل والمعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما إلى ذلك، قال لهم قد جئتكم بالحكمة أي النبوة من عند الله، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة وأمور إذا فاتقوا الله يا بني إسرائيل أي خافوا عقابه المترتب على معاصيه وأطيعون فيما أبلغكموه من أمر ونهي عن الله تعالى، إن الله ربي وربكم أي إلهي وآلهكم لا إله إلا هو فاعبدوه بفعل محابه وترك مساخطه حبا فيه وتعظيما له ورهبة ورغبة. وقوله { هذا صراط مستقيم } أي هذا الذي دعوتكم إليه من اتقاء الله، وطاعة رسوله وعبادته وحده هو الطريق المستقيم الذي يفضي بسالكه إلى سعادة الدارين. قال تعالى: فاختلف الأحزاب من بينهم أي من بين بني إسرائيل من يهود ونصارى فقالت طائفة من اليهود إفتراء أن عيسى ابن مريم ابن زنا وأمه بغي وقالوا ساحر.
وقال النصارى: هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة.
قال تعالى { فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم } أي مؤلم فتوعدهم الرب تعالى بالويل الذي هو واد يسيل في جهنم بما يتجمع من صديد فروج أهل النار وأبدانهم من دماء وقروح وأوساخ وهو عذاب يوم القيامة الأليم توعد هؤلاء الظالمين بما قالوا في عيسى عبد الله ورسوله عليه السلام وقال تعالى: { هل ينظرون إلا الساعة } أي ما ينظرون إلا الساعة لأنهم ما تابوا إلى الله ولا راجعوا الحق فيما قالوه في عيسى بل أصروا: اليهود يصفونه بأخس الصفات والنصارى يصفونه بالألوهية التي هي حق الله رب عيسى ورب العالمين أن تأتيهم بغتة أي فجأة وهم لا يشعرون لأنهم مشغولون بالذرة والهدروجين والاستعمار والتجارة والانغماس في الشهوات كما هو واقع ومشاهد اليوم. وصدق الله العظيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان رسالة عيسى إلى بني إسرائيل.
2- وجوب التقوى لله وطاعة الرسول، وتوحيد الله في عبادته.
3- بيان شؤم الخلاف، وما يجره من التوغل في الكفر والفساد.
4- وعيد الله لليهود والنصارى الذين لم يدخلوا في الإسلام بالويل وهو عذاب يوم أليم.
[43.67-73]
شرح الكلمات:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو: أي الأحباء يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة.
إلا المتقين: فإن محبتهم تدوم لهم لأنها كانت في الله وطاعته.
يا عباد لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون: أي ينادون فيقال لهم لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون بل تحبرون أي تسرون وتكرمون.
يطاف عليهم بصحاف من ذهب: أي يطوف عليهم الملائكة بقصاع من ذهب وفيها الطعام وأكواب من ذهب فيها الشراب اللذيذ.
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين: أي في الجنة ما تشتهيه الأنفس تلذذا به وتلذه الأعين نظرا إليه.
وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون: أي يقال لهم وهذه هي الجنة التي أورثكموها الله بأعمالكم الصالحة التي هي ثمرة إيمانكم الصادق وإخلاصكم الكامل.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر أحداث الساعة قال تعالى: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } أي إذا جاءت الساعة الأخلاء أي الأحباء في الدنيا يوم إذ تأتي الساعة بعضهم لبعض عدو فتنقطع تلك الخلة والمودة وتصبح عداء لأنها كانت على معصية الله تعالى وقوله إلا المتقين أي الله عز وجل بفعل أوامره وترك نواهيه فإن مودتهم وخلتهم لا تنقطع لأنها كانت محبة في الله وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل يناديهم ربهم بقوله يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، ويصفهم بقوله { الذين آمنوا بآياتنا } أي بالقرآن وكانوا مسلمين أي منقادين لله ظاهرا وباطنا، ويقول لهم { ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون } أي أنتم وزوجاتكم المؤمنات تفرحون وتسرون وقوله تعالى: { يطاف عليهم } بيان لنعيم الجنة الذي ينعمون به وهو أنه يطاف عليهم بصحاف من ذهب وهي قصاع، فيها ألذ الطعام وأشهاه، وأكواب من ذهب أيضا فيها ألذ الشراب والأكواب جمع كوب وهو إناء لا عروة ولا خرطوم - حتى يمكن الشرب منه من أي جهة من جهاته وفيها أي في الجنة ما تشتهيه الأنفس من سائر المستلذات، وتلذ الأعين من سائر المرئيات ويقال لهم لكم ما تشتهون وأنتم فيها خالدون لا تخرجون منها ولا تموتمون فيها.
وقوله تعالى: { وتلك الجنة } أي وهذه هي الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون من الصالحات والخيرات، ووجه الوراثة أن الله تعالى خلق لكل إنسان منزلين أحدهما في الجنة والثاني في النار فكل من دخل الجنة ورث منزل أحد دخل النار فهذا أوجه التوارث والباء في بما كنتم تعملون سببة أي بسبب أعمالكم الصالحة التي زكت نفوسكم وطهرت أرواحكم فاستوجبتم دخول الجنة وارث منازلها.
وقوله تعالى: { لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون } أي يقال لهم هذا إكراما لهم وإسعادا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كل خلة يوم القيامة تنقطع إلا خلة كانت في الله ولله سبحانه وتعالى، ولذا ينبغي أن تكون المودة في الدنيا لله لا لغيره تعالى.
2- بيان فضل التقوى وشرف المتقين الذين يتقون الشرك والمعاصي.
3- بيان أن الرجل يجمع الله بينه وبين زوجته المسلمة في الجنة.
4- بيان نعيم أهل الجنة من طعام وشراب وسائر المستلذات.
5- الإيمان والعمل الصالح سبب في دخول الجنة كما أن الشرك والمعاصي سبب في دخول النار.
[43.74-80]
شرح الكلمات:
إن المجرمين في عذاب جهنم: أي إن الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي في جهنم خالدون لا يخرجون ولا يموتون.
لا يفتر عنهم وهو فيه مبلسون: أي لا يخفف عنهم العذاب وهو فيه ساكتون سكوت يأس.
ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك: أي ونادوا مالكا خازن النار قائلين له ليمتنا ربك.
قال إنكم ماكثون: أي أجابهم بعد ألف سنة مضت على دعوتهم بقوله إنكم ماكثون أي مقيمون في عذاب جهنم دائما.
لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون: أي علة بقائكم أنا جئناكم بالحق على لسان رسولنا والحق التوحيد وعبادة الله بما شرع فكره أكثركم الحق.
أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون: أي أحكموا في الكيد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فإنا محكمون كيدنا في إهلاكهم.
ورسلنا لديهم يكتبون: أي وملائكتنا من الحفظة يكتبون ما يسرون وما يعلنون.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى الجنة ونعيمها ذكر في هذه الآيات النار وعذابها وهذا هو الترغيب والترهيب الذي امتاز به أسلوب القرآن في الدعوة إلى الله تعالى وهداية الخلق إلى الإصلاح قال تعالى { إن المجرمين } أي الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والمعاصي هؤلاء في عذاب جهنم خالدون، لا يفتر عنهم العذاب أي لا يخفف وهم فيه أي في العذاب مبلسون أي ساكتون آيسون قانطون. وقال تعالى وما ظلمناهم في تعذيبنا لهم بهذا العذاب ولكن كانوا هم الظالمين، حيث دسوا أنفسهم بالشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: { ونادوا يمالك ليقض علينا ربك } يخبر تعالى أن أصحاب ذلك العذاب الدائم الذي لا يفتر فيخفف نادوا مالكا خازن النار وقالوا له ليمتنا ربك فنستريح من العذاب. فأجابهم مالك بعد ألف سنة قائلا قال أي ربي إنكم ماكثون أي في عذاب جهنم، وعلل لهذا الحكم بالمكث أبدا فقال: لقد جئناكم بالحق أي أرسلنا إليكم رسولنا بالحق يدعوكم إليه وهو الإيمان والعمل الصالح المزكى للنفوس فكرة أكثركم ذلك فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا مؤثرين شهوات الدنيا على الآخرة فمتم على الآخرة على الشرك والكفر فهذا جزاء الكافرين.
وقوله تعالى: { أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون } أي بل أبرم هؤلاء المشركون أمرا يكيدون فيه للرسول ودعوته فإن فعلوا ذلك فإنا مبرمون أي محكمون أمرا مضاف لهم بتعذيبهم وإبطال ما أحكموه من الكيد للرسول ودعوته. وقوله: { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى } نسمع ذلك ورسلنا وهم الحفظة لديهم يكتبون ما يقولون سرا وجهرا. روي أن ثلاثة نفر قالوا وهم تحت أستار الكعبة فقال أحدهم أترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال أحدهم إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع وقال الثاني إن كان يسمع إذا أعلنتم فأنه يسمع إذا أسررتم فنزلت { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى } أي نسمع سرهم ونجواهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان عقوبة الإجرام على النفس بالشرك والمعاصي.
2- عذاب الآخرة لا يطاق ولا يقادر قدرة يدل عليه طلبهم الموت ليستريحوا منه وماهم بميتين.
3- أكبر عامل من عوامل كراهية الحق حب الدنيا والشهوات البهيمية في الأكل والشرب والنكاح هذه التي تكره إلى صاحبها الدين وشرائعه التي قد تقيد من الإسراف في ذلك.
[43.81-85]
شرح الكلمات:
قل إن كان للرحمن ولد: أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الزاعمين أن الملائكة بنات الله إن كان للرحمن ولد فرضا.
فأنا أول العابدين: أي فأنا أول من يعبده تعظيما لله وإجلالا ولكن لا ولد له فلا عبادة إذا لغيره.
سبحان رب السماوات: أي تنزه وتقدس.
عما يصفون: أي عما يصفون به الله تعالى من أن له ولدا وشركاء.
فذرهم يخوضوا ويلعبوا: أي اتركهم يا رسولنا يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم.
وهو الذي في السماء إله: أي معبود في السماء.
وفي الأرض إله: أي ومعبود في الأرض.
وتبارك الذي له ملك السماوات: أي تعاظم وجل جلال الذي له ملك السماوات.
وعنده علم الساعة: أي عنده علم وقت مجيئها.
معنى الآيات:
سبق أن بكت تعالى المشركين في دعواهم أن الملائكة بنات الله وتوعدهم بالعذاب على قولهم الباطل وهنا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل لهم إن كان للرحمن ولد كما تفترون فرضا وتقديرا فأنا أول العابدين له، ولكن لم يكن للرحمن ولد. فلم أكن لأعبد غير الله تعالى، هذا ما دل عليه قوله تعالى: { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين }. وقوله: { سبحان رب السموت والأرض رب العرش عما يصفون } نزه تعالى نفسه وقدسها وهو رب السماوات والأرض ورب العرش أي مالك ذلك كله وسلطانه عليه جميعه عما يصفه المشركون به من أن له ولدا وشركاء.
وهنا قال تعالى لرسوله إذا أصروا على باطلهم من الشرك والعذاب على الله والافتراء عليه فذرهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون وهو يوم عذابهم المعد لهم وذلك يوم القيامة.
وقوله تعالى: { وهو الذي في السمآء إله وفي الأرض إله } أي معبود في السماء ومعبود في الأرض أي معظم غاية التعظيم، ومحبوب غاية الحب ومتذلل له غاية الذل في الأرض والسماء وهو الحكيم في صنعه وتدبيره العليم بأحوال خلقه فهل مثله تعالى يفتقر إلى زوجة وولد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقوله { وتبارك الذي له ملك السموت والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون } أي تعاظم وجل جلاله وعظم سلطانه الذي له { ملك السموت والأرض وما بينهما } والدنيا والآخرة، وعنده علم الساعة وإليه ترجعون أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية التلطف في الخطاب والتنزل مع المخاطب لإقامة الحجة عليه كقوله تعالى:
وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
[سبأ: 24] وكما هنا قل إن كان للرحمن ولد من باب الفرض والتقدير فأنا أول العابدين له ولكن لا ولد له فلا أعبد غيره سبحانه وتعالى.
2- تهديد المشركين بعذاب يوم القيامة.
3- إقامة البراهين على بطلان نسبة الولد إلى الله تعالى.
[43.86-89]
شرح الكلمات:
ولا يملك الذين يدعون: أي يعبدونهم.
من دونه: أي من دون الله.
الشفاعة: أي لأحد.
إلا من شهد بالحق: أي لكن الذي شهد بالحق فوحد الله تعالى على علم هذا الذي تناله شفاعة الملائكة والأنبياء.
فأنى يؤفكون: أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته.
وقيله: أي قول النبي يا رب إن هؤلاء.
فاصفح عنهم: أي أعرض عنهم.
وقل سلام فسوف: أي أمري سلام منكم، فسوف تعلمون عاقبة كفركم.
معنى الآيات:
لما أعلم تعالى في الآية السابقة أن رجوع الناس إليه يوم القيامة، وكان المشركون يزعمون أن آلهتهم من الملائكة وغيرها تشفع لهم يوم القيامة واتخذوا هذا ذريعة لعبادتهم فأعلمهم تعالى في هذه الآية [86] أن من يدعونهم بمعنى يعبدونهم من الأصنام والملائكة وغيرهم من دون الله لا يملكون الشفاعة لأحد، فالله وحده هو الذي يملك الشفاعة ويعطيها لمن يشاء هذا معنى قوله تعالى: { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } وقوله تعالى { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } أي استثنى الله تعالى أن من شهد بالحق أي بأنه لا إله إلا الله، وهو يعلم ذلك علما يقينا فهذا قد يشفع له الملائكة أو الأنبياء فقال عز وجل { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم فالموحدون تنالهم الشفاعة بإذن الله تعالى. وقوله تعالى { ولئن سألتهم } أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من خلفهم لأجابوك قائلين الله. فسبحان الله كيف يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد العبادة فلذا قال تعالى: { فأنى يؤفكون } أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته يعرفون أن الله هو الخالق لهم ويعبدون غيره ويتركون عبادته.
وقوله { وقيله يرب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } أي ويعلم تعالى قيل رسوله وشكواه وهي يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون لما شاهد من عنادهم وتصلبهم شكاهم إلى ربه تعالى فأمره ربه عز وجل أن يصفح عنهم أي يتجاوز عما يلقاه منهم من شدة وعنت وأن يقول لهم سلام وهو سلام متاركة لا سلام تحية وتعظيم أي قل لهم أمري سلام. فسوف تعلمون عاقبة: هذا الإصرار على الكفر والتكذيب فكان هذا منه تهديدا لهم بذكر ما ينتظرهم من أليم العذاب إن ماتوا على كفرهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا يملك الشفاعة يوم القيامة أحد إلا الله تعالى فمن أذن له شفع ومن لم يأذن له لا يشفع، ولا يشفع إلا لأهل التوحيد خاصة أما أهل الشرك والكفر فلا شفاعة لهم.
2- مشركو العرب على عهد النبوة موحدون في الربوبية مشركون في العبادة.
3- مشروعية الصفح والتجاوز عند العجز عن إقامة الحدود وإعلاء كلمة الله تعالى.
[44 - سورة الدخان]
[44.1-9]
شرح الكلمات:
حم: هذا أحد الحروف المقطعة تكتب هكذا حم وتقرأ هكذا حاميم.
والكتاب المبين: أي القرآن المظهر للحلال والحرام في الأقوال والأعمال والاعتقادات.
إنا أنزلناه في ليلة مباركة: أي في ليلة القدر من رمضان.
فيها يفرق كل أمر حكيم: أي يفصل كل أمر محكم من الآجال والأرزاق وسائر الأحداث.
أمرا من عندنا: أي فيها في ليلة القدر يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا أي أمرنا بذلك أمرا من عندنا.
إنا كنا مرسلين من رحمة من ربك: أي إنا كنا مرسلين الرسل محمدا ومن قبله رحمة من ربك بالمرسل إليهم من الأمم والشعوب.
إنه هو السميع العليم: أي السميع لأصوات مخلوقاته العليم بحاجاتهم.
إن كنتم موقنين: أي بأنه رب السماوات والأرض فآمنوا برسوله واعبدوه وحده.
بل هم في شك يلعبون: أي فليسوا بموقنين بل هم في شك من ربوبية الله تعالى لخلقه وإلا لعبدوه وأطاعوه بل هم في شك يلعبون بالأقوال والأفعال لا يقين لهم في ربوبية الله تعالى وإنما هم مقلدون لآبائهم في ذلك.
معنى الآيات
قوله تعالى { حم } هذا أحد الحروف المقطعة وهو من المتشابه الذي يفوض فهم معناه إلى منزله فيقول: المؤمن: الله أعلم بمراده به، وقد ذكرنا له فائدتين جليلتين تقدمتا غير ما مرة الأولى: أنه لما المشركون يمنعون سماع القرآن خشية التأثر به جاءت هذه الفواتح بصيغة لم تعهدها العرب في لغتها فكان إذا قرأ القارىء رافعا صوته مادا به هذه الحروف يستوقف السامع ويضطره إلى أن يسمع فإذا سمع تأثر واهتدى غالبا وأعظم بهذه الفائدة من فائدة والثانية: أنه لما ادعى العرب أن القرآن ليس وحيا إلهيا وإنما هو شعر أو سحر أو قول الكهان أو أساطير تحداهم الله تعالى بالإتيان بمثله فعجزوا فتحداهم بعشر سور فعجزوا فتحداهم بسورة فعجزوا فأعلمهم أن هذه المعجز إنما هو مؤلف من مثل هذه الحروف حم طس الم فألفوا نظيره فعجزوا فقامت عليهم الحجة لعجزهم وتقرر أن القرآن الكريم كلام الله ووحيه أوحاه إلى رسوله ويؤكد هذه الفائدة أنه غالبا إذا ذكرت هذه الحروف في فواتح السور يذكر القرآن بعدها نحو طس تلك آيات القرآن، حم والكتاب المبين، الم تلك آيات الكتاب الحكيم.
قوله تعالى { والكتاب المبين } هذا قسم أقسم الله تعالى بالقرآن تنويها بشأنه ولله أن يقسم بما يشاء فلا حجر عليه وإنما الحجر على الإنسان أن يحلف بغير ربه عز وجل، والمراد من الكتاب المبين المقسم به القرآن العظيم، وقوله: { إنآ أنزلناه } أي القرآن { في ليلة مباركة } أي كثيرة البركة والخير وهي ليلة القدر والتي هي خير من ألف شهر.
وقوله { إنا كنا منذرين } ، ولذلك أرسلنا الرسول وأنزلنا القرآن لننذر الناس عذاب يوم القيامة حيث لا ينجى منه إلا الإيمان والعمل الصالح، ولا يعرفان إلا بالوحي فكان لا بد من الرسول الذي يوحى إليه ولا بد من الوحي الحامل لبيان الإيمان وأنواع العمل الصالح. وقوله فيها يفرق كل أمر حكيم أي في تلك الليلة المباركة يفصل كل أمر محكم مما قضى الله أن يتم في تلك السنة من أحداث في الكون يؤخذ ذلك من كتاب المقادير فيفصل عنه وينفذ خلال السنة من الموت والحياة والغنى والفقر والصحة والمرض والتولية والعزل فكل أحداث تلك السنة تفصل من اللوح المحفوظ ليتم احداثها في تلك السنة حتى إن الرجل ليتزوج ويولد له وهو في عداد من يموت فلا تنتهي السنة إلا وقد مات وقوله: { أمرا من عندنآ إنا كنا مرسلين } أي كان ذلك أمرا من عندنا أمرنا به.
وقوله: إنا كنا مرسلين أي الرسل محمدا فمن قبله من الرسل رحمة من ربك بالناس المرسل إليهم إنه هو السميع لأقوالهم وأصواتهم العليم بحاجاتهم، فكان إرسال الرسل رحمة من ربك أيها الرسول فاحمده واشكره فإنه أهل الحمد والثناه وقوله: { رب السموت والأرض وما بينهمآ } أي خالق ومالك السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، أي بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبدوه وحده فإنه لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين. وقوله تعالى: { بل هم في شك يلعبون } دال على أن إقرارهم بأن الله رب السماوات ورب الخلق عندما يسألون لم يكن عن يقين إذ لو كان على يقين لما أنكروا توحيد الله وكفروا به إذا فهم في شك يلعبون بالأقوال فقط كما يلعبون بالأفعال، لا يقين لهم في ربوبيته تعالى وإنما هم مقلدون لآبائهم في ذلك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل ليلة القدر وأنها في رمضان.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر وإثبات اللوح المحفوظ.
3- إرسال الرسل رحمة من الله بعباده، فلم يكن زمن الفترة وأهلها أفضل من زمن الوحي.
4- لم يكن إفراد المشركين بربوبية الله تعالى لخلقه عن علم يقيني بل هم مقلدون فيه فلذا لم يحملهم على توحيد الله في عبادته، وهذا شأن كل علم أو معتقد ضعيف.
[44.10-16]
شرح الكلمات:
فارتقب: أي انتظر.
بدخان مبين: أي هو ما كان يراه الرجل من قريش لشدة الجوع بين السماء والأرض من دخان.
يغشى الناس: أي يغشى أبصارهم من شدة الجهد الناتج عن الجوع الشديد.
ربنا اكشف عنا العذاب: أي يا ربنا إن كشفت عنا العذاب آمنا بك وبرسولك.
أنى لهم الذكرى: أي من أي وجه يكون لهم التذكر والحال أنه قد جاءهم رسول مبين فتولوا عنه وقالوا معلم مجنون.
معلم مجنون: أي أنه يعلمه القرآن بشر مجنون أي مختلط عليه أمره غير مدرك لما يقول.
إنكم عائدون: أي إلى الكفر والجحود.
البطشة الكبرى: أي الآخذة القوية التي أخذناهم بها يوم بدر حيث قتلوا وأسروا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { فارتقب } الآية نزلت بعد أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش يوم كثر استهزاؤهم به وسخريتهم منه وبما جاء به من الدين الحق فقال اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف أي سبع سنين من القحط والجدب فأمره ربه أن ينتظر ذلك فقال له فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب آليم، واستجاب تعالى لرسوله وأصاب قريشا بقحط وجدب ماتت فيه مواشيهم وأصابهم جوع أكلوا فيه العهن وشربوا فيه الدم، وكان الرجل يرفع رأسه إلى السماء فلا يرى إلا دخانا يغشى بصره من شدة الجوع، حتى ضرعوا إلى الله وبعثوا إلى الرسول يطلبون منه أن يدعو الله تعالى أن يرفع عنهم هذا العذاب وهو معنى قوله تعالى: { فارتقب يوم تأتي السمآء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } أي برسولك وبما جاء به من الهدى والدين الحق.
وقوله تعالى: { أنى لهم الذكرى وقد جآءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون } أي ومن أين يأتيهم التذكر فينيبوا إلى ربهم ويسلموا له، والحال أنه قد جاء رسول مبين للحق مظهر له فعرفوه أنه رسول حق وصدق ثم تولوا عنه أي أعرضوا عنه وعما جاء به وقالوا معلم أي هو رجل يعلمه غيره الذي يقوله ولم يكن رسولا وقالوا مجنون فلذا تذكرهم وتوبتهم مستبعدة جدا، وقوله تعالى: { إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عآئدون } وفعلا كشف الله عنهم عذاب المخمصة ونزل الغيث بديارهم وسعدت بلادهم بعد شقاء دام سبع سنوات، وعادوا إلى الشرك وحرب الإسلام والمسلمين.
وقوله تعالى: { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } أي وارتقب يا رسولنا { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } ، وكان ذلك ببدر حيث انتقم الله منهم فقتل رجالهم بل صناديدهم وأسر من أسر منهم، وكانت بطشة لم تعرفها قريش قط.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صدق وعد الله لرسوله واستجابة دعائه صلى الله عليه وسلم.
2- الإيمان عند معاينة العذاب لا يجدي ولا ينفع.
3- بيان ما قابلت به قريش دعوة الإسلام من جحود وكفران.
4- إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك آية أنه وحي الله وكلامه تعالى.
[44.17-24]
شرح الكلمات:
ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون: أي ولقد اختبرنا قبلهم أي قبل كفار قريش قوم فرعون من الأقباط.
وجاءهم رسول كريم: أي موسى بن عمران صلوات الله عليه وسلامه.
أن أدوا إلي عباد الله: أي ادفعوا إلي عباد الله بني إسرائيل وأرسلوهم معي.
إني لكم رسول أمين: أي إني رسول الله إليكم أمين على وحيه ورسالته.
وأن لا تعلوا على الله: أي وبأن لا تطغوا على الله فتكفروا به وتعصوه.
إني آتيكم بسلطان مبين: أي بحجة واضحة تدل على صدقي في رسالتي وما أطالبكم به.
وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون: أى وإني قد اعتصمت بربي وربكم واستجرت به أن ترجموني.
وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون: أي إن لم تصدقوني فيما جئتكم به فخلوا سبيلي واتركوني.
فدعا ربه: أي فلما كذبه فرعون وقومه وهموا بقتله نادى ربه يا رب.
إن هؤلاء قوم مجرمون: أي إن هؤلاء قوم مجرمون بالكفر والظلم.
فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون: أي فأجابه ربه بأن قال له فأسر بعبادي أي بني إسرائيل ليلا إن فرعون وجنده متبعوكم ليردوكم.
وأترك البحر رهوا: أي وإذا اجتزت أنت وقومك البحر فاتركه رهوا ساكنا كما هو حين دخلته مع بني إسرائيل.
إنهم جند مغرقون: أي إن فرعون وقومه جند والله مغرقهم في البحر.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { ولقد فتنا } هذا شروع في قصة موسى مع فرعون لوجود تشابه بين أكابر مجرمي قريش وبين فرعون في ظلمه وعلوه، والقصد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتخفيف ألمه النفسي من جراء ما يلاقي من أكابر مجرمي قريش في مكة فقال تعالى: { ولقد فتنا قبلهم } أي قبل كفار قريش قوم فرعون من القبط جاءهم رسول كريم أي على ربه وعلى قومه من بني إسرائيل هو موسى بن عمران عليه السلام، أن أدوا أي بأن أدوا أي ادفعوا إلى عباد الله بني إسرائيل وأرسلوهم معي إني لكم رسول أمين على رسالتي صادق في قولي، وبأن لا تعلوا على الله أي بأن لا تطغوا على الله فتكفروا به وتعصوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه. إني آتيكم بسلطان مبين أي بحجة بينة واضحة على صحة ما أطالبكم به. وإني عذت بربي وربكم أي استجرت وتحصنت أن ترجمون بأقوالكم أو أعمالكم، وإن لم تؤمنوا أي لم تصدقوا بما جئتكم به فاعتزلون ولما أبوا إلا أذاه وأرادوا قتله دعا ربه قائلا رب إن هؤلاء قوم مجرمون كفرة ظلمة يعني فرعون وملأه فأوحى إليه ربه تعالى فأسر بعبادي أي بني إسرائيل إذ هم المؤمنون وغيرهم من القبط كافرون ليلا في آخر الليل وأعلمه أن فرعون وجنوده متبعون لهم ليردوهم وينكلوا بهم.
وقوله تعالى: { واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون } إنه لما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق فلقتين ودخل بنو إسرائيل البحر فاجتازوه أراد موسى أن يضرب البحر ليلتئم كما كان حتى لا يدخله فرعون وجنده فيدركوهم فقال له ربه تعالى أترك البحر رهوا أي ساكنا كما كان حين دخلتموه حتى إذا دخل فرعون وجنوده أطبقناه عليهم إنهم جند مغرقون وهذا الذي حصل فنجى الله موسى وبني إسرائيل وأغرق فرعون وجنوده أجمعين.
الدخان.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- وجود تشابه كبير بين فرعون وكفار قريش في العلو والصلف والكفر والظلم.
2- مشروعية الاعتبار بما سلف من أحداث في الكون والائتساء بالصالحين.
3- وجوب الاستعاذة بالله تعالى والاستجارة به إذ لا مجير على الحقيقة إلا وهو ولا واقي سواه.
4- مشروعية دعاء الله تعالى على الظالمين وسؤاله النصر عليهم والنجاة منهم.
[44.25-33]
شرح الكلمات:
كم تركوا من جنات: أي بساتين وحدائق غناء.
ومقام كريم: أي مجلس حسن ومحافل مزينة ومنازل حسنة.
ونعمة كانوا فيها فاكهين: أي نضرة عيش ولذاذته كانوا فيها ناعمين.
وأورثناها قوما آخرين: أي بني إسرائيل.
فما بكت عليهم السماء والأرض: أي لهوانهم على الله بسبب كفرهم وظلمهم.
وما كانوا منظرين: أي ممهلين حتى يتوبوا.
من العذاب المهين: أي قتل أبنائهم واستخدام نسائهم.
ولقد اخترناهم على علم على العالمين: أي اخترناهم على علم منا على عالمي زمانهم من الإنس والجن . وذلك لكثرة الأنبياء منهم وفيهم.
وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين: أعطيناهم من النعم ما فيه بلاء مبين أي واضح كانفلاق البحر والمن والسلوى.
معنى الآيات
ما زال السياق الكريم في قصة موسى عليه السلام مع عدو الله فرعون عليه لعائن الرحمن قال تعالى: { كم تركوا من جنات } أي كم ترك فرعون وجنود الذين هلكوا معه في البحر أي تركوا كثيرا من الجنات أي البساتين والعيون الجارية فيها سقي الزروع، ومقام كريم أي منازل حسنة ومحافل مزينة بأنواع الزينة والمحفل مكان الاحتفال، ونعمه أي متعة عظيمة كانوا فيها فاكهين أي ناعمين مترفين وقوله تعالى: كذلك هكذا كانت نعمتهم فسلبناهما منهم لكفرهم بنا وتعاليهم على شرائعنا وأوليائنا، { وأورثناها قوما آخرين } هم بنوا إسرائيل إذ رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون. وقوله تعالى: { فما بكت عليهم السمآء والأرض } ، لأنهم كانوا كافرين لم يعملوا على الأرض خيرا ولم يعرج إلى السماء من عملهم خير فلم يبكون إنما يبكي المسلم تبكيه الأرض التي كان يسجد عليها ويعبد الله تعالى فوقها وتبكيه السماء التي كان كل يوم وليلة يصعد إليها عمله الصالح، وقوله وما كانوا منظرين أي ممهلين بل عاجلهم الرب بالعقوبة، ولم يمهلهم علهم يتوبون لعلم الله تعالى بطبع قلوبهم وكم واعدوا موسى إن رفع عنهم العذاب يؤمنون، وما آمنوا. وقوله تعالى ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين هذه بعض أياديه على بني إسرائيل وهي أنه نجاهم من العذاب المهين الذي كان فرعون وقومه يصبونه عليهم إذ كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم للخدمة والامتهان وأي عذاب مهين أكبر من هذا؟ من فرعون أي من عذاب فرعون الذي كان ينزله بهم إنه كان عاليا من المسرفين أي كان فرعون جبارا طاغيا من المسرفين في الكفر والظلم. وقوله تعالى: { ولقد اخترناهم } أي بنى إسرائيل على علم أي منا على العالمين أي عالمي زمانهم من الثقلين الإنس والجن، وقوله تعالى: { وآتيناهم } أي أعطيناهم من الآيات { ما فيه بلاء مبين } أي اختبار عظيم ومن تلك الآيات انفلاق البحر، وتظليل الغمام لهم والمن والسلوى في التيه إلى غير ذلك مما هو اختبار عظيم لهم أيشكرون أم يكفرون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في سلب النعم وإنزال النقم بمن كفر نعم الله ولم يشكرها فعصى ربه وأطاع هواه ونفسه فترك الصلاة واتبع الشهوات وترك القرآن واشتغل بالأغاني، وأعرض عن ذكر الله وأقبل على ذكر الدنيا ومفاتنها.
2- بيان هوان أهل الكفر والفسق على الله وعلى الكون كله، وكرامة أهل الإيمان والتقوى على الله وعلى الكون كله حتى أن السماء والأرض تبكيهم إذا ماتوا.
3- ذم العلو في الأرض وهو التكبر والإسراف في كل شيء.
4- بيان أن الله يبتلي أي يختبر عباده بالخير والشر.
[44.34-42]
شرح الكلمات:
إن هؤلاء: أي المشركين من قريش.
إن هي إلا موتتنا الأولى: أي لا حياة بعدها ولا موت وهذا تكذيب بالبعث الآخر.
وما نحن بمنشرين: أي بمبعوثين أحياء من قبورنا بعد موتنا.
فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين: أي فأت يا محمد بآبائنا الذين ماتوا إن كنت صادقا في أننا بعد موتنا وبلانا نبعث أحياء من قبورنا.
أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم: أي هؤلاء المشركون خير في القوة والمناعة أم قوم تبع والذين من قبلهم كعاد.
أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين: أي أنزلنا بهم عقوبتنا فأهلكناهم إنهم كانوا قوما مجرمين.
لاعبين: أي عابثين بخلقهما لا لغرض صالح.
ما خلقناهما إلا بالحق: أي إلا لأمر اقتضى خلقهما وهو أن أذكر فيهما وأشكر.
إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين: أي إن يوم القيامة الذي يفصل فيه بين الخلائق ويحكم ميعادهم أجمعين حيث يجمعهم الله فيه.
يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا: أي يوم لا يكفى قريب قريبه بدفع شيء من العذاب عنه.
ولاهم ينصرون: أي لا ينصر بعضهم بعضا.
إلا من رحم الله: أي لكن من رحمه الله فإنه يدفع عنه العذاب وينصر.
إنه هو العزيز الرحيم: أي الغالب المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية قوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم فما ذكر قصص موسى وفرعون إلا تنبيها وتذكيرا لعلهم يتذكرون فقال تعالى: { إن هؤلاء } الأدنون الهابطين بعقولهم إلى أسوأ المستويات ما يستحون ولا يخجلون فيقولون إن هي إلا موتتنا الأولى منكرين للبعث والجزاء ليواصلوا كفرهم وفسقهم، فلذا قالوا وما نحن بمنشرين أي بمبعوثين أحياء من قبورنا كما تعدنا يا محمد، وإن أصررتم على قولكم بالحياة الثانية فأتوا بآبائنا الذين ماتوا { إن كنتم صادقين } في ذلك وقولهم فأتوا وإن كنتم ليس من باب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما شعور منهم أنه ليس وحده في هذه الدعوة بل وراءه من هو دافع له على ذلك.
وقوله تعالى: { أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين }؟ إنهم ليسوا بخير منهم بأي حال لا في المال ولا في الرجال فكما أهلكناهم نهلك هؤلاء، وأهلكنا الأولين لأنهم كانوا مجرمين أي على أنفسهم بالشرك والمعاصي، وهؤلاء مجرمون أيضا فهم مستوجبون للهلاك وسوف يهلكون إن لم يتوبوا فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا الله ورسوله.
وقوله تعالى: { وما خلقنا السموت والأرض وما بينهما لعبين } ما خلقناهما إلا بالحق { ولكن أكثرهم لا يعلمون } هذا دليل على البعث والجزاء إذ ليس من الحكمة أن يخلق الله الكون لا لشيء ثم يعدمه ولا شيء وراء ذلك هذا من اللعب والعبث الذي ينتزه عنه العقلاء فكيف بواهب العقول جل وعز إنه ما خلق الكون إلا ليذكر فيه ويشكر فمن ذكره فيه وشكره أكرمه وجزاه بأحسن الجزاء، ومن تركه وكفره أهانه وجزاه بأسوء الجزاء وذلك يتم بعد نهاية هذه الحياة ووجود الحياة الثانية وهو يوم القيامة.
ولذا قال تعالى: { إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } أي إن يوم القيامة لفصل القضاء والحكم بين الناس فيما اختلفوا من التوحيد والشرك، والبرور الفجور هو ميعادهم الذي يحضرون فيه أجمعين يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون أي يوم لا يكفى أحد قريب كابن العم عن أحد بدفع شيء من العذاب عنه، ولا بنصر بعضهم بعضا كما كانوا في الدنيا، وقوله تعالى { إلا من رحم الله } أي لكن من رحم الله في الدنيا بالإيمان والتوحيد فإنه يرحمه في الآخرة فيشفع فيه وليا من أوليائه إنه تعالى هو العزيز أي الانتقام من أعدائه الرحيم بأوليائه. والناس بين ولي لله وعدو فأولياؤه هم المؤمنون وأعداؤه هم الكافرون الفاجرون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- الإجرام هو سبب الهلاك والدمار كيفما كان فاعله.
3- تبع الحميري كان عبدا صالحا ملكا حاكما وكان قومه كافرين فأهلكهم الله وأنجاه ومن معه من المؤمنين الصالحين ففي هذا الملك الصالح عبرة لمن يعتبر.
4- تنزه الرب تعالى عن اللعب والعبث فيما يخلق ويهب، ويأخذ ويعطي ويمنع.
5- يوم القيامة وهو يوم الفصل ميعاد الخليقة كلها حيث تجمع لفصل القضاء.
6- لا تنفع قرابة ولا خلة ولا صداقة يوم القيامة، ولكن الإيمان والعمل الصالح.
[44.43-50]
شرح الكلمات:
إن شجرة الزقوم: أي الشجرة التي تثمر الزقوم وهي من أخبث الشجر ثمرا مرارة وقبحا.
طعام الأثيم: أي ثمرها طعام الأثيم أبي جهل وأصحابه من ذوي الأثام الكبيرة.
كالمهل: أي كدردى الزيت الأسود.
يغلي في البطون كغلي الحميم: أي الماء الشديد الحرارة.
خذوه فاعتلوه: أي يقال للزبانية خذوه فاعتلوه أي جروه بغلظة وشدة.
إلى سواء الجحيم: أي إلى وسطها.
ذق إنك أنت العزيز الحكيم: أي ذق العذاب إنك كنت تقول ما بين جبلي مكة أعز وأكرم منى.
ما كنتم به تمترون: أي إن هذا العذاب الذي كنتم تمترون به أي تشكون فيه.
معنى الآيات
ما زال السياق الكريم في ذكر النار وما فيها من ضروب العذاب فقال تعالى: { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } كأبي جهل وأضرابه من ذوي الآثام، وشجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين في القبح وثمرها الذي هو الزقوم مر أشد المرارة جعلها الله تعالى طعام الأثيم أبي جهل وذوي الآثام الكبيرة، وقوله تعالى في الأخبار عنها { كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم } أي كدردي الزيت يغلي في بطون الآثمين كغلي الحميم أي الماء الحار الشديد الحرارة. وقوله تعالى: { خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم } ، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم أي يقال للزبانية وهم الملائكة الموكلون بالنار وعذابها خذوه فاعتلوه أي ادفعوه واجذبوه بعنف إلى وسط الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم أي صبوا فوق رأسه الماء الحار الشديد الحرارة ويقال له: تهكما به ذق إنك أنت العزيز الكريم أي كما كنت تقول في الدنيا إذ كان أبو جهل يقول: ما بين جبلى مكة أعز وأكرم منى، وكان يجمع أولاده ويضع بين أيديهم الزبدة وتمر العجوة ويقول لهم تزقموا هذا هو الزقوم الذي يهددنا به محمد اللهم صلى وسلم على نبينا محمد وقوله تعالى: { إن هذا ما كنتم به تمترون } أي يقال لهم إن هذا أي العذاب الذي كنتم تشكون في أنه كائن يوم القيامة، وذلك لتكذيبهم بالبعث والجزاء يوم القيامة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- عظم عذاب النار وفظاعة ما يلاقيه ذوو الآثام الكبيرة فيها.
3- يوجد شجرة بأريحا من الغور لها ثمر كالتمر حلو عفيص، لنواه دهن عظيم المنافع عجيب الفعل في تحليل الرياح الباردة وأمراض البلغم وأوجاع المفاصل والنقرس وعرق النسا والريح اللاحجة في حق الورك، يشرب منه زنة سبعة دراهم ثلاثة أيام، وربما أقام الزمنى، والمقعدين. ذكر هذا صاحب حاشية الجمل على الجلاليين عند تفسير هذه الآية. ولو أمكن أخذ هذا الثمر واستخراج زيته والتداوي به لكان خيرا.
4- من أشد أنواع العذاب في النار العذاب النفسي بالتهكم والسخرية من المعذبين وهو العذاب المهين الذي يهين المعذبين ويدوس كرامتهم.
[44.51-59]
شرح الكلمات:
إن المتقين في مقام أمين: أي إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا فآمنوا وعملوا الصالحات بعد اجتناب الشرك والمعاصي في مجلس آمين لا يلحقهم فيه خوف بحال.
في جنات وعيون: هذا هو المقام الأمين.
من سندس وإستبرق: أي مارق من الديباج، وما غلظ منه.
متقابلين: أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لأن الأسرة تدور بهم.
كذلك، وزوجناهم: أي الأمر كذلك وزوجناهم.
بحور عين: أي بنساء بيض واسعات الأعين.
يدعون فيها: أي يطلبون الخدم فيها أن يأتوهم بكل فاكهة.
آمنين: أي من انقطاعها ومن مضراتها ومن كل مخوف.
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى: أي لكن الموتة الأولى فقد ذاقوها.
فإنما يسرناه بلسانك: أي سهلنا القرآن بلغتك.
لعلهم يتذكرون: أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون لكنهم لا يؤمنون.
فارتقب إنهم مرتقبون: أي فانتظر هلاكهم فإنهم منتظرون هلاكك.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال أهل النار عقب عليه بذكر حال أهل الجنة وهذا هو أسلوب الترغيب والترهيب الذي تميز به القرآن الكريم لأنه كتاب دعوة وهداية زيادة على أنه كتاب تشريع وأحكام فقال عز من قائل: { إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون } فأخبر تعالى أن الذين اتقوه في الدنيا فآمنوا به وأطاعوه في أمره ونهيه ولم يشركوا به هؤلاء في مقام آمين أي في مجلس آمن لا يلحقهم فيه خوف، وبين ذلك المقام الآمن بقوله { في جنات } أي بساتين وعيون. يلبسون أي ثيابهم من سندس واستبرق، والسندس مارق من الحرير والاستبرق ما غلظ منه، وقوله متقابلين أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لأن الأسرة التي هم عليها تدور وقوله تعالى: { كذلك } أي الأمر كذلك أي كما وصفنا وزوجناهم بحور عين، الحوراء من النساء البيضاء ومن في عينيها حور وهو كبر بياض العين على سوادها والعين جمع عيناء وهي واسعة العينين، وقوله { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين } أي يطلبون الخدمة أن يوافوهم بكل فاكهة حال كونهم آمنين من انقطاعها ومن ضررها ومن كل مخوف يلحق بسببها أو بسبب غيرها.
وقوله تعالى: { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } أي لا يذوقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها فى الدنيا فإن أهلها لا يمرضون ولا يهرمون ولا يموتون وقوله تعالى: { ووقاهم عذاب الجحيم } ، وهذا دال على أن غير المتقين من الموحدين قد يذوقون عذاب الجحيم قبل دخولهم الجنة بخلاف المتقين فإنهم لا يدخلون النار البتة وقوله تعالى: { فضلا من ربك } أي كان ذلك الإنعام والتكريم فضلا من ربك إذ لم يستوجبوه لمجرد تقواهم وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم
" " سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة عمله " قالوا ولا أنت يا رسول الله قال " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل "
وقوله ذلك هو الفوز العظيم. أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم وهو كما في قوله من سورة آل عمران:
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز
[الآية: 185].
وقوله تعالى: { فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون } أي فإنما سهلنا القرآن بلغتك العربية لعلهم يتذكرون فيتعظون فيؤمنون ويتقون، لكن أكثرهم لم يتعظ فارتقب ما يحل بهم فإنهم منتظرون ما يكون لك من نجاح أو إخفاق.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل التقوى وكرامة أهلها والتقوى هي خشية من الله تحمل على طاعة الله بفعل محابه وترك مكارهه.
2- بيان شيء من نعيم أهل الجنة ترغيبا في العمل لها.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- بيان الحكمة من تسهيل فهم القرآن الكريم وهو الاتعاظ المقتضي للتقوى.
[45 - سورة الجاثية]
[45.1-5]
شرح الكلمات:
حم: هذا أحد الحروف الهجائية يكتب هكذا: حم ويقرأ هكذا: حاميم.
تنزل الكتاب: أي القرآن.
من الله العزيز الحكيم: أي من عند الله العزيز الانتقام من أعدائه الحكيم في تدبيره.
إن في السماوات والأرض: أي إن في خلق السماوات والأرض.
لآيات: أي لدلالات واضحات على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته وهي موجبات الربوبية والألوهية له وحده دون سواه.
للمؤمنين: أي لأنهم بالإيمان أحياء يبصرون ويسمعون فيرون الآيات.
وفي خلقكم: أي وفي خلقكم أيها الناس وتركيب أعضائكم وسلامة بنيانكم.
وما بث من دابة: أي وما خلق ونشر من أنواع الدواب من بهائم وغيرها.
آيات لقوم يوقنون: أي علامات على قدرة الله تعالى على البعث الآخر إذ الخالق لهذه العوالم قادر على إعادتها بعد موتها، ولكن هذه الآيات لا يراها إلا القوم الموقنون في إيمانهم بربوبية الله وألوهيته وصفات الجلال والكمال له.
واختلاف الليل والنهار : أي بمجيء هذا وذهاب ذاك وطول هذا وقصر ذاك على مدى الحياة.
وما أنزل الله من السماء من رزق: أي من مطر، وسمي المطر رزقا لأنه يسببه.
فأحيا به الأرض بعد موتها: أحيا بالمطر الأرض بعد موت نباتها بالجدب.
وتصريف الرياح: أي من صبا إلى دبور، ومن شمال إلى جنوب، ومن سموم إلى باردة ومن نسيم إلى عاصفة.
آيات لقوم يعقلون: أي في اختلاف الليل والنهار وإنزال المطر وإحياء الأرض وتصريف الرياح دلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته واقتضاء ذلك ربوبية الله وألوهيته، لقوم يعقلون أي يستعملون عقولهم في إدراك الأشياء واستنتاج النتائج من مقدماتها.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { حم }: الله أعلم بمراده به إذ هو من المتشابه الذي أمرنا أن نؤمن به ونفوض أمر معناه إلى من أنزله سبحانه وتعالى. وقد ذكرنا مرات فائدتين لهذه الحروف المقطعة فلتراجع في أكثر السورة المفتتحة بالحروف المقطعة كحم الدخان السورة التي قبل هذه السورة. وقوله تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم أي تنزيل القرآن كان من عند الله العزيز أي الانتقام من أعدائه الحكيم في تدبير أمور خلقه، وقوله تعالى: { إن في السموت والأرض } أي في خلقهما وإيجادهما وما فيها من عجائب الصنعة لآيات المؤمنين تدلهم على استحقاق ربهم للعبادة دون سواه من سائر خلقه، وخص المؤمنون بهذه الآيات لأنهم أحياء يسمعون ويبصرون ويعقلون فهم إذا نظروا في السماوات والأرض تجلت لهم حقائق أن الخالق لهذه العوالم لن يكون إلا قادرا عليما حكيما عزيزا ومن ثم وجب أن لا يعبد إلا هو، وكل عبادة لغيره باطلة.
وقوله: وفي خلقكم أيها الناس أي في أطوار خلقكم من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى بشر سوى الخلقة معتدل المزاج والتركيب له سمع وبصر ونطق وفكر.
وما يبث من دابة أي وما يخلق وما يفرق وينشر في الأرض من أنواع الدواب والبهائم والحيوانات على اختلافها من برية وبحرية آيات لقوم يوقنون أي يوقنون في إيمانهم بالله تعالى وآياته، كما يوقنون بحقائق الأشياء الثابتة لها فالواحد مع الواحد اثنان والموجود ضد المعدوم، والأبيض خلاف الأسود،ة والابن لا بد له من أب، والعذب خلاف المر فأصحاب هذا اليقين يرون في خلق الإنسان والحيوان آيات دالة على وجود الله وعلمه وعزته وحكمته وقدرته على البعث والجزاء الذي أنكره عادمو العقول من المشركين والكافرين. وقوله: { واختلاف الليل والنهار } أي بتعاقبهما بمجيء الليل وذهاب النهار، والعكس كذلك وبطول أحدهما وقصر الآخر تارة والعكس كذلك وما أنزل الله من السماء من رزق أي من مطر هو سبب الرزق فأحيا به الأرض بعد موتها بيبس النبات وموته عليها، وتصريف الرياح من صبا إلى دبور، ومن شمال إلى جنوب ومن رخاء لينة إلى عاصفة ذات برد أو سموم إن في المذكورات آيات حججا ودلائل دالة على وجود عبادة الله وتوحيده في ذلك، ولكن لقوم يعقلون أي لذوي العقول النيرة السليمة. أما الذين لا عقول لهم فلا يرون ولا في غيرها آية فضلا عن آيات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عظم شأن القرآن الكريم لأنه تنزيل الله العزيز الحكيم.
2- الإيمان أعم من اليقين ومقدم عليه في الترتيب واليقين أعلى في الرتبة.
3- فضل العقل السليم إن استخدم في الخير وما ينفع.
4- تقرير ألوهية الله تعالى بتقرير ربوبيته في الخلق والتدبير والعلم والحكمة.
[45.6-11]
شرح الكلمات:
تلك آيات الله: أي تلك الآيات المذكورة آيات الله أي حججه الدالة على وحدانيته.
نتلوها عليك بالحق: أي نخبرك عنها بالحق لا بالباطل كما يخبر المشركون عن آلهتهم أنها تقربهم إلى الله زلفى كذبا وباطلا.
فبأي حديث بعد الله وآياته: أي فبأي حديث أيها المشركون بعد حديث الله هذا الذي يتلوه عليكم وبعد حججه هذه.
تؤمنون: أي تصدقون والجواب أنكم لا تؤمنون.
ويل لكل أفاك أثيم: أي عذاب الويل لكل كذاب ذي آثام كبيرة وكثيرة.
يسمع آيات الله تتلى عليه: أي يسمع آيات القرآن كتاب الله تقرأ عليه.
ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها: أي ثم يصر على الكفر حال كونه مستكبرا عن الإيمان والتوحيد كأن لم يسمعها.
وإذا علم من أياتنا شيئا: أي إذا بلغه شيء من القرآن وعلم أنه من القرآن.
اتخذها هزوا: أي اتخذ تلك الآية أو الآيات مهزوا بها متهكما ساخرا منها.
لهم عذاب مهين: أي ذو إهانة لهم يهانون به وتكسر أنوفهم.
من ورائهم جهنم: أي أمامهم جهنم وذلك يوم القيامة، والوراء يطلق على الأمام كذلك.
ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا: أي لا يكفى عنهم ما كسبوه من المال والأفعال التي كانوا يعتزون بها شيئا من الإغناء.
ولا ما اتخذوا من دون الله من أولياء: أي ولا يغني عنهم كذلك ما اتخذوه من أصنام آلهة عبدوها دون الله تعالى.
هذا هدى: أي هذا القرآن الذي أنزله الله تعالى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم هدى أي كله حجج وبراهين ودلالات هادية.
والذين كفروا بآيات ربهم: أي والذين كفروا بالقرآن فلم يهتدوا به وبقوا على ضلالهم من الشرك والمعاصي.
لهم عذاب من رجز أليم: أي لهم عذاب موجع من نوع الرجز وهو أشد أنواع العذاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية قريش فبعد أن بين تعالى آياته في الآفاق وفي الأنفس قال لرسوله صلى الله عليه وسلم تلك آيات الله أي تلك الآيات المذكورة أي آيات الله أي حججه الدالة على وجوده وعلمه وقدرته وموجبة لربوبيته على خلقه وألوهيته فهو الإله الحق الذي لا إله إلا هو حق سواه. وقوله فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون أي إن لم يؤمن هؤلاء المشركون بالله ربا وإلها لا رب غيره ولا إله سواه، وبآياته القرآنية الحاملة للهدى والخير والنور فبأي شيء يؤمنون أي يصدقون لا شيء يؤمنون لأن الاستفهام إنكاري والإنكار كالنفي في معناه.
وقوله { ويل لكل أفاك أثيم } يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها هذا وعيد من الله تعالى شديد لكل كذاب يقلب الكذب فيصف الطاهر بالخبيث والخبيث بالطيب والكاذب بالصادق، والصادق بالكاذب أثيم منغمس في كبائر الإثم والفواحش، يسمع هذا الأفاك الأثيم آيات الله تتلى عليه وهي القرآن الكريم، ثم يصر على الكفر مستكبرا عن الإيمان به وبما يدعو إليه من التوحيد، كأن لم يسمع تلك الآيات.
قال تعالى لرسوله فبشره بعذاب أليم وقوله تعالى وإذا علم أي ذلك الأفاك الأثيم من آياتنا شيئا كأن تبلغه الآية أو الآيات من القرآن اتخذها هزوا أي أخذ يهزأ بها ويسخر منها، ويواصل ذلك فيجعلها هزوا بها، قال تعالى: أولئك أي الأفاكون الآثمون وما أكثرهم لهم عذاب مهين أي فيه إهانة زائده تنكسر منها أنوفهم التي كانت تأنف الحق وتستكبر عنه. وقوله تعالى: { من ورآئهم جهنم } هذا وعيد لهم تابع للأول إذ أخبر تعالى أن من ورائهم جهنم وذلك يوم القيامة ولفظ الوراء يطلق ويراد به الأمام فهو من الألفاظ المشتركة في معنيين فأكثر وقوله { ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا } أي ولا يكفى عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا جاههم ولا كل ما كسبوا في هذه الدنيا أي لا يدفع ذلك عنهم شيئا من العذاب، وكذلك لا تغني عنهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله شيئا من دفع العذاب. ولهم عذاب عظيم لا يقادر قدره، وكيف والعظيم جل جلاله وصفه بأنه عظيم.
وقوله تعالى: { هذا هدى } أي هذا القرآن هدى أي يخرج من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان ومن الشرك إلى التوحيد لما فيه من الهدى والنور، ولما يدعو إليه من الحق والعدل والخير والذين كفروا به وأعرضوا عنه وهو آيات الله وحججه على خلقه هؤلاء لهم عذاب من رجز أليم أي عذاب هو من أشد أنواع العذاب لأنهم بالكفر بالآيات لم يزكوا أنفسهم ولم يطهروها فماتوا على أخبث النفوس وشرها فلا جزاء لهم إلا رجز العذاب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- القرآن نور وأعظم نور فمن لم يهتد عليه لا يرجى له الهداية أبدا.
2- الوعيد الشديد لأهل الإفك والآثام، والإفك الكذب المقلوب.
3- شر الناس من إذا سمع آيات الله استهزأ وسخر منها أو ممن يتلوها.
4- لم يغن عمن مات على الكفر شيء من كسب في هذه الحياة الدنيا من مال وولده وجاه وسلطان.
5- لم يغن عمن المشرك ما كان يعبد من دون الله أو مع الله من أصنام وأوثان وملائكة أو أنبياء أو أولياء.
[45.12-15]
شرح الكلمات:
الله الذي سخر لكم البحر: أي الله المعبود بحق لا الآلهة الباطلة سخر لكم أي لأجلكم البحر بأن جعله أملس تطفو فوقه الأخشاب ونحوها.
لتجري الفلك فيه بأمره: أي جعله كذلك لتجري السفن فيه بإذن الله تعالى.
ولتبتغوا من فضله: أي لتسافروا إلى طلب الرزق من إقليم إلى إقليم.
ولعلكم تشكرون: أي رجاء أن تشكرو نعم الله عليكم.
وسخر لكم ما في السماوات: أي من شمس وقمر ونجوم ورياح وماء أمطار.
وما في الأرض جميعا: أي وما في الأرض من جبال وأنهار وأشجار ومعادن منه تعالى.
إن في ذلك لآيات: أي علامات ودلائل وحجج على وجود الله وألوهيته.
لقوم يتفكرون: أي لقوم يستخدمون عقولهم فيتفكرون في وجود هذه المخلوقات ومن أوجدها ولماذا أوجدها فتتجلى لهم حقائق وجود الله وعلمه وقدرته ورحمته فيؤمنوا ويوحدوا.
قل للذين آمنوا يغفروا: أي قل يا رسولنا للمؤمنين من عبادنا يغفروا أي يتجاوزوا ولا يؤاخذوا.
الذين لا يرجون أيام الله: أي لا يتوقعون أيام الله أي بالإدالة منهم للمؤمنين فيذلهم الله وينصر المؤمنين عليهم وهم الرسول وأصحابه وهذا قبل الأمر بجهادهم.
ليجزي قوما بما كانوا يكسبون: أي ليجزي تعالى يوم القيامة قوما منهم وهم الذين علم تعالى أنهم لا يؤمنون بما كسبوه من أذى الرسول والمؤمنين.
من عمل صالحا فلنفسه : أي فهو الذي يرحم ويسعد به.
ومن أساء فعليها: أي ومن عمل سوءا فالعقوبة تحل به لا بغيره.
ثم إلى ربكم ترجعون: أي بعد الموت ويحكم بينكم فيما كان بينكم من خلاف وأذى.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هداية قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى: { الله الذي سخر لكم } تذكير لأولئك المعرضين بالحجج والآيات الدالة على وجوب الإيمان بالله وتوحيده وطاعته فهو تعالى يعرفهم أن ما بهم من نعم هي من الله لا من غيره من تلك الآلهة الباطلة الله لا غيره هو الذي سخر لكم أي ذلل ويسر وسهل ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم وسحب وأمطار ورياح لمنافعكم، وسخر لكم ما في الأرض من جبال وأشجار وأنهار وبحار ومعادن وحيوانات على اختلافها كل ذلك منه وهو وهبه لكم، إن في ذلك المذكور من إنعام الله عليكم بكل ما سخر لكم لأيات لقوم يتفكرون فيهديهم تفكيرهم إلى وجوب حمد الله تعالى وشكره بعد أن آمنوا به ووحدوه في ربوبيته وألوهيته، وقوله تعالى: { قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون }. يأمر تعالى رسوله أن يقول لصحابته أيام الخوف في مكة قبل الهجرة إصفحوا وتجاوزوا عمن يؤذيكم من كفار قريش، ولا تردوا الأذى بأذى مثله بل اغفروا لهم ذلك وتجاوزوا عنه، وقد نسخ هذا بالأمر بالجهاد.
وقوله تعالى: { ليجزي قوما بما كانوا يكسبون } تعليل للأمر بالصفح والتجاوز أي ليؤخر لهم ذلك إلى يوم القيامة ويجزيهم به أسوأ الجزاء لأنه كسب من شر المكاسب إنه أذية النبي والمؤمنين أولياء الله، وفي تنكير قوما يدل على أن بعضهم سيؤمن ولا يعذب يوم القيامة فلا يعذب إلا من مات على الكفر والشرك منهم.
وقوله تعالى: { من عمل صلحا فلنفسه } أي من عمل صالحا في هذه الحياة الدنيا من إيمان وطاعة لله ورسوله في أوامرهما ونواهيهما فزكت بذلك نفسه وتأهل لدخول الجنة فإن الله يدخله الجنة ويكون عمله الصالح قد عاد عليه ولم يعد على غيره إن الله غني عن عمل عباده، وغير العامل لا تطهر نفسه ولا تزكو بعمل لم يباشره بنفسه، وقوله ومن أساء أي في حياته فلم يؤمن ولم يعمل صالحا يزكي به نفسه، فجزاء كسبه السيء من الشرك والمعاصي عائد على نفسه عذابا في النار وخلودا فيها.
وقوله تعالى: { ثم إلى ربكم ترجعون } أي إنكم أيها الناس بعد هذه الحياة وما عملتم فيها من صالح وسيء ترجعون إلى الله يوم القيامة ويجزيكم كلا بحسب عمله الخير بالخير والشر بمثله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد والبعث والجزاء والنبوة.
2- بيان علة الإنعام الإلهي على العبد وهي أن يشكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وصرف تلك النعم في مرضاته تعالى لا في معاصيه الموجبة لسخطه.
3- مشروعية التسامح مع الكفار والتجاوز عن أذاهم في حال ضعف المسلمين.
4- تقرير قاعدة أن المرء لا يؤخذ بجريرة غيره.
5- تقرير أن الكسب يؤثر في النفس ويكون صفة لها وبه يتم الجزاء في الدار الآخرة من خير وغيره قال تعالى سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (الأنعام).
[45.16-20]
شرح الكلمات:
الكتاب: أي التوراة لأنها الحاوية للأحكام الشرعية بخلاف الزبور والإنجيل.
والحكم: أي الفصل في القضايا بين المتنازعين على الوجه الذي يحقق العدل.
والنبوة ورزقناهم من الطيبات: أي جعلنا فيهم النبوة كنبوة موسى وهارون وداود وسليمان، ورزقهم من الطيبات كالمن والسلوى وغيرهما.
وفضلناهم على العالمين: أي على عالمي زمانهم من الأمم المعاصرة لهم.
إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم: أي لم يختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بغيا بينهم أي حسدا للعرب أولاد إسماعيل أن تكون النبوة فيهم.
ثم جعلناك على شريعة من الأمر: أي ثم جعلناك يا رسولنا على شريعة من أمر الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده.
فاتبعها: أي الزم الأخذ بها والسير على طريقها فأنها تفضي بك إلى سعادة الدارين.
ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون: من مشركي العرب ومن ضلال أهل الكتاب.
إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا: أي إن أنت تركت ما شرع لك واتبعت ما يقترحون عليك أن تفعله مما يوافق أهواءهم إنك إن اتبعتهم لن يدفعوا عنك من العذاب الدنيوي والآخروي شيئا.
وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض: أي ينصر بعضهم بعضا في الدنيا أما في الآخرة فإنهم لا ينصرون.
والله ولي المتقين: أي متوليهم في أمورهم كلها وناصرهم على أعدائهم.
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون: أي هذا القرآن أي أنوار هداية يهتدون به إلى ما يكملهم ويسعدهم، وهدى ورحمة، ولكن لأهل اليقين في إيمانهم فهم الذين يهتدون به ويرحمون عليه أما غير الموقنين فلا يرون هداه ولا يجدون رحمته لأن شكهم وعدم إيقانهم يتعذر معهما أن يعملوا به في جد وصدق وإخلاص.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية قوم النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم حالا شبيهة بحالهم لعلهم يجدون فيها ما يذكرهم ويعظهم فيؤمنوا ويوحدوا قال تعالى: { ولقد آتينا بني إسرائيل } أي أعطينا بني إسرائيل وهم أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل وهو ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن آتيناهم { الكتاب } التوراة { والحكم } وهو الفقه بأحكام الشرع والإصابة في العمل والحق فيها ثمرة إيمانهم وتقواهم { والنبوة } فجعلنا منهم أنبياء ورسلا كموسى وهارون ويوسف وداود وسليمان وعيسى، وفضلناهم على العالمين أي على فرعون وقومه من الأقباط، وعلى من جاور بلادهم من الناس، وذلك أيام إيمانهم واستقامتهم، وآتيناهم بينات من الأمر أمر الدين تحملها التوراة والإنجيل { فما اختلفوا إلا من بعد ما جآءهم العلم } الإلهي يحمله القرآن ونبيه فاختلفوا فيما كان عندهم من الأنباء عن نبي آخر الزمان ونعوته وما سيورثه الله وأمته من الكمال الدنيوي والآخروي فحملهم بغي حدث بينهم وهو الحسد على الكفر فكفروا به وكذبوه فهذه الآية نظيرها آية البقرة:
فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
[الآية: 89] وكقوله في سورة البينة
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة
[الآية: 1-2] وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة، ومن جهة أخرى إعلام منه تعالى بأنه سبحكم بينهم ويفصل ويؤدى كل واحد ثمرة كسبه من خير وشر في هذه الحياة وذلك يوم القيامة.
وقوله: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر } أي من أمر ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فلم تختلف شريعتك في أصولها على شرائعهم، وعليه فاتبعها ولاتحد عنها متبعا أهواء الذين لا يعلمون من زعماء قريش الذين يقدمون لك اقتراحاتهم من الوقت إلى الوقت ولا أهواء ضلال أهل الكتابين من اليهود والنصارى إنهم جهال لا يعلمون هدى الله، ولا ما هو سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة في الآخرة، ولا هو سبيل العزة والكرامة والدولة والقوة في الدنيا.
وقوله: { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا } أي إنك إن اتبعت أهواءهم واستوجبت العذاب لن يدفعوا عنك ولن يكفوك شيئا منه، وقوله: { وإن الظالمين بعضهم أوليآء بعض } أي في الدنيا فيتعاونون على الباطل والشر أما في الآخرة فلا ينصر بعضهم بعضا ولا هم ينصرون من قبل أحد والله ولي المتقين، أما المتقون فالله وليهم في الدنيا والآخرة، فعليك بولاية الله، ودع ولاية أعدائه، فإنها لن تغني عنك شيئا.
وقوله تعالى: { هذا بصائر للناس } يريد القرآن الكريم إنه عيون القلوب بها تبصر النافع من الضار والحق من الباطل فمن آمن به وعمل بما فيه اهتدى إلى سعادته وكماله ومن لم يؤمن به ولم يعمل بما فيه ضل وشقى. وقوله { وهدى ورحمة لقوم يوقنون } أي أن القرآن الكريم كتاب هداية ورحمة عليه يهتدي المهتدون، ويرحم المرحومون وهم الذين أيقنوا بهدايته ورحمته فعملوا به عقائد وعبادات وأحكاما وآدابا وأخلاقا فحصل لهم ذلك كما حصل للسلف الصالح من هذه الأمة، وما زال القرآن كتاب هداية ورحمة لكل من آمن به وأيقن فعمل وطبق بجد وصدق أحكامه وشرائعه وآدابه وأخلاقه التي جاء بها وقد كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن لقول عائشة رضي الله عنها في الصحيح كان خلقه القرآن.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن كفر أهل الكتاب كان حسدا للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب.
2- بيان إفضال الله تعالى على بني إسرائيل حيث أعطاهم الكتاب والحكم والنبوة. ومع هذا اختلفوا في الحق حسدا وطمعا في الرئاسة وإقامة مملكة بني إسرائيل من النيل إلى الفرات.
3- تقرير البعث والجزاء والنبوة والتوحيد .
4- وجوب لزوم تطبيق الشريعة الإسلامية وعدم التنازل عن شيء منها.
5- تقرير ولاية الله تعالى لأهل الإيمان به وتقواه بفعل محابه وترك مساخطه.
6- بيان أن القرآن كتاب هداية وإصلاح، ولا يتم شيء من هداية الناس وإصلاحهم إلا عليه.
[45.21-23]
شرح الكلمات:
اجترحوا السيئات: أي اكتسبوا بجوارحهم الشرك والمعاصي.
سواء محياهم ومماتهم: أي محياهم ومماتهم سواء، لا لا المؤمنون في الجنة والمشركون في النار.
ساء ما يحكمون: أي ساء حكما حكمهم بالتساوي مع المؤمنين.
ولتجزى كل نفس بما كسبت: أي وليجزى الله كل نفس ما كسبت من خير وشر.
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه: أي أخبرني عمن اتخذ أي جعل إلهه أي معبوده هواه.
وأضله الله على علم: أي على علم من الله تعالى بأنه أهل للإضلال وعدم الهداية.
وجعل على بصره غشاوة: أي ظلمة على عينيه فلا يبصر الآيات والدلائل.
أفلا تذكرون: أي أفلا تتذكرون أيها الناس فتتعظون.
معنى الآيات
لما ذكر تعالى في الآيات قبل هذه الظالمين والمتقين وجزاء كل منهم وأنه كان مختلفا باختلاف نفوس الظالمين والمتقين خبثا وطهرا ذكر هنا ما يقرر ذلك الحكم وهو اختلاف جزاء الظالمين والمتقين فقام: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أي اكتسبوها بجوارحهم، والمراد بها الشرك والمعاصي أن نجعلهم كالذين آمنوا بالله ربا وإلها وبكل ما أمر تعالى بالإيمان به، وعملوا الصالحات من إقام الصلاة وآيتاه الزكاة وصيام رمضان والجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما إلى ذلك من الصالحات. سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون أي ساء حكما حكمهم هذا ومعنى هذا أن الله تعالى أنكر على من يحسب هذا الحسبان ويظن هذا الظن الفاسد وهو أن يعيش الكافر والمؤمن في هذه الحياة الكافر يعيش على المعاصي والذنوب والمؤمن على الطاعة والحسنات ثم يموتون ولا يجزى الكافر على كفره والمؤمن على إيمانه، وأسوأ من هذا الظن ظن آخر كان ليعضهم وهو أنهم إذا ماتوا يكرمون وينعم عليهم بخير ما يكرم به المؤمنون وينعم به عليهم. وهذا غرور عجيب، فأنكر تعالى عليهم هذا الظن الباطل وحكم انه لا يسوى بين بر وفاجر، ولا بين مؤمن وكافر لأن ذلك مناف للعدل والحق والله خلق السماوات والأرض بالحق، وأنزل الشرائع وأرسل الرسل ليعمل الناس في هذه الحياة الدنيا فمن آمن وعمل صالحا كانت الحسنى له جزاء، ومن كفر وعمل سوءا كانت جهنم جزاءه، وهو معنى قوله تعالى: { وخلق الله السموت والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت } أي من خير وشر، وهم لا يظلمون لأن العدالة الإلهية هي التي تسود يوم القيامة وتحكم.
وقوله تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } أي جعل معبوده ما تهواه نفسه فما هويت قولا إلا قاله، ولا عملا إلا عمله ولا اعتقادا إلا اعتقده ضاربا بالعقل والشرع عرض الحائط فلا يلتفت إليهما ولا يستمع إلى ندائهما. وقوله تعالى { وأضله الله على علم } أي منه تعالى حيث سبق في علمه أن هذا الإنسان لا يهتدي ولو جاءته كل آية فكتب ذلك عليه فهو كائن لا محالة، وقوله { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } أي وختم تعالى على سمعه حسب سنته في ذلك فأصبح لا يسمع الهدى ولا الحق كأنه أصم لا يسمع، وأصبح لا يعقل معاني ما يسمع وما يقال له كأنه لا قلب له، وأصبح لما على بصره من ظلمة لا يرى الأدلة ولا العلامات الهادية إلى الحق وإلى الطريق المستقيم المفضي بسالكه إلى النجاة من النار ودخول الجنة، وقوله تعالى: { فمن يهديه من بعد الله } وقد أضله الله والجواب لا أحد.
كقوله تعالى من سورة النحل
فإن الله لا يهدي من يضل
[الآية: 37] أي من أضله الله تعالى حسب سنته في الإضلال وهي أن يدعى العبد إلى أحد بعد أن أضله الله تعالى.
وقوله تعالى: { أفلا تذكرون } أي أفلا تذكرون فتتعظون أيها الناس فتؤمنوا وتوحدوا وتعملوا الصالحات فتكملوا وتسعدوا في الدنيا وتنجو من النار وتدخلوا الجنة في الآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بطلان اعتقاد الكافرين في أن الناس يحيون ويموتون بلا جزاء على الكسب صالحه وفاسده .
2- تقرير البعث والجزاء.
3- موعظة كبيرة في هذه الآية أم حسب الذين اجترحوا السيئات إلى آخرها حتى إن أحد رجال السلف الصالح قام يتهجد من الليل فقرأ حتى انتهى إلى هذه الآية فأخذ يرددها ويبكي حتى طلع الفجر.
4- التنديد بالهوى والتحذير من اتباعه فقد يفضي بالعيد إلى ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فيصبح معبوده هواه لا الرب تعالى مولاه.
5- التحذير من ارتكاب سنن الضلال المفضي بالعبد إلى الضلال الذي لا هداية معه.
[45.24-26]
شرح الكلمات:
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا: أي قال منكروا البعث ما الحياة إلا هذه الحياة، وليس وراءها حياة أخرى.
نموت ونحيا: أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا بأن يولدوا فيحيوا ويموتوا.
وما يهلكنا إلا الدهر: أي وما يميتنا إلا مرور الزمان علينا.
وما لهم بذلك من علم: أي وليس لهم أدنى علم على قولهم لا من وحي وكتاب إلهي ولا من عقل صحيح.
إن هم إلا يظنون: أي ما هم إلا يظنون فقط والظن لا قيمة له ولا يبنى عليه حكم.
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات: أي وإذا قرئت عليهم الآيات الدالة على البعث والجزاء الأخرى بوضوح.
ما كان حجتهم: أي لم تكن لهم من حجة إلا قولهم.
إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا: إلا قولهم أحيوا لنا آباءنا الذين ماتوا وأتوا بهم إلينا.
إن كنتم صادقين: إن كنتم صادقين فيما تخبروننا به من البعث والجزاء.
قل الله يحييكم ثم يميتكم: أي قل لهم يا رسولنا الله الذي يحييكم حين كنتم نطفا ميته، ثم يميتكم.
ثم يجمعكم إلى يوم القيامة: أي ثم بعد الموت يجمعكم إلى يوم القيامة للحساب والجزاء.
لا ريب فيه: أي يوم القيامة الذي لا ريب ولا شك في مجيئه في وقته المحدد له.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون: أي لا يعلمون لعدم تلقيهم العلم عن الوحي الإلهي لكفرهم بالرسل والكتب.
معنى الآيات:
تقدم في الآيات بيان اعتقاد بعض المشركين في استواء حال المؤمنين والكافرين يوم القيامة وأن الله تعالى أبطل ذلك الاعتقاد منكرا له عليهم، وهنا حكى قول منكري البعث بالكلية ليرد عليهم وفي ذلك دعوة لعامة الناس إلى الإيمان والعمل الصالح للإسعاد والكمال في الحياتين ولله الحمد والمنة فقال عز وجل: { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنآ إلا الدهر } أي وقال منكرو البعث والجزاء يوم القيامة ما هناك إلا حياتنا هذه التي نحياها وليس وراءها حياة أخرى، إننا نموت ونحيا أي نموت نحن الأحياء ويحيا أبناؤنا من بعدنا وهكذا تستمر الحياة أبدا يموت الكبار ويحيا الصغار، وما يهلكنا إلا الدهر أي وما يميتنا ويفنينا إلا مرور الزمان وطول الأعمار وهو إلحاد كامل وإنكار للخالق عز وجل وهو تناقص منهم لأنهم إذا سئلوا من خلقهم يقولون الله فينسبون إليه الخلق وهو أصعب ولا ينسبوا إليه الإماته وهي أهون من الخلق فرد تعالى عليهم مذهبهم " الدهرى " بقوله: { وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } أي ليس لهم على معتقدهم هذا أدنى علم نقليا كان ولا عقليا أي لم يتلقوه عن وحي أوحاه الله إلى من شاء من عباده ولا عن عقل سليم راجح لا ينقض حكمه كالواحد مع الواحد اثنان والأبيض خلاف الأسود وما إلى ذلك من القضايا العقلية التي لا ترد فهؤلاء الدهريون ليس لهم شيء من ذلك ما لهم إلا الظن والخرص وقضايا العقيدة لا تكون بالظن.
والظن أكذب الحديث.
وقوله تعالى { وإذا تتلى عليهم ءايتنا بينات } أي وإذا قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات القرآن الدالة على البعث والجزاء تدعوهم إلى الإيمان به واعتقاده { ما كان حجتهم } أي لم تكن لهم من حجة يردون بها ما دعوا إليه إلا قولهم: ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أي أحيوا لنا آباءنا الذين ماتوا وأحضروهم عندنا إن كنتم صادقين فيما تخبروننا من البعث والجزاء. فقال تعالى في رد هذه الشبهة وبيان للحق في المسألة قل الله يحييكم ثم يميتكم، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي قل يا رسولنا لهؤلاء الدهريين المنكرين للبعث الله يحييكم إذ كنتم نطفا ميته فأحياكم، ثم يميتكم بدون اختياركم فالقادر على الإحياء والإماته وفعلا هو يحيي ويميت لا يحيل العقل أن يحيي من أحياهم ثم أماتهم وإنما لم يحيهم اليوم كما طلبتم لأنه لا فائدة من إحيائهم بعد أن أحياهم ثم أماتهم هذا أولا وثانيا إحياؤهم لكم اليوم يتنافى مع الحكمة العالية في خلق هذه الحياة الدنيا والآخرة إذ خلقوا ليعملوا، ثم يجازوا بأعمالهم خيرها وشرها. ولهذا قال ثم يجمعكم أي أحياء في يوم القيامة للحساب والجزاء وقوله لا ريب فيه أي لا شك في وقوعه ومجيئه إذ مجيئه حتمي لقيام الحياة الدنيا كلها عليه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا لأمرين الأول أنهم لا يفكرون ولا يتعقلون والثاني أنهم لتكذيبهم بالوحي الإلهي سدوا في وجوههم طريق العلم الصحيح فهم لا يعلمون، ولا يعلمون حتى يؤمنوا بالوحي ويسمعوه ويتفهموه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء.
2- الرد على الدهريين وهم الذين ينسبون الحياة والموت للدهر وينفون وجود الخالق عز وجل.
3- بيان أن الكفار لا دليل لهم عقلي ولا نقلي على صحة الكفر عقيدة كان أو عملا.
4- عدم إحياء الله تعالى للمطالبين بحياة من مات حتى يؤمنوا لم يكن عن عجز بل لأنه يتنافى مع الحكمة التي دار عليها الكون كله.
5- بيان أن أكثر الناس لا يعلمون وذلك لأنهم كذبوا بالوحي الإلهي في الكتاب والسنة.
6- بيان أنه لا علم صحيح إلا من طريق الوحي الإلهي.
[45.27-32]
شرح الكلمات:
ولله ملك السماوات والأرض: أي خلقا وملكا وتصرفا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
يخسر المبطلون: أي ويوم تقوم الساعة التي أنكرها الكافرون يخسر أصحاب الباطل بصيرورتهم إلى النار.
وترى كل أمة جاثية: أي كل أمة ذات دين جاثية على ركبها تنتظر حكم الله فيها.
تدعى إلى كتابها: أي إلى كتاب أعمالها فهو الحكم فيها إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر.
اليوم تجزون ما كنتم تعملون: أي يقال لهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر.
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق: أي ديوان الحفظة الذي دونوه من أعمال العقلاء من الناس شاهد عليكم بالحق.
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون: أي نأمر بنسخ ما كنتم تعملون.
فيدخلهم ربهم في رحمته: أي فيدخلهم في جنته.
ذلك هو الفوز المبين: أي الفوز البين الظاهر وهو النجاة من النار ودخول الجنة.
أفلم تكن آياتي تتلى عليكم: أي يقال لهم ألم تأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم.
فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين: أي عن آيات الله فلم تؤمنوا بها وكنتم بذلك قوما كافرين.
إن وعد الله حق: أي بالبعث والجزاء العادل يوم القيامة حق ثابت.
إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين: أي ما كنا مستيقنين بالبعث وإنما كنا نظنه لا غير ولا نجزم به.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى { ولله ملك السماوات والأرض } خلقا وإيجادا وملكا وتصرفا ومن كان هذا وصفه من القدرة والعلم والحكمة لا ينكر عليه بعث العباد بعد موتهم وجمعهم للحساب والجزاء. وقوله ويوم تقوم الساعة التي ينكرها المنكرون يومئذ يخسر المبطلون يخسرون كل شيء حتى أنفسهم يخسرون منازلهم في الجنة يرثها عنهم المؤمنون ويرثون هم المؤمنين منازلهم في النار ذلك هو الخسران المبين وقوله تعالى: { وترى كل أمة جاثية } أي وترى أيها الرسول يوم القيامة كل أهل دين وملة وقد جثوا على ركبهم خوفا وذلا مستوفزين للعمل بما يؤمرون به. وقوله { كل أمة تدعى إلى كتابها } أي الذي أنزل على نبيها لتعمل بما جاء فيه من عقائد وشرائع ويقال لهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون أي في الدنيا من خير وشر. فإذا حاولوا الإنكار قيل لهم: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، وهو كتاب الأعمال الذي دونته الحفظة وقوله { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } أي نأمر ملائكتنا بنسخ أعمالهم أي باثباتها وحفظها وها هي ذي بين أيديكم ناطقة صارخة بما كنتم تعملون.
قال تعالى مفصلا للحكم الناتج عن شهادة الكتاب { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي وتركوا الشرك والمعاصي فيدخلهم ربهم جزاء لهم في رحمته وهي الجنة دار المتقين ذلك هو الفوز المبين أي إدخالها الجنة بعد إنجائهم من النار هو الفوز المبين إذا الفوز معناه، النجاة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب.
هذا جزاء أهل الإيمان والتقوى وأما الذين كفروا وهم أهل الشرك والمعاصي فيقال لهم: { أفلم تكن ءايتى تتلى عليكم } أي ألم تأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم؟ بل كانت تتلى عليكم فاستكبرتم عنها فلم تتعرفوا إلى ما فيها وإلى ما تدعوا إليه، وكنتم باستكباركم عنها قوما مجرمين على أنفسكم إذا أفسدتموها بالشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: { وإذا قيل إن وعد الله حق } أي وعده تعالى بالبعث والجزاء حق لا بد واقع الساعة آتية لا ريب فيها أي جاثية لا محالة ولا ريب في وقوعها بحال من الأحوال قلتم ما ندري ما الساعة متجاهلين لها متعجبين من وقوعها. وقلتم إن نظن إلا مجرد ظن فقط وما نحن بمستيقنين بمجيئها، وهذا بالنسبة إلى بعض الناس، وإلا فقد تقدم أن بعضهم كان ينكر البعث بالكلية وهذا ظاهر في كثير من الناس الذين يؤمنون بالله وبلقائه وهم لا يفترون من المعاصي ولا يقصرون عن فعل الشر والفساد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يقع يوم القيامة.
2- تقرير عقيدة كتابة أعمال العباد وتقديمها لهم يوم القيامة في كتاب خاص.
3- تقرير أن الإيمان والعمل الصالح سبب الفوز، وأن الشرك والمعاصي سبب الخسران المبين.
4- الظن في العقائد كالكفر بها، والعياذ بالله تعالى.
[45.33-37]
شرح الكلمات
وبدا لهم سيئات ما عملوا: أي ظهر لهم في يوم القيامة جزاء سيئات ما عملوه في الدنيا من الشرك والمعاصي.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون: أي نزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به إذا ذكروا به وخوفوا منه في الدنيا.
وقيل اليوم ننساكم: أي وقال الله تعالى لهم اليوم ننساكم أي نترككم في النار.
كما نسيتم لقاء يومكم هذا: أي مثل ما نسيتم يومكم هذا فلم تعملوا له بما ينجى فيه وهو الإيمان والعمل الصالح، وترك الشرك والمعاصي.
ومأواكم النار: أي ومحل إقامتكم النار.
ومالكم من ناصرين: أي من ناصرين ينصرونكم بإخراجكم من النار.
ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله: أي ذلكم العذاب كان لكم بسبب كفركم واتخاذكم آيات الله هزوا.
هزوا: أي شيئا مهزؤا به.
وغرتكم الحياة الدنيا: أي طول العمر والتمتع بالشهوات والمستلذات.
ولا هم يستعتبون: أي لا يؤذن لهم في الاستعتاب ليعتبوا فيتوبوا.
فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض: أي فلله وحده الوصف بالجميل لإنجاز وعيده لأعدائه.
وله الكبرياء في السماوات والأرض: أي العظمة والحكم النافذ الناجز على من شاء.
وهو العزيز الحكيم: أي وهو العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبير خلقه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عرض مشاهد القيامة وبعض ما يتم فيها من عظائم الأمور لعل السامعين لها يتعظون بها فقال تعالى: { وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } أي وظهر للمشركين المكذبين بالبعث والجزاء ظهر لهم وشاهدوا العذاب الذي كانوا إذا ذكروا به أو خوفوا منه استهزأوا به وسخروا منه. وقد حل بهم ونزل بساحتهم وأحاط بهم وقال لهم الرب تعالى اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا أي نترككم في عذاب النار كما تركتم العمل المنجى من هذا العذاب وهو الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي. ومأواكم النار أي هي مأواكم ودار إقامتكم { وما لكم من ناصرين } أي وليس لكم من ينصركم فيخلصكم من النار، وعلة هذا الحكم عليهم بينها تعالى بقوله { ذلكم بأنكم اتخذتم ءايت الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا } أي حكم عليكم بالعذاب والخذلان بسبب اتخاذكم آيات الله الحاملة للحجج والبراهين الدالة على وجود الله ووجوب توحيده وطاعته هزوا أي شيئا مهزوا به، { وغرتكم الحياة الدنيا } بزخرفها وزينتها، وطول أعماركم فيها فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا ينجيكم من هذا العذاب الذي حاق بكم اليوم. قال تعالى { فاليوم لا يخرجون منها } وترك مخاطبتهم إشعارا لهم بأنهم لا كرامة لله لهم اليوم فلم يقل فاليوم لا تخرجون منها، بل عدل عنها إلى قوله { فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون } أي لم يطلب منهم أن يعتبوا ربهم بالتوبة إليه، إذ لا توبة بعد الموت والرجوع إلى الدنيا غير ممكن في حكم الله وقضائه.
وهنا تعظم حسرتهم ويشتد العذاب عليهم ويعظم كربهم.
وقوله تعالى: { فلله الحمد رب السموت ورب الأرض رب العالمين } أي رب كل شيء ومليكه حمد نفسه، وقصر الحمد عليه بعد أن أنجز ما أوعد به الكافرين، وذكر موجب الحمد وهو سلطانه القاهر في السماوات وفي الأرض، وقوله { وله الكبريآء } أي العظمة والسلطان { في السماوات والأرض وهو العزيز } الذي لا يمانع ولا يغالب، والشديد الانتقام، الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه الحكيم في تدبير خلقه ويتجلى ذلك في إكرام أوليائه برحمتهم، وإهانة أعدائهم بتعذيبهم في دار العذاب النار وبئس المصير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الاستهزاء بآيات الله وشرائعه كفر موجب للعذاب.
2- تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل، وكما يدين الفتى يدان.
3- مشروعية الحمد عند الفراغ من أي عمل صالح أو مباح.
[46 - سورة الأحقاف]
[46.1-6]
شرح الكلمات
حم: هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا: حم ويقرأ هكذا: حاميم.
تنزيل الكتاب: أي تنزيل القرآن.
من الله العزيز الحكيم: أي من لدن الله العزيز في ملكه الحكيم في صنعه.
إلا بالحق وأجل مسمى: أي ما خلقنا السماوات والأرض إلا خلقا متلبسا بالحق وبأجل مسمى لفنائهما.
عما أنذروا معرضون: أي عن ما خوفوا به من العذاب معرضون عنه غير ملتفتين إليه.
ما تدعون من دون الله: أي من الأصنام والأوثان.
أروني ماذا خلقوا من الأرض: أي أشيروا إلى شيء خلقوه من الأرض.
أم لهم شرك في السماوات: أي أم لهم شركة.
أئتوني بكتاب من قبل هذا: أي منزل من قبل القرآن.
أو أثارة من علم: أي بقية من علم يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام.
إن كنتم صادقين: أي في دعواكم أن عبادة الأصنام والأوثان تقربكم من الله تعالى .
من لا يستجيب له إلى يوم القيامة: أي لا أحد أضل ممن يدعو من لا يستجيب له في شيء يطلبه منه أبدا.
وهم عن دعائهم غافلون: أي وهم الأصنام أي عن دعاء المشركين إياهم غافلون لا يعرفون عنهم شيئا.
وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء: أي في يوم القيامة كانت الأصنام أعداء لعابديها.
وكانوا بعبادتهم كافرين: أي وكانت الأصنام بعبادة المشركين لها جاحدة غير معترفة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { حم } الله أعلم بمراده به إذ هذه من المتشابه الذي يجب الإيمان به وتفويض أمر معناه إلى الله منزلة. وقوله { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } أي تنزيل القرآن الكريم من لدن الله العزيز الحكيم العزيز في ملكه الحكيم في صنعه وتدبيره. وقوله تعالى { ما خلقنا السموت والأرض وما بينهمآ } من العوالم والمخلوقات { إلا بالحق } أي إلا لحكم عالية وليس من باب العبث واللعب، وإلا بأجل مسمى عنده وهو وقت إفنائهما وإنهاء وجودهما لاستكمال الحكمة من وجودهما. وقوله تعالى: { والذين كفروا عمآ أنذروا معرضون } يخبر تعالى بأن الذين كفروا بتوحيد الله ولقائه وآياته ورسوله عما خوفوا به من عذاب الله المترتب على كفرهم وشركهم معرضون غير مبالين به، وذلك لظلمة نفوسهم، وقساوة قلوبهم. وقوله تعالى { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله } أي من الأصنام والأوثان { أروني ماذا خلقوا من الأرض } أي من شيء { أم لهم شرك في السموت } ولو أدنى شرك وأقله، وقوله { ائتوني بكتاب من قبل هذآ أو أثارة من علم } أي بقية من علم تشهد بصحة عبادة ودعاء آلهة لم تخلق شيئا من الأرض وليس لها أدنى شرك في السماوات { إن كنتم صادقين } في دعواكم أنها آلهة تستحق أن تعبد، وقوله تعالى { ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } ينفي تعالى على علم تام أنه لا أضل من أحد يدعو من غير الله تعالى معبودا لا يستجيب له في قضاء حاجة أو قضاء وطر مهما كان صغيرا أبدا وحقا لا أحد أضل ممن يقف أمام جماد لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق يدعوه ويسأله حاجته وقوله { وهم عن دعآئهم غافلون } أي وأولئك الأصنام المدعوون غافلون تماما عن داعيهم لا يعلمون عنه شيئا لعدم الحياة فيهم، ولو كانوا يوم القيامة ينطقهم الله ويتبرءون ممن عبدوهم ويخبرون أنهم ما عبدوهم ولكن عبدوا الشيطان الذي زين لهم عبادتهم، وهو ما دل عليه قوله تعالى { وإذا حشر الناس } أي ليوم القيامة كانوا لهم أعداء وخصوما وكانوا بعبادتهم من دعاء وذبح ونذر وغيره كافرين أي جاحدين غير معترفين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إثبات النبوة المحمدية بتقرير أن القرآن تنزيل الله على رسول المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
2- انتفاء العبث عن الله تعالى في خلقه السماوات والأرض. وما بينهما وفي كل أفعاله وأقواله.
3- تقرير حقيقة علمية وهي من لا يخلق لا يعبد.
4- بيان أنه لا أضل في الحياة من أحد يدعو من لا يستجيب له أبدا كمن يدعون الأصنام والقبور والأشجار بعنوان التوسل والاستشفاع والتبرك.
[46.7-9]
شرح الكلمات:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات: أي أهل مكة من كفار قريش، والآيات آيات القرآن والبينات الواضحات.
قال الذين كفروا للحق لما جاءهم: أي من كفار قريش للحق أي القرآن لما قرأه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا سحر مبين: أي قالوا في القرآن سحر مبين أي ظاهر لما رأوا من تأثيره على النفوس.
أم يقولون افتراه: أي بل أيقولون افتراه أي اختلقه من نفسه.
قل إن افتريته: أي قل لهم يا نبينا إن اختلقته من نفسي.
فلا تملكون لي من الله شيئا: أي فأنتم لا تملكون لي من الله شيئا إن أراد أن يعذبني.
هو أعلم بما تفيضون فيه: أي هو تعالى أعلم بما تخوضون فيه من القدح والطعن في وفي القرآن.
كفى به شهيدا بيني وبينكم: أي كفى به تعالى شهيدا بيني وبينكم.
ما كنت بدعا من الرسل: أي لم أكن أول رسول فأكون بدعا من الرسل بل سبقني رسل كثيرون.
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم: أي في هذه الحياة هل أخرج من بلدي، أو أقتل، وهل ترجمون بالحجارة أو يخسف بكم.
إن أتبع إلا ما يوحى إلي: أي ما أتبع إلا ما يوحيه إلي ربي فأقول وأفعل ما يأمرني به.
وما أنا إلا نذير مبين: أي وما أنا إلا نذير لكم بين الأنذار.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة العرب عامة وقريش خاصة إلى الإيمان والتوحيد فإذا قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن دعوة لهم إلى الإيمان والتوحيد قالوا ردا عليه ما أخبر به تعالى في قوله { وإذا تتلى عليهم } أي على كفار قريش { آياتنا بينات } أي ظاهرات الدلالة واضحات المعاني { قال الذين كفروا } بالله وبرسوله ولقائه وتوحيده قالوا { للحق } وهو القرآن { لما جآءهم هذا سحر مبين } بل قالوا ما هو أشنع في الكذب وأبشع في النظر إذ قالوا ما أخبر به تعالى عنهم في قوله { أم يقولون افتراه } أي بل أيقولون افتراه أي اختلقه وتخرصه من نفسه وليس هو بكلام الله ووحيه إليه. وقوله تعالى { قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا } أي على فرض أنني افتريته على الله وقلت أوحي إلي ولم يوح إلي وأراد الانتقام مني بتعذيبي، فهل أنتم أو غيركم يستطيع دفع العذاب عني، وعليه فكيف أعرض نفسي للعذاب بالافتراء على الله تعالى، فهذا لن يكون مني أبدا. وقوله تعالى { هو أعلم بما تفيضون فيه } أي الله جل جلاله هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه مندفعين في الكلام تطعنون في وفي القرآن فتقولون في ساحر وفي القرآن سحر مبين وتقولون في مفتر وفي القرآن افتراء إلى غير ذلك من المطاعن والنقائص { كفى به شهيدا بيني وبينكم } أي كفى بالله شهيدا علي وعليكم فيما أقول وفيما تقولون وسيجزي كلا بما عمل { وهو الغفور الرحيم } لمن تاب فتوبوا إليه يغفر كفركم وخوضكم في الباطل ويرحمكم فإنه تعالى غفور لمن تاب رحيما بمن آمن وأناب.
وقوله تعالى في الآية [9] { قل ما كنت بدعا من الرسل } يأمر تعالى رسوله أن يقول لأولئك المشركين المفيضين في الطعن في القرآن والرسول في أغلب أوقاتهم وأكثر مجالسهم { ما كنت بدعا من الرسل } أي ما أنا بأول عبد نبىء وأرسل فأكون بدعا في هذا الشأن فينكر علي أو يستغرب مني بل سبقتني رسل كثيرة. وقوله { ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم } أي وقل لهم أيضا أني لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي مستقبلا فهل أخرج من هذه البلاد أو أقتل أو تقبل دعوتي وأنصر ولا ما يفعل بكم من تعذيبكم بحجر أو مسخ أو هدايتكم ونجاتكم. وقوله { إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومآ أنا إلا نذير مبين } أي ما أتبع إلا الذي أوحى إلي ربي باعتقاده أو قوله أو عمله، فلا أحدث ولا أبتدع شيئا لم يوح الله به أبدا { ومآ أنا إلا نذير مبين } أي ما أنا بالذي يملك شيئا لنفسه أو لغيره من خير أو ضير وإنما أنا نذير من عواقب الكفر والتكذيب والشرك والمعاصي فمن قبل إنذاري فكف عما يسبب العذاب نجا، ومن رفض إنذاري فأمره إلى ربي إن شاء عذبه وإن شاء تاب عليه وهداه ورحمه.
[46.10-14]
شرح الكلمات:
قل أرأيتم: أي أخبروني ماذا تكون حالكم.
إن كان من عند الله: أي إن كان القرآن من عند الله.
وكفرتم به: أي وكذبتم به أي بالقرآن.
وشهد شاهد من بني إسرائيل: أي وشهد عبد الله بن سلام.
على مثله فآمن: أي عليه إنه من عند الله فآمن.
واستكبرتم: أي واستكبرتم أنتم فلم تؤمنوا ألستم ظالمين.
لو كان خيرا ما سبقونا إليه: أي لو كان ما جاء به محمد من القرآن والدين خيرا ما سبقنا إليه المؤمنون.
وإذ لم يهتدوا به: أي بالقرآن العظيم.
فسيقولون هذا إفك قديم: أي هذا القرآن إفك قديم أي هو من كذب الأولين.
وهذا كتاب مصدق: أي القرآن مصدق للكتب التي سبقته.
لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا: أي حال كونه بلسان عربي لينذر به الظالمين المشركين.
وبشرى للمحسنين: وهو أي القرآن بشرى لأهل الإحسان في عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم.
ثم استقاموا: أي فلم يرتدوا واستمروا على فعل الواجبات وترك المحرمات.
فلا خوف عليهم ولا يحزنون: أي في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة.
بما كانوا يعملون: أي جزاهم الله بما جزاهم به بنفي الخوف والحزن عليهم بأعمالهم الصالحة وتركهم الأعمال الفاسدة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية قوم النبي صلى الله عليه وسلم من قريش الذين ردوا الدعوة وقالوا في كتابها سحر مبين وفي صاحبها مفتر فقال تعالى لرسوله قل يا محمد لأولئك المشركين الذين قالوا في القرآن سحر مبين { أرأيتم } أي أخبروني ماذا تكون حالكم إن كان القرآن من عند الله. وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام على مثله أي على التوراة أنها نزلت من عند الله وهي مثل القرآن فلا يستنكر أن يكون القرآن نزل من عند الله لا سيما والكتابان التوراة والقرآن يصدق بعضهما بعضا، بدلالتهما معا على أصول الدين كالتوحيد والبعث والجزاء بالثواب والعقاب ومكارم الأخلاق والعدل والوفاء بالعهد. { فآمن } هذا الشاهد { واستكبرتم } أي وكفرتم أنتم مستكبرين عن الإيمان بالحق ألم تكونوا شر الناس وأظلمهم وتحرمون الهداية إن الله لا يهدي القوم الظالمين أي الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فحرموها الهداية الإلهية وقوله تعالى في الآية [11] { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونآ إليه } هذا القول جائز أن يقوله يهود المدينة للمؤمنين بها. وجائز أن يقوله المشركون في مكة وفي غيرها من العرب إذ المقصود هو الاعتذار عن عدم قبول الإسلام بحجة أنه لا فائدة منه تعود عليهم في دنياهم ولا خير يرجونه منه إن دخلوا فيه إذ لو كان فيه ما يرجون من الفوائد المادية لاعتنقوه ودخلوا فيه ولم يسبقهم إليه الفقراء والمساكين.
وهو معنى ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { وقال الذين كفروا للذين آمنوا } أي في شأن الذين قالوا لو كان الإسلام خيرا ما سبقونا إليه فآمنوا وكفرنا. وقوله تعالى { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذآ إفك قديم } أي وإن ظهر عنادهم وعظم عتوهم واستكبارهم فعموا فلم يهتدوا بالقرآن فسيقولون { هذآ إفك قديم } وقد قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ومعنى إفك قديم كذب أفكه غير محمد وعثر عليه فهو يقول به ما أفسد هذا القول وما أقبحه وأقبح قائله.
وقوله تعالى { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة } أي ومن قبل القرآن الذي أنكر المشركون نزوله كتاب موسى التوراة وقد أنزلناه عليه إماما يؤتم به فيقود المؤتمين به العاملين بهدايته إلى السعادة والكمال وأنزلنا اليوم القرآن هدى ورحمة وبشرى للمحسنين. وهو ما دل عليه قوله وهذا كتاب مصدق لما قبله من الكتب لسانا عربيا أي أنزلناه لسانا عربيا لينذر به رسولنا المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم لينذر به الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي عذاب الله المترتب على تدسية النفوس بأوضار الشرك والمعاصي وهو بشرى للمحسنين من المؤمنين الذي أحسنوا النية والعمل بالفوز العظيم يوم القيامة وهو النجاة من النار ودخول الجنة وقوله تعالى { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } بعد أن ذكر تعالى المبطلين وباطلهم عقب على ذلك بذكر المحسنين وأعمالهم على نهج الترهيب والترغيب فأخبر تعالى أن الذين قالوا ربنا الله أي آمنوا وصرحوا بإيمانهم وجاهروا به ثم استقاموا على منهج لا إله إلا الله فعبدوا الله بما شرع وتركوا عبادة غيره حتى ماتوا على ذلك هؤلاء يخبر تعالى عنهم أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة فهم آمنون في الحيوات الثلاث، وبشرهم بالجنة فأخبر أنهم أصحابها الخالدون فيها، وأشار إلى أن ذلك الفوز والبشرى كانا نتيجة أعمالهم في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح الذين دل عليها قوله { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- اعتبار الشهادة وإنها أدة يتوصل بها إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل فلذا يشترط عدالة صاحبها والعدالة هي اجتناب الكبائر واتقاء الصغائر غالبا .
2- تقرير قاعدة من جهل شيئا عاداه، إذ المشركون لما لم يهتدوا بالقرآن قالوا هذا إفك قديم.
3- بيان تآخي وتلاقي الكتابين التوراة والقرآن فشهادة أحدهما للآخر أثبتت صحته.
4- وجوب تعلم العربية لمن أراد أن يحمل رسالة الدعوة المحمدية فينذر ويبشر.
5- فضل الاستقامة حتى قيل أنها خير من ألف كرامة، والاستقامة هي التمسك بالإيمان والعبادة كما جاء بذلك القرآن وبينت السنة.
[46.15-16]
شرح الكلمات:
ووصينا الإنسان بوالديه: أي أمرناه أمرا مؤكدا بالإيصاء.
إحسانا: أي أن يحسن بهما إحسانا وهو المعاملة بالحسنى.
حملته أمه كرها ووضعته كرها: أي حملته أثناء حمله في بطنها على مشقة وولدته كذلك على مشقة.
وحمله وفصاله ثلاثون شهرا: أي مدة حمله في بطنها وفطامه من الرضاع ثلاثون شهرا.
حتى إذا بلغ أشده: أي اكتمال قوته البدنية العقلية وهي من الثلاث والثلاثين فما فوق.
رب أوزعني أن أشكر نعمتك: أي ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك بصرفها فيما تحب.
وأن أعمل صالحا ترضاه: أي وبأن أعمل صالحا ترضاه مني أي تتقبله عني.
ونتجاوز عن سيئاتهم: أي فلا نؤاخذهم بها بل نغفرها.
في أصحاب الجنة: أي في جملة أصحاب الجنة وعدادهم.
وعد الصدق الذي كانوا يوعدون: أي في مثل قوله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية.
معنى الآيات:
إن الفرد كالجماعة فقد أوصى تعالى الإنسان بالإحسان بوالديه وببرهما في جميع كتبه وعلى ألسنة كافة رسله، والإنسان بعد ذلك قد يحسن ويبر وقد يسيء ويعق، فكذلك الجماعة والأمة من الناس يرسل إليهم الرسول فمنهم من يؤمن ومنهم من يكذب، ومنهم من يتابع ومنهم من يخالف فلما ذكر تعالى اختلاف قوم النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان بما جاء به، والكفر به ذكر أن هذه حال الإنسان فقال تعالى { ووصينا الإنسان } أي جنس الإنسان أي أمرناه بما هو آكد من الأمر وهو الوصية بوالديه أي أمه وأبيه إحسانا بهما وذلك بكف الأذى عنهما وإيصال الخير بهما وطاعتهما في المعروف وببرهما أيضا بعد موتهما. فمن الناس من ينفذ هذه الوصية ومنهم من يهملها ولا ينفذها وقوله، حملته أمه كرها ووضعته كرها بيان لوجوب الإحسان بهما وبرهما إذ معاناة الأم وتحملها مشقة الحمل تسعة أشهر ومشقة الوضع وهي مشقة لا يعرفها إلا من قاسى آلامها كالأمهات. وقوله { وحمله وفصله ثلثون شهرا } بيان لمدة تحمل المشقة إنها ثلاثون شهرا بعضها للحمل وبعضها للإرضاع والتربية وقوله تعالى حتى إذا بلغ أي عاش حتى إذا بلغ أشده أي اكتمال قواه البدنية والعقلية وذلك من ثلاث وثلاثين سنة إلى الأربعين وبلغ أربعين سنة قال أي الإنسان البار بوالديه المنفذ للوصية الإلهية كأبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ بلغ الأربعين من عمره بعد البعثة المحمدية بسنتين. { قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي } وهي نعمة الإيمان والتوحيد والإسلام علي وعلى والدي إذ آمن وآمن أبواه أبو قحافة عثمان بن عامر التيمي وآمنت أمه أم الخير سلمى، وأولاده عامة من بنين وبنات ولم يحصل لأحد من الصحابه أن سأل ربه أن يدفعه دفعا إلهاميا وتوفيقا ربانيا لأن يشكر نعمة الله عليه وعلى والديه بالإسلام، وأن يدفعه كذلك إلى العمل الصالح الذي يرضاه الله ويتقبله عن صاحبه، وقد استجاب له ربه فأعتق تسعة أعبد مؤمنين من استرقاق الكافرين لهم منهم بلال رضي الله عنه، وقوله { وأصلح لي في ذريتي } أي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي حتى يشملهم جميعا وقد استجاب الله تعالى له فآمن أولاده أجمعون ذكورا وإناثا، وقوله { إني تبت إليك وإني من المسلمين } هذا توسل منه رضي الله عنه لقبول دعائه فقد توسل إلى ربه بالتوبة من الشرك والكفر إلى الإيمان والتوحيد، وبالإسلام إلى الله وهو الخضوع لله والانقياد لأمره ونهيه.
وقوله تعالى { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم } فلا يؤاخذهم بها بعد توبتهم منها في جملة أصحاب الجنة إذ لا يدخل الجنة أحد إلا بعد مغفرة ذنبه، وقوله { وعد الصدق } أي أنجز لهم هذا لأنه وعد صدق وعدهم فأنجزه لهم، وقوله { الذي كانوا يوعدون } أي في الكتاب مثل قوله تعالى
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
[التوبة: 72] الآية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب البر بالوالدين بطاعتهما في المعروف والإحسان بهما بعد كف الأذى عنهما.
2- الإشارة إلى أن مدة الحمل قد تكون ستة أشهر فأكثر، وأن الرضاع قد يكون حولين فأقل.
3- جواز التوسل بالتوبة إلى الله والانقياد له بالطاعة.
4- فضيلة آل أبي بكر الصديق على غيرهم من سائر الصحابة ما عدا آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- بشارة الصديق وأسرته بالجنة، إذ آمنوا كلهم وأسلموا أجمعين وماتوا على ذلك.
[46.17-20]
شرح الكلمات:
والذي قال لوالديه: الذي اسم موصول استعمل استعمال الجنس فدل على متعدد بدليل الخبر عنه وهو أولئك الذين حق عليهم القول.
أف لكما: أي نتنا وقبحا لكما.
أن أخرج: أي من القبر حيا بعد موتي.
وقد خلت القرون: أي مضت الأمم قبلي ولم يخرج منها أحد من قبره.
وهما يستغيثان الله: أي يطلبان الغوث برجوع ولدهما إلى الإيمان بعد الإلحاد والكفر.
ويلك آمن: أي يقولان له إن لم ترجع ويلك أي هلاكك أي هلكت آمن بالبعث.
إن وعد الله حق: وقد وعد العباد بالرجوع إليه ومحاسبتهم على أعمالهم ومجازاتهم بها.
فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين: أي ما القول بوجود بعث للناس أحياء بعد الموت إلا أكاذيب الأولين.
أولئك الذين حق عليهم القول: أي وجب عليهم القول بالعذاب يوم القيامة.
في أمم قد خلت من قبلهم: أي في جملة أمم قد مضت من قبلهم من الجن والإنس.
ولكل درجات مما عملوا: أي ولكل من المؤمنين البارين، والكافرين الفاجرين درجات مما عملوا درجات المؤمنين في الجنة ودرجات الكفار في النار.
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا: أي يقال لهم أذهبتم طيباتكم باشتغالكم بملذاتكم في الدنيا.
واستمتعتم بها: أي تمتعتم بها في الحياة الدنيا.
فاليوم تجزون عذاب الهون: أي جزاؤكم عذاب الهوان.
بما كنتم تستكبرون في الأرض: أي تتكبرون في الأرض.
بغير الحق: أي إذ لا حق لكم في الكبر والكبرياء لله ، ولم يأذن لكم فيه.
وبما كنتم تفسقون: أي تخرجون عن طاعة الله ورسوله.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى الرجل المؤمن وأعماله الصالحة ومواقفه المشرفة ذكر هنا الرجل الكافر وأعماله الباطلة ومواقفه السيئة وذلك من باب الدعوة إليه تعالى بالترغيب والترهيب فقال تعالى { والذي قال لوالديه أف لكمآ أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي } يخبر تعالى عن أخبث إنسان هو ذاك الملحد العاق لوالديه المنكر للبعث والجزاء إذ قال لوالديه أمه وأبيه أف لكما أي نتنا وقبحا لكما أتعدانني بأن أخرج من قبري حيا بعد ما مت، وقد مضت أمم وشعوب قبلي، وما خرج منها أحد من قبره فكيف تعدانني أنتما ذلك إن هذا لتخلف عقلي وتأخر حضاري وقوله تعالى { وهما يستغيثان الله } أي ووالداه يستغيثان الله ويستصرخانه طلبا إغاثتهما بهداية ولدهما الملحد الشيوعي، ويقولان للولد ويلك أي هلاكك حضر يا ولد هلكت آمن بالبعث والجزاء وصل وصم واترك الزنا والخمر ويلك إن وعد الله حق أي إن ما وعد الله به عباده من إحيائهم للحشر والحساب والجزاء حق فلا يتخلف أبدا فيرد عليهما الولد الملحد الدهري بما أخبر تعالى به عنه في قوله فيقول { ما هذآ إلا أساطير الأولين } أي أكاذيبهم التي كانوا يعيشون عليها ويقصونها في مجالسهم، وبما أن الذي قال لوالديه لفظه مفرد ولكنه دال على جنس كان الخبر جمعا فقال تعالى في الإخبار عنهم { أولئك الذين حق عليهم القول } أي القول بالعذاب الدال عليه قوله تعالى
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود: 119، السجدة: 13]، وفي قوله { في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس } أي في جملة أمم سبقتهم في الإلحاد والكفر من العالمين عالم الجن وعالم الإنس وقوله { إنهم كانوا خاسرين } وأي خسران أعظم من عبد يخسر نفسه وأهله ويعش في جهنم خالدا فيها أبدا. وقوله تعالى { ولكل درجت مما عملوا } أي ولكل من المؤمنين البارين والكافرين العاقين درجات مما عملوا من خير أو شر إلا أن درجات المؤمنين في الجنة تذهب في علو متزايد ودرجات الكافرين في النار تذهب في سفل متزايد إلى أسفل سافلين وقوله تعالى { وليوفيهم أعملهم } كاملة غير منقوصة الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها وهم لا يظلمون بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة. وقوله تعالى { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } أي اذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين يوم يعرضون على النار ويقال لهم في توبيخ وتقريع { أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا } أي بإقبالكم على الشهوات والملآذ ناسين الدار الآخرة فاستمتعتم بكل الطيبات ولم تبقوا للآخرة شيئا { فاليوم تجزون عذاب الهون } أي الهوان { بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق } إذ لا حق لكم في الكبر لضعفكم وعجزكم إنما الكبرياء لله الملك الحق أما أنتم فقد ظلمتم باستكباركم عن الإيمان بربكم ولقائه وعن طاعته { وبما كنتم تفسقون } أي وبفسقكم عن طاعة ربكم وطاعة رسوله. إذا فادخلوا جهنم داخرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة عقوق الوالدين وأنها من الكبائر.
2- بيان حنان الوالدين وحبهما لولدهما وبذل كل ما يقدران عليه من أجل إسعاده وهدايته.
3- التحذير من الانغماس في الملاذ والشهوات والاستمتاع.
4- التحذير من الكبر والفسق وأن الكبر من أعمال القلوب والفسق من أعمال الجوارح.
5- مدى فهم السلف الصالح لهذه الآية { أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها }.
1) قرأ يزيد حتى بلغ { وبما كنتم تفسقون } ثم قال تعلمون والله إن أقواما يسترطون حسناتهم استبقى رجل طيباته إن استطاع ولا قوة إلا بالله.
2) روي أن عمر بن الخطاب كان يقول لو شئت لكنت أطيبكم طعام وألينكم لباسا، ولكن استبقي طيباتي.
وذكر أنه لما قدم الشام صنع له طعام لم ير قبله مثله، قال هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال له خالد بن الوليد لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر رضي الله عنه وقال لئن كان حظنا الحطام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا.
[46.21-25]
شرح الكلمات:
واذكر أخا عاد: أي نبي الله هودا عليه السلام.
إذ أنذر قومه بالأحقاف: أي خوف قومه عذاب الله بوادي الأحقاف.
وقد خلت النذر: أي مضت الرسل.
من بين يديه ومن خلفه: أي من قبله ومن بعده إلى أممهم.
ألا تعبدوا إلا الله: أي أنذروهم بأن لا يعبدوا إلا الله.
إني أخاف عليكم: أي إن عبدتم غير الله.
عذاب يوم عظيم: أي هائل بسبب شرككم بالله وكفركم برسالتي.
أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا: أي لتصرفنا عن عبادتها.
فأتنا بما تعدنا: أي من العذاب على عبادتها.
إن كنت من الصادقين: أي في أنه يأتينا قطعا كما تقول.
قال إنما العلم عند الله: أي علم مجيء العذاب ليس لي وإنما هو لله وحده.
وأبلغكم ما أرسلت به إليكم: أي وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلني به ربي إليكم.
ولكني أراكم قوما تجهلون: أي حظوظ أنفسكم وما ينبغي لها من الإسعاد والكمال وإلا كيف تستعجلون العذاب مطالبين به.
فلما رأوه عارضا: أي رأوا العذاب سحابا يعرض في الأفق.
مستقبل أوديتهم: أي متجها نحو أوديتهم التي فيها مزارعهم.
قالوا هذا عارض ممطرنا: أي قالو مشيرين إلى السحاب هذا عارض ممطرنا.
بل هو ما استعجلتم به: أي ليس هو بالعارض الممطر بل العذاب الذي استعجلتموه.
ريح تدمر كل شيء: أي ريح عاتية تهلك كل شيء تمر به.
بأمر ربها: أي بإذن ربها تعالى.
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم: أي أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق إلا مساكنهم.
كذلك نجزي القوم المجرمين: أي كذلك الجزاء الذي جازينا به عادا قوم هود وهو الهلاك الشامل نجزي المجرمين من سائر الأمم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى { واذكر } أي لقومك للعبرة والاتعاظ { أخا عاد } وهو هود عليه السلام والأخوة هنا أخوة نسب لا دين. اذكره { إذ أنذر قومه بالأحقاف } إذ خوفهم عذاب الله إن لم يتوبوا إلى الله ويوحدوه، والآحقاف وادي القوم الذي به مزارعهم ومنازلهم وهو ما بين حضرموت ومهرة وعمان جنوب الجزيرة العربية. وقوله { وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه } أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده في أممهم. أي لم يكن هود أول نذير، ولا أمته أول أمة انذرت العذاب وقوله { ألا تعبدوا إلا الله } أي كل رسول أنذر أمته عاقبة الشرك فأمرهم أن لا يعبدوا إلا الله، وهو معنى لا إله إلا الله التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم أمته فهي أمر بعبادة الله وترك الشرك فيها، وقوله { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } يوم هائل عظيم وهو يوم القيامة، فكان رد القوم ما أخبر تعالى به في قوله { قالوا أجئتنا لتأفكنا } أي تصرفنا عن عبادة آلهتنا { فأتنا بما تعدنآ } أي من العذاب { إن كنت من الصادقين } فيما توعدنا به وتهددنا، فأجابهم هود عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه بقوله { قال } أي هود { إنما العلم عند الله } أي علم مجيء العذاب وتحديد وقته هذا ليس لي وإنما هو لله منزله، فمهمتي أن أنذركم العذاب قبل حلوله بكم وأبلغكم ما أرسلت به إليكم من الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك والمعاصي، { ولكني أراكم قوما تجهلون } أي بما يضركم وما ينفعكم في الدنيا والآخرة وإلا كيف تستعجلون العذاب وتطالبون به إذ المفروض أن تطلبوا الرحمة والسعادة لا العذاب والشقاء قوله تعالى { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم } أي فلما رأى قوم هود العذاب متجها نحو أوديتهم التي بها مزارعهم ومنازلهم { قالوا هذا عارض ممطرنا } أي هذا سحاب يعرض في السماء ذاهبا صوب وادينا ليسقينا، وهو معنى قوله { هذا عارض ممطرنا } أي ممطر أراضينا المصابة بالجفاف الشديد.
قال تعالى { بل هو ما استعجلتم به } أي ليس بالسحاب الممطر بل هو العذاب الذي طالبتم به لجهلكم وخفة أحلامكم، وبينه بقوله { ريح فيها عذاب أليم } أي تحمل في ثناياها العذاب الموجع، تدمر كل شيء تمر به فتهلكه { بأمر ربها } أي بإذنه وقد أتت عليهم عن آخرهم ولم ينج إلا هود والذين آمنوا معه برحمة من الله خاصة، { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } أي لا يرى الرائي إذا نظر إليهم إلا مساكنهم خالية ما بها أحد. قال تعالى { كذلك نجزي القوم المجرمين } أي كهذا الجزاء بالدمار والهلاك نجزي المجرمين أي المفسدين أنفسهم بالشرك والمعاصي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في الأمم في إرسال الرسل إليهم.
2- وبيان مهمة الرسل وهي النذارة والبلاغ.
3- بيان سفه وجهل الأمم التي تطالب بالعذاب وتستعجل به.
4- بيان أن عادا أهلكت بالريح الدبور، وأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نصر بريح الصبا كما في الحديث الصحيح.
5- بيان سنة الله تعالى في إهلاك المجرمين وهم الذين يصرون على الشرك والمعاصي.
[46.26-28]
شرح الكلمات:
ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه: أي ولقد مكنا قوم عاد من القوة التي لم نمكنكم أنتم من مثلها.
وجعلنا لهم سمعا وأبصارا: وجعلنا لهم أسماعا وأبصارا.
فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء: أي من الإغناء.
إذ كانوا يجحدون بآيات الله: أي لعلة هي أنهم كانوا يجحدون بآيات الله وهي حججه البينة.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون: أي نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به.
ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى: أي من أهل القرى كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين.
وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون: أي كررنا الحجج وضربنا الأمثال ونوعنا الأساليب لعلهم يرجععون إلى الحق فيؤمنون ويوحدون.
فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة: أي فهلا نصرهم بدفع العذاب عنهم الذين اتخذوهم من دون الله آلهة يتقربون بهم إلى الله في زعمهم.
بل ضلوا عنهم: أي غابوا عنهم عند نزول العذاب.
وذلك إفكهم وما كانوا يفترون: أي خذلان آلهتهم لهم وعدم نصرتهم لهم بل غيابهم عنهم هو إفكهم وافتراؤهم الذي كانوا يفترونه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مطلب هداية قريش إنه لما قص تعالى عليهم قصة عاد وتجلت فيها عظات كثيرة وعبرة كبيرة قال لهم { ولقد مكناهم } أي قوم عاد مكناهم في الأرض فأعطيناهم من مظاهر القوة المادية { فيمآ إن مكناكم فيه } أنتم يا معشر كفار قريش وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة أي قلوبا فيما أغنى عنهم سمعهم أي أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء من الإغناء إذ كانوا يجحدون بآيات الله أي بحججه وبيناته الدالة على وجوب توحيده وحاق أي نزل بهم العذاب الذي كانوا إذا خوفوا به وأنذروا استهزأوا وسخروا وقوله تعالى { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين قوله { وصرفنا الآيات } أي وكررنا الحجج وضربنا الأمثال ونوعنا العظات والعبر لعلهم يرجعون إلى الحق الذي انصرفوا عنه وهو التوحيد والاستقامة فأبوا إلا الإصرار على الشرك والباطل فأهلكناهم. فلولا أي فهلا نصرهم الذين اتخذوهم من دون الله قربانا آلهة يتقربون بها إلى الله في زعمهم والجواب ما نصروهم بل ضلوا عنهم أي غابوا فلم يعثروا عليهم بالكلية. قال تعالى { وذلك إفكهم وما كانوا يفترون } أي ذلك الذي تم لهم من الخذلان والعذاب هو إفكهم أي كذبهم وافتراؤهم الذي كانوا يعيشون عليه قبل هلاكهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الإعراض عن دين الله والإصرار على الفسق عن أمر الله، والاستمرار على الخروج على طاعته إذا استوجب صاحبه العذاب ونزل به لم يغن عنه ذكاؤه ولا دهاؤه ولا علمه وحضارته ولا علوه وتطاوله.
2- بيان أن الآيات والحجج وضرب الأمثال وسوق العبر والعظات لا تنفع في هداية العبد، إذا لم يرد الله هدايته
فإن الله لا يهدي من يضل
[النحل: 37] ويحيق به العذاب ويهلكه جزاء تكذيبه وكفره وإعراضه وفسقه.
3- بيان غياب الشركاء من الأنداد التي كانت تعبد عن عابديها فضلا عن نصرتها لهم وذلك الخذلان هو جزاء كذبهم وافترائهم في الحياة الدنيا.
[46.29-32]
شرح الكلمات:
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن: أي واذكر إذ أملنا إليك نفرا من الجن جن نصيبين أو نينوي.
فلما حضروه قالوا أنصتوا: أي حضروا سماع القرآن قالوا أي بعضهم لبعض أصغوا لاستماع القرآن.
فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين: أي فرغ من قراءته رجعوا إلى قومهم مخوفين لهم من العذاب.
مصدقا لما بين يديه: أي من الكتب السابقة كالتوراة والانجيل والزبور وغيرها.
يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم: أي من العقائد في الشرائع والإسلام.
ويجركم من عذاب أليم: أي ويحفظكم هو عذاب يوم القيامة.
فليس بمعجز في الأرض: أي فليس بمعجز الله هربا منه فيفوته.
أولئك في ضلال مبين: أي الذين لم يجيبوا داعي الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، أي في ضلال عن طريق الإسعاد والكمال ظاهر بين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية قوم النبي صلى الله عليه وسلم إنه بعد أن ذكرهم بعاد وما أصابها من دمار وهلاك نتيجة شركها وكفرها وإصرارها على ذلك فقال تعالى { واذكر أخا عاد } إلى آخر الآيات ذكرهم هنا بما هو تقريع لهم وتوبيخ إذ أراهم أن الجن خير منهم لسرعة استجابتهم للدعوة والقيام بتبليغها فقال تعالى { وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن } أي اذكر لقومك من كفار مكة وغيرها إذ صرفنا إليك نفرا من الجن وهم عدد ما بين السبعة إلى التسعة من جن نصيبين وكانوا من أشراف الجن وسادتهم صرفناهم إليك أي أملناهم إليك وأنت تقرأ في صلاة الصبح ببطن نخلة بين مكة والطائف صرفناهم إليك يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا أي أصغوا واستمعوا ولا تشوشوا، قاله بعضهم لبعض، فلما قضي أي القرآن فرغ منه، ولوا إلى قومهم أي رجعوا إلى قومهم من الجن بنصيبين ونينوي منذرين إياهم أي مخوفينهم من عذاب الله إذا استمروا على الشرك والمعاصي فماذا قالوا لهم قالوا ما أخبر تعالى به عنهم قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى وهو القرآن مصدقا لما بين يديه أي من الكتب الإلهية التي سبق نزولها كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل، ووصفوا القرآن بما يلي يهدي إلى الحق والصواب في كل شيء اختلف فيه الناس من العقائد والديانات والأحكام، ويهدي إلى صراط مستقيم أي طريق قاصد غير جور ألا وهو الإسلام دين الأنبياء عامة.
وقالوا مبلغين منذرين { يقومنآ أجيبوا داعي الله } وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم { وآمنوا به } أجيبوه إلى ما يدعو إليه من توحيد الله وطاعته وآمنوا بعموم رسالته وبكل ما جاء به من الهدى ودين الحق ويكون جزاؤكم على ذلك أن { يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم } أي يغفر لكم الذنوب التي بينكم وبين الله تعالى بسترها عليكم ولا يؤاخذكم بها، وأما الذنوب التي بينكم وبين بعضكم بعضا فإنها لا تغفر إلا من قبل المظلوم نفسه باستسماحه أو رد الحق إليه، وقوله ويجركم من عذاب أليم أي ويحفظكم منقذا لكم من عذاب أليم أي ذي ألم موجع وهو عذاب النار، ثم قالوا: { ومن لا يجب داعي الله } أي لم يستجب لنداء محمد فيؤمن به ويوحد الله تعالى فليس بمعجز في الأرض أي لله بل الله غالب على أمره ومهما حاول الهرب فإن الله مدركه لا محالة { وليس له من دونه أوليآء } يتولون أمره ولا أنصار ينصرونه.
قال تعالى { أولئك } أي المذكورون في هذا السياق ممن لم يجيبوا داعي الله محمد صلى الله عليه وسلم { في ضلال مبين } أي في عمى وغواية بين أمرهم واضح لا يستره شيء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إثبات عالم الجن وتقريره في هذا السياق ولذا كان إنكار الجن كإنكار الملائكة كفرا.
2- وجوب التأدب عند تلاوة القرآن بالإصغاء التام.
3- وجوب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث
" بلغو عني ولو آية ".
4- الإعراض عن دين الله يوجب الخذلان والحرمان.
[46.33-35]
شرح الكلمات:
ولم يعي بخلقهن: أي لم يتعب ولم ينصب لخلق السماوات والأرض.
بقادر على أن يحييى الموتى بلى: أي إنه قادر على إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم للحشر.
ويوم يعرض الذين كفروا على النار: أي ليعذبوا فيها.
أليس هذا بالحق: أي يقال له تقريعا: أليس هذا أي العذاب بحق؟.
قالوا بلى وربنا: أي إنه لحق وربنا حلفوا بالله تأكيدا لخبرهم.
فاصبر: أي يا رسولنا محمد على أذى قومك.
أولوا العزم: أي أصحاب الحزم والصبر والعزم وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين وسلم وهم أصحاب الشرائع.
ولا تستعجل لهم: أي ولا تستعجل نزول العذاب لأجلهم.
كأنهم يوم يرون العذاب: أي في الآخرة.
لم يلبثوا إلا ساعة: أي لم يقيموا في الدنيا إلا ساعة من نهار وذلك لطول العذاب.
بلاغ: أي هذا القرآن بلاغ للناس أي تبليغ لهم.
هل يهلك إلا القوم الفاسقون: أي ما يهلك إلا القوم التاركون لأمر الله المعرضون عنه الخارجون عن طاعته.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مطلب هداية قريش الكافرة بالتوحيد المكذبة بالبعث والنبوة فقال تعالى { أولم يروا } أي أعموا { أولم يروا أن الله الذي خلق السموت والأرض } إنشاءا وإبداعا من غير مثال سابق { ولم يعي } أي ينصب ويتعب { بخلقهن } أي السماوات والأرض بقادر على أن يحييى الموتى لحشرهم إليه ومحاسبتهم ومجازاتهم بحسب أعمالهم في الدنيا الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها { بلى إنه على كل شيء قدير } وقوله تعالى { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } لما أثبت البعث وقرره ذكر بعض ما يكون فيه فقال ويوم يعرض الذين كفروا على النار أي تعرضهم الزبانية على النار فيقولون لهم تقريعا وتوبيخا { أليس هذا بالحق } أي أليس هذا التعذيب بحق؟ فيقولون مقسمين على ثبوته بما أخبر تعالى عنهم في قوله: { قالوا بلى وربنا } فلما اعترفوا قيل لهم { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أي بسبب كفركم أي جحودكم لتوحيد الله ولقائه. ثم أمر تعالى رسوله أن يتدرع بالصبر وأن يتمثل صبر أولي العزم ليكون أقوى منهم صبرا كما هو أعلى منهم درجة فقال له فاصبر يا رسولنا على ما تلاقي من أذى قومك من تكذيب وأذى فاثبت لذلك كما ثبت أولوا العزم من قبلك، والظاهر أنهم المذكورون في قوله تعالى في سورة الأحزاب
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم
[الآية: 7]، ومن الجائز أن يكون عدد أولي العزم أكثر مما ذكر وقوله تعالى { ولا تستعجل لهم } لما أمره بالصبر نهاه عن استعجال العذاب لقومه فقال فاصبر ولا تستعجل العذاب لهم. { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } تعليل لعدم استعجال العذاب لأنه قريب جدا حتى إنهم يوم ينزل بهم ويرونه كأنهم لم يلبثوا في الدنيا على طول الحياة فيها إلا ساعة من نهار وقوله تعالى { بلاغ } أي هذا القرآن وما حواه من تعليم وبيان للهدى تبليغ للناس وقوله { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } ينفي تعالى هلاك غير الفاسقين عن أوامره الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- الكفر هو الموجب للناس والكفر هو تكذيب بوجود الله تعالى وهو الإلحاد أو تكذيب بلقائه تعالى أو بآياته أو رسله، أو شرائعه بعضا أو كلا.
3- وجوب الصبر على الطاعات فعلا، وعن المعاصي تركا، وعلى البلاء بعدم التضجر والسخط.
4- إطلاق الفسق على الكفر باعتباره خروجا عن طاعة الله فيما يأمر به من العقائد والعبادات وينهى عنه من الشرك والمعاصي.
[47 - سورة محمد]
[47.1-3]
شرح الكلمات:
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله: أي كفروا بتوحيد الله ولقائه وبآياته ورسوله وصدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام.
أضل أعمالهم: أي أحبط أعمالهم الخيرية كإطعام الطعام وصلة الأرحام فلا يرى لها أثر يوم القيامة.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات: أي آمنوا بالله وآياته ورسوله ولقائه وأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي.
وآمنوا بما نزل على محمد: أي بالقرآن الكريم.
كفر عن سيئاتهم: أي محا عنهم ذنوبهم وغفرها لهم.
وأصلح بالهم: أي شأنهم وحالهم فهم لا يعصون الله تعالى.
ذلك: أي إضلال أعمال الكافرين وتكفير سيئات المؤمنين.
بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل: أي الشيطان في كل ما يمليه عليهم ويزينه لهم من الكفر والشرك والمعاصي.
وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم: أي التوحيد والعمل الصالح.
كذلك يضرب الله للناس أمثالهم: أي كما بين تعالى حال الكافرين، وحال المؤمنين في هذه الآية يبين للناس أمثالهم ليعتبروا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعملهم } هذه جملة خبرية أخبر تعالى فيها عن حال من كفر بالله ورسوله وصد عن سبيل الله أي الإسلام غيره من الناس أضل الله عمله فأحبطه فلم يحصل له ثواب في الآخرة، ولازمه أنه هالك في النار، وتكون هذه الجملة كأنها جواب لسؤال نشأ عن قوله تعالى في خاتمة سورة الأحقاف قبل هذه السورة وهي فهل يهلك إلا القوم الفاسقون أي ما يهلك إلا القوم الفاسقون فقال قائل من هم القوم الفاسقون؟ فكان الجواب الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وهو وجه ارتباط بين السورتين حسن. هذا وقوله تعالى { والذين آمنوا } أي بالله ورسوله وآياته ولقائه وعملوا الصالحات أي أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجوا البيت الحرام ووصلوا الأرحام وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولو بالاستعداد للقيام بذلك إذ بعض هذه الصالحات لم يشرع بعد وآمنا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة لأنها وحي إلهي يتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح الحديث [ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه] وقوله تعالى { وهو الحق من ربهم } أي القرآن لأنه ناسخ للكتب قبله ولا ينسخ بكتاب بعده. فهو الحق الثابت الباقي إلى نهاية الحياة. وقوله { كفر عنهم سيئاتهم } أي محا عنهم ذنوبهم وأصلح بالهم أي شأنهم وحالهم فلم يفسدوا بعد بشرك ولا كفر هذ جزاؤهم على إيمانهم وصالح أعمالهم. وقوله تعالى { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } وهو الشيطان وما يزينه من أعمال الشرك والشر والفساد، { وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } وهو القرآن وما جاء به ودعا إليه من العقائد الصحيحة والعبادات المزكية للنفس المهذبة للأرواح.
أي ذلك الجزاء للذين كفروا والذين آمنوا بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. وقوله تعالى { كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } أي مثل هذا التبيين لحال الكافرين وحال المؤمنين في هذه الآيات يبين الله للناس أمثالهم أي أحوالهم بالخسران والنجاح ليعتبروا فيسلكوا سبيل النجاح، ويتجنبوا سبيل الخسران، فضلا منه تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان طريقي الفلاح والخسران فطريق الفلاح الإيمان والعمل الصالح وطريق الخسران الشرك والمعاصي.
2- بيان أن أعمال البر مع الكفر والشرك لا تنفع صاحبها يوم القيامة ولا تشفع له وقد يثاب عليها في الدنيا فيبارك له في ماله وولده.
3- بيان الحكمة في ضرب الأمثال وهي هداية الناس إلى ما يفلحون به، فينجون من النار ويدخلون الجنة.
[47.4-9]
شرح الكلمات:
فإذا لقيتم الذين كفروا: أي إذا كان الأمر كما ذكر فإذا لقيتم الذين كفروا في ساحة المعركة فاضربوا رقابهم ضربا شديدا تفصلون فيه الرقاب عن الأبدان.
حتى إذا أثخنتموهم: أي أكثرتم فيهم القتل ولم يصبح لهم أمل في الانتصار عليكم.
فشدوا الوثاق: أي فأسروهم بدل قتلهم وشدوا الوثاق أي ما يوثق به الأسير من إسار قدا كان أو حبلا حتى لا يتفلتوا ويهربوا.
فإما منا بعد وإما فداء: أي بعد أسركم لهم وشد وثاقهم فإما أن تمنوا منا أي تفكوهم من الأسر مجانا، وإما تفادونهم بمال أو أسير مسلم، وهذا بعد نهاية المعركة.
حتى تضع الحرب أوزارها: أي واصلوا القتال والأخذ والأسر إلى أن تضع الحرب أوزارها وهي آلاتها وذلك عند إسلام الكفار أو دخولهم في عهدكم فهذه غاية انتهاء الحرب حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ذلك: أي الأمر ذلك الذي علمتم من استمرار القتال إلى غاية إسلام الكفار أو دخولهم في عهدكم وذمتكم.
ولو يشاء الله لانتصر منهم: أي بغير قتال منكم كأن يخسف بهم الأرض أو يصيبهم بوباء ونحوه.
ولكن ليبلو بعضكم ببعض: ولكن أمركم بالقتال وشرعه لكم لحكمة هي أن يبلو بعضكم ببعض أي يختبركم من يقاتل منكم ومن لا يقاتل، والمؤمن يقتل فيدخل الجنة والكافر يقتل فيدخل النار.
والذين قتلوا في سبيل الله: أي قتلهم العدو، وقرىء قاتلوا في سبيل الله.
فلن يضل أعمالهم: أي لا يحبطها ولا يبطلها.
سيهديهم ويصلح بالهم: أي سيوفقهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ويصلح شأنهم.
ويدخلهم الجنة عرفها لهم: أي ويدخلهم يوم القيامة الجنة بينها لهم فعرفوها بما وصفها لهم في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن تنصروا الله: أي في دينه ورسوله وعباده المؤمنين.
ينصركم ويثبت أقدامكم: أي على عدوكم ويثبت أقدامكم في المعارك.
والذين كفروا فتعسا لهم: أي تعسوا تعسا أي هلاكا وخيبة لهم.
وأضل أعمالهم: أي أحبطها وأبطلها فلم يحصلوا بها على طائل.
ذلك: أي الضلال والتعس.
بأنهم كرهوا ما أنزل الله: أي من القرآن المشتمل على أنواع الهدايات والاصلاحات.
فأحبط أعمالهم: أي أبطلها وأضلها فلا ينتفعون بها لا في الدنيا ولا في الآخرة.
معنى الآيات:
لقد تقدم أن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد أضل أعمالهم وذلك لكفرهم وصدهم عن سبيل الله إذا كان الأمر كذلك فليقاتلوا لانهاء كل من المفسدتين كفرهم وصدهم غيرهم عن الإسلام وهذا ما دل عليه قوله تعالى فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب أي فاضربوا رقابهم ضربا يفصل الرأس عن الجسد وواصلوا قتالهم حتى إذا أثخنتموهم أي أكثرتم فيهم القتل، فشدوا الوثاق أي احكموا ربط الأسرى بوضع الوثاق وهو الحبل في أيديهم وأرجلهم حتى لا يتمكنوا من قتلكم ولا الهرب منكم وبعد ذلك أنتم وما يراه إمامكم من المصلحة العليا فإن رأى المن فمنوا عليهم مجانا بلا مقابل، وإما تفادونهم فداء بمال، أو برجال، وستظل تلك حالكم قتل وأخذ وأسر ثم من وعفو مجاني، أو فداء بعوض ومقابل إلى أن تضع الحرب أوزارها أي أثقالها من عدد وعتاد حربي، وذلك لوصولكم إلى الغاية من الحرب وهي أن يسلم الكافر، أو يدخل في ذمة المسلمين، وهو معنى قوله تعالى في سورة البقرة
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله
[الآية: 193]. وقوله تعالى { ذلك } أي الأمر الذي علمتم من استمرار القتل والأسر إلى أن تضع الحرب أوزارها بالدخول في الإسلام أو في ذمة المسلمين وقوله ولو شاء الله لانتصر منهم أي بدون قتال منكم ولكن بخسف أو وباء أو صواعق من السماء ولكن لم يفعل ذلك من أجل أن يبلو بعضكم ببعض أي ليختبركم بهم. فيعلم المجاهدين منكم والصابرين، ويبلوهم بكم فيعاقب من شاء منهم بأيديكم، ويتوب على من يشاء منهم كذلك. إذ انتصاركم عليهم ووقوعهم تحت سلطانكم يساعدهم على التوبة إلى الله والرجوع إلى الحق فيسلموا فيفلحوا بالنجاة من النار ودخلو الجنة، وقوله تعالى (والذين قاتلوا في سبيل الله) وفي قراءة والذين قتلوا في سبيل الله وهذه عامة في شهداء أحد وغيرهم وإن نزلت الآية فيهم فإن الله تعالى يخبر عن إنعامه عليهم بقوله فلن يضل أعمالهم سيهديهم في الدنيا ويوفقهم إلى كل خير ويصلح شأنهم، ويدخلهم في الآخرة الجنة عرفها لهم أي بينها لهم في كتابه ولسان رسوله وطيبها لهم أيضا، وفي الآخرة يهديهم إلى منازلهم في الجنة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم
" فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا "
" البخاري " ، وقوله تعالى { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } أي يا من آمنتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا إن تنصروا الله بنصر دينه ونبيه وأوليائه بقتال أعدائه ينصركم الله ويجعل الغلبة لكم، ويثبت أقدامكم في كل معترك لقيتم فيه المشركين والكافرين. وهذا وعد من الله تعالى كم أنجزه لعباده المؤمنين في تاريخ الجهاد في سبيل الله، وقوله تعالى والذين كفروا فتعسا لهم أي تعسوا تعسا وهلكوا هلاكا وخابوا وخسروا، وأضل أعمالهم فلم يعثروا عليها ولم يروا لها أدنى فائدة ذلك الجزاء وتلك العقوبة بأنهم أي بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله أي من القرآن من آيات التوحيد والشرائع والأحكام فأحبط أي لذلك أعمالهم فخسروا في الحياتين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الجهاد على أمة الإسلام ومواصلته كما بين تعالى في هذه الآيات إلى أن لا يبقى كافر يحارب بأن يدخلوا في الإسلام أو يعاهدوا ويدخلوا في ذمة المسلمين ويقبلوا على إصلاح أنفسهم وإعدادها للخير والفلاح.
2- إمام المسلمين مخير في الأسرى بين المن والفداء، والقتل أيضا لأدلة من السنة.
3- بشرى المجاهدين في سبيل الله بإكرام الله لهم وإنعامه عليهم في الدنيا والآخرة.
4- يظفر بالنصر الحقيقي من نصر الله تعالى في دينه وأوليائه.
5- إنذار الكافرين بالتعاسة والشقاء في الدنيا والآخرة.
[47.10-14]
شرح الكلمات:
أفلم يسيروا في الأرض : أي أغفل هؤلاء المشركون فلم يسيروا في البلاد.
فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم: أي كيف كانت نهاية الذين من قبلهم كعاد وثمود.
دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها: أي دمر عليهم مساكنهم فأهلكهم وأولادهم وأموالهم وللكافرين أمثال تلك العاقبة السيئة.
وأن الكافرين لا مولى لهم: أي لا ناصر لهم.
والذين كفروا يتمتعون ويأكلون: أي بمتع الدنيا من مطاعم ومشارب وملابس ويأكلون.
كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم: أي كأكل الأنعام بنهم وازدراد والنار مأواهم.
وكأين من قرية هي أشد قوة: أي وكثير من أهل قرية هي أشد قوة.
من قريتك التي أخرجتك: أي مكة إذ أخرج أهلها النبي صلى الله عليه وسلم.
أفمن كان علي بينة من ربه: أي على حجة وبرهان من أمر دينه فهو يعبد الله على علم.
كمن زين له سوء عمله: أي كمن زين الشيطان له سوء عمله.
واتبعوا أهواءهم: أي واتبعوا أهواءهم في عبادة الأصنام والجواب ليسوا سواء ولا مماثلة بينهما أبدا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { أفلم يسيروا في الأرض } يوبخ تعالى المشركين المصرين على الشرك والكفر على إصرارهم على الشرك والعناد فيقول أغفلوا { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم } كعاد وثمود وقوم لوط إذ دمر تعالى عليهم بلادهم فأهلكم وأولادهم وأموالهم فيعتبروا بذلك، وقوله تعالى { وللكافرين } أمثال تلك العاقبة المدمرة، وعيد لكفار مكة بأن ينزل عليهم عقوبة كعقوبة الأولين إن لم يتوبوا من شركهم وإصرارهم عليه، وعنادهم فيه. وقوله { ذلك } أي نصر المؤمنين وقهر الكافرين بسبب أن الله مولى الذين آمنوا أي وليهم ومتولي أمرهم وناصرهم، وأن الكافرين لا مولى لهم لأن الله تعالى خاذلهم ومن يخذله الله فلا ناصر له، وقوله تعالى { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } هذا وعد من الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح بأن يدخلهم يوم القيامة جنات أي بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار وقوله { والذين كفروا يتمتعون } في الدنيا بملاذها وشهواتها ، { ويأكلون كما تأكل الأنعام } إذ ليس لهم هم إلا بطونهم وفروجهم، ولذا هم لا يلتفتون إلى الآخرة. { والنار مثوى لهم } أي مقام ومنزل ومصير، وهذا وعيد شديد للكافرين، وهذا هو الترغيب والترهيب الذي هو سمة بارزة في أسلوب القرآن في الهداية البشرية وقوله تعالى { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } هذه الآية نزلت ساعة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته إلى غار ثور مهاجرا فقد التفت إلى مكة وقال أنت أحب البلاد إلى الله وأحب بلاد الله إلي ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك.
ومعنى الآية الكريمة وكثير من القرى أهلها أشد قوة من أهل قريتك " مكة " التي أخرجك أهلها حيث حكموا بإعدامه صلى الله عليه وسلم أهلكناهم أي أهل تلك القرى فلا ناصر وجد لهم عند إهلاكنا لهم. فكانت هذه الآية تحمل تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأي تسلية!! وقوله تعالى { أفمن كان على بينة من ربه } أي على علم وبرهان من صحة معتقده وعبادته لله تعالى راجيا ثوابه خائفا من عقابه وهؤلاء هم المؤمنون، كمن زين له سوء أي قبيح عمله من الشرك والكفر فهو يعبد الأصنام، واتبعوا أهواءهم هم في ذلك فلم يتبعوا وحيا إلهيا ولا عقلا إنسانيا فهل حالهم كحال من ذكروا قبلهم والجواب لا يتماثلان إذ بينهما من الفوارق كما بين الحياة والموت، والجنة والنار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة: العاقل من اعتبر بغيره.
2- تقرير ولاية الله لأهل الإيمان والتقوى.
3- بيان الفرق بين الماديين وأهل الإيمان والاستقامة على منهج الإسلام.
4- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم تخفيفا من آلامه التي يعانيها من إعراض المشركين وصدوفهم عن الإسلام.
[47.15]
شرح الكلمات:
مثل الجنة التي وعد المتقون: أي صفة الجنة دار السلام التي وعد الله بها عباده المتقين له.
من ماء غير آسن: أي غير متغير الريح والطعم لطول مكثه.
وأنهار من عسل مصفى: أي من الشمع وفضلات النحل.
وسقوا ماء حميما : أي حارا شديد الحرارة.
فقطع أمعاءهم: أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى { مثل الجنة التي وعد المتقون } هذه الآية الكريمة تضمنت شرحا وافيا لآنهار الجنة، وشراب أهل النار، كما اشتملت على مقارنة بين حال أهل الإيمان والتقوى وما وعدوا به من مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة، وبين حال أهل النار وهم خالدون فيها وما وعدوا فيها من ألوان العذاب الشديد فقوله تعالى { مثل الجنة } أي صفتها الممثلة لها الشارحة لحالها التي وعد المتقون أي التي وعد الله تعالى بها عباده المتقين له وهم أولياؤه الذين عبدوه ووحدوه فأطاعوه في الأمر والنهي فاتقوا بذلك الشرك والمعاصي. فيها أنهار من ماء غير آسن أي غير متغير الطعم ولا الريح بطول المكث وأنهار من لبن لم يتغير طعمه أي بحموضة ولم يصر قارصا ولذلك لم يتغير ريحه أيضا وأنهار من خمرة لذة للشاربين أي وفيها أنهار من خمر هي لذة لمن يشربها وسبب لذاذتها أنها غير كدرة ولا مسكرة ولا ريح غير طيبة لها، وأنهار من عسل مصفى أي وفيها أنهار من عسل مصفى أي من الشمع وفضلات النحل وقوله ولهم فيها من كل الثمرات أي من سائر أنواع الثمار من فواكه وغيرها. ومع ذلك مغفرة من ربهم لسائر ذنوبهم فهل يستوى من هذه حالهم بحال من هو خالد في النار لا يخرج منها وسقوا ماء حميما حارا شديد الحرارة فلما سقوه وشربوه قطع أمعاءهم أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم والعياذ بالله من النار وحال أهل النار اللهم أجرنا من النار اللهم أجرنا من النار اللهم أجرنا من النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التقوى هي السبب المورث للجنة هكذا جعلها الله عز وجل، والتقوى هي بعد الإيمان فعل المأمورات وترك المنهيات من سائر أنواع الشرك والمعاصي.
2- بيان بعض نعيم الجنة من الشراب والفواكه.
3- بيان بعض عذاب النار وهو الخلود فيها وشرب الحميم.
4- تقرير البعث والجزاء، وأن لا مماثلة بين أهل السعادة وأهل الشقاء.
[47.16-19]
شرح الكلمات:
ومنهم من يستمع إليك: أي ومن الكفار المنافقين من يستمع إليك في خطبة الجمعة.
ماذا قال آنفا: أي الساعة أي استهزاء منهم وسخرية يعنون إنه شيء لا يرجع إليه ولا يعتد به لعدم فائدته.
طبع الله على قلوبهم: أي بالكفر فلذا هم لا يعون.
واتبعوا أهواءهم: أي في الكفر والنفاق.
والذين اهتدوا: أي المؤمنون.
زادهم هدى: أي زادهم الله هدى.
وآتاهم تقواهم: أي ألهمهم ما يتقون به عذاب الله تعالى.
فهل ينظرون إلا الساعة: أي ما ينتظر أهل مكة إلا الساعة.
أن تأتيهم بغتة: أي فجأة.
فقد جاء أشراطها: أي علاماتها كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر والدخان.
فأنى لهم إذ جاءتهم ذكراهم: أي أنى لهم إذا جاءتهم التذكر الذي ينفعهم إذ قد أغلق باب التوبة.
فاعلم أنه لا إله إلا الله: أي فبناء على ما تقدم لك يا نبينا فاعلم أنه لا يستحق العبودية إلا الله فاعبده وتوكل عليه.
واستغفر لذنبك: أي قل أستغفر الله أو اللهم اغفر لي.
وللمؤمنين والمؤمنات: أي واستغفر للمؤمنين والمؤمنات.
والله يعلم متقلبكم: أي متصرفكم في النهار وأنتم تتصرفون في أمور دنياكم.
ومثواكم: أي مكان ثواكم وإقامتكم ونومكم بالليل.
معنى الآيات:
قوله تعالى ومنهم من يستمع إلى هذه الآية [16] والآية التي بعدها مدنيتان لا شك لأنهما نزلت في شأن المنافقين قال تعالى مخبرا رسوله عن بعض المنافقين { ومنهم } أي ومن بعض المنافقين { من يستمع إليك } أي إلى حديثك يوم الجمعة وأنت تخطب الناس على المنبر { حتى إذا خرجوا من عندك } أي من المسجد { قالوا للذين أوتوا العلم } من أصحابك كعبد الله بن مسعود { ماذا قال آنفا } ، وقولهم هذا ظاهر عليه الخبث إذا لو كانوا مؤمنين محبين لقالوا ماذا قال رسول الله آنفا، ولكن قالوا ماذا قال آنفا، وهم يعنون أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشيء مفيد يرجع إليه. قال تعالى { أولئك } أي البعداء في الشر والنفاق الذين طبع الله على قلوبهم أي بالكفر والنفاق وذلك لكثرة تلوثهم بأوضار الكفر والنفاق حتى ران على قلوبهم ذلك فكان ختما وطابعا على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم فهما علتان الأولى الطبع المانع من طلب الهداية والثانية اتباع الهوى وهو يعمي ويصم، فلذا هم لا يهتدون، وقوله تعالى { والذين اهتدوا } إلى الإيمان الصحيح والعمل الصالح زادهم الله هدى حسب سنته في نماء الأشياء وزكاتها وزيادتها، وآتاهم تقواهم أي ألهمهم ما يتقون وأعانهم على ذلك فهم يتقون مساخط الله تعالى ومن أعظمها الشرك والمعاصي. وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق [18] فهل ينظرون أي كفار قريش من زعماء الكفر في مكة إلا الساعة أي ما ينتظرون إلا الساعة أي القيامة أن تأتيهم بغتة أي فجأة إن كانوا ما ينظرون بإيمانهم إلا الساعة فالساعة قد جاء أشراطها وأول أشراطها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وثانيها الدخان، وثالثها انشقاق القمر.
وقوله تعالى { فأنى لهم إذا جآءتهم ذكرهم } أي أنى لهم التذكر الذي ينفعهم إذا جاءت الساعة بل شروطها أي بظهور علاماتها الكبرى لا تقبل التوبة من أحد لم يكن مؤمنا لقوله تعالى من سورة الأنعام
يوم يأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمنها خيرا
[الآية: 158]. على كل حال فالآية تستبطىء إيمان كفار مكة وتنكر عليهم تأخر إيمانهم الذي لا داعي له مع ظهور أدلة العقل والنقل ووضوح الحجج والبراهين الدالة على توحيد الله ووجوب عبادته وحده دون من سواه ولذا قال تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات أي فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي له العبادة وتصلح له إلا الله الذي هو خالق كل شيء ومالكه واستغفر أي اطلب من ربك المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات، وهذا الكلام وإن وجه للرسول صلى الله عليه وسلم فالمراد منه على الحقيقة أو بالأصالة غيره صلى الله عليه وسلم فكأنما قال تعالى يا عباد الله أيها الناس والرسول على رأسكم اعلموا انه لا إله إلا الله واستغفروا لذنوبكم مؤمنين ومؤمنات والله يعلم متقلبكم أي تصرفكم في النهار في مصالح معاشكم ومعادكم ويعلم مثواكم في فرشكم نائمين فهو يعلمكم على ما أنتم عليه في كل ساعة من ليل أو نهار فاخشوه واتقوه حتى تفوزوا برضاه في جنات النعيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- من الجائز أن تكون السورة مكية وبها آية أو أكثر مدنية.
2- التحذير من اتباع الهوى فإنه يعمي ويصم والعياذ بالله.
3- بيان أن لقيام الساعة أشراطا أي علامات تظهر قبلها فتدل على قربها.
4- وجوب العلم بأنه لا إله إلا الله، وذلك يتم على الطريقة التالية:
الاعتراف بأن الإنسان مخلوق كسائر المخلوقات حوله، وكل مخلوق لا بد له من خالق فمن خالق الإنسان والكون إذا؟ والجواب قطعا: الله. فما دام الله هو الخالق فمن عداه مخلوق مفتقر إلى الله خالقه في حفظ حياته، ومن يؤله ويعبد إذا الخالق أم المخلوق؟ والجواب: الخالق. إذا تعين أنه لا معبود إلا الله وهو معنى لا إله إلا الله ولما كانت العبادة لا تعرف إلا بالوحي وجب الإيمان برسول الله فكان لا بد من زيادة محمد رسول الله فنقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
[47.20-23]
شرح الكلمات:
لولا نزلت سورة: أي هلا نزلت سورة يقول هذا المؤمنون طلبا للجهاد.
سورة محكمة: أي لم ينسخ منها شيء من أوامرها ونواهيها.
وذكر فيها القتال: أي طلب القتال بالدعوة إليه والترغيب فيه.
في قلوبهم مرض: أي شك وهم المنافقون.
نظر المغشي عليه من الموت: أي خوفا من القتال وكراهية له فتراهم ينظرون إلى الرسول مثل نظر المغشي عليه من سكرات الموت.
فأولى لهم طاعة وقول معروف: أي فأجدر بهم طاعة لرسول الله وقول معروف حسن له.
فإذا عزم الأمر: أي فرض القتال وجد أمر الخروج إليه.
فلو صدقوا الله: أي فوالله ما تعهدوا به من أنهم يقاتلون.
لكان خيرا لهم: أي الوفاء بما تعهدوا به خيرا في دنياهم وآخرتهم.
فهل عسيتم إن توليتم: أي أعرضتم عن الإيمان الصوري الذي أنتم عليه وأعلنتم عن كفركم.
أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم: أي تفسدوا في الأرض بالشرك والمعاصي ولا تصلوا أرحامكم.
فأصمهم وأعمى أبصارهم: أي فعل تعالى ذلك بهم فلذا هم لا يسمعون الحق ولا يبصرون الخير والمعروف.
معنى الآيات:
قوله تعالى ويقول الذين آمنوا إلى آخر السورة ظاهره انه مدني وليس بمكي وهو كذلك فأغلب آي السورة مدني إذا، ولا حرج: لأن القتال لم يفرض إلا بعد الهجرة النبوية والنفاق لم يظهر إلا بعد الهجرة كذلك والسياق الآن في علاج النفاق وأمور الجهاد قال تعالى ويقول الذين آمنوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متمنين الجهاد لولا نزلت سورة أي هلا أنزل الله سورة قرآنية تأمر بالجهاد قال تعالى فإذا أنزلت سورة محكمة ليس فيها نسخ وذكر فيها القتال أي الأمر به والترغيب فيه. رأيت يا محمد الذين في قلوبهم مرض أي مرض الشك والنفاق ينظرون إليك يا رسولنا نظر أي مثل نظر المغشي أي المغمي عليه من الموت أي من سياقات الموت وسكراته. قال تعالى { فأولى لهم } هذا اللفظ صالح لأن يكون دعاء عليهم بالهلاك أي هلاك لهم لجبنهم ونفاقهم وصالح أن يكون بمعنى الأجدر بمثلهم طاعة لله ورسوله وقوله معروف أي حسن لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى فإذا عزم أي جد الأمر للجهاد فلو صدقوا الله ما عاهدوا عليه من أنهم يقاتلون مع رسوله لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة. ثم قال لهم مخاطبا إياهم توبيخا وتقريعا فهل عسيتم بكسر السين وفتحها قراءتان إن توليتم أي عن الإيمان الصوري إلى الكفر الظاهر فأعلنتم عن ردتكم أن تفسدوا في الأرض بفعل الشرك وارتكاب المعاصي وتقطعوا أرحامكم بإعلان الحرب على أقربائكم المؤمنين الصادقين. هذا إذ كان التولي بمعنى الرجوع إلى الكفر العلني وإن كان بمعنى الحكم فالأمر كذلك إذا حكموا ليفعلون ما هو أعظم من الشرك والفساد في الأرض وتقطيع الأرحام، وأخيرا سجلت الآية [22] لعنة الله فقال تعالى أولئك أي البعداء في الخسة والحطة الذين لعنهم الله فأبعدهم من رحمته فأصمهم عن سماع الحق وأعمى أبصارهم عن رؤية الهدى والطريق المستقيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز تمني الخير والأولى أن يسأل الله تعالى ولا يتمنى بلفظ ليت كذا.
2- في القرآن محكم ومنسوخ من الآيات وكله كلام الله يتلى ويتقرب به إلى الله تعالى ويعمل بالمحكم دون المنسوخ وهو قليل جدا.
3- ذم الجبن والخور والهزيمة الروحية.
4- شر الخلق من إذا تولى أفسد في الأرض بالشرك والمعاصي.
[47.24-28]
شرح الكلمات:
أفلا يتدبرون القرآن: أي يتفكرون فيه فيعرفون الحق من الباطل.
أم على قلوب أقفالها: أي بل على قلوب لهم أقفالها فهم لا يفهمون إن تدبروا.
إن الذين ارتدوا على أدبارهم: أي رجعوا كافرين بنفاقهم.
من بعد ما تبين لهم الهدى: أو من بعد ما تبين لهم صدق الرسول وصحة دينه بالحجج والبراهين.
الشيطان سول لهم وأملى لهم: أي زين لهم الشيطان نفاقهم وأملى لهم أي واعدهم بطول العمر ومناهم.
ذلك بأنهم قالوا الذين كرهوا ما أنزل الله: أي ذلك الإضلال بسبب قولهم للذين كرهوا ما أنزل الله وهم المشركون.
سنطيعكم في بعض الأمر: أي بأن نتعاون معكم على عداوة الرسول وبتثبيط المؤمنين عن الجهاد وكان ذلك سرا منهم لا جهرة فأظهره الله لرسوله.
يضربون وجوههم وأدبارهم: أي بمقامع من حديد يضربون وجوههم وظهورهم.
ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله: أي التوفي على الحالة المذكورة من الضرب على الوجوه والظهور بسبب اتباعهم ما أسخط الله من الشرك والمعاصي.
وكرهوا رضوانه: أي ما يرضيه تعالى من التوحيد والعمل الصالح.
فأحبط أعمالهم: أي أبطلها فلم يحصلوا منها على ثواب حسن.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تأديب المنافقين بعيبهم والإنكار عليهم وتهديدهم لعلهم يرجعون إذ حالهم كحال المشركين في مكة فقال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } أي مالهم؟ أغفلوا فلم يتدبروا القرآن أي يتفكروا فيه فيعرفوا الحق من الباطل والهدى من الضلال لأن القرآن نزل لبيان ذلك. أم على قلوب أقفالها أي بل على قلوب لهم أقفالها أي اقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعبر والحجج والأدلة والبراهين حتى يكون الله هو الذي يفتح تلك الأقفال، والله تعالى يقفل ويفتح حسب سنن له في ذلك وقد ذكرنا هذا المعنى مرات في بيان الهداية والإضلال، وقوله تعالى { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } أي رجعوا إلى الكفر بقلوبهم دون ألسنتهم وهم المنافقون من بعد ما تبين لهم الهدى أي صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة دينه الإسلام هؤلاء المرتدون الشيطان سول لهم أي زين لهم ذلك الارتداد وأملى لهم أي واعدهم ممنيا لهم بطول العمر والبقاء الطويل في الحياة والعيش الطيب الواسع فيها وقوله تعالى ذلك أي الإضلال الذي حصل لهم بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله من القرآن والشرائع وإبطال الشرك والشر والفساد وهم المشركون قالوا لهم سرا وخفية سنطيعكم في بعض الأمر، وذلك كعدم قتالكم وتثبيط الناس عن القتال إلى غير ذلك مما أسروه لإخوانهم المشركين. وقوله تعالى والله يعلم إسرارهم يخبر تعالى أنهم لما كانوا يسرون كلمات الكفر للمشركين كان تعالى مطلعا عليهم فهو يعلم إسرارهم وأسرارهم وها هو ذا قد أطلع عليهم رسوله والمؤمنين، وقوله تعالى فكيف أي حالهم إذا توفتهم الملائكة ملك الموت وأعوانه من ملائكة العذاب وهم يضربون بمقامع من حديد وجوههم وأدبارهم أي ظهورهم.
وقوله تعالى ذلك أي العذاب النازل بهم بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله من الكفر به وبرسوله. وكرهوا رضوانه أي ما يرضيه عنهم وهو الجهاد في سبيله فأحبط الله أعمالهم أي أبطلها فلم يثبهم عليها لأنهم مشركون كافرون وعمل المشرك والكافر باطل وهو خاسر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب تدبر القرآن الكريم عند تلاوته أو سماعه وهو تفهم معانيه في حدود قدرة المسلم على الفهم.
2- الارتداد عن الإسلام كالرجوع عن الطاعة إلى المعصية سببهما تزيين الشيطان للعبد ذلك وإملاؤه له بالتمنيي والوعد الكاذب.
3- من الردة التعاون مع الكافرين على المؤمنين بأي شكل من أشكال التعاون ضد الإسلام والمسلمين.
4- تقرير عقيدة عذاب القبر وأنه حق ثابت أعاذنا الله منه آمين.
[47.29-32]
شرح الكلمات:
في قلوبهم مرض: أي مرض النفاق.
أن لن يخرج الله أضغانهم: أي أن لن يظهر أحقادهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
ولو نشاء لأريناكهم: أي لعرفناك بهم فلعرفتهم.
سيماهم: أي بعلاماتهم.
ولتعرفنهم في لحن القول: أي إذا تكلموا عندك في لحن القول أي معناه وذلك بأن يعرضوا فيه بتهجين أمر المسلمين أي تقبيح أمرهم.
والله يعلم أعمالكم: أي أيها المؤمنون إن الله يعلم أعمالكم وسيجزيكم بها خيرا.
ولنبلونكم: ولنختبرنكم بالجهاد وغيره من التكاليف.
حتى نعلم: أي نعلم علم ظهور لكم ولغيركم إذ الله يعلم ذلك قبل ظهوره لما حواه كتاب المقادير.
المجاهدين منكم والصابرين: أي الذين جاهدوا وصبروا من غيرهم.
ونبلوا أخباركم: أي ونظهر أخباركم للناس من طاعة وعصيان في الجهاد وفي غيره.
إن الذين كفروا: أي بالله ولقائه ورسوله وما جاء به من الدين الحق.
وصدوا عن سبيل الله: أي عن الإسلام.
وشاقوا الرسول: أي خالفوه وعادوه وحاربوه.
من بعد ما تبين لهم الهدى: أي عرفوا أن الرسول حق والإسلام حق كاليهود وغيرهم.
لن يضروا الله شيئا: أي من الضرر لأنه متعال أن يناله خلقه بضرر.
وسيحبط أعمالهم: أي يبطلها فلا تثمر لهم ما يرجونه منها في الدنيا والآخرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين بكشف عوارهم وإزاحة الستار عما في قلوبهم من الشك والنفاق فقال تعالى { أم } أي أحسب الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون والمرض هو مرض النفاق الناجم عن الشك في الإسلام وشرائعه أن لن يخرج الله أضغانهم أي أحقادهم فيظهرها لرسوله والمؤمنين فحسبانهم هذا باطل وقوله تعالى لرسوله { ولو نشآء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم } أي بعلامات النفاق فيهم وقوله { ولتعرفنهم في لحن القول } أي وعزتي وجلالي لتعرفنهم في لحن القول أي في معاني كلامهم إذا تكلموا عندك وبين يديك فإن كلامهم لا يخلو من التعريض بالمؤمنين بانتقاصهم والقدح في أعمالهم، كما قيل " من أضمر سريرة ألبسه الله رداءها " وقوله تعالى في خطابه المؤمنين { والله يعلم أعمالكم } ولازمه أنه سيجزيكم بها فاصبروا على الإيمان والتقوى. { ولنبلونكم } أي ولنختبرنكم بالجهاد والإنفاق والتكاليف { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } أي حتى نظهر ذلك لكم فتعرفوا المجاهد من القاعد والصابر من الضاجر منكم وبينكم، { ونبلوا أخباركم } أي ما تخبرون به عن أنفسكم وتتحدثون به فنظهر الصدق من خلافه فيه، ولذا كان الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية بكى وقال اللهم لا تبتلنا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا، وقوله جل ذكره { إن الذين كفروا } أي كذبوا الله ورسوله { وصدوا عن سبيل الله } أي الإسلام فصرفوا الناس عنه بأي سبب من الأسباب، { وشآقوا الرسول } أي خالفوه وعادوه وحاربوه { من بعد ما تبين لهم الهدى } أي ظهر لهم الحق وأن الرسول حق والإسلام حق بالحجج والبراهين هؤلاء الكفرة لن يضروا الله شيئا من الضرر لتنزهه عن صفات المحدثين من خلقه ولامتناعه تعالى وعزته، { وسيحبط أعمالهم } أي يبطلها عليهم فلا ينالون بها ما يؤملون في الدنيا بذهاب كيدهم وخيبة أملهم إذ ينصر الله رسوله ويعلي كلمته، وفي الآخرة لأن أعمال المشرك والكافر باطلة حابطة لا ثواب عليها سوى ثواب الجزاء المهين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حقيقة وهي من أسر سريرة ألبسه الله رداءها فكشفه للناس.
2- ومن أحب شيئا ظهر على وجهه وفلتات لسانه.
3- تقرير قاعدة وهي أنه لا بد من الابتلاء لمن دخل في الإسلام ليكون الإيمان على حقيقته لا إيمانا صوريا أدنى فتنة تصيب صاحبه يرتد بها عن الإسلام.
4- أعمال المشرك والكافر باطلة لا ثواب خير عليها لأن الشرك محبط للأعمال الصالحة.
[47.33-38]
شرح الكلمات:
ولا تبطلوا أعمالكم: أي بالرياء والشرك والمعاصي.
وصدوا عن سبيل الله: أي عن الإسلام.
فلن يغفر الله لهم: أي لأنهم ماتوا على الكفر والكفر محبط للعمل.
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم: أي فلا تضعفوا وتدعوا إلى الصلح مع الكفار.
وأنتم الأعلون: أي الغالبون القاهرون.
ولن يتركم أعمالكم: أي ولن ينقصكم أجر أعمالكم وثوابها.
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو: أي الاشتغال بالدنيا والتفرغ لها ما هو إلا لهو ولعب لعدم الفائدة منه.
ولا يسألكم أموالكم: أي ولا يكلفكم بإنفاق أموالكم كلها بل بالزكاة فقط.
فيحفكم تبخلوا: أي بالمبالغة في طلبكم المال تبخلوا.
ويخرج أضغانكم: أي أحقادكم وبغضكم لدين الإسلام.
فإنما يبخل عن نفسه: أي عائد ذلك على نفسه لا على غيره فهو الذي يحرم الثواب.
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم: أي عن طاعة الله وطاعة رسوله يأت بآخرين غيركم.
ثم لا يكونوا أمثالكم: أي في الطاعة أي يكونوا أطوع منكم لله ورسوله.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى الكفار ومشاقتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم نادى المؤمنين وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله فقال يا أيها الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي فيما يأمرانكم به وينهيانكم عنه من المعتقدات والأقوال والأعمال ولا تبطلوا أعمالكم أي وينهاهم أن يبطلوا أعمالهم بالشرك والرياء والمعاصي والمراد من إبطال الأعمال أي حرمانهم من ثوابها. ثم أعلمهم مذكرا واعظا لهم فقال إن الذين كفروا أي بالله ورسوله وصدوا عن سبيل الله أي عن الإسلام بأي سبب من الأسباب ثم ماتوا وهم كفار قبل أن يتوبوا. فهؤلاء لن يغفر الله لهم ويعذبهم العذاب المعد لأمثالهم وقوله تعالى فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ينهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يضعفوا عن قتال أعدائهم من الكافرين ويدعوا الكافرين إلى الصلح والمهادنة وهم أقوياء قادرون وهو معنى قوله وأنتم الأعلون أي الغالبون القاهرون. ولن يتركم أعمالكم أي لا ينقصكم أجر أعمالكم بل يجزيكم بها ويزيدكم من فضله وقوله { إنما الحيوة الدنيا لعب ولهو } هذه حقيقة وهي أن الحياة الدنيا إن أقبل عليها العبد ناسيا الدار الآخرة مقبلا على الدنيا لن تكون في حقه إلا لهوا ولعبا باعتبار أنه لم يظفر منها على طائل ولم تعد عليه بعائد خير وإسعاد كاللاعب اللاهي بشيء يلعب ويلهو فترة ثم لا يعود عليه ذلك اللعب بشيء كلعب الصبيان ولهوهم فإنهم يلهون ويلعبون بجد ثم يعودون إلى والديهم يطلبون الطعام والشراب. وقوله وإن تؤمنوا أي الإيمان الصحيح وتتقوا ما يغضب ربكم ويسخطه عليكم من الشرك والمعاصي يؤتكم أجوركم المترتبة على الإيمان والتقوى.
وقوله ولا يسألكم أموالكم أي ولا يطلب منكم أموالكم كلها أي كراهة إحفائكم بذلك إن يسألكموها فيحفكم أي بكثرة الإلحاح عليكم تبخلوا إذ هذا معروف من طباع البشر أن الإنسان إذا ألح وألحف عليه في الطلب يبخل بالمال ولم يعطه وقد يترك الإسلام لذلك، وقوله ويخرج أضغانكم أي أحقادكم وبغضكم للدين وكراهيتكم له ولذا لم يسألكم أموالكم وقوله تعالى: { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله } أي جزءا من أموالكم في الزكاة أو الجهاد لا كل أموالكم لما يعلم تعالى من شح النفس بالمال وقوله { فمنكم من يبخل } أي يمنع ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه إذ هي التي حرمها أجر النفقه في سبيل الله ذات الأجر العظيم وقوله { والله الغني وأنتم الفقرآء } إلى الله تعالى فهو غني عنكم لا يحضكم على النفقة لحاجته إليها ولكن لحاجتكم أنتم إليها إذ بها تزكوا نفوسكم وتقوم أموركم وتنتصروا على عدوكم وقوله وإن تتولوا أي ترجعوا عن الإسلام إلى الكفر والعياذ بالله يستبدل الله بكم قوما غيركم أي يذهبكم ويأت بآخرين ثم لا يكونوا أمثالكم بل يكونون أطوع لله تعالى منكم وأسرع امتثالا لما يطلب منهم. وحاشاهم أن يتولوا وما تولوا ولا استبدل الله تعالى بهم غيرهم. وإنما هذا من باب حثهم على معالي الأمور والأخذ بعزائمها نظرا لمكانتهم من هذه الأمة فهم أشرفها وأكملها وأطوعها لله وأحبها له ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب طاعة الله وطاعة رسوله.
2- وجوب اتمام العمل الصالح من صلاة وغيرها بالشروع فيه.
3- بطلان العمل الصالح بالرياء أو بإفساده عند أدائه أو بالردة عن الإسلام.
4- حرمة الركون إلى مصالحة الأعداء مع القدرة على قتالهم والتمكن من دفع شرهم.
5- التنفير من الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة.
6- حرمة البخل مع الجدة والسعة.
[48 - سورة الفتح]
[48.1-7]
شرح الكلمات:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا: أي قضينا لك بفتح مكة وغيرها عنوة بجهادك فتحا ظاهرا بينا.
ليغفر لك الله: أي بسبب شكرك له وجهادك في سبيله.
ما تقدم من ذنبك وما تأخر: أي ما تقدم الفتح وما تأخر عنه.
ويتم نعمته عليك: أي بنصرك على أعدائك وإظهار دينك ورفع ذكرك.
ويهديك صراطا مستقيما: ويرشدك طريقا من الدين لا اعوجاج فيه يفضي بك إلى رضوان ربك.
وينصرك الله نصرا عزيزا: أي وينصرك الله على أعدائك ومن ناوأك نصرا عزيزا لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع.
أنزل السكينة في قلوب المؤمنين: أي الطمأنينة بعد ما أصابهم من الاضطراب والقلق من جراء الصلح.
وكان الله عليما حكيما: أي عليما بخلقه حكيما في تدبيره لأوليائه.
ليدخل المؤمنين والمؤمنات: أي قضى بالفتح ليشكروه ويجاهدوا في سبيله ليدخلهم جنات.
وكان ذلك عند الله فوزا عظيما: أي وكان ذاك الإدخال والتكفير للسيئات فوزا عظيما.
ويعذب المنافقين والمنافقات: والمشركين والمشركات أي يعذبهم بالهم والحزن لما يرون من نصرة الإسلام وعزة أهله.
الظانين بالله ظن السوء: أي أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه.
عليهم دائرة السوء: أي بالذل والعذاب والهوان.
وكان الله عزيزا حكيما: أي كان وما زال تعالى غالبا لا يغلب حكيما في الانتقام من أعدائه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } الآيات هذه فاتحة سورة الفتح التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لقد أنزلت علي سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، "
ثم قرأ { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } وذلك بعد صلح الحديبية سنة ست من الهجرة وفي منصرفه منه وهو في طريقه عائد مع أصحابه إلى المدينة النبوية. وقد خالط أصحابه حزن وكآبة حيث صدوا عن المسجد الحرام فعادوا ولم يؤدوا مناسك العمرة التي خرجوا لها، وتمت أحداث جسام تحمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر عليه من أولى العزم غيره فجزاه الله وأصحابه وكافأهم على صبرهم وجهادهم بما تضمنته هذه الآيات إلى قوله { وكان ذلك عند الله فوزا عظيما } فقوله تعالى { إنا فتحنا لك } يا رسولنا { فتحا مبينا } أي قضينا لك بفتح مكة وخيبر غيرهما ثمرة من ثمرات جهادك وصبرك وهو أمر واقع لا محالة وهذا الصلح بداية الفتح فاحمد ربك واشكره ليغفر لك بذلك وبجهادك وصبرك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك بنصرك على أعدائك وعلى كل من ناوأك، ويهديك صراطا مستقيما أي ويرشدك إلى طريق لا اعوجاج فيه يفضي بك وبكل من يسلكه إلى الفوز في الدنيا والآخرة وهو الإسلام دين الله الذي لا يقبل دينا سواه.
وينصرك الله نصرا عزيزا أي وينصرك ربك على أعدائك وخصوم دعوتك نصرا عزيزا أي ذا عز لا ذل معه هذه أربع عطايا كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بها وهي مغفرة الذنب السابق واللاحق، الفتح للبلاد، الهداية إلى أقوم طريق يفضي إلى سعادة الدارين، والنصر المؤزر العزيز، فلذا قال أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا. وقوله تعالى { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمنا مع إيمنهم } أي هو الله المنعم عليك بما ذكر لك الذي أنزل السكينة أي الطمأنينة على قلوب المؤمنين من أصحابك وكان عددهم ألفا وأربعمائة صاحب أنزل السكينة عليهم بعد اضطراب شديد أصاب نفوسهم دل عليه قول عمر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت فلم نعطى الدنية في ديننا إذا؟ قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال فأتيت أبا بكر فقالت يا أبا بكر أليس هذا نبئ الله حقا؟ قال بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال بلى، قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه أي سر على نهجه ولا تخالفه. فوالله إنه لعلى الحق، قلت أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال بلى. قال فهل أخبرك إنه العام؟ قلت: لا قال فإنك تأتيه وتطوف به. وقوله { ليزدادوا إيمنا مع إيمنهم } أي بشرائع الإسلام كلما نزل حكم آمنوا به وعملوا به ومن ذلك الجهاد وبذلك يكون إيمانهم في ازدياد. وقوله تعالى ولله جنود السماوات والأرض أي ملائكة السماء وملائكة الأرض وكل ذي شوكة وقوة من الكائنات هو لله كغيره ويسخره كما شاء ومتى شاء فقد يسلط جيشا كافرا على جيش كافر نصرة لجيش مؤمن والمراد من هذا إنه تعالى قادر على نصرة نبيه ودينه بغيركم أيها المؤمنون وكان الله وما زال أزلا وأبدا عليما بخلقه حكيما في تدبير أمور خلقه. وقوله تعالى { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم } وكان ذلك أي الإدخال للجنة وتكفير السيئات فوزا عظيما أي فتح على رسوله والمؤمنين ليشكروا بالطاعة والجهاد والصبر أي تم كل ذلك ليدخل المؤمنين والمؤمنات الآية.. وقوله { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } أي فتح على رسوله والمؤمنين ونصرهم ووهبهم ما وهبهم من الكمال ليكون ذلك غما وهما وحزنا يعذب الله به المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات في الدنيا والآخرة وقوله { الظآنين بالله ظن السوء } هذا وصف للمنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات حيث إنهم كانوا ظانين أن الله لا ينصر رسوله والمؤمنين ولا يعلي كلمته ولا يظهر دينه وقوله تعالى { عليهم دآئرة السوء } إخبارا منه عز وجل بأن دائرة السوء تكون على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات كما أخبر عنهم بأنه غضب عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ومعنى أعد هيأ وأحضر لهم، وساءت جهنم مصيرا يصير إليه الإنسان والجان.
بعد نهاية الحياة الدنيا، وقوله تعالى { ولله جنود السموت والأرض } ينصر بها من يشاء ويهزم بها من يشاء { وكان الله عزيزا } أي غالبا لا يمانع في مراده { حكيما } في تدبيره وصنعه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الذنب الذي غفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المعلوم بالضرورة إنه ليس من الكبائر في شيء وهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
2- إنعام الله على العبد يوجب الشكر والشكر يوجب المغفرة وزيادة الإنعام.
3- بيان مكافأة الله لرسوله والمؤمنين على صبرهم وجهادهم.
4- بيان أن الكافرين يحزنون ويغمون لنصر المؤمنين وعزهم فيكون ذلك عذابا لهم في الدنيا.
[48.8-10]
شرح الكلمات:
شاهدا ومبشرا ونذيرا: أي شاهدا على أمتك أمة الدعوة يوم القيامة ومبشرا من آمن منهم وعمل صالحا بالجنة ونذيرا من كفر أو عصى وفسق بالنار.
ليؤمنوا بالله ورسوله: أي هذا علة للإرسال.
وتعزروه وتوقروه: أي ينصروه ويعظموه وهذا لله وللرسول.
وتسبحوه بكرة وأصيلا: أي الله تعالى بالصلاة والذكر والتسبيح.
إن الذين يبايعونك: أي بيعة الرضوان بالحديبية.
إنما يبايعون الله: لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى.
يد الله فوق أيديهم: أي لأنهم كانوا يبايعون الله إذ هو الذي يجاهدون من أجله ويتلقون الجزاء من عنده.
فمن نكث: أي نقض عهده فلم يقاتل مع الرسول والمؤمنين.
فإنما ينكث على نفسه: أي وبال نقضه عهده عائد عليه إذ هو الذي يجزي به.
فسيؤتيه أجرا عظيما: أي الجنة إذ هي الأجر العظيم الذي لا أعظم منه إلا رضوان الله عز وجل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان ما أنعم الله تعالى به على رسوله فقال تعالى { إنآ أرسلنك شهدا } لله تعالى بالوحدانية والكمال المطلق له عز وجل وشاهدا على هذه الأمة التي أرسلت فيها وإليها عربها وعجمها ومبشرا لأهل الإيمان والتقوى بالجنة ونذيرا لأهل الكفر والمعاصي أي مخوفا لهم من عذاب الله يوم القيامة. وقوله تعالى { لتؤمنوا بالله ورسوله } أي أرسلناه كذلك لتؤمنوا بالله ورسوله { وتعزروه } بمعنى تنصروه { وتوقروه } بمعنى تجلوه وتعظموه وهذه واجبة لله ولرسوله الإيمان والتعزير والتوقير، وأما التسبيح والتقديس. فهو لله تعالى وحده ويكون بكلمة سبحان الله وبالصلاة وبالذكر لا إله إلا الله، وبدعاء الله وحده وقوله { بكرة وأصيلا } أي تسبحون الله { بكرة } أي صباحا { وأصيلا } أي عشية وقوله تعالى { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } يخبر تعالى رسوله بأن الذين يبايعونه على قتال أهل مكة وأن لا يفروا عند اللقاء { إنما يبايعون الله } إذ هو تعالى الذي أمرهم بالجهاد وواعدهم الأجر فالعقد وإن كانت صورته مع رسول الله فإنه في الحقيقة مع الله عز وجل، ولذا قال { يد الله فوق أيديهم } وقوله تعالى { فمن نكث } أي نقض عهده فلم يقاتل { فإنما ينكث على نفسه } { ومن أوفى } بمعنى وفى { بما عاهد عليه الله } من نصرة الرسول والقتال تحت رايته حتى النصر { فسيؤتيه } الله { أجرا عظيما } الذي هو الجنة دار السلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإعلان عن شرفه وعلو مقامه.
2- وجوب الإيمان بالله ورسوله ووجوب نصرة الرسول وتعظيمه صلى الله عليه وسلم.
3- وجوب تسبيح الله وهو تنزيهه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله مع الصلاة ليلا ونهارا.
4- وجوب الوفاء بالعهد، وحرمة نقض العهد ونكثه.
[48.11-14]
شرح الكلمات:
المخلفون من الأعراب: أي الذين حول المدينة وقد خلفهم الله عن صحبتك لما طلبتهم ليخرجوا معك إلى مكة خوفا من تعرض قريش لك عام الحديبية وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع.
شغلتنا أموالنا وأهلونا: أي عن الخروج معك.
فاستغفر لنا: أي الله من ترك الخروج معك.
يقولون بألسنتهم: أي كل ما قالوه هو من ألسنتهم وليس في قلوبهم منه شيء.
قل فمن يملك لكم من الله شيئا: أي لا أحد لأن الاستفهام هنا للنفي.
إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا: وبخهم على تركهم صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا من قريش.
بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون: أي حسبتم أن قريشا تقتل الرسول والمؤمنين فلم يرجع منهم أحد إلى المدينة.
وظننتم ظن السوء: هو هذا الظن الذي زينه الشيطان في قلوبهم.
وكنتم قوما بورا: أي هالكين عند الله بهذا الظن السيء، وواحد بور بائر. هالك.
فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا: أي نارا شديدة الاستعار والالتهاب.
يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء: يغفر لمن يشاء وهو عبد تاب وطلب المغفرة بنفسه، ويعذب من يشاء وهو عبد ظن السوء وقال غير ما يعتقد وأصر على ذلك الكفر والنفاق .
وكان الله غفورا رحيما: كان وما زال متصفا بالمغفرة والرحمة فمن تاب غفر الله له ورحمه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين في الحضر والبادية وذلك بتأنيبهم وتوبيخهم وذكر معايبهم إرادة إصلاحهم فقال تعالى لرسوله { سيقول لك المخلفون من الأعراب } وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع وكانوا أهل بادية وأعرابا حول المدينة استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا معه إلى مكة للعمرة تحسبا لما قد تقدم عليه قريش من قتاله صلى الله عليه وسلم إلا أن هؤلاء المخلفين من الأعراب أصابهم خوف وجبن من ملاقاة قريش وزين لهم الشيطان فكرة أن الرسول والمؤمنين لن يعودوا إلى المدينة فإن قريشا ستقضي عليهم وتنهي وجودهم فلذلك خلفهم الله وحرمهم صحبة نبيه والمؤمنين فحرموا من مكرمة بيعة الرضوان وأخبر رسوله عنهم وهو عائد من الحديبية بما يلي { سيقول لك المخلفون من الأعراب } معتذرين لك عن تخلفهم { شغلتنآ أموالنا } فتخلفنا لأجل إصلاحها، { وأهلونا } كذلك { فاستغفر لنا } أي اطلب لنا من الله المغفرة. ولم يكن هذا منهم حقا وصدقا بل كان باطلا وكذبا فقال تعالى فاضحا لهم { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } فهم إذا كاذبون. وهنا أمر رسوله أن يقول لهم أخبروني إن أنتم عصيتم الله ورسوله وتركتم الخروج مع المؤمنين جنبا وخوفا من القتل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أي شرا لكم أو أرد بكم نفعا أي خيرا لكم؟ والجواب قطعا لا أحد إذا فإنكم كنتم مخطئين في تخلفكم وظنكم معا، وقوله { بل كان الله بما تعملون خبيرا } اضرب تعالى عن كذبهم واعتذارهم ليهددهم على ذلك بقوله { بل كان الله بما تعملون خبيرا } وسيجزيكم به وما كان عملهم إلا الباطل والسوء، ثم أضرب عن هذا أيضا إلى آخر فقال { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا } إذ تقتلهم قريش فتستأصلهم بالكلية.
وزين ذلك الشيطان في قلوبكم فرأيتموه واقعا، وظننتم ظن السوء وهو أن الرسول والمؤمنين لن ينجوا من قتال قريش لهم، وكنتم أي بذلك الظن قوما بورا لا خير فيكم هلكى لا وجود لكم. وقوله تعالى { ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنآ أعتدنا للكافرين سعيرا } وهو إخبار أريد به تخويفهم لعلهم يرجعون من باطلهم في اعتقادهم وأعمالهم إلى الحق قولا وعملا، ومعنى أعتدنا أي هيأنا وأحضرنا وسعيرا بمعنى نار مستعرة شديدة الالتهاب وقوله في الآية الأخيرة من هذا السياق [14] { ولله ملك السموت والأرض } أي بيده كل شيء { يغفر لمن يشآء } من عباده ويعذب من يشاء فاللائق بهم التوبة والإنابة إليه لا الإصرار على الكفر والنفاق فإنه غير مجد لهم ولا نافع بحال وقد تاب بهذا أكثرهم وصاروا من خيرة الناس، وكان الله غفورا رحيما فغفر لكم من تاب منهم ورحمه. ولله الحمد والمنة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك دال على أنه كلام الله أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- لا يملك النفع ولا الضر على الحقيقة إلا الله ولذا وجب أن لا يطمع إلا فيه، ولا يرهب إلا منه.
3- حرمة ظن السوء في الله عز وجل، ووجب حسن الظن به تعالى.
4- الكفر موجب لعذاب النار، ومن تاب تاب الله عليه، ومن طلب المغفرة في صدق غفر له.
5- ذم التخلف عن المسابقة في الخيرات والمنافسة في الصالحات.
[48.15]
شرح الكلمات:
المخلفون من الأعراب: أي المذكورون في الآيات قبل هذه وهم غفار وجهينة ومزينة وأشجع.
إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها: أي مغانم خيبر إذا وعدهم الله بها عند رجوعهم من الحديبية.
ذرونا نتبعكم: أي دعونا نخرج معكم لنصيب من الغنائم.
يريدون أن يبدلوا كلام الله: أي أنهم بطلبهم الخروج إلى خيبر لأخذ الغنائم يريدون أن يغيروا وعد الله لأهل الحديبية خاصة بغنائم خيبر.
كذلك قال الله من قبل: أي قاله تعالى لنا قبل عودتنا إلى المدينة فلن تتبعونا ولن تخرجوا معنا.
فسيقولون بل تحسدوننا: أي فسيقولون بل تحسدوننا وفعلا فقد قالوا ذلك وزعموا أنه ليس أمرا من الله هذا المنع، وإنما هو من الرسول والمؤمنين حسدا لهم، وهذا دال على نفاقهم وكفرهم والعياذ بالله.
بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا: أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر إلا قليلا وفي أمور الدنيا لا غير.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين من الحضر والبادية وذلك بالحديث عنهم وكشف عوارهم ودعوتهم إلى التوبة والرجوع إلى الحق عند ظهور انحرافهم وسوء أحوالهم فقال تعالى لرسوله. سيقول المخلفون الذين تقدم الحديث عنهم وأنهم تخلفوا عن الحديبية من الأعراب الذين هم مزينة وجهينة وغفار وأشجع. أي سيقولون لكم إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم، وذلك أن الله تعالى بعد صلح الحديبية وما نال أهلها من آلام نفسية أكرمهم بنعم كثيرة منها أنه واعدهم بغنائم خيبر بأن يتم لهم فتحها ويغنمهم أموالها وكانت أموالا عظيمة، فلما عادوا إلى المدينة وأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخروج إلى خيبر جاء هؤلاء المخلفون يطالبون بالسير معهم لأجل الغنيمة لا غير، قال تعالى { يريدون أن يبدلوا كلام الله } وهو وعده لأهل الحديبية بأن يغنمهم غنائم خيبر، ولذا أمر رسوله أن يقول لهم لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل أي فقد أخبرنا تعالى بحالكم ومقالكم هذا قبل أن تقولوه وتكونوا عليه. وقوله { فسيقولون بل تحسدوننا } هذا من جملة ما أخبر تعالى به رسوله والمؤمنين قبل قولهم له وقد قالوه أي ما منعتمونا من الخروج إلى خيبر إلا حسدا لنا أن ننال من الغنائم أي لم يكن الله أمركم بمنعنا ولكن الحسد هو الذي أمركم وقوله تعالى بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا أي وصمهم بوصمة الجهل وجعلها هي علة تخبطهم وحيرتهم وضلالهم، أنهم قليلو الفهم والإدراك فليسوا على مستوى الرجل الحاذق الماهر البصير الذي يحسن القول والعمل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وعد الله رسوله والمؤمنين بغنائم خيبر وهم في طريقهم من الحديبية إلى المدينة وانجازه لهم دال على وجود الله وعلمه وقدرته وحمكته ورحمته وكلها موجبة للإيمان والتوحيد وحب الله والرغبة إليه والرهبة منه.
2- بيان حيرة الكافر واضطراب نفسه وتخبط قوله وعمله.
3- ذم الجهل وتقبيحه إنه بئس الوصف يوصف به المرء، ولذا لا يرضاه حتى الجاهل لنفسه فلو قلت لجاهل يا جاهل لا تفعل كذا أو لا تقل كذا الغضب عليك.
[48.16-17]
شرح الكلمات:
قل للمخلفين من الأعراب: أي الذين تخلفوا عن الحديبية وطالبوا بالخروج إلى خيبر لأجل الغنائم اختبارا لهم.
ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد: أي ستدعون في يوم ما من الأيام إلى قتال قوم أولي بأس وشدة في الحرب.
تقاتلونهم أو يسلمون: أي تقاتلونهم، أو هم يسلمون فلا حاجة إلى قتالهم.
فإن تطيعوا: أي أمر الداعي لكم إلى قتال القوم أصحاب البأس الشديد.
يؤتكم الله أجرا حسنا: أي عودة اعتباركم مؤمنين صالحين في الدنيا والجنة في الآخرة.
وإن تتولوا: أي تعرضوا عن الجهاد كما توليتم من قبل حيث لم تخرجوا للحديبية.
يعذبكم عذابا أليما: في الدنيا بالقتل والاذلال وفي الآخرة بعذاب النار.
حرج: أي إثم.
ومن يتول: أي يعرض عن طاعة الله ورسوله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين من الأعراب إذ قال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم قل للمخلفين الذين أصبح وصف التخلف شعارا لهم يعرفون به وفي ذلك من الذم واللوم العتاب ما فيه قل لهم مختبرا إياهم ستدعون في يوم من الأيام إلى قتال قوم أولي بأس شديد في الحروب تقاتلونهم، أو يسلمون فلا تقاتلوهم وذلك بأن يرضوا بدفع الجزية وهؤلاء لا يكونون إلا نصارى أو مجوسا فهم إما فارس وإما الروم وقد اختلف في تحديدهم فإن تطيعوا الأمر لكم بالخروج الداعي للجهاد فتخرجوا وتجاهدوا يؤتكم الله أجرا حسنا غنائم في الدنيا وحسن الصيت والأحدوثة والجنة فوق ذلك، وإن تتولوا أي تعرضوا عن طاعة من يدعوكم ولا تخرجوا معه كما تولتيم من قبل حيث لم تخرجوا مع رسول الله إلى مكة للعمرة خوفا من قريش ورجاء أن يهلك الرسول والمؤمنون ويخلو لكم الجو يعذبكم عذابا أليما أي في الدنيا بأن يسلط عليكم من يعذبكم وفي الآخرة بعذاب النار وقوله تعالى ليس على الأعمى حرج الآية إنه لما نزلت آية المنافقين قل للمخلفين من الأعراب وكان ختامها وإن تولوا عن الجهاد يعذبكم عذابا أليما خاف أصحاب الأعذار من مرض وغيره وبكوا فأنزل الله تعالى قوله ليس على الأعمى حرج أي إثم إذا لم يخرج للجهاد ولا على الأعرج حرج وهو الذي به عرج في رجليه لا يقدر على المشي والجري والكر والفر ولا على المريض حرج وهو المريض بالطحال أو الكبد أو السعال من الأمراض المزمنة التي لا يقدر صاحبها على القتال وكان يعتمد على الفر والكر ولا بد كذلك من سلامة البدن وقدرته على القتال.
وقوله { ومن يطع الله ورسوله } أي في أوامرهما ونواهيهما { يدخله جنت تجري من تحتها الأنهر } وهذا وعد صادق من رب كريم رحيم، ومن يتول عن طاعة الله ورسوله يعذبه عذابا أليما وهذا وعيد شديد قوي عزيز ألا فليتق الله امرؤ فإن الله شديد العقاب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاختبار والامتحان لمعرفة القدرات والمؤهلات.
2- بيان أن غزو الإسلام ينتهي إلى أحد أمرين إسلام الأمة المغزوة أو دخولها في الذمة بإعطائها الجزية بالحكم الإسلامي وسياسته.
3- دفع الإثم والحرج في التخلف عن الجهاد لعذر العمى أو العرج أو المرض.
4- بيان وعد الله ووعيده لمن أطاعه ولمن عصاه، الوعد بالجنة. والوعيد بالنار.
[48.18-19]
شرح الكلمات:
لقد رضي الله عن المؤمنين: أي الراسخين في الإيمان الأقوياء فيه وهم أهل بيعة الرضوان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذ يبايعونك: أي بالحديبية أيها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
تحت الشجرة: أي سمرة وهم ألف وأربعمائة بايعوا على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا.
فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم: أي علم الله ما في قلوبهم من الصدق والوفاء فأنزل الطمأنينة والثبات على ما هم عليه.
وأثابهم فتحا قريبا: أي هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة. وفي آخر المحرم من سنة سبع غزوا خيبر ففتحها الله تعالى عليهم.
ومغانم كثيرة يأخذونها: أي من خيبر.
وكان الله عزيزا حكيما: أي كان وما زال تعالى عزيزا غالبا حكيما في تصريفه شؤون عباده.
معنى الآيتين:
قوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين هذا إخبار منه تعالى برضاه عن المؤمنين الكاملين في إيمانهم وهم ألف وأربعمائة الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت شجرة سمرة إلا الجد بن قيس الأنصاري فإنه لم يبايع حيث كان لاصقا بإبط ناقته مختبئا عن أعين الأصحاب وكان منافقا ومات على ذلك لا قرت له عين. وسبب هذه البيعة كما ذكره غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له " وهو الاعتمار " وذلك حين نزل الحديبية. فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش فرق من شتى القبائل يقال لهم الأحابيش واحدهم أحبوش يقال لهم اليوم: اللفيف الأجنبي عبارة عن جيش أفراده من شتى البلاد والدول. فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليهم، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته فراح عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها فنزل عن دابته فحمله بين يديه ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به قال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قتل.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم عندئذ لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، هذا معنى قوله تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم } أي من الصدق والوفاء فأنزل السكينة أي الطمأنينة والثبات عليهم وأثابهم أي جزاهم على صدقهم ووفائهم فتحا قريبا هو صلح الحديبية وفتح خيبر، ومغانم كثيرة يأخذونها وهي غنائم خيبر، وكان الله عزيزا أي غالبا على أمره، حكيما في تدبيره لأوليائه.
هداية الآيتين:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل أهل بيعة الرضوان وكرامة الله لهم برضاه عنهم.
2- ذكاء عمر وقوة فراسته إذ أمر بقطع الشجرة خشية أن تعبد، وكم عبدت من أشجار في أمة الإسلام في غيبة العلماء وأهل القرآن.
3- مكافأة الله تعالى للصادقين الصابرين المجاهدين من عباده المؤمنين بخير الدنيا والآخرة.
[48.20-24]
شرح الكلمات:
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها: أي من الفتوحات الإسلامية التي وصلت الأندلس غربا.
فعجل لكم هذه: أي غنيمة خيبر.
وكف أيدي الناس عنكم: أي أيدي اليهود حيث هموا بالغارة على بيوت الصحابة وفيها أزواجهم وأولادهم وأموالهم فصرفهم الله عنهم.
ولتكون آية للمؤمنين: أي تلك الصرفة التي صرف اليهود المتآمرين عن الاعتداء على عيال الصحابة وهم غيب في الحديبية أو خيبر آية يستدلون بها على كلاءة الله وحمايته لهم في حضورهم ومغيبهم.
ويهديكم صراطا مستقيما: أي طريقا في التوكل على الله والتفويض إليه في الحضور والغيبة لا اعوجاج فيه.
وأخرى لم تقدروا عليها: أي ومغانم أخرى لم تقدروا عليها وهي غنائم فارس والروم.
قد أحاط بها: أي فهي محروسة لكم إلى حين تغزون فارس والروم فتأخذونها.
ولو قاتلكم الذين كفروا: أي المشركون في الحديبية.
لولوا الأدبار: أي لانهزموا أمامكم وأعطوكم أدبارهم تضربونها.
سنة الله التي قد خلت من قبل: أي هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين الصابرين سنة ماضية في كل زمان ومكان.
وهو الذي كف أيديهم عنكم: حيث جاء ثمانون من المشركين يريدون رسول الله والمؤمنين ليصيبوهم بسوء.
وأيديكم عنهم ببطن مكة: فأخذهم أصحاب رسول الله أسرى وأتوا بهم إلى رسول الله فعفا عنهم.
من بعد أن أظفركم عليهم: وذلك بالحديبية التي هي بطن مكة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إفضال الله تعالى وإنعامه على المؤمنين المبايعين الله ورسوله على مناجزة المشركين وقتالهم وأن لا يفروا فقد ذكر أنه أنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم خيبر الكثيرة فعطف على السابق خبرا عظيما آخر فقال { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه } أي غنيمة خيبر، { وكف أيدي الناس عنكم } وذلك أن يهود المدينة تمالأوا مع يهود خيبر وبعض العرب على أن يغيروا على دور الأنصار والمهاجرين، بالمدينة ليقتلوا من بها وينهبوا ما فيها فكف تعالى أيديهم وصرفهم عما هموا به كرامة للمؤمنين، وقوله { ولتكون آية للمؤمنين } أي تلك الصرفة التي صرف فيها قلوب من هموا بالغارة على عائلات وأسر الصحابة بالمدينة وهم غيب بالحديبية آية تهديهم إلى زيادة التوكل على الله والتفويض إليه والاعتماد عليه. وقوله { ويهديكم صراطا مستقيما } أي ويسددكم طريقا واضحا لا اعوجاج فيه وهو أن تثقوا في أموركم كلها بربكم فتتوكلوا عليه في جميعها فيكفيكم عكل ما يهمكم، ويدفع عنكم ما يضركم في مغيبكم وحضوركم. وقوله تعالى { وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها } أي وغنائم أخرى لم تقدروا وهي غنائم الروم وفارس. وقد أحاط الله بها فلم يفلت منها شيء حتى تغزوا تلك البلاد وتأخذوها كاملة، { وكان الله على كل شيء قديرا } ومن مظاهر قدرته أن يغنمكم وأنتم أقل عددا وعددا غنائم أكبر دولتين في عالم ذلك الوقت فارس والروم.
وقوله { ولو قتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا } أي ومن جملة إنعامه عليكم أنه لو قاتلكم أهل مكة وأنتم ببطنها لنصركم الله عليهم ولانهزموا أمامكم مولينكم ظهورهم ولا يجدون وليا يتولاهم بالدفاع عنهم ولا ناصرا ينصرهم لأنا سلطناكم عليهم. وقوله تعالى { سنة الله التي قد خلت من قبل } أي في الأمم السابقة وهي لأن الله ينصر أولياءه على أعدائه لا بد فكان هذا كالسنن الكونية التي لا تتبدل، وهو معنى قوله { ولن تجد لسنة الله تبديلا } ، وقوله تعالى في الآية الأخيرة من هذا السياق [24] { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا } هذه منة أخرى وكرامة عظيمة وهي أن قريشا بعثت بثمانين شابا إلى معسكر رسول الله في الحديبية لعلهم يصيبون غرة من الرسول وأصحابه فينالونهم بسوء فأوقعهم تعالى أسرى في أيدي المسلمين فمن الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم بالعفو فكان سبب صلح الحديبية. وقوله { وكان الله بما تعملون بصيرا } أي مطلعا عالما بكل ما يجري بينكم فهو معكم لولايته لكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صدق وعد الله لأصحاب رسوله في الغنائم التي وعدوا بها فتحققت كلماته بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غنائم فارس والروم.
2- كرامة الله للمؤمنين إذ حمى ظهورهم من خلفهم مرتين الأولى ما هم به اليهود من غارة على عائلات وأسر الصحابة بالمدينة النبوية، والثانية ما هم به رجال من المشركين للفتك بالمؤمنين ليلا بالحديبية إذ مكن الله منهم رسوله والمؤمنين، ثم عفا عنهم رسول الله وأطلق سراحهم فكان ذلك مساعدا قويا على تحقيق صلح الحديبية.
3- بيان سنة الله في أنه ما تقاتل أولياء الله مع أعدائه في معركة إلا نصر الله أولياءه على أعدائه.
[48.25-26]
شرح الكلمات:
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام: أي بالله ورسوله ومنعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام.
والهدي معكوفا أن يبلغ محله: أي ومنعوا الهدي محبوسا حال بلوغ محله من الحرم.
ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات: أي موجودون في مكة.
لم تعلموهم: أي لم تعرفوهم مؤمنين ومؤمنات.
أن تطأوهم: أي قتلا لهم عند قتالكم المشركين بمكة.
فتصيبكم منهم معرة بغير علم: أي إثم وديات قتل الخطأ وعتق أو صيام لأذن لكم الله تعالى في دخول مكة.
ليدخل الله في رحمته من يشاء: أي لم يؤذن لكم في دخول مكة فاتحين ليدخل الله في الإسلام من يشاء.
لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما: أي لو تميزوا فكان المؤمنون على حدة والكافرون على حدة لأذنا لكم في الفتح وعذبنا الذين كفروا بأيديكم عذابا أليما وذلك بضربهم وقتلهم.
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية: أي لعذبناهم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية وهي الأنفة المانعة من قبول الحق ولذا منعوا الرسول وأصحابه من دخول مكة وقالوا كيف يقتلون أبناءنا ويدخلون بلادنا واللات والعزى ما دخلوها.
فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين: أي فهم الصحابة أن يخالفوا أمر رسول الله بالصلح فأنزل الله سكينته عليهم فرضوا ووافقوا فتم الصلح.
وألزمهم كلمة التقوى: أي ألزمهم كلمة لا إله إلا الله إذ هي الواقية من الشرك.
وكانوا أحق بها وأهلها: أي أجدر بكلمة التوحيد وأهلا للتقوى.
وكان الله بكل شيء عليما: أي من أمور عباده وغيرها ومن ذلك علمه بأهلية المؤمنين وأحقيتهم بكلمة التقوى " لا إله إلا الله ".
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن صلح الحديبية فقال تعالى في المشركين ذاما لهم عائبا عليهم صنيعهم { هم الذين كفروا } أي بالله ورسوله وصدوكم عن المسجد الحرام أن تدخلوه وأنتم محرمون والهدى معكوفا أي وصدوا الهدى والحال أنه محبوس ينتظر به دخول مكة لينحر وقوله تعالى { ولولا رجال مؤمنون ونسآء مؤمنات } بمكة لم تعلموهم لأنهم كانوا يخفون إسلامهم غالبا، كراهة أن تطأوهم أثناء قتالكم المشركين فتصيبكم منهم معرة بغير علم منكم بهم والمعرة العيب والمراد به هنا التبعة وما يلزم من قتل المسلم خطأ من الكفارة والدية لولا هذا لأذن لكم في دخول مكة غازين فاتحين لها وقوله تعالى { ليدخل الله في رحمته من يشآء } أي لم يأذن لكم في القتال ورضي لكم بالصلح ليدخل في رحمته من يشاء فالمؤمنون نالتهم رحمة الله إذ لم يؤذوا بدخلولكم مكة فاتحين والمشركون قد يكون تأخر الفتح سببا في إسلام من شاء الله تعالى له الإسلام لا سيما عندما رأوا رحمة الإسلام تتجلى في تلك القتال رحمة بالمؤمنين والمؤمنات حتى لا يتعرضوا للأذى فدين يراعي هذه الأخوة دين لا يحرم منه عاقل.
وقوله تعالى { لو تزيلوا } أي لو تميز المؤمنون والمؤمنات عن المشركين بوجودهم في مكان خاص بهم لأذنا لكم في دخول مكة وقتال المشركين وعذبناهم بأيديكم عذابا أليما وقوله { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } هذا تعليل للإذن بقتال المشركين في مكة وتعذيبهم العذاب الأليم لولا وجود مؤمنين ومؤمنات بها يؤذيهم ذلك والمراد من الحمية الأنفة والتعاظم وما يمنع من قبول الحق والتسليم به وهذه من صفات أهل الجاهلية فقد قالوا، كيف نسمح لهم بدخول بلادنا وقد قتلوا أبناءنا واللات والعزى ما دخلوا علينا أبدا، وقوله تعالى { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } وذلك لما هم المؤمنون بعدم قبول الصلح لما فيه من التنازل الكبير للمشركين وهم على الباطل والمؤمنون على الحق فلما حصل هذا في نفوس المؤمنين أنزل الله سكينته عليهم وهي الطمأنينة والوقار والحلم فرضوا بالمصالحة وتمت وكان فيها خير كثير حتى قيل فيها إنها فتح أولي أو فاتحة فتوحات لا حد لها. وقوله تعالى { وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها } أي وشرف الله وأكرم المؤمنين بإلزامهم التشريعي بكلمة لا إله إلاذ الله. إذ هي كلمة التقوى أي الواقية من الشرك والعذاب في الدارين وجعلهم أحق بها وأهلها. أي أجدر من غيرهم بكلمة التوحيد وأكثر أهلية للتقوى وكان الله بكل شيء عليما ومن ذلك علمه بأهلية أصحاب رسول الله بما جعلهم أهلا له من الإيمان والتقوى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم المحصر وهو من منع دخول المسجد الحرام وهو محرم بحج أو بعمرة فإنه يتحلل بذبح هدي ويعود إلى بلاده، ويذبح الهدي حيث أحصر ، وليس واجبا إدخاله إلى الحرم.
2- الأخذ بالحيطة في معاملة المسلمين حتى لا يؤذى مؤمن أو مؤمنة بغير علم.
3- بيان أن كلمة التقوى هي لا إله إلا الله.
4- الإشارة إلى ما أصاب المسلمين من ألم نفسي من جراء الشروط القاسية التي اشترطها ممثل قريش ووثيقة الصلح. وهذا نص الوثيقة وما تحمله من شروط لم يقدر عليها إلا رسول الله بما آتاه الله من العلم والحكمة والحلم والصبر والوقار، ولما أنزل الله ذلك على المؤمنين من السكينة فحملوها وارتاحت نفوسهم لها نص الوثيقة: " ورد أن قريشا لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم الحديبية بعثت إليه ثلاثة رجال هم سهيل بن عمرو القرشي، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن يخلي له قريش مكة من العام المقبل ثلاث أيام فقبل ذلك وكتبوا بينهم كتابا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا: ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم، فكتب ثم قال اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة فقالوا لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب ما يريدون فهم المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا بهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وحلموا وتم الصلح على ثلاث أشياء هي:
1- أن من أتاهم من المشركين مسلما ردوه إليهم.
2- أن من أتاهم من المسلمين لم يردوه إليهم.
3- أن يدخل الرسول والمؤمنون مكة من عام قابل ويقيمون بها ثلاثة أيام لا غير ولا يدخلها بسلاح.
فلما فرع من الكتاب قال صلى الله عليه وسلم قوموا فانحروا ثم احلقوا.
[48.27-28]
شرح الكلمات:
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق: أي جعل الله رؤيا رسوله التي رآها في النوم عام الحديبية حقا.
لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين: هذا مضمون الرؤيا أي لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين.
محلقين رؤوسكم ومقصرين: أي حالقين جميع شعوركم أو مقصرينها.
لا تخافون: أي أبدا حال الإحرام وبعده.
فعلم ما لم تعلموا: أي في الصلح الذي تم، أي لم تعلموا من ذلك المعرة التي كانت تلحق المسلمين بقتالهم إخوانهم المؤمنين وهم لا يشعرون.
فجعل من دون ذلك فتحا قريبا: هو فتح خيبر وتحققت الرؤيا في العام القابل.
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق: فلذا لا يخلفه رؤياه بل يصدقه فيها.
ليظهره على الدين كله: أي ليعليه على سائر الأديان بنسخ الحق فيها، وإبطال الباطل فيها، أو بتسليط المسلمين على أهلها فيحكمونهم.
وكفى بالله شهيدا: أي إنك مرسل بما ذكر أي بالهدى ودين الحق.
معنى الآيات:
ما زال السياق في صلح الحديبية وما تم فيه من أحداث فقال تعالى { لقد صدق الله رسوله } أي محمدا صلى الله عليه وسلم { الرءيا بالحق } أي الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر بها أصحابه عند خروجهم من المدينة إلى مكة فقد أخبر بها أصحابه فسروا بذلك وفرحوا ولما تم الصلح بعد جهاد سياسي وعسكري مرير، وأمرهم الرسول أن ينحروا ويحلقوا اندهشوا لذلك وقال بعضهم أين الرؤيا التي رأيت؟ ونزلت سورة الفتح عند منصرفهم من الحديبية وفيها قوله تعالى { لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون } ، وقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق فلما جاء العام القابل وفي نفس الأيام من شهر القعدة خرج رسول الله والمسلمون محرمين يلبون وأخلت لهم قريش المسجد الحرام فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة وتحللوا من عمرتهم فمنهم المحلق ومنهم المقصر.
وقوله تعالى فعلم ما لم تعلموا فأثبت الصلح وقرره لأنه لو كان قتال ولم يكن صلح لهلك المؤمنون بمكة والمؤمنات بالحرب وتحصل بذلك معرة كبرى للمسلمين الذين قتلوا إخوانهم في الإسلام هذا من بعض الأمور التي اقتضت الصلح وترك التقال وقوله وجعل من دون ذلك فتحا قريبا الصلح فتح ، وفتح خيبر فتح، وفتح مكة فتح، وكلها من الفتح القريب. وقوله هو الذي أرسل رسوله أي محمد بالهدى ودين الحق أي الإسلام فكيف إذا لا يصدقه رؤياه كما ظن البعض وكفى بالله شهيدا على أنك يا محمد مرسل بما ذكر تعالى من الهدى والدين الحق وإظهاره على الدين كله بنسخ الحق الذي فيه وابطال الباطل الذي ألصق به. أو بتسليط المسلمين على قهر وحكم أهل تلك الأديان الباطلة وقد حصل من هذا شيء كبير.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- تقرير أن رؤيا الأنبياء حق.
2- تعبير الرؤيا قد يتأخر سنة أو أكثر.
3- مشروعية الحلق والتقصير للتحلل من الحج أو العمرة وإن الحلق أفضل لتقدمه.
4- مشروعية قول إن شاء الله في كل قول أو عمل يراد به المستقبل.
5- الإسلام هو الدين الحق وما عداه فباطل.
[48.29]
شرح الكلمات:
محمد رسول الله والذين معه: أي أصحابه رضوان الله عليهم.
أشداء على الكفار: أي غلاظ لا يرحمونهم.
رحماء بينهم: أي متعاطفون متوادون كالوالد مع الولد.
تراهم ركعا سجدا: أي تبصرهم ركعا سجدا أي راكعين ساجدين.
يبتغون فضلا من الله ورضوانا: أي يطلبون بالركوع والسجود ثوابا من ربهم هو الجنة ورضوانا هو رضاه عز وجل.
سيماهم في وجوههم: أي نور وبياض يعرفون به يوم القيامة أنهم سجدوا في الدنيا.
ذلك: أي الوصف المذكور.
مثلهم في التوراة: أي صفتهم في التوراة كتاب موسى عليه السلام.
أخرج شطأه: أي فراخه.
فآزره: أي قواه وأعانه.
فاستغلظ فاستوى: أي غلظ واستوى أي قوي.
على سوقه: جمع ساق أي على أصوله.
يعجب الزراع: أي زارعيه لحسنه.
ليغيظ بهم الكفار: هذا تعليل أي قواهم وكثرهم ليغيظ بهم الكفار.
معنى الآيات:
لما أخبر تعالى أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله شهادة منه بذلك أخبر أيضا عنه بما يؤكد تلك الشهادة فقال تعالى { محمد رسول الله والذين معه } من أصحابه { أشدآء على الكفار } أي غلاظ قساة عليهم، وذلك لأمرين الأول أنهم كفروا بالله وعادوه ولم يؤمنوا به ولم يجيبوه، والله يبغضهم لذلك فهم إذا غلاظ عليهم لذلك والثاني أن الغلظة والشدة قد تكون سببا في هدايتهم لأنهم يتألمون بها، ويرون خلافها مع المسلمين فيسلمون فيرحمون ويفوزون. وقوله تعالى { رحمآء بينهم } أي فيما بينهم يتعاطفون يتراحمون فترى أحدهم يكره أن يمس جسمه أو ثوبه جسم الكافر أو ثوبه، وتراه مع المسلم إذا رآه صافحه وعانقه ولاطفه وأعانه وأظهر له الحب والود. وقوله تعالى { تراهم } أي تبصرهم أيها المخاطب { ركعا سجدا } أي راكعين ساجدين في صلواتهم { يبتغون } أي يطلبون بصلاتهم بعد إيمانهم وتعاونهم وتحاببهم وتعاطفهم مع بعضهم، يطلبون بذلك { فضلا من الله ورضوانا } أي الجنة ورضا الله. وهذا أسمى ما يطلب المؤمن أن يدخله الله الجنة بعد أن ينقذه من النار ويرضى عنه. وقوله { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } أي علامات إيمانهم وصفائهم في وجوههم من أثر السجود إذ يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء
نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم
[التحريم: 8] وفي الدنيا عليهم سيما التقوى والصلاح والتواضع واللين والرحمة. وقوله تعالى { ذلك } أي المذكور { مثلهم في التوراة } { ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } أي فراخه { فآزره } أي قواه وأعانه { فاستغلظ } أي غلظ { فاستوى } أي قوي { على سوقه } جمع ساق ما يحمل السنبلة من أصل لها { يعجب الزراع } أي الزارعين له وذلك لحسنه وسلامة ثمرته وقوله تعالى { ليغيظ بهم الكفار } أي قواهم وكثرهم من أجل أن يغيظ بهم الكفار ولذا ورد عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى أن من يغيظه أصحاب رسول الله فهو كافر وقوله { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة } أي لذنوبهم { وأجرا عظيما } هو الجنة.
هذا وعد خاص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم وهناك وعد عام لسائر المؤمنين والمؤمنات وذلك في آيات أخرى مثل آية المائدة
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم
[الآية: 9].
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- تقرير نبوة رسول الله وتأكيد رسالته.
2- بيان ما كان عليه رسول الله وأصحابه من الشدة والغلظة على الكفار والعطف والرحمة على أهل الإيمان وهذا مما يجب الأتساء بهم فيه والاقتداء.
3- بيان فضل الصلاة ذات الركوع والسجود والطمأنينة والخشوع.
4- صفة أصحاب رسول الله في كل من التوراة والإنجيل ترفع من درجتهم وتعلي من شأنهم.
5- بيان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأوا قليلين ثم أخذوا يكثرون حتى كثروا كثرة أغاظت الكفار.
6- بغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافى مع الإيمان منافاة كاملة لا سيما خيارهم وكبارهم كالخلفاء الراشدين الأربعة والمبشرين بالجنة العشرة وأصحاب بيعة الرضوان، وأهل بدر قبلهم. ولذا روي عن مالك رحمه الله تعالى أن من يغيظه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر.
[49 - سورة الحجرات]
[49.1-3]
شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا: أي لا تتقدموا بقول ولا فعل إذ هو من قدم بمعنى تقدم.
بين يدي الله ورسوله: كمن ذبح يوم العيد قبل أن يذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكإرادة أحد الشيخين تأمير رجل على قوم قبل استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم.
واتقوا الله إن الله سميع عليم: أي خافوا الله إنه سميع لأقوالكم عليم بأعمالكم.
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي: أي إذا نطقتم فوق صوت النبي إذا نطق.
ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض: أي إذا ناجيتموه فلا تجهروا في محادثتكم معه كما تجهرون فيما بينكم إجلالا له صلى الله عليه وسلم وتوقيرا وتقديرا.
أن تحبط أعمالكم: أي كراهة أن تبطل أعمالكم فلا تثابون عليها.
وأنتم لا تشعرون: بحبوطها وبطلانها. إذ قد يصحب ذلك استخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم لا سيما إذا صاحب ذلك إهانة وعدم مبالاة فهو الكفر والعياذ بالله.
يغضون أصواتهم عند رسول الله: أي يخفضونها حتى لكأنهم يسارونه ومنهم أبو بكر رضي الله عنه.
امتحن الله قلوبهم للتقوى: أي شرحها ووسعها لتتحمل تقوى الله. مأخوذ من محن الأديم إذا وسعه.
لهم مغفرة وأجر عظيم: أي مغفرة لذنوبهم وأجر عظيم وهو الجنة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا } لو بحثنا عن المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها لتجلت لنا واضحة إذا رجعنا بالذاكرة إلى موقف عمر رضي الله عنه وهو يريد أن لا يتم صلح بين المؤمنين والمشركين، وإلى موقف الصحابة كافة من عدم التحلل من إحرامهم ونحر هداياهم والرسول يأمر وهم لا يستجيبون حتى تقدمهم صلى الله عليه وسلم فنحر هديه ثم نحروا بعده وتحللوا، إذ تلك المواقف التي أشرنا إليها فيها معنى تقديم الرأي بين يدي الله ورسوله وفي ذلك مضرة لا يعلم مداها إلا الله، ولما انتهت تلك الحال وذلك الظرف الصعب أنزل الله تعالى قوله { يأيها الذين آمنوا } أي بالله ربا وإلها وبالإسلام شرعة ودينا وبمحمد نبيا ورسولا ناداهم بعنوان الإيمان ليقول لهم ناهيا { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } أي قولا ولا عملا ولا رأيا ولا فكرا أي لا تقولوا ولا تعملوا إلا تبعا لما قال الله ورسوله، وشرع الله ورسوله { واتقوا الله } في ذلك فإن التقدم بالشيء قبل أن يشرع الله ورسوله فيه معنى أنكم أعلم وأحكم من الله ورسوله وهذه زلة كبرى وعاقبتها سوأى. ولذا قال { واتقوا الله إن الله سميع } أي لأقوالكم { عليم } بأعمالكم وأحوالكم. ومن هنا فواجب المسلم أن لا يقول ولا يعمل ولا يقضي ولا يفتي برأيه إلا إذا علم قول الله ورسوله وحكمهما وبعد أن يكون قد علم أكثر أقوال الله والرسول وأحكامهما، فإذا لم يجد من ذلك شيئا اجتهد فقال أو عمل بما يراه أقرب إلى رضا الله تعالى فإذا لاح له بعد ذلك نص من كتاب أو سنة عدل عن رأيه وقال بالكتاب والسنة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى [1] أما الآية الثانية [2] وهي قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } فإنها تطالب المسلم بالتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولا نهاهم رضي الله عنهم عن رفع أصواتهم فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هم تحدثوا معه وأوجب عليهم إجلال النبي وتعظيمه وتوقيره بحيث يكون صوت أحدهم إذا تكلم مع رسول الله أخفض من صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ولقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا كلم رسول الله يساره الكلام مسارة وثانيا نهاهم إذا هم ناجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض بل يجب عليهم توقيره وتعظيمه. وأعلمهم أنه يخشى عليهم إذا هم لم يوقروا رسول الله ولم يجلوه أن تحبط أعمالهم كما تحبط بالشرك والكفر وهم لا يشعرون. إذ رفع الصوت للرسول ونداؤه بأعلى الصوت يا محمد أو يا نبي الله ويا رسول الله وبأعلى الأصوات إذا صاحبه استخفاف أو إهانة وعدم مبالاة صار كفرا محبطا للعمل قطعا. وفي الآية الثالثة [3] يثني الله تعالى على أقوام يغضون أصواتهم أي يخفضونها عند رسول الله أي في حضرته وبين يديه كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما هؤلاء يخبر تعالى أنه امتحن قلوبهم للتقوى أي وسعها وشرحها لتحمل تقوى الله والرسول صلى الله عليه وسلم يقول التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاثا، ويذكر لهم بشرى نعم البشرى وهي أن لهم منه تعالى مغفرة لذنوبهم، وأجرا عظيما يوم يلقونه وهو الجنة دار المتقين جعلنا الله منهم بفضله ورحمته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا يجوز للمسلم أن يقدم رأيه أو اجتهاده على الكتاب والسنة فلا رأي ولا اجتهادا إلا عند عدم وجود نص من كتاب أو سنة وعليه إذا اجتهد أن يكون ما اجتهد فيه أقرب إلى مراد الله ورسوله، أي الصق بالشرع، وإن ظهر له بعد الاجتهاد نص من كتاب أو سنة عاد إلى الكتاب والسنة وترك رأيه أو اجتهاده فورا وبلا تردد.
2- بما أن الله تعالى قد قبض إليه نبيه ولم يبق بيننا رسول الله نتكلم معه أو نناجيه فنخفض أصواتنا عند ذلك فإن علينا إذا ذكر رسول الله بيننا أو ذكر حديثه أن نتأدب عند ذلك فلا نضحك ولا نرفع الصوت، ولا نظهر أي استخفاف أو عدم مبالاة وإلا يخشى علينا أن تحبط أعمالنا ونحن لا نشعر.
3- على الذين يغشون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يرفعوا أصواتهم فيه إلا لضرورة درس أو خطبة أو أذان أو إقامة.
[49.4-8]
شرح الكلمات:
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات: أي حجرات نسائه والذين نادوه وفد من أعراب بني تميم منهم الزبرقان بن بدر والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن.
أكثرهم لا يعقلون: أي فيما فعلوه بمحلك الرفيع ومقامك السامي الشريف.
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم: أي ولو أنهم انتظروك حتى تخرج بعد قيامك من قيلولتك.
لكان خيرا لهم: أي من ذلك النداء بأعلى أصواتهم من كل أبواب الحجرات.
والله غفور رحيم: أي غفور لمن تاب منهم رحيم بهم إذ أساءوا مرتين الأولى برفع أصواتهم والثانية كانوا ينادونه ويقولون أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين.
فاسق بنبأ: أي ذو فسق وهو المرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب والنبأ الخير ذو الشأن.
فتبينوا: أي تثبتوا قبل أن تقولوا أن تفعلوا أو تحكموا.
أن تصيبوا قوما بجهالة: أي خشية إصابة قوم بجهالة منكم.
فتصبحوا على ما فعلتم نادمين: أي فتصيروا على فعلكم الخاطىء نادمين.
واعلموا أن فيكم رسول الله: أي فاحذروا أن تكذبوا أو تقولوا الباطل فإن الوحي ينزل وتفضحون بكذبكم وباطلكم.
لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم: أي لوقعتم في المشقة الشديدة والإثم أحيانا.
وكره إليكم الكفر والفسوق: أي بغض إلى قلوبكم الكفر والفسوق كالكذب والعصيان بترك واجب أو فعل محرم.
أولئك هم الراشدون: أي الذين فعل بهم ما فعل من تحبيب الإيمان وتكريه الكفر وما ذكر معه هم الراشدون أي السالكون سبيل الرشاد.
فضلا من الله ونعمة: أي أفضل بذلك عليهم فضلا وأنعم إنعاما ونعمة.
والله عليم حكيم: أي عليم بخلقه وما يعملون حكيم في تدبيره لعباده هذا بعامة وبخاصة عليم بأولئك الراشدين حكيم في إنعامه عليهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تأديب المؤمنين إزاء نبيهم صلى الله عليه وسلم فقد عاب تعالى أقواما معهم جفاء وغلظة قيل أنهم وفد من أعراب بني تميم منهم الزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءوا والرسول قائل وقت القيلولة ووقفوا على أبواب الحجرات ينادون بأعلى أصواتهم يا محمد يا محمد صلى الله عليه وسلم أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية الكريمة تأديبا لهم { إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات } حجرات نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت أبواب الحجرات إلى المسجد. { أكثرهم لا يعقلون } أي فيما فعلوه بمقام الرسول الشريف ومكانته الرفيعة. { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم } بعد هبوبك من قيلولتك { لكان خيرا } أي من ذلك النداء بتعالي الأصوات من وراء الحجرات وقوله تعالى { والله غفور رحيم } أي غفور لمن تاب منهم رحيم بهم إذ لم يعجل لهم العقوبة وفتح لهم باب التوبة وأدبهم ولم يعنف ولم يغلظ، وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق [6] { يأيها الذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } هذه الآية وإن كان لها سبب في نزولها وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأتي بزكاة أموالهم، وكان بينهم وبين أسرة الوليد عداء في الجاهلية فذكره الوليد وهاب أن يدخل عليهم دارهم وهذا من وسواس الشيطان فرجع وستر على نفسه الخوف الذي أصابه فذكر أنهم منعوه الزكاة وهموا بقتله فهرب منهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بغزوهم.
وما زال كذلك حتى أتى وفد منهم يسترضي رسول الله ويستعتب عنده خوفا من أن يكون قد بلغه عنهم سوء فأخبروه بأنهم على العهد وأن الوليد رجع من الطريق ولم يصل إليهم وبعث الرسول خالد بن الوليد من جهة فوصل إليهم قبل المغرب فإذا بهم يؤذنون ويصلون المغرب والعشاء فعلم أنهم لم يرتدوا وأنهم على خير والحمد لله. وجاء بالزكوات وأنزل الله تعالى هذه الآية قلت إن هذه الآية وإن نزلت في سبب معين فإنها عامة وقاعدة أساسية هامة فعلى الفرد والجماعة والدولة أن لا يقبلوا من الأخبار التي تنقل إليهم ولا يعملوا بمقتضاها إلا بعد التثبت والتبين الصحيح كراهية أن يصيبوا فردا أو جماعة بسوء بدون موجب لذلك ولا مقتض الاقالة سوء وفرية قد يريد بها صاحبها منفعة لنفسه بجلب مصلحة أو دفع مضرة عنه. فالأخذ بمبدأ التثبت والتبين عند سماع خبر من شخص لم يعرف بالتقوى والاستقامة الكاملة والعدالة التامة واجب صونا لكرامة الأفراد وحماية لأرواحهم وأموالهم. والحمد لله على شرع عادل رحيم كهذا. فقوله { إن جآءكم فاسق } المراد بالفاسق من يرتكب كبيرة من كبائر الذنوب كالكذب مثلا، والنبأ الخبر ذو الشأن والتبين التثبت وقوله { أن تصيبوا قوما بجهالة } أن تصيبوهم في أبدانهم وأموالهم بعدم علم منكم وهي الجهالة وقوله { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } أي من جراء ما اتخذتم من إجراء خاطىء، وقوله تعالى في الآية [7] { واعلموا } يلفت الرب تعالى نظر المسلمين إلى حقيقة هم غافلون عنها وهو وجود الرسول صلى الله عليه وسلم حيا بينهم ينزل عليه الوحي فإن هذه حال تتطلب منهم التزام الصدق في القول والعمل وإلا يفضحهم الوحي فورا إن هم كذبوا في قول أو عمل كما فضح الوليد لما أخبر بغير الحق. هذا أولا وثانيا لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطيعهم في كل ما يرونه ويقترحونه لوقعوا في مشاكل تعرضهم لمشاق لا تطاق، بل وفي آثام عظام.
هذا معنى قوله تعالى { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } وقوله { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } فوقاكم كثيرا من أن تكذبوا على رسولكم أو تقترحوا عليه أو تفرضوا آراءكم. وقوله { أولئك هم الراشدون } أي أولئك أصحاب رسول الله هم السالكون سبيل الرشاد فلا يتهوكون ولا يضلون وقوله { فضلا من الله ونعمة } أي هدايتهم كانت فضلا من الله ونعمة، والله عليم بهم وبنياتهم وبواعث نفوسهم حكيم في تدبيره فأهل أصحاب رسول الله للخير وأضفاه عليهم فهم أفضل هذه الأمة على الاطلاق ولا مطمع لأحد أتى بعدهم أن يفوقهم في الفضل والكمال في الدنيا ولا في الآخرة فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وعنا معهم آمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سمو المقام المحمدي وشرف منزلته صلى الله عليه وسلم.
2- وجوب التثبت في الأخبار ذات الشأن التي قد يترتب عليها أذى أو ضرر بمن قيلت فيه، وحرمة التسرع المفضي بالأخذ بالظنة فيندم الفاعل بعد ذلك في الدنيا والآخرة.
3- من أكبر النعم على المؤمن تحبيب الله تعالى الإيمان إليه وتزيينه في قلبه، وتكريه الكفر إليه والفسوق والعصيان وبذلك أصبح المؤمن أرشد الخلق بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[49.9-13]
شرح الكلمات:
وإن طائفتان من المؤمنين: أي جماعاتان قل أفرادهما أو كثروا من المسلمين.
اقتتلوا فأصحلوا بينهما: أي هموا بالاقتتال أو باشروه فعلا فأصلحوا ما فسد بينهما.
فإن بغت إحداهما على الأخرى: أي تعدت بعد المصالحة بأن رفضت ذلك ولم ترض بحكم الله.
فقاتلوا التي تبغي حتى تفيىء إلى أمر الله: أي قاتلوا أيها المؤمنون مجتمعين الطائفة التي بغت حتى ترجع إلى الحق.
فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل: أي رجعت إلى الحق بعد مقاتلتها فأصلحوا بينهما بالعدل أي بالحق.
وأقسطوا إن الله يحب المقسطين: أي وأعدلوا في حكمكم إن الله يحب أهل العدل.
إنما المؤمنون إخوة: أي في الدين الإسلامي.
فأصلحوا بين أخويكم: أي إذا تنازعا شيئا وتخاصما فيه.
واتقوا الله لعلكم ترحمون: أي خافوا عقابه رجاء أن ترحموا إن أنتم اتقيتموه.
لا يسخر قوم من قوم: أي لا يزدر قوم منكم قوما آخرين ويحتقرونهم.
عسى أن يكونوا خيرا منهم: أي عند الله تعالى والعبرة بما عند الله لا ما عند الناس.
ولا تلمزوا أنفسكم: أي لا تعيبوا بعضكم بعضا فإنكم كفرد واحد.
ولا تنابزوا بالألقاب: أي لا يدعو بعضكم بعضا بلقب يكرهه نحو يا فاسق يا جاهل.
بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان: أي قبح اسم الفسوق يكون للمرء بعد إيمانه وإسلامه.
ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون: أي من لمز ونبز المؤمنين فأولئك البعداء هم الظالمون.
اجتنبوا كثيرا من الظن: أي التهم التي ليس لها ما يوجبها من الأسباب والقرائن.
إن بعض الظن إثم: أي كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين.
ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا: أي لا تتبعوا عورات المسلمين وما بهم بالبحث عنها.
أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا: أي لا يحسن به حب أكل لحم أخيه ميتا ولا حيا معا.
فكرهتموه: أي وقد عرض عليكم الأول فكرهتموه فاكرهوا أي كما كرهتم أكل لحمه ميتا فاكرهوه حيا وهو الغيبة.
وجعلناكم شعوبا وقبائل: أي جمع شعب والقبيلة دون الشعب.
لتعارفوا: أي ليعرف بعضكم بعضا فتعارفوا لا للتفاخر بعلو الأنساب.
إن أكرمكم عند الله أتقاكم: أي أشدكم تقوى لله بفعل أوامره وترك نواهيه هو أكرم عند الله.
إن الله عليم خبير: أي عليم بكم وبأحوالكم خبير بما تكونون عليه من كمال ونقص لا يخفى عليه شيء من أشياء العباد.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا } الآيات ما زال السياق الكريم في طلب تأديب المسلمين وتربيتهم وإعدادهم للكمال الدنيوي والأخروي ففي الآيتين [9] و [10] من هذا السياق يرشد الله تعالى المسلمين إلى كيفية علاج مشكلة النزاع المسلح بين المسلمين الذي قد يحدث في المجتمع الإسلامي بحكم الضعف الإنساني من الوقت إلى الوقت وهو مما يكاد يكون من ضروريات الحياة البشرية وعوامله كثيرة لا حاجة إلى ذكرها فقال تعالى { وإن طآئفتان } أي جماعتان { من المؤمنين اقتتلوا } ولو كان ذلك بين اثنين فقط { فأصلحوا } أيها المسلمون { بينهما } بالقضاء على أسباب الخلاف وترضية الطرفين بما هو حق وخير وليس هذا بصعب مع وجود قلوب مؤمنة وهداية ربانية وقوله { فإن بغت إحداهما } أي اعتدت إحدى الطائفتين بعد الصلح { على الأخرى } بأن رفضت حكم الله الذي قامت المصاحلة بموجبه { فقاتلوا } مجتمعين { التي تبغي } أي تعتدي { حتى تفيء إلى أمر الله } أي إلى الحق { فإن فآءت } أي أذعنت للحق ورضيت به { فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا } في حكمكم دائما وأبدا { إن الله يحب المقسطين } وقوله تعالى في الآية [10] { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } يقرر تعالى الأخوة الإسلامية ويقصر المؤمنين عليها قصرا فليس المؤمنون إلا إخوة لبعضهم بعضا ولذا وجب رأب كل صدع وإصلاح كل فساد يظهر بين أفرادهم وعدم التساهل في ذلك { واتقوا الله } في ذلك فلا تتوانوا أو تتساهلوا حتى تسفك الدماء المؤمنة ويتصدع بنيان الإيمان والإسلام في دياره وقوله { لعلكم ترحمون } فلا يتصدع بنيانكم ولا تتشتت أمتكم وتصبح جماعات وطوائف متعادية يقتل بعضها بعضا.
ولما لم يتق المؤمنون الله في الإصلاح الفوري بين الطوائف الإسلامية المتنازعة حصل من الفساد والشر ما الله به عليم في الغرب الإسلامي والشرق. وقوله في الآية [11] { يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن } إذ من عوامل النزاع والتقاتل وأسبابهما سخرية المؤمن بأخيه واحتقاره لضعف حاله ورثاثة ثيابه وقلة ذات يده فحرم تعالى بهذه الآية على المسلم أن يحتقر أخاه المسلم ويزدريه منبها إلى أن من احتقر وازدرى به وسخر منه قد يكون غالبا خيرا عند الله من المحتقر له والعبرة بما عند الله لا بما عند الناس والرجال في هذا والنساء سواء فلا يحل لمؤمنة أن تزدري وتحتقر أختها المؤمنة عسى أن تكون عند الله خيرا منها منزلة والعبرة بالمنزلة عند الله لا عند الناس وكما حرم السخرية بالمؤمنين والمؤمنات لإفضائها إلى العداوة والشحناء ثم التقاتل حرم كذلك اللمز والتنابز بالألقاب فقال تعالى { ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ومعنى لا تلمزوا أنفسكم أي لا يعب بعضكم بعضا بأي عيب من العيوب فإنكم كشخص واحد فمن عاب أخاه المسلم كأنما عاب نفسه كما أن المعاب قد يرد العيب بعيب من عابه وهذا معنى ولا تلمزوا أنفسكم وقوله ولا تنابزوا بالألقاب أي لا يلقب المسلم أخاه بلقب يكرهه فإن ذلك يفضي إلى العداوة والمقاتلة وقوله { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي قبح أشد القبح أن يلقب المسلم بلقب الفسق بعد أن أصبح مؤمنا عدلا كاملا في أخلاقه وآدابه فلا يحل لمؤمن أن يقول لأخيه يا فاسق أو يا كافر أو يا عاهر أو يا فاسد، إذ بئس الاسم اسم الفسوق كما أن الملقب للمسلم بألقاب السوء يعد فاسقا وبئس الاسم له أن يكون فاسقا بعد إيمانه بالله ولقائه والرسول وما جاء به، وقوله تعالى { ومن لم يتب } أي من احتقار المسلمين وازدرائهم وتلقيبهم بألقاب يكرهونها { فأولئك هم الظالمون } المتعرضون لغضب الله وعقابه.
وقوله في الآية [12] { يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا } ينادي الله تعالى المسلمين بعنوان الإيمان إذ به أصبحوا أحياء يسمعون ويبصرون ويقدرون على الفعل والترك إذ الإيمان بمثابة الروح إذ احلت الجسم تحرك فأبصرت العين وسمعت الأذن ونطق اللسان وفهم القلب.
فيقول { يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن } وهو كل ظن ليس له ما يوجبه من القرائن والأحوال والملابسات المقتضية له، ويعلل هذا النهي المقتضى للتحريم فيقول { إن بعض الظن إثم } وذلك كظن السوء بأهل الخير والصلاح في الأمة فإن ظن السوء فيهم قد يترتب عليه قول باطل أو فعل سوء أو تعطيل معروف، فيكون إثما كبيرا، وقوله { ولا تجسسوا } أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها والاطلاع عليها لما في ذلك من الضرر الكبير، وقوله { ولا يغتب بعضكم بعضا } أي لا يذكر أحدكم أخاه في غيبته بما يكره وهنا يروى في الصحيح من الأحاديث ما معناه
" أن رجلا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال له ذكرك أخاك بما يكره فقال الرجل فإن كان فيه ما يكره قال فإن كان فيه ما يكره فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما يكره فقد بهته والبهتان أسوأ الغيبة "
وقوله أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟ والجواب لا قطعا إذا فكما عرض عليكم لحم أخيكم ميتا فكرهتموه فاكرهوا إذا أكل لحمه حيا وهو عرضه والعرض أعز وأغلى من الجسم وقوله { واتقوا الله } في غيبة بعضكم بعضا فإن الغيبة من عوامل الدمار والفساد بين المسلمين، وقوله { إن الله تواب رحيم } جملة تعليلية للأمر بالتوبة فأخبر تعالى أنه يقبل توبة التائبين وأنه رحيم بالمؤمنين ومن مظاهر ذلك أنه حرم الغيبة للمؤمن لما يحصل له بها من ضرر وأذى. وقوله تعالى في الآية [13] { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا } هذا نداء هو آخر نداءات الله تعالى عباده في هذه السورة وهو أعم من النداء بعنوان الإيمان فقال { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } من آدم وحواء باعتبار الأصل كما أن كل آدمي مخلوق من أبوين أحدهما ذكر والآخر أنثى { وجعلناكم شعوبا وقبآئل } وبطونا وأفخاذا وفصائل كل هذا لحكمة التعارف فلم يجعلكم كجنس الحيوان لا يعرف الحيوان الآخر ولكن جعلكم شعوبا وقبائل وعلائلات وأسر لحكمة التعارف المقتضي للتعاون إذ التعاون بين الأفراد ضروري لقيام مجتمع صالح سعيد فتعارفوا وتعاونوا ولا تتفرقوا لأجل التفاخر بالأنساب فإنه لا قيمة للحسب ولا للنسب إذا كان المرء هابطا في نفسه وخلقه وفاسدا في سلوكه إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
إن الشرف والكمال فيما عليه الإنسان من زكاة روحه وسلامة خلقه وإصابة رأيه وكثرة معارفه وقوله تعالى { إن الله عليم خبير } جملة تعليلية يبين فيها تعالى أنه عليم بالناس عليم بظواهرهم وبواطنهم وبما يكملهم ويسعدهم خيبر بكل شيء في حياتهم فليسلم له التشريع بالتحليل والتحريم والأمر والنهي فإنه على علم بالحال والمآل وبما يسعد الإنسان وبما يشقيه فآمنوا به وأطيعوه تكملوا وتسعدوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب مبادرة المسلمين إلى إصلاح ذات البين بينهم كلما حصل فساد أو خلل فيها.
2- وجوب تعاون المسلمين على تأديب أية جماعة تبغي وتعتدي حتى تفيىء إلى الحق.
3- وجوب الحكم بالعدل في قضية من قضايا المسلمين وغيرهم.
4- تقرير الأخوة الإسلامية ووجوب تحقيقها بالقول والعمل.
5- حرمة السخرية واللمز والتنابز بين المسلمين.
6- وجوب اجتناب كل ظن لا قرينة ولا حال قوية تدعو إلى ذلك.
7- حرمة التجسس أي تتبع عورات المسلمين وكشفها وإطلاع الناس عليها.
8- حرمة الغيبة والنميمة. والنميمة هي نقل الحديث على وجه الإفساد ولذا يجوز ذكر الشخص وهو غائب في مواطن هي التظلم بأن يذكر المسلم من ظلمه لازالة ظلمه، الاستعانة على تغيير المنكر بذكر صاحب المنكر. الاستفتاء نحو قول المستفتي ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له ذلك، تحذير المسلمين من الشر بذكر فاعله قصد أن يحذروه، المجاهر بالفسق لا غيبة له، التعريف بلقب لا يعرف الرجل إلا به.
9- حرمة التفاخر بالأنساب ووجوب التعارف للتعاون.
10- لا شرف ولا كرم إلا بشرف التقوى وكرامتها { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وفي الحديث
" لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى "
رواه الطبراني.
[49.14-18]
شرح الكلمات:
قالت الأعراب آمنا: هم نفر من بني أسد قدموا على الرسول وقالوا له آمنا وهم غير مؤمنين.
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا: أي قل لهم إنكم ما آمنتم بعد ولكن قولوا أسلمنا أي استسلمنا وانقدنا.
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم: أي ولما يدخل الإيمان بعد في قلوبكم ولكنه يتوقع له الدخول.
وإن تطيعوا الله ورسوله: أي في الإيمان والقيام بالفرائض واجتناب المحارم.
لا يلتكم من أعمالكم شيئا: أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا.
إن الله غفور رحيم: أي غفور للمؤمنين رحيم بهم إن هم صدقوا في إيمانهم.
إنما المؤمنون: أي حقا وصدقا لا ادعاء ونطقا هم.
الذين آمنوا بالله ورسوله: أي بالله ربا وإلها وبالرسول محمد نبيا ورسولا.
ثم لم يرتابوا: أي لم يشكوا فيما آمنوا به.
وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله: أي جاهدوا مع رسول الله أعداء الله وهم الكافرون بأموالهم وأنفسهم.
أولئك هم الصادقون: أي في إيمانهم لا الذين قالوا آمنا بألسنتهم واستسلموا ظاهرا ولم يسلموا باطنا.
قل أتعلمون الله بدينكم: أي قل لهم يا رسولنا أي لهؤلاء الأعراب أتشعرون الله بدينكم.
يمنون عليك أن أسلموا : أي كونهم أسلموا بدون قتال وغيرهم أسلم بعد قتال.
قل لا تمنوا علي إسلامكم: أي لا حق لكم في ذلك بل الحق لله الذي هداكم للإيمان إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم مؤمنون.
إن الله يعلم غيب السماوات والأرض: أي إن الله يعلم ما غاب في السماوات وما غاب في الأرض فلا يخفى عليه أمر من صدق في إيمانه وأمر من كذب، ومن أسلم رغبة ومن أسلم رهبة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { قالت الأعراب آمنا } هؤلاء جماعة من أعراب بني أسد وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بأولادهم ونسائهم في سنة مجدبة فأظهروا له الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في نفوسهم، فكانوا يفدون على الرسول صلى الله عليه وسلم ويروحون ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، ونحن قد جئناك بالأطفال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على رسول الله وهم يريدون الصدقة ويقولون أعطنا فأنزل الله تعالى هذه الآية تربية لهم وتعليما إتماما لما اشتملت عليه سورة الحجرات من أنواع الهداية والتربية الإسلامية فقال تعالى { قالت الأعراب } أعراب بني أسد آمنا أي صدقنا بتوحيد الله وبنبوتك. قل لهم ردا عليهم لم تؤمنوا بعد، ولكن الصواب أن تقولوا أسلمنا أي أذعنا للإسلام وانقدنا لقبوله وهو الإسلام الظاهري، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم بعد وسيدخل إن شاء الله. وإن تطيعوا الله ورسوله أيها الأعراب في الإيمان الحق وفي غيره من سائر التكاليف لا يلتكم أي لا ينقصكم الله تعالى من أجور أعمالكم الصالحة التي تعملونها طاعة لله ورسوله شيئا وإن قل.
وقوله إن الله غفور رحيم في هذه الجملة ترغيب لهم في الإيمان الصادق والإسلام الصحيح فأعلمهم أن الله تعالى غفور للتائبين رحيم بهم وبالمؤمنين فتوبوا إليه واصدقوه يغفر لكم ويرحمكم وقوله تعالى في الآية [15] { إنما المؤمنون } الآية يعرفهم تعالى بالإيمان الصحيح دعوة منه لهم لعلهم يؤمنون فقال { إنما المؤمنون } أي حقا وصدقا الذين آمنوا بالله ربا وإلها ورسوله نبيا مطاعا، ثم لم يرتابوا ، أي لم يشكوا أبدا في صحة ما آمنوا به، وجاهدوا أي أنفسهم فألزموها الاستعداد للنهوض بالتكاليف الشرعية في المنشط والمكره، كما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم أعداء الإسلام من المشركين والكافرين وذلك الجهاد بالنفس والمال لا هدف له إلا طلب رضا الله سبحانه وتعالى أي لم يكن لأي غرض مادي دنيوي وإنما لرضا الله ولإعلاء كلمة الله هؤلاء هم الصادقون في دعوى الإيمان وقوله تعالى في الآية [16] { قل أتعلمون الله بدينكم } أي قل يا رسولنا لأولئك الأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم أتعلمون الله بدينكم أي بإيمانكم وطاعتكم وتشعرونه بهما والحال أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله بكل شيء عليم إنه لا معنى لتعليمكم الله بدينكم وهو يعلم ما في السماوات وما في الأرض وهو بكل شيء عليم إنه مظهر من مظاهر جهلكم بالله تعالى، إذ لو علمتم إنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من دقيق وجليل لما فهتم بما فهتم به من إشعاركم الله بإيمانكم وطاعتكم له. وقوله تعالى في الآية [17] { يمنون عليك أن أسلموا } أي يمن أولئك الأعراب عليك يا رسولنا إيمانهم إذ قالوا آمنا بك ولم نقاتلك كما فعل غيرنا قل لهم لا تمنوا علي إسلامكم واضرب عن هذا وقل لهم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان، فالمنة لله عليكم لا أن تمنوا أنتم على رسوله. وقوله تعالى { إن الله يعلم غيب السموت والأرض } أي كل ما غاب في السماوات وما غاب في الأرض من سانح في السماء وسابح في الماء وسارح في الغبراء فليس في حاجة أن تعلموه بدينكم وتمنونه على رسوله صلى الله عليه وسلم والله بصير بما تعملون من عمل قل أو كثر خفي أو ظهر فاعلموا هذا وتأدبوا مع الله وأحسنوا الظن فيه تنجو من هلاك لازم لمن أساء الظن بالله وأساء الأدب مع رسوله الله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان طبيعة أهل البادية وهي الغلظة والجفاء والبعد عن الكياسة والأدب.
2- بيان الفرق بين الإيمان والإسلام إذا اجتمعا فالإيمان أعمال القلوب والإسلام من أعمال الجوارح.
وإذا افترقا فالإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان والحقيقة هي أنه لا يوجد إيمان صحيح بدون إسلام صحيح، ولا إسلام صحيح بدون إيمان صحيح، ولكن يوجد إسلام صوري بدون إيمان، وتوجد دعوى إيمان كاذبة غير صادقة.
3- بيان المؤمنين حقا وهم الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم.
4- بيان حكم المن وأنه مذموم من الإنسان ومحمود من الرحمن عز وجل وحقيقة المن هي عد النعمة وذكرها للمنعم عليه وتعدادها المرة بعد المرة.
5- بيان إحاطة علم الله بسائر المخلوقات، وأنه لا يخفى عليه من أعمال العباد شيء.
[50 - سورة ق]
[50.1-5]
شرح الكلمات:
ق: هذا أحد الحروف المقطعة التي تكتب هكذا ق وتقرأ هكذا قاف.
والقرآن المجيد: أي والقرآن المجيد أي الكريم قسمي لقد أرسلنا محمدا مبلغا عنا.
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم: أي بل عجب أهل مكة من مجيء منذر أي رسول منهم ينذرهم عذاب الله يوم القيامة.
فقال الكافرون هذا شيء عجيب: أي فقال المكذبون بالبعث هذا أي البعث بعد الموت والبلى شيء عجيب.
أئذا متنا وكنا ترابا: أئذا متنا وصرنا ترابا أي رفاة وعظاما نخرة نرجع أحياء.
ذلك رجع بعيد: أي بعيد الإمكان في غاية البعد.
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم: أي قد أحاط علمنا بكل شيء فعلمنا ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وما تأكل من لحومهم وعظامهم فكيف يستبعد منا إحياؤهم بعد موتهم.
وعندنا كتاب حفيظ: أي كتاب المقادير الذي قد كتب فيه كل شيء ومن بين ذلك أعداد الموتى وأسماؤهم وصورهم وأجسامهم ويوم إعادتهم.
بل كذبوا بالحق لما جاءهم: بل كذب المشركون بما هو أقبح من تكذيبهم بالبعث وهو تكذيبهم بالنبوة المحمدية وبالقرآن ومن نزل عليه.
فهم في أمر مريج: أي مختلط عليهم فهم فيه مضطربون لا يثبتون على شيء إذ قالوا مرة سحر ومرة قالوا شعر ومرة كهانة وأخرى أساطير.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ق } الله أعلم بمراده به إذ هو من الحروف المقطعة الآحادية نحو ص. ون وقوله تعالى { والقرآن المجيد } أي الكريم فالقرآن مجيد كريم لما فيه من الخير والبركة إذ قراءة الحرف الواحد منه بعشر حسنات. وقوله والقرآن المجيد قسم والجواب محذوف تقديره إن محمدا لرسول أمين. وقوله تعالى { بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم } أي إنهم لم يستنكروا أصل الإرسال إليهم وإنما أنكروا كون المرسل بشرا مثلهم ينذرهم عذاب يوم القيامة وهم لا يؤمنون بالبعث الآخر فلذا قالوا ما أخبر تعالى به عنهم وقوله { فقال الكافرون } أي بالبعث { هذا شيء عجيب }.
أي أمر يدعو إلى التعجب إذ من مات وصار ترابا لا يعقل أن يبعث مرة أخرى فيسأل ويحاسب ويجزي وقد أفصحوا عن معتقدهم بقولهم { أءذا متنا وكنا ترابا } ذلك الرجوع إلى الحياة رجوع بعيد التحقيق. قال تعالى { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ } هذه برهنة واضحة على إبطال دعواهم وتحقيق عقيدة البعث أي قد علمنا ما تنقص الأرض منهم بعد الموت من لحم وعظم، وعندنا كتاب حفيظ قد حوى كل شيء وحفظه مادة وكمية وكيفية بمقتضاه يعود الخلق كما بدأ لا ينقص منه شيء وقوله { بل كذبوا بالحق لما جآءهم } أي إن هناك ما هو أشنع من إنكارهم وأقبح عقلا وهو تكذيبهم بالقرآن ومن أنزل عليه وهو الحق من الله فلذا هم فيه في أمر مريج أي مختلط فمرة قالوا في الرسول إنه ساحر وقالوا شاعر وقالوا مفتر كذاب وقالوا في القرآن أساطير الأولين فهم حقا في أمر مريج مختلط عليهم لا يدرون ما يقولون ويثبتون عليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان شرف القرآن ومجده وكرمه.
2- تقرير البعث والوحي الإلهي.
3- البرهنة الصحيحة الواضحة على صحة البعث والجزاء وإمكانهما.
4- تقرير عقيدة القضاء والقدر بتقرير كتاب المقادير.
[50.6-11]
شرح الكلمات:
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم: أي أعموا فلم ينظروا بعيونهم معتبرين بعقولهم إلى السماء كائنة فوقهم فيعلموا أن استبعادهم للبعث غير صحيح.
كيف بنيناها وزيناها: أي كيف بنيناها بلا عمد. وزيناها بالكواكب.
وما لها من فروج: أي وليس لها من شقوق تعيبها.
والأرض مددناها: أي بسطناها.
وألقينا فيها رواسي: أي جبالا رواسي ثوابت لا تسير ولا تتحرك مثبتة للأرض كي لا تميد بأهلها.
وأنبتا فيها من كل زوج بهيج: أي وأنبتنا في الأرض من كل صنف من أنواع النباتات حسن.
تبصرة وذكرى لكل عبد منيب: أي جعلنا ذلك تبصرة وذكرى منا لكل عبد منيب إلى طاعتنا رجاع إلينا.
ونزلنا من السماء ماء مباركا: أي ماء المطر كثير البركة.
فأنبتا به جنات وحب الحصيد: أي أنبتنا بماء السماء بساتين وحب الحصيد أي المحصود من البر والشعير.
والنخل باسقات: أي وأنبتنا بالماء النخيل الطوال العاليات.
لها طلع نضيد: أي لها طلع منضد متراكب بعضه فوق بعض.
رزقا للعباد: أي أنبتنا ما أنبتنا من الجنات والحب الحصيد والنخل الباسقات قوتا للعباد ورزقا لهم مؤمنهم وكافرهم.
وأحيينا به بلدة ميتا: وأحيينا بذلك الماء الذي أنزلناه بلدة ميتا لا نبات فيها من الجدب الذي أصابها والقحط.
كذلك الخروج: أي كما أخرجنا النبات من الأرض الميتة بالماء نخرجكم أحياء من قبوركم يوم القيامة بماء ننزله من السماء على الأرض فتنبتون كما ينبت البقل.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث وهي العقيدة التي بني عليها كل إصلاح يراد للإنسان بعد عقيدة الإيمان بالله تعالى ربا وإلها قال تعالى { أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج } أي أعمي أولئك المنكرون للبعث المكذبون بلقاء ربهم يوم القيامة فلم ينظروا بعيونهم معتبرين بعقولهم إلى حجم السماء الواسع العالي الرفيع الكائن فوقهم وقد رفع بلا عمد ولا سند. وقد زينه خالقه بكواكب نيرة وأقمار منيرة وشموس مضيئة ولم ير في السماء من تصدع ولا شقوق ولا تفطر الحياة كلها أليس القادر على خلق السماء قادر على إحياء موتى خلقهم وأماتهم بقدرته أليس القادر على الخلق ابتداء وعلى الإماتة ثانية بقادر على إحياء من خلقهم وأماتهم بقدرته أليس القادر على الخلق ابتداء وعلى الإماتة ثانية بقادر على إحياء من خلق وأمات؟ وقوله { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي } أي مالهم لا ينظرون إلى الأرض أي بسطها وألقى فيها الجبال لتثبيتها حتى لا تميد بهم. وقوله { وأنبتنا فيها من كل زوج } أي صنف من النباتات والزروع بهيج المنظر حسنه، وقوله { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } وقوله { ونزلنا من السمآء مآء مبركا فأنبتنا به جنت وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد } أي أليس الذي أنزل من السماء ماء مباركا لما يكثر به من الخيرات والبركات من النبات والحيوان فأنبت به جنات أي بساتين من أشجار ونخيل وأعناب، وأنبت به حب الحصيد وهو كل حب يحصد عند طيبه من قمح وشعير وذرة وغيرها وأنبت به النخل الباسقات العاليات المرتفعات في السماء لها طلعها النضيد المتراكب بعضه فوق بعض ليتحول إلى رطب شهي يأكله الإنسان وقوله رزقا للعباد أي قوتا لهم يقتاتون به مؤمنين وكافرين إلا أن المؤمن إذا أكل شكر والكافر إذا أكل كفر، وقوله { وأحيينا به } أي بالماء الذي أنزلناه من السماء مباركا بلدة ميتا لا نبات بها ولا عشب ولا كلأ فأصبحت تهتز رابية كذلك الخروج أي هكذا يكون خروجكم من قبوركم أيها المنكرون للبعث ينزل الله من السماء ماء فتنبتون وتخرجون من قبوركم كما يخرج الشجر والزرع من الأرض بواسطة الماء المبارك فبأي عقل تنكرون البعث أيها المنكرون.
إنها كما قال تعالى
لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
[الحج: 46].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث بمظاهر القدرة الإلهية في الكون.
2- مشروعية النظر والاعتبار فيما يحيط بالإنسان من مظاهر الكون والحياة للعبرة طلبا لزيادة الإيمان والوصول به إلى مستوى اليقين.
3- فضل العبد المنيب وفضيلة الإنابة إلى الله تعالى والمنيب هو الذي يرجع إلى ربه في كل ما يهمه والإنابة التوبة إلى الله والرجوع إلى طاعته بعد معصيته.
[50.12-15]
شرح الكلمات:
كذبت قبلهم قوم نوح: أي قبل قومك يا رسولنا بالبعث والتوحيد والنبوة قوم نوح.
وأصحاب الرس وثمود: أي وكذب أصحاب الرس وهي بئر كانوا مقيمين حولها يعبدون الأصنام وثمود وهم أصحاب الحجر قوم صالح.
وعاد وفرعون: وكذبت عاد قوم هود، وكذب فرعون موسى عليه السلام.
وإخوان لوط وأصحاب الأيكة: أي وكذب قوم لوط أخاهم لوطا، وكذب أصحاب الأيكة شعيبا.
وقوم تبع: أي وكذب قوم تبع الحميري اليمني.
كل قد كذب الرسل: أي كل من ذكر قد كذب الرسل فلست وحدك المكذب يا محمد صلى الله عليه وسلم.
فحق وعيد: أي فوجب وعيدي لهم بنزول العذاب عليهم فنزل فهلكوا.
أفعيينا بالخلق الأول: أي أفعيينا بخلق الناس أولا والجواب لا إذا فكيف نعيى بخلقهم ثانية وإعادتهم كما كانوا؟.
بل هم في لبس من خلق جديد: أي هم غير منكرين لقدرة الله عن الخلق الأول بل هم في خلط وشك من خلق جديد لما فيه من مخالفة العادة وهي أن كل من مات منهم يرونه يفنى ولا يعود حيا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء وإثبات النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى { كذبت قبلهم } أي قبل قريش المكذبين بالبعث والجزاء وبالنبوة المحمدية كذبت قبلهم قوم نوح وهي أول أمة كذبت وعاش نوح نبيها ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوها إلى الله فلم يؤمن منهم أكثر من نيف وثمانين نسمة، وأصحاب الرس أيضا قد أخذوا نبيهم ورسوه في بئر فقتلوه فأهلكهم الله تعالى في بئر كانوا يقيمون على أصنام حولها يعبدونها فأهلكهم في تلك البئر وأهلك ثمودا وهم قوم صالح، وعادا وهم قود هود وفرعون موسى وقوم لوط، وأصحاب الأيكة أي الشجر الملتف إذ كانوا يعبدون أشجار تلك الأيكة، وقوم تبع وهو تبع الحميري اليميني. وقوله تعالى { كل كذب الرسل } أي كل تلك الأمم التي ذكرنا كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم ولا بما جاءوهم به من التوحيد والشرع { فحق وعيد } أي فوجب لذلك عذابهم الذي واعدتهم به على ألسنة رسلي إن لم يؤمنوا فأهلكناهم أجمعين وقومك يا محمد هم موعودون أيضا بالعذاب إن لم يبادروا بالإيمان والطاعة.
وقوله تعالى { أفعيينا بالخلق الأول } والجواب لا إذ الاستفهام للنفي أي لم يعي الله تعالى بخلق كل ما خلق من الملائكة والإنس والجن فكيف إذا يعيى بالإعادة وهي أهون من البدء والبداية، وقوله تعالى { بل هم في لبس من خلق جديد } أي إنهم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول بل هم في لبس أي خلط وشك من خلق جديد لما فيه من مخالفة العادة حيث هم يرون الناس يموتون ولا يحيون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلامه بأن قومه ليسوا أول من كذب الرسل.
2- تهديد المصرين على التكذيب من كفار قريش بالعذاب إذ ليسوا بأفضل من غيرهم وقد أهلكوا لما كذبوا.
3- تقرير البعث والجزاء وإثبات عقيدتهما بالأدلة العقلية كبدء الخلق.
4- ضعف إدراك المنكرين للبعث لظلمة نفوسهم بالشرك والمعاصي.
[50.16-22]
شرح الكلمات:
ولقد خلقنا الإنسان: أي خلقناه بقدرتنا وعلمنا لحكمة اقتضت خلقه فلم نخلقه عبثا.
ونعلم ما توسوس به نفسه: أي ونعلم ما تحدث به نفسه أي نعلم ما في نفسه من خواطر وإرادات.
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد: أي نحن بقدرتنا على الأخذ منه والعطاء والعلم بما يسر ويظهر أقرب إليه من حبل الوريد الذي هو في حلقه.
إذ يتلقى المتلقيان: أي نحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عمله فيكتبانه.
عن اليمين وعن الشمال قعيد: أي أحدهما عن يمينه قعيد والثاني عن شماله قعيد أيضا.
ما يلفظ من قول: أي ما يقول من قول.
إلا لديه رقيب عتيد: أي إلا عنده ملك رقيب حافظ عتيد حاضر معد للكتابة.
وجاءت سكرة الموت بالحق: أي غمرة الموت وشدته بالحق من أمر الآخرة حتى يراه المنكر لها عيانا.
ذلك ما كنت منه تحيد: أي ذلك الموت الذي كنت تهرب منه وتفزع.
ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد: أي ونفخ إسرافيل في الصور الذي هو القرن ذلك يوم الوعيد للكفار بالعذاب.
معها سائق وشهيد: أي معها سائق يسوقها إلى المحشر وشهيد يشهد عليها.
لقد كنت في غفلة من هذا: أي من هذا العذاب النازل بك الآن.
فكشفنا عنك غطاءك: أي أزلنا عنك غفلتك بما تشاهده اليوم.
فبصرك اليوم حديد: أي حاد تدرك به ما كنت تنكره في الدنيا من البعث الجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى { ولقد خلقنا الإنسان } حسب سنتنا في الخلق خلقناه بقدرتنا وعلمناه لحكمة اقتضت خلقه منا ولم نخلقه عبثا ونحن نعلم ما توسوس به نفسه أي ما تتحدث به نفسه من إرادات أو خواطر، ونحن أي رب العزة والجلال أقرب إليه من حبل الوريد فلو أردنا أن نأخذ منه أو نعطيه أو نسمع منه أو نعلم به لكنا على ذلك قادرين وقربنا في ذلك منه أقرب من حبل عنقه إلى نفسه وذلك في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان المتلقيان سائر أقواله وأعماله يثبتانها ويحفظانها وقوله عن اليمين وعن الشمال قعيد أي أحد الملكين وهما المتلقيان عن يمينه قاعد والثاني عن شماله قاعد هذا يكتب الحسنات وذاك يكتب السيئات.
ولفظ قعيد معناه قاعد كجليس بمعنى مجالس أو جالس، وقوله تعالى { ما يلفظ من قول } أي ما يقول الإنسان إلا لديه رقيب عتيد أي إلا عنده ملك رقيب حافظ، وعتيد حاضر لا يفارقانه مدى الحياة إلا أنهما يتناوبان ملكان بالنهار، وملكان بالليل ويجتمعون في صلاتي الصبح والعصر وقوله تعالى { وجاءت سكرة الموت بالحق } أي وإن طال العمر فلا بد من الموت وها هي ذي قد جاءت سكرة الموت أي غمرته وشدته بالحق من أمر الآخرة حتى يراه المنكر للبعث والدار الآخرة المكذب به يراه عيانا.
{ ذلك ما كنت منه تحيد } أي يقال له هذا الموت الذي كنت منه تحيد أي تهرب وتفزع. وقوله تعالى { ونفخ في الصور } أي نفخ إسرافيل في الصور أي القرن الذي قد التقمه وجعله في فيه من يوم بعث النبي الخاتم نبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلم وهو ينتظر متى يؤمر فينفخ نفخة الفناء ذلك أي يوم ينفخ في الصور هو يوم الوعيد بالعذاب للكافرين، وفعلا نفخ في الصور نفخة البعث بعد نفخة الفناء { وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد } أي ملك يسوقها إلى المحشر وملك شاهد يشهد عليها. ويقال لذلك الذي جاء به سائق يسوقه وشاهد يشهد عليه لقد كنت في غفلة من هذا أي كنت في الدنيا في غفلة عن الآخرة وما فيها وغفلتك من شهواتك ولذاتك وغرورك بالحياة الدنيا من هذا العذاب النازل بك الآن فكشفنا عنك غطاءك أي أزلنا عنك غفلتك بما تشاهده اليوم عيانا بيانا من ألوان العذاب فبصرك اليوم حديد أي حاد تدرك به وتبصر ما كنت تكفر به في الدنيا وتنكره.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان قدرة الله وعلمه وأنه أقرب إلى الإنسان من حبل وريده ألا فليتق الله امرؤ.
2- تقرير عقيدة أن لكل إنسان مكلف ملكين يكتبان حسناته وسيئاته.
3- بيان أن للموت سكرات قطعا اللهم هون علينا سكرات الموت.
4- ساعة الاحتضار يؤمن كل إنسان بالدار الآخرة إذ يرى ما كان ينكره يراه بعينه.
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض بعض أحوال وأهوال الآخرة.
[50.23-30]
شرح الكلمات:
وقال قرينه: أي الملك الموكل به.
هذا ما لدي عتيد: أي هذا عمله حاضر لدي.
كل كفار عنيد: أي كثير الكفر والجحود لتوحيد الله وللقائه ولرسوله معاند كثير العناد.
مناع للخير معتد مريب: أي مناع للحقوق والواجبات من المال وغيره.
الذي جعل مع الله إلها آخر: أي أشرك بالله فجعل معه آلهة أخرى يعبدها.
ربنا ما أطغيته: أي يقول قرينه من الشياطين يا ربنا ما أطغيته أي ما حملته على الطغيان.
ولكن كان في ضلال بعيد: أي ولكن الرجل كان في ضلال بعيد عن كل هدى متوغلا في الشرك والشر.
وقد قدمت إليكم بالوعيد: أي قدمت إليكم وعيدي بالعذاب في كتبي وعلى لسان رسلي.
ما يبدل القول لدي: أي ما يغير القول عندي وهو قوله لأملأن جهنم منكم أجمعين.
يوم نقول لجهنم هل امتلأت: أي وما الله بظلام للعبيد يوم يقول لجهنم هل امتلأت.
وتقول هل من مزيد: أي لم أمتليء هل من زيادة فيضع الجبار عليها قدمه فتقول قط قط.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مشاهد القيامة وأحوال الناس فيها فقال تعالى { وقال قرينه } أي قال قرين ذلك الكافر الذي جيىء به إلى ساحة فصل القضاء ومعه سائق يسوقه وشهيد يشهد عليه. قال قرينه وهو الملك الموكل به هذا ما لدي أي من أعمال هذا الرجل الذي وكلت بحفظ أعماله وكتابتها عتيد أي حاضر. وهنا يقال لمن استحق النار { ألقيا في جهنم } وهو خطاب لمن جاءا به وهما السائق والشهيد { كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب } فهذه خمس صفات قد اجتمعت في شخص واحد فأوبقته الأولى { كفار } أي كثير الكفر الذي هو الجحود لما يجب الإيمان به والتصديق من سائر أركان الإيمان الستة، والثانية عنيد والعنيد التارك لكل ما وجب عليه المعاند في الحق المعاكس في المعروف وهي صفة. الثالثة مناع للخير أي كثير المنع للخير مالا كان أو غيره لا يبذل معروفا قط، الرابعة معتد أي على حدود الشرع معتد على الناس ظالم لهم بأكل حقوقهم وأذيتهم في أعراضهم وأموالهم وأبدانهم الخامسة مريب أي شاك لا يعرف التصديق بشيء من أمور الدين فهو جامع لكل أنواع الكفر وقوله { الذي جعل مع الله إلها } وهذا وصف سادس وهو أسوأ تلك الصفات وهو اتخاذه إلها آخر يعبده دون الله تعالى وقوله تعالى { فألقياه في العذاب الشديد } هذا أمر آخر أكد به الأمر الأول وهو ألقيا في جهنم كل كفار عنيد. وقوله تعالى { قال قرينه ربنا مآ أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد } قال هذا القول القرين لما قال المشرك معتذرا رب إن قريني من الشياطين أطغاني فرد عليه القرين بما أخبر تعالى به عنه في قوله قال قرينه ربنا ما أطغتيه ولكن كان في ضلال بعيد فقال الرب تعالى { لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد } فرد الله حجة كل من الكافر والقرين من الشياطين وأعلمهما أنه قد قدم إليهما بالوعيد في كتبه وعلى ألسن رسله من كفر بالله وأشرك به وعصى رسله فإن له نار جهنم خالدا فيها أبدا.
وقوله تعالى { ما يبدل القول لدي ومآ أنا بظلام للعبيد } أخبر تعالى أن حكمه نافذ فيمن كفر به وعصى رسله إذ سبق قوله لإبليس عندما أخرج آدم من الجنة بوسواسه وهو لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. فهذا القول الإلهي لا يبدل ولا يقدر أحد على تبديله وتغييره وقوله { ومآ أنا بظلام للعبيد } نفى تعالى الظلم عن نفسه والظلم هو أن يعذب مطيعا، أو يدخل الجنة كافرا عاصيا.
وقوله تعالى { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } أي اذكر يا نبينا لقومك المنهمكين في الشرك والمعاصي ما ينتظر أمثالهم من عذاب حهنم اذكر لهم يوم نقول لجهنم هل امتلأت فتقول هل من مزيد بعدما يدخل فيها كل كافر وكافرة من الإنس والجن وتقول طالبة الزيادة هل من مزيد؟ ولما لم يبق أحد يستحق عذاب النار يضع الجبار فيها قدمه فينزوي بعضها في بعض وتقول قط قط والحديث معناه في الصحيحين وغيرهما.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- التحذير من الصفات الست التي جاءت في الآية وهي الكفر والعناد ومنع الخير والاعتداء والشك والشرك.
3- بيان خصومة أهل النار من إنسان وشيطان.
4- نفي الظلم عن الله تعالى وهو كذلك فلا يظلم الله أحدا من خلقه.
5- إثبات صفة القدم للرب تعالى كما يليق هذا الوصف بذاته التي لا تشبه الذوات سبحانه وتعالى عن صفات المحدثين من خلقه.
[50.31-35]
شرح الكلمات:
وأزلفت الجنة للمتقين: أي قربت الجنة للمتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي.
غير بعيد: أي مكانا غير بعيد منهم بحيث يرونها.
لكل أواب حفيظ: أي رجاع إلى طاعة الله كلما ترك طاعة عاد إليها حافظ لحدود الله.
من خشي الرحمن بالغيب: أي خاف الله تعالى فلم يعصه وإن عصاه تاب إليه وهو لم يره.
وجاء بقلب منيب: أي مقبل على طاعته تعالى.
أدخلوها بسلام: أي ويقال لهم وهم المتقون أدخلوها أي الجنة بسلام أي مع سلام وحال كونكم سالمين من كل مخوف.
ولدينا مزيد: أي مزيد من الانعام والتكريم في الجنة وهو النظر إلى وجه الله الكريم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير البعث والجزاء بذكر بعض مظاهره قال تعالى بعد ما ذكر ما لأهل النار من عذاب { وأزلفت الجنة } أي أدنيت وقربت { للمتقين غير بعيد } وهم الذين اتقوا الله تعالى بترك الشرك والمعاصي فلا تركوا فريضة ولا غشوا كبيرة. وقوله تعالى هذا ما توعدون أي يقال لهم هذا ما توعدون أي من النعيم المقيم، لكل أواب حفيظ أي رجاع إلى طاعة الله تعالى حفيظ أي حافظ لحدود الله. حفيظ أيضا لذنوبه لا ينساها كلما ذكرها استغفر الله تعالى منها. وقوله من خشي الرحمن بالغيب هذا بيان للأواب الحفيظ وهو من خاف الرحمن تعالى بالغيب أي وهو غائب عنه لا يراه ولم يعصه بترك واجب ولا بفعل حرام، وقوله وجاء بقلب منيب أي إلى ربه أي مقبل على طاعته بذكر الله فلا ينساه ويطيعه فلا يعصيه، وقوله تعالى ادخلوها أي يقال لهم أي للمتقين ادخلوها أي الجنة بسلام أي مسلما عليكم وسالمين من كل مخوف كالموت والمرض والألم والحزن وذلك يوم الخلود أي في الجنة وفي النار فأهل الجنة خالدون فيها وأهل النار خالدون فيها وقوله لهم ما يشاءون فيها أي لأهل الجنة ما يشاءون أي ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم وقوله ولدينا مزيد أي وعندنا لكم مزيد من النعيم وهو النظر إلى وجهه الكريم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل التقوى وكرامة المتقين على رب العالمين.
2- فضل الأواب الحفيظ وهو الذي كلما ذكر ذنبه استغفر ربه.
3- بيان أكبر نعيم في الجنة وهو رضا الله والنظر إلى وجهه الكريم.
[50.36-45]
شرح الكلمات:
وكم أهلكنا قبلهم من قرن: أي كثيرا من أهل القرون قبل كفار قريش أهلكناهم.
هم أشد منهم بطشا: أي أهل القرون الذين أهلكناهم قبل كفار قريش هم أشد قوة وأعظم أخذا من كفار قريش ومع هذا أهلكناهم.
فنقبوا في البلاد هل من محيص: أي بحثوا وفتشوا في البلاد علهم يجدون مهربا من الهلاك فلم يجدوا.
إن في ذلك لذكرى: أي إن في المذكور من إهلاك الأمم القوية موعظة.
لمن كان له قلب أو ألقى السمع: أي الموعظة تحصل للذي له قلب حي وألقى سمعه يستمع.
وهو شهيد: وهو شهيد أي حاضر أثناء استماعه حاضر القلب والحواس.
وما مسنا من لغوب: أي من نصب ولا تعب.
فاصبر على ما يقولون: أي فاصبر يا رسولنا على ما يقوله اليهود وغيرهم من التشبيه لله والتكذيب بصفاته.
وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس: أي صل حامدا لربك قبل طلوع الشمس وهي صلاة الصبح.
وقبل الغروب: أي صل صلاة الظهر والعصر.
ومن الليل فسبحه: أي صل صلاتي المغرب والعشاء.
وأدبار السجود: أي بعد أداء الفرائض فسبح بألفاظ الذكر والتسبيح.
واستمع: أي أيها المخاطب إلى ما أقول لك.
يوم ينادي المناد من مكان قريب: أي يوم ينادي إسرافيل من مكان قريب من السماء وهو صخرة بيت المقدس فيقول أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
يوم يسمعون الصيحة بالحق: أي نفخة إسرافيل الثانية وهي نفخة البعث يعلمون عاقبة تكذيبهم.
ذلك يوم الخروج: أي من القبور.
يوم تشقق الأرض عنهم سراعا: أي يخرجون من قبورهم مسرعين بعد تشقق القبور عنهم.
ذلك حشر علينا يسير: أي ذلك حشر للناس وجمع لهم في موقف الحساب يسير سهل علينا.
نحن أعلم بما يقولون: أي من الكفر والباطل فلا تيأس لذلك سننتقم منهم.
وما أنت عليهم بجبار: أي بحيث تجبرهم على الإيمان والتقوى.
فذكر بالقرآن: أي عظ مرغبا مرهبا بالقرآن فاقرأه على المؤمنين فهم الذين يخافون وعيد الله تعالى ويطمعون في وعده.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض العظيم لأحوال القيامة وأهوالها على كفار قريش المكذبين بالتوحيد والنبوة والبعث ولم يؤمنوا فكانوا بذلك متعرضين للعذاب فأخبر تعالى رسوله أن هلاكهم يسير فكم أهلك تعالى { قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا } أي قوة وأخذا ولما جاءهم العذاب فروا يبحثون عن مكان يحيصون إليه أي يلجأون فلم يجدوا وهو معنى قوله تعالى { فنقبوا في البلاد هل من محيص }؟ وقوله تعالى { إن في ذلك } أي الذي ذكرنا من قوله وكم أهلكنا قبلهم من قرن لذكرى أي موعظة يتعظ بها عبد كان له قلب حي وألقى سمعه يستمع وهو شهيد أي حاضر بكل مشاعره وأحاسيسه.
وقوله تعالى { ولقد خلقنا السموت والأرض وما بينهما في ستة أيام } أولها الأحد وآخرها الجمعة { وما مسنا من لغوب } أي نصب أو تعب، هذا الخبر رد الله تعالى به على اليهود الذين قالوا أتم الله خلق السماوات والأرض في يوم الجمعة واستراح يوم السبت فلذا هم يسبتون أي يستريحون يوم السبت فرد تعالى عليهم بقوله { وما مسنا من لغوب } أي تعب، إذ التعب يلحق العامل من الممارسة والمباشرة لما يقوم بعمله والله تعالى يخلق بكلمة التكوين فلذا لا معنى لأن يصيبه تعب أو نصب أو لغوب وقوله تعالى { فاصبر على ما يقولون وسبح } أي فاصبر يا رسولنا على ما يقوله يهود وغيرهم من الكفر والباطل واستعن على ذلك أي على الصبر وهو صعب بالصلاة والتسبيح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار النجوم فشمل هذا الإرشاد والتعليم الإلهي الصلوات الخمس، إذ قبل طلوع الشمس فيه صلاة الصبح وقبل الغروب فيه صلاة الظهر والعصر ومن الليل فيه صلاة المغرب والعشاء، ولنعم العون على الصبر الصلاة، ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقوله وأدبار السجود أي بعد الصلوات الخمس سبح ربك متلبسا بحمده، نحو سبحان الله والحمد لله والله أكبر. وقوله { واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب } أي واستمع أيها الخاطب يوم ينادي إسرافيل من مكان قريب وهو صخرة بيت المقدس وهو مكان قريب من السماء فيقول المنادي وهو إسرافيل أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء وقوله { يوم يسمعون الصيحة بالحق } وهي نفخة إسرافيل الثانية نفخة البعث { ذلك يوم الخروج } من القبور ويوم يرى المكذبون عاقبة تكذيبهم، وقوله { يوم تشقق الأرض عنهم سراعا } أي يخرجون مسرعين ذلك المذكور من تشقق الأرض وخروجهم مسرعين حشر علينا لهم يسير أي سهل لا صعوبة فيه، وقوله { نحن أعلم بما يقولون } فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه تهديد لكفار قريش. وقوله { ومآ أنت عليهم بجبار } أي بذي قوة وقدرة فائقة تجبرهم بها على الإيمان والاستقامة وعليه فمهمتك ليست الإجبار وأنت عاجز عنه وإنما هي التذكير { فذكر بالقرآن } إذا { من يخاف وعيد } وهم المؤمنون الصادقون والمسلمون الصالحون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية تخويف العصاة والمكذبين بالعذاب الإلهي وقربه وعدم بعده.
2- للانتفاع بالمواعظ شروط أن يكون السامع ذا قلب حي واع وأن يلقى بسمعه كاملا وأن يكون حاضر الحواس شهيدها.
3- وجوب الصبر والاستعانة على تحقيقه بالصلاة.
4- مشروعية الذكر والدعاء بعد الصلاة فرادى لا جماعات.
5- تقرير البعث وتفصيل مبادئه.
6- المواعظ ينتفع بها أهل القلوب الحية.
[51 - سورة الذاريات]
[51.1-14]
شرح الكلمات:
والذاريات ذروا: أي الرياح تذروا التراب وغيره ذروا.
فالحاملات وقرا: أي السحب تحمل الماء.
فالجاريات يسرا: أي السفن تجري على سطح الماء بسهولة.
فالمقسمات أمرا: أي الملائكة تقسم بأمر ربها الأرزاق والأمطار وغيرها بين العباد.
إن ما توعدون لصادق: أي إن ما وعدكم به ربكم لصادق سواء كان خيرا أو شرا.
وإن الدين لواقع: أي وأن الجزاء بعد الحساب لواقع لا محالة.
والسماء ذات الحبك: أي ذات الطرق كالطرق التي تكون على الرمل والحبك جمع حبيكة.
إنكم لفي قول مختلف: أي يا أهل مكة لفي قول مختلف أي في شأن القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من يقول القرآن سحر وشعر وكهانة ومنهم من يقول النبي كاذب أو ساحر أو شاعر.
يؤفك عنه من أفك: أي يصرف عن النبي والقرآن من صرف.
قتل الخراصون: أي لعن الكذابون الذين يقولون بالخرص والكذب.
الذين هم في غمرة ساهون: أي في غمرة جهل تغمرهم ساهون أي غافلون عن أمر الآخرة.
يسألون أيان يوم الدين: أي يسألون النبي صلى الله عليه وسلم سؤال استهزاء متى يوم القيامة؟ وجوابهم يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون فيها.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والذاريات } هذا شروع في قسم ضخم أقسم الله تعالى به وهو الذاريات ذروا أي الرياح تذروا التراب وغيره من الأشياء الخفيفة { فالحاملات وقرا } أي السحب تحمل الماء { فالجاريات يسرا } أي السفن تجري على سطح الماء { فالمقسمات أمرا } أي الملائكة تقسم الأرزاق والأمطار وغيرها بأمر بها كل هذا قسم أقسم الله به وجوابه { إنما توعدون } أيها الناس من البعث والجزاء بالنعيم المقيم أو بعذاب الجحيم لصادق وإن الدين أي الجزاء العادل لواقع أي كائن لا محالة. وقوله { والسمآء ذات الحبك } هذا قسم آخر أي ذات الطرق كالتي على الرمل جمع حبيكة بمعنى طريقة { إنكم لفي قول مختلف } هذا جواب القسم فمنكم من يقول محمد ساحر ومنكم من يقول كاذب أو كاهن. ومنكم من يقول في القرآن سحر وشعر كهانة وقوله تعالى { يؤفك عنه من أفك } أي يصرف عن القرآن ومن نزل عليه من أفك أي صرف بقضاء الله وقدره. وقوله تعالى: { قتل الخراصون } أي لعن الكذابون الذين يقولون بالخرص والكذب والظن الذين هم في غمرة جهل تغمرهم ساهون أي غافلون عن أمر الآخرة وما لهم فيه من عذاب لو شاهدوه ما ذاقوا طعاما ولا شرابا لذيذا.
وقوله تعالى يسألون أيان يوم الدين أي متى قيام الساعة ومجيئها وهم في هذا مستهزئون ساخرون وجوابهم في قوله تعالى يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون ويقال لهم ذوقوا فتنكم أي عذابكم هذا الذي كنتم به تستعجلون أي تطالبون به رسولنا بتعجيله لكم استخفافا وتكذيبا منكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء حيث أقسم تعالى على ذلك.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر في قوله يؤفك عنه من أفك.
3- لعن الله الخراصين الذين يقولون بالخرص والكذب ويسألون استهزاء وسخرية لا طلبا للعلم والمعرفة للعمل.
[51.15-23]
شرح الكلمات:
إن المتقين في جنات وعيون: أي إن الذين اتقوا ربهم في بساتين وعيون تجري خلال تلك البساتين والقصور التي فيها كقوله تجري من تحتها الأنهار.
آخذين ما آتاهم ربهم: أي آخذين ما أعطاهم ربهم من الثواب.
إنهم كانوا قبل ذلك محسنين: أي كانوا قبل دخولهم الجنة محسنين في الدنيا أي في عبادة ربهم وإلى عباده.
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون: أي كانوا في الدنيا يحيون الليل ولا ينامون فيه إلا قليلا.
وبالأسحار هم يستغفرون: أي وفي وقت السحور وهو السدس الأخير من الليل يستغفرون يقولون ربنا اغفر لنا.
وفي أموالهم حق للسائل والمحروم: أي للذي يسأل والمحروم الذي لا يسأل لتعففه وهذا الحق أوجبوه على أنفسهم زيادة على الزكاة الواجبة.
وفي الأرض آيات للموقنين: أي من الجبال والأنهار والأشجار والبحار والإنسان والحيوان دلالات على قدرة الله مقتضية للبعث والموجبة للتوحيد للموقنين أما غير المؤمنين فلا يرون شيئا.
وفي أنفسكم أفلا تبصرون: أي آيات من الخلق والتركيب والأسماع والأبصار والتعقل والتحرك أفلا تبصرون ذلك فتستدلون به على وجود الله وعلمه وقدرته.
وفي السماء رزقكم وما توعدون: أي من الأمطار التي بها الزرع والنبات وسائر الأقوات وما توعدون من ثواب وعقاب إن كل ذلك عند الله في السماء مكتوب في اللوح المحفوظ.
فورب السماء والأرض إنه لحق: إنه لحق أي ما توعدون لحق ثابت.
مثل ما أنكم تنطقون: أي إن البعث لحق مثل نطقكم فهل يشك أحد في نطقه إذا نطق والجواب لا يشك فكذلك ما توعدون من ثواب وعقاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي كذب بها المشركون في مكة فقال تعالى { إن المتقين في جنات وعيون } أي إن الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه بترك الواجبات ولا بفعل المحرمات هؤلاء يوم القيامة في بساتين وعيون تجري في تلك البساتين وقوله { آخذين مآ آتاهم ربهم } أي ما أعطاهم ربهم من ثواب هو نعيم مقيم في دار السلام. ثم ذكر تعالى مقتضيات هذا العطاء العظيم والثواب الجزيل فقال { إنهم كانوا قبل } دخولهم الجنة { محسنين } في الدنيا فأحسنوا نياتهم وأعمالهم أخلصوها لله ربهم وأتوا بها وفق ما ارتضاه وشرعه لعباده بلا زيادة ولا نقصان كما أحسنوا إلى عباده ولم يسيئوا إليهم بقول ولا عمل هذا موجب وآخر أنهم { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } أي لا ينامون من الليل إلا قليلا إذ أكثر الليل يقضونه في الصلاة وهو التهجد وقيام الليل وبالأسحار أي وفي السدس الأخير من الليل هم يستغفرون أي يقولون ربنا اغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار وثالث { وفي أموالهم حق للسآئل } والمحروم أي وزيادة على الزكاة المفروضة في كل مال بلغ النصاب فإنهم أوجبوا على أنفسهم في أموالهم حقا يبذلونه للسائل الذي يسأل والمحروم الذي لا يسأل لحيائه وعفته.
هذه موجبات العطاء الكريم الذي أعطاهم ربهم من النعيم المقيم في جنات وعيون. وقوله تعالى { وفي الأرض آيات للموقنين } أي وفي ما خلق في الأرض من مخلوقات من جبال وأنهار وزروع وضروع وأنواع الثمار، وإنسان وحيوان آيات أي دلائل وعلامات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وكلها موجبة له التوحيد ومقررة لقدرته على البعث الآخر والجزاء وكون هذه الآيات للموقنين مبني على أن المؤقنين ذووا بصائر وإدراك لما يشاهدون في الكون فكلما نظروا إلى آية في الكون ازداد إيمانهم وقوى فبلغوا اليقين فيه فأصبحوا أكثر من غيرهم في الاهتداء والانتفاع بكل ما يسمعون ويشاهدون. وقوله تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } أي وفي أنفسكم أيها الناس من الدلائل والبراهين المتمثلة في خلق الإنسان وأطواره التي يمر بها من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى طفل إلى شاب فكهل وفي إدراكه وسمعه وبصره ونطقه إنها آيات أخرى دالة على وجود الله وتوحيده وقدرته على البعث والجزاء وقوله { أفلا تبصرون } توبيخ لأهل الغفلة والاعراض عن التفكر والنظر إذ لو نظروا بأبصارهم متفكرين ببصائرهم لاهتدوا إلى الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء. وقوله تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون أي يخبر تعالى عباده أن رزقهم في السماء يريد تدبير الأمر في السماء والأمطار التي هي سبب كل الثمار والحبوب وسائر الخضر والفواكه التي هي غذاء الإنسان في السماء وقوله وما توعدون من خير وشر من رحمة وعذاب الكل في السماء إذ الأمر لله وهو يحكم بالرحمة والعذاب على من يشاء وكتاب المقادير الذي كتب فيه كل شيء هو في السماء. وقوله تعالى { فورب السمآء والأرض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون } هذا قسم منه تعالى أقسم فيه بنفسه على أن البعث والجزاء يوم القيامة حق ثابت واجب الوقوع كائن لا محالة إذا كنا لا نشك في نطقنا إذا نطقنا أن ما نقوله ونسمعه لا يمكن أن يكون غير ما نطقنا به وسمعناه فكذلك البعث الآخر واقع لا محالة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما للمتقين من نعيم مقيم في الدار الآخرة.
2- بيان صفات المتقين من التهجد بالليل والاستغفار في آخره والانفاق في سبيل الله.
3- بيان أن في الأرض كما في الأنفس آيات أي دلائل وعلامات على قدرة الله على البعث والجزاء.
4- بيان أن في السماء رزق العباد فلا يطلب إلا من الله تعالى وأن ما نوعد من خير وشر أمره في السماء ومنها ينزل بأمره تعالى فليكن طلبنا الخير من الله دائما وتعوذنا من الشر بالله وحده.
[51.24-30]
شرح الكلمات:
هل أتاك حديث: أي قد أتاك يا نبينا حديث أي كلام.
ضيف إبراهيم المكرمين: أي جبريل وميكائيل وإسرافيل أكرمهم إبراهيم الخليل.
وقالوا سلاما: أي نسلم عليك سلاما.
قال سلام قوم منكرون: أي عليكم سلام أنتم قوم منكرون أي غير معروفين.
فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين: أي عدل ومال إلى أهله فجاء بعجل سمين حنيذ.
فقال ألا تأكلون: أي فأمسكوا عن الأكل فقال لهم ألا تأكلون.
فأوجس منهم خيفة: أي فأضمر في نفسه خوفا منهم.
بغلام عليم: أي بولد يكون ذا علم كبير غزير.
فأقبلت امرأته في صرة: أي في رنة وصيحة.
فصكت وجهها: أي لطمت وجهها أي ضربت بأصابعها جبينها متعجبة.
وقالت عجوز عقيم: أي كبيرة السن وعقيم لم يولد لها قط.
قالوا كذلك قال ربك: أي قالت الملائكة لها كالذي قلنا لك قال ربك.
إنه هو الحكيم العليم: أي إنه هو الحكيم في تدبيره وتصريفه شؤون عباده. العليم بما يصلح للعبد وما لا يصلح فليفوض الأمر إليه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } هذا الحديث يشتمل على موجز قصة قد ذكرت في سورة هود والحجر والمقصود منه تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إن مثل هذا القصص لا يتم لأمي لا يقرأ ولا يكتب إلا من طريق الوحي كما أنه يحمل في نهايته التهديد بالوعيد لمشركي قريش المصرين على الكفر والتكذيب والإجرام الكبير إذ في نهاية القصة يسأل إبراهيم الملائكة قائلا فما خطبكم أيها المرسلون فيجيبون قائلين إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين أي لتدميرهم وإهلاكهم من أجل إجرامهم، وقريش في هذا الوقت مجرمة مستحقة للعذاب كما استحقه إخوان لوط. فقوله تعالى في خطاب رسوله هل أتاك حديث ضيف إبراهيم الخليل وهم ملائكة في صورة رجال من بينهم جبريل وميكائيل وإسرافيل إذ دخلوا عليه أي على إبراهيم وهو في منزله فسلموا عليه فرد السلام ثم قال أنتم قوم منكرون أي لا نعرفكم بمعنى أنكم غرباء لستم من أهل هذا البلد فلذا سارع في إكرامهم فراغ إلى أهله أي عدل ومال إلى أهله فعمد إلى عجل سمين من أبقاره وكان ماله يومئذ البقر فشواه بعد ذبحه وسلخه وتنظيفه. فقربه إليهم وكأنهم أمسكوا عن تناوله فعرض عليهم الأكل عرضا بقوله ألا تأكلون فقالوا إنا لا نأكل طعاما إلا بحقه. فقال إذا كلوه بحقه، فقالوا وما حقه؟ قال أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدوا الله في آخره أي تقولون بسم الله في البدء والحمد لله في الختم فالتفت جبريل إلى ميكائيل وقال له حق للرجل أن يتخذه ربه خليلا ولما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة أي خوفا أي شعر بالخوف في نفسه منهم لعدم أكلهم لأن العادة البشرية وهي مستمرة إلى اليوم إذا أراد المرء بأخيه سوءا لا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام، ولا يأكل طعامه هذا حكم غالبي وليس عاما.
قالوا لا تخف وبشروه بغلام وأعلموه أنهم مرسلون من ربه إلى قوم لوط لإهلاكهم من أجل اجرامهم وبشروه بغلام يولد له ويكبر ويولد له فالأول إسحاق والثاني يعقوب كما جاء في سورة هود فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب وقوله { فأقبلت امرأته في صرة } أخذت في رنة لما سمعت البشرى فصكت أي لطمت وجهها بأصابع يدها متعجبة وهي تقول أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب إذ كان عمرها تجاوز التسعين وعمر إبراهيم تجاوز المئة وكانت عقيما لا تلد قط فلذا قالت عجوز عقيم كيف ألد يا للعجب؟ فأجابها الملائكة قائلين كذلك أي هكذا قال ربك فاقبلي البشرى واحمديه واشكريه. إنه تعالى هو الحكيم في تصرفاته في شؤون عباده العليم بما يصلح لهم وما لا يصلح فليفوض الأمر إليه ولا يعترض عليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية.
2- فضيلة إبراهيم أبي الأنبياء وإمام الموحدين.
3- وجوب إكرام الضيف.
4- الخوف الفطري عند وجود أسبابه لا يقدح في العقيدة ولا يعد شركا.
[51.31-37]
شرح الكلمات:
قال فما خطبكم أيها المرسلون: أي ما شأنكم أيها المرسلون.
إلى قوم مجرمين: أي إلى قوم كافرين فاعلين لأكبر الجرائم وهي إتيان الفاحشة.
حجارة من طين: أي مطبوخ بالنار.
مسومة: أي معلمة على كل حجر اسم من يرمى به.
للمسرفين: أي المبالغين في الكفر والعصيان كإتيان الذكران.
غير بيت من المسلمين: وهو بيت لوط وابنتيه ومن معهم من المؤمنين.
وتركنا فيها آية: أي بعد إهلاكهم تركنا فيها علامة على إهلاكهم وهي ماء أسود منتن.
للذين يخافون العذاب الأليم: أي عذاب الآخرة فلا يفعلون فعلهم الشنيع.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة إبراهيم مع ضيفه من الملائكة إنه لاحظ بعد أن عرف أنهم سادات الملائكة أن مهمتهم لم تكن مقصورة على بشارته فقط بل هي أعظم فلذا سألهم قائلا: فما خطبكم أيها المرسلون؟ فأجابوه قائلين : إنا أرسلنا أي أرسلنا ربنا عز وجل إلى قوم مجرمين أي على أنفسهم بالكفر، وفعل الفاحشة، والعلة من إرسالنا إليهم هي لنرسل عليهم حجارة من طين مطبوخ بالنار، وتلك الحجارة مسومة أي معلمة عند ربك للمسرفين أي قد كتب على كل حجر إسم من يرمى به، وذلك في السماء قبل أن تنزل إلى الأرض، وقوله تعالى: { فأخرجنا } أي من تلك القرية وهي سدوم من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وهو بيت لوط عليه السلام وما به سوى لوط وابنتيه ومن الجائز أن يكون معهم بعض المؤمنين إذ قيل كانوا ثلاثة عشر نسمة وقوله تعالى: { وتركنا فيهآ آية } أي علامة على إهلاكهم وهي ماء أسود منتن كالبحيرة وتعرف الآن بالبحر الميت. وقوله { للذين يخافون العذاب الأليم } وهم المؤمنون الذين يخافون عذاب الآخرة حتى لا يفعلوا فعل قوم لوط من الكفر وإيتان الفاحشة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز تشكل الملائكة بصورة رجال من البشر.
2- التنديد بالإجرام وفاعليه.
3- جواز الإهلاك بالعذاب الخاص الذي لم يعرف له نظير.
4- تقرير حقيقة علمية وهي أن كل مؤمن صادق الإيمان مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا حتى يحسن إسلامه بانبنائه على أركان الإيمان الستة.
[51.38-46]
شرح الكلمات:
وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون: أي فكذبه وكفر، فأغرقناه ومن معه آية كآية سدوم.
بسلطان مبين: أي بحجة ظاهرة قوية وهي اليد والعصا.
فتولى بركنه: أي أعرض عن الإيمان مع رجال قومه.
وقال ساحر أو مجنون: أي وقال فرعون في شأن موسى ساحر أو مجنون.
فنبذناهم في اليم: أي طرحناهم في البحر فغرقوا أجمعين.
وهو مليم: أي آت بما يلام عليه إذ هو الذي عرض جيشا كاملا للهلاك زيادة على ادعائه الربوبية وتكذيبه لموسى وهارون وهما رسولان.
وفي عاد: أي وفي إهلاك عاد آية أي علامة على قدرتنا وتدبيرنا.
الريح العقيم: أي التي لا خير فيها لأنها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر وهي الدبور، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا وهي الريح الشرقية وأهلكت عاد بالدبور وهي الريح الغربية في الحجاز.
ما تذر من شيء أتت عليه: من نفس أو مال.
إلا جعلته كالرميم: أي البالي المتفتت.
وفي ثمود: أي وفي إهلاك ثمود آية دالة على قدرة الله وكرهه تعالى للكفر والإجرام.
إذ قيل لهم: أي بعد عقر الناقة تمتعوا إلى انقضاء آجالكم بعد ثلاثة أيام.
فأخذتهم الصاعقة: أي بعد ثلاثة أيام من عقر الناقة.
فما استطاعوا من قيام: أي ما قدروا على النهوض عند نزول العذاب بهم.
وقوم نوح من قبل: أي وفي إهلاك قوم نوح بالطوفان آية وأعظم آية.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { وفي موسى } الآية إنه تعالى لما ذكر إهلاك قوم لوط وجعل في ذلك آية دالة على قدرته وعلامة تدل العاقل على نقمه تعالى ممن كفر به وعصاه ذكر هنا في هذه الآيات التسع من هذا السياق أربع آيات أخرى، يهتدي بها أهل الإيمان الذين يخافون يوم الحساب فقال عز من قائل: وفي موسى بن عمران نبي بني إسرائيل إذ أرسلناه إلى فرعون ملك القبط بمصر { بسلطان مبين } أي بحجة قوية ظاهرة قوة السلطان وظهوره وهي العصا فلم يستجب لدعوة الحق فتولى بركنه أي بجنده الذي يركن إليه ويعتمد عليه، وقال في موسى رسول الله إليه: هو ساحر أو مجنون فانتقمنا منه بعد الإصرار على الكفر والظلم فنبذناهم أي طرحناهم في اليم البحر فهلكوا بالغرق. في هذا الصنيع الذي صنعناه بفرعون لما كذب آية من أظهر الآيات.
وقوله تعالى: { وفي عاد } حيث أرسلنا إليه أخاهم هودا فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فكذبوه { إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } التي لا تحمل مطرا ولا تلقح شجرا ما تذر من شيء أتت عليه أي مرت به من أنفس أو أموال إلا جعلته كالرميم البالي المتفتت في هذه الإهلاك آية من أعظم الآيات الدالة على قدرة الله الموجبة لربوبيته وعبادته والمستلزمة لقدرته تعالى على البعث والجزاء يوم القيامة.
وقوله تعالى { وفي ثمود } إذ أرسلنا إليهم أخاهم صالحا فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك الشرك فكذبوه وطالبوه بآية تدل على صدقه فأعطاهم الله الناقة آية فعقروها استخفافا منهم وتكذيبا { إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } أي إلى إنقضاء الأجل الذي حدد لهلاكهم. فبدل أن يؤمنوا ويسلموا فيعبدوا الله ويوحدوه عتوا عن أمر ربهم وترفعوا متكبرين { فأخذتهم الصاعقة } صاعقة العذاب وهم ينظرون بأعينهم الموت يتخطفهم { فما استطاعوا من قيام } من مجالسهم وهم جاثمون على الركب { وما كانوا منتصرين } في إهلاك ثمود أصحاب الحجر آية للذين يخافون العذاب الأليم فلا يفعلوا فعلهم حتى لا يهلكوا هلاكهم.
وقوله تعالى: { وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين } أي وفي إرسالنا نوحا إلى قومه وتكذيبهم إياه وإصرارهم على الشرك والكفر والتكذيب ثم إهلاكنا لهم بالطوفان وانجائنا المؤمنين آية من أعظم الآيات الدالة على وجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته للعالمين، والمستلزمة لقدرته على البعث والجزاء الذي يصر الملاحدة على إنكاره ليواصلوا فسقهم وفجورهم بلا تأنيب ضمير ولا حياء ولا خوف أو وجل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير كل من التوحيد والنبوة والبعث لما في الآيات من دلائل على ذلك.
2- قوة الله تعالى فوق كل قوة إذ كل قوة في الأرض هو الذي خلقها ووهبها.
3- اتهام المبطلين لأهل الحق دفعا للحق وعدم قبول له يكاد يكون سنة بشرية في كل زمان ومكان.
4- من عوامل الهلاك العتو عن أمر الله أي عدم الإذعان لقبوله، والفسق عن طاعته وطاعة رسله.
[51.47-51]
شرح الكلمات:
والسماء بنيناها بأيد: أي وبنينا السماء بقوة ظاهرة في رفع السماء وإحكام البناء.
وإنا لموسعون: أي لقادرون على البناء والتوسعة.
والأرض فرشناها: أي مهدناها فجعلناها كالمهاد أي الفراش الذي يوضع على المهد.
فنعم الماهدون: أي نحن أثنى الله تعالى على نفسه بفعله الخيري الحسن الكبير.
ومن كل شيء خلقنا زوجين: أي وخلقنا من كل شيء صنفين أي ذكرا وأنثى، خيرا وشرا، علوا وسفلا.
لعلكم تذكرون: أي تذكرون أن خالق الأزواج كلها هو إله فرد فلا يعبد معه غيره.
ففروا إلى الله: أي إلى التوبة بطاعته وعدم معصيته.
إني لكم منه نذير مبين: أي إني وأنا رسول الله إليكم منه تعالى نذير مبين بين النذارة أي أخوفكم عذابه.
ولا تجعلوا مع الله إلها آخر: أي لا تعبدوا مع الله إلها أي معبودا آخر إذ لا معبود بحق إلا هو.
إني لكم منه نذير مبين: إني لكم منه تعالى نذير بين النذارة أخوفكم عذابه إن عبدتم معه غيره.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض مظاهر القدرة الإلهية الموجبة له تعالى الربوبية لكل شيء والألوهية على كل عباده. فقال تعالى: { والسمآء بنينها بأييد وإنا لموسعون } فهذا أكبر مظهر من مظاهر القدرة الإلهية إنه بناء السماء وإحكام ذلك البناء وارتفاعه وما تعلق به من كواكب ونجوم وشمس وقمر تم هذا الخلق بقوة الله التي لا توازيها قوة. وقوله { وإنا لموسعون } أي لقادرون على توسعته أكثر مما هو عليه، وذلك لسعة قدرتنا.
ومظهر ثان هو في قوله: { والأرض فرشناها فنعم الماهدون } والأرض فرشها بساطا ومهدها مهادا فنعم الماهدون نحن نعم الماهد الله تعالى لها إذ غيره لا يقدر على ذلك ولا يتأتى له، وثالث مظاهر القدرة في قوله: { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } فهذا لفظ عام يعم سائر المخلوقات وأنها كلها أزواج وليس فيها فرد قط. والذوات كالصفات فالسماء يقابلها الأرض، والحر يقابله البرد، والذكر يقابله الأنثى، والبر يقابله البحر، والخير يقابله الشر، والمعروف يقابله المنكر، فهي أزواج بمعنى أصناف كما أن سائر الحيوانات هي أزواج من ذكر وأنثى. وقوله { لعلكم تذكرون } أي خلقنا من كل شيء زوجين رجاء أن تذكروا فتعلموا أن خالق هذه الأزواج هو الله الفرد الصمد الواحد الأحد لا إله غيره ولا رب سواه فتعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه من سائر خلقه.
وقوله تعالى { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } أي بعد أن تبين لكم أيها الناس أنه لا إله غير الله ففروا إليه تعالى إي بالإيمان به وبطاعته وبفعل فرائضه وترك نواهيه اهربوا إلى الله يا عباد الله بالإسلام إليه والانقياد لطاعته إني لكم منه تعالى نذير من عقاب شديد، ونذارتي بينة لا شك فيها وأنصح لكم أن لا تجعلوا مع الله إلها آخر أي معبودا غيره تعالى تعبدونه إن الشرك به يحبط أعمالكم ويحرم عليكم الجنة فلا تدخلوها أبدا واعلموا أني لكم منه عز جل نذير مبين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد والبعث بمظاهر القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء ومظاهر العلم والحكمة المتجلية في كل شيء.
2- ظاهرة الزوجية في الكون في الذرة انبهر لها العقل الإنساني وهي مما سبق إليه القرآن الكريم وقرره في غير موضع منه: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. فدل هذا قطعا أن القرآن وحي الله وأن من أوحى به إليه وهو محمد بن عبد الله لن يكون إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- التحذير من الشرك فإنه ذنب عظيم لا يغفر إلا بالتوبة الصحيحة النصوح.
[51.52-60]
شرح الكلمات:
كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول: أي الأمر كذلك ما أتى الذين من قبل قومك يا محمد من رسول.
إلا قالوا ساحر أو مجنون: أي اتواصت الأمم كل أمة توصى التي بعدها بقولهم للرسول هو ساحر أو مجنون، والجواب، لا أي لم يتواصوا بل هم قوم طاغون يجمعهم على قولهم هذا الطغيان.
فتول عنهم فما أنت بملوم: أي أعرض عنهم يا رسولنا فما أنت بملوم لأنك بلغتهم فأبرأت ذمتك.
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين: أي عظ بالقرآن يا رسولنا فإن الذكرى بمعنى التذكير ينفع المؤمنين أي من علم الله أنه يؤمن.
وما خلقت الجن والإنس: أي خلقتهم لأجل أن يعبدوني فمن عبدني أكرمته ومن ترك عبادتي أهنته.
وما أريد منهم من رزق: أي لا لي ولا لأنفسهم ولا لغيرهم.
وما أريد أن يطعمون: أي لا أريد منهم ما يريد أرباب العبيد من عبيدهم هذا يجمع المال وهذا يعد الطعام، فالله هو الذي يرزقهم.
ذو القوة المتين: أي صاحب القوة المتين الشديد الذي لا يعجزه شيء.
ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم: أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم الذين ماتوا على الكفر.
فلا يستعجلون: أي فلا يطالبوني بالعذاب فإن له موعدا لا يخلفونه.
من يومهم الذي يوعدون: أي يوم القيامة.
معنى الآيات:
بعد عرض تلك الأدلة المقررة للتوحيد والبعث والمستلزمة للرسالة المحمدية والمشركون ما زالوا في إصرارهم على الكفر والتكذيب قال تعالى مسليا رسوله مخففا عنه ما يجده من إعراض وتكذيب: { كذلك } أي الأمر والشأن كذلك وهو أنه ما أتى الذين من قبلهم أي من قبل قومك من رسول إلا قالوا فيه هو ساحر أو مجنون كما قال قومك لك اليوم. ثم قال تعالى: { أتواصوا به } أي بهذا القول كل أمة توصي التي بعدها بأن تقول لرسولها: ساحر أو مجنون. بل هم قوم طاغون أي لم يتواصوا به وإنما جمعهم على هذا القول الطغيان الذي هو وصف عام لهم فإن الطاغي من شأنه أن ينكر ويكذب ويتهم بأبعد أنواع التهم والحامل له على ذلك طغيانه. وما دام الأمر هكذا فتول عنهم يا رسولنا أي أعرض عنهم ولا تلتفت إلى أقوالهم وأعمالهم فما أنت بملوم في هذا القول لأنك قد بلغت رسالتك وأديت أمانتك ولا يمنعك هذا التولي عنهم أن تذكر أي عظ بالقرآن بل عظ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين الذين علم الله تعالى أنهم يؤمنون ممن هم غير مؤمنين الآن كما تنفع المؤمنين حاليا بزيادة إيمانهم وصبرهم على طاعة الله ربهم.
وقوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي لم يخلقهما للهو ولا للعب ولا لشيء وإنهما خلقهما ليعبدوه بالإذعان له والتسليم لأمره ونهيه.
وقوله تعالى { مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون } أي إن شأني معهم ليس كشأن السادة مالكي العبيد الذين يتعبدونهم بالقيام بحاجاتهم. هذا يجمع المال وهذا يعد الطعام بل خلقتهم ليعبدوني أي يوحدوني في عبادتي، إذ عبادتهم لي مع عبادة غيري لا أقبلها منهم ولا أثيبهم عليها بل أعذبهم على الطاعة حيث عبدوا من لا يستحق أن يعبد من سائر المخلوقات.
وقوله تعالى: { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } قرر به غناه عن خلقه، وأعلم أنه ليس في حاجة إلى أحد وذلك لغناه المطلق، وقدرته التي لا يعجزها في الأرض ولا في السماء شيء.
وقوله { فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم } أي إذا عرفت حال من تقدم من قوم عاد وثمود وغيرهم فإن لهؤلاء المشركين ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم أي نصيبا من العذاب وعبر بالذنوب التي هي الدلو الملأى بالماء عن العذاب لأن العذاب يصب عليهم كما يصب الماء من الدلو ولأن الدلاء تأتي واحدا بعد واحد فكذلك. الهلاك يتم لأمة بعد أمة حتى يسقوا كلهم مر العذاب، وقوله { فلا يستعجلون } أي ما هناك حاجة بهم إلى استعجال العذاب فإنه آت في إبانه ووقته المحدد له لا محالة. وقوله تعالى { فويل للذين كفروا } أي بالله ولقائه والنبي وما جاء به ويل لهم من يومهم الذي يوعدون أي العذاب الشديد لهم من يومهم الذي أوعدهم الله تعالى به وهو يوم القيامة والويل واد في جهنم يسيل بصديد أهل النار والعياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة بشرية وهي التكذيب والاتهام بالباطل وقلب الحقائق لكل من جاءهم يدعوهم إلى خلاف مألوفيهم وما اعتادوه من باطل وشر فيدفعون بالقول فإذا أعياهم ذلك دفعوا بالفعل وهي الحرب والقتال.
2- بيان أن طغيان النفس يتولد عنه كل شر والعياذ بالله.
3- مشروعية التذكير، وإنه ينتفع به من أراد الله إيمانه ممن لم يؤمن، ويزداد به إيمان المؤمنين الحاليين.
4- بيان علة خلق الإنس والجن وهي عبادة الله وحده.
5- بيان غنى الله تعالى عن خلقه، وعدم احتياجه اليهم بحال من الأحوال.
6- توعد الرب تبارك وتعالى الكافرين وأن نصيبهم من العذاب نازل بهم لا محالة.
[52 - سورة الطور]
[52.1-16]
شرح الكلمات:
والطور: أي والجبل الذي كلم الله عز وجل عليه موسى عليه السلام.
وكتاب مسطور: أي وقرآن مكتوب.
في رق منشور: أي في جلد رقيق أو ورق منشور.
والبيت المعمور: أي بالملائكة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون أبدا
والسقف المرفوع: أي السماء التي هي كالسقف المرفوع للأرض.
والبحر المسجور: أي المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض.
يوم تمور السماء مورا: أي تتحرك وتدور.
في خوض يلعبون: أي في باطل يلعبون أي يتشاغلون بكفرهم.
يدعون إلى نار جهنم دعا: أي يدفعون بعنف دفعا.
أفسحر هذا: أي العذاب الذي ترون كما كنتم تقولون في القرآن.
أم أنتم لا تبصرون: أي أم عدمتم الأبصار فأنتم لا تبصرون.
اصلوها: أي اصطلوا بحرها.
فاصبروا أو لا تصبروا: أي صبركم وعدمه عليكم سواء.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور } هذه خمسة أشياء عظام أقسم الله تعالى بها، وبالتتبع لما يقسم الله تعالى به يرى أنه إذا أقسم بشيء إنما يقسم به إما لكونه مظهرا من مظاهر القدرة الإلهية، كالسماء مثلا، وإما لكونه معظما نحو لعمرك إذ هو إقسام بحياة النبي صلى الله عليه وسلم. وإما لكونه ذا فائدة للإنسان ونفع خاص به كالتين والزيتون وقوله تعالى { والطور } وهو جبل الطور الذي كلم تعالى عليه موسى وهو مكان مقدس، وقوله { وكتاب مسطور في رق منشور } أي منشور في ورق أو جلد رقيق وهو التوراة أو القرآن والإقسام به لما فيه من حرمة وقدسية عند الله تعالى، والبيت المعمور وهو بيت في السماء تغشاه الملائكة كل يوم وتعمره بالعبادة وهو بحيال الكعبة بحيث لو وقع لوقع فوقها والسقف المرفوع وهو السماء وهي كالسقف للأرض وهي مظهر من مظاهر قدرة ا لله تعالى وعلمه ومثلها البحر والمسجور أي المملوء بكميات المياه الهائلة فإنه مظهر من مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية هذا القسم الضخم جوابه أو المقسم عليه هو قوله إن عذاب ربك يا رسولنا لواقع ماله من دافع ليس له من دافع يدفعه أبدا، وإن له وقتا محددا يقع فيه، وعلامات تدل عليه وهي قوله تعالى { يوم تمور السمآء مورا } أي تتحرك بشدة وتدور وتسير الجبال سيرا فتكون كالهباء المنبث هنا وهناك فويل يومئذ للمكذبين والويل واد في جهنم مملوء بقيح وصديد أهل النار، والمكذبون هم الكافرون بالله وبما جاءت به رسله عنه من أركان الإيمان وقواعد الإسلام وقوله: { الذين هم في خوض يلعبون } أي في باطلهم وكفرهم يتشاغلون به عن الإيمان الحق والعمل الصالح المزكى للنفس المطهر لها.
وقوله { يوم يدعون إلى نار جهنم دعا } أي يوم يدفعون بشدة وعنف إلى جهنم ويقال لهم توبيخا وتقريعا لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون. أخبرونا: أفسحر هذا أي العذاب الذي أنتم فيه الآن تعذبون أم أنتم لا تبصرون فلا تعاينونه. ويقال لهم أيضا تبكيتا وتقريعا فاصبروا على عذاب النار أو لا تصبر سواء عليكم أي صبركم وعدمه عليكم سواء. إنما تجزون ما كنتم تعلمون أي في الدنيا من الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء.
2- لله تعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه وليس للعبد أن يقسم بغير الله تعالى.
3- عرض سريع لأهوال القيامة وأحوال المكذبين فيها.
4- تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل.
[52.17-20]
شرح الكلمات:
إن المتقين: أي الذين اتقوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم فأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي.
فاكهين: أي متلذذين بأكل الفواكه الكثيرة التي آتاهم ربهم.
ووقاهم عذاب الجحيم: أي وحفظهم من عذاب الجحيم عذاب النار.
على سرر مصفوفة: أي بعضها إلى جنب بعض.
وزوجناهم بحور عين: أي قرناهم بنساء عظام الأعين حسانها.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة وهذا أسلوب الترغيب والترهيب الذي أمتاز به القرآن الكريم فقال تعالى مخبرا عن حال أهل الجنة: { إن المتقين } أي الذين اتقوا في الدنيا الشرك والمعاصي { في جنات } أي بساتين ونعيم مقيم يحوى كل ما لذ وطاب مما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين. فاكهين بما آتاهم ربهم أي متلذذين بأكل الفواكه الكثيرة الموصوفة بقول الله تعالى: لا معطوعة ولا ممنوعة. { ووقاهم ربهم عذاب الجحيم } أي حفظهم من عذاب النار. ويقال لهم: { كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون } أي بسبب ما كنتم تعملونه من أعمال البر والإصلاح بعد الفرائض واجتناب الشرك والمعاصي. وقوله { متكئين } أي حال كونهم وهم في نعيمهم متكئين على سرر مصفوفة قد صف بعضها إلى جنب بعض. وقوله تعالى { وزوجناهم بحور عين } أي قرناهم بزوجات من الحور العين والحور جمع حوراء وهي التي يغلب بياض عينها على سوادها والعين جمع عيناء وهي الواسعة العينين. جعلنا الله ممن يزوجون بهن إنه كريم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل التقوى وكرامة أهلها.
2- بيان منة الله وفضله على أهل الإيمان والتقوى وهم أولياء الله تعالى.
3- مشروعية الدعاء بكلمة هنيئا لمن أكل أو شرب ائتساء بأهل الجنة.
4- الإيمان والأعمال الصالحة سبب في دخول الجنة وليست ثمنا لها لأن الجنة أغلى من عمل الإنسان، وإنما العمل الصالح يزكى النفس فيؤهل صاحبها لدخول الجنة فالباء في قوله { بما كنتم تعملون } سببية وليست للعوض كما في قولك بعتك الدار بألف مثلا.
[52.21-28]
شرح الكلمات:
والذين آمنوا: أي حق الإيمان المستلزم للإسلام والإحسان.
واتبعتهم ذريتهم بإيمان: أي كامل مستوف لشرائطه ومنها الإسلام.
ألحقنا بهم ذريتهم: أي وإن لم يعملوا عملهم بل قصروا في ذلك.
وما ألتناهم من عملهم من شيء: أي وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئا.
كل امرىء بما كسب رهين: أي كل إنسان مرهون أي محبوس بكسبه الباطل.
يتنازعون فيها كأسا: أي يتعاطون بينهم فيها أي في الجنة كأسا من خمر.
لا لغو فيها ولا تأثيم: أي لا يقع لهم بسبب شربها لغو وهو كل كلام لا خير فيه ولا إثم.
ويطوف عليهم غلمان: أي ويدور بهم خدم لهم.
كأنهم لؤلؤ مكنون: أي مصون.
وأقبل بعضهم على بعض: أي يسأل بعضهم بعضا عما كانوا عليه في الدنيا وما وصلوا إليه في الآخرة.
قالوا إنا كنا قبل: أي قالوا مشيرين إلى علة سعادتهم إنا كنا قبل أي في الدنيا.
في أهلنا مشفقين: أي بين أهلنا وأولادنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله تعالى.
فمن الله علينا: أي بالمغفرة.
ووقانا عذاب السموم: أي وحفظنا من عذاب النار التي يدخل حرها في مسام الجسم.
إنا كنا ندعوه: أي في الدنيا نعبده موحدين له.
إنه هو البر الرحيم: أي المحسن الصادق في وعده الرحيم العظيم الرحمة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أفضال الله تعالى وإنعامه على أوليائه في الجنة إذ قال تعالى: { والذين آمنوا } أي حق الإيمان الذي هو عقد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان واتبعتهم ذريتهم بإيمان كامل صحيح إلا أنهم لم يبلغوا من الأعمال الصالحة ما بلغه آباؤهم ألحقنا بهم ذريتهم لتقر بذلك أعينهم وتعظم مسرتهم وتكمل سعادتهم باجتماعهم مع ذريتهم. وقوله تعالى: { ومآ ألتناهم من عملهم من شيء } أي وما نقصنا الآباء من عملهم الصالح من شيء بل وفيناهموه كاملا غير منقوص ورفعنا إليهم أبناءهم بفضل منا ورحمة. وقوله تعالى: { كل امرىء بما كسب رهين } إخبار منه تعالى أن كل نفس عنده يوم القيامة مرتهنة بعملها تجزى به إلا أنه تعالى تفضل على أولئك الآباء فرفع إلى درجاتهم أبناءهم تفضيلا وإحسانا. وقوله عز وجل: { وأمددناهم } أي الآباء والأبناء من سكان الجنة بفاكهة ولحم مما يشتهون من اللحمان. هذا طعامهم أما الشراب فإنهم يتنازعون أي يتعاطون في الجنة كأسا من خمر لا لغو فيها. أي لا تسبب هذيانا من الكلام إذ اللغو الكلام الذي لا فائدة منه. وقوله: { ولا تأثيم } أي وليس في شربها إثم وقوله تعالى: { ويطوف عليهم غلمان } أي خدم لهم كأنهم في جمالهم وحسن منظرهم لؤلؤ مكنون في أصدافه.
وقوله تعالى: { وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون } أي عما كان لهم في الدنيا، وما انتهوا إليه في الآخرة من هذا النعيم المقيم. وقالوا مشيرين إلى سبب نعيمهم في الآخرة إنا كنا أي في الدنيا في أهلنا مشفقين أي خائفين من عذاب ربنا فترتب على ذلك أن من الله علينا بدخول الجنة ووقانا عذاب السموم الذي هو عذاب النار الذي ينفذ إلى المسام والعياذ بالله تعالى. إنا كنا من قبل أي في الدنيا قبل الآخرة ندعوه ونتضرع إليه أن يجيرنا من النار ويدخلنا الجنة إنه هو تعالى البر بأولياءه الرحيم بعباده المؤمنين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وصف كامل لأهل الجنة وهو تقرير في نفس الوقت للبعث والجزاء بذكر ما يكون فيه.
2- فضل الإيمان وكرامة أهله عند الله بإلحاق الابناء قليل العمل الصالح بآبائهم الكثيري العمل الصالح.
3- تقرير قاعدة أن المرء يوم القيامة يكون رهين كسبه لا يفكه إلا الله عز وجل فمن استطاع أن يفك رقبته فليفعل وذلك بالإيمان والإسلام والإحسان.
4- فضيلة الإشفاق في الدنيا من عذاب الآخرة.
5- فضل الدعاء والتضرع إلى الله تعالى.
[52.29-34]
شرح الكلمات:
فذكر فما أنت بنعمة ربك: أي فذكر بالقرآن وعظ من أرسلت إليهم من قومك وغيرهم فلست بنعمة ربك عليك بالعقل وكمال الخلق والوحي إليك.
بكاهن ولا مجنون: أي بمتعاط للكهانة فتخبر عن الغيب بواسطة رئي من الجن ولا أنت بمجنون.
نتربص به ريب المنون: أي تنظر به حوادث الدهر من موت وغيره.
أم تأمرهم أحلامهم بهذا: أي أتأمرهم أحلامهم أي عقولهم بهذا وهو قولهم إنك كاهن ومجنون لم تأمرهم عقولهم به.
أم هم قوم طاغون: أي بل هم قوم طاغون متجاوزون لكل حد تقف عنده العقول.
أم يقولون تقوله؟: أي اختلق القرآن وكذبه من تلقاء نفسه.
فليأتوا بحديث مثله: أي فليأتوا بقرآن مثله يختلقونه بأنفسهم.
إن كانوا صادقين: أي في أن محمدا صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض لأحوال أهل النار وأهل الجنة فلم يبق إلا التذكير يا رسولنا فذكر أي قومك ومن تصل إليهم كلمتك من سائر الناس بالقرآن وما يحمل من وعد ووعيد؛ وما يدعو إليه من هدى وطريق مستقيم، فما أنت بنعمة ربك أي بما أولاك ربك من رجاحة العقل وكمال الخلق وكرم الفعال وشرف النبوة بكاهن تقول الغيب بواسطة رئي من الجن، ولا مجنون تخلط القول وتقول بما لا يفهم عنك ولا يعقل.
وقوله تعالى: { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } أي بل يقولون هو شاعر كالنابغة وزهير نتربص به حوادث الدهر حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء ولا ندخل معه في خصومة وجدل قد يغلبنا. وقوله تعالى قل تربصوا أي ما دمتم قد رأيتهم التربص بي فتربصوا فإني معكم من المتربصين، وقوله تعالى: { أم تأمرهم أحلامهم بهذآ } والاستفهام للنفي والتوبيخ والجواب لم تأمرهم عقولهم بهذا بل هم قوم طاغون أي إن طغيانهم هو الذي يأمرهم بما يقولون ويفعلون من الباطل والشر والفساد وقوله أم يقولون تقوله والجواب وإن قالوا تقوله فإن قولهم لم ينبع من عقولهم ولم يصدر من أحلامهم بل عن كفرهم وتكذيبهم بل لا يؤمنون، والدليل على صحة ذلك تحدى الله تعالى لهم بالإتيان بحديث مثله وعجزهم عن ذلك فلذا هم لا يعتقدون ولا يرون أن الرسول تقول القرآن من عنده، وإنما لما لم يؤمنوا به لا بد أن يقولوا كلمة يدفعون بها عن أنفسهم فقالوا تقوله فقال تعالى { بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله } أي مثل القرآن { إن كانوا صادقين } في قولهم إن الرسول تقوله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب التذكير والوعظ والإرشاد على أهل العلم بالكتاب والسنة لأنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته.
2- ذم الكهانة بل حرمتها لأنها من أعمال الشياطين، والكاهن من يقول بالغيب.
3- ذم الطغيان فانه منبع كل شر ومصدر كل فتنة وضلال.
4- حرمة الكذب مطلقا وعلى الله ورسوله بخاصة لما ينشأ عنه من فساد الدين والدنيا.
[52.35-43]
شرح الكلمات:
أم خلقوا من غير شيء؟: أي من غير خالق خلقهم وهذا باطل.
أم هم الخالقون؟: أي لأنفسهم وهذا محال إذا الشيىء لا يسبق وجوده.
أم خلقوا السماوات والأرض؟: أي لم يخلقوهما لأن العجز عن خلق أنفسهم دال على عجزهم عن خلق غيرهم.
بل لا يوقنون: أي أن الله خلقهم وخلق السماوات والأرض كما يقولون إذ لو كانوا موقنين لما عبدوا غير الله ولآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم.
أم عندهم خزائن ربك: أي من الرزق والنبوة وغيرهما فيخصوا من شاءوا بذلك من الناس.
أم هم المسيطرون: أي المتسلطون الغالبون فيتصرفون كيف شاءوا.
أم لهم سلم يستمعون فيه: أي ألهم مرقى إلى السماء يرقون فيه فيسمعون كلام الملائكة فيأتون به ويعارضون الرسول في كلامه.
فليأتوا بسلطان مبين: أي بحجة بينة تدل على صدقه وليس لهم في ذلك كله شيء.
أم له البنات ولكم البنون؟: أي أله تعالى البنات ولكم البنون إن أقوالكم كلها من هذا النوع لا واقع لها أبدا إنها افتراءات.
أم تسألهم أيها الرسول أجرا: أي على إبلاغ دعوتك.
فهم من مغرم مثقلون: أي فهم من فداحة الغرم مغتمون ومتعبون فكرهوا ما تقول لذلك.
أم عندهم الغيب فهم يكتبون: أي علم الغيب فهم يكتبون منه لينازعوك ويجادلوك به.
أم يريدون كيدا: أي مكرا وخديعة بك وبالدين.
فالذين كفروا هم المكيدون: أي فالكافرون هم المكيدون المغلوبون.
أم لهم إله غير الله: أي ألهم معبود غير الله والجواب: لا.
سبحان الله عما يشركون: أي تنزه الله عما يشركون به من أصنام وأوثان.
معنى الآيات:
بعد أن أمر تعالى رسوله بالتذكير وأنه أهل لذلك لما أفاض عليه من الكمالات وما وهبه من المؤهلات. أخذ تعالى يلقن رسوله الحجج فيذكر له باطلهم موبخا إياهم به ثم يدمغه بالحق في أسلوب قرآني عجيب لا يقدرعليه إلا الله سبحانه وتعالى. ومنه قوله: { أم خلقوا من غير شيء } أي أخلقوا من غير خالق { أم هم الخالقون } والجواب لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم خلقوا أنفسهم إذ الأول باطل فما هناك شيء موجود وجد بغير موجد؟! والثاني محال؛ إن المخلوق لا يوجد قبل أن يخلق فكيف يخلقون أنفسهم وهم لم يخلقوا بعد؟! ويدل على جهلهم وعمي قلوبهم ما رواه البخاري عن جبير بن مطعم أنه ذكر أنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في شأن فداء الأسرى سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور قال فلما بلغ في القراءة عند هذه الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } كاد قلبي يطير.
سمعها وهو مشرك فكانت سببا في إسلامه فلو فتح القوم قلوبهم للقرآن لأنارها وأسلموا في أقصر مدة.
وقوله تعالى: { أم خلقوا السماوات والأرض } والجواب: لا، إذ العاجز عن خلق ذبابة فما دون عن خلق السماوات والأرض وما فيهما أعجز. وقوله تعالى { بل لا يوقنون } أن الله هو الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض فقولهم عند سؤال من خلقهم: الله، وعن خلق السماوات والأرض: الله لم يكن عن يقين إذ لو كان عن يقين منهم لما عبدوا الأصنام ولما أنكروا البعث ولما كذبوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: { أم عندهم خزآئن ربك } أي من الأرزاق والخيرات والفواضل والفضائل فيخصوا من شاءوا منها ويحرموا من شاءوا والجواب ليس لهم ذلك فلم إذا ينكرون على الله ما أتى رسوله من الكمال والإفضال؟ أم هم المسيطرون أي الغالبون القاهرون المتسلطون فيتصرفون كيف شاءوا في الملك؟ والجواب: لا، إذا فلم هذا التحكم الفاسد.
وقوله تعالى: { أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين } أي ألهم مرقى يرقون فيه إلى السماء فيستمعون إلى الملائكة فيسمعون منهم ما يمكنهم أن ينازعوا فيه رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم فليأت مستمعهم بحجة واضحة ظاهرة على دعواه ومن أين له ذلك وقد حجبت الشياطين والجن عن ذلك فكيف بغير الجن والشياطين.
وقوله: { أم له البنات ولكم البنون } أي لله تعالى البنات ولكم البنون إن جميع ما تقولونه من هذا النوع هو كذب ساقط بارد، وافتراء ممقوت ممجوج إن نسبتهم البنات لله كافية في رد كل ما يقولون ومبطلة لكل ما يدعون فإنهم كذبة مفترون لا يتورعون عن قول ما تحيله العقول، وتتنزه عنه الفهوم. وقوله: { أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون } أي أتسألهم يا رسولنا عما تبلغهم عنا أجرا فهم لذلك مغتمون ومتعبون فلا يستطيعون الإيمان بك ولا يقدرون على الأخذ عنك.
وقوله: { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } أي أعندهم علم الغيب فهم منهمكون في كتابته لينازعوك فيما عندك ويحاجوك بما عندهم، والجواب من أين لهم ذلك، وقوله: { أم يريدون كيدا } أي أيريدون بك وبدينك كيدا؛ ليقتلوك ويبطلوا دينك فالذين كفروا هم المكيدون ولست أنت ولا دينك. ولم يمض عن نزول هذه الآيات طويل زمن حتى هلك أولئك الكائدون ونصر الله رسوله وأعز دينه والحمد لله رب العالمين.
وقوله: { أم لهم إله غير الله } أي ألهم إله أي معبود غير الله يعبدونه والحال أنه لا إله إلا الله { سبحان الله عما يشركون } أي تنزه الله وتقدس عما يشركونه به من أصنام وأوثان لا تسمع ولا تبصر فضلا عن أن تضر أو تنفع.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بذكر دلائله.
2- تقرير النبوة المحمدية.
3- تسفيه أحلام المشركين.
4- عدم مشروعية أخذ أجر على إبلاغ الدعوة.
5- لا يعلم الغيب إلا الله.
6- صدق القرآن في أخباره آية أنه وحي الله وكلامه صدقا وحقا إنه لم يمض إلا قليل من الوقت أي خمسة عشر عاما حتى ظهر مصداق قول الله تعالى فالذين كفروا هم المكيدون.
[52.44-49]
شرح الكلمات:
وإن يروا كسفا من السماء ساقطا: أي وإن ير هؤلاء المشركون قطعة من السماء تسقط عليهم.
يقولوا سحاب مركوم: أي يقولوا في القطعة سحاب متراكم يمطرنا ولا يؤمنوا.
فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون: أي فاتركهم إذا يجاحدون ويعاندون حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون وهو يوم موتهم.
يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون: أي اتركهم إلى ما ينتظرهم من العذاب ما داموا مصرين على الكفر وذلك يوم لا يغني عنهم مكرهم بك شيئا من الإغناء.
وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك: أي وإن لهؤلاء المشركين الظلمة عذابا في الدنيا دون عذاب يوم القيامة وهو عذاب القحط سبع سنين وعذاب القتل في بدر.
ولكن أكثرهم لا يعلمون: أي أن العذاب نازل بهم في الدنيا قبل يوم القيامة.
واصبر لحكم ربك: أي بإمهالهم ولا يضق صدرك بكفرهم وعنادهم وعدم تعجيل العذاب لهم.
فإنك بأعيننا: أي بمرأى منا نراك ونحفظك من كيدهم لك ومكرهم بك.
وسبح بحمد ربك حين تقوم: أي واستعن على الصبر بالتسبيح الذي هو الصلوات الخمس والذكر بعدها والضراعة والدعاء صباح مساء.
معنى الآيات:
يذكر تعالى من عناد المشركين أنهم لو رأوا العذاب نازلا من السماء في صورة قطعة كبيرة من السماء ككوكب مثلا لما أذعنوا ولا آمنوا بل قالوا في ذلك العذاب سحاب مركوم الآن يسقى ديارنا فنرتوي وترتوي أراضينا وبهائمنا. إذا فلما كان الأمر هكذا فذرهم يا رسولنا في عنادهم وكفرهم حتى يلاقوا وجها لوجه يومهم الذي فيه يصعقون أي يموتون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون. فيذهب كيدهم ولا يجدون له أي أثر بحيث لا يغني عنهم أدنى إغناء من العذاب النازل بهم ولا يجدون من ينصرهم، وذلك يوم القيامة.
وقوله تعالى: { وإن للذين ظلموا } أي أنفسهم أي بالكفر والتكذيب والشرك والمعاصي عذابا دون ذلك المذكور من عذاب يوم القيامة وهو ما أصابهم به من سني القحط والمجاعة وما أنزله بهم من هزيمة في بدر حيث قتل صناديدهم وذلوا وأهينوا ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لما أصروا على العناد والكفر.
وقوله تعالى: { واصبر لحكم ربك } وقضائه بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين، ولا تخف ولا تحزن فإنك بأعيننا أي بمرأى منا نراك ونحفظك، وجمع لفظ العين. على أعين مراعاة لنون العظمة وهو المضاف إليه " بأعيننا ".
وقوله { وسبح بحمد ربك } أي قل سبحان الله وبحمده حين تقوم من نومك ومن مجلسك ومن الليل أيضا فسبحه بصلاة المغرب والعشاء والتهجد وكذا إدبار النجوم أي بعد طلوع الفجر فسبح بصلاة الصبح وغيرها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عناد كفار قريش ومكابرتهم في الحق ومجاحدتهم فيه.
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وهي للدعاة بعده أيضا.
3- تقرير وخامة عاقبة الظلم في الدنيا قبل الآخرة.
4- وجوب الصبر على قضاء الرب وعدم الجزع.
5- مشروعية التسبيح عند القيام من النوم بنحو: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير والحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور.
[53 - سورة النجم]
[53.1-18]
شرح الكلمات:
والنجم إذا هوى: أي والثريا إذا غابت بعد طلوعها.
ما ضل صاحبكم: أي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الهدى.
وما غوى: أي وما لابس الغي وهو جهل من اعتقاد فاسد.
وما ينطق عن الهوى: أي عن هوى نفسه أي ما يقوله عن الله تعالى لم يصدر فيه عن هوى نفسه.
إن هو إلا وحي يوحى: أي ما هو إلا وحي إلهي يوحى إليه.
علمه شديد القوى: أي علمه ملك شديد القوى وهو جبريل عليه السلام.
ذو مرة: أي لسلامة في جسمه وعقله فكان بذلك ذا قوة شديدة.
فاستوى وهو بالأفق الأعلى: أي استقر وهو بأفق الشمس عند مطلعها على صورته التي خلقه الله عليها فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وكان بجياد قد سد الأفق إلى المغرب وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب من جبريل أن يريه نفسه في صورته التي خلقه الله عليها.
ثم دنا فتدلى: أي وقرب منه فتدلى أي زاد في القرب.
فكان قاب قوسين أو أدنى: أي فكان في القرب قاب قوسين أي مقدار قوسين.
فأوحى إلى عبده ما أوحى: أي فأوحى الله تعالى إلى عبده جبريل ما أوحاه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ما كذب الفؤاد ما رأى: أي ما كذب فؤاد النبي ما رأى ببصره من صورة جبريل عليه السلام.
أفتمارونه على ما يرى: أي أفاتجادلونه أيها المشركون على ما يرى من صورة جبريل.
ولقد رأه نزلة أخرى: أي على صورته مرة أخرى وذلك في السماء ليلة أسرى به.
عند سدرة المنتهى: وهي شجرة نبق عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة.
عندها جنة المأوى: أي تأوي إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين أولياء الله.
إذ يغشى السدرة ما يغشى: أي من نور الله تعالى ما يغشى.
ما زاغ البصر وما طغى: أي ما مال بصر محمد يمينا ولا شمالا، ولا ارتفع عن الحد الذي حدد له.
لقد رآى من آيات ربه الكبرى: أي رأى جبريل في صورته ورأى رفرفا أخضر سد أفق السماء.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والنجم } إلى قوله { من آيات ربه الكبرى } يقرر به تعالى نبوة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد أقسم بالنجم إذا هوى وهو نجم الثريا إذا غاب عن الأفق على أنه ما ضل محمد صاحب قريش الذي صاحبته منذ ولادته ولم يغب عنها ولم تغب عنه مدة تزيد على الأربعين سنة فهي صحبة كاملة ما ضل عن طريق الهدى وهم يعرفون هذا، وما غوى أيضا أية غواية وما لابسه جهل في قول ولا عمل فغوى به.
وما ينطق بالقرآن وغيره مما يقوله ويدعو إليه عن هوى نفسه كما قد يقع من غيره من البشر إن هو إلا وحي يوحى أي ما هو أي الذي ينطق به ويدعو إليه ويعمله إلا وحي يوحى إليه. علمه إياه ملك شديد القوى ذو مرة أي سلامة عقل وبدن فكان بذلك قويا روحيا وعقليا وذاتيا وهو جبريل عليه السلام وقوله: { فاستوى } أي جبريل { وهو بالأفق الأعلى } ومعنى استوى استقر { ثم دنا فتدلى } أي تدلى فدنا أي قرب شيئا فشيئا حتى كان من الرسول صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي قدر قوسين والقوس معروف آلة للرمي { أو أدنى } أي من قاب قوسين.
وقوله تعالى { فأوحى إلى عبده مآ أوحى } أي فأوحى الله تعال إلى جبريل ما أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقوله { ما كذب الفؤاد ما رأى } أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه محمد ببصره وهو جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها ذات الستمائة جناح طول الجناح ما بين المشرق والمغرب. وقوله تعالى: { أفتمارونه على ما يرى } هذا خطاب للمشركين المنكرين لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم ينكر تعالى ذلك عليهم بقوله { أفتمارونه } أي تجادلونه وتغالبونه أيها المشركون على ما يرى ببصره. { ولقد رآه نزلة أخرى } أي مرة أخرى { عند سدرة المنتهى } وذلك ليلة أسرى به صلى الله عليه وسلم ، ووصفت هذه السدرة وهي شجرة النبق بأن أوراقها كآذان الفيلة وأن ثمرها كغلال هجر قال فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها، وسميت سدرة المنتهى لانتهاء علم كل عالم من الخلق إليها أو لكونها عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة، وقوله { عندها جنة المأوى } أي الجنة التي تأوي إليها الملائكة وأرواح الشهداء، والمتقين أولياء الله تعالى.
وقوله تعالى: { إذ يغشى السدرة ما يغشى } أي من نور الله تعالى، والملائكة من حب الله مثل الغربان حين تقفز على الشجر كذلك روى ابن جرير الطبري. وقوله { ما زاغ البصر وما طغى } أي ما مال بصر محمد يمينا ولا شمالا ولا ارتفع فوق الحد الذي حدد له. { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } أي رأى جبريل في خلقه الذي يكون فيه في السماء ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق ورأى من عجائب خلق الله ومظاهر قدرته وعلمه ما لا سبيل إلى إدراكه والحديث عنه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة لمحمد وإثباتها بما لا مجال للشك والجدال فيه.
2- تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن القول بالهوى أو صدور شيء من أفعاله أو أقواله من اتباع الهوى.
3- وصف جبريل عليه السلام.
4- إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل وعلى صورته التي يكون في السماء عليها مرتين.
5- تقرير حادثة الإسراء والمعراج وإثباتها للنبي صلى الله عليه وسلم.
6- بيان حقيقة سدرة المنتهى.
[53.19-26]
شرح الكلمات:
أفرأيتم اللات والعزى: أي أخبروني عن أصنامكم التي اشتققتم لها أسماء من أسماء الله وأنثتموها.
ومناة الثالثة الأخرى: وجعلتموها بنات لله، افتراء على الله وكذبا عليه.
ألكم الذكر وله الأنثى: أي أتزعمون أن لكم الذكر الذي ترضونه لأنفسكم ولله الأنثى التي لا ترضونها لأنفسكم.
تلك إذا قسمة ضيزى: أي قسمتكم هذه إذا قسمة ضيزى أي جائرة غير عادلة ناقصة غير تامة.
إن هي إلا أسماء سميتموها: أي ما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى إلا أسماء لا حقيقة لها.
أنتم وآباؤكم: أي سميتموها بها أنتم وآباؤكم.
ما أنزل الله بها من سلطان: أي لم ينزل الله تعالى وحيا يأذن في عبادتها.
إن يتبعون إلا الظن: أي ما يتبع المشركون في عبادة أصنامهم إلا الظن والخرص والكذب.
وما تهوى الأنفس: أي وما يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وما تميل إليه شهواتهم.
أم للإنسان ما تمنى: أي بل أللإنسان ما تمنى والجواب لا ليس له كل ما يتمنى.
فلله الآخرة والأولى: أي إن الآخرة والأولى كلاهما لله يهب منهما ما يشاء لمن يشاء.
وكم من ملك في السماوات: أي وكثير من الملائكة في السماوات.
لا تغني شفاعتهم شيئا: أي لو أرادوا أن يشفعوا لأحد حتى يكون الله قد أذن لهم ورضي للمسموح له بالشفاعة.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى مظاهر قدرته وعظمته وعلمه وحكمته في الملكوت الأعلى جبريل وسدرة المنتهى وما غشاها من نور الله وما أرى رسوله من الآيات الكبرى، خاطب المشركين بقوله { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } أي أعميتم فرأيتم هذه الأصنام أهلا لأن تسوى بمن له ملكوت السماوات والأرض وعبدتموها معه على حقارتها ودناءتها، وأزددتم عمى فاشتقتتم لها من أسماء الله تعالى أسماء فمن العزيز اشتققتم العزى ومن الله اشتققتم اللات، وجعلتموها بنات لله افتراء على الله بزعمكم أنها تشفع لكم عند الله، أخبروني ألكم الذكر لأنكم تحبون الذكران وترضون بهم لأنفسكم، وله الأنثى لأنكم تكرهونها ولا ترضون بها لأنفسكم، إذا كان الأمر على ما رأيتم فإنها قسمة ضيزى أي جائرة غير عادلة وناقصة غير تامة فكيف ترضونها لمن عبدتم الأصنام من أجل التوسل بها إليه ليقضى حوائجكم؟ إن هي الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم. إن أصنامكم أيها المشركون لا تعدو كونها أسماء لآلهة لا وجود لها ولا حقيقة في عالم الواقع إذ لا إله إلا الله، أما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فلم تكن آلهة تحيى وتميت وتعطى وتمنع وتضر وتنفع. إن هي أي ما هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان أي لم ينزل بها وحيا يأذن بعبادتها.
وهنا التفت الجبار جل جلاله في الخطاب عنهم وقال { إن يتبعون إلا الظن } أي إن هؤلاء المشركين ما يتبعون في عبادة هذه الأصنام إلا الظن، فلا يقين لهم في صحة عبادتها. كما يتبعون في عبادتها { وما تهوى الأنفس } أي هوى أنفسهم { ولقد جآءهم من ربهم الهدى } فبين لهم الصراط السوي فأعرضوا عنه وهو لحق من ربهم. وتعلقوا بالأماني الكاذبة وأن أصنامهم تشفع لهم، أم للإنسان ما تمنى والجواب ليس له ما تمنى، إذ لله الآخرة والأولى يعطى منها ما يشاء ويمنع ما يشاء وكم من ملك في السماوات لا يعدون كثرة لا تغني شفاعتهم شيئا من الإغناء ولو قل إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء أن يشفع من الملائكة وغيرهم، ويرضى عن المشفوع له، وإلا فلا شافع ولا شفاعة تنفع عند الله الملك الحق المبين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالشرك والمشركين وتسفيه أحلامهم لعبادتهم أسماء لا مسميات لها في الخارج إذ تسمية حجرا إلها لن تجعله إلها.
2- بيان أن المشركين في كل زمان ومكان ما يتبعون في عبادة غير الله إلا أهواءهم.
3- بيان أن الإنسان لا يعطى بأمانيه، ولكن بعمله وصدقه وجده فيه.
4- بيان أن الدنيا كالآخرة لله فلا ينبغي أن يطلب شيء منها إلا من الله مالكها.
5- كل شفاعة ترجى فهي لا تحقق شيئا إلا بتوفر شرطين الأول أن يأذن الله للشافع في الشفاعة والثاني أن يكون الله قد رضي للمشفوع له بالشفاعة والخلاصة هي: الإذن للشافع والرضا عن المشفوع.
[53.27-30]
شرح الكلمات:
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة: أي إن الذين لا يؤمنون بالبعث والحياة الآخرة.
ليسمون الملائكة تسمية الأنثى: أي ليطلقون على الملائكة أسماء الإناث إذ قالوا بنات الله.
وما لهم به من علم: أي وليس لهم بذلك علم من كتاب ولا هدى من نبي ولا عقل سوى.
إن يتبعون إلا الظن: أي في تسميتهم الملائكة إناثا إلا مجرد الظن، والظن لا تقوم به حجة ولا يعطى به حق.
فأعرض عمن تولى عن ذكرنا: أي القرآن وعبادتنا.
ولم يرد إلا الحياة الدنيا: ولم يرد من قوله ولا عمله إلا ما يحقق رغائبه من الدنيا.
ذلك مبلغهم من العلم: أي ذلك الطلب للدنيا نهاية علمهم إذ آثروا الدنيا على الآخرة.
معنى الآيات:
لما ندد تعالى بالمشركين الذين جعلوا من الأصنام والأوهام والأماني آلهة وجادلوا دونها وجالدوا ذكر ما هو علة ذلك التخبط والضلال فقال: { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } دار السعادة الحقة أو الشقاء { ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } فلو آمنوا بالآخرة لما سموا الملائكة بنات الله لأن المؤمن بالآخرة يحاسب نفسه على كل قول وعمل له تبعة يخشى أن يؤخذ بها بخلاف الذي لا يؤمن بالآخرة فإنه يقول ويفعل ما يشاء لعدم شعوره بالمسئولية والتبعة التي قد يؤخذ بها فيهلك ويخشى كل شيء وهو تعليل سليم حكيم.
وقوله تعالى: { وما لهم به من علم } أي ليس لهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله أي علم يعتد به إن يتبعون فيه إلا الظن والظن أكذب الحديث، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وبناء على هذا أمر الله تعالى رسوله أن يعرض عمن تولى منهم عن الحق بعد معرفته وعن الهدى بعد مشاهدته فقال تعالى { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا } أي القرآن والإيمان والتوحيد والطاعة، ولم يرد بقوله وعمله واعتقاده إلا الحياة الدنيا إذ هو لا يؤمن بالآخرة فلذا هو قد كيف حياته بحسب الدنيا فكل تفكيره في الدنيا، وكل عمله لها فيصبح بذلك أشبه بالآلة منه بالحيوان. وتصبح الحياة معه عقيمة الفائدة فلذا يجب الإعراض عنه وتركه إلى أن يأذن الله فيه بشيء.
وقوله تعالى { ذلك مبلغهم من العلم } أي هذا الطلب للدنيا هوما انتهى إليه علمهم فلذا هم آثروها عن الآخرة التي لم يعلموا عنها شيئا.
وقوله تعالى في خطاب رسوله { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } أي إن ربك أيها الرسول هو أعلم منك ومن غيرك بمن ضل عن سبيله قدرا وأزلا فضل في الحياة الدنيا أيضا، وهو أعلم بمن اهتدى، قضاء وقدرا وواقعا في الحياة الدنيا وسيجزى كلا بما عمل من خير أو شر فلا تأس يا رسولنا ولا تحزن وفوض الأمر إلينا فإنا عالمون ومجازون كل عامل بما عمل في دار الجزاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أكثر الأمراض مردها إلى قلب لا يؤمن بالآخرة.
2- أكثر الفساد في الأرض هو نتيجة الجهل وعدم العلم اليقيني.
3- التحذير من الماديين فإنهم شر وخطر وواجب الإعراض عنهم لأنهم شر الخليقة.
[53.31-32]
شرح الكلمات:
ولله ما في السماوات وما في الأرض: أي خلقا وملكا وتصرفا.
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا: ليعاقب الذين أساءوا بما عملوا من الشرك والمعاصي.
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى: ويثيب الذين أحسنوا في إيمانهم وعملهم الصالح بالجنة.
الذين يجتنبون كبائر الإثم: أي يتجنبون كبائر الذنوب وهو كل ذنب وضع له حد أو لعن فاعله أو توعد عليه بالعذاب في الآخرة.
والفواحش إلا اللمم: أي الذنوب القبيحة كالزنا واللواط وقذف المحصنات والبخل واللمم صغائر الذنوب التي تكفر باجتناب كبائرها.
هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض: أي خلق أباكم آدم من تراب الأرض.
وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم: أي وأنتم في أرحام أمهاتكم لم تولدوا بعد.
فلا تزكوا أنفسكم: أي فلا تمدحوها على سبيل الفخر والإعجاب.
هو أعلم بمن اتقى: أي منكم بمن اتقى منكم وبمن فجر فلا حاجة إلى ذكر ذلك منكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير ربوبيته تعالى المطلقة لكل شيء إذ تقدم في السياق قوله تعالى:
فلله الآخرة والأولى
[الآية: 25] وهنا قال عز من قائل { ولله ما في السموت وما في الأرض } خلقا وملكا وتصرفا وتدبيرا فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء هداية تابعة لحكمة وإضلال كذلك يدل عليه قوله تعالى { ليجزي الذين أساءوا } أي إلى أنفسهم بما عملوا من الشرك والمعاصي يجزيهم بالسوء وهي جهنم { ويجزي الذين أحسنوا } إلى أنفسهم فزكوها وطهروها بالإيمان والعمل الصالح يجزيهم بالحسنى التي هي الجنة وقوله { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } بين فيه وجه إحسان المحسنين إلى أنفسهم حين طهروها بالإيمان وصالح الأعمال ولم يلوثوها بأوضار كبائر الإثم من كل ما توعد فاعله بالنار أو بلعن أو إقامة حد، أو غضب الرب.
والفواحش من زنا ولواط وبخل وقوله { إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة } أي لكن اللمم يتجاوز عنه وهو ما ألم به المرء وتاب منه أو فعله في الجاهلية ثم أسلم، وما كان من صغائر الذنوب كالنظرة والكلمة والتمرة. وقد فسر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم
" إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. فمغفرة الله واسعة تشمل كل ذنب تاب منه فاعله كما تشمل كل ذنب من الصغائر ".
وقوله تعالى { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } أعلم بضعفنا وغرائزنا وحاجاتنا وعجزنا منا نحن بأنفسنا ولذا تجاوز لنا عن اللمم الذي نلم به بحكم العجز والضعف، فله الحمد والمنة، وقوله: { فلا تزكوا أنفسكم } ينهى الرب تعالى عباده المؤمنين عن تزكية المرء نفسه بإدعاء الكمال والطهر الأمر الذي يكون فخرا وإعجابا والإعجاب بالنفس محبط للعمل كالرياء والشرك فقوله { فلا تزكوا أنفسكم } أي لا تشهدوا عليها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي وقوله { هو أعلم بمن اتقى } أي أن الله أعلم بمن اتقى منكم ربه فخاف عقابه فأدى الفرائض واجتنب المحرمات منا ومن المتقى نفسه فلذا لا تمدحوا أنفسكم له فإنه أعلم بكم من أنفسكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير ربوبية الله تعالى لكل شيء وهي مستلزمة لإلوهيته.
2- تقرير حرية إرادة الله يهدي من يشاء ويضل ويعذب من شاء ويرحم إلا أن ذلك تابع لحكم عالية.
3- تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل.
4- تقرير قاعدة أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر.
5- حرمة تزكية النفس وهي مدحها والشهادة عليها بالخير والفضل والكمال والتفوق.
[53.33-54]
شرح الكلمات:
أفرأيت الذي تولى: أي عن الإسلام بعد ما قارب أن يدخل فيه.
أعطى قليلا وأكدى: أي أعطى من زعم أنه يتحمل عنه عذاب الآخرة أعطاه ما وعده من المال ثم منع.
أعنده علم الغيب فهو يرى: أي يعلم أن غيره يتحمل عنه العذاب والجواب لا.
أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى: أي أم بل لم يخبر بما ورد في الصحف المذكورة وهي التوراة وعشر صحف كانت لإبراهيم عليه السلام.
ألا تزر وازرة وزر أخرى: أي أنه لا تحمل نفس مذنبة ذنب غيرها.
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى: أي من خير وشر، وليس له ولا عليه من سعي غيره شيء.
وأن سعيه سوف يرى: أي يبصر يوم القيامة ويراه بنفسه.
ثم يجزاه الجزاء الأوفى: أي الأكمل التام الذي لا نقص فيه.
إن إلى ربك المنتهى: أي المرجع والمصير إليه ينتهى أمر عباده بعد الموت ويجازيهم.
وأنه أضحك وأبكى: أي أفرح من شاء فأضحكه، وأحزن من شاء فأبكاه.
وإنه أمات وأحيا: أمات في الدنيا وأحيا في الآخرة.
وإنه خلق الزوجين: أي الصنفين الذكر والأنثى.
من نطفة إذا تمنى: أي من منى إذا تمنى تصب في الرحم.
وأن عليه النشأة الأخرى: أي الخلقة الثانية للبعث والجزاء.
وأنه هو أغنى وأقنى: أي وأنه هو وحده أغنى بعض الناس بالكفاية، وأقنى بعض الناس بالمال المقتنى المدخر للقنية.
وأنه هو رب الشعرى: أي خالقها ومالكها وهي كوكب خلف الجوزاء عبده المشركون.
وأهلك عادا الأولى: أي قوم هود عليه السلام.
وثمودا فما أبقى: أي أهلكها أيضا فلم يبق منهم أحدا وهم قوم صالح.
وقوم نوح من قبل: أي وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود وقوم لوط.
والمؤتفكة أهوى: أي وقرى قوم لوط أسقطها بعد رفعها إلى السماء مقلوبة إلى الأرض إذ الائتفاك الانقلاب.
فغشاها ما غشى: أي بالعذاب ما غشى حيث جعل عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل.
معنى الآيات:
إن هذه الآيات ترسم صورة لقرشي جاهل هو الوليد بن المغيرة إذ قدر له أن استمع إلى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهش لها ودعاه الرسول فأسلم أو أوشك أن يسلم فعلم به أحد المشركين من شياطينهم فجاءه فعيره بإسلامه وترك دين آبائه فاعتذر له الوليد بأنه يخاف عذاب الله فقال له الشيطان القرشي وكان فقيرا والوليد غنيا أعطنى كذا من المال شهريا أو أسبوعيا أو سنويا وأنا اتحمل عنك العذاب الذي تخافه وعد إلى دينك وأثبت عليه فوافق الوليد على العرض وأخذ يعطيه المال. ثم أكدى أي قطع عنه ما كان يعطيه ومنعه.
فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليما وتحذيرا لكل من تبلغه ويقرأها أو تقرأ عليه فقال تعالى في أسلوب حمل فيه السامع على التعجب: { أفرأيت الذي تولى } أي عن الإسلام بعد أن قارب الوصول إليه والدخول فيه. { وأعطى قليلا } أي من المال للشيطان المشرك الذي اتفق معه على أن يتحمل عليه العذاب مقابل مال يعطيه إياه أقساطا، { وأكدى } أي قطع ومنع لأن الذي يحفر بئرا في أرض أحيانا تصادفه كدية من الأرض الصلبة يعجز عن الحفر فينقطع عن الحفر ويمتنع كذلك الوليد أعطى ثم امتنع وهو معنى أكدى أي انتهى إلى كدية من الأرض الصلبة.
وقوله تعالى: { أعنده علم الغيب فهو يرى } أي أن المرء في إمكانه أن يتحمل عذاب غيره يوم القيامة والجواب لا علم غيب عنده لا من كتاب ولا من سنة، أم لم ينبأ بما في صحف موسى وهي التوراة وإبراهيم الذي وفي لربه في كل ما عهد به إليه من ذبح ولده حيث تله للجبين ليذبحه، ومن بناء البيت والهجرة والختان بالقدوم إلى غير ذلك من التكاليف الشاقة. أي ألم ينبأ أي يخبر هذا الرجل الجاهل بما في صحف موسى بن عمران نبي بني إسرائيل وإبراهيم أبو الأنبياء ثم بين تعالى ما تضمنته تلك الصحف من علم فقال:
* ألا تزر وازرة وزر أخرى أن لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى.
* وأن ليس للإنسان من ثواب يوم القيامة إلا ما سعى في تحصيله بنفسه وهذا لا يتعارض مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح
" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم ينتفع به "
إذ هذه الثلاثة أمور من عمل الإنسان وسعيه الولد انجبه ورباه والصدقة الجارية أوقفها بنفسه والعلم تعلمه وبثه في الناس وعلمه فالجميع من سعيه وكسبه.
* وأن سعيه أي عمله في الدنيا من خير وشر سوف يرى علانية ويجزى به خيرا كان أو شرا والجزاء الأوفى أي الأكمل الأتم.
* وأن إلى ربك المنتهى أي إليه تصير أمور عباده بعد الموت ويحكم فيها ويجزيهم بها.
* وأنه هو أضحك وأبكى أي أفرح من شاء وأحزن فضحك الفرح وبكى الحزن. أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار. زيادة على من أفرح في الدنيا ومن أحزن.
* وأنه أمات وأحيا أمات عند نهاية أجل العبد وأحياه في قبره ويوم نشره وحشره وأحيا بالإيمان وأمات بالكفر وأمات بالقحط وأحيا بالمطر.
* وأنه خلق الزوجين أي الصنفين الذكر والأنثى من سائر الحيوانات من نطفة أي قطرة المنى إذا تمنى أي تصب في الأرحام.
* وأن عليه تعالى النشأة الأخرى أي هو الذي يقوم بها فيحيي الخلائق بعد موتهم يوم القيامة.
* وأنه هو أغنى وأقنى أي أغنى بعض الناس فسد حاجتهم وكفاهم مؤونتهم، وأقنى آخرين أعطاهم مالا كثيرا فاقتنوه قنية.
* وأنه هو رب الشعرى ذلك الكوكب الذي يطلع خلف الجوزاء فالله خالقه ومالكه ومسخره وقد عبده الجاهلون واتخذوه ربا وإلها وهو مربوب مألوه.
* { وأنه أهلك عادا الأولى } قوم هود أرسل عليهم ريحا صرصرا ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم، عاد تلك الأمة القائلة من أشد منا قوة دمر الله عليهم فاهلكهم أجمعين.
*وثمودا فما أبقى أي وأهلك ثمود قوم صالح بالحجر فما أبقى منهم أحدا.
* وقوم نوح من قبل عاد وثمود أهلكهم إنهم كانوا هم أظلم من غيرهم وأطغى.
* والمؤتفكة أي قرى قوم لوط سدوم وعموره أهلكهم فرفع تلك القرى إلى عنان السماء ثم أهوى بها إلى الأرض وأرسل عليهم حجارة من طين من سجيل فغشى تلك المدن من العذاب الأليم ما غشى عذاب يعجز الوصف عنه هذا هو الله رب العالمين الذي اتخذ الجهال له أندادا فعبدوها معه.
هذا هو الله الإله الحق الذي اتخذ الناس من دونه آلهة لا تعلم ولا تحكم ولا تقدر.
هذا هو الله العزيز المنتقم لأوليائه من أعدائه يشقي عبدا عاداه ويسعد آخر والاه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير ربوبية الله تعالى وإثبات ألوهيته بالبراهين والحجج التي لا ترد بحال.
2- تقرير عدالة الله تعالى في حكمه وقضائه.
3- مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.
4- تقرير حقيقة علمية وهي أن العمل الذي يزكى النفس أو يدنسها هو ذاك الذي يباشره المرء بنفسه وباختياره وقصده ونيته.
5- تحذير الظلمة والطغاة من أهل الكفر والشرك من أن يصيبهم ما أصاب غيرهم من الدمار والخسران.
[53.55-62]
شرح الكلمات:
فبأي آلاء ربك: أي فبأي أنعم ربك عليك وعلى غيرك أيها الإنسان.
تتمارى: أي تتشكك أو تكذب.
هذا نذير من النذر الأولى: أي هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم من النذر الأولى أي رسول مثل الرسل الأولى الذين ارسلوا إلى أقوامهم.
أزفت الآزفة: أي قربت القيامة ووصفت بالقرب لقربها فعلا.
ليس لها من دون الله كاشفة: أي ليس لها أي للقيامة من دون الله نفس كاشفة لها مظهرة لوقتها، إذ لا يجليها لوقتها إلا الله سبحانه وتعالى.
أفمن هذا الحديث: أي القرآن.
تعجبون وتضحكون: أي تعجبون تكذيبا به، وتضحكون سخرية منه كذلك.
وأنتم سامدون: أي لاهون مشتغلون بالباطل من القول كالغناء والعمل كعبادة الأصنام والأوثان.
فاسجدوا لله: أي الذي خلقكم ورزقكم وكلأكم ولا تسجدوا للأصنام.
واعبدوا: أي وذلو لله واخضعوا له تعظيما ومحبة ورهبة فإنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم غيره.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض العظيم لمظاهر القدرة والعلم والحكمة وكلها مقتضية للربوبية والألوهية لله سبحانه وتعالى خاطب الله تعالى الإنسان فقال { فبأي آلاء ربك تتمارى } أي بعد الذي عرضنا عليك في هذه السورة من مظاهر النعم والنقم وكلها في الباطن نعم فبأي آلاء ربك تتمارى أي تتشكك أو تكذب، وكلها ثابتة أمامك لا تقدر على إنكارها وإخفائها بحال من الأحوال.
ثم قال تعالى: { هذا نذير من النذر الأولى } يشير إلى أحد أمرين إما إلى ما في هذه السورة والقرآن كله من نذر أو إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكلا الأمرين حق القرآن نذير ومحمد نذير من النذر الأولى التي سبقته وهم الرسل، أو ما خوفت به الرسل أقوامها من عذاب الله تعالى العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة. ألا فاحذروا أيها الناس عاقبة إعراضكم.
وقوله تعالى: { أزفت الآزفة } يخبر تعالى أن القيامة قد آن أوانها وحضرت ساعتها إنها لقريبة جدا. ليس لها من دون الله نفس كاشفة تكشف الستار عنها وتظهرها بل تبقى مستورة لحكمة إلهية حتى تفاجأ بها البشرية وويل يومئذ للمكذبين.
وقوله تعالى توبيخا للمشركين والمكذبين: { أفمن هذا الحديث } أي غفلتم كل هذه الغفلة فتعجبون من هذا الحديث الإلهي والكلام الرباني وهو القرآن. { وتضحكون } كأن قلوبكم أصابها الموت. ولا تبكون على أنفسكم وقد بعتموها للشيطان ليقدمها إلى نار جهنم حطبا، وأنتم سامدون ساهون لاهون تغنون وتلعبون. ويلكم أنقذوا أنفسكم فاسجدوا لله واعبدوا، فإنه لا نجاة لكم من العذاب الأليم إلا بالاطراح بين يديه اسلاما له وخضوعا. تعبدونه بتوحيده في عبادته، وتسلمون له قلوبكم ووجوهكم فلا يكون لكم غير الله مألوها ومعبودا تعظمونه وتحبونه وتتقربون إليه بفعل محابه وترك مكاره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان قرب الساعة وخفاء ساعتها عن كل خلق الله حتى تأتي بغتة.
2- ذم الضحك مع الانغماس في الشهوات.
3- الترغيب في البكاء من خشية الله.
4- كراهية الغناء واللهو واللعب.
5- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية لمن يتلوها ولمن يستمع لها، وهي من عزائم السجدات في القرآن الكريم، ومن خصائص هذه السجدة أن المشركين سجدوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة كما في الصحيح.
[54 - سورة القمر]
[54.1-8]
شرح الكلمات:
اقتربت الساعة وانشق القمر: أي قربت القيامة، وانفلق القمر فلقتين على جبل أبي قبيس.
وإن يروا آية يعرضوا: أي وإن ير كفار قريش آية أي معجزة يعرضوا عنها ولا يلتفتوا إليها.
ويقولوا سحر مستمر: أي هذا سحر مستمر أي قوى من المرة أو دائم غير منقطع.
وكل أمر مستقر: أي وكل من الخير أو الشر مستقر بأهله في الجنة أو في النار.
ولقد جاءهم من الأنباء: أي من أنباء الأمم السالفة مما قصه القرآن.
ما فيه مزدجر: أي جاءهم من الأخبار ما فيه ما يزجرهم عن التكذيب والكفر.
حكمة بالغة: أي الذي جاءهم من الأنباء هو حكمة بالغة أي تامة.
فما تغن النذر: أي عن قوم كذبوا واتبعوا أهواءهم لا تغن شيئا.
فتول عنهم: أي لذلك فأعرض عنهم.
يوم يدعو الداع إلى شيء نكر: أي يدع الداع إلى موقف القيامة.
يخرجون من الأجداث: أي من القبور.
مهطعين إلى الداع: أي مسرعين إلى نداء الداع.
هذا يوم عسر: أي صعب شديد.
معنى الآيات:
قوله تعالى { اقتربت الساعة وانشق القمر } يخبر تعالى أن ساعة نهاية الدنيا وفنائها وقيام القيامة قد اقتربت، وأن القمر قد انشق معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علامات الساعة، وانشقاق القمر كان بمكة حيث طالبت قريش النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة تدل على نبوته فسأل الله تعالى انشقاق القمر فانشق فلقتين على جبل أبي قبيس فلقة فوق الجبل وفلقة وراء فشاهدته قريش ولم تؤمن وهو معنى قوله تعالى: { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } أي هذا سحر قوي شديد. قال تعالى { وكذبوا } أي رسولنا وما جاءهم به من التوحيد والوحي واتبعوا في هذا التكذيب أهواءهم لا عقولهم ولا ما جاء به رسولهم. وقوله تعالى { وكل أمر مستقر } أي وكل أمر من خير أو شر مستقر بصاحبه إما في الجنة أو النار. وقوله تعالى { ولقد جآءهم من الأنبآء } أي من أخبار الأمم السابقة وكيف أهلكها الله بتكذيبها رسلها وإصرارها على الشرك والكفر، وذلك في القرآن الكريم ما فيه مزدجر أي جاء من الأخبار الواعظة المذكرة من قصص الأنبياء مع أممهم ما فيه زاجر عن التكذيب والمعاصي هو حكمة بالغة تامة، والحكمة القول الذي يمنع صاحبه من التردي والهلاك بصرفه عن أسباب ذلك.
وقوله تعالى { فما تغن النذر } أي عن قوم كذبوا بالحق لما جاءهم واتبعوا أهواءهم ولم يتبعوا هدى ربهم ولا عقولهم. إذا فتول عنهم يا رسولنا واتركهم إلى حكم الله فيهم. وقوله: { يوم يدع الداع إلى شيء نكر } أي اذكر يا رسولنا يوم يدعو الداع إلى شيء نكر وهو موقف القيامة خشعا أبصارهم وكل أجسامهم وإنما ذكرت الأبصار لأنها أدل على الخشوع من سائر الأعضاء { يخرجون من الأجداث } أي القبور جمع جدث وهو القبر كأنهم جراد منتشر في كثرتهم وتفرقهم وانتشارهم مهطعين إلى الداع أي مسرعين إلى داع الله إلى ساحة الموقف وفصل القضاء.
يومئذ يقول الكافرون هذا يوم عسر وهو كذلك عسير شديد العسر ولكن على المؤمنين يسير غير عسير. كما قال تعالى فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير مفهومه أنه على المؤمنين يسير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- ذكر بعض علامات الساعة. كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر معجزة له صلى الله عليه وسلم.
3- التنديد باتباع الهوى، والتحذير منه فإنه مهلك.
4- عدم جدوى النذر لمن يتنكر لعقلة ويتبع هواه.
[54.9-17]
شرح الكلمات:
فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون: أي كذبوا نوحا عبد الله ورسوله وقالوا هو مجنون.
وازدجر: أي انتهروه وزجروه بالسب والشتم.
فدعا ربه أني مغلوب فانتصر: أي فسأل ربه قائلا رب إني مغلوب فانتصر أي لي.
بماء منهمر: أي منصب انصبابا شديدا.
وفجرنا الأرض عيونا: أي تنبع نبعا.
فالتقى الماء: أي ماء السماء وماء الأرض.
على أمر قد قدر: أي في الأزل ليغرقوا به فيهلكوا.
وحملناه على ذات ألواح ودسر: أي حملنا نوحا على سفينة ذات ألواح ودسر وهو ما يدسر به الألواح من مسامير وغيرها. واحد الدسر دسار ككتاب .
تجري بأعيننا: أي بمرأى منا أي محفوظة بحفظنا لها.
جزاء لمن كان كفر: أي أغرقناهم انتصارا لمن كان كفر وهو نوح كفروا نبوته وكماله.
ولقد تركناها: أي إغراقنا لهم على الصورة التي تمت عليها.
آية: أي لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم.
فهل من مدكر: أي معتبر ومتعظ بها.
فكيف كان عذابي ونذر: أي ألم يكن واقعا موقعه.
ولقد يسرنا القرآن للذكر: أي سهلناه للحفظ، وهيأناه للتذكير.
فهل من مدكر: أي فهل من متعظ به حافظ له متذكر.
معنى الآيات:
قوله تعالى { كذبت قبلهم قوم نوح } يخبر تعالى مسليا رسوله مخوفا قومه فيقول { كذبت قبلهم } أي قبل قريش قوم نوح وهو أول رسول أرسل إلى قوم مشركين فكذبوا عبدنا رسولنا نوحا كذبوه في دعوة التوحيد كذبوه في دعوة الرسالة، ولم يكتفوا بتكذيبه فقالوا مجنون أي هو مجنون { وازدجر } أي انتهروه وزجروه ببذيء القول وسيىء الفعل فدعا أي نوح ربه قائلا { أني مغلوب فانتصر } لي يا ربي، فاستجاب الله تعالى له ففتح أبواب السماء بماء منهمر أي منصب انصبابا شديدا، وفجرنا الأرض عيونا نابعة من الأرض فالتقى الماء النازل من السماء والنابع من الأرض { على أمر قد قدر } أي قدره الله في الأزل وقضى بأن يهلكهم بماء الطوفان وقوله تعالى { وحملناه على ذات ألواح ودسر } والدسر جمع واحده دسار ككتاب وكتب وهو ما تدسر به الألواح من مسامير وغيرها وقوله تعالى { تجري } وهي حاملة لعوالم شتى { بأعيننا } أي بمرأى منا محفوظة بحفظنا لها وقوله { جزآء لمن كان كفر } أي أغرقناهم انتصارا لعبدنا نوح وجزاء له على صبره مع طول الزمن لقد أقام فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. وقوله { ولقد تركناها آية } أي تلك الفعلة التي فعلنا بهم وهي إغراقنا لهم تركناها آية للاعتبار لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم.
وقوله تعالى { فهل من مدكر } أي معتبر ومتعظ بها. وقوله { فكيف كان عذابي ونذر } ألم يكن واقعا موقعه؟ بلى. وقوله تعالى { ولقد يسرنا القرآن للذكر } أي سهلناه للحفظ وهيأناه للتذكر. فهل من مدكر؛ أي فهل من متعظ به حافظ له والاستفهام للأمر أي فاتعظوا به واحفظوه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- تحذير قريش من الاستمرار في الكفر والمعاندة.
3- تقرير حادثة الطوفان والتي لا ينكرها إلا سفيه لم يحترم عقله.
4- فضل الله على هذه الأمة بتسهيل القرآن للحفظ والتذكر.
[54.18-22]
شرح الكلمات:
كذبت عاد: أي نبيها هودا عليه السلام فلم تؤمن به ولا بما جاء به.
فكيف كان عذابي ونذر: أي فكيف كان عذابي الذي أنزلته بهم وإنذاري لهم كان أشد ما يكون.
إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا: أي ريحا عاتية ذات صوت شديد.
في يوم نحس مستمر: أي في يوم نحس أي شؤم مستمر دائم الشؤم قوية حتى هلكوا.
تنزع الناس كأنهم أعجاز: أي تقتلعهم من الحفر التي اندسوا فيها وتصرعهم فتدق رقابهم.
نخل منقعر: منفصلة أجسامهم كأنهم والحال كذلك أعجاز أي أصول نخل منقلع.
ولقد يسرنا القرآن للذكر: أي سهلنا القرآن للحفظ والتذكير والتذكر به.
فهل من مدكر: أي تذكروا يا عباد الله بالقرآن فإن منزله سهله للتذكير.
معنى الآيات:
قوله تعالى { كذبت عاد } هذا القصص الثاني في هذه السورة يذكر بإيجاز تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدا لقومه المكذبين وذكرى للمؤمنين فقال تعالى كذبت عاد أي قوم هود كذبوا رسول الله هودا عليه السلام وكفرا بما جاءهم به من التوحيد والشرع وقالوا ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فأرسل تعالى عليهم ريحا صرصرا ذات صوت شديد في يوم نحس وكان مساء الأربعاء لثمان خلون من شهر شوال مستمر بشدة وقوة وشؤم عليهم مدة سبع ليال وثمانية أيام تنزع تلك الريح الناس وقد دخلوا حفرا تحصنوا بها فتنزعهم منها نزعا وتخرجهم فتصرعهم فتدق رقابهم فتنفصل عن أجسادهم فيصيرون والحال هذه لطول أجسامهم كأنهم أعجاز نخل منقعر أي منقلع ساقط على الأرض. وقوله تعالى { فكيف كان عذابي ونذر }؟ هذ الاستفهام للتهويل أي إنه كان كأشد ما يكون لعذاب والإنذار. وقوله تعالى { ولقد يسرنا القرآن للذكر } أي سهلناه وهيأناه بفضل منا ورحمة للحفظ ولولا هذا التسهيل ما حفظه أحد، وهيئناه للتذكر به. فهل من مذكر أي من متذكر والاستفهام للأمر كأنما قال: فاحفظوه وتذكروا به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عقوبة المكذبين لرسل الله وما نزل بهم من العذاب في الدنيا قبل الآخرة.
2- بيان أن قوة الإنسان مهما كانت أمام قوة الله تعالى هي لا شيء ولا ترد عذاب الله بحال.
3- بيان تسهيل الله تعالى كتابه للناس ليحفظوه ويذكروا به، ويعملوا بما جاء فيه ليكملوا ويسعدوا في الحياتين.
[54.23-32]
شرح الكلمات:
كذبت ثمود بالنذر: أي كذبت قبيلة ثمود وهم قوم صالح بالحجر من الحجاز بالرسل لأن النذر جمع نذير وهو الرسول كما هو هنا.
فقالوا أبشر منا واحدا نتبعه: أي كيف نتبع بشرا واحدا منا إنكارا منهم للإيمان بصالح عليه السلام.
إنا إذا لفي ضلال وسعر: أي إنا إذا اتبعناه فيما جاء به لفي ذهاب عن الصواب وجنون.
أألقي عليه الذكر من بيننا: أي لم يوح إليه من بيننا أبدا وإنما هو كذاب أشر.
بل هو كذاب أشر: أي فيما ادعى أنه ألقي إليه من الوحي أشر بمعنى متكبر.
ستعلمون غدا: أي في الآخرة.
من الكذاب الأشر: وهو هم المعذبون يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم.
إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم: أي إنا مخرجوا الناقة من الصخر ومرسلوها لهم محنة.
فارتقبهم واصطبر: أي انتظر وراقب ماذا يصنعون وما يصنع بهم، واصبر على أذاهم.
ونبئهم أن الماء قسمة بينهم: أي ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة فيوم لها ويوم لهم.
كل شرب محتضر: أي كل نصيب من الماء يحضره قومه المختصون به الناقة أو ثمود.
فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر: أي فملوا ذلك الشرب وسئموا منه فنادوا صاحبهم وهو قدار بن سالف ليقتلها فتعاطى السيف وتناوله فعقر الناقة أي قتلها.
إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة: هي صيحة جبريل صباح السبت فهلكوا.
فكانوا كهشيم المحتظر: أي صاروا بعد هلاكهم وتمزق أجسادهم كهشيم المحتظر وهو الرجل يجعل في حظيرة غنمه العشب اليابس والعيدان الرقيقة يحظر بها لغنمه ويحفظها من البرد والذئاب.
معنى الآيات:
قوله تعالى { كذبت ثمود بالنذر } هذا القصص الموجز الثالث وهو قصص ثمود قوم صالح فقال تعالى في بيانه { كذبت ثمود بالنذر } أي التي أنذرها نبيها صالح وهي ألوان العذاب كما كذبته فيما جاء به من الرسالة فقالوا في تكذيبهم له عليه السلام: { أبشرا منا واحدا نتبعه } أي كيف يتم ذلك منا ويقع؟ عجب هذا إنا إذا لفي ضلال وسعر إنا إذا اتبعناه وهو واحد لا غير ومنا أيضا فهو كغيره من أفراد القبيلة لفي بعد عن الصواب وذهاب عن كل رشد، وسعر أي وجنون أيضا، وقالوا مستنكرين متعجبين { أءلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر } أي متكبر.
قال تعالى ردا عليهم سيعلمون غدا يوم ينزل بهم العذاب ويوم القيامة أيضا من الكذاب الأشر أصالح أم هم، لن يكونوا إلا هم فهم الذين أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
وقوله تعالى: { إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم } أي كما طلبوا إذا قالوا لصالح إن كنت رسول الله حقا فسله يخرج لنا من هذه الصخرة في هذا الجبل ناقة فقام يصلي ويدعوا وما يزال يصلي ويدعو حتى تمخض الجبل وخرجت منه ناقة عشراء آية في القوة والجمال، وقال لهم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم أليم.
ومعنى فتنة لهم أي امتحانا واختبارا لهم هل يؤمنون أو يكفرون، ولذا قال تعالى لصالح فارتقبهم واصطبر أي انظر إليهم وراقبهم من بعد واصطبر على أذاهم. ونبئهم أي أخبرهم بأمرنا أن الماء ماء بئرهم الذي يشربون منه قسمة بينهم أي مقسوم بينهم للناقة يوم وللقبيلة يوم، وقوله كل شرب محتضر أي كل نصيب خاص بصاحبه يحضره دون غيره. وما تشربه الناقة من الماء نحيله إلى لبن خالص وتقف عند كل باب من أبواب المدينة ليحلبوا من لبنها وطالت المدة وملوا اللبن والسعادة فنادوا صاحبهم غدار بن سالف عاقر الناقة فتعاطى السيف وتناوله وعقرها بضرب رجليها بالسيف ثم ذبحها. وقوله تعالى { فكيف كان عذابي } الذي أنزلته بهم بعد عقر الناقة كيف كان إنذاري لهم أما العذاب فقد كان إليما وأما الإنذار فقد كان صادقا، والويل للمكذبين. وهذا بيانه قال تعالى { إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة } هي صيحة جبريل عليه السلام فانخلعت لها قلوبهم فاصبحوا في ديارهم جاثمين { كهشيم المحتظر } أي ممزقين محطمين مبعثرين هنا وهنا كحطب وخشب وعشب الحظائر التي تجعل للأغنام.
وقوله تعالى { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } يدعو الله تعالى هذه الأمة إلى كتابه قراءة وحفظا وتذكرا فإنه مصدر كمالهم وسعادتهم لا سيما وقد سهله وهيأه لذلك. ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في إهلاك المكذبين.
2- بيان أن الآيات لا تستلزم الإيمان وإلا فآية صالح من أعظم الآيات ولم تؤمن بها قو ثمود.
3- أشقى أمة الإسلام عقبة بن أبي معيط الذي وضع سلى الجزور على ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي حول الكعبة، وعاقر ناقة صالح غدار بن سالف كما جاء في الحديث.
4- دعوة الله إلى حفظ القرآن والتذكير به فإنه مصدر الإلهام والكمال والإسعاد.
[54.33-42]
شرح الكلمات:
كذبت قوم لوط بالنذر: كذبت قوم لوط بالنذر التي أنذرهم بها وخوفهم منها لوط عليه السلام.
إنا أرسلنا عليهم حاصبا: أي ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحجارة الصغيرة فهلكوا.
إلا آل لوط نجيناهم بسحر: أي بنتاه وهو معهم نجاهم الله تعالى من العذاب حيث غادروا البلاد قبل نزول العذاب بها.
نعمة من عندنا: أي إنعاما منا عليهم ورحمة منا بهم.
كذلك نجزي من شكر: أي مثل هذا الجزاء بالنجاة من الهلاك نجزي من شكرنا بالإيمان والطاعة.
ولقد أنذرهم بطشتنا: أنذرهم لوط أي خوفهم أخذتنا إياهم بالعذاب.
فتماروا بالنذر: أي فتجادلوا وكذبوا بالنذر التي أنذرهم بها وخوفهم منها.
ولقد راودوه عن ضيفه: أي أن يخلى بينهم وبين ضيفه وهم ملائكة ليخبثوا بهم.
فطمسنا أعينهم: أي ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم فكانت كباقي وجوههم.
ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر: أي نزل بهم بكرة صباحا عذاب مستقر لا يفارقهم أبدا هلكوا به في الدنيا ويصحبهم في البرزخ ويلازمهم في الآخرة.
ولقد يسرنا القرآن للذكر: أي سهلناه للحفظ والتذكير به والعمل بما فيه.
فهل من مدكر؟: أي من متذكر فيعمل بما فيه فينجو من النار ويسعد في الجنة.
ولقد جاء آل فرعون النذر: أي قوم فرعون الإنذارات على لسان موسى وهارون عليهما السلام.
كذبوا بآياتنا كلها: أي فلم يؤمنوا بل كذبوا بآياتنا التسع التي آتيناها موسى.
فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر: أي فأخذناهم بالعذاب وهو الغرق أخذ قوى مقتدر على كل شيء لا يعجزه شيء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر موجز لقصص عدد من الأمم السابقة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدا للمشركين المصرين على الشرك بالله والتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنذارا لأهل الشرك والمعاصي في كل زمان ومكان فقال تعالى { كذبت قوم لوط } وهم أهل قرى سدوم وعمورة كذبوا رسولهم لوطا بن أخي إبراهيم عليه السلام هاران. كذبوا بالنذر وهي الآيات التي أنذرهم لوط بها وخوفهم من عواقبها.
وقوله تعالى: { إنآ أرسلنا عليهم حاصبا } أي لما كذبوا بالنذر وأصروا على الكفر وإتيان الفاحشة أرسلنا عليهم حاصبا ريحا تحمل الحصباء الحجارة الصغيرة فأهلكناهم بعد قلب البلاد بجعل عاليها سافلها. وقوله تعالى { إلا آل لوط نجيناهم بسحر } والمراد من آل لوط لوط ومن آمن معه من ابنتيه وغيرهما نجاهم الله تعالى بسحر وهو آخر الليل. وقوله { نعمة من عندنا } أي كان إنجاؤهم إنعاما منا عليهم ورحمة منا بهم. وقوله تعالى { كذلك نجزي من شكر } أي كهذا الإنجاء أي من العذاب الدنيوي نجزي من شكرنا فآمن بنا وعمل صالحا طاعة لنا وتقربا إلينا وقوله تعالى: { ولقد أنذرهم بطشتنا } أي إننا لم نأخذهم بظلم منا ولا بدون سابق إنذار منا لا، لا بل أخذناهم بظلمهم، وبعد تكرر إنذارهم، فكانوا إذا أنذروا تماروا بما أنذروا فجادلوا فيه مستهزئين مكذبين، ومن أعظم ظلمهم أنهم راودوا لوطا عن ضيفه من الملائكة وهم في صورة بشر، فلما راودوه عنهم ليفعلوا الفاحشة ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم فأصبحت كسائر وجوههم لا حاجب ولا مقلة ولا مكان للعين بالكلية وقولنا لهم فذوقوا عذابي ونذري أي لأولئك الذين راودوا لوطا عن ضيفه.
أما باقي الأمة فهلاكهم كان كما أخبر تعالى عنه بقوله: { ولقد صبحهم بكرة } أي صباحا { عذاب مستقر } أي دائم لهم ملازم لا يفارقهم ذاقوه في الدنيا موتا وصاحبهم برزخا ويلازمهم في جهنم لا يفارقهم.
وقلنا لهم فذوقوا عذابي ونذر حيث كنتم تمارون وتستهزئون وقوله تعالى: { ولقد يسرنا القرآن للذكر } أي القرآن للحفظ وسهلناه للفهم والاتعاظ به والتذكر فهل من مدكر أي فهل من متذكر متعظ معتبر فيقبل على طاعة الله متجنبا معاصيه فينجو ويسعد وقوله تعالى: { ولقد جآء آل فرعون النذر } أي قوم فرعون من القبط وجنده منهم كذلك جاءتهم النذر على لسان موسى وأخيه هارون فكذبوا وأصروا على الكفر والظلم، وكذبوا بآيات الله كلها وهي تسع آيات آتاها الله تعالى موسى أولها العصا وآخرها انفلاق البحر فبسبب ذلك أخذناهم أخذ عزيز غالب لا يمانع في مراده مقتدر لا يعجزه شيء فأغرقناهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته بالالتزام وتقرير التوحيد وإثبات النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم. إذ أفعال الله العظيمة من إرسال الرسل والأخذ للظلمة الكافرين بأشد أنواع العقوبات من أجل أن الناس لم يعبدوا ولم يطيعوا دال على ربوبيته وألوهيته، وقص هذا القصص من أمي لم يقرأ ولم يكتب دال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
2- بيان جزاء الشاكرين لله تعالى بالإيمان به وطاعته وطاعة رسله.
3- مشروعية الضيافة وإكرام الضيف، وفي الحديث:
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ".
4- تيسير القرآن وتسهيله للحفظ والاتعاظ والاعتبار.
[54.43-46]
شرح الكلمات:
أكفاركم خير من أولئكم: أي أكفاركم يا قريش خير من أولئكم الكفار المذكورين من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وملائه؟ فلذا هم لا يعذبون.
أم لكم براءة في الزبر: أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الزبر أي الكتب الإلهية.
أم يقولون نحن جميع منتصر: أم يقولون أي كفار قريش نحن جميع أي جمع منتصر على محمد وأصحابه.
سيهزم الجمع ويولون الدبر: أي سيهزم جمعهم ويولون الدبر هاربين منهزمين وكذلك كان في بدر.
بل الساعة موعدهم: أي الساعة موعدهم بالعذاب والمراد من الساعة يوم القيامة.
والساعة أدهى وأمر: أي وعذاب الساعة وأهوالها أي هي أي أعظم بلية وأمر أي أشد مرارة من عذاب الدنيا قطعا.
معنى الآيات:
يقول تعالى مبكتا مشركي قريش مؤنبا إياهم وهم الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم يقول الله تعالى لهم: { أكفركم } يا قريش خير من كفار الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون فلذا هم آمنون من العذاب الذي نزل بكفار الآخرين، أم لكم براءة من العذاب جاءت في الكتب مسطورة اللهم لا ذا ولا ذاك ما كفاركم بخير من أولئكم، وليس لكم براءة في الزبر، وإنما أنتم ممهلون فإما أن تتوبوا وأما أن تؤخذوا.
وقوله تعالى عنهم { أم يقولون نحن جميع } أي جمع منتصر على كل من يحاربنا ويريد أن يفرق جمعنا نعم قالوا هذا، ولكن سيهزم الجمع ويولون الدبر، وقد تم هذا في بدر بعد سنيات ثلاث أو أربع وهزم جمعهم في بدر وولوا الأدبار هاربين إلى مكة.
وقوله تعالى { بل الساعة موعدهم } أي الساعة التي ينكرونها ويكذبون بها هي موعد عذابهم الحق أما عذاب الدنيا فهو ليس شيء إذا قيس بعذاب الآخرة. { والساعة أدهى } أي أعظم بلية وأكبر داهية تصيب الإنسان وعذابها، { وأمر } أي وعذابها أمر من عذاب الدنيا كله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان حقيقة يغفل عنها الناس وهي أن الكفر كله واحد ومورد للهلاك.
2- لا قيمة أبدا لقوة الإنسان إزاء قوة الله تعالى.
3- صدق القرآن في إخباره بغيب لما يقع ووقع كما أخبر وهو آية أنه وحي الله وكلامه.
4- القيامة موعد لقاء البشرية كافة بحيث لا يتخلف عنه أحد.
[54.47-55]
شرح الكلمات:
إن المجرمين في ضلال وسعر: أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي في ضلال في الدنيا ونار مستعرة في الآخرة.
ذوقوا مس سقر: أي يوم يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم ذوقوا مس سقر جهنم.
إنا كل شيء خلقناه بقدر: أي إنا خلقنا كل شيء بتقدير سابق لخلقنا له وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض فهو يقع كما كتب كمية وصورة وزمانا ومكانا لا يتخلف في شيء من ذلك.
وما أمرنا إلا واحدة: أي وما أمرنا إذا أردنا خلق شيء إلا أمرة واحدة فيتم وجوده.
كلمح بالبصر: الشيء بسرعة كلمح البصر وهو النظر بعجلة.
ولقد أهلكنا أشياعكم: أي ولقد أهلكنا أمثالكم أيها المشركون من الأمم السابقة.
فهل من مدكر؟: أي فاذكروا واتعظوا بهذا خيرا لكم من هذا الإعراض.
وكل شيء فعلوه في الزبر: أي وكل ما فعله العباد هو مسجل في كتب الحفظة من الملائكة.
وكل صغير وكبير مستطر: أي وكل صغير وكبير من سائر الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ مستطر مكتوب.
إن المتقين في جنات ونهر: إن الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره في جنات يشربون من أنهار الماء واللبن والخمر والعسل المصفى.
في مقعد صدق: أي في مجلس حق لا لغو به ولا تأثيم.
عند مليك مقتدر: عند مليك أي ذي ملك وسلطا مقتدر على ما يشاء وهو الله جل جلاله.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إن المجرمين في ضلال وسعر } يخبر تعالى عن حال المجرمين وهم الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك وغشيان الذنوب يخبر تحذيرا وإنذارا بأن المجرمين في ضلال في حياتهم الدنيا، وسعر ونار مستعرة متأججة يوم القيامة يوم يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم ذوقوا تهكما بهم مس سقر تذوقوا العذاب، وسقر طبق من أطباق جهنم وباب من أبوابها.
وقوله تعالى: { إنا كل شيء خلقناه بقدر } إعلام منه تعالى عن نظام الكون الذي خلقه تعالى وهو أن كل حادث يحدث في هذا العالم قد سبق به علم الله وتقديره له فحدد ذاته وصفاته وأعماله ومآله إلى جنة أو إلى نار، إن كان إنسانا أو جانا وليس هناك شيء يحدث بدون تقدير سابق له وعلم تام به قبل حدوثه.
وقوله تعالى: { ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر } يخبر تعالى عن قدرته كما أخبر عن علمه بأنه تعالى إذا أراد إيجاد شيء في الوجود لم يزد على أمر واحد وهو كن فإذا بالمطلوب يكون كما أراد تعالى أزلا أن يكون، وبسرعة كسرعة لمح البصر الذي هو نظرة سريعة.
وقوله تعالى وهو يخاطب مشركي قريش { ولقد أهلكنآ أشياعكم } أي أمثالكم في الكفر والعصيان أي من الأمم السابقة { فهل من مدكر } أي متذكر متعظ معتبر قبل فوات الوقت وحصول المكروه من العذاب في الدنيا وفي الآخرة.
وقوله تعالى { وكل شيء فعلوه } أي أولئك المشركون { في الزبر } أي في كتب الحفظة من الملائكة الكرام الكاتبين، وكل صغير وكبير من أعمالهم وأعمال غيرهم بل كل حادثة في الأكوان هي مسطرة في اللوح المحفوظ كتاب المقادير.
وقوله تعالى { إن المتقين في جنات ونهر } هذا الإخبار يقابل الإخبار الأول أن المجرمين في ضلال وسعر فالأول إعلام وتحذير وترهيب وهذا إخبار وبشرى وترغيب حيث أخبر أن المتقين الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره إنهم في جنات بساتين ذات قصور وحور، وأنهار وأشجار هم جالسون في مقعد صدق في مجلس حق لا لغو يسمع فيه ولا تأثيم يلحق جالسه عند مليك أي ذي ملك وسلطان مقتدر على فعل كل ما يريده سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مصير المجرمين وضمنه تخويف وتحذير من الإجرام الموبق للإنسان.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
3- تقرير أن أعمال العباد مدونة في كتب الكرام الكاتبين لا يترك منها شيء.
4- تقرير أن كل صغيرة وكبيرة من أحداث الكون هي في كتاب المقادير اللوح المحفوظ.
5- بيان مصير المتقين مع الترغيب في التقوى إذ هي ملاك الأمر وجماع الخير.
6- ذكر الجوار الكريم وهو مجاورة الله رب العالمين في الملكوت الأعلى في دار السلام.
[55 - سورة الرحمن]
[55.1-13]
شرح الكلمات:
الرحمن: اسم من أسماء الله تعالى.
علم القرآن: أي علم من شاء من عباده القرآن.
خلق الإنسان: آدم كما خلق ذريته أيضا.
علمه البيان: أي علم آدم البيان الذي هو النطق والإعراب عما في النفس بلغة من اللغات كل هذا تعليم الله عز وجل ولولا الله ما نطق إنسان.
الشمس والقمر بحسبان: أي يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما.
والنجم والشجر يسجدان: النجم ما لا ساق له من النبات، والشجر ما له ساق يسجدان يخضعان لله تعالى بما يريد منهما في طواعية كالسجود من المكلفين.
والسماء رفعها: أي فوق الأرض وأعلاها.
ووضع الميزان: أي أثبت العدل بين العباد أمر به وألهم صنع آلته.
ألا تطغوا في الميزان: أي لأجل أن لا تجوروا في الميزان وهو ما يوزن به من آلات.
وأقيموا الوزن بالقسط: أي لا تنقصوا الموزون الذي تزنونه بل وفوه.
والأرض وضعها للأنام: أي أثبتها وخفضها كما رفع السماء وأعلاها للأنام لحياة الأنام عليها وهم الإنس والجن والحيوان وكل ذي روح.
فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام: أي في الأرض فاكهة وهي كل ما يتفكه به الإنسان من أنواع الفواكه الكثيرة، والنخل ذات الأكمام وهي أوعية طلعها.
والحب ذو العصف: أي وفي الأرض الحب من بر وشعير وعصفه تبنه.
والريحان: نبت معروف، والمراد به أنواع الرياحين المشمومة ذات الريح الطيب.
فبأي آلاء ربكما تكذبان: أي فبأي نعم ربكما يا معشر الجن والإنس تكذبان وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى. والجواب لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
معنى الآيات:
قوله تعالى { الرحمن علم القرآن } يخبر تعالى أنه هو الرحمن الذي علم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم القرآن لا كما يقول المبطلون إنما يعلمه بشر. الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء وهي متجلية ظاهرة فيما يعدد من آلاء ونعم. منها خلقه الإنسان آدم وذريته، وتعليمهم البيان وهو النطق والإبانة عما في نفوسهم. { الشمس والقمر بحسبان } يجريان لإفادة الناس في معرفة أوقات عبادتهم، وآجال ديونهم وهي مظاهر الرحمة، { والنجم والشجر يسجدان } والنجم غذاء بهائمكم والشجر فيه فاكهتكم وبعض غذائكم { يسجدان } خضوعا لله بما أراد منهما لا يعصيان كما يعصي الثقلان. والسماء رفعها عن الأرض ولم يلصقها بالأرض إنعاما منه على الثقلين في رفعها وتزيينها بكواكبها وشمسها وقمرها، { ووضع الميزان } أي العدل حيث أمر به وألهم وضع آلته وغرز في النفوس حبه والرغبة فيه، من أجل ألا تجوروا في الميزان. { وأقيموا الوزن بالقسط } بالعدل، { ولا تخسروا الميزان } أي لا تنقصوه إذا وزنتم بل وفوه كل هذا إنعام وألوان من رحمات الرحمن.
والأرض وضعها للأنام أي أثبتها وخفضها ودحاها لحياة الأنام، وهم الإنس والجان والحيوان، { فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام } أي أوعية الطلع، والحب البر والشعير ذو العصف أي التبن والريحان هذه أنواع الطعام للإنسان والحيوان طعام وفاكهة وريحان كل هذه مظاهر الرحمة التي أفاضها الرحمن. { فبأي آلاء ربكما } يا معشر الجن والإنس { تكذبان }. لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الرحمن مثل اسم الله لا يصح أن يطلق على غير الرب تبارك وتعالى، فيقال فلان عزيز أو رحيم أو عليم أو حكيم، ولكن لا يقال رحمان، كما لا يقال إله أو الإله أو الله.
2- ورد في الصحيح في فضل تعلم القرآن قوله صلى الله عليه وسلم
" خيركم من تعلم القرآن وعلمه ".
3- وجوب إقامة العدل والتواصي به، ومراقبة الموازين لدى التجار وإصلاح فاسدها.
4- وجوب شكر الله على آلائه.
5- استحباب قول لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد عند سماع قراءة فبأي آلاء ربكما تكذبان.
6- مشروعية تعلم علم الفلك لمعرفة القبلة ومواقيت الصلاة والصيام والحج.
[55.14-25]
شرح الكلمات:
خلق الإنسان من صلصال كالفخار: أي خلق آدم من طين يابس يسمع له صلصلة كالفخار وهو ما طبخ من الطين.
وخلق الجان من مارج من نار: أي أبا الجن من لهب النار الخالص من الدخان وهو مختلط أحمر وأزرق وأصفر.
رب المشرقين ورب المغربين: أي مشرق الشتاء، مشرق الصيف أي مطلع طلوع الشمس فيهما. وكذا المغربين في الصيف والشتاء.
مرج البحرين يلتقيان: أي أرسل البحرين العذب والملح يلتقيان في رأي العين.
بينهما برزخ لا يبغيان: أي بينهما حاجز لا يبغي أحدهما على الآخر فيختلط به.
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان: أي يخرج من مجموعها الصادق بأحدهما وهو الملح اللؤلؤ والمرجان وهو خرز أحمر، وهو صغار اللؤلؤ.
وله الجوار المنشأت في البحر كالأعلام: أي السفن المحدثات في البحر كالأعلام أي كالجبال عظما وارتفاعا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر ما أفاض الرحمن جل جلاله من رحمته التي وسعت كل شيء من آلاء ونعم لا تحصى ولا تعد ولا تحصر فقال تعالى { خلق الإنسان } أي الرحمن الذي تجاهله المبطلون وقالوا: وما الرحمن؟ الرحمن الذي خلق الإنسان آدم أول إنسان خلقه ومن أي شيء خلقه { من صلصال } أي من طين ذي صلصلة وصوت { كالفخار } خلق الإنسان، وخلق الجان وهو عالم كعالم الإنسان خلق أصله من مارج وهو ما مرج واختلط من لهب النار. فبأي يا معشر الجن والإنس { آلاء ربكما تكذبان } إنها نعم تفوق عد الإنسان من رب المشرقين ورب المغربين من خلقهما من ملكهما من سخرهما لفائدة الإنسان؟ إنه الرحمن فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد. الرحمن مرج البحرين الملح والعذب أرسلهما على بعضهما فمرجا. كأنهما اختلطا إذا جعل بينهما برزخا حاجزا فهما لا يبغيان فلا يختلط أحدهما بالثاني، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان من خلق في مجموع البحرين اللؤلؤ والمرجان وهما خرز أبيض وأحمر وأخضر ولفائدة من خلقهما الرحمن؟ إنها لفائدة الإنسان إذا هما نعمة ورحمة من رحمات الرحمن { فبأي آلاء ربكما تكذبان } { وله الجوار } أي للرحمن الجوار المنشآت المصنوعات في البحر في أحواض السفن كالأعلام علوا وارتفاعا تظهر في البحر كما تظهر الجبال في البر لمصلحة من خلقها الرحمن لمصلحة الإنسان فهي إذا رحمة الرحمن ونعمته على الإنسان فبأي آلاء ربكما يا معشر الإنس والجن تكذبان؟ اقروا واعترفوا واشكروا الرحمن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أصل خلق الإنسان والجان فالأول من طين لازب ذي صلصال كالفخار والثاني من مارج من نار وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن خلق الملائكة كان من نور.
2- معرفة مطالع الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف وهما مطلعان ومغربان.
3- معرفة صناعة اللؤلؤ والمرجان، والسفن التي هي في البحر كالجبال علوا وظهورا.
4- وجوب شكر الرحمن على إنعامه على الإنس والجان.
[55.26-36]
شرح الكلمات:
كل من عليها فان: أي كل من على الأرض من إنسان وحيوان وجان فان أي هالك.
ويبقى وجه ربك: أي ذاته ووجه سبحانه وتعالى.
ذو الجلال والإكرام: أي العظمة والإنعام على عباده عامة والمؤمنين بخاصة.
يسأله من في السماوات والأرض: أي يسألونه حاجاتهم التي تتوقف عليها حياتهم من الرزق والقوة على العبادة. والمغفرة للذنب، والعزة من الرب.
كل يوم هو في شأن: أي كل وقت هو في شأن: شؤون يبديها وفق تقديره لها يرفع أقواما ويضع آخرين.
سنفرغ لكم أيها الثقلان: أي لحسابكم ومجازاتكم بعد انتهاء هذه الحياة الدنيا ونجزي كلا بما عمل.
إن استطعتم أن تنفذوا: أي إن قدرتم على أن تخرجوا.
من أقطار السماوات والأرض: أي من نواحي السماوات والأرض.
فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان: أي فاخرجوا. لا تنفذون إلا بقوة ولا قوة لكم وهذا تعجيز لهم.
يرسل عليكما شواظ من نار: أي من لهب النار الخالص الذي لا دخان فيه.
ونحاس: أي دخان لا لهب فيه، ولا يبعد أن يكون نحاسا مذابا.
فلا تنتصران: أي لاتمتنعان من السوق إلى المحشر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم ي ذكر أيادي الرحمن الرحيم قال عز من قائل { كل من عليها فان } كل من على الأرض من إنسان وجان وذي روح وحيوان فان: هالك، لا تبقى له روح ولا ذات، { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } حي لا يموت والإنس والجن يموتون فبأي آلاء ربكما تكذبان أبنعمة إيجادكما وإمدادكما بالأرزاق والخيرات طوال الحياة أم بنعمة انهاء أتعابكما وتكاليفكما أم بإهلاك أعدائكما، وإدنائكما من النعيم المقيم في جنات النعيم، قولوا خيرا لكم لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد. وقوله { يسأله من في السموت والأرض } أي يطلبونه بلسان القال أو الحال ما هم في حاجة إليه مما يحفظ وجودهم ويغفر ذنوبهم وقوله تعالى { كل يوم هو في شأن } أي لا يفرغ الدهر كله يدبر أمر السماء والأرض يرفع أقواما ويضع آخرين.
وقول الرحمن { سنفرغ لكم أيه الثقلان } من الإنس والجن فنحاسبكما ونجزيكما محسنكما بالإحسان وسيئكما بالسوء والخسران، وهذا يوم تقومان للرحمن، حفاة عراة وتقفان بين يديه للحكم فيكما والقضاء بينكما فبأي آلاء ربكما تكذبان أبالعدل في الحكم بينكما أم بإسعاد صالحيكما واشقاء مجرميكما.
وقول الرحمن { يمعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا } أي تخرجوا { من أقطار السموت والأرض } أي من جوانبهما وأطرافهما { فانفذوا } أي اخرجوا هاربين من قضائي وحكمي لكما وعليكما لا تنفذون إلا بقوة قاهرة غالبة ولا قوة لكم ولا سلطان هكذا يتحداهما الرحمن وهم يساقون إلى ساحة فصل القضاء فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ أبنعمة احيائكما بعد موتكما أم بنعمة إكرام صلحائكما وإهانة فاسديكما وهي العدالة التي لا رحمة ولا نعمة في الحياة الدنيا تساويهما.
وقوله تعالى { يرسل عليكما شواظ } أي لهب النار الخالص من الدخان، ونحاس وهو دخان خالص فلا تنتصران هذا إن أردتما الفرار من عدالتي وعدم الإذعان لقضائي وحكمي فيكما. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ أبعظمة ربكم وقوة سلطانه أم برحمة مولاكم ولطفه بكم اللهم لا شيء من آلائك نكذب ربنا ولك الحمد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان جلال الله وعظمته وقوة سلطانه.
3- بيان عجز الخلائق أمام خالقها عز وجل.
4- وجوب حمد الله تعالى وشكره على السراء والضراء.
[55.37-45]
شرح الكلمات:
فإذا انشقت السماء: أي انفتحت أبوابا لنزول الملائكة إلى الأرض لتسوق الخلائق إلى المحشر.
فكانت وردة كالدهان: أي السماء محمرة احمرار الأديم أو الفرس الأحمر وذابت فكانت كالدهان في صفائها وذوبانها.
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان: أي يوم يخرجون من قبورهم لا يسألون عن ذنوبهم لما لهم من علامات كاسوداد الوجوه وبياضها، ويسألون عند الحساب.
يعرف المجرمون بسيماهم: أي سواد الوجوه وزرقة العيون.
فيؤخذ بالنواصي والأقدام: أي تضم ناصية المجرم إلى قدميه ويؤخذ فيلقى في جهنم.
هذه جهنم التي يكذب بها: أي يقال لهم توبيخا وتبكيتا هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون في الدنيا.
المجرمون: أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي.
يطوفون بينها وبين حميم آن: أي يسعون مترددين بينها وبين ماء حار قد انتهت حرارته إلى حد لا مزيد عليه وهو الحميم الآن يسقونه إذا عطشوا واستغاثوا يطلبون الماء لإراواء غلتهم العطشة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض أحوال القيامة وأهوال الموقف فقال جل جلاله وعظم سلطانه: { فإذا انشقت السمآء } أي تفتحت لنزول الملائكة فكانت أبوابا بعد أن احمرت وتغيرت زرقتها لحمرة كحمرة الأديم الاحمر أو الفرس الأحمر أو الوردة الحمراء كل ذلك صالح لتشبيه لونها به وذابت فكانت كالدهان كما جاء وصفها في سورة المعارج يوم تكون السماء كالمهل. وهو دردي الزيت وعكره. فيومئذ أي يوم إذ يقع هذا يعظم الكرب ويشتد البلاء ويخرج الناس من قبورهم لا يسأل عن ذنبه إنس لا جان أي انسى ولا جنى فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ وقوله تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم } أي باسوداد وجوههم وزرقة أعينهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام أي فيجمع الملك المكلف الإنس أو الجن المجرم بين ناصيته وقدميه ويأخذه فيرمي به في نار جهنم فبأي آلاء ربكما تكذبان أبنعمة العدالة أم بنعمة إكرام المتقين الصالحين. قولوا لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد.
وقوله تعالى { هذه جهنم } أي يقال لهم توبيخا وتبكيتا هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون على أنفسهم بالشرك والمعاصي في الحياة الدنيا قال تعالى { يطوفون } أي يسعون مترددين { بينها وبين حميم آن } أي ماء حار اشتدت حرارته فبلغت حدا لا مزيد عليه يسقونه إذا استغاثوا من العطش. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ إن خزي المجرمين وتعذيبهم نعمة تقربها الفطرة البشرية ولا يقدرها إلا من ذاق طعم الخوف والعذاب الذي ينزله المجرمون بالمتقين فلذا كان تعذيبهم يوم القيامة نعمة، كما أن هذا العرض لأحوال يوم القيامة وأهوالها نعمة إذ عليه آمن المؤمنون واتقى المتقون، فلذا قال تعالى بعد وصف حال أهل النار فبأي آلاء ربكما تكذبان؟
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الانقلاب الكوني وخراب العالم للقيامة.
2- يبعث الناس من قبورهم ولهم علامات تميزهم فيعرف السعيد والشقي.
3- التنديد بالإجرام وهو الشرك والظلم والمعاصي.
[55.46-61]
شرح الكلمات:
ولمن خاف مقام ربه جنتان: أي ولمن خاف الوقوف بين يدي الله في عرصات القيامة فآمن واتقى جنتان.
ذواتا أفنان: أي أغصان من شأنها أن تورق وتثمر وتمد الظل.
فيهما من كل فاكهة زوجان: أي من كل ما يتفكه به من أنواع الفواكه صنفان.
بطائنها من استبرق: أي بطائن الفرش من استبرق وهو ما غلظ من الديباج والظهائر من السندس وهو مارق من الديباج الذي هو الحرير.
وجنى الجنتين دان: أي وما يجنى من ثمار الجنة دان قريب التناول يناله القائم والقاعد.
فيهن قاصرات الطرف: أي قاصرات النظر بأعينهن على أزواجهن فقط.
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان: أي لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان.
كأنهن الياقوت والمرجان: أي كأنهن في جمالهن الياقوت في صفائه والمرجان اللؤلؤ الأبيض.
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان: أي ما جزاء الإحسان بالطاعة إلا الإحسان بالنعيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تعداد النعم وذكر أنواعها فقال تعالى { ولمن خاف مقام ربه } أي الوقوف بين يديه في ساحة فصل القضاء يوم القيامة فأطاعه بأداء الفرائض واجتناب المحرمات { جنتان } أي بستانان فبأي آلاء ربكما تكذبان أبإثابة أحدكم الذي إذا هم بالمعصية ذكر قيامه بين يدي ربه فتركها فأثابه الله بجنتين. وقوله ذواتا أفنان هذا وصف للجنتين وصفهما بأنهما ذواتا أفنان جمع فنن لون أفنان ألوان ولأشجارها أغصان من شأنها تورق وتثمر وتمد الظلال فبأي آلاء ربكما تكذبان أبهذا النعيم والإثابة للمتقين تكذبان.
وقوله { فيهما عينان تجريان } أي في الجنتين ذواتي الأفنان عينان تجريان بالماء العذب الزلال الصافي خلال تلك القصور والأشجار فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنسان أبمثل هذا العطاء والإفضال تكذبان؟ وقول الرحمن فيهما من كل فاكهة زوجان أي في تينك الجنتين من كل فاكهة من الفواكه صنفان فلا يكتفى بصنف واحد إتماما للنعيم والتنعم فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا الإنعام والإكرام لأهل التقوى تكذبان؟ وقوله ما أوسع رحمته وهو الرحمن { متكئين } أي حال تنعمهم على فرش على الأرائك بطائن تلك الفرش من استبرق وهو الغليظ من الديباج أما الظواهر فهي السندس وهو مارق من الديباج. وقوله { وجنى الجنتين دان } أي وثمارها التي تجنى من أشجارها دانية أي قريبة التناول يتناولها المتقى وهو مضطجع أو قاعد أو قائم، لا شوك فيها ولا بعد لها فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا الإنعام والإكرام تكذبان. قول الرحمن: { فيهن قاصرات الطرف } أي وفي تينك الجنتين نساء من الحور العين { قاصرات الطرف } أي العين على أزواجهن فلا ترى إلا زوجها أي فلا تنظر إلا إلى زوجها وتقول له وعزة ربي وجلاله وجماله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك.
وقوله { لم يطمثهن } أي لم يجامعهن فيفتضهن قبل أزواجهن { إنس قبلهم ولا جآن } أي لم يجامع الإنسية قبل زوجها الإنسي إنسي ولم يجامع الجنية قبل زوجها الجني جان فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا الإنعام تكذبان؟
وقوله { كأنهن الياقوت } أي في صفائهن { والمرجان } في بياضهن إذ الحوراء منهن يرى مخ ساقها تحت ثيابها كما يرى الخيط أو السلك في داخل الياقوته لصفائها فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا العطاء والإنعام تكذبان.
وقوله عظم فضله وجل عطاؤه وهو الرحمن { هل جزآء الإحسان } أي في الإيمان والطاعات من العبادات { إلا الإحسان } إليه بمثل هذا النعيم العظيم الذي ذكر في هذه الآيات. فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الإنس والجان فقولا: لا بشيء من آلاء ربنا نكذب فلك الحمد.
هداية الآيات :
من هداية الآيات:
1- فضل الخوف من الله تعالى وذلك كأن تعرض للعبد المعصية فيتركها خوفا من الله تعالى.
2- فضل نساء أهل الجنة في حبهن لأزواجهن بحيث لا ينظرن إلا إليهم.
3- بيان أن أفضل النساء في الدنيا تلك التي تقصر نظرها على زوجها فتحبه ولا تحب غيره من الرجال.
4- بيان أن الجن المتقين يدخلون الجنة ولهم أزواج كما للإنس سواء بسواء.
5- الإشادة بالإحسان وبيان جزائه والإحسان هو إخلاص العبادة لله والإتيان بها على الوجه الذي شرع أداؤها عليه، مع الإحسان إلى الخلق بكف الأذى عنهم وبذل الفضل لمن احتاجه منهم.
[55.62-78]
شرح الكلمات:
من دونهما جنتان: أي ومن دون تينيك الجنتين جنتان أخريان لمن خاف مقام ربه.
مدهامتان: أي مسودتان من شدة خضرتهما.
فيهما عينان نضاختان: أي فوارتان دائما وأبدا تفوران بالماء العذب الزلال.
فيهن خيرات حسان: أي في الجنات الأربع نساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه.
حور: أي أولئك الخيرات حور أي بيض والواحدة حوراء أي بيضاء.
مقصورات في الخيام: أي مستورات محبوسات على أزواجهن في الخيام والخيمة من در مجوف مضافة إلى القصور، وطول الخيمة الواحدة ستون ميلا.
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان: أي لم يجامعهن فيفتض بكارتهن قبل أزواجهن في الجنة أحد.
على رفرف خضر: أي على وسائد أو بسط الواحدة رفرفة خضر جمع أخضر.
وعبقري حسان: أي طنافس جمع طنفسة بساط له خمل رقيق أي بسط حسان.
تبارك اسم ربك: أي تقدس وكثرت بركة اسم ربك الرحمن.
ذي الجلال والإكرام: أي ذي العظمة والإكرام لأوليائه والإحسان إلى عباده.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إنعام الله تعالى وإفضاله على عباده فقال { ومن دونهما جنتان } أي ومن دون تينيك الجنتين جنتان أخريان لمن خاف مقام ربه من السابقين وهاتان لمن خاف مقام ربه من أصحاب اليمين وقد يكون العكس كذلك والله أعلم بأي الجنتين أفضل، اللهم ارزقنا ما شئت منهما فإنا بعطائك راضون ولك حامدون شاكرون فبأي آلاء ربكما تكذبان أي بأي إنعام وإفضال تكذبان؟ وقوله تعالى : { مدهآمتان } مخضرتان إلى حد الاسوداد فإن الأخضر من الأشياء إذا اشتدت خضرته ضربت إلى السواد ويقال فيها مدهامة فبأي آلاء ربكما تكذبان أي بأي إنعام تكذبان يا معشر الجن والإنس { فيهما } في الجنتين { عينان نضاختان } أي فوارتان بالماء دائما وأبدا، فبأي آلاء ربكما تكذبان بأي إفضال وإحسان تكذبان وقول الرحمن { فيهما } أي في الجنتين فاكهة ونخل ورمان لفظ الفاكهة قد يعم النخل والرمان ويصبح ذكر النخل والرمان لمزيد فضيلة كذكر الصلاة الوسطى بعد ذكر الصلوات الخمس في قوله
حافظوا على الصلوت والصلوة الوسطى
[البقرة: 238] { فبأي آلاء ربكما تكذبان } لا بشيء من آلاء ربنا نكذب ربنا فلك الحمد. وقوله تعالى: { فيهن خيرات حسان } أي في الجنتين نساءهن خيرات جمع خيرة خيرات الأخلاق حسان الوجوه. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ أبمثل هذا الإنعام والإكرام على أولياء الرحمن تكذبان؟ { حور مقصورات في الخيام } إن أولئك الخيرات حور جمع حوراء وهي البيضاء، والحوراء كذلك من يغلب بياض عينيها سوادهما وهو من جمال النساء محبوسات في الخيام لا ينظرن إلى غير أزواجهن، والخيمة من درة مجوفة طولها ستون ميلا مضافة إلى قصورهم.
وقوله تعالى: { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } أي لم يجامعهن فيفتض بكارتهن إنس ولا جان من قبل أزواجهن في الجنة فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ والجواب: لا بشيء من آلاء ربنا نكذب ربنا فلك الحمد.
وقوله تعالى: { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان } أي متكئين على رفرف خضر والرفرف جمع رفرفة أي على وسائد أو بسط خضر، وعبقري حسان أي على طنافس ذات خمل دقيق. فبأي آلاء ربكما تكذبان بنعم الدنيا أم بنعم البرزخ أم بنعم الآخرة لا بشيء من آلاء ربنا نكذب.
وقوله تعالى { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } أي تبارك اسم ربك أي تقدس وكثرت بركات اسم ربك الرحمن ذي الجلال أي العظمة والإكرام لأوليائه وصالحي عباده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن نعيم الآخرة أعظم وأجل من نعم الدنيا.
2- فضيلة التمر والرمان فلنبحث منافعهما فإن الحقيقة بنت البحث.
3- فضل المرأة المقصورة في بيتها وذم الولاجة الخراجة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
4- بيان أن الجن يدخلون الجنة ويسعدون فيها.
5- البركة تنال ببسم الله الرحمن الرحيم.
[56 - سورة الواقعة]
[56.1-12]
شرح الكلمات:
إذا وقعت الواقعة: أي قامت القيامة وقيل فيها الواقعة لأنها واقعة لا محالة.
ليس لوقعتها كاذبة: أي نفس تكذب بها بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا.
خافضة رافعة: أي مظهرة لخفض أقوام بدخولهم النار، ولرفع آخرين بدخولهم الجنة.
إذا رجت الأرض رجا: أي حركت حركة شديدة.
وبست الجبال بسا: أي فتتت تفتيتا.
فكانت هباء منبثا: أي غبارا منتشرا.
وكنتم أزواجا ثلاثة: أي في القيامة أصنافا ثلاثة.
فأصحاب الميمنة: أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم.
ما أصحاب الميمنة: أي تعظيم لشأنهم بدخولهم الجنة.
وأصحاب المشأمة: أي الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم.
ما أصحاب المشأمة: أي تحقير لشأنهم بدخولهم النار.
والسابقون: أي إلى الخير وهم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة في أول الدعوة.
السابقون: تعظيم لشأنهم.
أولئك المقربون: أي هم المقربون الذين يقربهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة.
في جنات النعيم: في بساتين النعيم الدائم.
معنى الآيات:
قوله تعالى في تقرير البعث والجزاء الذي كذب به المشركون وأنكروه في إصرار وعناد { إذا وقعت الواقعة } أي إذا قامت القيامة { ليس لوقعتها كاذبة } أي نفس تكذب بها إذ يؤمن بها الجميع، خافضة لأقوام أي مظهرة لحالهم بأنهم أهل النار، رافعة لآخرين مظهرة لحالهم بأنهم من أهل الجنة. وقوله: { إذا رجت الأرض رجا } أي حركت حركة شديدة، { وبست الجبال بسا } أي إذا بست الجبال أي فتتت تفتيتا { فكانت هبآء منبثا } أي غبارا منتشرا.
وقوله تعالى { وكنتم } أي أيها الناس { أزواجا } أي أنواعا ثلاثة: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال والمقربون فأصحاب الميمنة أو الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم ما أصحاب الميمنة أي أن شأنهم عظيم وذلك بدخولهم الجنة دار النعيم. وأصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال أي اليساريون الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم أي بمياسرهم ما أصحاب المشأمة أي شأنهم حقير وذلك بدخولهم النار. والسابقون إلى الإيمان والطاعة في أول ظهور الدعوة السابقون هذا تعظيم لشأنهم وإعلان عن فوزهم وكرامتهم في جنات النعيم وهي بساتين ذات نعيم دائم جعلنا الله منهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء في الآخرة.
2- الإيمان والتقوى يرفعان والشرك والمعاصي يضعان ويخفضان.
3- السابقون إلى الطاعات لهم فضل الأسبقية في كل زمان ومكان.
4- اليساريون هم أشقياء الدنيا والآخرة. لأنهم عندما أخذ غيرهم ذات اليمين طالبين الإيمان والاستقامة أخذوا هم ذات الشمال طالبين الكفر والفسوق.
[56.13-26]
شرح الكلمات:
ثلة من الأولين: أي جماعة من الأمم الماضية.
وقليل من الآخرين: أي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هؤلاء هم السابقون.
على سرر موضونة: أي منسوجة مشبكة بالذهب والجواهر.
ولدان مخلدون: أي على شكل الأولاد لا يهرمون فيخدمونهم أبدا.
بأكواب وأباريق: يطوف عليهم الولدان الخدم بأكواب وهي أقداح لا عرا لها، وأباريق لها عرا وخراطيم.
وكأس من معين: أي وإناء لشرب الخمر ومعين بمعنى جارية من نهر لا ينقطع أبدا.
لا يصدعون: أي لا يحصل لهم من شربها صداع.
ولا ينزفون: أي ولا تذهب عقولهم يقال نزف الشارب وأنزف إذا ذهب عقله بالسكر.
وفاكهة مما يتخيرون: أي يختارون منها ما يروق لهم ويعجبهم وإن كانت كلها معجبة.
وحور عين: أي ولهم نساء بيض عين أي واسعة الأعين وشديدات سواد العيون وبياضها.
كأمثال اللؤلؤ المكنون: أي أولئك الحور العين هن في جمالهن وصفائهن كأمثال اللؤلؤ المصون.
لغوا ولا تأثيما: أي لا يسمعون في الجنة لغوا أي فاحش الكلام وما لا خير فيه ولا ما يوقع في الإثم.
إلا قيلا سلاما سلاما: إلا قولا سلاما سلاما أي لا يسمعون إلا السلام من الملائكة ومن بعضهم بعضا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أحوال الناس إذا قامت القيامة فذكر أنهم يصيرون أصنافا ثلاثة أصحاب يمين وأصحاب شمال وسابقين. وهنا يقول في السابقين إنهم ثلة أي جماعة من الأولين أي من الأمم الماضية الذين أسلموا وسبقوا إلى الإسلام مع أنبيائهم، وقليل من الآخرين أي من هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم الذين سبقوا إلى الإيمان والهجرة والجهاد يذكر نعيمهم فيقول وقوله الحق: { على سرر موضونة } أي إنهم على سرر موضونة أي منسوجة ومشبكة بالذهب والجواهر، حال كونهم متكئين عليها متقابلين لا ينظر أحدهم إلى قفا الآخر بل إلى وجهه، { يطوف عليهم } أي للخدمة { ولدان } غلمان { مخلدون } لا يكبرون فيهرمون ولا يتغيرون بل يبقون كذلك أبدا يطوفون عليهم بأكواب جمع كوب وهو قدح لا عروة له، وأباريق جمع إبريق وهو إناء له عروة وخرطوم، { وكأس من معين } والكأس هنا إناء شرب الخمر والمعين ما كان جاريا لا ينضب والمراد بكأس من نهر الخمر.
وقوله تعالى { لا يصدعون عنها } أي لا يصيبهم صداع من شربها، ولا ينزفون أي لا تذهب عقولهم بشربها بخلاف خمر الدنيا فإنها تصيب شاربها بالصداع وذهاب العقل غالبا وقوله تعالى { وفاكهة } ويطوف عليهم الغلمان بفاكهة وهو ما يتفكه به وليس بغذاء رئيسي ومن سائر الفواكه، ما يتخيرون أي يختارون. ولحم طير مما يشتهون أي مما تشتهيه أنفسهم.
وقوله { وحور عين } أي ولهم في الجنة حور عين يستمتعون بهن، واحدة الحور حوراء. وهي البيضاء وواحدة العين العيناء وهو واسعة العينين والحور في العين أن يكون بياضها أكثر من سوادها وهو ضرب من الجمال، وقوله { كأمثال اللؤلؤ المكنون } أي المصون في كنة أو صدفه. يريد أنهن جميلات مصونات غير مبتذلات وقدم تقدم في الرحمن أنهن مقصورات في الخيام. وقوله تعالى { جزآء بما كانوا يعملون } أي جزاهم ربهم جزاء بما كانوا يعملونه من الصالحات بعد الإيمان والتوحيد وترك المعاصي.
وقوله تعالى وهو من إتمام النعيم أنهم لا يسمعون في جنات النعيم ما يكدر صفو نعيمهم أو ينغص لذة حياتهم من قول بذيء سيىء فلا يسمعون فيها أي في الجنة لغوا أي كلاما فاحشا ولا تأثيما وهو ما يؤثم قائله وسامعه. إلا قيلا أي قولا سلاما سلاما أي إلا ما كان من سلام الرب تعالى عليهم وهو أكبر نعيمهم وسلام الملائكة عليهم وسلام بعضهم على بعض اللهم اجعلنا منهم قل آمين أيها القارىء واطمع فإن ربنا غفور رحيم سميع الدعاء قريب مجيب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث الجزاء بذكر أحوال الدار الآخرة.
2- بيان شيء من نعيم أهل الجنة وخاصة السابقين منهم.
3- بيان أن السابقين يكونون من سائر الأمم المسلمة.
4- بيان فضل خمر الجنة على خمر الدنيا المحرمة.
5- تقرير قاعدة أن الجزاء من جنس العمل.
[56.27-40]
شرح الكلمات:
وأصحاب اليمين ما أصحاب: هذا شروع في ذكر الزوج الثاني من الأزواج الثلاثة فذكر السابقين وما أعد لهم وهذا ذكر لأصحاب اليمين وما أعد لهم من نعيم مقيم.
في سدر مخضود: في شجر السدر وثمره النبق ومخضود لا شوك فيه.
وطلح منضود: أي شجر موز منضود الحمل من أعلاه إلى أسفله فليس له ساق بارزة.
وظل ممدود: أي دائم إذ لا شمس تنسخه وإن ظل شجرة في الجنة يسير الراكب فيه مائة سنة لا يقطعه.
وماء مسكوب: أي مصبوب لا يحتاج المتنعم بأن يصبه بيده بل هو سائل في غير أخدود أو أنبوب.
لا مقطوعة ولا ممنوعة: أي غير مقطوعة في زمن، ولا ممنوعة بثمن.
إنا أنشأناهن إنشاء: أي الحور العين اللائي تقدم ذكرهن في قوله وحور عين. إذ كانت الواحدة منهن في الدنيا عجوزا شمطاء عمشاء رمصاء فأنشأها ربها إنشاء جديدا بكرا تتغنج وتتعشق عرباء تتودد لزوجها وتتحبب.
فجعلناهن أبكارا: الواحدة بكر وهي التي لم تفتض بكارتها بعد وتسمى العذراء.
عربا: الواحدة عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل.
أترابا: أي مستويات في السن الواحدة يقال لها ترب والجمع أتراب.
لأصحاب اليمين: وهم الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين وهم أهل الإيمان في الدنيا والعمل الصالح فيها.
ثلة من الأولين: أي من الأمم السابقة.
وثلة من الآخرين: أي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض أحوال الآخرة وذكر ما لكل صنف من أصناف الناس الثلاثة من سابقين وأصحاب يمين وأصحاب شمال فقال تعالى { وأصحاب اليمين } وهم الذين إذا وقفوا في عرصات القيامة أخذ بهم ذات اليمين وهم أهل الإيمان والتقوى في الدنيا وقوله تعالى: { مآ أصحاب اليمين } تفخيم لشأنهم وإعلان عن كرامتهم ثم بين ذلك بقوله: { في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود ومآء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة } إنهم في هذا النعيم الدائم المقيم إنهم يتفكهون بالنبق الذي هو أحلى من العسل وأنعم من الزبد شجره مخضود الشوك لا شوك به، ويتفكهون بالطلح أي ثمره وهو الموز، والماء المصبوب الجاري، والفاكهة الكثيرة التي لا تقطع بالفصول الزمانية كما هي الحال في فاكهة الدنيا يوجد منها في الصيف ما لا يوجد في الشتاء مثلا ولا ممنوعة بثمن غال ولا رخيص وفي فرش مرفوعة عالية علو الدرجات التي هي فيها وقوله: { إنآ أنشأناهن إنشآء } يعني الحور العين اللائي سبق في الآيات ذكرهن منهن من أنشأهن الله إنشاء لم يسبق لهن خلق ووجود، ومنهن نساء الدنيا فقد كانت فيهن السوداء والعمشاء والرمصاء والعجوز فيعيد تعالى إنشاءهن فيجعلهن من بين الحور العين كأنهن اللؤلؤ المكنون، وقوله { فجعلناهن أبكارا } عذارى لم يمسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان عربا أترابا العروب هي المتحببة إلى زوجها العاشقة له المتغنجة والأتراب المتساويات في السن، وترب الإنسان من ولد معه في وقت واحد فمس جلده التراب مع مس التراب جلدك وقوله لأصحاب اليمين أي أنشأ هؤلاء الحور العين لأجل أصحاب اليمين ليستمتعوا بهن.
وقوله { ثلة من الأولين } أي من الأمم الماضية { وثلة من الآخرين } أي من هذه الأمة المسلمة اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وادخلنا الجنة معهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله وإنعامه على المؤمنين المتقين.
2- بيان أن العجوز في الدنيا إذا دخلت الجنة تصير شابة حسناء حوراء عروبا.
3- تقرير أن ثمن الجنة الإيمان والتقوى فلا دخل للحسب ولا للنسب والأول كالآخر على حد سواء فيها.
[56.41-56]
شرح الكلمات:
وأصحاب الشمال: أي هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال في الموقف يوم القيامة وهم أهل الشرك والمعاصي في الدنيا.
في سموم : أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسد.
وحميم: أي ماء حار شديد الحرارة.
وظل من يحموم: أي دخان شديد السواد.
لا بارد ولا كريم: أي لا بارد كغيره من الظلال ولا كريم حسن المنظر.
كانوا قبل ذلك : أي في الدنيا.
مترفين: أي منعمين لا ينهضون بالتكاليف الشرعية ولا يتعبون في طاعة الله ورسوله.
يصرون على الحنث العظيم: أي الذنب العظيم وهو الشرك.
وكانوا يقولون أئذا متنا الآن: أي وكانوا ينكرون البعث الآخر.
لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم: أي لوقت يوم معلوم وهو يوم القيامة.
أيها الضالون المكذبون: أي الضالون عن طريق الهدى المكذبون بالبعث والجزاء.
من شجر من زقوم: أي من أخبث الشجر المر في غاية الكراهة والبشاعة طعما ولونا.
فشاربون شرب الهيم: أي شاربون شرب الإبل العطاش، إذ الهيمان العطشان والهيمى العطشى.
هذا نزلهم يوم الدين: أي هذا ما أعد لهم من قرى يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان أحوال الأصناف الثلاثة التي انقسمت البشرية إليها عند خروجها من قبورها فذكر حال السابقين وحال أصحاب اليمين وذكر هنا حال أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال فقال تعالى: { وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال } تنديد بحالهم وإعلان عن سوء عاقبتهم وما هم فيه من عذاب إنهم { في سموم } أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسم { وحميم } وهو ماء حار شديد الحرارة هذا شرابهم، { وظل من يحموم لا بارد ولا كريم } إنه دخان أسود شديد السواد { لا بارد } كغيره من الظلال { ولا كريم } أي وليس بذي حسن في منظره. وقوله تعالى { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } هذه علة جزائهم بالعذاب الأليم إنهم كانوا في الدنيا منعمين لا يصلون ولا يصومون ولا يجاهدون ولا يرابطون، { وكانوا يصرون على الحنث العظيم } أي على الإثم العظيم أي الشرك وكبائر الإثم والفواحش.
{ وكانوا يقولون } منكرين للبعث والجزاء جاحدين باليوم الآخر - { أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون } أي أحياء كما كنا في الدنيا { أو آبآؤنا } أيضا مبعوثون كذلك والاستفهام في الموضعين للاستبعاد والإنكار. وهنا أمر تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بقوله { قل } أي قل لهم: { إن الأولين والآخرين } أي أنتم وآباؤكم من عهد آدم والآخرين منكم ومن ذريتكم إلى نهاية حياة الإنسان { لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } أي لوقت يوم معلوم عند الله محدد باليوم والساعة والدقيقة { ثم إنكم أيها الضآلون } عن سبيل الهدى المعرضون عن الحق المكذبون بالبعث لداخلون جهنم ماكثون فيها أبدا وإنكم { لأكلون من شجر من زقوم } وهو شر ثمر وأخبث ما يؤكل مرارة { فمالئون منها } بطونكم لما يصيبكم من الجوع الشديد، { فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم } أي الماء الحار الشديد الحرارة مكثرين كما تكثر الإبل الهيم التي أصابها العطش واشتد بها داء الهيام الذي أصابها.
قوله تعالى { هذا نزلهم يوم الدين } أي هذا الذي ذكرنا من طعام الضالين المكذبين وشرابهم هو نزلهم الذي ننزلهم يوم الدين وأصل النزل ما يعد للضيف النازل من قرى: طعام وشراب وفراش.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أصحاب الشمال يدخل فيهم كل كافر وجد على وجه الأرض فإنهم في التقسيم ثلث الناس وفي الواقع هم أضعاف أضعاف السابقين وأصحاب اليمين لأن أكثر الناس لا يؤمنون.
2- التنديد بالترف والتنعم في هذه الحياة الدنيا فإنه يقود إلى ترك التكاليف الشرعية فيهلك صاحبه لذلك لا لكون طعامه وافرا وشرابه لذيذا.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بما لا مزيد عليه من العرض والوصف لحال الناس.
[56.57-74]
شرح الكلمات:
نحن خلقناكم: أي أوجدناكم من العدم.
فلولا تصدقون: أي فهلا تصدقون بالبعث إذ القادر على الإنشاء قادر على الإعادة بعد الفناء والبلى.
أفرأيتم ما تمنون: أي الذي تصبونه من المنى بالجماع في أرحام نسائكم.
أأنتم تخلقونه: أي بشرا أم نحن الخالقون له بشرا.
نحن قدرنا بينكم الموت: أي قضينا به عليكم وكتبناه عليكم وجعلنا لكل واحد أجلا معينا لا يتعداه ولا يتأخر منه بحال من الأحوال.
وما نحن بمسبوقين: أي بعاجزين.
على أن نبدل أمثالكم: أي ما أنتم عليه من الخلق والصور.
وننشئكم فيما لا تعلمون: أي ونوجدكم في صور لا تعلمونها وهذا تهديد لهم بمسخهم وتحويلهم إلى أبشع حيوان وأقبحه.
ولقد علمتم النشأة الأولى: أي ولقد علمتم خلقنا لكم كيف تم وكيف كان.
أفلا تذكرون: فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على إعادة خلقكم مرة أخرى بعد موتكم وفنائكم.
أفرأيتم ما تحرثون: أي من إثارة الأرض بالمحراث وإلقاء البذر فيها.
أأنتم تزرعونه: أي تنبتونه.
أم نحن الزارعون: أي نحن المنبتون له يقال زرعه الله أي أنبته.
لو نشاء لجعلناه حطاما: أي لو نشاء لجعلنا الزرع حطاما يابسا بعد أن أصبح سنبلا وقارب أن يفرك فتحرمون منه.
فظلتم تفكهون: أي تتعجبون في مجالسكم من الجائحة التي أصابت زرعكم.
إنا لمغرمون: أي قائلين إنا لمغرمون أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به.
بل نحن محرومون: أي لسنا بمعذبين به وإنما نحن محرومون من زرعنا وما بذلناه فيه ليس لنا من حظ ولا جد أي غير محظوظين ولا مجدودين.
أفرأيتم الماء الذي تشربون: أي أخبرونا عن الماء الذي تشربونه وحياتكم متوقفة عليه.
أأنتم أنزلتموه من المزن: أي من السحاب في السماء إلى الأرض.
أم نحن المنزلون: أي له إلى الأرض.
لو نشاء لجعلناه أجاجا: أي ملحا مرا لا يمكن شربه.
فلولا تشكرون: أي فهلا تشكرون أي الله بالإيمان والطاعة.
أفرأيتم النار التي تورون: أي أخبرونا عن النار التي تخرجون من الشجر.
أأنتم أنشأتم شجرتها: أي خلقتم شجرتها كالمرخ والعفار والكلخ.
أم نحن المنشئون: أي نحن المنشئون لتلك الأشجار.
نحن جعلناها تذكرة: أي جعلنا تلك النار تذكرة أي تذكر بنار جهنم.
ومتاعا للمقوين: أي بلغة للمسافرين يتبلغون بها في سفرهم.
فسبح باسم ربك العظيم: أي نزه اسم ربك عما لا يليق به كذكره بغير احترام ولا تعظيم او الاسم صلة والتقدير نزه ربك عن الشريك ومن ذلك قولك سبحان ربي العظيم.
معنى الآيات:
السياق هنا في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون وذلك بذكر الأدلة العقلية الموجبة للعلم واليقين في المعلوم المطلوب تحصيله قال تعالى { نحن خلقناكم } وأنتم معترفون بذلك إذ لما نسألكم من خلقكم تقولون الله.
إذا { فلولا تصدقون } أي فهلا تصدقون بالبعث والحياة الثانية إذ القادر على الخلق الأول قادر على الإعادة. وهذه أدلة قدرتنا تأملوها أولا { أفرأيتم ما تمنون } أي أخبرونا عما تمنون أي تصبونه في أرحام نسائكم بالجماع { ءأنتم تخلقونه } ولدا { أم نحن الخالقون } والجواب نحن الخالقون إذا القادر على خلقكم بواسطة هذا الإمناء والتكوين في الأرحام قادر على خلقكم بطريق آخر وثانيا { نحن قدرنا بينكم الموت } وقضينا به عليكم فلا يستطيع أحد منكم أن يمنعنا من إماتته وفي الوقت المحدد له. بحيث لو طلب التقديم أو التأخير لما قدر على ذلك أليس القادر على خلقكم وإماتتكم قادر على بعثكم بلى وثالثا { وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثلكم وننشئكم في ما لا تعلمون } بحيث نخلقكم في صور وأشكال غير ما أنتم عليه فنخلقكم خلقا ذميما وقبيحا كالقردة والخنازير، وما نحن بعاجزين عن ذلك فهل نعجز إذا عن بعثكم بعد موتكم أحياء لنحاسبكم ونجزيكم { ولقد علمتم النشأة الأولى } كيف تمت لكم بما لا تنكرونه.
إذا { فلولا تذكرون } فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على خلقكم ثانية مع العلم أن الإعادة ليست بأصعب من الإنشاء من عدم لا من وجود. ورابعا { أفرأيتم ما تحرثون } من إثارة الأرض وإلقاء البذر فيها أخبرونا أأنتم تنبتون الزرع { أم نحن الزارعون } له أي المنبتون والجواب معروف وهو أننا نحن الزارعون لا أنتم. إذا فالقادر على إنبات الزرع قادر على إنباتكم في قبوركم على نحو إنبات الزرع وعجب الذنب هو النواة التي تنبتون منها وخامسا هو أن ذلك الزرع الذي أنبتناه لو نشاء لجعلناه بعد نضرته وقرب حصاده حطاما يابسا لا تنتفعون منه بشيء فظلتم تفكهون متعجبين من حرمانكم من زرعكم تقولون { إنا لمغرمون } أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به ثم تضربون عن قولكم ذلك إلى قول آخر وهو قولكم { بل نحن محرومون } ما لنا من حظ ولا جد فيه أي لسنا محظوظين ولا مجدودين. إن إنبات الزرع ثم حرمانكم منه بعد طمعكم في الانتفاع به مظهر من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وتدبيره وكلها دالة على قدرته على بعثكم لمحاسبتكم ومجازاتكم على عملكم في هذه الحياة الدنيا. وسادسا الماء الذي تشربون وحياتكم متوقفة عليه أخبروني { ءأنتم أنزلتموه } من السحاب { أم نحن المنزلون } والجواب نحن المنزلون لا أنتم هذا أولا وثانيا لو نشاء لجعلنا الماء ملحا مرا لا تنتفعون منه بشيء وإنا لقادرون فهلا تشكرون هذا الإحسان منا إليكم بالإيمان بنا والطاعة لنا. وسابعا النار التي تورون وتشعلونها أخبروني { أأنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون } والجواب نحن لا أنتم فالذي يوجد النار في الشجر قادر على أن يبعثكم أحياء من قبوركم ليحاسبكم على سلوككم ويجازيكم به.
وقوله تعالى { نحن جعلناها } أي النار { تذكرة } لكم تذكركم بنار الآخرة فالذي أوجد هذه النار قادر على إيجاد نار أخرى لو كنتم تذكرون وجعلناها أيضا متاعا أي بلغة للمقوين المسافرين يتبلغون بها في سفرهم حتى يعودوا إلى ديارهم. فالقادر على الخلق والإيجاد والتدبير لمصالح عباده قادر على إيجاد حياة أخرى يجزي فيها المحسنين اليوم والمسيئين إذ الحكمة تقتضي هذا وتأمر به.
وقوله تعالى { فسبح باسم ربك العظيم } بعد إقامة الحجة على منكري البعث بالادلة العقلية أمر تعالى رسوله أن يسبح ربه أي ينزهه عن اللعب والعبث اللازم لخلق الحياة الدنيا على هذا النظام الدقيق ثم إفنائها ولا شيء وراء ذلك. إذ البعث والحياة الآخرة هي الغاية من هذه الحياة الدنيا فالناس يعملون ليحاسبوا ويجزوا فلا بد من حياة أكمل وأتم من هذه الحياة يتم فيها الجزاء وقد بينها تعالى وفصلها في كتبه وعلى ألسنة رسله، وضرب لها الأمثال فلا ينكرها إلا سفيه هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- إقامة الأدلة والبراهين العديدة على صحة البعث وإمكانه عقلا.
3- بيان منن الله تعالى على عباده في طعامهم وشرابهم.
4- وجوب شكر الله تعالى على إفضاله وإنعامه.
5- في النار التي توقدها عبرة، وعظة للمتقين .
6- وجوب تسبيح الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله من العبث والشريك.
[56.75-82]
شرح الكلمات:
فلا أقسم: أي فأقسم ولا صلة لتقوية الكلام وتأكيد القسم.
بمواقع النجوم: أي بمساقطها لغروبها وبمنازلها أيضا ومطالعها كذلك.
وإنه: أي القسم بها.
لو تعلمون عظيم: أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم عظم القسم.
إنه: أي المتلو عليكم لقرآن كريم وهو الذي كذب به المشركون.
في كتاب مكنون: أي مصون وهو المصحف.
لا يمسه إلا المطهرون: أي من الملائكة والأنبياء وكل طاهر غير محدث حدثا أكبر وأصغر
تنزيل من رب العالمين: أي منزل من رب العالمين وهو الله جل جلاله.
أفبهذا الحديث: أي القرآن.
أنتم مدهنون: أي تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر.
وتجعلون رزقكم: أي شكر الله على رزقكم.
أنكم تكذبون: أي تكذيبكم بسقيا الله وتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { فلا أقسم بمواقع النجوم } أي أقسم بمواقع النجوم وهي مطالعها ومغربها وإنه أي قسمي هذا لقسم لو تعلمون أي لو كنتم من أهل العلم عظيم. لأن النجوم ومنازلها ومطالعها ومساقطها ومغاربها التي تغرب فيها أمور عظيمة في خلقها وتدبير الله فيها إنه لقسم بشيىء عظيم.
والمقسم عليه هو قوله إنه أي المكذب به لقرآن كريم، لا كما قال المبطلون شعر وسحر وكذب واختلاق { في كتاب مكنون } أي مصون { لا يمسه إلا المطهرون } سواء ما كان في اللوح المحفوظ أو في مصاحفنا فلا ينبغي أن يسمه إلا المطهرون من الأحداث الصغرى والكبرى { تنزيل من رب العالمين } أي منزل منه سبحانه وتعالى ولذا وجب تقديسه وتعظيمه فلا يمسه إلا طاهر من الشرك والكفر وسائر الأحداث.
وقوله تعالى { أفبهذا الحديث } أي القرآن أنتم مدهنون تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر وتجعلون رزقكم أي وتجعلون شكر الله تعالى على رزقه لكم أنكم تكذبون أي تكذيبكم بسقيا الله لكم بالأمطار وتقولون مطرنا ينوء كذا ونوء كذا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، وأن العبد لا يقسم إلا بربه تعالى.
2- تقرير الوحي الإلهي وإثبات النبوة المحمدية، وأن القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى.
3- وجوب صيانة القرآن الكريم، وحرمة مسه على غيره طهارة.
4- حرمة المداهنة في دين الله تعالى وهي أن يتنازل عن شيء من الدين ليحفظ شيئا من دنياه والمداراة جائزة وهي أن يتنازل عن شيء من دنياه ليحفظ شيئا من دينه.
[56.83-96]
شرح الكلمات:
فلولا: أي فهلا وهي للحض على العمل والحث عليه.
إذا بلغت الحلقوم: أي مجرى الطعام وذلك وقت النزع.
وأنتم تنظرون: أي وأنتم أيها الممرضون والعواد تنظرون إليه.
ونحن أقرب إليه منكم: أي ورسلنا ملك الموت وأعوانه أقرب إلى المحتضر منكم.
ولكن لا تبصرون: أي الملائكة.
فلولا إن كنتم غير مدينين: أي فهلا إن كنتم غير مدينين أي محاسبين بعد الموت.
ترجعونها إن كنتم صادقين: أي ترجعون الروح إلى الجسم بعد وشوك مفارقتها له إن كنتم صادقين في أنكم لا تبعثون ولا تحاسبون.
فأما إن كان: أي الميت.
من المقربين: أي من السابقين وهو الصنف الأول من الأصناف الثلاثة التي تقدمت في أول السورة.
فروح وريحان: أي استراحة وريحان أي رزق حسن وجنة نعيم.
وأما إن كان من أصحاب اليمين: أي من الصنف الثاني فسلام لك يا صاحب اليمين من أصحاب اليمين. أي من إخوانك يسلمون عليك فإنهم في جنات النعيم.
فنزل من حميم: أي فله نزل من ماء حار شديد الحرارة.
وتصلية جحيم: أي احتراق بها.
إن هذا لهو حق اليقين: أي إن هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة لهو حق اليقين.
فسبح باسم ربك العظيم: أي نزه وقدس اسم ربك العظيم.
معنى الآيات
بعد تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن كلام الله وتنزيله عاد السياق الكريم إلى تقرير البعث والجزاء فقال تعالى { فلولا إذا بلغت } أي الروح { الحلقوم } وهو مجرى الطعام { وأنتم } في ذلك الوقت { تنظرون } مريضكم وهو يعاني من سكرات الموت، ونحن أقرب إليه منكم أي رسلنا أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون إذ لا قدرة لكم على رؤية الملائكة ما لم يتشكلوا في صورة إنسان. وقوله { فلولا إن كنتم غير مدينين } أي محاسبين بعد الموت ومجزيين بأعمالكم ترجعونها الروح بعد ما بلغت الحلقوم إن كنتم صادقين في أنكم غير مدينين لله بأعمالكم، أي فلا يحاسبكم عليها ولا يجزيكم بها.
وقوله تعالى { فأمآ إن كان } أي المحتضر من المقربين وهم السابقون { فروح وريحان } أي فإن له الاستراحة التامة من عناء تعب الدنيا وتكاليفها وريحان وهو الرزق الحسن وجنة نعيم. وأما إن كان من أصحاب اليمين الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين الذين سبقوك إلى دار السلام.
وأما إن كان المحتضر من المكذبين لله ورسوله المنكرين للبعث الآخر الضالين عن الهدى ودين الحق { فنزل من حميم } أي ضيافة على الماء الحار هذه ضيافته وتصلية جحيم أي واحتراق بالجحيم.
وقوله تعالى { إن هذا لهو حق اليقين } أي هذا الذي حدثناك به عن المحتضرين الثلاثة وما لهم وما نالهم لحق اليقين.
وقوله { فسبح باسم ربك العظيم } يأمر تعالى رسوله بالتسبيح باسم ربه العظيم صح أنه لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه اجعلوها في ركوعكم، والتسبيح التقديس والتنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان عجز كل الناس أمام قدرة الله تعالى.
3- ان في عجز الإنسان على رد روح المحتضر ليعيش بعد ذلك ولو ساعة دليلا على أنه لا إله إلا الله
4- بيان فضل السابقين عن أصحاب اليمين.
5- القرآن الكريم أحكامه كلها عدل وأخباره كلها صدق.
6- مشروعية قول العبد سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وهما من الكلم الطيب وكذا سبحان ربي العظيم حال الركوع.
[57 - سورة الحديد]
[57.1-6]
شرح الكلمات:
سبح لله ما في السماوات والأرض: أي نزه الله تعالى جميع ما في السماوات والأرض بلسان الحال والقال.
وهو العزيز الحكيم: أي في ملكه، الحكيم في صنعه وتدبيره.
له ملك السماوات والأرض: أي يملك جميع ما في السماوات والأرض يتصرف كيف يشاء.
يحيي ويميت: يحيي بعد العدم ويميت بعد الإيجاد والإحياء.
وهو على كل شيء قدير: وهو على فعل كل ما يشاء قدير لا يعجزه شيء.
هو الأول والآخر: أي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء.
والظاهر والباطن: أي الظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء.
وهو بكل شيء عليم: أي لا يغيب عن علمه شيء ولو كان مثقال ذرة في السماوات والأرض.
في ستة أيام: أي من أيام الدنيا مقدرة بها أولها الأحد وآخرها الجمعة.
ثم استوى على العرش: أي ارتفع عليه وعلا.
يعلم ما يلج في الأرض: أي ما يدخل في الأرض من كل ما يدخل فيها من مطر وأموات.
وما يخرج منها: أي من نبات ومعادن.
وما ينزل من السماء: أي من رحمة وعذاب.
وما يعرج فيها: أي يصعد فيها من الأعمال الصالحة والسيئة.
وهو معكم أينما كنتم: أي بعلمه بكم وقدرته عليكم أينما كنتم.
والله بما تعملون بصير: أي لا يخفي عليه من أعمال عباده الظاهرة الباطنة شيء.
وإلى الله ترجع الأمور: أي مرد كل شيء إلى الله خالقه ومدبره يحكم فيه بما يشاء.
يولج الليل في النهار: أي يدخل جزءا من الليل في النهار وذلك في الصيف.
ويولج النهار في الليل: ويدخل جزءا من النهار في الليل وذلك في الشتاء كما يدخل كامل أحدهما في الآخر فلا يبقى إلا ليل أو نهار إذ أحدهما دخل في ثانيهما.
وهو عليم بذات الصدور: أي ما في الصدور من المعتقدات والأسرار والنيات.
معنى الآيات:
يخبر تعالى في هذه الآيات الخمس عن وجوده وعظمته من قدرة وعلم وحكمة ورحمة وتدبيره وملكه ومرد الأمور إليه وكلها مظاهر الربوبية الموجبة للألوهية فأولا تسبيح كل شيء في السماوات والأرض أي تنزيهه عن كل نقص كالزوجة والولد والشريك والوزير المعين والعجز والجهل، ثانيا إنه تعالى العزيز ذو العزة التي لا ترام العظيم الانتقام الحكيم في تدبير ملكه فلا شيء في خلقه هو عبث أو لهو أو باطل ثالثا له ملك السماوات والأرض ملكا حقيقا يتصرف كيف يشاء يهب من شاء ويمنع من شاء. رابعا يحيى من العدم ويميت الحى الموجود، خامسا هو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء ولا يعجز عن شيء متى أراد الشيء وقال له كن فهو يكون لا يتخلف.
سادسا: هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء إذ له ميراث السماوات والأرض. سابعا: علمه محيط بكل شيء. ثامنا: خلقه السماوات والأرض في ستة أيام الدنيا ابتداء من الأحد وانتهاء بالجمعة وما مسه من لغوب ولا تعب ولا نصب ثم استوى على العرش يدبر ملكوت خلقه بالحكمة ومظاهر العدل والرحمة. تاسعا: مع علوه وبعده من خلقه فالخلق كله بين يديه يعلم ما يلج في الأرض أي يدخل فيها من أمطار وأموات وما ينزل من السماء من مطر ورحمة وعذاب وملك وغيره، وما يعرج أي يصعد فيها من ملك ومن عمل صالح ودعاء وخاصة دعوة المظلوم فإنها لا تحجب عن الله أبدا. وعاشرا: معية الله تعالى الخاصة والعامة فالخاصة معيته بنصره لأوليائه، والعامة علمه بكل عباده وسائر خلقه، وقدرته عليهم وعلمه بهم. الحادي عشر: بصره تعالى بكل أعمال عباده فلا يخفى عليه شيء منها ليحاسبهم بها ويجزيهم عليها. الثاني عشر: له ملك السماوات والأرض أي كل ما في السماوات وما في الأرض من سائر الخلق هو ملك لله تعالى وحده لا شريك له فيه ولا في غيره. الثالث عشر: رد كل الأمور إليه فلا يقضى فيها غيره ولا يحكم فيها سواه والظاهر منها كالباطن. الرابع عشر: إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل لمصلحة عباده وفائدتهم إذ لولا هذا التدبير الحكيم لما صلح أمر الحياة ولا استقام هذ الوجود.
وأخيرا علمه الذي أحاط بكل شيء وتغلغل في كل خفي حتى ذات الصدور من خاطر ووسواس وهم وعزم ونية وإرادة فسبحانه من إله لا إله غيره ولا رب سواه، بهذه المظاهر من الكمالات استحق العبادات فلا تصح العبادة لغيره، ولا تنبغي الطاعة لسواه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل التسبيح وأفضله سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
2- مظاهر القدرة والعلم والحكمة في هذه الآيات الخمس هي موجبات ربوبية الله تعالى وألوهيته وهي مقتضية للبعث الآخر والجزاء فيه.
3- في خلقه تعالى السماوات والأرض في ستة أيام وهو القادر على خلقهما بكلمة التكوين تعليم لعباده التأني في الأمور وعدم العجلة فيها لتخرج متقنة صالحة نافعة.
4- بطلان دعاء غير الله تعالى ورجاء غيره إذ له ملك السماوات والأرض وليس لغيره شيء من ذلك.
5- وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه وتقواه وذلك لعلمه بظواهرنا وبواطننا وقدرته على مجازاتنا عاجلا وآجلا.
[57.7-11]
شرح الكلمات:
آمنوا بالله ورسوله: أي صدقوا بالله ورسوله يا من لم تؤمنوا بعد واثبتوا على إيمانكم يا من آمنتم قبل.
وأنفقوا: أي وتصدقوا في سبيل الله.
مما جعلكم مستخلفين فيه: أي من المال الذي استخلفكم الله فيه إذ هو مال من قبلكم وسيكون لمن بعدكم.
فالذين آمنوا منكم وأنفقوا: أى صدقوا بالله ورسوله وتصدقوا بأموالهم المستخلفين فيها.
لهم أجر كبير: أي ثواب عظيم عند الله وهو الجنة.
وما لكم لا تؤمنون بالله؟: أي أي شيء يمنعكم من الإيمان.
والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم: أي والحال أن الرسول بنفسه يدعوكم لتؤمنوا بربكم.
وقد أخذ ميثاقكم: أي على الإيمان به وأنتم في عالم الذر حيث أشهدكم فشهدتم.
إن كنتم مؤمنين: أي مريدين الإيمان فلا تترددوا وآمنوا وأسلموا تنجوا وتسعدوا.
هو الذي ينزل على عبده: أي هو الله ربكم الذي يدعوكم رسوله لتؤمنوا به ينزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم.
آيات بينات: هي آيات القرآن الكريم الواضحات المعاني البينات الدلالة.
ليخرجكم من الظلمات إلى النور: أي ليخرجكم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم.
وإن الله بكم لرءوف رحيم: ويدلكم على ذلك إرسال رسوله إليكم وإنزال كتابه ليخرجكم من الظلمات إلى النور.
وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله: أي أي شيء لكم في عدم الإنفاق في سبيل الله.
ولله ميراث السماوات والأرض: أي ومن ذلك المال الذي بين أيديكم فهو عائد إلى الله فأنفقوه في سبيله يؤجركم عليه. وإلا فسيعود إليه بدون أجر لكم.
من قبل الفتح وقاتل: أي لا يستوي مع من أنفق وقاتل بعد صلح الحديبية حيث عز الإسلام وكثر مال المسلمين.
وكلا وعد الله الحسنى: أي الجنة، والجنة درجات.
من ذا الذي يقرض الله: أي بإنفاقه ماله في سبيل الله الذي هو الجهاد.
قرضا حسنا: أي قرضا لا يريد به غير وجه الله تعالى.
فيضاعفه له: أي الدرهم بسبعمائه درهم.
وله أجر كريم: أي يوم القيامة وهو الجنة دار النعيم المقيم.
معنى الآيات:
بعد ذكر الأدلة والبراهين على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ووجوب عبادته وتوحيده فيها وتقرير البعث والجزاء يوم لقائه رحمة منه ورأفة بعباده أمرهم جميعا مؤمنيهم وكافريهم بالإيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فالمؤمنون مأمورون بزيادة الإيمان والثبات عليه والكافرون مأمورون بالإيمان والمبادرة إليه. وبما أن الآية نزلت بالمدينة بعد الهجرة وبعد صلح الحديبية فإن هذه الأوامر والتوجيهات الإلهية تشمل المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين في إيمانهم تشمل الراغبين في الإيمان في مكة وغيرها وهم يترددون في ذلك فوجه الخطاب إلى الجميع لهدايتهم ودخولهم في رحمة الله الإسلام بسرعة ودون تباطىء فقال تعالى { آمنوا بالله ورسوله } أي صدقوا بوحدانية الله ورسالة رسول الله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه من الأموال، ووجه الاستخلاف أن العبد يرث المال عمن سبقه ويموت ويتركه لمن بعده فلا يدفن معه في قبره.
وقوله تعالى { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } أي ثواب عظيم عند الله وهو الجنة والرضوان فيها. وهذا الإخبار يفيد تنشيط الهمم الفاترة والعزائم المترددة. وقوله: { وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } أي أي شيء يجعلكم لا تؤمنون وفرص الإيمان كلها متاحة لكم فإيمانكم الفطري صارخ في نفوسكم إذ كل من سألكم: من خلقكم؟ من خلق العالم حولكم؟ سماء وأرضا تقولون الله . وأنتم في حرمه وحمى بيته والرسول الكريم بين أيديكم يدعوكم صباح مساء إلى الإيمان بربكم وقد أخذ الله ميثاقكم عليكم بأن تؤمنوا به وذلك يوم أخرجكم في صورة الذر من صلب آدم أبيكم وأشهدكم على أنفسكم فشهدتم. إذا ما هذا التردد إن كنتم تريدون الإيمان فآمنوا قبل فوات الأوان.
وقوله تعالى: { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات } أي إنكم تدعون إلى الإيمان بالله الذي ينزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم آيات واضحات المعاني بينات الدلائل كل ذلك ليخرجكم من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم، فما لكم لا تؤمنون إذا ما هذا التردد والتلكؤ يا عباد الله في الإيمان بالله وبرسول الله، وإن الله بكم لرءوف رحيم فاعرفوا هذا وآمنوا به ويدلكم على ذلك إنزاله الكتاب وإرساله الرسول وتوضيح الأدلة وإقامة الحجج والبراهين.
وقوله: { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله } التي هي سبيل إسعادكم وإكمالكم بعد نجاتكم من العذاب في الحياتين مع العلم أن لله ميراث السماوات والأرض إذ ما بأيديكم هو لله هو واهبه لكم ومسترده منكم فلم لا تنفقون منه.
وقوله تعالى { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } أي صلح الحديبية لقول الله تعالى
إنا فتحنا لك فتحا مبينا
[الفتح: 1] والمراد به صلح الحديبية. أي لا يستوون في الأجر والمثوبة مع من قاتل وأنفق بعد الفتح. قال تعالى { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا } من الفريقين { وعد الله الحسنى } أي الجنة { والله بما تعملون خبير } لا يخفى عليه إنفاقكم وقتالكم وعدمهما كما لا يخفى عليه نياتكم وما تخفون في نفوسكم فاحذروه وراقبوه خيرا لكم.
وقوله تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } أي مخلصا فيه لله طيبة به نفسه { فيضاعفه له } ربه في الدرهم سبعمائة درهم، { وله أجر كريم } ألا وهو الجنة دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الإيمان بالله ورسوله وتقويته.
2- وجوب الإنفاق في سبيل الله من زكاة ونفقة جهاد وصدقة على الفقراء والمساكين.
3- بيان لطف الله ورأفته ورحمته بعباده مما يستلزم محبته وطاعته وشكره.
4- الإنفاق في المجاعات والشدائد والحرب أفضل منه في اليسر والعافية.
5- الترغيب في الإنفاق في سبيل الله بمضاعفة الأجر حتى يكون الدينار بألف دينار عند الله تعالى وما عند الله خير وأبقى، وللآخرة خير من الأولى.
[57.12-15]
شرح الكلمات:
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم: أي يتقدمهم نورهم الذي اكتسبوه بالإيمان والعمل الصالح بمسافات بعيدة يضيء لهم الصراط الذي يجتازونه إلى الجنة.
بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار: أي تقول لهم الملائكة الذين أعدوا لاستقبالهم بشراكم.
ذلك هو الفوز العظيم: أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم الذي لا أعظم منه.
المنافقون والمنافقات: أي الذين كانوا يخفون الكفر في نفوسهم ويظهرون الإيمان والإسلام بألسنتهم.
تقتبس من نوركم: أي أنظروا إلينا بوجوهكم نأخذ من نوركم ما يضيء لنا الطريق.
قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا: أي يقال لهم استهزاء بهم ارجعوا وراءكم إلى الدنيا حيث يطلب النور هناك بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والمعاصي فيرجعون وراءهم فلم يجدوا شيئا.
فضرب بينهم بسور له باب باطنه الرحمة: أي فضرب بينهم وبين المؤمنين بسور عال له باب باطنه الذي هو من جهة المؤمنين الرحمة.
وظاهره من قبله العذاب: أي الذي من جهة المنافقين في عرصات القيامة العذاب.
ينادونهم ألم نكن معكم: أي ينادي المنافقون المؤمنين قائلين ألم نكن معكم في الدنيا على الطاعات أي فنصلي كما تصلون ونجاهد كما تجاهدون وننفق كما تنفقون.
قالوا بلى: أي كنتم معنا على الطاعات.
ولكنكم فتنتم أنفسكم: أي بالنفاق وهو كفر الباطن وبغض الإسلام والمسلمين.
وتربصتم: أي الدوائر بالمسلمين أي كنتم تنتظرون متى يهزم المؤمنون فتعلنون عن كفركم وتعودون إلى شرككم.
وغركم بالله الغرور: أي وغركم بالإيمان بالله ورسوله حيث زين لكم الكفر وكره إليكم الإيمان الشيطان.
فاليوم لا يؤخذ منكم فدية: أي مال تفدون به أنفسكم إذ لا مال يومئذ ينفع ولا ولد.
ولا من الذين كفروا : أي ولا فدية تقبل من الذين كفروا.
مأواكم النار هي مولاكم: أي مستقركم ومكان إيوائكم النار وهي أولى بكم لخبث نفوسكم.
وبئس المصير: أي مصيركم الذي صرتم إليه وهو النار.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات } هذا الظرف متعلق بقوله { وله أجر كريم } في آخر الآية السابقة أي لهم أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات في عرصات القيامة نورهم الذي اكتسبوه بإيمانهم وصالح أعمالهم في دار الدنيا ذلك النور يمشي أمامهم يهديهم إلى طريق الجنة، وقد أعطوا كتبهم بأيمانهم. وتقول لهم الملائكة الذين أعدوا لتلقيهم واستقبالهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار أي تجري الأنهار أنهار الماء واللبن والخمر والعسل من خلال الأشجار والقصور خالدين فيها ماكثين أبدا لا يموتون ولا يخرجون. قال تعالى { ذلك هو الفوز العظيم } إذ هو نجاة من النار ودخول الجنان في جوار الرحمن. وقوله تعالى { يوم يقول المنافقون والمنافقات } بدل من من قوله يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، والمنافقون والمنافقات وهم الذين كانوا في الحياة الدنيا يخفون الكفر في أنفسهم ويظهرون الإيمان بألسنتهم والإسلام بجوارحهم يقولون للذين آمنوا انظرونا أي اقبلوا علينا بوجوهكم ذات الأنوار نقتبس من نوركم أي نأخذ من نوركم ما يضيء لنا الطريق مثلكم قيل فيقال لهم استهزاء بهم { ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا } إشارة إلى أن هذا النور يطلب في الدنيا بالإيمان وصالح الأعمال فيرجعون إلى الوراء وفورا يضرب بينهم وبين المؤمنين بسور عال { له باب باطنه } وهو يلي المؤمنين فيه الرحمة { وظاهره } وهو يلي المنافقين { من قبله العذاب } فيأخذون في ندائهم ألم نكن معكم على الطاعات أيها المؤمنون فقد كنا نصلي معكم ونجاهد معكم وننفق كما تنفقون فيقول لهم المؤمنون بلى أي كنتم معنا في الدنيا على الطاعات في الظاهر ولكنكم فتنتم أنفسكم بالنفاق وتربصتم بنا الدوائر لتعلنوا عن كفركم وتعودوا إلى شرككم، وارتبتم أي شككتم في صحة الإسلام وفي عقائده ومن ذلك البعث الآخر وغرتكم الأماني الكاذبة والأطماع في أن محمدا لن ينتصر وأن دينه لن يظهر، حتى جاء أمر الله بنصر رسوله وإظهار دينه وغركم بالله الغرور أي بالإيمان بالله أي بعد معاجلته لكم بالعذاب والستر عليكم وعدم كشف الستار عنكم وإظهاركم على ما أنتم عليه من الكفر الغرور أي الشيطان إذ هو الذي زين لكم الكفر وذكركم بعفو الله وعدم مؤاخذته لكم.
قال تعالى: { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } أي فداء مهما كان ولا من الذين كفروا كذلك مأواكم النار أي محل إيوائكم وإقامتكم الدائمة النار هي مولاكم أي من يتولاكم ويضمكم في أحضانه وهي أولى بكم لخبث نفوسكم وعفن أرواحكم من جراء النفاق والكفر، وبئس المصير الذي صرتم إليه إنه النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث يذكر أحداثه وما يجري فيه.
2- تقرير أن الفوز ليس ربح الشاة والبعير ولا الدار ولا البستان في الدنيا وإنما هو الزحزحة عن النار ودخول الجنان يوم القيامة هذا هو الفوز العظيم.
3- من بشائر السعادة لأهل الإيمان قبل دخول الجنة تلقي الملائكة لهم وإعطاؤهم كتبهم بأيمانهم ووجود نور عال يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يتقدمهم على الصراط إلى الجنة.
4- نور يوم القيامة في وجوه المؤمنين أخذوه من الدنيا وفي الحديث:
" بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ".
5- بيان صفات المنافقين في الدنيا وهي إبطان الكفر في نفوسهم والتربص بالمؤمنين للانقضاض عليهم متى ضعفوا أو هزموا وأمانيهم في عدم نصرة الإسلام. وشكهم الملازم لهم حتى أنهم لم يخرجوا منه إلى أن ماتوا شاكين في صحة الإسلام وما جاء به وأخبر عنه من وعد ووعيد.
[57.16-19]
شرح الكلمات:
ألم يأن للذين آمنوا: أي ألم يحن الوقت للذين أكثروا من المزاح.
أن تخشع قلوبهم لذكر الله: أي تلين وتسكن وتخضع وتطمئن لذكر الله ووعده ووعيده.
وما نزل من الحق: أي القرآن وما يحويه من وعد ووعيد.
ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل: أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى في الإعراض والغفلة.
فطال عليهم الأمد: أي الزمن بينهم وبين أنبيائهم.
فقست قلوبهم: أي لعدم وجود من يذكرهم ويرشدهم فقست لذلك قلوبهم فلم تلن لذكر الله.
وكثير منهم فاسقون: أي نتيجة لقساوة القلوب المترتبة على ترك التذكير والإرشاد ففسق أكثرهم فخرج عن دين الله ورفض تعاليمه.
اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها: أي بالغيث ينزل بها وكذلك يحيي القلوب بالذكر والتذكير فتلين وتخشع لذكر الله ووعد ووعيده.
قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون: أي بينا لكم الآيات الدالة على قدرتنا وعلمنا ولطفنا ورحمتنا رجاء أن تعقلوا فتحفظوا أنفسكم مما يرديها ويوبقها.
إن المصدقين والمصدقات: أي المتصدقين بفضول أموالهم والمتصدقات كذلك.
وأقرضوا الله قرضا حسنا: أي وكانت صدقاتهم كالقرض الحسن الذي لا منة معه والنفس طيبة به وراجية من ربها جزاءه.
يضاعف لهم: أي القرض الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى ألف ألف.
والذين آمنوا بالله ورسله: أي صدقوا بالله ربا وإلها وبرسله هداة ودعاة صادقين.
أولئك هم الصديقون: أي الذين كتبوا عند الله صديقين وهي مرتبة شرف عالية.
والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم: أي وشهداء المعارك في سبيل الله عند ربهم أي في الجنة لهم أجرهم العظيم ونورهم التام يوم القيامة.
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا: أي كفروا بالله وتوحيده وكذبوا بالقرآن وبما حواه من الشرائع والأحكام.
أولئك أصحاب الجحيم: أي أولئك البعداء هم أهل النار الذي لا يفارقونها أبدا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ألم يأن للذين آمنوا } أي بالله ربا وإلها وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبوعد الله ووعيده صدقا وحقا ألم يحن الوقت لهم أن تخشع قلوبهم فتلين وتطمئن إلى ذكر الله وتخشع كذلك { وما نزل من الحق } في الكتاب الكريم فيعرفون المعروف ويأمرون به ويعرفون المنكر وينهون عنه إنها لموعظة إلهية عظيمة وزادها عظمة أن تنزل في أصحاب رسول الله تستبطىء قلوبهم. فكيف بمن بعدهم.
وقوله: { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } أي من قبل البعثة المحمدية وهم اليهود والنصارى فطال عليهم الأمد وهو الزمن الطويل بينهم وبين أنبيائهم فلم يذكروا ولم يرشدوا فقست قلوبهم من أجل ذلك وأصبح أكثرهم فاسقين عن دين الله خارجين عن شرائعه لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا.
وقوله تعالى { اعلموا } أي أيها المؤمنون المصابون ببعض الغفلة فكثر مزاحهم وضحكهم { أن الله يحيي الأرض بعد موتها } يحييها بالغيث فتنبت وتزدهر فكذلك القلوب تموت بترك التذكير والتوجيه والإرشاد وتحيا على التذكير والإرشاد.
وقوله تعالى: { قد بينا لكم الآيات } أي وضحناها لكم في هذا الكتاب الكريم لعلكم تعقلون أي لنعدكم بذلك لتعقلوا عنا ما نخاطبكم به وننصح لكم فيه فاذكروا هذا ولا تنسوه. وارجعوا قلوبكم وتعهدوها بذكر الله والدار الآخرة. وقوله تعالى: { إن المصدقين } أي المتصدقين بفضول أموالهم في سبيل الله والمصدقات أي والمتصدقات كذلك وأقرضوا الله قرضا حسنا بما أنفقوه في الجهاد طيبة به نفوسهم لا منة فيه ولا رياء ولا سمعة هؤلاء يضاعف لهم أي ثواب صدقاتهم وإقراضهم ربهم إلى عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف ولهم أجر كريم وهو الجنة والذين آمنوا بالله ورسله فصدقوا بالله ربا وإلها وبرسل الله المصطفين هداة إلى الله ودعاة إليه هؤلاء هم الصديقون ففازوا بمرتبة الصديقية والشهداء الذين استشهدوا في معارك الجهاد هم الآن عند ربهم لهم أجرهم ونورهم أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة. هؤلاء الأصناف الثلاثة مثلهم مثل السابقين وأصحاب اليمين. والذين كفروا أي بالله ورسله وكذبوا بآياتنا أي بآيات ربهم الحاوية لشرائعه وعبادته فلم يعبدوه بها هؤلاء الأدنون هم أصحاب الجحيم الذين يلازمونها وتلازمهم أبدا نعوذ بالله من حالهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من الغفلة ونسيان ذكر الله وما عنده من نعيم وما لديه من نكال وعذاب.
2- وجوب التذكير للمؤمنين والوعظ والإرشاد والتعليم خشية أن تقسو قلوبهم فيفسقوا كما فسق أهل الكتاب ويكفروا كما كفروا.
3- تقرير حقيقة وهي أن الأرض تحيا بالغيث والقلوب تحيا بالعلم والمواعظ والتذكير بالله.
4- بيان أصناف المؤمنين ورتبهم وهم المتصدقون والمقرضون في سبيل الله أموالهم والمؤمنين بالله ورسله حق الإيمان والصديقون وشهداء الجهاد في سبيل الله جعلنا الله منهم.
[57.20-21]
شرح الكلمات:
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو: أي إن الحياة الدنيا أشبه بالأمور الخيالية قليلة النفع سريعة الزوال.
وزينة: أي ما يتزين به المرء من أنواع الزينة والزينة سريعة التغير والزوال.
وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد: أي أنها لا تخرج عن كونها لهوا ولعبا وزينة وتفاخرا وتكاثرا في الأموال والأولاد.
كمثل غيث أعجب الكفار نباته: أي مثلها في سرعة زوالها وحرمان صاحبها من الدار الآخرة ونعيمها كمثل مطر أعجب الكفار أي الزراع أجبهم نباته أي ما نبت به من الزرع.
ثم يهيج فتاره مصفرا: أي يبس فتراه مصفرا آن أوان حصاده.
ثم يكون حطاما: ثم يتحول بسرعة إلى حطام يابس يتفتت.
إلا متاع الغرور: أي وما الحياة الدنيا في التمتع بها إذ الحياة نفسها غرور لا حقيقة لها.
سابقوا إلى مغفرة من ربكم: أي سارعوا بالتوبة مسابقين غيركم لتغفر لكم ذنوبكم وتدخلوا جنة ربكم.
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: أي الموعود به من المغفرة والجنة.
والله ذو الفضل العظيم: أي فلا يبعد تفضله بذلك الموعود به وإن كان عظيما.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يزيد في كمالهم وسعادتهم في الحياتين فخاطبهم قائلا: اعلموا أيها المؤمنون الذين استبطانا قلوبهم أي خشوعها إذ الإقبال على الدنيا هو سبب الغفلة عن الآخرة ومتطلباتها من الذكر والعمل الصالح { أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأمول والأولد } هذه حقيقتها وهي أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال. فلا تغتروا بها ولا تقبلوا بكلكم عليها أنصح لكم بذلك. فاللهو كاللعب لا يخلفان منفعة تعود على اللاهي اللاعب، والزينة سرعان ما تتحول وتتغير وتزول والتفاخر بين المتفاخرين مجرد كلام ما وراءه طائل أبدا والتكاثر لا ينتهي إلى حد ولا يجمع إلا بالشقاء والنصب والتعب ثم يذهب أو يذهب عنه فلا بقاء له ولا دوام وله تبعات لا ينجو منها صاحبها إلا برحمة من الله وإليكم مثل الحياة الدنيا إنها { كمثل غيث } أي مطر { أعجب الكفار } أي الفلاحين الذين كفروا بذرة بالتربة { نباته } الذي نبت به أي المطر { ثم يهيج فتره } بعد أيام { مصفرا } ثم يهيج أي ييبس { ثم يكون حطما } يتفتت هذه هي الدنيا من بدايتها إلى نهايتها المؤلمة أما الآخرة ففيها عذاب شديد لأهل الشرك والمعاصي لا بد لهم منه يفارقونه، ومغفرة من الله ورضوان لأهل التوحيد وصالح الأعمال وما الحياة الدنيا وقد عرضنا عليكم مثالها فما هي إلا متاع الغرور أي إنها لا حقيقة لها وكل ما فيها من المتع التي يتمتع بها إلا غرور باطل.
وعليه فأنصح لكم سابقوا إلى مغفرة من ربكم أي سارعوا بالتوبة مسابقين بعضكم بعضا لتغفر ذنوبكم وتدخلوا جنة ربكم التي عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله أي هيئت وأحضرت فهي معدة مهيأة. ذلك فضل الله أي المغفرة ودخول الجنة يؤتيه من يشاء ومن سارع إلى التوبة فآمن وعمل صالحا وتخلى عن الشرك والآثام فهو ممن شاء له فضله ولذلك وفقه للإيمان وصالح الأعمال. والله ذو الفضل العظيم فلا يستبعد منه ذلك المطلوب المرغوب من النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا.
2- الدعوة إلى المسابقة في طلب مغفرة الذنب ودخول الجنة.
3- بيان الجنة وبيان ما يكسبها وهو الإيمان بالله ورسله ومستلزماته من التوحيد والعمل الصالح.
[57.22-25]
شرح الكلمات:
ما أصاب من مصيبة في الأرض: أي بالجدب وذهاب المال.
ولا في أنفسكم: أي بالمرض وفقد الولد.
إلا في كتاب من قبل أن نبرأها: أي في اللوح المحفوظ قبل أن نخلقها.
إن ذلك على الله يسير: أي سهل ليس بالصعب.
لكيلا تأسوا على ما فاتكم: أي لكيلا تحزنوا على ما فاتكم أي مما تحبون من الخير.
ولا تفرحوا بما آتاكم: أي بما أعطاكم فرح البطر أما فرح الشكر فهو مشروع.
والله لا يحب كل مختال فخور: أي مختال بتكبره بما أعطى، فخور أي به على الناس.
الذين يبخلون: أي بما وجب عليهم أن يبذلوه.
ويأمرون الناس بالبخل: أي بمنع ما وجب عليهم عطاؤه.
ومن يتول: أي عن الإيمان والطاعة وقبول مواعظ ربهم.
فإن الله غني: أي غني عن سائر خلقه لأن غناه ذاتي له لا يستمده من غيره.
حميد: أي محمود بجلاله وجماله وآلائه ونعمه على عباده.
بالبينات: أي بالحجج والبراهين القاطعة على صدق دعوتهم.
وأنزلنا معهم الكتاب: أي وأنزل عليهم الكتب الحاوية للشرائع والأحكام.
والميزان: أي العدل الذي نزلت الكتب بالأمر به وتقريره.
ليقوم الناس بالقسط: أي لتقوم حياتهم فيما بينهم على أساس العدل.
فيه بأس شديد: أي في الحديد بأس شديد والمراد آلات القتال من سيف وغيره.
ومنافع للناس: أي ينتفع به الناس إذ ما من صنعة إلا والحديد آلتها.
وليعلم الله من ينصره ورسله: أي وأنزلنا الحديد وجعلنا فيه بأسا شديدا ليعلم الله من ينصره في دينه وأوليائه وينصر رسله المبلغين عنه.
بالغيب: أي وهم لا يشاهدونه بأبصارهم في الدنيا.
إن الله قوي عزيز: أي لا حاجة إلى نصرة أحد وإنما طلبها يتعبد بها عباده.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في إرشاد المؤمنين وتوجيههم إلى ما يكملهم ويسعدهم فقال تعالى: { مآ أصاب من مصيبة } أي ما أصابكم أيها المؤمنون من مصيبة في الأرض بالجدب والقحط أو الطوفان أو الجوائح تصيب الزرع { ولا في أنفسكم } بالمرض وفقد الولد إلا وهي في كتاب أي في كتاب المقادير، اللوح المحفوظ مكتوبة بكميتها وكيفيتها وزمانها ومكانها { من قبل أن نبرأهآ } أي وذلك قبل خلق الله تعالى لها وإيجادها. وقوله: { إن ذلك على الله يسير } أي علمه بها وكتابته لها قبل خلقها وإيجادها في وقتها سهل على الله يسير.
وقوله { لكيلا تأسوا } أي أعلمناكم بذلك بعد قضائنا وحكمنا به أزلا من أجل ألا تحزنوا على ما فاتكم مما تحبون في دنياكم من الخير، ولا تفرحوا بما آتاكم فرح الأشر والبطر فإنه مضر أما فرح الشكر فلا بأس به فقد ينعم الله على العبد ليشكره.
وقوله: { والله لا يحب كل مختال فخور } يحذر أولياءه من خصلتين ذميمتين لا تنبغيان للمؤمن وهما الاختيال أي التكبر والفخر على الناس بما أعطاه الله وحرمهم. وقوله { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } هذا بيان لمن لا يحبهم الله وهم أهل الكبر والفخر بذكر صفتين قبيحتين لهم وهما البخل الذي هو منع الواجب والأمر بالبخل والدعوة إليه فهم لم يكتفوا ببخلهم فأمروا غيرهم بالبخل الذي هو منع الواجب وعدم بذله والعياذ بالله من هذه القبائح الأربع. وقوله: { ومن يتول } أي عن الإيمان والطاعة وعدم قبول وعظ الله وإرشاده { فإن الله هو الغني } عن سائر خلقه لأن غناه ذاتي له لا يستمده من غيره { الحميد } أي محمود بجلاله وجماله وإنعامه على سائر عباده.
وقوله تعالى { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } أي بالحجج القواطع وأنزلنا معهم الكتاب الحاوي للشرائع والأحكام التي يكمل عليها الناس ويسعدون وأنزلنا الميزان وذلك ليقوم الناس بالعدل أي لتقوم حياتهم على أساس العدالة والحق.
وقوله تعالى { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } أي وكما أنزلنا الكتاب للدين والعدل للدنيا أنزلنا الحديد لهما معا للدين والدنيا فيما فيه من البأس الشديد في الحروب فهو لإقامة الدين بالجهاد { ومنافع للناس } إذ سائر الصناعات متوقفة عليه فهو للدنيا.
وقوله تعالى: { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } أي من الحكمة في إنزال الحديد أن يعلم الله من ينصره أي ينصر دينه ورسله بالجهاد معهم والوقوف إلى جانبهم وهم يبلغون دعوة ربهم بالغيب أي وهم لا يشاهدون الله تعالى بأعينهم وإن عرفوه بقلوبهم.
وقوله تعالى: { إن الله قوي عزيز } إعلام بأنه لا حاجة به إلى نصرة أحد من خلقه وذلك لقوته الذاتية وعزته التي لا ترام، وإنما كلف عباده بنصرة دينه ورسله وأوليائه تشريفا لهم وتكريما وليرفعهم بذلك إلى مقام الشهداء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
2- بيان الحكمة في معرفة القضاء والقدر والإيمان بهما.
3- حرمة الاختيال والفخر والبخل والأمر بالبخل.
4- بيان إفضال الله وإنعامه على الناس بإرسال الرسل وإنزال الكتب والميزان وإنزال الحديد بما فيه من منافع للناس وبأس شديد.
[57.26-27]
شرح الكلمات:
ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم: أي وتالله لقد أرسلنا نوحا هو الأب الثاني للبشر وإبراهيم هو أبو الأنبياء.
والكتاب : أي التوراة والزبور والإنجيل والفرقان.
فمنهم مهتد: أي من أولئك الذرية أي سالك سبيل الحق والرشاد.
وكثير منهم فاسقون: أي عن طاعة الله ورسله ضال في طريقه.
ثم قفينا على آثارهم برسلنا: أي أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهينا إلى عيسى.
وقفينا بعيسى بن مريم: أي أتبعانهم بعيسى بن مريم لتأخره عنهم في الزمان.
وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه: أي على دينه وهم الحواريون وأتباعهم.
رأفة ورحمة: أي لينا وشفقة.
ورهبانية ابتدعوها: أي وابتدعوا رهبانية لم يكتبها الله عليهم. وهي اعتزال النساء والانقطاع في الأديرة والصوامع للتعبد.
إلا ابتغاء رضوان الله: أي إلا طلبا لرضوان الله عز وجل.
فما رعوها حق رعايتها: أي لم يلتزموا بما نذروه على أنفسهم من الطاعات.
فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم: أي فأعطينا الذين ثبتوا على إيمانهم وتقواهم أجرهم.
وكثير منهم فاسقون: لا أجر لهم ولا ثواب إلا العقاب.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه كما أرسل رسله وأنزل معهم الكتاب والميزان أرسل كذلك نوحا وإبراهيم فنوح هو أبو البشر الثاني وإبراهيم هو أبو الأنبياء من بعده ذكرهما لمزيد شرفهما، ولما لهما من آثار طيبة فقال { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة } أي في أولادهما النبوة والكتاب فهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط من ذرية نوح وإسماعيل وإسحاق وباقي الأنبياء من ذرية إبراهيم وقوله { فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون } أي فمن أولئك الذرية المهدى وأكثرهم فاسقون وقوله { ثم قفينا على آثارهم برسلنا } أي رسولا بعد رسول إلى عيسى بن مريم، وقفينا بعيسى بن مريم أي أتبعاتهم بعيسى بن مريم كل ذلك لهداية العباد إلى ما يكملهم ويسعدهم وقوله { وآتيناه الإنجيل } أي آتينا عيسى بن مريم الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة والرأفة اللين وأشد الرحمة. وقوله { ورهبانية ابتدعوها } أي ابتدعها الذين اتبعوا عيسى { ما كتبناها عليهم } أي لم يكتبها الله تعالى عليهم لما فيها من التشديد ولكن ما ابتدعوها إلا طلبا لرضوان الله ومرضاته فما رعوها حق رعايتها حيث لم يوفوا بما التزموا به من ترك الدنيا والإقبال على الآخرة حيث تركوا النساء ولبسوا الخشن من الثياب وأكلوا الخشن من الطعام ونزلوا الصوامع والأديرة.
ولهذه الرهبانية سبب مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما نذكره باختصار للفظه ومعناه قال كان بعد عيسى ملوك بدلوا التوراة وحرفوا الإنجيل وألزموا العامة بذلك، وكان بينهم جماعة رفضوا ذلك التحريف للدين ولم يقبلوه ففروا بدينهم، والتحقوا بالجبال وانقطعوا عن الناس مخافة قتلهم أو تعذيبهم لمخالفتهم دين ملوكهم المحدث الجديد فهذا الانقطاع بداية الرهبانية، وعاش أولئك المؤمنون وماتوا وجاء جيل من أبناء الدين المحرف فذكروا سيرة الصالحين الأولين فأرادوا أن يفعلوا فعلهم فانقطعوا إلى الصوامع والأديرة، ولكنهم جهال وعلى دين محرف مبدل فاسد فما انتفعوا بالرهبانية المبتدعة وفسق أكثرهم عن طاعة الله ورسوله.
وهو ما دل عليه قول الله تعالى: { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم الأولون المؤمنون الذين فروا من الكفر والتعذيب وعبدوا الله تعالى بما شرع، وقوله { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين أتوا من بعدهم إلى يومنا هذا إذ هم يعبدون الله بدين محرف باطل ولم يلتزموا بالرهبنة الصادقة بالزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان منة الله على عباده بإرسال الرسل.
2- بيان سنة الله في الناس وهي أنه إذا أرسل الرسل لهداية الناس يهتدى بعض ويضل بعض فيفسق.
3- ثناء الله على عيسى بن مريم واتباعه بحق من الحواريين وغيرهم إلى أن غيرت الملوك دين المسيح وضل الناس وأصبحوا فاسقين عن دين الله تعالى.
4- تحريم البدع والابتداع ولا رهبانية في الإسلام ولكن يعبد الله بما شرع.
[57.29]
شرح الكلمات
يا أيها الذين آمنوا: أي بعيسى بن مريم وموسى من قبله.
اتقوا الله وآمنوا برسوله: أي خافوا عقاب الله وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه.
يؤتكم كفلين: يعطكم الله نصيبين من الأجر مقابل إيمانكم بنبيكم وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويجعل لكم نورا تمشون فيه: أي في الدنيا إذ تعيشون على هداية الله وفي الآخرة تمشون به على الصراط.
لئلا يعلم أهل الكتاب: أي لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله. واللام في لئلا مزيدة لتقوية الكلام.
معنى الآيتين:
هذا نداء الله لأهل الكتاب بعد أن ذكر نبذة عن رسلهم وأتباعهم نادى الموجودين منهم بعنوان الإيمان أي يا من آمنتم بالرسل السابقين حسب ادعائكم اتقوا الله فلا تفرقوا بين رسل الله وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم يؤتكم أي يعطكم كفلين أي حظين ونصيبين من رحمته ومثوبته ويجعل لكم نورا تمشون به في الدنيا وهو الهداية الإسلامية إذ الإسلام صراط مستقيم صاحبه لا يضل ولا يشقى وتمشون به في الآخرة على الصراط إلى دار السلام الجنة، ويغفر لكم ذنوبكم الماضية والحاضرة والله غفور رحيم. وذلك ليعلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين رفضوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله أي لا يقدرون على الحصول على شيء من فضل الله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- أعظم نصيحة تقدم لأهل الكتاب لو أخذوا بها تضمنها نداء الله لهم وما وعدهم به في هذه الآية الكريمة.
2- فضل الإيمان والتقوى إذ هما سبيل الولاية والكرامة في الدنيا والآخرة.
3- إبطال مزاعم أهل الكتاب في احتكار الجنة لهم، وإعلامهم بأنهم محرمون منها ما لم يؤمنوا برسول الله ويتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
[58 - سورة المجادلة]
[58.1-4]
شرح الكلمات:
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها: أي تراجعك أيها النبي في شأن زوجها أوس بن الصامت.
وتشتكي إلى الله: أي وحدتها وفاقتها وصبية صغارا إن ضمتهم إليه ضاعوا وإن ضمهم إليها جاعوا.
والله يسم تحاوركما: أي تراجعكما أنت أيها الرسول والمحاورة لك وهي خولة بنت ثعلبة.
إن الله سميع بصير: أي لأقوالكما بصير بأحوالكما.
الذين يظاهرون منكم من نسائهم: أي يحرمون نساءهم بقول أنت علي كظهر أمي.
ما هن أمهاتهم: أي ليس هن بأمهاتهم.
إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، أو أرضعنهم.
وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا: أي وإنهم بالظهار ليقولون منكرا من القول وزورا أي كذبا.
وإن الله لغفو غفور: أي على عباده أي ذو صفح عليهم غفور لذنوبهم إن تابوا منها.
والذين يظاهرون من نسائهم: أي بأن يقول لها أنت علي كظهر أمي أو أختي ونحوها من المحارم.
ثم يعودون لما قالوا: أي يعزمون على العودة للتي ظاهروا منها، إذ كان الظهار في الجاهلية طلاقا.
فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا: أي فالواجب عليه تحرير رقبة مؤمنة قبل أن يجامعها.
ذلكم توعظون به: أي تؤمرون به فافعلوه على سبيل الوجوب.
فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين: أي فمن لم يجد الرقبة لانعدامها أو غلاء ثمنها فالواجب صيام شهرين متتابعين.
من قبل أن يتماسا: أي من قبل الوطء لها.
فمن لم يستطع: أي الصيام لمرض أو كبر سن.
فإطعام ستين مسكينا: أي فعليه قبل الوطء، أن يطعم ستين مسكينا يعطى لكل مسكين مدا من بر أو مدين من غير البر كالتمر والشعير ونحوهما من غالب قوت أهل البلد.
ذلك: أي ما تقدم من بيان حكم الظهار الذي شرع لكم.
لتؤمنوا بالله ورسوله: أي لأن الطاعة إيمان والمعصية من الكفران.
وتلك حدود الله: أي أحكام شرعه.
وللكافرين عذاب أليم: أي وللكافرين بها الجاحدين لها عذاب أليم أي ذو ألم.
معنى الآيات:
قوله تعالى { قد سمع الله } هذه الآية الكريمة نزلت في خولة بنت ثعلبة الأنصارية وفي زوجها أوس بن الصامت أخى عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين كان قد ظاهر منها زوجها أوس، فقال لها في غضب غير مغلق أنت علي كظهر أمي، وكان الظهار يومئذ طلاقا، وكانت المرأة ذات أطفال صغر وتقدم بها وبزوجها السن فجاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشكوا إليه ما قال زوجها فذكرت للرسول صلى الله عليه وسلم ضعفها وضعف زوجها وضعف أطفالها الصغار، وما زالت تراجع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحاوره في شأنها وشأن زوجها حتى نزلت هذه الآيات الأربع من فاتحة سورة المجادلة التي سميت بها السورة فقيل سورة المجادلة بكسر الدال، ويصح فتحها فقال تعالى مخاطبا رسوله { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } أي قد سمع الله قول المرأة التي تجادلك أي تراجعك في شأن زوجها الذي ظاهر منها، وتشتكي إلى الله بعد أن قلت لها: والله ما أمرت في شأنك بشيء، تشكو إلى الله ضعف حالها.
{ والله يسمع تحاوركمآ } أي مراجعتكما لبعضكما بعضا الحديث وأجابكما { إن الله سميع بصير } أي سميع لأقوال عباده عليم بأحوالهم وهذا حكم الظهار فافهموه واعملوا به.
أولا: أن الظهار الذي هو قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي لا يجعل المظاهر منها أما له إذ أمه هي التي ولدته وخرج من بطنها، والزوجة لا تكون أما بحال من الأحوال.
ثانيا: هذا القول كذب وزور ومنكر من القول وقائله آثم فليتب إلى الله ويستغفره.
ثالثا: لولا عفو الله وصفحه على عباده والمؤمنين ومغفرته للتائبين لعاقبهم على هذا القول الكذب الباطل.
رابعا: على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا أي يعزمون على وطئها بعد الظهار منها فالواجب عليهم قبل الوطء لها تحرير رقبة ذكرا كانت أو أنثى صغيرة أو كبيرة لكن مؤمنة لا كافرة، فمن لم يجد الرقبة لانعدامها، أو غلاء ثمنها فيجزئه صيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع لعلة قامت به فالواجب إطعام ستين مسكينا يعطى كل مسكين مدا من بر أو نصف صاع من غير البر كالشعير والتمر ونحوهما كل ذلك من قبل أن يتماسا من باب حمل المطلق على المقيد إذ قيد الأول بقبل المسيس فيحمل هذا الأخير عليه.
وقوله { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله } أي ذلك الذي تقدم من بيان حكم الظهار شرعه لكم لتؤمنوا بالله ورسوله إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل، فطاعة الله ورسوله إيمان ومعصيتهما من الكفران. وقوله تعالى { وتلك حدود الله } أي لا تعتدوها بل قفوا عندها وللكافرين بها المتعدين لها عذاب أليم أي ذو ألم موجع جزاء تعديهم حدود الله .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إجابة الله لأوليائه بتفريج كروبهم وقضاء حوائجهم فله الحمد وله الشكر.
2- حرمة الظهار باعتباره منكرا وكذبا وزورا فيجب التوبة منه.
3- بيان حكم المظاهر وهو أن عليه عتق رقبة قبل أن يجامع امرأته المظاهر منها. فإن لم يجد الرقبة المؤمنة صام شهرين متتابعين من الهلال إلى الهلال وإذا انقطع التتابع لمرض بنى على ما صامه. فإن لم يستطع لمرض ونحوه أطعم ستين مسكينا فأعطى لكل مسكين على حدة مدا من بر أو مدين من غير البر كالشعير والتمر.
4- لو جامع المظاهر قبل إخراج الكفارة أثم فليستغفر ربه وليخرج كفارته. ولا شيء عليه لحديث الترمذي الصحيح.
5- طاعة الله ورسوله إيمان، ومعصية الله ورسوله من الكفران.
[58.5-7]
شرح الكلمات:
إن الذين يحادون الله ورسوله: أي يخالفون الله ورسوله ويعادونهما.
كبتوا كما كبت الذين من قبلهم: أي ذلوا وأهينوا كما ذل وأهين من قبلهم لمخالفتهم رسولهم.
وقد أنزلنا آيات بينات: أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات دالة على صدق الرسول.
عذاب مهين: أي يوقعهم في الذل والهوان.
يوم يبعثهم الله جميعا: أي يوم القيامة.
أحصاه الله ونسوه: أي جمعه وعده ونسوه هم.
والله على كل شيء شهيد: أي لا يغيب عنه شيء من الأشياء.
ما يكون من نجوى: أي من متناجين.
ثلاثة إلا هو رابعهم: إلا هو تعالى رابعهم بعلمه بهم، وقدرته عليهم.
ولا أدنى من ذلك: أي أقل من الثلاثة وهما الاثنان.
إلا هو معهم أينما كانوا: أي في أي مكان من الأرض أو السماء.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إن الذين يحآدون الله ورسوله } هذه الآية تحمل بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإعلامه بهزيمة قريش وهي تحزب الأحزاب لحربه في غزوة الخندق فقال تعالى { إن الذين يحآدون الله ورسوله } أي يخالفون الله ورسوله ويعادونهما كبتوا أي ذلوا وأهينوا كما كبت الذين من قبلهم الذين كذبوا رسلهم فأكبتهم الله أي أذلهم وأهانهم.
وقوله تعالى: { وقد أنزلنآ آيات بينات } كلها دالة على صدق رسولنا فيما جاءهم به ودعاهم إليه، ومع هذا عادوه وحاربوه فلهذا يكبتهم الله ويذلهم في الدنيا وللكافرين أمثالهم عذاب مهين يوم القيامة يوم يبعثهم الله جميعا لا يتخلف منهم أحد فينبئهم بما عملوا من الشر والفساد. أحصاه الله إذ كتبته ملائكته وكتب قبل فعلهم له في كتاب المقادير اللوح المحفوظ ونسوه لعمى قلوبهم وكفرهم بربهم ولقائه فلا يذكرون لهم ذنبا حتى يتوبوا منه ويستغفروا. وقوله تعالى { والله على كل شيء شهيد } أي زيادة على أن أعمالهم كتبها في اللوح المحفوظ وأن الملائكة من الكرام الكاتبين قد كتبوها فإن الله تعالى شهيد على كل شيء فلا يقع شيء إلا تحت بصره وعلمه.
وقوله تعالى { ألم تر أن الله يعلم ما في السموت } تقرير لما سبق من إحاطة علم الله بكل شيء وأن أعمال أولئك المخالفين المحادين محصية معلومة وسيجزيهم بها. أي ألم تعلم يا رسولنا أن الله تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض من دقيق الأشياء وجليلها ورد أن جماعة من المنافقين تخلفوا يتناجون بينهم إغاظة للمؤمنين فنزلت هذه الآية تعرض بهم وتكشف الستار عن نياتهم. { ما يكون من نجوى } أي من ذوي نجوى أو من متناجين ثلاثة إلا وهو رابعهم، أي إلا والله تعالى رابعهم بعلمه بهم وقدرته عليهم وهذه فائدة المعية العلم والقدرة على الأخذ والعطاء ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك كالأثنين.
ولا أكثر إلا هو معهم بعلمه وقدرته وإحاطته أينما كانوا تحت الأرض أو فوقها في السماء أو دونها، ثم ينبئهم أي يخبرهم ويعلمهم بما عملوا يوم القيامة ليجزيهم به { إن الله بكل شيء عليم } تقرير لما سبق من علمه بالمحادين له وبالمنافقين المناوئين للمؤمنين وسيجزى الكل بعدله وهو العزيز الحكيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وعيد الله الشديد بالإكبات والذل والهوان لكل من يحاد الله ورسوله.
2- إحاطة علم الله بكل شيء وشهوده لكل شيء وإحصاه لكل أعمال العباد حال توجب مراقبة الله تعالى والخشية منه والحياء منه أشد الحياء.
3- الإرشاد إلى أن التناجي للمشاورة في الخير ينبغي أن يكون عدد المتناجين ثلاثة أو خمسة أو سبعة ليكون الواحد عدلا مرجحا للخلاف قاضيا فيه إذ اختلف اثنان لا بد من واحد يرجح جانب الخلاف وإذا اختلف أربعة لا بد من خامس يرجح جانب الخلاف.
[58.8-10]
شرح الكلمات:
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى: أي المسارة الكلامية والمنهيون هم اليهود والمنافقون.
ثم يعودون لما نهوا: أي من التناجي تعمدا لأذية المؤمنين بالمدينة.
ويتناجون بالإثم والعدوان: أي بما هو إثم في نفسه، وعداوة الرسول والمؤمنين.
ومعصية الرسول: أي يتناجون فيوصي بعضهم بعضا بمعصية الرسول وعدم طاعته.
وإذا جاءوك حيوك: أي جاءوك أيها النبي حيوك بقولهم السام عليك.
بما لم يحيك به الله: أي حيوك بلفظ السام عليك، وهذا لم يحيي الله به رسوله بل حياه بلفظ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
ويقولون في أنفسهم: أي سرا فيما بينهم.
لولا يعذبنا الله بما نقول: أي هلا يعذبنا الله بما نقول له، فلو كان نبيا لعاجلنا الله بالعقوبة.
حسبهم جهنم يصلونها: أي يكفيهم عذاب جهنم يصلونها فبئس المصير لهم.
فلا تتناجوا بالإثم والعدوان: أي فلا يناج بعضكم بما هو إثم ولا بما هو عدوان وظلم ولا بما هو معصية للرسول.
وتناجوا بالبر والتقوى: أي وتناجوا إن أردتم ذلك بالبر أي الخير والتقوى وهي طاعة الله والرسول.
إنما النجوى من الشيطان: أي إنما النجوى بالإثم والعدوان من الشيطان أي بتغريره.
ليحزن الذين آمنوا: أي ليوهمهم أنها بسبب شيء وقع مما يؤذيهم.
وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله: ألا وليس التناجي بضار المؤمنين شيئا إلا بإرادة الله تعالى.
وعلى الله فليتوكل المؤمنون: أي وعلى الله لا على غيره يجب أن يتوكل المؤمنون.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ألم تر } الآية.. هذه نزلت في يهود المدينة والمنافقين فيها. إذ كانوا يتناجون أي يتحدثون سرا على مرأى من المؤمنين، والوقت وقت حرب فيوهمون المؤمنين إن عدوا قد عزم على غزوهم، أو أن سرية هزمت أو أن مؤامرة تحاك ضدهم فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجي، وقال
" لا يتناج اثنان دون ثالث "
وأبوا إلا أن يتناجوا فأنزل الله تعالى هذه الآية يعجب رسوله منهم ويوعدهم بعد فضحهم وكشف الستار عن كيدهم للمؤمنين ومكرهم بهم فقال تعالى لرسول ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى وهي التناجى المحادثة السرية أمام الناس، ثم يعودون لما نهوا عنه عصيانا وتمردا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتناجون لا بالبر والتقوى، ولكن بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول أي بما هو إثم في نفسه كالغيبة والبذاء في القول، وبالعدوان وهو الاعتداء على المؤمنين وظلمهم، وبمعصية الرسول فيوصي بعضهم بعضا بعصيان الرسول وعدم طاعته في أمره ونهيه. هذا وشر منه أنهم إذا جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيوه بما لم يحيه به الله فلم يقولوا السلام عليكم ولكن يقولون السام عليكم والسام الموت يلوون بها ألسنتهم، ويأتون الرسول واحدا واحدا ليحيوه بهذه التحية الخبيثة ليدعوا عليه بالموت لعنة الله عليهم ما أكثر أذاهم وما أشد مكرهم وما أنتن خبثهم ويقولون في أنفسهم أي فيما بينهم لو كان محمد نبيا لآخذنا الله بما نقول له من الدعاء عليه بالموت وهذا معنى قوله تعالى عنهم: { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } أي هلا عذبنا الله بما نقول لمحمد صلى الله عليه وسلم لو كان نبيا.
قال تعالى حسبهم عذابا جهنم يصلونها يحترقون بحرها ولظاها يوم القيامة فبئس المصير الذي يصيرون إليه في الدار الآخرة جهنم وزقومها وحميمها وضريعها وغسلينها ويحمومها وفوق ذلك غضب الله ولعنته عليهم.
وقوله تعالى { يأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم } هذه الآية والتي بعدها نزلت في تربية المؤمنين روحيا وتهذيبهم أخلاقيا فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله إذا تناجيتم لأمر استدعى ذلك منكم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول فتكون حالكم كحال اليهود والمنافقين ولكن { وتناجوا بالبر والتقوى } أي بما هو خير في نفسه لا إثم فيه وبطاعة الله ورسوله إذ هما التقوى، واتقوا الله الذي إليه تحشرون يوم القيامة لمحاسبتكم ومجازاتكم فاتقوه بطاعته وطاعة رسوله.
وقوله تعالى: { إنما النجوى من الشيطان } أي هو الدافع إليها والحامل عليها وذلك لعلة وهي أن يوقع المؤمنين في غم وحزن، وليس التناجي ولا الشيطان بضار المؤمنين شيئا إلا بإرادة الله تعالى لحكم عالية يعلمها الله، ولذا فلا تحزنوا ولا تغتموا لما ترون من تناجى أعدائكم من اليهود والمنافقين، وتوكلوا على الله في أموركم كلها. وعلى الله تعالى لا على غيره فليتوكل المؤمنون في كل زمان ومكان. فإن الله تعالى كاف من يتوكل عليه كافيه كل ما يهمه والله على ذلك قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مكر اليهود والمنافقين وكيدهم للمؤمنين في كل زمان ومكان.
2- إذا حيا الكافر المؤمن ورد عليه المؤمن رد عليه بقوله وعليكم لما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه ناس من اليهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال صلى الله عليه وسلم وعليكم. فقالت عائشة رضي الله عنها عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم. فقال لها عليه الصلاة والسلام يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش فقالت ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال لها أو ما سمعت ما أقول: وعليكم. فأنزل الله هذه الآية رواه الشيخان.
3- إذا سلم الذمي وكان سلامه بلفظ السلام عليكم لا بأس أن يرد عليه بلفظه.
4- حرمة التناجي بغير البر والتقوى لقوله تعالى إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس الآية من سورة النساء.
5- لا يجوز أن يتناجى اثنان دون الثالث لما يوقع ذلك في نفس الثالث من حزن لا سيما إن كان ذلك في سفر أو في حرب وما إلى ذلك.
6- وجوب التوكل على الله وترك الأوهام والوساوس فإنها من الشيطان.
[58.11-13]
شرح الكلمات:
تفسحوا في المجالس: أي توسعوا في المجالس التي هي مجالس علم وذكر.
فافسحوا يفسح الله لكم: أي في الجنة وفي الرزق والقبر.
انشزوا فانشزوا: أي قوموا للصلاة أو لغيرها من أعمال البر.
يرفع الله الذين آمنوا منكم: أي بالنصر وحسن الذكر في الدنيا وفي غرفات الجنان في الآخرة.
والذين أوتوا العلم درجات: أي ويرفع الذين أوتوا العلم درجات عالية لجمعهم بين العلم والعمل.
إذا ناجيتم الرسول: أي أردتم مناجاته.
فقدموا بين يدي نجواكم صدقة: أي قبل المناجاة تصدقوا بصدقة ثم ناجوه صلى الله عليه وسلم.
ذلك خير لكم وأطهر: أي تقديم الصدقة بين يدي المناجاة خير لما فيه من نفع الفقراء وأطهر لذنوبكم.
فإن لم تجدوا: أي فإن لم تجدوا ما تتصدقون به.
فإن الله غفور رحيم: أي غفور لمناجاتكم رحيم بكم فليس عليكم في المناجاة بدون صدقة إثم.
ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟: أي أخفتم الفقر أن قدمتم بين يدي نجواكم صدقات.
فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم: أي تقديم الصدقات، وتاب الله عليكم بأن رخص لكم في تركها.
فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة: أي على الوجه المطلوب من إقامتها وأخرجوا الزكاة.
وأطيعوا الله ورسوله: أي وداوموا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله.
والله خبير بما تعملون: أي من أعمال البر والإحسان وسيثيبكم على ذلك بالجنة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تربية المؤمنين وتهذيبهم ليكملوا ويسعدوا فقال تعالى: { يأيها الذين آمنوا } أي صدقوا الله ورسوله { إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس } أي إذا قال لكم الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره توسعوا في المجلس ليجد غيركم مكانا بينكم فتوسعوا ولا تضنوا بالقرب من الرسول أو من العالم الذي يعلمكم أو المذكر الذي يذكركم وإن أنتم تفسحتم أي فإن الله تعالى يكافئكم فيوسع عليكم في الدنيا بسعة الرزق وفي البرزخ في القبر وفي الآخرة في غرفات الجنان.
وقوله تعالى: { وإذا قيل انشزوا } أي قوموا من المجلس لعلة أو للصلاة أو للقتال أو لفعل بر وخير فانشزوا أي خفوا وقوموا يثبكم الله فيرفع الله الذين آمنوا منكم درجات بالنصر والذكر الحسن في الدنيا وفي غرف الجنة في الآخرة والذين أوتوا العلم درجات أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون درجات عالية لجمعهم بين الإيمان والعلم والعمل.
وقوله: { والله بما تعملون خبير } يذكرهم تعالى بعلمه بهم في جميع أحوالهم ليراقبوه ويكثروا من طاعته ويحافظوا على تقواه.
وقوله تعالى { يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } أمرهم تعالى إذا أراد أحدهم أن يناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكلمه وحده أن يقدم صدقة أولا ثم يطلب المناجاة وكان هذا لمصلحة الفقراء أولا ثم للتخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كل مؤمن يود أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرب منه ويكلمه الرسول بشر لا يتسع لكل أحد فشرع الله هذه الصدقة فأعلمهم أنه يريد التخفيف عن رسوله.
فلما علموا ذلك وتحرجوا من بذل صدقة وأكثرهم فقراء لا يجدها نسخ تعالى ذلك ولم تدم مدة الوجوب أكثر من ليالي ونسخها الله تعالى بقوله الآتي أأشفقتم. الآية.
وقوله تعالى { ذلك خير لكم وأطهر } أي تقديم الصدقة بين يدي المناجاة خير لكم حيث تعود الصدقة على الفقراء إخوانكم وأطهر أي لنفوسكم لأن النفس تطهر بالعمل الصالح وقوله تعالى { فإن لم تجدوا } أي ما تقدمونه صدقة قبل المناجاة فناجوه صلى الله عليه وسلم ولا حرج عليكم لعدم وجدكم فإن الله غفور لكم رحيم بكم. وقوله تعالى { ءأشفقتم } أي أخفتم الفاقة والفقر إن أنتم ألزمتم بالصدقة بين يدي كل مناجاة وعليه فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم برفع هذا الواجب ونسخه فرجع بكم إلى عهد ما قبل وجوب الصدقة فأقيموا الصلاة بأدائها في أوقاتها في جماعة المؤمنين مراعين شرائطها وأركانها وسننها وآدابها وآتوا الزكاة الواجبة في أموالكم. وأطيعوا الله ورسوله في أمرهما ونهيهما يكفكم ذلك عوضا عن الصدقة التي نسخت تخفيفا عليكم ورحمة بكم.
وقوله { والله خبير بما تعملون } أي فراقبوه في طاعته وطاعة رسوله تفلحوا فتنجوا من النار وتدخلوا الجنة دار الأبرار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الندب إلى فضيلة التوسع في مجالس العلم والتذكير.
2- الندب والترغيب في القيام بالمعروف وأداء الواجبات إذا دعي المؤمن إلى ذلك.
3- فضيلة الإيمان وفضل العلم والعمل به.
4- مشروعية النسخ في الشريعة قبل العمل بالمنسوخ وبعده إذ هذه الصدقة نسخت قبل أن يعمل بها اللهم إلا ما كان من علي رضي الله عنه فإنه أخبر أنه تصدق بدينار وناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخت هذه الصدقة فكان يقول في القرآن آية لم يعمل بها أحد غيري وهي فضيلة له رضي الله عنه.
5- في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة ورسوله في الواجبات والمحرمات عوض عما يفوت المؤمن من النوافل.
[58.14-19]
شرح الكلمات:
ألم تر إلى الذين تولوا: أي ألم تنظر إلى المنافقين الذين تولوا.
قوما غضب الله عليهم: أي اليهود.
ما هم منكم ولا منهم: أي ما هم منكم أيها المؤمنون ولا منهم أي من اليهود بل هم مذبذبون.
ويحلفون على الكذب وهم يعلمون: أي يحلفون لكم أنهم مؤمنون وهم يعلمون أنهم غير مؤمنين.
إنهم ساء ما كانوا يعملون: أي قبح أشد عملهم وهو النفاق والمعاصي.
اتخذوا أيمانهم جنة: أي سترا على أنفسهم وأموالهم فادعوا الإيمان كذبا وحلفوا أنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين.
فصدوا عن سبيل الله: أي فصدوا بتلك الأيمان المؤمنين عن سبيل الله التي هي جهادهم وقتالهم.
فيحلفون له كما يحلفون لكم: أي يوم يبعثهم من قبورهم يوم القيامة يحلفون لله أنهم كانوا مؤمنين كما يحلفون اليوم لكم أنهم مؤمنون.
ويحسبون أنهم على شيء: أي يظنون في أيمانهم الكاذبة أنهم على شيء من الحق.
استحوذ عليهم الشيطان: أي غلب عليهم الشيطان.
فأنساهم ذكر الله: فلم يذكروه بألسنتهم إلا تقية ولا يذكرون وعده ولا وعيده.
أولئك حزب الشيطان: أي أولئك البعداء أتباع الشيطان وجنده.
ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون: أي إن أتباع الشيطان وجنده هم المغبونون الخاسرون في صفقة حياتهم.
معنى الآيات:
في هذه الأيام التي نزلت فيها هذه السورة كان النفاق بالمدينة بالغا أشده، وكان اليهود كذلك كثيرين ومتحزبين ضد الإسلام والمسلمين وذلك قبل اجلائهم من المدينة ففي هذه الآية يحذر الله تعالى رسوله والمؤمنين من العدوين معا ويكشف الستار عنهم ليظهرهم على حقيقتهم ليحذرهم المؤمنين فيقول تعالى { ألم تر } أي تنظر يا رسولنا إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم وهم اليهود تولاهم المنافقون ولاية نصرة وتحزب ضد الرسول والمؤمنين. يقول تعالى هؤلاء المنافقون ما هم منكم أيها المؤمنون ولا منهم من اليهود بل هم مذبذبون حيارى يترددون بينكم وبين اليهود معكم في الظاهر ومع اليهود في الباطن.
وقوله تعالى: { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } أي أنهم كاذبون إذ كانوا يأتون رسول الله ويحلفون له أنهم مؤمنون به وبما جاء به وهم يعلمون أنهم كاذبون إذ هم غير مؤمنين به ولا مصدقين. فتوعدهم الله عز وجل بقوله: { أعد الله لهم عذابا شديدا } أي هيأ لهم وأحضره وذلك يوم القيامة، وندد بصنيعهم وقبح سلوكهم بقوله إنهم ساء ما كانوا يعملون ولذا أعد لهم العذاب الشديد لسوء سلوكهم وقبح أعمالهم.
وقوله تعالى: { اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين } أي اتخذ هؤلاء المنافقون أيمانهم التي يحلفونها لكم بأنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين اتخذوها ستارة ووقاية يقون بها أنفسهم من القتل وأموالهم من الأخذ فصدوا بتلك الأيمان الكاذبة المؤمنين عن سبيل الله التي هي قتالهم لأنهم كفار مشركون يجب قتالهم حتى يدخلوا في دين الله أو يهلكوا لأنهم ليسوا أهل كتاب فتقبل منهم الجزية.
وقوله تعالى { فلهم عذاب مهين } أي يوم القيامة يهانون ويذلون به.
وقوله تعالى { لن تغني عنهم } أي يوم القيامة أموالهم التي يجمعونها ويتمتعون بها اليوم كما لا تغني عنهم أولادهم الذين يعتزون بهم من الله شيئا من الإغناء فلا تقبل منهم فدية فيفتدون بأموالهم ولا يطلبون من أولادهم نصرة فينصرونهم. أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ولا يحيون.
وقوله تعالى { يوم يبعثهم الله جميعا } أي اذكر يا رسولنا يوم يبعثهم الله جميعا في عرصات القيامة فيحلفون له أنهم كانوا مؤمنين كما يحلفون لكم اليوم أنهم مؤمنون. ويحسبون اليوم أي يظنون أنهم على شيء من الصواب والحق ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان أي غلب عليهم فأنساهم ذكر الله فلا يذكرونه إلا قليلا كما أنساهم ذكر وعده ووعيده فلذا هم لا يرغبون فيما عنده ولا يرهبون مما لديه. أولئك حزب الشيطان أي أتباعه وجنده. ألا إن حزب الشيطان أي أتباعه وجنده هم الخاسرون أي المغبونون في صفقتهم في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة موالاة اليهود.
2- حرمة الحلف على الكذب وهي اليمين الغموس.
3- من علامات استحواذ الشيطان على الإنسان تركه لذكر الله بقلبه ولسانه ولوعده ووعيده بأعماله وأقواله.
[58.20-22]
شرح الكلمات:
إن الذين يحادون الله ورسوله: أي يخالفون الله ورسوله فيما يأمران به وينهيان عنه.
أولئك في الأذلين: أي المغلوبين المقهورين.
كتب الله لأغلبن أنا ورسلي: أي كتب في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم بأن يغلب بالحجة أو السيف.
يوادون من حاد الله ورسوله: أي يصادقون من يخالف الله ورسوله بمحبتهم ونصرتهم.
ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم: أي يقصدونهم بالسوء ويقاتلونهم على الإيمان كما وقع للصحابة.
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان: أي أثبت الإيمان في قلوبهم.
وأيدهم بروح منه: أي برهان ونور وهدى.
رضي الله عنهم ورضوا عنه: أي رضي الله عنهم بطاعتهم إياه في الدنيا ورضوا عنه في الآخرة بإدخاله إياهم في الجنة.
ألا إن حزب الله هم المفلحون: أي ألا إن جند الله وأوليائه هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى موجها المؤمنين مرشدا لهم إلى أقوم طريق وأكمل الأحوال فيقول: { إن الذين يحآدون الله ورسوله } أي يخالفونهما في أمرهما ونهيهما وما يدعوان إليه من الدين الحق { أولئك } أي المخالفون في زمرة الأذلين في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } أي كتب في اللوح المحفوظ وقضى بأن يغلب رسوله أعداءه بالحجة والسيف. { إن الله قوي عزيز } أي ذو قوة لا تقهر وعزة لا ترام فلذا قضى بنصرة رسوله على أعدائه مهما كانت قوتهم.
وقوله تعالى: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر } يقول تعالى لرسوله لا تجد أناسا يؤمنون بالله إيمانا صادقا بالله ربا وإلها وباليوم الآخر يوادون بالمحبة والنصرة من حاد الله ورسوله بمخالفتهما في أمرهما ونهيهما وما يدعوان إليه من توحيد الله وطاعته وطاعة رسوله ولو كانوا أقرب قريب إليهم من أب أو إبن أو أخ أو عشيرة. وقوله تعالى { أولئك كتب } أي الله تعالى في قلوبهم الإيمان أي أثبته وقرره فيها فهو لا يبرح ينير لهم طريق الهدى حتى ينتهوا إلى جوار ربهم.
{ وأيدهم بروح منه } أي ببرهان ونور منه سبحانه وتعالى هذا في الدنيا وأما في الآخرة فيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار أي بساتين غناء تجري الأنهار المختلفة من خلال الأشجار والقصور خالدين فيها لا يخرجون منها أبدا، وفوق ذلك رضي الله عنهم بطاعتهم إياه ورضوا عنه في الآخرة بإدخاله إياهم الجنة دار المتقين.
وقوله تعالى: { أولئك حزب الله } أي أولئك العالون في كمالاتهم الروحية حزب الله أي جنده وأولياؤه، ثم أعلن تعالى عن فوزهم ونجاحهم فقال: { ألا إن حزب الله هم المفلحون } أي الفائزون يوم القيامة بالنجاة من النار ودخول الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كتب الله الذل والصغار على من حاده وحاد رسوله بمخالفتهما فيما يحبان ويكرهان.
2- قضى الله تعالى بنصرة رسوله فنصره إنه قوي عزيز.
3- حرمة موالاة الكافر بالنصرة والمحبة ولو كان أقرب قريب، وقد قاتل أصحاب رسول الله آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم في بدر. وفيهم نزلت هذه الآية تبشرهم برضوان الله تعالى لهم، وإنعامه عليهم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم.
[59 - سورة الحشر]
[59.1-5]
شرح الكلمات:
سبح لله ما في السماوات وما في الأرض: أي نزه الله تعالى وقدسه بلسان الحال والقال ما في السماوات وما في الأرض من سائر الكائنات.
وهو العزيز الحكيم: أي العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه.
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم: أي أخرج يهود بني النضير من ديارهم بالمدينة.
لأول الحشر: أي لأول حشر كان وثاني حشر كان من خيبر إلى الشام.
ما ظننتم أن يخرجوا: أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن بني النضير يخرجون من ديارهم.
وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله: أي وظن يهود بني النضير أن حصونهم تمنعهم مما قضى الله به عليهم من إجلائهم من المدينة.
فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا: أي فجاءهم الله من حيث لم يظنوا أنهم يؤتون منه.
وقذف في قلوبهم الرعب: أي وقذف الله تعالى الخوف الشديد من محمد وأصحابه.
يخربون بيوتهم بأيديهم: أي يخربون بيوتهم حتى لا ينتفع بها المؤمنون وليأخذوا بعض أبوابها وأخشابها المستحسنة معهم.
وأيدي المؤمنين: إذ كانوا يهدمون عليهم الحصون ليتمكنوا من قتالهم.
فاعتبروا يا أولي الأبصار: أي فاتعظوا بحالهم يا أصحاب العقول ولا تغتروا ولا تعتمدوا إلا على الله سبحانه وتعالى.
ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء: أي ولولا أن كتب الله عليهم الخروج من المدينة.
لعذبهم في الدنيا: أي بالقتل والسبي كما عذب بني قريظة إخوانهم بذلك.
ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله: جزاهم بما جزاهم به من عذاب الدنيا والآخرة بسبب مخالفتهم لله ورسوله ومعاداتهم لهما.
ما قطعتم من لينة أو تركتموها: أي ما قطعتم أيها المؤمنون من نخلة لينة أو تركتموها بلا قطع.
فبإذن الله وليخزي الفاسقين: أي فقطع ما قطعتم وترك ما تركتم كان بإرادة الله وكان ليجزي الله الفاسقين يهود بني النضير.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن جلاله وعظمته بأنه سبحه أي نزهه عن كل النقائص من الشريك والصاحبة والولد والعجز والنقص مطلقا بلسان القال ولسان الحال جميع ما في السماوات وما في الأرض من الملائكة والإنس والجن والحيوان والشجر والحجر والمدر، وأنه هو العزيز الانتقام الحكيم في تدبير حياة الأنام. هو الذي أخرج الذين كفروا من يارهم يهود بني النضير أجلاهم من ديارهم بالمدينة لأول الحشر إلى أذرعات بالشام ومنهم من نزل بخيبر وسيكون لهم حشر آخر حيث حشرهم عمر وأجلاهم من خيبر إلى الشام.
وقوله تعالى في خطاب المؤمنين: { ما ظننتم أن يخرجوا } أي من ديارهم وظنوا هم أنهم مانعتهم حصونهم من الله. فخاب ظنهم إذ أتاهم أمر الله من حيث لم يظنوا وذلك بأن قذف في قلوبهم الرعب والخوف الشديد من الرسول وأصحابه حتى أصبحوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين.
المؤمنون يخربونها من الظاهر لفتح البلاد وهم يخربونها من الباطن وذلك أن الصلح الذي تم بينهم وبين الرسول والمؤمنين أنهم يحملون أموالهم إلا الحلقة أي السلاح ويجلون عن البلاد إلى الشام وهو أول حشر لهم فكانوا إذا أعجبهم الباب أو الخشبة نزعوها من محلها فيخرب البيت لذلك. وقوله تعالى { فاعتبروا يأولي الأبصار } أي البصائر والنهي أي اتعظوا بحال بني النضير الأقوياء كيف قذف الله الرعب في قلوبهم وأجلوا عن ديارهم فاعتبروا يا أولي البصائر فلا تغتروا بقواكم ولكن اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه.
وقوله تعالى: { ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء } أزلا في اللوح المحفوظ لعذبهم في الدنيا بالسبي والقتل كما عذب بني قريظة بعدهم. ولهم في الآخرة عذاب النار، ثم علل تعالى لهذا العذاب الذي أنزله وينزله بهم بقوله: { ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله } أي خالفوهما وعادوهما، ومن يشاق الله يعاقبه بأشد العقوبات فإن الله شديد العقاب.
وقوله تعالى { ما قطعتم من لينة } أي من نخلة لينة أو تركتموها بلا قطع قائمة على أصولها فقد كان ذلك بإذن الله فلا إثم عليكم فيه فقد أسر به المؤمنين وأخزى به الفاسقين اليهود.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان جلال الله وعظمته مع عزه وحكمته في تسبيحه من كل المخلوقات العلوية والسفلية وفي إجلاء بني النضير من ديارهم وهو أول حشر وإجلاء تم لهم وسيعقبه حشر ثان وثالث.
2- بيان أكبر عبرة في خروج بني النضير، وذلك لما كان لهم من قوة ولما عليه المؤمنون من ضعف ومع هذا فقد انهزموا شر هزيمة وتركوا البلاد والأموال ورحلوا إلى غير رجعة. فعلى مثل هذا يتعظ المتعظون فإنه لا قوة تنفع مع قوة الله، فلا يغتر العقلاء بقواهم المادية بل عليهم أن يعتمدوا على الله أولا وآخرا.
3- علة هزيمة بني النضير ليست إلا محادتهم لله والرسول ومخالفتهم لهما وهذه سنته تعالى في كل من يحاده ويحاد رسوله فإنه ينزل به أشد أنواع العقوبات.
4- عفو الله تعالى على المجتهد إذا أخطأ وعدم مؤاخذته، فقد اجتهد المؤمنون في قطع نخل بني النضير من أجل إغاظتهم حتى ينزلوا من حصونهم. وأخطأوا في ذلك إذ قطع النخل المثمر فساد، ولكن الله تعالى لم يؤاخذهم لأنهم مجتهدون.
[59.6-7]
شرح الكلمات:
وما أفاء الله على رسوله منهم: أي وما رد الله ليد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال بني النضير.
فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب: أي أسرعتم في طلبه والحصول عليه خيلا ولا إبلا أي لم تعانوا فيه مشقة.
ولكن الله يسلط رسله على من يشاء: أي وقد سلط رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم على بني النضير ففتح بلادهم صلحا.
وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى: أي وما رد الله على رسوله من أموال أهل القرى التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل: أي لله جزء وللرسول جزء ولقرابة الرسول جزء ولليتامى جزء وللمساكين جزء ولابن السبيل جزء تقسم على المذكورين بالسوية.
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم: أي كيلا يكون المال متداولا بين الأغنياء الأقوياء ولا يناله الضعفاء والفقراء.
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا: أي وما أعطاكم الرسول وأذن لكم فيه أو أمركم به فخذوه وما نهاكم عنه وحظره عليكم ولم يأذن لكم فيه فانتهوا عنه.
واتقوا الله إن الله شديد العقاب: أي واتقوا الله فلا تعصوه ولا تعصوا رسوله واحذروا عقوبة الله على معصيته ومعصية رسوله فإن الله شديد العقاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في غزوة بني النضير إنه بعد الصلح الذي تم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تركوا حوائطهم أي بساتينهم فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب المسلمون في تلك البساتين ورأى بعضهم أنها ستقسم عليهم كما تقسم الغنائم فأبى الله تعالى ذلك عليهم وقال: { ومآ أفآء الله على رسوله } أي وما رد الله تعالى على رسوله من مال بني النضير. وكلمة رد تفسير لكلمة أفاء لأن الفيء الظل يتقلص ثم يرجع أي يرد وأموال بني النضير الأصل فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن بني النضير عاهدوا رسول الله وبمقتضى المعاهدة أبقى عليهم أموالهم فإذا نقضوا العهد وخانوا لم يستحقوا من المال شيئا لا سيما وأنهم تآمروا على قتله وكادوا ينفذون جريمتهم التي تحملوا تبعتها ولو لم ينفذوها وبداية القضية كالتالي:
أن المعاهدة التي تمت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين بني النضير من جملة بنودها أن يؤدوا مع الرسول ما يتحمل من ديات. وبعد وقعة أحد بنصف سنة حدث أن عمرو بن أمية الضمري قتل خطأ رجلين من بني كلب أو بني كلاب فجاء ذووهم يطالبون بديتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو المسئول عن المسلمين فخرج صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير في قريتهم التي تبعد عن المدينة بميلين يطالب بالإسهام في دية الرجلين الكلابيين بحكم المعاهدة فلما انتهى إليهم أنزلوه هو وأصحابه بأحسن مجلس وقالوا ما تطلبه هو لك يا أبا القاسم ثم خلوا بأنفسهم وقالوا إن الفرصة سانحة للتخلص من الرجل فجاءوا برحى " مطحنة " من صخرة وطلعوا بها إلى سطح المنزل وهموا أن يسقطوها على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الجدار مع أصحابه، وقبل أن يسقطوا الرحى أوحى الله إلى رسوله أن قم من مكانك فإن اليهود أرادوا إسقاط حجرعليك ليقتلوك فقام صلى الله عليه وسلم على الفور وتبعه أصحابه وسقط في أيدي اليهود.
وما إن رجع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أعلن الخروج إلى بني النضير فإنهم نقضوا عهدهم ووجب قتالهم فنزل بساحتهم وحاصرهم وجرت سفارة وانتهت بصلح يقضي بأن يجلو بنو النضير عن المدينة يحملون أموالهم على إبلهم دون السلاح ويلتحقوا بأذرعات بالشام فكان هذا أول حشر لهم إلى أرض المعاد والمحشر إلا أسرتين نزلتا بخيبر أسرة بني الحقيق الذين منهم حيي ابن اخطب والد صفية زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذه الغزوة بقية ستأتي عند قوله تعالى
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب
[الحشر: 11] الآيات.
من هنا علمنا أن مال بني النضير هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفاءه الله عليه فقال وما أفاء الله على رسوله منهم أي من بني النضير. ولما طمع المؤمنون فيه قال تعالى ردا عليهم فما أوجفتم عليه أي على أموال بني النضير أي ما ركبتم إليه خيلا ولا إبلا ولا أسرعتم عدوا إليهم لأنهم في طرف المدينة فلم تتحملوا سفرا ولا تعبا ولا قتالا موتا وجراحات فلذا لاحق لكم فيها فإنها فيء وليست بغنائم. ولكن الله يسلط رسله على من يشاء بدون حروب ولا قتال فيفيء عليهم بمال الكفرة الذي هو مال الله فيرده على رسله، وقد سلط الله حسب سنته في رسله محمدا صلى الله عليه وسلم على أعدائه بني النضير فحاز المال بدون قتال ولا سفر فهو له دون غيره ينفقه كما يشاء ومع هذا فقد أنفقه صلى الله عليه وسلم ولم يبق منه إلا قوت سنة لأزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن. وقوله تعالى { والله على كل شيء قدير } لا يمتنع منه قوي، ولا يتعزز عليه شريف سري.
وقوله تعالى: { مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى } أي من أموال أهل القرى التي ما فتحت عنوة ولكن صلحا فتلك الأموال تقسم فيئا على ما بين تعالى فلله وللرسول ولذي القربى أي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب.
واليتامى الذي لا عائل لهم، والمساكين الذين مسكنتهم الحاجة وابن السبيل وهو المسافر المنقطع عن بلاده وداره وماله. وعلة ذلك بينها تعالى بقوله: { كي لا يكون } أي المال { دولة } أي متداولا بين الأغنياء منكم، ولا يناله الضعفاء والفقراء فمن الرحمة والعدل أن يقسم الفيء على هؤلاء الأصناف المذكورين وما لله فهو ينفق في المصالح العامة وكذلك ما للرسول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم والباقي للمذكورين، وكذا خمس الغنائم فإنه يوزع على المذكورين في هذه الآية أما الأربعة أخماس فعلى المجاهدين.
وقوله تعالى: { ومآ آتاكم الرسول } من مال وغيره { فخذوه وما نهاكم عنه } أي من مال وغيره فانتهوا عنه واتقوا الله فلا تعصوه ولا تعصوا رسوله واحذروا عقابه فإن الله شديد العقاب أي معاقبته قاسية شديدة لا تطاق فيا ويل من تعرض لها بالكفر والفجور والظلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن مال بني النضير كان فيئا خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- أن الفيء وهو ما حصل عليه المسلمون بدون قتال وإنما بفرار العدو وتركه أو بصلح يتم بينه وبين المسلمين هذا الفيء يقسم على ما ذكر تعالى في هذه الآية إذ قال وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وأما الغنائم وهي ما أخذت عنوة بالقوة وسافر إليها المسلمون فإنها تخمس خمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل يوزع بينهم بالسوية، والأربعة الأخماس الباقية تقسم على المجاهدين الذين شاركوا في المعارك وخاضوها للرجل قسم وللفارس قسمان.
3- وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيق أحكامه والاستننان بسننه المؤكدة وحرمة مخالفته فيما نهى عنه أمته روى الشيخان ان ابن مسعود رضي الله عنه قال لعن الله الواشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلف الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل؟ فقالت لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال إن كنت قرأته فقد وجدته. أما قرأت قوله تعالى { ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } قالت: بلى. قال: فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه. أي الوشم الخ.
[59.8-10]
شرح الكلمات:
يبتغون فضلا من الله ورضوانا: أي هاجروا حال كونهم طالبين من الله رزقا يكفيهم ورضا منه تعالى.
أولئك هم الصادقون: أي في إيمانهم حيث تركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا ينصرون الله ورسوله.
والذين تبوءوا الدار والإيمان: أي والأنصار الذين نزلوا المدينة وألفوا الإيمان بعدما اختاروه على الكفر.
من قبلهم: أي من قبل المهاجرين.
ولا يجدون في صدورهم حاجة: أي حسدا ولا غيظا.
مما أوتوا: أي مما أوتى أخوانهم المهاجرون من فيىء بني النضير.
ويؤثرون على أنفسهم: أي في كل شيء حتى إن الرجل منهم تكون تحته المرأتان فيطلق أحداهما ليزوجها مهاجرا.
ولو كان بهم خصاصة: أي حاجة شديدة وخلة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به.
ومن يوق شح نفسه: أي ومن يقه الله تعالى حرص نفسه على المال والبخل به.
والذين جاءوا من بعدهم: أي من بعد المهاجرين والأنصار من التابعين إلى يومنا هذا فما بعد.
ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا: أي حقدا أي انطواء على العداوة والبغضاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن فيء بني النضير وتوزيع الرسول صلى الله عليه وسلم له فقال تعالى { للفقرآء } أي أعجبوا أن يعطى فيء بني النضير للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون أي حال كونهم في خروجهم يطلبون فضلا من الله أي رزقا يكف وجوههم عن المسآلة ورضوانا من ربهم أي رضا عنهم لا يعقبه سخط. إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى فيء بني النضير للمهاجرين ولم يعط للأنصار إلا ما كان من أبي دجانة وسهل بن حنيف فقد ذكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة فأعطاهما. فتكلم المنافقون للفتنة وعابوا صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية يعجب منهم الرسول والمؤمنين في إنكارهم على عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين دون الأنصار، وهو قوله تعالى { للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } أي في إيمانهم إذ صدقوا القول بالعمل، وما كان معتقدا باطنا أصبح عملا ظاهرا بهذه الأوصاف التي ذكر تعالى للمهاجرين أعطاهم الرسول من فيء بني النضير. وأما الأنصار الذين لم يعطهم المال الزائل وهم في غير حاجة إليه فقد أعطاهم ما هو خير من المال. واسمع ثناءه تعالى عليهم: { والذين تبوءوا الدار } أي المدينة النبوية والإيمان أي بوأوه قلوبهم وأحبوه وألفوه. من قبلهم أي من قبل نزول المهاجرين إلى المدينة يحبون من هاجر إليهم من سائر المؤمنين الذين يأتون فرارا بدينهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة أي حسدا ولا غيظا مما أوتوا أي مما أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين.
ويؤثرون على أنفسهم غيرهم من المهاجرين ولو كان بهم خصاصة أي حاجة شديدة وخلة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به، وفي السيرة من عجيب إيثارهم العجب العجاب في أن الرجل يكون تحته امرأتان فيطلق إحداهما فإذا انتهت عدتها زوجها أخاه المهاجر فهل بعد هذا الإيثار من إيثار؟.
وقوله تعالى { ومن يوق شح نفسه } أي من يقيه الله تعالى مرض الشح وهو البخل بالمال والحرص على جمعه ومنعه فهو في عداد المفلحين وقد وقى الأنصار هذا الخطر فهم مفلحون فهذا أيضا ثناء عليهم وبشرى لهم.
وقوله تعالى: { والذين جآءوا من بعدهم } أي من بعد المهاجرين الأولين والأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان يقولون في دعائهم الدائم لهم { ربنا } أي يا ربنا { اغفر لنا } أي ذنوبنا واغفر { ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } وهم المهاجرون والأنصار، { ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } بك وبرسولك { ربنآ إنك رءوف رحيم } أي ذو رأفة بعبادك ورحمة بالمؤمنين بك فاستجب دعاءنا فاغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا لهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل المهاجرين والأنصار، وأن حبهم إيمان وبغضهم كفران.
2- فضيلة الإيثار على النفس.
3- فضيلة إيواء المهاجرين ومساعدتهم على العيش في دار الهجرة المهاجرين الذين هاجروا في سبيل الله تعالى فرارا بدينهم ونصرة لإخوانهم المجاهدين والمرابطين.
4- خطر الشح وهو البخل بما وجب إخراجه من المال والحرص على جمعه من الحلال والحرام.
5- بيان طبقات المسلمين ودرجاتهم وهي ثلاثة بالإجمال:
1- المهاجرون الأولون.
2- الأنصار الذين تبوءوا الدار " المدينة " وألفوا الإيمان.
3- من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين إلى قيام الساعة من أهل الإيمان والتقوى.
[59.11-14]
شرح الكلمات:
ألم تر: أي ألم تنظر.
نافقوا: أي أظهروا الإيمان وأخفوا في نفوسهم الكفر.
لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب: أي يهود بني النضير.
لئن أخرجتم: أي من دياركم بالمدينة.
لنخرجن معكم: أي نخرج معكم ولا نبقى بعدكم في المدينة.
وإن قوتلتم: أي قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
لننصرنكم: أي بالرجال والسلاح.
والله يشهد إنهم لكاذبون: أي فيما وعدوا به إخوانهم من بني النضير.
ولئن نصروهم: أي وعلى فرض أنهم نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون المنافقون كاليهود سواء.
لأنتم أشد رهبة في صدورهم: أي تالله لأنتم أشد خوفا في صدورهم.
من الله: لأن الله تعالى يؤخر عذابهم وأنتم تعجلونه لهم.
ذلك بأنهم: أي المنافقين.
قوم لا يفقهون: لظلمة كفرهم وعدم استعدادهم للفهم عن الله ورسوله.
لا يقاتلونكم جميعا: أي لا يقاتلكم يهود بني النضير مجتمعين.
إلا في قرى محصنة: أي بالأسوار العالية.
أو من وراء جدر: أي من وراء المباني والجدران أما المواجهة فلا يقدرون عليها.
بأسهم بينهم شديد: أي العداوة بينهم شديدة والبغضاء أشد.
تحسبهم جميعا: أي مجتمعين.
وقلوبهم شتى: أي متفرقة خلاف ما تحسبهم عليه.
بأنهم قوم لا يعقلون: إذ لو كانوا يعقلون لاجتمعوا على الحق ولا ما كفروا به وتفرقوا فيه فهذا دليل عدم عقلهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة بني النضير فيقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { ألم تر } أي تنظر يا رسولنا إلى الذين نافقوا وهم عبدالله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس إذ بعثوا إلى بني النضير حين نزل بساحتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحربهم بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنعوا وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجنا خرجنا معكم غير أنهم لم يفوا لهم ولم يأتهم منهم أحد وقذف الله الرعب في قلوبهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة " السلاح " هذا معنى قوله تعالى { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا } من أهل الكتاب " يهود بني النضير " لئن أخرجتم من المدينة لنخرجن معكم، ولا نطيع فيكم أي في نصرتكم والوقوف إلى جنبكم أحدا كائنا من كان وإن قوتلتم أي قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله لننصرنكم. والله يشهد إنهم لكاذبون فيما قالوا لهم وفعلا لم يقاتلوا معهم ولم يخرجوا معهم كما خرجوا من ديارهم. وهو قوله تعالى { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } وعلى فرض أنهم نصروهم ليولن الأدبار هاربين من المعركة، ثم لا ينصرون اليهود كالمنافقين سواء.
وقوله تعالى: { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله } يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم أشد رهبة أي خوفا في صدور المنافقين من الله تعالى لأنهم يرون أن لله تعالى يؤجل عذابهم، وأما المؤمنون فإنهم يأخذونهم بسرعة للقاعدة (من بدل دينه فاقتلوه) فإذا أعلنوا عن كفرهم وجب قتلهم وقتالهم.
وقوله تعالى: { ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } هذا بيان لجبنهم وخوفهم الشديد من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. إذ لو كانوا يفقهون لما خافوا البعد ولم يخافوا المعبود.
وقوله تعالى: { لا يقاتلونكم جميعا } أي اليهود والمنافقون { إلا في قرى محصنة } بأسوار وحصون أو من وراء جدر أي في المباني ووراء الجدران. وقوله تعالى { بأسهم بينهم شديد } أي العداوة بينهم قوية والبغضاء شديدة تحسبهم جميعا في الظاهر وأنهم مجتمعون ولكن { وقلوبهم شتى } أي متفرقة لا تجتمع على غير عداوة الإسلام وأهله، وذلك لكثرة أطماعهم وأغراضهم وأنانيتهم وأمراضهم النفسية والقلبية.
وقوله تعالى { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } إذ لو كانوا يعقلون لما حاربوا الحق وكفروا به وهم يعملون فعرضوا أنفسهم لغضب الله ولعنته وعذابه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير حقيقة وهي أن الكفر ملة واحدة وأن الكافرين إخوان.
2- خلف الوعد آية النفاق وعلاماته البارزة.
3- الجبن والخوف صفة من صفات اليهود اللازمة لهم ولا تنفك عنهم.
4- عامة الكفار يبدون متحدين ضد الإسلام وهم كذلك ولكنهم فيما تمزقهم العداوات وتقطعهم الأطماع وسوء الأغراض والنيات.
[59.15-20]
شرح الكلمات:
كمثل الذين من قبلهم قريبا: أي مثل يهود بني النضير في ترك الإيمان ومحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم كمثل إخوانهم بني قينقاع والمشركين في بدر.
ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم: أي ذاقوا عاقبة كفرهم وحربهم لرسول الله ولهم عذاب أليم في الآخرة.
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان: أي ومثلهم أيضا في سماعهم من المنافقين وخذلانهم لهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان.
اكفر فلما كفر قال إني بريء منك: أي قال له الشيطان بعد أن كفره إني بريء منك.
وذلك جزاء الظالمين: أي خلودهما في النار أي الغاوي والمغوى ذلك جزاءهما وجزاء الظالمين.
ولتنظر نفس ما قدمت لغد: أي لينظر كل أحد ما قدم ليوم القيامة من خير وشر.
ولا تكونوا كالذين نسوا الله: أي ولا تكونوا أيها المؤمنون كالذين نسوا الله فتركوا طاعته.
فأنساهم أنفسهم: أي فعاقبهم بأن أنساهم أنفسهم فلم يعملوا خيرا قط.
لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة: أي لأن أصحاب الجنة فائزون بالسلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب. وأصحاب النار خاسرون.
أصحاب الجنة هم الفائزون: في جهنم خالدون. فكيف يستويان؟.
معنى الآيات:
قوله تعالى { كمثل الذين من قبلهم } هذه الآية [15] واللتان بعدها [16] و [17] في بقية الحديث عن بني النضير إذ قال تعالى مثل بني النضير في هزيمتهم بعد نقضهم العهد كمثل الذين من قبلهم في الزمان والمكان وهم بنو قينقاع إذ نقضوا عهدهم فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاقوا وبال أمرهم أي عاقبة نقضهم وكفرهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم أي موجع شديد وقوله تعالى { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } بوسائله الخاصة فلما كفر الإنسان تبرأ منه الشيطان وقال إني بريء منك إني إخاف الله رب العالمين كذلك حال بني النضير مع المنافقين حيث حرضوهم على الحرب والقتال وواعدوهم أن يكونوا معهم ثم خذلوهم وتركوهم وحدهم.
وقوله تعالى: { فكان عاقبتهمآ } أي عاقبة أمرهما أنهما أي الإنسان والشيطان أنهما في النار خالدين فيها، وذلك أي خلودهما في النار جزاء الظالمين أي المشركين والفاسقين عن طاعة الله عز وجل.
وبعد نهاية قصة بني النضير نادى تعالى المؤمنين ليوجههم وينصح لهم فقال { يأيها الذين آمنوا } أي صدقوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا اتقوا الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي ولينظر أحدكم في خاصة نفسه ماذا قدم لغد أي يوم القيامة. واتقوا الله، أعاد الأمر بالتقوى لأن التقوى هي ملاك الأمر ومفتاح دار السلام والسعادة، وقوله تعالى: { إن الله خبير بما تعملون } يشجعهم على مراقبة الله تعالى والصبر عليها.
وقوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } أي لا تكونوا كأناس تركوا العمل بطاعة الله وطاعة رسوله فعاقبهم ربهم بأن أنساهم أنفسهم فلم يعملوا لها خيرا وأصبحوا بذلك فاسقين عن أمر الله تعالى خارجين عن طاعته. وقوله تعالى { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } ، أصحاب النار في الدركات السفلى، وأصحاب الجنة في الفراديس العلا فكيف يستويان، إذ أصحاب الجنة فائزون، وأصحاب النار خاسرون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ضرب مثل لحال الكافرين في عدم الاتعاظ بحال غيرهم.
2- التحذير من سبل الشيطان وهي الإغراء بالمعاصي وتزيينها فاذا وقع العبد في الهلكة تبرأ الشيطان منه وتركه في محنته وعذابه.
3- وجوب التقوى بفعل الأوامر وترك النواهي.
4- وجوب مراقبة الله تعالى والنظر يوميا فيما قدم الإنسان للآخرة وما أخر.
5- التحذير من نسيان الله تعالى المقتضي لعصيانه فإن عقوبته خطيرة وهي أن ينسى الله العبد نفسه فلا يقدم لها خيرا قط فيهلك ويخسر خسرانا مبينا.
6- عدم التساوي بين أهل النار وأهل الجنة، إذ أصحاب النار لم ينجو من المرهوب وهو النار، ولم يظفروا بمرغوب وهو الجنة، وأصحاب الجنة عل العكس سلموا من المرهوب، وظفروا بالمرغوب نجوا من النار ودخلوا الجنان.
[59.21-24]
شرح الكلمات:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل: أي وجعلنا فيه تميزا وعقلا وإدراكا.
لرأيته خاشعا متصدعا: أي لرأيت ذلك الجبل متشققا متطامنا ذليلا.
من خشية الله: أي من خوف الله خشية أن يكون ما أدى حقه من التعظيم.
وتلك الأمثال نضربها للناس: أي مثل هذا المثل نضرب الأمثال للناس.
لعلهم يتفكرون: أي يتذكرون فيؤمنون ويوحدون ويطيعون.
هو الله الذي لا إله إلا هو: أي الله المعبود بحق الذي لا معبود بحق إلا هو عز وجل.
عالم الغيب والشهادة: أي عالم السر والعلانية.
هو الرحمن الرحيم: أي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
هو الله الذي لا إله إلا هو: أي لا معبود بحق إلا هو لأنه الخالق الرازق المدبر وليس لغيره ذلك.
الملك القدوس: أي الذي يملك كل شيء ويحكم كل شيء القدوس الطاهر المنزه عما لا يليق به.
السلام المؤمن المهيمن: أي ذو السلامة من كل نقص الذي لا يطرأ عليه النقص المصدق رسله بالمعجزات. المهيمن: الرقيب الشهيد على عباده بأعمالهم.
العزيز الجبار المتكبر: العزيز في انتقامه الجبار لغيره على مراده، المتكبر على خلقه.
سبحان الله عما يشركون: أي تنزيها لله تعالى عما يشركون من الآلهة الباطلة.
هو الله الخالق البارىء: أي هو الإله الحق لا غيره الخالق لكل المخلوقات المنشىء لها من العدم.
المصور: أي مصور المخلوقات ومركبها على هيئات مختلفة.
له الأسماء الحسنى: أي تسعة وتسعون اسما كلها حسنى في غاية الحسن.
يسبح له ما في السماوات والأرض: أي ينزهه ويسبحه بلسان القال والحال جميع ما في السماوات والأرض.
وهو العزيز الحكيم: أي العزيز الغالب على أمره الحكيم في جميع تدبيره.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { لو أنزلنا هذا القرآن... } لما أمر تعالى في الآيات السابقة ونهى ووعظ وذكر بما لا مزيد عليه أخبر أنه لو أنزل هذا القرآن العظيم على جبل بعد أن خلق فيه إدراكا وتمييزا كما خلق ذلك في الإنسان لرؤي ذلك الجبل خاشعا ذليلا متصدعا متشققا من خشية الله أي من الخوف من الله لعله قصر في حق الله وحق كتابه ما أداهما على الوجه المطلوب، وفي هذا موعظة للمؤمنين ليتدبرا القرآن ويخشعوا عند تلاوته وسماعه. ثم أخبر تعالى أن ما ضرب من أمثال في القرآن ومنها هذا المثل المضروب بالجبل. يقول نجعلها للناس رجاء أن يتفكروا فيؤمنوا ويهتدوا إلى طريق كمالهم وسعادتهم ثم أخبر تعالى عن جلاله وكماله بذكر أسمائه وصفاته فقال { هو الله الذي لا إله إلا هو } أي لا معبود بحق إلا هو، عالم الغيب والشهادة أي السر والعلن والموجود والمعدوم والظاهر والباطن. هو الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء الرحيم بعباده المؤمنين، الملك الذي له ملك السموات والأرض والمدبر للأمر في الأرض والسماء القدوس الطاهر المنزه عن كل نقص وعيب عن الشريك والصاحبة والولد.
السلام ذو السلامة من كل نقص مفيض السلام على من شاء من عباده. المؤمن المصدق رسله بما آتاهم من المعجزات المصدق عباده المؤمنين فيما يشكون إليه مما أصابهم، ويطلبونه ما هم في حاجة إليه من رغائبهم وحاجاتهم، المهيمن على خلقه الرقيب عليهم المتحكم فيهم لا يخرج شيء من أعمالهم وتصرفاتهم عن إرادته وإذنه، العزيز الغالب على أمره الذي لا يمانع فيما يريده. الجبار للكل على مراده وما يريده، المتكبر على كل خلقه وله الكبرياء في السماوات والأرض والجلال والكمال والعظمة.
وقوله تعالى { سبحان الله عما يشركون } نزه تعالى نفسه عما يشرك به المشركون من عبدة الأصنام والأوثان وغيرها من كل ما عبد من دونه سبحانه وتعالى هو الله الخالق الباريء المصور: المقدر للخلق الباريء له المصور له في الصورة التي أراد أن يوجده عليها. له الأسماء الحسنى وهي مائة اسم إلا اسما واحدا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وأسماؤه متضمنة صفاته وكل أسمائه حسنى وكل صفاته عليا منزه عن صفات المحدثين يسبح له ما في السماوات والأرض من مخلوقات وكائنات أي ينزهه ويقدسه عما لا يليق به ويدعوه ويرغب إليه في بقائه وكمال حياته. وهو العزيز الحكيم الغالب على أمره الحكيم في تدبير ملكه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ما حواه القرآن من العظات والعبر، والأمر والنهي والوعد والوعيد الأمر الذي لو أن جبلا ركب فيه الإدراك والتمييز كالإنسان ونزل عليه القرآن لخشع وتصدع من خشية الله.
2- استحسان ضرب الأمثال للتنبيه والتعليم والإرشاد.
3- تقرير التوحيد، وأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
4- إثبات أسماء الله تعالى، وأنها كلها حسنى، وأنها متضمنة صفات عليا.
5- ذكر أسمائه تعالى تعليم لعباده بها ليدعوه بها ويتوسلوا بها إليه.
[60 - سورة الممتحنة]
[60.1-3]
شرح الكلمات:
لا تتخذوا عدوي وعدوكم: أي الكفار والمشركين.
أولياء تلقون إليهم بالمودة: أي لا تتخذوهم أنصارا توادونهم.
وقد كفروا بما جاءكم من الحق: أي الإسلام عقيدة وشريعة.
يخرجون الرسول وإياكم: أي بالتضييق عليكم حتى خرجتم فارين بدينكم.
أن تؤمنوا بربكم: أي لأجل أن آمنتم بربكم.
إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي ابتغاء مرضاتي: فلا تتخذوهم أولياء ولا تبادلوهم المودة.
تسرون إليهم بالمودة: أي توصلون إليهم خبر خروج الرسول لغزوهم بطريقة سرية.
ومن يفعله منكم: أي ومن يوادهم فينقل إليهم أسرار النبي في حروبه وغيرها.
فقد ضل سواء السبيل: أي أخطأ طريق الحق الجادة الموصلة إلى الإسعاد.
إن يثقفوكم: أي أن يظفروا بكم متمكنين منكم من مكان ما.
يكونوا لكم أعداء: أي لا يعترفون لكم بمودة.
ويبسطوا إليكم أيديهم: أي بالضرب والقتل.
وألسنتهم بالسوء: أي بالسب والشتم.
وودوا لو تكفرون: أي وأحبوا لو تكفرون بدينكم ونبيكم وتعودون إلى الشرك معهم.
لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم: أي إن توادوهم وتسروا إليهم بالأخبار الحربية تقربا إليهم من أجل أن يراعوا لكم أقرباءكم وأولادكم المشركين بينهم فاعلموا أنكم لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة.
يوم القيامة يفصل بينكم: أي فتكونون في الجنة ويكون المشركون في أولاد وأقرباء وغيرهم في النار.
معنى الآيات:
فاتحة هذه السورة { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء... } الآيات. نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة وكان من المهاجرين الذين شهدوا بدرا روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال ائتوا روضة خاخ " موضع بينه وبين المدينة اثناء عشر ميلا " فإن بها ظعينة " امرأة مسافرة " معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا نهادى خيلنا أي نسرعها فإذا نحن بامرأة قلنا أخرجي الكتاب، فقالت ما معي كتاب. فقلنا لتخرجن الكتاب، أو لتلقن الثياب " أي من عليك " فأخرجته من عقاصها أي من ظفائر شعر رأسها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ فقال لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرءا ملصقا في قريش " أي كان حليفا لقريش ولم يكن قرشيا " وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيه أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وإن كتابي لا يغني عنهم من الله شيئا، وأن الله ناصرك عليهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق. فقال عمر رضي الله عنه دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عز وجل { يأيها الذين آمنوا } أي يا من صدقتم الله ورسوله { لا تتخذوا عدوي وعدوكم } من الكفار والمشركين { أوليآء } أي أنصارا { تلقون إليهم بالمودة } أي أسرار النبي صلى الله عليه وسلم الحربية ذات الخطر والشأن. والحال أنهم قد كفروا بما جاءكم من الحق الذي هو دين الإسلام بعقائده وشرائعه وكتابه ورسوله. يخرجون الرسول وإياكم من دياركم بالمضايقة لكم حتى هاجرتم فارين بدينكم، أن تؤمنوا بربكم أي من أجل أن آمنتم بربكم. أمثل هؤلاء الكفرة الظلمة تتخذونهم أولياء تدلون إليهم بالمودة.. إنه لخطأ جسيم ممن فعل هذا.
وقوله تعالى: { إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغآء مرضاتي } أي إن كنتم خرجتم من دياركم مجاهدين في سبيلي أي لنصرة ديني ورسولي وأوليائي المؤمنين وطلبا لرضاي فلا تتخذوا الكافرين أولياء من دوني تلقون إليهم بالمودة.
وقوله تعالى تسرون إليهم بالمودة أي تخفون المودة إليهم بنقل أخبار الرسول السرية والحال أني { أعلم } منكم ومن غيركم { بمآ أخفيتم ومآ أعلنتم }. وها قد أطلعت رسولي على رسالتكم المرفوعة إلى مشركي مكة والتي تتضمن فضح سر رسولي في عزمه على غزوهم مفاجأة لهم حتى يتمكن من فتح مكة بدون كثير إراقة دم وإزهاق أنفس.
وقوله تعالى: { ومن يفعله منكم } أي الولاء والمودة للمشركين فقد ضل سواء السبيل أي أخطأ وسط الطريق المأمون من الانحراف يريد جانب الإسلام الصحيح.
وقوله تعالى: { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } أي أنهم أعداؤكم حقا إن يثقفوكم أي يظفروا بكم متمكنين منكم يكونوا لكم أعداء ولا يبالون بمودتكم إياهم، ويبسطوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالسب والشتم وتمنوا كفركم لتعودوا إلى الشرك مثلهم.
وقوله تعالى: { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } الذين واددتم الكفار من أجلهم من عذاب الله في الآخرة إذ حاطب كتب الكتاب من أجل قرابته وأولاده فبين تعالى خطأ حاطب في ذلك.
وقوله تعالى: { يوم القيامة يفصل بينكم } بأن تكونوا في الجنة أيها المؤمنون ويكون أقرباؤكم وأولادكم المشركون في النار فما الفائدة إذا من المعصية من أجلهم؟! والله بما تعملون بصير فراقبوه واحذروه فلا تخرجوا عن طاعته وطاعة رسوله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة موالاة الكافرين بالنصرة والتأييد والمودة دون المسلمين.
2- الذي ينقل أسرار المسلمين الحربية إلى الكافرين على خطر عظيم وإن صام وصلى.
3- بيان أن الكافرين لا يرحمون المؤمنين متى تمكنوا منهم لأن قلوبهم عمياء لا يعرفون معروفا ولا منكرا بظلمة الكفر في نفوسهم وعدم مراقبة الله عز وجل لأنهم لا يعرفونه ولا يؤمنون بما عنده من نعيم وجحيم يوم القيامة.
4- فضل أهل بدر وكرامتهم على الله عز وجل.
5- قبول عذر الصادقين الصالحين ذوي السبق في الإسلام إذا عثر أحدهم اجتهادا منه.
6- عدم انتفاع المرء بقرابته يوم القيامة إذا كان مسلما وهم كافرون.
[60.4-6]
شرح الكلمات:
قد كان لكم: أي أيها المؤمنون.
أسوة حسنة: أي قدوة صالحة.
في إبراهيم والذين معه: من المؤمنين فأتسوا بهم.
إذ قالوا لقومهم: أي المشركين.
إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله: أي نحن متبرئون منكم، ومن أوثانكم التي تعبدونها.
كفرنا بكم: أي جحدنا بكم فلم نعترف لكم بقرابة ولا ولاء.
وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء: أي ظهر ذلك واضحا جليا لا لبس فيه ولا خفاء.
حتى تؤمنوا بالله وحده: أي ستستمر عداوتنا لكم وبغضنا إلى غاية إيمانكم بالله وحده.
وإليك أنبنا: أي رجعنا في أمورنا كلها.
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا: أي بأن تظهرهم علينا فيفتنوننا في ديننا ويفتتنون بنا يرون أنهم على حق لما يغلبوننا.
لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة: أي لقد كان لكم أيها المؤمنون في إبراهيم والذين معه أسوة حسنة.
لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر: أي هي أسوة حسنة لمن كان يؤمن بالله ويرجو ما عنده يوم القيامة.
ومن يتول: أي لم يقبل ما أرشدناه إليه من الإيمان والصبر فيعود إلى الكفر.
فإن الله غني حميد: أي فإن الله ليس في حاجة إلى إيمانه وصبره فإنه غني بذاته لا يفتقر إلى غيره، حميد أي محمود بآلائه وإنعامه على عباده.
معنى الآيات:
لما حرم تعالى على المؤمنين موالاة الكافرين مع وجود حاجة قد تدعو إلى موالاتهم كما جاء ذلك في اعتذار حاطب بن أبي بلتعة أراد تعالى أن يشجعهم على معاداة الكافرين وعدم موالاتهم بحال من الأحوال لما في ذلك من الضرر والخطر على العقيدة والصلة بالله وهي أعز ما يملك المؤمنون أعلمهم بأنه يوجد لهم أسوة أي قدوة حسنة في إبراهيم خليله والمؤمنين معه فإنهم على قلتهم وكثرة عدوهم وعلى ضعفهم وقوة خصومهم تبرأوا من أعداء الله وتنكروا لأية صلة تربطهم بهم فقالوا ما قص الله تعالى عنهم في قوله { إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله } " من أصنام وأوثان " كفرنا بكم فلم نعترف لكم بوجود يقتضي مودتنا ونصرتنا لكم، وبدا أي ظهر بيننا وبينكم العداوة والبغضاء بصورة مكشوفة لا ستار عليها لأننا موحدون وأنتم مشركون، لأننا مؤمنون وأنتم كافرون، وسوف تستمر هذه المعاداة وهذه البغضاء بيننا وبينكم حتى تؤمنوا بالله وحده ربا وإلها لا رب غيره ولا إله سواه إذا فأتسوا أيها المسلمون بإمام الموحدين إبراهيم اللهم إلا ما كان من استغفار إبراهيم لأبيه فلا تأتسوا به ولا تستغفروا لموتاكم المشركين فإن إبراهيم قد ترك ذلك لما علم أن أباه لا يؤمن وأنه يموت كافرا وأنه في النار فقال تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه " آزر " لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء أي غير الاستغفار.
وكان هذا عن وعد قطعه له ساعة المفارقة له إذ قال في سورة مريم:
قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا
[الآية: 47] وجاء في سورة التوبة قوله تعالى
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه
[الآية: 114].
وقوله تعالى { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا } أي رجعنا من الكفر إلى الإيمان بك وتوحيدك في عبادتك، وإليك المصير. أي مصير كل شيء يعود إليك وينتهي عندك فتقضى وتحكم بما تشاء. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا أي لا تظهرهم علينا فيفتنونا في ديننا ويردونا إلى الكفر، ويفتنون بنا فيرون أنهم لما غلبونا أنهم على حق ونحن على باطل فيزدادون كفرا ولا يؤمنون.
واغفر لنا ربنا أي ذنوبنا السالفة واللاحقة فلا تؤاخذنا بها إنك أنت العزيز الغالب المنتقم ممن عصاك الحكيم في تدبيرك لأوليائك فدبر لنا ما ينفعنا ويرضيك عنا. هذا الابتهال والضراعة من قوله تعالى ربنا عليك توكلنا إلى الحكيم من الجائز أن يكون هذا مما قاله إبراهيم والمؤمنون معه وأن يكون إرشادا من الله للمؤمنين أن يقولوه تقوية لإيمانهم وتثبيتا لهم عليه كما فعل ذلك إبراهيم ومن معه. وقوله تعالى لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر تأكيد لما سبق وتقرير له وتحريك للهمم لتأخذ به. وقوله لمن كان يرجو الله واليوم الآخر إذ هم الذين ينتفعون بالعبر ويأخذون بالنصائح لحياة قلوبهم بالإيمان.
وقوله تعالى: ومن يتول أي عن الأخذ بهذه الأسوة فيوالى الكافرين فإن الله غني عن إيمانه وولايته له التي استبدلها بولاية أعدائه حميد أي محمود بآلائه وإنعامه على خلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الاقتداء بالصالحين في الإيتساء بهم في الصالحات.
2- حرمة موالاة الكافرين ووجوب معاداتهم ولو كانوا أقرب قريب.
3- كل عداوة وبغضاء تنتهي برجوع العبد إلى الإيمان والتوحيد بعد الكفر والشرك.
4- لا يجوز الاقتداء في غير الحق والمعروف فإذا أخطأ العبد الصالح فلا يتابع على الخطأ.
5- وجوب تقوية المؤمنين بكل أسباب القوة لأمرين الأول خشية أن يغلبهم الكافرون فيفتنوهم في دينهم ويردوهم إلى الكفر والثاني حتى لا يظن الكافرون الغالبون أنهم على حق بسبب ظهورهم على المسلمين فيزدادوا كفرا فيكون المسلمون سببا في ذلك فيأثمون للسببية في ذلك.
[60.7-9]
شرح الكلمات:
عاديتم منهم: أي من كفار قريش بمكة طاعة لله واستجابة لأمره.
مودة: أي محبة وولاء وذلك بأن يوفقهم للإيمان والإسلام فيؤمنوا ويسلموا ويصبحوا أولياءكم.
والله قدير: أي على ذلك وقد فعل فأسلم بعد الفتح أهل مكة إلا قليلا منهم.
لم يقاتلوكم في الدين: أي من أجل الدين.
أن تبروهم: أي تحسنوا إليهم.
وتقسطوا إليهم: أي تعدلوا فيهم فتنصفوهم.
إن الله يحب المقسطين: أي المنصفين العادلين في أحكامهم ومن ولوا.
وظاهروا على إخراجكم: أي عاونوا وناصروا العدو على إخراجكم من دياركم.
أن تولوهم: أي تتولهم بالنصرة والمحبة.
فأولئك هم الظالمون: لأنهم وضعوا الولاية في غير موضعها، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان حكم الموالاة للكافرين فإنه لما حرم تعالى ذلك، وكان للمؤمنين قرابات كافرة وبحكم إيمانهم واستجابتهم لنداء ربهم قاطعوهم فبشرهم تعالى في هذه الآية الكريمة بأنه عز وجل قادر على أن يجعل بينهم وبين أقربائهم مودة فقال عز من قائل { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم } أي من المشركين { مودة }. وذلك بأن يوفقهم للإسلام، وهو على ذلك قدير وقد فعل وله الحمد والمنة فقد فتح على رسوله مكة وبذلك آمن أهلها إلا قليلا فكانت المودة وكان الولاء والإيخاء مصداقا لقوله عز وجل عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله غفور رحيم فقد تاب عليهم بعد أن هداهم وغفر لهم ما كان منهم من ذنوب ورحمهم.
وقوله تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم } بمضايقتكم أن تبروهم أي بالإحسان إليهم بطعام أو كسوة أو إركاب وتقسطوا أي تعدلوا فيهم بأن تنصفوهم وهذا عام في كل الظروف الزمانية والمكانية وفي كل الكفار. ولكن بالشروط التي ذكر تعالى. وهي:
أولا: أنهم لم يقاتلونا من أجل ديننا.
وثانيا: لم يخرجونا من ديارنا بمضايقتنا وإلجائنا إلى الهجرة.
وثالثا: أن لا يعاونوا عدوا من أعدائنا بأي معونة ولو بالمشورة والرأي فضلا عن الكراع والسلاح.
وقوله تعالى: { إن الله يحب المقسطين } ترغيب لهم في العدل والإنصاف حتى مع الكافر وقوله تعالى { إنما ينهاكم الله } عن موالاة الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا أي أعانوا { على إخراجكم أن تولوهم } أي ينهاكم عن موالاتهم. { ومن يتولهم } منكم معرضا عن هذا الإرشاد الإلهي والأمر الرباني { فأولئك هم الظالمون } أي لأنفسهم المتعرضون لعذاب الله ونقمته لوضعهم الموالاة في غير موضعها بعدما عرفوا ذلك وفهموه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان حكم الموالاة الممنوعة والمباحة في الإسلام.
2- الترغيب في العدل والإنصاف بعد وجوبهما للمساعدة على القيام بهما.
3- تقرير ما قال أهل العلم: أن عسى من الله تفيد وقوع ما يرجى بها ووجوده لا محالة. بخلافها من غير الله فهي للترجي والتوقع وقد يقع ما يترجى بها وقد لا يقع.
[60.10-11]
شرح الكلمات:
إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات: أي المؤمنات بألسنتهن مهاجرات من الكفار.
فامتحنوهن: أي اختبروهن بالحلف أنهن ما خرجن إلا رغبة في الإسلام لا بغضا لأزواجهن، ولا عشقا لرجال من المسلمين.
فإن علمتموهن مؤمنات: أي صادقات في إيمانهن بحسب حلفهن.
فلا ترجعوهن إلى الكفار: أي لا تردوهن إلى الكفار بمكة.
لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن: لا المؤمنات يحللن لأزواجهن الكافرين، ولا الكافرون يحلون لأزواجهم المؤمنات.
وآتوهم ما أنفقوا: أي وأعطوا الكفار أزواج المؤمنات المهاجرات المهور التي أعطوها لأزواجهم.
ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن: أي مهورهن، وإن لم يتم طلاق من أزواجهن لانفساخ العقد بالإسلام. وبعد انقضاء العدة في المدخول بها وباقي شروط النكاح.
ولا تمسكوا بعصم الكوافر: أي زوجاتكم، لقطع إسلامكم للعصمة الزوجية. وكذا من ارتدت ولحقت بدار الكفر. إلا أن ترجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها فلا يفسخ نكاحها وتبقى العصمة إن كان مدخولا بها.
واسألوا ما أنفقتم: أي أطلبو ما أنفقتم عليهن من مهور في حال الارتداد.
وليسألوا ما أنفقوا: أي على المهاجرات من مهور في حال إسلامهن.
وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار: أي بأن فرت امرأة أحدكم إلى الكفار ولحقت بهم ولم يعطوكم مهرها فعاقبتم أي الكفار فغنمتم منهم غنائم.
فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا: أي فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار مثل ما أنفقوا عليهن من مهور.
واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون: أي وخافوا الله الذي أنتم به مؤمنون فأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات } الآيتين [10] و [11] نزلتا بعد صلح الحديبية إذ تضمنت وثيقة الصلح أن من جاء الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة من الرجال رده إلى مكة ولو كان مسلما، ومن جاء المشركين من المدينة لم يردوه إليه ولم ينص عن النساء، وأثناء ذلك جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة من مكة إلى المدينة فلحق بها أخواها عمار والوليد ليرداهما إلى قريش فنزلت هذه الآية الكريمة فلم يردها عليهما صلى الله عليه وسلم قال تعالى { يأيها الذين آمنوا } أي يا من آمنتم بالله ربا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا والإسلام دينا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن - الله أعلم بإيمانهن - فإن علمتموهن أي غلب على ظنكم أنهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار وصورة الامتحان أن يقال لها احلفي بالله أي قولي بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت إلا رغبة في الإسلام لا بغضا لزوجي، ولا عشقا لرجل مسلم.
وقوله تعالى: { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } لأن الإسلام فصم تلك العصمة التي كانت بين الزوج وزوجته، إذ حرم الله نكاح المشركات، وإنكاح المشركين، ولذا لم يأذن الله تعالى في ردهن إلى أزواجهن الكافرين.
وقوله تعالى { وآتوهم مآ أنفقوا } إذا جاء زوجها المشرك يطالب بها أعطوه ما أنفق عليها من مهر والذي يعطيه هو جماعة المسلمين وإمامهم.
وقوله تعالى: { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن } أي تتزوجهن إذا آتيتموهن أجورهن أي مهورهن مع باقي شروط النكاح من ولي وشاهدين وانقضاء العدة في المدخول بها.
وقوله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } أي إذا أسلم الرجل وبقيت امرأته مشركة انقطعت عصمة الزوجية وأصبحت لا تحل لزوجها الذي أسلم، وكذا إذا ارتدت امرأة مسلمة ولحقت بدار الكفر فإن العصمة قد انقطعت، ولا يحل الإمساك بها وفائدة ذلك لو كان تحت الرجل نسوة له أن يزيد رابعة لأن التي ارتدت أو التي كانت مشركة وأسلم وهي في عصمته لا تمنعه من أن يتزوج رابعة لأن الإسلام قطع العصمة لقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر والعصم جمع عصمة.
وقوله تعالى: { واسألوا مآ أنفقتم } اطلبوا من المرتدة ما أنفقتم عليها من مهر يؤدى لكم وليسألوا هم ما أنفقوا وأعطوهم أيضا مهور نسائهم اللائي أسلمن وهاجرن إليكم وقوله تعالى: { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم } بخلقه وحاجاتهم { حكيم } في قضائه وتدبيره فليسلم له الحكم وليرض به فإنه قائم على أساس المصلحة للجميع.
وقوله تعالى { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا } أي وإن ذهب بعض نسائكم إلى الكفار مرتدات، وطالبتم بالمهور فلم يعطوكم، ثم غزوتم وغنمتم فأعطوا من الغنيمة قبل قسمتها الذي ذهبت زوجته إلى دار الكفر ولم يحصل على تعويض أعطوه مثل ما أنفق.
وقوله: { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } أي خافوا عقابه فأطيعوه في أمره ونهيه ولا تعصوه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب امتحان المهاجرة فإن علم اسلامها لا يحل إرجاعها إلى زوجها الكافر لأنها لا تحل له، وإعطاؤه ما أنفق عليها من مهر. ويجوز بعد ذلك نكاحها بمهر وولي وشاهدين إن كانت مدخولا بها فبعد انقضاء عدتها وإلا فلا حرج في الزواج بها فورا.
2- حرمة نكاح المشركة.
3- لا يجوز الإبقاء على عصمة الزوجة المشركة، وللزوج المسلم الذي بقيت زوجته على الكفر، أو ارتدت بعد إسلامها أن يطالب بما أنفق عليها من مهر وللزوج الكافر الذي أسلمت زوجته وهاجرت أن يسأل كذلك ما أنفق عليها.
4- ومن ذهبت زوجته ولم يرد عليه شيء مما أنفق عليها، ثم غزا المسلمون تلك البلاد وغنموا فإن من ذهبت زوجته ولم يعوض عنها يعطى ما أنفقه من الغنيمة قبل قسمتها. وإن لم تكن غنيمة فجماعة المسلمين وإمامهم يساعدونه ببعض ما أنفق من باب التكافل والتعاون.
5- وجوب تقوى الله تعالى بتطبيق شرعه وانفاذ أحكامه والرضا بها.
[60.12-13]
شرح الكلمات:
إذا جاءك المؤمنات يبايعنك: أي يوم الفتح والرسول صلى الله عليه وسلم على الصفا وعمر أسفل منه.
فبايعهن: أي على أن لا يشركن بالهل شيئا إلى ولا يعصينك في معروف.
أن لا يشركن بالله: أي أي شيء من الشرك أو الشركاء.
ولا يقتلن أولادهن: أي كما كان أهل الجاهلية يقتلون البنات وأدا لهن.
ولا يأتين ببهتان يفترينه: أي بكذب يكذبنه فيأتين بولد ملقوط وينسبنه إلى الزوج وهو ليس بولده.
ولا يعصينك في معروف: أي ما عرفه الشرع صالحا حسنا فأمر به وانتدب إليه. أو ما عرفه الشرع منكرا محرما.
فبايعهن: أي اقبل بيعتهن.
واستغفر لهن الله: أي أطلب الله تعالى لهن الغفرة لما سلف من ذنوبهن وما قد يأتي.
قوما غضب الله عليهم: أي اليهود.
قد يئسوا من الآخرة: أي من ثوابها مع إيقانهم بها، وذلك لعنادهم النبي مع علمهم بصدقه.
كما يئس الكفار من أصحاب القبور: أي كيأس من سبقهم من اليهود الذين كفروا بعيسى وماتوا على ذلك فهم أيضا قد يئسوا من ثواب الآخرة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يأيها النبي } إلى قوله { إن الله غفور رحيم } هذه آية بيعة النساء، فقد بايع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء قريش يوم الفتح وهو جالس على الصفا وعمر دونه أسفل منه، وهو يبايع، وطلب إليه أن يمد يده فقال
" إني لا أصافح النساء فبايعهن على أن لا يشركن بالله شيئا أي من الشرك أو الشركاء ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن كما كان نساء الجاهلية يئدن بناتهن ولا يأتين ببهتان أي كذب يفترينه أي يكذبنه بين أيديهن وأرجلهن أي لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن، ولا يعصينك في معروف "
بصورة عامة وفي النياحة بصورة خاصة إذ كان النساء في الجاهلية ينحن على الأموات ويشققن الثياب ويخدشن الوجوه قال تعالى يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك فبايعهن على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن، ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف، فبايعهن واستغفر لهن الله فيما مضى من ذنوبهن وما قد يأتي إن الله غفور رحيم.
وقوله تعالى { يأيها الذين آمنوا } أي يا من صدقتم الله ورسوله لا تتولوا قوما غضب الله عليهم وهم اليهود لا تتولوهم بالنصرة والمحبة وقد يئسوا من الآخرة أي من ثواب الله فيها بدخول الجنة وذلك لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم به مع علمهم أنه رسول الله ومن كفر به وكذبه أو عانده وحاربه لا يدخل الجنة فلذا هم آيسون من دخول الجنة.
وقوله تعالى { كما يئس الكفار من أصحاب القبور } أي كما يئس إخوانهم الذين ماتوا قبلهم من دخول الجنة إذ كفروا بعيسى عليه السلام وحاربوه ووالدته واتهموا عيسى بالسحر ووالدته بالعهر، والعياذ بالله فيئس هؤلاء من دخول الجنة كما يئس من مات منهم ممن هم أصحاب قبور.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية أخذ البيعة لإمام المسلمين ووجوب الوفاء بها.
2- حرمة الشرك وما ذكر معه من السرقة والزنا وقتل الأولاد والكذب والبهتان وإلحاق الولد بغير أبيه.
3- حرمة النياحة وما ذكر معها من شق الثياب وخمش الوجوه والتحدث مع الرجال الأجانب.
4- بعد الحرة كل البعد من الزنا إذ قالت هند وهي تبايع أو تزني الحرة؟ قال لا تزني الحرة.
5- حرمة مصافحة النساء لقوله صلى الله عليه وسلم في البيعة إني لا أصافح النساء.
6- حرمة موالاة اليهود بالنصرة والمحبة.
[61 - سورة الصف]
[61.1-6]
شرح الكلمات:
سبح لله ما في السماوات وما في الأرض: أي نزه وقدس بلسان القال والحال جميع ما في السماوات وما في الأرض من كائنات.
وهو العزيز الحكيم: أي العزيز الغالب على أمره الحكيم في تدبيره وصنعه.
لم تقولون ما لا تفعلون: أي لأي شيء تقولون قد فعلنا كذا وكذا وأنتم لم تفعلوا؟ والاستفهام هنا للتوبيخ والتأنيب.
كبر مقتا عند الله: أي عظم مقتا والمقت: أشد البغض والمقيت والممقوت المبغوض.
أن تقولوا ما لا تفعلون: أي قولكم ما لا تفعلون يبغضه الله أشد البغض.
صفا كأنهم بنيان مرصوص: أي صافين: ومرصوص ملزق بعضه ببعض لا فرجة فيه.
لم تؤذونني: أي إذ قالوا أنه آدر كذبا فوبخهم عل كذبهم وأذيتهم له.
وقد تعلمون أني رسول الله إليكم: أي أتؤذونني والحال أنكم تعلمون أني رسول الله إليكم.
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم: أي فلما عدلوا عن الحق بإيذائهم موسى أزاغ الله قلوبهم أي أمالها عن الهدى.
والله لا يهدي القوم الفاسقين: أي الذين فسقوا وتوغلوا في الفسق فما أصبحوا أهلا للهداية.
يا بني إسرائيل: أي أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل، ولم يقل يا قوم كما قال موسى لأنه لم يكن منهم لأنه ولد بلا أب، وأمه صديقة.
مصدقا لما بين يدي: أي قبلي من التوراة.
يأتي من بعده اسمه أحمد: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحمد أحد أسمائه الخمسة المذكوران والماحي، والعاقب والحاشر.
فلما جاءهم بالبينات: أي على صدق رسالته بالمعجزات الباهرات.
قالوا: هذا سحر مبين: أي قالوا في المعجزات إنها سحر.
معنى الآيات:
قوله تعالى { سبح لله ما في السموت وما في الأرض } يخبر تعالى أنه قد سبحه جميع ما في السماوات وما في الأرض بلسان القال والحال، وأنه العزيز الحكيم العزيز الغالب على أمره لا يمانع في مراده الحكيم في صنعه وتدبيره لملكه. بعدما أثنى تعالى على نفسه بهذا خاطب المؤمنين بقوله: { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } لفظ النداء عام والمراد به جماعة من المؤمنين قالوا لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لفعلناه فلما علموه ضعفوا عنه ولم يعملوا فعاتبهم الله تعالى في هذه الآية ولتبقى تشريعا عاما إلى يوم القيامة فكل من يقول فعلت ولم يفعل فقد كذب وبئس الوصف الكذب ومن قال سأفعل ولم يفعل فهو مخلف للوعد وبئس الوصف خلف الوعد وهكذا يربي الله عباده على الصدق والوفاء. وقوله تعالى { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } أي قولكم نفعل ولم تفعلوا مما يمقت عليه صاحبه أشد المقت أي يبغض أشد البغض.
وقوله تعالى { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } أي صافين متلاصقين لا فرجة بينهم كأنهم بنيان مرصوص بعضه فوق بعض لا خلل فيه ولا فرجة كأنه ملحم بالرصاص.
وقوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه } أي اذكر قال موسى لقومه من بني إسرائيل يا قوم لم تؤذوني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم والحال أنكم تعلمون أني رسول الله إليكم حقا وصدقا، وقد آذوه بشتى أنواع الأذى بألسنتهم السليطة وآرائهم الشاذة من ذلك قولهم إن موسى آدر ولذا هو لا يغتسل معنا، ومعنى آدر به أدرة وهي انتفاخ الخصية.
وقوله تعالى: { فلما زاغوا } أي مالوا عن الحق بعد علمه غاية العلم فآثروا الباطل على الحق والشر على الخير والكفر على الإيمان عاقبهم الله فصرف قلوبهم عن الهدى نقمة منه تعالى عليهم، وذلك لأنه سنته تعالى فيمن عرض عليه الخبر فأباه بعد علمه به، ثم دعى إليه فلم يستجب ثم رغب فيه فلم يرغب وواصل الشر مختارا له عندئذ يصبح ما اختار من الفسق أو الكفر أو الظلم أو الإجرام طبعا له وخلقا ثابتا لا يتبدل ولا يتغير. وعلى هذا يؤول مثل قوله تعالى والله لا يهدي القوم الفاسقين، والله لا يهدي القوم الظالمين، والله لا يهدي القوم المجرمين، والله لا يهدي القوم الكافرين لأنه تعالى أضلهم حسب سنته في الإضلال فلا يستطيع أحد غيره تعالى أن يهدي عبدا أضله الله على علم وهذا معنى قوله تعالى من سورة النحل
فإن الله لا يهدي من يضل
[الآية: 37].
وقوله تعالى: { وإذ قال عيسى ابن مريم يبني إسرائيل إني رسول الله إليكم } أي اذكر يا رسولنا للاتعاظ والعبرة قول عيسى بن مريم لليهود: يا بني إسرائيل نسبهم إلى جدهم يعقوب الملقب بإسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام. إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة وهذا برهان على صدقي في دعوتي إذ لم أخالف فيما أدعو إليه من عبادة الله وحده ما في التوراة كتاب الله عز وجل وهو بين أيديكم فوفاقنا دال على أن مصدر تشريعنا واحد هو الله عز وجل فكما آمنتم بموسى وهارون وداود وسليمان آمنوا بي فإني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى "
، إذ إبراهيم لما كان يبني البيت مع إسماعيل كانا يتقاولان ما أخبر تعالى به في قوله:
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آيتك...
[البقرة: 129] الآية. وقوله تعالى { فلما جاءهم } أي محمد صلى الله عليه وسلم بالبينات أي بالحجج الدالة على صدق رسالته ووجوب اتباعه في العقيدة والشريعة كفروا به وقالوا في القرآن هذا سحر مبين كما قالها فرعون مع موسى.
وكما قالتها اليهود مع عيسى عليه السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان غنى الله تعالى عن خلقه وأنه سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وأن ما شرعه لعباده من العبادات والشرائع إنما هو لفائدتهم وصالح أنفسهم يكملوا عليه أرواحا وأخلاقا ويسعدوا به في الحياتين.
2- حرمة الكذب وخلف الوعد إذ قول القائل أفعل كذا ولم يفعل كذب وخلف وعد. ولذا كان قوله من المقت الذي هو أشد البغض، ومن مقته الله فقد أبغضه أشد البغض وكيف يفلح من مقته الله.
3- فضيلة الجهاد والوحدة والاتفاق وحرمة الخلاف والقتال والصفوف ممزقة حسيا أو معنويا.
4- التحذير من مواصلة الذنب بعد الذنب فإنه يؤدى إلى الطبع وحرمان الهداية.
5- بيان كفر اليهود بعيسى عليه السلام وازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
6- بيان كفر النصارى إذ رفضوا بشارة عيسى وردوها عليه ولم يؤمنوا بالمبشر به محمد صلى الله عليه وسلم.
[61.7-9]
شرح الكلمات:
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب: أي لا أحد أعظم ظلما ممن يكذب على الله فينسب إليه الولد والشريك، والقول والحكم وهو تعالى بريء من ذلك.
وهو يدعى إلى الإسلام: أي والحال أن هذا الذي يفتري الكذب على الله يدعى إلى الإسلام الذي هو الاستسلام والانقياد لحكم الله وشرعه.
والله لا يهدي القوم الظالمين: أي من ظلم ثم ظلم وواصل الظلم يصبح الظلم طبعا له فلا يصبح قابلا للهداية فيحرمها حسب سنة الله تعالى في ذلك.
ليطفئوا نور الله بأفواههم: أي يريد المشركون بكذبهم على الله وتشويه الدعوة الإسلامية، ومحاربتهم لأهلها يريدون إطفاء نور الله القرآن وما يحويه من نور وهداية بأفواههم وهذا محال فإن إطفاء نور الشمس أو القمر أيسر من إطفاء نور لا يريد الله إطفاءه.
هو الذي أرسل رسوله بالهدى: أي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى أي بالهداية البشرية.
ودين الحق: أي الإسلام إذ هو الدين الحق الثابت بالوحي الصادق.
ليظهره على الدين كله: أي لينصره على سائر الأديان حتى لا يبقى إلا الإسلام دينا.
ولو كره المشركون: أي ولو كره نصره وظهوره على الأديان المشركون الكافرون.
معنى الآيات
يقول تعالى { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب } والحال أنه يدعى إلى الإسلام الدين الحق إنه لا أظلم من هذا الإنسان أبدا، إن ظلمه لا يقارن بظلم هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى [7] { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب }. أي اختلق الكذب على الله عز وجل وقال له كذا وكذا وقال أو شرع كذا وهو لم يقل ولم يشرع. كما هي حال مشركي قريش نسبوا إليه الولد والشريك وحرموا السوائب والبحائر والحامات وقالوا في عبادة أصنامهم لو شاء الله ما عبدناهم إلى غير ذلك من الكذب والاختلاق على الله عز وجل. وقوله وهو يدعى إلى الإسلام إذ لو كان أيام الجاهلية حيث لا رسول ولا قرآن لهان الأمر أما أن يكذب على الله والنور غامر والوحي ينزل والرسول يدعو ويبين فالأمر أعظم والظلم أظلم.
وقوله تعالى في الآية الثانية [8] { يريدون ليطفئوا نور الله بأفوههم } أي يريد أولئك الكاذبون على الله القائلون في الرسول: ساحر وفي القرآن إنه سحر مبين إطفاء نور الله الذي هو القرآن وما حواه من عقائد الحق وشرائع الهدى وبأي شيء يريدون إطفاءه إنه بأفواههم وهل نور الله يطفأ بالأفواه كنور شمعة أو مصباح. إن نور الله متى أراد الله إتمامه إطفاء نور القمر أو الشمس أيسر من إطفائه فليعرفوا هذا وليكفوا عن محاولاتهم الفاشلة فإن الله يريد أن يتم نوره ولو كره المشركون إنه تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق دين الله الحق الذي هو الإسلام ليظهره على الدين كله وذلك حين نزول عيسى إذ يبطل يومها كل دين ولم يبق إلا الإسلام ولو كره ذلك المشركون فإن الله مظهره لا محاله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم جرم الكذب على الله وأنه من أفظع أنواع الظلم.
2- حرمان الظلمة المتوغلين في الظلم من الهداية.
3- إيئاس المحاولين إبطال الإسلام وانهاء وجوده بأنهم لا يقدرون إذ الله تعالى أراد إظهاره فهو ظاهر منصور لا محالة.
4- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
[61.10-14]
شرح الكلمات:
هل أدلكم على تجارة: أي أرشدكم إلى تجارة رابحة.
تنجيكم من عذاب أليم: أي الربح فيها هو نجاتكم من عذاب مؤلم يتوقع لكم.
تؤمنون بالله ورسوله: أي تصدقون بالله ربا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا لله تعالى.
وتجاهدون في سبيل الله: أي وتبذلون أموالكم وأرواحكم جهادا في سبيل الله تعالى.
ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون: أي الدخول في هذه الصفقة التجارية الرابحة خير لكم من تركها حرصا على بقائكم وبقاء أموالكم مع أنه لا بقاء لشيء في هذه الدار.
يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن: أي هذا هو الربح الصافي مقابل ذلك الثمن الذاهب الزائل الذي هو المال والنفس مع أن الكل لله تعالى واهبكم أنفسكم وأموالكم.
ذلك الفوز العظيم: أي النجاة من عذاب النار الأليم ثم دخول الجنة والظفر بما فيها من النعيم المقيم هو حقا الفوز العظيم.
وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب: أي وعلاوة أخرى تحبونها قطعا إنها نصر من الله لكم وليدنكم وفتح قريب للأمصار والمدن، وما يتبع ذلك من رفعة وسعادة وهناء.
وبشر المؤمنين: أي وبشر يا رسولنا المؤمنين الصادقين بذاك الفوز وهذه العلاوة.
كونوا أنصار الله: أي لتنصروا دينه ونبيه وأولياءه.
كما قال عيسى بن مريم : أي فكونوا أنتم أيها المؤمنون مثل الحواريين، والحواريون للحواريين من أنصاري إلى الله أصحاب عيسى وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلا.
قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل: أي بعيسى عليه السلام، وقالوا إنه عبد الله رفع إلى السماء.
وكفرت طائفة: أي من بني إسرائيل فقالوا إنه ابن الله رفعه إليه.
فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم: فاقتتلت الطائفتان: فنصرنا وقوينا الذين آمنوا.
فأصبحوا ظاهرين: أي غالبين عالين.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } أي يا من صدقتم الله ورسوله هل لنا أن ندلكم على تجارة عظيمة الربح ثمرتها النجاة من عذاب أليم في الدنيا والآخرة. وقوله { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } هذا هو رأس المال الذي تقدمونه. إيمان بالله ورسوله حق الإيمان، جهاد في سبيل الله بالنفس والمال وأنبه إلى أن هذ الصفقة التجارية خير لكم من عدمها إن كنتم تعلمون ربحها وفائدتها.
{ يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار } إنها النجاة من العذاب الدنيوي والأخروي أولا، ثم مغفرة ذنوبكم وإدخالكم جنات تجري من تحتها الأنهار، أي من تحت قصورها وأشجارها، ومساكن طيبة في جنات عدن أي إقامة دائمة.
ثانيا ثم زاد الحق في ترغيبهم فقال { ذلك الفوز العظيم } إنه النجاة من النار، ودخول الجنة، فلا فوز أعظم منه قط هذا ولكم علاوة على ذلك الربح العظيم وهي ما أخبر تعالى عنها بقوله: { وأخرى تحبونها } أي وفائدة أخرى تحبونها: نصر من الله أي لكم على أعدائكم ولدينكم على سائر الأديان وفتح قريب لمكة ولباقي المدن والقرى في الجزيرة وما وراءها. وقوله تعالى { وبشر المؤمنين } أي وبشر يا رسولنا الذين آمنوا بنا وبرسولنا وبوعدنا ووعيدنا بحصول ما ذكرناه كاملا، وقد تم لهم كاملا ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى { يأيها الذين آمنوا } هذا نداء ثان في هذا السياق الكريم ناداهم بعنوان الإيمان أيضا إذ الإيمان وهو الطاقة المحركة الدافعة فقال { يأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } أي التزموا بنصرة ربكم وإلهكم الحق في دينه ونبيه وأوليائه المؤمنين. قولوا كما قال الحواريون لما دعاهم عيسى نبيهم لنصرته قائلا من أنصاري إلى الله أي من ينصرني في حال كوني متوجها إلى الله انصر دينه وأولياءه، فأجابوه قائلين نحن أنصار الله. فكونوا أنتم أيها المسلمون مثلهم، وقد كانوا رضي الله عنهم كما طلب منهم.
وقوله تعالى { فآمنت طآئفة من بني إسرائيل وكفرت طآئفة فأيدنا الذين آمنوا } أي فاقتتلوا فأيدنا أي قوينا ونصرنا الذين آمنوا وهم الذين قالوا عيسى عبدالله ورسوله رفعه ربه تعالى إلى السماء، على عدوهم وهم الطائفة الكافرة التي قالت عيسى ابن الله رفعه إليه تعالى الله أن يكون له ولد.
وقوله تعالى { فأصبحوا ظاهرين } أي غالبين عالين إلى أن احتال اليهود على إفساد الدين الذي جاء به عيسى وهو الإسلام أي عبادة الله وحده بما شرع أن يعبد به فحينئذ لم يبق من المؤيدين إلا أنصار قليلون هنا وهناك وعلا الكفر والتثليث واستمر الوضع كذلك إلى أن بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فانضم إلى الإسلام من انضم من النصارى فأصبحوا بالإسلام ظاهرين على عدوهم من المشركين المؤلهين لعيسى والحيارى في تقويمه مرة يقولون هو الله، ومرة يقولون: هو ابن الله، ومرة يقولون: ثالث ثلاثة هو الله. وضللهم وتركهم في هذه المتاهات الانتفاعيون من الرؤساء والجاهلون المقلدون من المرءوسين كما فعل نظراؤهم في الإسلام فحولوه إلى طوائف وشيع إلا أن الإسلام تعهد الله بحفظه إلى يوم القيامة فمن أراده وجده صافيا كما نزل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن لم يرده وأراد الضلالة وجدها في كل عصر ومصر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الجهاد بالمال والنفس وأنه أعظم تجارة رابحة.
2- تحقيق بشرى المؤمنين التي أمر الله رسوله أن يبشرهم بها فكان هذا برهانا على صحة الإسلام وسلامة دعوته.
3- بيان استجابة المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم من نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه والمؤمنين معه. وهي نصرة الله تعالى المطلوبة.
[62 - سورة الجمعة]
[62.1-4]
شرح الكلمات:
يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض: أي ينزه الله تعالى عما لا يليق به ما في السماوات وما في الأرض من سائر الكائنات بلسان القال والحال، ولم يقل (من) بدل (ما) تغليبا لغير العاقل لكثرته علي العاقل.
في الأميين: أي العرب لندرة من كان يقرأ منهم ويكتب.
رسولا منهم: أي محمدا صلى الله عليه وسلم إذ هو عربي قرشي هاشمي.
ويزكيهم: أي يطهرهم أرواحا وأخلاقا.
ويعلمهم الكتاب والحكمة: أي هدى الكتاب وأسرار هدايته.
وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين: أي وإن كانوا من قبل بعثة الرسول في ضلال الشرك والجاهلية.
وآخرين منهم لما يلحقوا بهم: أي وآخرين مؤمنين صالحين لما يلحقوا أي لم يحضروا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم الكتاب والحكمة، وسيلحقون بهم وهم كل من لم يحضر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم.
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: أي كون الصحابة حازوا فضل السبق هذا فضل يؤتيه من يشاء فلا اعتراض ولكن الرضا وسؤال الله من فضله فإنه ذو فضل عظيم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { يسبح لله ما في السموت وما في الأرض } يخبر تعالى عن نفسه أنه يسبحه بمعنى ينزهه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله من سائر مظاهر العجز والنقص ويقدسه كذلك وذلك بلسان الحال والقال وهذا كقوله من سورة الإسراء وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. ومع هذا شرع لنا ذكره وتسبيحه وتعبدنا به، وجعله عونا لنا على تحمل المشاق واجتياز الصعاب فكم أرشد رسوله له في مثل قوله: سبح اسم ربك، وسبحه بكرة وأصيلا، وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا. وواعد على لسانه رسوله بالجزاء العظيم على التسبيح في مثل قوله صلى الله عليه وسلم
" من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر "
ورغب فيه في مثل قوله:
" كلمتان ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ".
وقوله { الملك القدوس } أي المالك الحاكم المتصرف في سائر خلقه لا حكم إلا له. ومرد الأمور كلها إليه المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله من سائر النقائص والحوادث.
وقوله تعالى { العزيز الحكيم } أي كل خلقه ينزهه ويقدسه وهو العزيز الغالب على أمره الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم في صنعه وتدبيره لأوليائه وفي ملكه وملكوته. وقوله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } أي بعث في الأمة العربية الأمية رسولا منهم هو محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو عربي قرشي هاشمي معروف النسب إلى جده الأعلى عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل.
وقوله: { يتلوا عليهم آياته } أي آيات الله التي تضمنها كتابه القرآن الكريم وذلك لهدايتهم وإصلاحهم، وقوله ويزكيهم أي ويطهرهم أرواحا وأخلاقا وأجساما من كل ما يدنس الجسم ويدنس النفس ويفسد الخلق. وقوله ويعلمهم الكتاب والحكمة. أي يعلمهم الكتاب الكريم يعلمهم معانيه وما حواه من شرائع وأحكام، ويعلمهم الحكمة في كل أمورهم والإصابة والسداد في كل شؤونهم، يفقههم في أسرار الشرع وحكمه في أحكامه. وقوله { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } أي والحال والشأن أنهم كانوا من قبل بعثته فيهم لفي ضلال مبين ضلال في العقائد ضلال في الآداب والأخلاق ضلال في الحكم والقضاء في السياسة، وإدارة الأمور العامة والخاصة.
وقوله تعالى: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم أي وآخرين من العرب والعجم جاءوا من بعدهم وهم التابعون وتابعوا التابعين إلى يوم القيامة آمنوا وتعلموا الكتاب والحكمة التي ورثها رسول الله فيهم لما يلحقوا بهم في الفضل لأنهم فازوا بالسبق إلى الإيمان وبصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد.
2- تقرير النبوة المحمدية.
3- بيان فضل الصحابة على غيرهم.
4- شرف الإيمان والمتابعة للرسول وأصحابه رضي الله عنهم.
[62.5-8]
شرح الكلمات:
حملوا التوراة: أي كلفوا بالعمل بها عقائد وعبادات وقضاء وآدابا وأخلاقا.
ثم لم يحملوها: أي لم يعملوا بما فيها، ومن ذلك نعته صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان فجحدوا نعته وحرفوه ولم يؤمنوا به وحاربوه.
بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله: أي المصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم هذا المثل الذي ضربه الله لليهود كمثل الحمار يحمل أسفارا أي كتبا من العلم وهو لا يدري ما فيها.
قل يا أيها الذين هادوا: أي اليهود المتدينون باليهودية.
إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس: أي وأنكم أبناء الله وأحباؤه وأن الجنة خاصة بكم.
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين: أي إن كنتم صادقين في أنكم أولياء الله فتمنوا الموت مؤثرين الآخرة على الدنيا ومبدأ الآخرة الموت فتمنوه إذا.
بما قدمت أيديهم: أي بسبب ما قدموه من الكفر والتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يتمنون.
والله عليم بالظالمين: أي المشركين ولازم علمه بهم أنه يجزيهم بظلمهم العذاب الأليم.
تفرون منه: أي لأنكم لا تتمنونه أبدا وذلك عين الفرار منه.
فإنه ملاقيكم: أي حيثما اتجهتم فإنه ملاقيكم وجها لوجه.
ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة: أي إلى الله تعالى يوم القيامة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { مثل الذين حملوا التوراة } أي كلفوا بالعمل بها من اليهود والنصارى ثم لم يحملوها أي ثم لم يعملوا بما فيها من أحكام وشرائع ومن ذلك جحدهم لنعوت النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به واتباعه عند ظهوره. وقوله تعالى: { كمثل الحمار يحمل أسفارا } أي كمثل حمار يحمل على ظهره أسفارا من كتب العلم النافع وهو لا يعقل ما يحمل ولا يدري ماذا على ظهره من الخير، وذلك لأنه لا يقرأ ولا يفهم. وقوله تعالى { بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } أي المصدقة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا المثل الذي ضربه تعالى لأهل الكتاب من يهود ونصارى. وقوله والله لا يهدي القوم الظالمين ولهذا ما هداهم إلى الإسلام. لتوغلهم في الظلم والكفر والشر والفساد لم يكونوا أهلا لهداية الله تعالى.
وقوله تعالى: { قل يأيها الذين هادوا } أي قل يا رسولنا يا أيها الذين هادوا أي يا من هم يدعون أنهم على الملة اليهودية، إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس حيث ادعيتم أنكم أبناء الله وأحباؤه، وأن الجنة لكم دون غيركم إلى غير ذلك من دعاويكم فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في دعاويكم إذ الموت طريق الدار الآخرة فتمنوه لتموتوا فتستريحوا من كروب الدنيا وأتعابها.
وقوله تعالى: { ولا يتمنونه أبدا } أخبر تعالى وهو العليم أنهم لا يتمنونه في يوم من الأيام أبدا، وبين تعالى علة ذلك بقوله: بما قدمت أيديهم من الذنوب والآثام الموجبة للعذاب.
وقوله { والله عليم بالظالمين } أي من أمثال هؤلاء اليهود وسيجزيهم بظلمهم عذاب الجحيم. وقوله تعالى: { قل إن الموت الذي تفرون منه } أي قل لهم يا رسولنا إن الموت الذي تفرون منه ولا تتمنونه فرارا وخوفا منه فإنه ملاقيكم لا محالة حيثما كنتم سوف يواجهكم وجها لوجه ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة وهو الله تعالى الذي يعلم ما غاب في السماء والأرض، ويعلم ما يسر عباده، وما يعلنون وما يظهرون وما يخفون فينبئكم بما كنتم تعملون ويجزيكم الجزاء العادل إنه عليم حكيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ذم من يحفظ كتاب الله ولم يعمل بما فيه.
2- التنديد بالظلم والظالمين.
3- بيان كذب اليهود وتدجيلهم في أنهم أولياء الله وأن الجنة خالصة لهم.
4- بيان أن ذوي الجرائم أكثر الناس خوفا من الموت وفرارا منه.
[62.9-11]
شرح الكلمات:
إذا نودي للصلاة: أي إذا أذن المؤذن لها عند جلوس الإمام على المنبر.
من يوم الجمعة: أي في يوم الجمعة وذلك بعد الزوال.
فاسعوا إلى ذكر الله: أي امضوا إلى الصلاة.
وذروا البيع: أي اتركوه، وإذا لم يكن بيع لم يكن شراء.
وابتغوا من فضل الله: أي اطلبوا الرزق من الله تعالى بالسعي والعمل.
تفلحون: أي تنجون من النار وتدخلون الجنة.
انفضوا إليها: أي إلى التجارة.
وتركوا قائما: أي على المنبر تخطب يوم الجمعة.
ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة: أي ما عند الله من الثواب في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة.
والله خير الرازقين: أي فاطلبوا الرزق منه بطاعة واتباع هداه.
معنى الآيات
قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا } أي يا من صدقتم الله ورسوله { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } أي إذا أذن المؤذن بعد زوال يوم الجمعة وجلس الإمام على المنبر { فاسعوا إلى ذكر الله } أي امضوا إلى ذكر الله الذي هو الصلاة والخطبة إذ بهما يذكر الله تعالى. وقوله { وذروا البيع } إذ هو الغالب من أعمال الناس، وإلا فسائر الأعمال يجب إيقافها والمضي إلى الصلاة.
وقوله { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } أي ترك الأعمال من بيع وشراء وغيرها والمضي إلى أداء صلاة الجمعة وسماع الخطبة خير ثوابا عاقبة.
وقوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة } أي أديت وفرغ منها فانتشروا في الأرض أي لكم بعد انقضاء الصلاة أن تتفرقوا حيث شئتم في أعمال الدين والدنيا. تبتغون من فضل الله، { واذكروا الله كثيرا } أي أثناء تفرقكم وانتشاركم في أعمالكم اذكروا الله ولا تنسوه واذكروه ذكرا كثيرا لعلكم تفلحون أي رجاء فلاحكم وفوزكم في دنياكم وآخرتكم.
وقوله تعالى: { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما } هذه الآية نزلت في شأن قافلة زيت كان صحابها دحية بن خليفة الكلبي الأنصاري رضي الله عنه قدمت من الشام، وكان عادة أهل المدينة إذا جاءت قافلة تجارية تحمل الميرة يستقبلونها بشيء من اللهو كضرب الطبول والمزامير. وصادف قدوم القافلة يوم الجمعة والناس في المسجد، فلما انقضت الصلاة وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب، وكانت الخطبة بعد الصلاة لا قبلها كما هي بعد ذلك فخرج الناس يتسللون حتى لم يبق مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا وامرأة فنزلت هذه الآية تعيب عليهم خروجهم وتركهم نبيهم يخطب. فقال تعالى في صورة عتاب شديد { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } أي خرجوا إليها { وتركوك } يا رسولنا قائما على المنبر تخطب. وقوله تعالى: { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } أي أعلمهم يا نبينا أن ما عند الله من ثواب الآخرة خير من اللهو التجارة التي خرجتم إليها، { والله خير الرازقين } فاطلبوا الرزق منه بطاعته وطاعة رسوله ولا يتكرر منكم مثل هذا الصنيع الشين.
وإلا فقد تتعرضون لعذاب عاجل غير آجل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب صلاة الجمعة ووجوب المضي إليها عند النداء الثاني الذي يكون والإمام على المنبر.
2- حرمة البيع والشراء وسائر العقود إذا شرع المؤذن يؤذن الأذان الثاني.
3- الترغيب في ذكر الله والإكثار منه والمرء يبيع ويشتري ويعمل ويصنع ولسانه ذاكر.
4- ينبغي أن لا يقل المصلون الذين تصح صلاة الجمعة بهم عن اثني عشر رجلا أخذا من حادثة انفضاض الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب إلى القافلة حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا.
[63 - سورة المنافقون]
[63.1-4]
شرح الكلمات:
إذا جاءك المنافقون: أي حضر مجلسك المنافقون كعبد الله بن أبي وأصحابه.
قالوا نشهد إنك لرسول الله: أي قالوا بألسنتهم ذلك وقلوبهم على خلافه.
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون: أي والله يعلم أن المنافقين لكاذبون أي بما أضمروه من أنك غير رسول الله.
اتخذوا أيمانهم جنة: أي سترة ستروا بها أموالهم وحقنوا بها دماءهم.
فصدوا عن سبيل الله: أي فصدوا بها عن سبيل الله أي الجهاد فيهم.
إنهم ساء ما كانوا يعملون: أي قبح ما كانوا يعملونه من النفاق.
ذلك: أي سوء عملهم.
بأنهم آمنوا ثم كفروا: أي آمنوا بألسنتهم، ثم كفروا بقلوبهم أي استمروا على ذلك.
فطبع على قلوبهم: أي ختم عليها بالكفر.
فهم لا يفقهون: أي الإيمان أي لا يعرفون معناه ولا صحته.
تعجبك أجسامهم: أي لجمالها إذ كان ابن أبي جسيما صحيحا وصبيحا ذلق اللسان.
وإن يقولوا تسمع لقولهم: أي لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم.
كأنهم خشب مسندة: أي كأنهم من عظم أجسامهم وترك التفهم وعدم الفهم خشب مسندة أي أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام.
يحسبون كل صيحة عليهم: أي يظنون كل صوت عال يسمعونه كنداء في عسكر أو إنشاد ضالة عليهم وذلك لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم.
هم العدو فاحذرهم: أي العدو التام العداوة فاحذرهم أن يفشوا سرك أو يريدوك بسوء.
قاتلهم الله أنى يؤفكون: أي لعنهم الله كيف يصرفون عن الإيمان وهم يشاهدون أنواره وبراهينه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إذا جآءك المنافقون } لنزول هذه السورة سبب هو أن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسولا إلى ابن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني فأصابني هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل إذا جاءك المنافقون إلى قوله الأعز منها الأذل فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال إن الله قد صدقك.
قوله إذا جاءك المنافقون أي إذا حضر مجلسك المنافقون عبد الله بن أبي ورفاقه قالوا نشهد إنك لرسول الله وذلك بألسنتهم دون قلوبهم. قال تعالى: { والله يعلم إنك لرسوله } سواء شهد بذلك المنافقون أو لم يشهدوا. والله يشهد إن المنافقين لكاذبون في شهادتهم لعدم مطابقة قولهم لاعتقادهم. اتخذوا أيمانهم جنة أي جعلوا من أيمانهم الكاذبة جنة كجنة المقاتل يسترون بها كما يستتر المحارب بجنته فوق رأسه، فهم بأيمانهم الكاذبة أنهم مؤمنون وقوا بها أنفسهم وأزواجهم وذرياتهم من القتل والسبي، وبذلك صدوا عن سبيل الله أنفسهم وصدوا غيرهم ممن يقتدون بهم وصدوا المؤمنين عن جهادهم بما أظهروه من إيمان صوري كاذب.
قال تعالى: { إنهم سآء ما كانوا يعملون } يذم تعالى حالهم ويقبح سلوكهم ذلك وهو اتخاذ أيمانهم جنة وصدهم عن سبيل الله وقوله تعالى الآية رقم [3] { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم } أي سوء عملهم وقبح سلوكهم ناتج عن كونهم آمنوا ثم شكوا أو ارتابوا فنافقوا وترتب على ذلك أيضا الطبع على قلوبهم فهم لذلك لا يفقهون معنى الإيمان ولا صحته من بطلانه وهذا شأن من توغل في الكفر أن يختم على قلبه فلا يجد الإيمان طريقا إلى قلب قد أقفل عليه بطابع الكفر وخاتم النفاق والشك والشرك.
وقوله تعالى في الآية [4] { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } أي وإذا رأيت يا رسولنا هؤلاء المنافقين ونظرت إليهم تعجبك أجسامهم لجمالها إذ كان أبن أبي جسيما صبيحا وإن يقولوا تسمع لقولهم وذلك لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم. وقوله تعالى: { كأنهم خشب مسندة } وهو تشبيه رائع: أنهم لطول أجسامهم وجمالها وعدم فهمهم وقلة الخير فيهم كأنهم خشب مسندة على جدار لا تشفع ولا تنفع كما يقال.
وقوله تعالى: { يحسبون كل صيحة عليهم } وذلك لخوفهم والرعب المتمكن من نفوسهم نتيجة ما يضمرون من كفر وعداء وبغض للإسلام وأهله فهم إذا سمعوا صيحة في معسكر أو صوت منشد ضاله يتوقعون أنهم معنيون بذلك شأن الخائن وأكثر ما يخافون أن ينزل القرآن بفضيحتهم وهتك أستارهم. قال تعالى هم العدو فاحذرهم يا رسولنا إن قلوبهم مع أعدائك فهم يتربصون بك الدوائر.
قال تعالى: { قاتلهم الله أنى يؤفكون } فسجل عليهم لعنة لا تفارقهم إلى يوم القيامة كيف يصرفون عن الحق وأنواره تغمرهم القرآن ينزل والرسول يعلم ويزكى وآثار ذلك في المؤمنين ظاهرة في آرائهم وأخلاقهم. ولم يشاهدوا شيئا من ذلك والعياذ بالله من عمى القلوب وانطماس البصائر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن الكذب ما خالف الاعتقاد وإن طابق الواقع.
2- التحذير من الاستمرار على المعصية فإنه يوجب الطبع على القلب ويحرم صاحبه الهداية.
3- التحذير من الاغترار بالمظاهر كحسن الهندام وفصاحة اللسان.
4- الكشف عن نفسية الخائن والظالم والمجرم وهو الخوف والتخوف من كل صوت أو كلمة خشية أن يكون ذلك بيانا لحالهم وكشفا لجرائمهم.
[63.5-8]
شرح الكلمات:
وإذا قيل لهم تعالوا: أي معتذرين.
لووا رؤوسهم: أي رفضوا الاعتذار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورأيتهم يصدون: أي يعرضون عما دعوا إليه وهم مستكبرون.
سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم: أي يا رسولنا.
لن يغفر الله لهم: أي إيأس من مغفرة الله لهم.
إن الله لا يهدي القوم الفاسقين: أي لأن من سنة الله أنه لا يهدي القوم الفاسقين المتوغلين في الفسق عن طاعة الرب تعالى وهم كذلك.
يقولون: أي لأهل المدينة.
لا تنفقوا على من عند رسول الله: أي من المهاجرين.
حتى ينفضوا: أي يتفرقوا عنه.
لئن رجعنا إلى المدينة: أي من غزوة كانوا فيها هي غزوة بني المصطلق.
ليخرجن الأعز منها الأذل: يعنون بالأعز أنفسهم، وبالأذل المؤمنين.
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين: أي الغلبة والعلو والظهور.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن المنافقين فقوله تعالى في الآية [5] { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله } وذلك عندما قال ابن أبي ما قال من كلمات خبيثة منها قوله في المهاجرين: سمن كلبك يأكلك. وقوله لصاحبه: لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله مهددا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز يعني نفسه ورفاقه المنافقين الأذل يعني الأنصار والمهاجرين. فلما قال هذا كله وأكثره في غزوة بني المصطلق وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فحلف بالله ما قال شيئا من ذلك أبدا وذهب فنزلت هذه السورة الكريمة تكذبه.
ولما نزلت هذه السورة بفضيحته جاءه من قال له: يا أبا الحباب " كنية أبن أبي " إنه قد نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه أي عطفه إلى جهة غير جهة من يخاطبه وقال: أمرتموني أن أؤمن فآمنت وأمرتموني أن أعطى زكاة مالي فأعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآيات الثلاث وإذا قيل لهم تعالوا أي معتذرين يستغفر لكم رسول الله. لووا رؤوسهم أي رفضوا العرض ورأيتهم يصدون عنك وهم مستكبرون والمراد بهم ابن أبي عليه لعائن الله قال تعالى لرسوله: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم فأيأس رسوله من المغفرة لهم، وعلل تعالى ذلك بقوله: إن الله لا يهدي القوم الفاسقين وابن أبي من أكثر الفاسقين فسقا! إذ جمع بين الكذب والحلف الكاذب والنفاق والشقاق والعداء والكبر والكفر الباطني وذكر تعالى قولات هذا المنافق واحدة بعد واحدة فقال هم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله أي قال لإخوانه لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرعه رب العزة وأدبه ببيان فساد ذوقه ورأيه فقال تعالى: { ولله خزآئن السموت والأرض } فجميع الأرزاق بيده وهو الذي يرزق من يشاء والمنافق نفسه رزقه على الله فكيف يدعى أنه إذا لم ينفق على من عند رسول الله يجوعون فيتفرقون يطلبون الرزق بعيدا عن محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن المنافقين لعماهم وظلمة نفوسهم ومرض قلوبهم لا يفقهون هذا ولا يفهمونه، ولذا قال رئيسهم كلمته الخبيثة. تلك كانت القولة الأولى. والثانية هي قوله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قالها في غزوة بني المصطلق وهي غزوة سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويريه زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى أمهات المؤمنين. فلما سمع بذلك خرج إليهم حتى لقبهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فوقع القتال فهزم الله بني المصطلق وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم وأفاءها على المؤمنين، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه جويرية بوصفها بنت سيد القوم إكراما لها ثم عتقها وتزوجها فرأى المؤمنون أن ما بأيديهم من السبي لا ينبغي لهم وقد أصبحوا أصهار نبيهم فعتقوا كل ما بأيديهم فقالت عائشة رضي الله عنها ما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية بنت الحارث فقد أعتق بتزويج رسول الله لها مائة أهل بيت من بني المصطلق.
في هذه الغزاة قال ابن أبي قولته الخبيثة وذلك أن رجلين أنصاريا ومهاجرا تلاحيا على الماء فكسع المهاجر الأنصارى برجله فصاح ابن أبي قائلا عليكم صاحبكم، ثم قال: والله ما مثلنا ومحمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وغاب عن ذهن هذا المنافق أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين أي الغلبة والظهور والعلو لا للمنافقين والمشركين الكافرين ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ولا غيره لعمى بصائرهم ولما بلغ الغزاة المدينة وقف عبدالله بن عبدالله بن أبي في عرض الطريق واستل سيفه فلما جاء أبوه يمر قال له والله لا تمر حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل، فلم يبرح حتى قالها: وكان ولده مؤمنا صادقا من خيرة الأنصار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا ينفع الاستغفار للكافر ولا الصلاة عليه بحال.
2- ذم الإعراض والاستكبار عن التوبة والاستغفار. فمن قيل له استغفر الله فليستغفر ولا يتكبر بل عليه أن يقول: استغفر الله أو اللهم اغفر لي.
3- مصادر الرزق كلها بيد الله تعالى فليطلب الرزق بطاعة الله ورسوله لا بمعصيتهما.
4- العزة الحقة لله ولرسوله وللمؤمنين، فلذا يجب على المؤمن أن لا يذل ولا يهون لكافر.
[63.9-11]
شرح الكلمات:
لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم: أي لا تشغلكم.
عن ذكر الله: كالصلاة والحج وقراءة القرآن وذكر الله بالقلب واللسان.
ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون: أي ومن ألهته أمواله وأولاده عن أداء الفرائض فترك الصلاة أو الحج وغيرهما من الفرائض فقد خسر ثواب الآخرة.
وأنفقوا مما رزقكم الله: أي النفقة الواجبة كالزكاة وفي الجهاد والمستحبة.
لولا أخرتني: أي هلا أخرتني يطلب التأخير ولا يقبل منه.
فأصدق وأكن من الصالحين: أي حتى أزكى وأحج وأكثر من النوافل والأعمال الصالحة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا } نادى تعالى المؤمنين لينصح لهم أن لا تكون حالهم كحال المنافقين الذين تقدم في السياق تأديبهم فقال لهم يا من آمنتم بالله ورسوله: لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم أي لا تشغلكم عن ذكر الله بأداء فرائضه واجتناب نواهيه والإكثار من طاعته والتقرب إليه بأنواع القرب. ثم خوفهم نصحا لهم بقوله: { ومن يفعل ذلك } أي بأن ألهته أمواله وأولاده عن عبادة الله فأولئك البعداء هم الخاسرون يوم القيامة بحرمانهم من الجنة ونعيمها ووجودهم في دار العذاب لا أهل لهم فيها ولا ولد. وبالغ عز وجل في إرشادهم فقال: { وأنفقوا من ما رزقناكم } مبادرين الأجل فإنكم لا تدرون متى تموتون. من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول متمنيا طالبا حاثا في طلبه. رب أي يا رب لولا أخرتني إلى أجل قريب أي إلى وقت قريب من هذا فأصدق بمالي، وأكن من الصالحين فأحج وأتقرب إليك يا رب بما تحب من أنواع القربات والطاعات ولكن لا ينفعه التمني ولا الطلب والدعاء، لأن حكم الله الأزلي أنه تعالى لن يؤخر نفسا أي نفس إذا جاء أجلها أي إذا حضر وقت وفاتها وقوله تعالى: { والله خبير بما تعملون } يحض المؤمنين على إصلاح أعمالهم والتزود لآخرتهم بإعلامهم بأنه مطلع على أعمالهم خبير بها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة التشاغل بالمال والولد مع تضييع بعض الفرائض والواجبات.
2- حرمة تأخير الحج مع القدرة على أدائه تسويفا وتماطلا مع الإيمان بفرضيته.
3- وجوب الزكاة والترغيب في الصدقات الخاصة كصدقة الجهاد والعامة على الفقراء والمساكين.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
[64 - سورة التغابن]
[64.1-4]
شرح الكلمات:
يسبح لله: أي ينزه الله ويقدسه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
ما في السماوات وما في الأرض: أي من سائر المخلوقات بلسان الحال والقال.
له الملك وله الحمد: أي له دون غيره الملك الدائم الحق وله الحمد العام.
وهو على كل شيء قدير: أي هو ذو قدرة كاملة على فعل ما أراد ويريد.
فمنكم كافر ومنكم مؤمن: أي فبعضكم مؤمن موقن بربه ولقائه وبعضكم كافر جاحد دهرى، والواقع شاهد.
وصوركم فأحسن صوركم: أي صوركم في الأرحام فأحسن صوركم.
وإليه المصير: أي المرجع يوم القيامة.
والله عليم بذات الصدور: أي بما في الصدور من الضمائر والسرائر.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يسبح لله ما في السموت وما في الأرض } يخبر تعالى معلما عباده بربوبيته الموجبة لعبادته وطاعته وطاعة رسوله بأنه يسبحه جميع خلائقه في الملكوت الأعلى والأسفل وقوله { له الملك وله الحمد } أي أنه له الملك وهو الملك الحق وأنه له الحمد وهو الثناء الجميل { وهو على كل شيء قدير } أي وأنه على فعل كل شيء قدير لا يعجزه شيء { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } أي وأنه خالق الكل فمن عباده المؤمن به ومنهم الكافر كما هو الواقع. وأنه بما يعمل عباده من خير أو شر من حسنات أو سيئات خبير أي مطلع وسيجزى الكل بأعمالهم حسنها وسيئها، وأنه خلق السماوات والأرض بالحق لا للهو ولا اللعب ولا للعبث بل بالحق وهو أن يذكر ويشكر من عباده وأنه صور العباد في الأرحام فأحسن صورهم وجملها، فهي أجمل المخلوقات الأرضية على الإطلاق، وأنه إليه لا إلى غيره المرجع يوم القيامة فيحاسب ويجزى وهو الحكم العدل العزيز الحكيم. وإنه تعالى يعلم ما في السماوات والأرض من سائر المخلوقات والحوادث والأحداث، وإنه يعلم ما يسر عباده من أعمال وأقوال ونيات، وما يعلنون من ذلك. وأنه عليم بذات الصدور أي ما فيها من أسرار وخواطر ونيات وارادات.
أخبر عباده بهذا ليؤمنوا به ويعبدوه دون غيره فيكملون ويسعدون بعبادته فله الحمد وله المنة وهو الرحمن الرحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تعليم الله تعالى عباده وتعريفهم بجلاله وكماله ليؤمنوا به ويعبدوه ليكملوا ويسعدوا في الحياتين بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ المؤمن مؤمن، والكافر كافر مكتوب ذلك في كتاب المقادير، ثم يظهره تعالى في عالم الشهادة قائما على سننه في خلقه.
3- وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه لأنه عليم بذات الصدور.
[64.5-6]
شرح الكلمات:
ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل: أي ألم يأتكم يا كفار قريش خبر الذين كفرو من قبلكم.
فذاقوا وبال أمرهم: أي عقوبة كفرهم في الدنيا.
ولهم عذاب أليم: أي في الآخرة.
ذلك: أي العذاب في الدنيا والآخرة.
بأنه كانت تأتيهم رسلهم: أي بسبب أنها كانت تأتيهم رسلهم.
بالبينات: أي بالحجج القواطع الدالة على صحة رسالاتهم.
فقالوا: أبشر يهدوننا: أي ردوا عليهم ساخرين مكذبين: أبشر يهدوننا؟
فكفروا وتولوا: أي فكفروا برسلهم وتولوا عنهم أي أعرضوا.
واستغنى الله: أي عن إيمانهم.
والله غني حميد: أي غني عن خلقه محمود بأفعاله وآلائه على خلقه.
معنى الآيتين:
بعد أن بين تعالى للناس مظاهر ربوبيته المقتضية لعلمه وقدرته وحكمته وعدله ورحمته في الآيات السابقة والموجبة لألوهيته قرر في هاتين الآيتين نبوة ورسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال لكفار مكة { ألم يأتكم نبأ } أي خبر { الذين كفروا من قبل }: كقوم عاد وثمود وأصحاب مدين، { فذاقوا وبال أمرهم } أي عقوبة كفرهم التي كانت عقوبة ثقيلة شديدة فأهلكوا في الدنيا بعذاب إبادي استئصالي، وفي الآخرة لهم عذاب أليم وبين لهم سبب ذلك الهلاك والعذاب فقال: { ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } أي بالحجج والبراهين على أنهم رسل إليهم، وأنه لا إله إلا الله فلا تصح العبادة لغير الله، فيقابلونهم بالسخرية والإعراض والاستنكار وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله: { فقالوا أبشر يهدوننا } أي كيف يكون بشر مثلكم يهدوننا، وبذلك كفروا وتولوا عن الإيمان والإسلام. واستغنى الله عن إيمانهم فأهلكهم لما كفروا به وبرسله. ولم يأسف أو يأس عليهم لعدم حاجته إليهم والله غني عنهم وعن سائر خلقه حميد أي محمود بأفعاله الشاهدة بكماله وجلاله وجماله.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- توبيخ من يستحق التوبيخ وتأنيب من يستحق التأنيب.
2- التكذيب للرسل والكفر بتوحيد الله موجب للعقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
3- تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثباتها لأن شأنه شأن الرسل من قبله.
[64.7-10]
شرح الكلمات:
زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا: أي قالوا كاذبين إنهم لن يبعثوا أحياء من قبورهم.
قل بلى وربي لتبعثن: قل لهم يا رسولنا بلى لتبعثن ثم تنبئون بما عملتم.
وذلك على الله يسير: أي وبعثكم وحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم شيء يسير على الله.
والنور الذي أنزلنا: أي وآمنوا بالقرآن الذي أنزلناه.
ليوم الجمع: أي يوم القيامة إذ هو يوم الجمع.
ذلك يوم التغابن: أي يغبن المؤمنون الكافرين يأخذ منازل الكفار في الجنة وأخذ الكفار منازل المؤمنين في النار.
ذلك الفوز العظيم: أي تكفيره تعالى عنهم سيئاتهم وإدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار هو الفوز العظيم.
بئس المصير: أي قبح المصير الذي صاروا إليه وهو كونهم أهلا للجحيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قريش إنه بعد أن ذكرهم بمصير الكافرين من قبلهم وفي ذلك دعوة واضحة لهم إلى الإيمان بتوحيد الله وتصديق رسوله. دعاهم هنا إلى الإيمان بأعظم أصل من أصول الهداية البشرية وهو الإيمان بالبعث والجزاء وهم ينكرون ويجاحدون ويعاندون فيه فقال في أسلوب غير المواجهة بالخطاب زعم الذين كفروا والزعم ادعاء باطل وقول إلى الكذب أقرب منه إلى الصدق. أن لن يبعثوا أي أنهم إذا ماتوا لن يبعثوا أحياء يوم القيامة. قل لهم يا رسولنا: { بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم } ولازم ذلك الجزاء العادل على كل أعمالكم وهي أعمال فاسدة غير صالحة مقتضية للعذاب والخزي في جهنم { وذلك على الله يسير } أي وأعلمهم أن بعثهم وتنبئنهم بأعمالهم وإثابتهم عليها أمر سهل هين لا صعوبة فيه وبعد هذه اللفتة اللطيفة دعاهم دعوة كريمة إلى طريق سعادتهم ونجاتهم فقال عز وجل: { فآمنوا بالله ورسوله } أي صدقوا بتوحيد الله وبنبوة رسوله وبالنور الذي أنزلنا وهو القرآن الكريم، واعملوا الصالحات وتباعدوا عن السيئات { والله بما تعملون خبير } أي وسيجزيكم بأعمالكم. وذلك { يوم يجمعكم ليوم الجمع } وهو يوم القيامة ويجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها ذلك يوم التغابن الحقيقي حيث يرث أهل الجنة منازل أهل النار في الجنة ويرث أهل النار منازل أهل الجنة في النار، وهذا قائم على أساس أن الله تعالى أوجد لكل إنسان منزلا في الجنة وآخر في النار، فمن آمن وعمل صالحا دخل الجنة وحاز منزله ومنزل إنسان آخر هو في النار فحصل بذلك الغبن بينه وبين من هو في النار قد ورث منزله فيها وبعد هذا الدعاء الخاص الموجه إلى كفار قريش قال تعالى واعدا عامة الناس عربهم وعجمهم من وجد منهم ومن لم يوجد بعد: ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم لأنه نجاة من النار ودخول الجنة هذا وعده الصادق لمن آمن وعمل صالحا، وقال: { والذين كفروا } أي بالله ورسوله ولقائه وكذبوا بآياتنا أي القرآن وما فيه من شرائع وأحكام والتكذيب مانع من العمل الصالح قطعا إذا { أولئك أصحب النار خلدين فيها وبئس المصير } النار والخلود فيها هذا وعيده تعالى المقابل لوعده السابق اللهم اجعلنا من أهل وعدك ولا تجعلنا من أهل وعيدك يا واسع الفضل يا رحمن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء.
2- تقرير التوحيد والنبوة.
3- بيان كون القرآن نورا فلا هداية في هذه الحياة إلا به فمن طلبها في غيره ما اهتدى.
4- الترغيب في الإيمان والعمل الصالح وبيان أنهما مفتاح دار السلام.
5- التحذير من الكفر والتكذيب بالقرآن وشرائعه وأحكامه فإن ذلك يقود إلى النار.
[64.11-13]
شرح الكلمات:
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله: أي ما أصابت أحدا من النار مصيبة إلا بقضاء الله تعالى وتقديره ذلك عليه.
ومن يؤمن بالله يهد قلبه: أي ومن يصدق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذنه تعالى يهد قلبه للتسليم والرضاء بقضائه فيسترجع ويصبر.
فإن توليتم: أي عن طاعة الله ورسوله فلا ضرر ولا بأس على رسولنا في توليكم إذ عليه إبلاغكم لا هدايتكم.
معنى الآيات:
قوله تعالى { مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } في هذه الآية رد على الكافرين الذين يقولون لو كان المسلمون على حق، وما هم عليه حقا لصانهم الله من المصائب في الدنيا، ولما سلط عليهم كذا وكذا... فأخبر تعالى أنه ما من أحد من الناس تصيبه مصيبة في نفس أو ولد أو مال إلا وهي بقضاء الله وتقديره ذلك عليه، ومن يؤمن بالله ربا وإلها عليما حكيما وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه يهد قلبه فيصبر ويسترجع فيؤجر وتخف عنده المصيبة بخلاف الكافر بالله وقضائه وقدره.
وقوله تعالى { والله بكل شيء عليم } فلا يخفى عليه شيء فلا يحدث حدث في الكون إلا بعلمه وإذنه وهذه حال تقتضي الرضا بالقضاء والقدر والتسليم لله تعالى فيما يقضي به على عبده وفي ذلك خير كثير لا يعرفه إلا أصحاب الرضا بالقضاء والتسليم للعليم الحكيم.
وقوله تعالى { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } يأمر تعالى عباده عامة بطاعة الله وطاعة رسوله لأن كمال الإنسان وسعادته مرتبطة بهذه الطاعة التي هي عبارة عن تطبيق نظام دقيق ينتج صفاء روح وزكاة نفس يتأهل بها العبد إلى النزول بالملكوت الأعلى " الجنة دار الأبرار ".
وقوله { فإن توليتم } أي أعرضتم عن هذه الدعوة فرفضتم طاعة الله ورسوله فلا ضرر على رسولنا ولا ضير إذ عليه البلاغ المبين وقد بلغ مبينا غاية التبيين، وأما هدايتكم فلم يكلف بها إذ لا يقدر عليها ولا يكلف الله نفسا إلا طاقتها.
وقوله تعالى: { الله لا إله إلا هو } أي أن الذي أمركم بطاعته وطاعة رسوله هو الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له لأنه الخالق لكم الرازق المدبر لحياتكم، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فإنه يكفي المؤمن الذي يتوكل عليه يكفيه كل ما يهمه من أمر دنياه وآخرته. ولا كافي إلا هو سبحانه وتعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
2- وجوب الصبر عند نزول المصيبة والرضا والتسليم لله تعالى في قضائه وحكمه، ومن تكن هذه حاله يهد الله قلبه ويرزقه الصبر وعظيم الأجر ويلطف به في مصيبته وإن هو استرجع قائلا إنا لله وإنا إليه راجعون أخلفه الله عما فقده وآجره.
3- وجوب طاعة الله وطاعة رسوله في الأمر والنهي.
4- تقرير التوحيد.
5- وجوب التوكل على الله تعالى وهو فعل المأمور وترك المنهى وتفويض الأمر لله بعد ذلك. ولن يكون إلا خيرا بإذن الله تعالى.
[64.14-18]
شرح الكلمات:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم: أي من بعض أزواجكم وبعض أولادكم عدوا أي يشغلونكم عن طاعة الله أو ينازعونكم في أمر الدين أو الدنيا.
فاحذروهم: أي أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير كترك الهجرة أو الجهاد أو صلاة الجماعة أو التصدق على ذوي الحاجة.
وإن تعفوا: أي عمن ثبطكم عن الخير من زوجة وولد.
وتصفحوا وتغفروا: أي وتعرضوا عنهم وتغفروا لهم ما عملوه معكم من تأخيركم عن الهجرة أو الإنفاق في سبيل الله.
فإن الله غفور رحيم: أي يغفر لمن يغفر ويرحم من يرحم.
إنما أموالكم وأولادكم فتنة: أي بلاء واختبار لكم فاحذروا أن يصرفوكم عن طاعة الله أو يوقعوكم في معصيته.
والله عنده أجر عظيم: أي فآثروا ما عنده تعالى على ما عندكم من مال وولد.
فاتقوا الله ما استطعتم: أي افعلوا ما تقدرون عليه من أوامره، واجتنبوا نواهيه كلها.
ومن يوق شح نفسه: أي ومن يقه الله شح نفسه فيعافيه من البخل والحرص على المال.
يضاعفه لكم: أي الدرهم بسبعمائة.
والله شكور حليم: أي يجازى على الطاعة ولا يعاجل بالعقوبة.
معنى الآيات:
هذه الآيات الكريمة { يأيها الذين آمنوا } إلى قوله { العزيز الحكيم } نزلت في أناس كان لهم أزواج وأولاد عاقوهم عن الهجرة والجهاد فترة من الوقت فلما تغلبوا عليهم وهاجروا ووجدوا الذين سبقوهم إلى الهجرة قد تعلموا وتفقهوا في الدين فتأسفوا عن تخلفهم فهموا بأزواجهم وأولادهم الذين عاقوهم عن الهجرة فترة طويلة أن يعاقبوهم بنوع من العقاب من تجويع أو ضرب أو تثريب وعتاب فأنزل الله تعالى هذه الآيات يا أيها الذين آمنوا أي يا أيها المؤمنون إن من أزواجكم وأولادكم أي من بعضهم لا كلهم إذ منهم من يساعد على طاعة الله ويكون عونا عليها عدوا لكم يصرفكم عن طاعة الله والتزود للدار الآخرة، وقد ينازعونكم في دينكم ودنياكم إذا فاحذروهم أي كونوا منهم على حذر أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير من هجرة وجهاد وغيرهما وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا أي عمن شغلوكم عن طاعة الله فعاقوكم عن الهجرة والجهاد فلم تضربوهم ولم تجوعوهم ولم تثربوا عليهم ولم تعاتبوهم بل تطلبون العذر لما قاموا به نحوكم يكافئكم الله تعالى بمثله فيعفوا عنكم ويصفح ويغفر لكم كما عفوتم وصفحتم وغفرتم لأزواجكم وأولادكم الذين أخروا هجرتكم وعطلوكم عن الجهاد في سبيل الله.
وقوله تعالى { إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم } أي إنما أموالكم وأولادكم أي كل أموالكم وأولادكم فتنة واختبار من الله لكم هل تحسنون التصرف فيهم فلا تعصوا الله لأجلهم لا بترك واجب ولا بفعل ممنوع، أو تسيئون التصرف فيحملكم حبهم على التفريط في طاعة الله أو التقصير في بعضها بترك واجب أو فعل حرام والله عنده أجر عظيم فآثروا ما عند الله على ما عندكم من مال وولد، إن ما عند الله باق، وما عندكم فان، فآثروا الباقي على الفاني.
وقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } هذا من إحسان الله تعالى إلى عباده المؤمنين إنه لما علمهم أن أموالهم وأولادهم فتنة وحذرهم أن يؤثروهم على طاعة الله ورسوله علم أن بعض المؤمنين سوف يزهدون في المال والولد، وأن بعضا سوف يعانون أتعابا ومشقة شديدة في التوفيق بين خدمة المصلحتين فأمرهم أن يتقوه في حدود ما يطيقون فقط وخير الأمور الوسط فلا يفرط في ولده وماله، ولا يفرط في علة وجوده وسبب نجاته وسعادته وهي عبادة الله تعالى التي خلق لأجلها وعليها مدار نجاته من النار ودخوله الجنة.
وقوله تعالى واسمعوا ما يدعوكم الله ورسوله إليه { وأطيعوا وأنفقوا } في طاعة الله من أموالكم خيرا لأنفسكم من عدم الإنفاق فإنه شر لكم وليس بخير.
وقوله تعالى: { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } أعلمهم أن عدم الإنفاق ناتج عن شح النفس، وشح النفس لا يقي منه إلا الله، فعليكم باللجوء إلى الله تعالى ليحفظكم من شح نفوسكم فادعوه وتوسلوا إليه بالإنفاق قليلا قليلا حتى يحصل الشفاء من مرض الشح الذي هو البخل مع الحرص الشديد على جمع المال والحفاظ عليه ومن شفي من مرض الشح أفلح وأصبح في عداد المفلحين الفائزين بالجنة بعد النجاة من النار. وقوله { إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم } هذا الترغيب عظيم من الله تعالى للمؤمنين في النفقة في سبيله إذ سماها قرضا والقرض مردود وواعد بمضاعفتها وزيادة أخرى أن يغفر لهم بذلك ذنوبهم، واشتراط الحسن للقرض اشتراط معقول وهو أن يكون المال الذي أقرض الله حلالا لا حراما، وأن تكون النفس طيبة به لا كارهة له، وهذا من باب النصح للمؤمنين ليحصلوا على الأجر مضاعفا وقوله تعالى { والله شكور حليم } ترغيب أيضا لهم في الإنفاق لأن لشكور معناه يعطي القليل فيكافيء بالكثير، والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة. ومثله يقرض القرض الحسن.
وقوله { عالم الغيب والشهادة } ترغيب أيضا في الإنفاق إذا أعلمهم أنه لا يغيب عنه من أمورهم شيء يعلم الخفي منها والعلني، وما غاب عنهم فلم يروه وما ظهر لهم فشهدوه فذو العلم بهذه المثابة معاملته مضمونة لا يخاف ضياعها ولا نسيانها. وقوله { العزيز الحكيم } أي العزيز الانتقام من أعدائه الحكيم في إجراء أحكامه وتدبير شؤون عباده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن من بعض الزوجات والأولاد عدوا فعلى المؤمن أن يحذر ذلك ليسلم من شرهم.
2- الترغيب في العفو والصفح والمغفرة على من أساء أو ظلم.
3- التحذير من فتنة المال والولد ووجوب التيقظ حتى لا يهلك المرء بولده وماله.
4- وجوب تقوى الله بفعل الواجبات وترك المنهيات في حدود الطاقة البشرية.
5- الترغيب في الإنفاق في سبيل الله تعالى والتحذير من الشح فإنه داء خطير.
[65 - سورة الطلاق]
[65.1]
شرح الكلمات:
يا أيها النبي: أراد الله بالنداء النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بدليل ما بعده.
إذا طلقتم النساء: أي إذا أردتم طلاقهن.
فطلقوهن لعدتهن: أي لقبل عدتهن أي في طهر لم يجامعها فيه.
وأحصوا العدة: أي احفظوا مدتها حتى يمكنكم المراجعة فيها.
واتقوا ربكم: أي أطيعوه في أمره ونهيه.
لا تخرجوهن من بيوتهن: أي لا تخرجوا المطلقة من بيت زوجها الذي طلقها حتى تنقضي عدتها.
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة: أي إلا أن يؤذين بالبذاء في القول وسوء الخلق، أو يرتكبن فاحشة من زنا بينة ظاهر لا شك فيها.
وتلك حدود الله: أي المذكورات من الطلاق في أول الطهر وإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها حتى تنقضي عدتها.
لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا: أي يجعل في قلب الزوج الرغبة في مراجتها فيراجعها إذا لم تكن الثالثة من الطلقات.
معنى الآية
قوله تعالى: { يأيها النبي إذا طلقتم النسآء } يخاطب الله تبارك وتعالى رجال أمة الإسلام في شخصية نبيها محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: إذا طلقتم أي إذا أردتم طلاقهن لأمر اقتضى ذلك فطلقوهن لعدتهن أي لأول عدتهن وذلك في طهر لم تجامع فيه لتعد ذلك الطهر أول عدتها. وقوله تعالى: { وأحصوا العدة } أي احفظوها فاعرفوا بدايتها ونهايتها لما يترتب على ذلك من أحكام من صحة المراجعة وعدمها، ومن النفقة، والإسكان وعدمهما. وقوله: { واتقوا الله ربكم } فامتثلوا أوامره وقفوا عند حدوده فلا تتعدوها، لا تخرجوهن أي المطلقات من بيوتهن اللاتي طلقن فيهن، ولا يخرجن أي ويجب أن لا يخرجن من بيوتهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة كزنا ظاهر أو تكون سيئة بذيئة اللسان فتؤذى أهل البيت أذى لا يتحملونه فعندئذ يباح إخراجها.
وقوله تعالى: { وتلك حدود الله } أي المذكورات من الطلاق لأول الطهر، وإحصاء العدة، وعدم إخراجهن من بيوتهن، وقوله { ومن يتعد حدود الله } فيتجاوزها ولم يقف عندها فقد ظلم نفسه وتعرض لعقوبة الله تعالى عاجلا أو آجلا.
وقوله تعالى: { لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } أي بأن يجعل الله تعالى في قلب الرجل رغبة في مراجعة مطلقته فيراجعها، وفي ذلك خير كثير.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- بيان السنة في الطلاق وهي أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه بجماع.
2- أن يكون الطلاق واحدة لا اثنتين ولا ثلاثا.
3- وجوب إحصاء العدة ليعرف الزوج متى تنقضي عدة مطلقته لما يترتب على ذلك من أحكام الرجعة والنفقة والإسكان.
4- حرمة إخراج المطلقة من بيتها الذي طلقت فيه إلى أن تنقضي عدتها إلا أن ترتكب فاحشة ظاهرة كزنا أو بذاءة أو سوء خلق وقبيح معاملة فعندئذ يجوز إخراجها.
[65.2-3]
شرح الكلمات:
فإذا بلغن أجلهن: أي قاربن انقضاء عدتهن.
فأمسكوهن بمعروف: أي بأن تراجعوهن بمعروف من غير ضرر.
أو فارقوهن بمعروف: أي أتركوهن حتى تنقضي عدتهن ولا تضاروهن بالمراجعة.
وأشهدوا ذوي عدل منكم: أي اشهدوا على الطلاق وعلى الرجعة رجلين عدلين منكم أي من المسلمين فلا يشهد كافر.
وأقيموا الشهادة لله: أي لا للمشهود عليه أوله بل لله تعالى وجده.
ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الأخر: أي ذلكم المذكور من أول السورة من أحكام يؤمر به وينفذه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.
ومن يتق الله: أي في أمره ونهيه فلا يعصه فيهما.
يجعل له مخرجا: أي من كرب الدنيا والآخرة.
ويرزقه من حيث لا يحتسب: أي من حيث لا يرجو ولا يؤمل.
فهو حسبه: أي كافيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه.
قد جعل الله لكل شيء قدرا: أي من الطلاق والعدة وغير ذلك حدا وأجلا وقدرا ينتهي إليه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان العدد وأحكام الطلاق والرجعة. قال تعالى: { فإذا بلغن } أي المطلقات أجلهن أي قاربن انقضاء العدة فأمسكوهن بمعروف أي راجعوهن على أساس حسن العشرة والمصاحبة الكريمة لا للإضرار بهن كأن يراجعها ثم يطلقها يطول عليها العدة فهذا لا يجوز لحرمة الإضرار بالناس وفي الحديث:
" لا ضرر ولا ضرار "
وقوله { أو فارقوهن بمعروف } وذلك بأن يعطيها ما بقي لها من مهرها ويمتعها بحسب حاله غنى وفقرا. وقوله تعالى { وأشهدوا ذوى عدل منكم } أي أشهدوا على النكاح والطلاق والرجعة أما الإشهاد على النكاح فركن ولا يصح النكاح بدونه، وأما في الطلاق والرجعة فهو مندوب، وقد يصح الطلاق والرجعة بدونه، ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولا، وأن يكونوا مسلمين لا كافرين. وقوله: { وأقيموا الشهادة لله } أي أدوها على وجهها ولا تراعوا فيها إلا وجه الله عز وجل، وقوله: { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } أي ذلكم المأمور به من أول السورة كالطلاق في طهر لم يجامعها فيه وكإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها والإمساك بالمعروف والفراق بالمعروف والإشهاد في النكاح والطلاق والرجعة والإقساط في الشهادة كل ذلك يوعظ به أي يؤمر به وينفذه المؤمن بالله واليوم الآخر إذ هو الذي يخاف عقوبة الله وعذابه فلا يقدم على معصيته.
وقوله تعالى: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فبم تأمرني؟ قال آمرك وإياها أن تكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
فقالت المرأة نعم ما أمرك به فجعلا يكثران منها فغفل العدو عن ابنهما فاستاق غنمهم وجاء بها إلى أبويه فنزلت هذه الآية، وهي عامة في كل من يتق الله تعالى فإنه يجعل له من كل ضيق مخرجا ومن كل كرب فرجا، ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يؤمل، ولا يخطر له على بال، ومن يتوكل على الله تعالى في أمره فلا يفرط في أمر الله، ولا يضيع حقوقه فإن الله تعالى يكفيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه، وقوله تعالى { إن الله بالغ أمره } أي منفذ أمره في عباده لا يعجزونه أبدا، وقد جعل لكل شيء قدرا أي مقدارا وزمانا ومكانا فلا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ولا يقع في ملك الله إلا ما يريد الله.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- لا تصح الرجعة إلا في العدة فإن انقضت العدة فلا رجعة للمطلقة أن تتزوج من شاءت هو أو غيره من ساعة انقضاء عدتها.
2- لا تحل المراجعة للإضرار، ولكن للفضل والإحسان وطيب العشرة.
3- مشروعية الإشهاد على الطلاق والرجعة معا.
4- يشترط في الشهود العدالة، فإذا خفت العدالة في الناس استكثر من الشهود.
5- وعد الله الصادق بالفرج القريب لكل من يتقه سبحانه وتعالى، والرزق من حيث لا يرجو.
6- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
7- كفاية الله لمن توكل عليه.
[65.4-5]
شرح الكلمات:
واللائي يئسن من المحيض: والنسوة اللائي يئسن من الحيض.
إن ارتبتم: أي شككتم في عدتهن.
واللائي لم يحضن: أي لكبر سن أو صغر سن.
وأولات الأحمال: أي ذوات الأحمال : النساء الحوامل.
أجلهن: أي في انقضاء عدتهن أن يضعن حملهن.
ذلك أمر الله: أي ذلك المذكور في العدة وتفاصيلها.
أنزله إليكم: أي لتأتمروا به وتعملوا بمقتضاه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان أحكام الطلاق والرجعة والعدة فقال تعالى: { واللائي يئسن من المحيض } أي لكبر سنهن كمن تجاوزت الخمسين من عمرها إذا طلقت بعد الدخول بها. أن ارتبتم أيها المؤمنون في مدة عدتهن، فعدتهن ثلاثة أشهر. واللائي لم يحضن أي لصغرهن كذلك، عدتهن ثلاثة أشهر وقوله { وأولات الأحمال } أي الحوامل إن طلقن أو مات عنهن أزواجهن أجلهن في انقضاء عدتهن أن يضعن حملهن أي وضع حملهن فمتى ولدت ما في بطنها من جنين فقد انقضت عدتها ولو وضعته قبل استكمال التسعة أشهر، إن لم تتعمد إسقاطه بالإجهاض المعروف اليوم عند الكوافر والكافرين.
وقوله تعالى: { ومن يتق الله } أي منكم أيها المؤمنون في هذه الأحكام المتعلقة بالطلاق والرجعة والعدة فلا يخالف أمره في ذلك يكافئه الله تعالى من فضله فيجعل له من أمره يسرا فيسهل عليه أمره ويرزقه ما تقر به عينه ويصلح به شأنه.
وقوله تعالى: { ذلك أمر الله أنزله إليكم } أي ذلك المذكور من الأحكام في هذه السورة من الطلاق والرجعة والعدة وتفاصيلها حكم الله أنزله إليكم لتأمروا وتعملوا به فاعملوا به ولا تهملوه طاعة لله وخوفا من عذابه ومن يتق الله في أوامره ونواهيه فيؤدي الواجبات ويتجنب المحرمات يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا أي يغفر له ذنوبه ويدخله الجنة.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- بيان العدة وهي كالتالي:
1- متوفى عنها زوجها وهي غير حامل عدتها: أربعة أشهر وعشر ليال.
2- متوفى عنها زوجها وهي حامل: عدتها وضع حملها.
3- مطلقة لا تحيض لكبر سنها أو لصغر سنها وقد دخل بها: عدتها ثلاثة أشهر.
4- مطلقة تحيض عدتها ثلاثة قروء أي تحيض تبتدئ بالحيضة التي بعد الطهر الذي طلقت فيه. أو ثلاثة أطهار كذلك الكل واسع ولفظ القرء مشترك دال على الحيض وعلى الطهر.
2- بين أن أحكام الطلاق والرجعة والعدد مما أوحى الله به وأنزله في كتابه فوجب العمل به ولا يحل تبديله أو تغييره باجتهاد أبدا.
3- فضل التقوى وأنها باب كل يسر وخير في الحياة الدنيا والآخرة.
[65.6-7]
شرح الكلمات:
من وجدكم: أي من وسعكم بحيث يسكن الرجل مطلقته في بعض سكنه.
ولا تضاروهن: أي لا تطلبوا ضررهن بأي حال من الأحوال سواء في السكن أو النفقة.
لتضيقوا عليهن: أي لأجل أن تضيقوا عليهن السكن فيتركنه لكم ويخرجن منه.
وإن كن أولات حمل: أي حوامل يحملن الأجنة في بطونهن.
فإن أرضعن لكم: أي أولادكم.
فآتوهن أجورهن: فأعطوهن أجورهن على الإرضاع هذا في المطلقات.
وأتمروا بينكم بمعروف: أي وتشاورا أو ليأمر كل منكم صاحبه بأمر ينتهي باتفاق على أجرة معقولة لا إفراط فيها ولا تفريط.
وإن تعاسرتم: فإن امتنعت الأم من الإرضاع أو امتنع الأب من الأجرة.
لينفق ذو سعة: أي لينفق على المطلقات المرضعات ذو الغنى من غناه.
ومن قدر عليه رزقه: ومن ضيق عليه عيشه فلينفق بحسب حاله.
معنى الآيتين:
بعد بيان الطلاق بقسميه الرجعي والبائن وبيان العدد على اختلافها بين تعالى في هاتين الآيتين أحكام النفقات والإرضاع فقال تعالى: { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } أي من وسعكم ولا تضاروهن بأي مضارة لا في السكن ولا في الإنفاق ولا في غيره من أجل أن تضيقوا عليهن فيتركن لكم السكن ويخرجن. وهؤلاء المطلقات طلاقا رجعيا وهن حوامل أو غير حوامل. وقوله تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } أي وإن كانت المطلقة طلاق البتة أي طلقها ثلاث مرات فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن أي أسكنوهن وأنفقوا عليهن إلى أن يلدن فإن وضعت حملها فهما بالخيار إن شاءت أرضعت له ولده بأحرة يتفقان عليها وإن شاء هو أرضع ولده مرضعا غير أمه وهو معنى قوله تعالى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وذلك يتم بتبادل الرأي إلى الاتفاق على أجرة معينة، وإن تعاسرا بأن طلب كل واحد عسر الثاني أي تشاحا في الأجرة فلم يتفقا فلترضع له أي للزوج امرأة أخرى من نساء القرية.
وقوله تعالى: { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ آتاه الله } أمر تعالى المؤمن إذا طلق أن ينفق على مطلقته التي ترضع له ولده أو التي هي في عدتها في بيته بحسب يساره وإعساره أو غناه وافتقاره، إذ لا يكلف الله نفسا إلا ما أعطاها من قدرة أو غنى وطول والقاضي هو الذي يقدر النفقة عند المشاحة وتكون بحسب دخل الرجل وما يملك من مال.
وقوله تعالى: { سيجعل الله بعد عسر يسرا } هذا وعد صدق أتمه لأصحاب رسوله حيث كانوا في عسر ففتح عليهم ملك كسرى والروم فأبدل عسرهم يسرا. وأما غيرهم فمشروط بالتقوى كما تقدم ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب السكن والنفقة للمطلقة طلاقا رجعيا.
2- وجوب السكنى والنفقة للمطلقة الحامل حتى تضع حملها.
3- وجوب السكنى والنفقة للمتوفى عنها زوجها وهي حامل.
4- المطلقة البائن والمبتوتة لم يقض لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس أخت الضحاك، ومن الفضل الذي ينبغي أن لا ينسى إن كانت محتاجة إلى سكن أو نفقة أن يسكنها مطلقها وينفق عليها مدة عدتها. وأجره عظيم لأنه أحسن والله يحب المحسنين.
5- النفقة الواجبة تكون بحسب حال المطلق غنى وفقرا والقاضي يقدرها إن تشاحا.
6- المطلقة طلاقا بائنا إن أرضعت ولدها لها أجرة إرضاعها حسب اتفاق الطرفين الأم والأب.
7- بيان القاعدة العامة وهي أن لا تكلف نفس إلا وسعها.
[65.8-12]
شرح الكلمات:
وكأين من قرية: أي وكثير من قرية أي مدينة.
عتت عن أمر ربها: أي عصت يعني أهلها عصوا ربهم ورسله.
عذابا نكرا: أي فظيعا.
ذكرا رسولا: أي القرآن وأرسل إليكم رسولا هو محمد صلى الله عليه وسلم.
من الظلمات إلى النور: أي من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد.
قد أحسن الله له رزقا: اي رزق الجنة التي لا ينقطع نعيمها أبدا.
ومن الأرض مثلهن: أي سبع أرضين أرضا فوق أرض كالسماوات سماء فوق سماء.
يتنزل الأمر بينهن: أي الوحي بين السماوات والأرض.
لتعلموا أن الله على كل شيء قدير: أي أعلمكم بذلك الخلق العظيم والتنزيل العجيب لتعلموا..
معنى الآيات:
لما قرر تعالى أحكام الطلاق والرجعة والعدة والنفقات وقال ذلك أمر الله أنزله إليكم، وأوجب العمل به حذر في هذه الآية من إهمال تلك الأحكام وتجاهلها وعدم القيام بها فقال: { وكأين من قرية } أي كثير من المدن عتا أهلها أي ترفعوا متكبرين عن أوامر الله ورسله فلم يمتثلوها وعن الحقوق فلم يؤدوها حاسبها الله تعالى في الدنيا حسابا شديدا وعذبها عذابا نكرا أي فظيعا. فذاقت بذلك وبال أمرها أي عقوبته وكان عاقبة أمرها خسرا أي خسارا وهلاكا وأعد الله لهم عذابا شديدا هو عذاب يوم القيامة وفي تكرار الوعيد تحذير من الوقوع فيه بالشرك والظلم.
وقوله تعالى { فاتقوا الله } أي خافوا عقابه فلا تهملوا أحكامه ولا تعطلوها فيحل بكم ما حل بغيركم ممن عتوا عن أمر ربهم ورسله يا أولي الألباب أي العقول الذين آمنوا قد أنزل إليكم ذكرا هو القرآن { رسولا } هو محمد صلى الله عليه وسلم { يتلوا عليكم آيات الله مبينات } واضحات في نفسها لا خفاء فيها ولا غموض، ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات أي ظلمات الكفر والشرك إلى النور نور الإيمان والتوحيد والعمل الصالح.
وقوله تعالى { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا قد أحسن الله له رزقا } هذا وعد كريم من رب رحيم يعد كل من آمن به وعمل صالحا أن يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن له فيها رزقا وهو نعيم الجنة الذي لا ينفد ولا ينقطع ابدا.
وقوله { الله الذي خلق سبع سموت ومن الأرض مثلهن } أي سبع أرضين واحدة فوق الأخرى كالسماوات سماء فوق سماء هذا هو الله المعبود بحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه .
وقوله تعالى: { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } أي أعلمكم بخلقه العظيم من السماوات والأرضين وبتنزل الأمر بينهن في كل وقت وحين لتعلموا أنه تعالى على كل شيء قدير لترغبوا فيما عنده وأنه أحاط بكل علما لترهبوه وتراقبوه، وبذلك تتهيؤن لإنعامه ورضاه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من ترك الأحكام الشرعية وإهمالها والعبث بها.
2- بيان منة الله على هذه الأمة بإنزال القرآن عليها وإرسال الرسول إليها.
3- بيان أن الكفر ظلمة وأن الإيمان نور.
4- بيان عظمة الله تعالى وسعة علمه.
[66 - سورة التحريم]
[66.1-5]
شرح الكلمات:
لم تحرم ما أحل الله لك: أي لم تحرم جاريتك مارية التي أحلها الله لك.
تبتغي مرضات أزواجك: أي بتحريمها.
قد فرض لكم تحلة أيمانكم: أي شرع لكم تحليلها بالكفارة المذكورة في سورة المائدة.
وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه: هي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
حديثا: هو تحريم مارية وقوله لها لا تفشيه.
فلما نبأت به: أي نبأت حفصة عائشة أي أختبرها به ظنا منها أنه لا حرج في ذلك باجتهاد.
وأظهره الله عليه: أي أطلعه عليه أي على المنبأ به.
عرف بعضه: أي لحفصة.
وأعرض عن بعض: أي تكرما منه صلى الله عليه وسلم.
إن تتوبا إلى الله: أي حفصة وعائشة رضي الله عنهما تقبل توبتكما.
فقد صغت قلوبكما: أي مالت إلى تحريم مارية أي سركما ذلك.
وإن تظاهرا عليه: أي تتعاونا أي على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه.
فإن الله هو مولاه: أي ناصره.
وصالح المؤمنين: أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
والملائكة بعد ذلك ظهير: أي ظهراء وأعوان له.
قانتات: أي عابدات.
سائحات: أي صائمات أو مهاجرات.
معنى الآيات:
قوله تعالى: { يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم } في هذا عتاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ حرم جاريته مارية ترضية وذلك أنه صلى الله عليه وسلم خلا بها في بيت إحدى نسائه فاطلعت عليه فقالت يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي فجعلها أي مارية عليه حراما ترضية لصاحبة الحجرة والفراش. فأنزل الله تعالى هذه الآيات مشتملة على هذه القصة فقال تعالى: { يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك } يعني جاريته مارية القبطية أم إبراهيم. { تبتغي مرضات أزواجك } أي تطلب رضاهن { والله غفور رحيم } بك فلا لوم عليك بعد هذا ولا عتاب فجاريتك لا تحرم عليك وكفر عن يمينك. إذ قال لها هي علي حرام ووالله لا أطؤها.
وقوله تعالى { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } أي ما تتحللون به من أيمانكم إذا حلفتم وهي ما جاء في سورة المائدة من قوله تعالى
فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم
[الآية: 89] وقوله تعالى { والله مولاكم } أي متولي أمركم وناصركم. وهو العليم بأحوال عباده الحكيم في قضائه وتدبيره لخلقه.
وقوله تعالى { وإذ أسر النبي } أي أذكر إذ أسر النبي لبعض أزواجه حديثا وهي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما إذ قال لها لقد حرمت فلانة ووالله لا أطأها وطلب منها أن لا تفشي هذا السر.
فحدثت به عائشة وكانت متصافية معها توادها.
فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك. فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه لحفصة وأعرض عن بعض تكرما منه صلى الله عليه وسلم. قالت أي حفصة من أنبأك هذا؟ قال نبأني العليم الخبير. وقوله: إن تتوبا الى الله أي حفصة وعائشة فقد صغت قلوبكما أي مالت إلى تحريم مارية أي سركما ذلك. وجواب الشرط تقديره تقبل توبتكما. وقوله تعالى: { وإن تظاهرا عليه } أي تتعاونا عليه صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه، فإن تعاونكما يا حفصة وعائشة رضي الله عنكما لن يضره شيئا فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين أبوبكر وعمر، والملائكة بعد ذلك ظهير له أي ظهراء وأعوان له عن كل من يؤذيه أو يريده بسوء.
وقوله تعالى { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } ، وفي هذا تخويف شديد لأمهات المؤمنين وتأديب رباني كبير لهن إذ وعد رسوله أنه لو طلقهن لأبدله خيرا منهن { مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات } أي صائمات أو مهاجرات، { ثيبات وأبكارا } أي بعضهن ثيبات وبعضهن أبكارا إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلقهن والله تعالى لم يبدله فهن زوجاته في الدنيا زوجاته في الآخرة هذا وأنبه إلى أن خلافا كبيرا بين أهل التفسير في الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه وعاتبه ربه عليه. وأحله الله له هل هو شراب كان يحبه، أو هو جاريته مارية ومن الجائز أن يكون غير ما ذكر؛ لأن الله تعالى لم يذكر نوع ما حرم رسوله على نفسه، وإنما قال لم تحرم ما أحل الله لك. والجمهور على أن المحرم مارية، وفي البخاري أنه العسل والله أعلم فلذا أستغفر الله تعالى أن أكون قد قلت عليه أو على رسوله ما لا يرضيهما أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله إن ربي غفور رحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوته صلى الله عليه وسلم وبشريته الكاملة.
2- أخذ الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى من هذه الآية أن من قال لزوجته أنت حرام أو حرمتك وهو لم ينو طلاقها أن عليه كفارة يمين لا غير، وذكر القرطبي في هذه المسألة ثمانية عشر قولا للفقهاء أشدها البتة وأرفقها أن فيها كفارة يمين كما هو مذهب الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى.
3- كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم على ربه.
4- فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
[66.6-8]
شرح الكلمات:
قوا أنفسكم وأهليكم: أي اجعلوا لها وقاية بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
نارا وقودها الناس والحجارة: أي توقد بالكفار والأصنام التي تعبد من دون الله، لا بالحطب ونحوه.
لا تعتذروا اليوم: أي لأنه لا ينفعكم اعتذار، يقال لهم هذا عند دخولهم النار.
توبة نصوحا: أي توبة صادقة بأن لا يعاد إلى الذنب ولا يراد العود إليه.
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا: أي بإدخالهم النار.
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم: أي أمامهم ومن كل جهاتهم على قدر أعمالهم.
ربنا أتمم لنا نورنا: أي إلى الجنة، لأن المنافقين ينطفيء نورهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة } هذا نداء الله إلى عباده المؤمنين يعظهم وينصح لهم فيه أن يقوا أنفسهم وأهليهم من زوجة وولد، نارا عظيمة، وقودها أي ما توقد به الناس من المشركين والحجارة التي هي أصنامهم التي كانوا يعبدونها يقون أنفسهم بطاعة الله ورسوله تلك الطاعة التي تزكي أنفسهم وتؤهلهم لدخول الجنة بعد النجاة من النار.
وقوله تعالى { عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } أي على النار قائمون عليها وهم الخزنة التسعة عشرة غلاظ القلوب والطباع شداد البطش إذا بطشوا ولا يعصون الله أي لا يخالفون أمره، وينتهون إلى ما يأمرهم به وهو معنى ويفعلون ما يؤمرون.
وقوله تعالى { يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم } هذا يقال لأهل النار ينادون ليقال لهم: لا تعتذروا اليوم حيث لا ينفع الاعتذار. وإنما تجزون ما كنتم تعملون الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة.
وقوله تعالى { يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } هذا هو النداء الثاني الذي ينادي فيه الله تعالى عباده المؤمنين يأمرهم فيه بالتوبة العاجلة النصوح التي لا يعود صاحبها إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع، ويعدهم ويبشرهم يعدهم بتكفير سيئآتهم، يبشرهم بالجنة دار النعيم المقيم فيقول { عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم } أي بعد ذلك { جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه } أي بإدخالهم الجنة. وقوله تعالى { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } أي وهم مجتازون الصراط يسألون ربهم أن يبقي لهم نورهم لا يقطعه عنهم حتى يجتازوا الصراط وينجوا من السقوط في جهنم كما يسألونه أن يغفر لهم ذنوبهم التي قد يردون بها إلى النار بعد اجتياز الصراط.
وقولهم: إنك على كل شيء قدير هذا توسل منهم لقبول دعائهم حيث توسلوا بصفة القوة والقدرة لله تعالى فقالوا إنك على كل شيء قدير فأتمم لنا نورنا واغفر لنا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب العناية بالزوجة والأولاد وتربيتهم وأمرهم بطاعة الله ورسوله ونهيهم عن ترك ذلك.
2- وجوب التوبة الفورية على كل من أذنب من المؤمنين والمؤمنات وهي الإقلاع من الذنب فورا أي تركه والتخلي عنه، ثم العزم على أن لا يعود إليه في صدق، ثم ملازمة الندم والاستغفار كلما ذكر ذنبه استغفر ربه وندم على فعله وإن كان الذنب متعلقا بحق آدمي كأخذ ماله أو ضرب جسمه أو انتهاك عرضه وجب التحلل منه حتى يعفو ويسامح.
[66.9-12]
شرح الكلمات:
جاهد الكفار: أي بالسيف.
والمنافقين: أي باللسان.
واغلظ عليهم: أي أشدد عليهم في الخطاب ولا تعاملهم باللين.
فخانتاهما: أي في الدين إذ كانتا كافرتين.
فلم يغنيا عنهما: أي نوح ولوط عن امرأتيهما.
من الله شيئا: أي من عذاب الله شيئا وإن قل.
امرأة فرعون: أي آسيا بنت مزاحم آمنت بموسى.
أحصنت فرجها: أي حفظته فلم يصل إليه الرجال لا بنكاح ولا زنا.
فنفخنا فيه من روحنا: أي نفخنا في كم درعها بواسطة جبريل الملقب بروح القدس.
وصدقت بكلمات ربها: أي بولدها عيسى أنه كلمة الله وعبده ورسوله.
معنى الآيات:
في الآية الأولى [9] يأمر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بعدما ناداه بعنوان النبوة تشريفا وتكريما يأمره بجهاد الكفار والمنافقين فالكفار بالسيف، وشن الغارات عليهم حتى يسلموا، والمنافقون بالقول الغليظ والعبارة البليغة المخيفة الحاملة للوعيد والتهديد. وقوله تعالى: { واغلظ عليهم } أي أشدد وطأتك على الفريقين على المنافقين باللسان، وعلى الكافرين بالسنان. ومأواهم جهنم وبئس المصير إذا ماتوا على نفاقهم وكفرهم، أو من علم الله موتهم على ذلك. وقوله تعالى في الآية الثانية [10] ضرب الله مثلا في عدم انتفاع الكافر بقرابة المؤمن مهما كانت درجة القرابة عنده. وهو امرأة نوح وامرأة لوط إذ كانت كل واحدة منها تحت نبي رسول فخانتاهما في دينهما فكانتا كافرتين فامرأة نوح تفشى سر من يؤمن بزوجها وتخبر به الجبابرة من قوم نوح حتى يبطشوا به وكانت تقول لهم إن زوجها مجنون، وامرأة لوط كانت كافرة وتدل المجرمين على ضيوف لوط إذا نزلوا عليه في بيته وذلك في الليل بواسطة النار، وفي النهار بواسطة الدخان. فلما كانتا كافرتين لم تغن عنهما قرابتهما بالزوجة شيئا. ويوم القيامة يقال لهما: ادخلا النار مع الداخلين من قوم نوح وقوم لوط. هذا مثل وآخر في عدم تضرر المؤمن بقرابة الكافر ولو كانت القرابة الزوجية وما أقواها، وهو - المثل - إمرأة فرعون الكافر الظالم آسيا بنت مزاحم كانت قد آمنت بموسى مع من آمن فلما عرف فرعون إيمانها أمر بقتلها فلما علمت بعزم الطاغية على قتلها قالت في مناجاتها لربها: رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله الذي هو الكفر والظلم حتى لا أكون كافرة بك ولا ظالمة لأحد من خلقك، ونجني من القوم الظالمين أي من عذابهم فشدت أيديها وأرجلها لتلقى عليها صخرة عظيمة إن هي أصرت على الإيمان فرفعت بصرها إلى السماء فرأت بيتها في الجنة ففاضت روحها شوقا إلى الله وإلى بيتها في الجنة وقد رأته فوصلت الصخرة إليها بعد أن فاضت روحها فنجاها الله من عذاب القتل الذي أراده لها فرعون وعصابته الظلمة الكافرون.
وقوله تعالى ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها. عطف تعالى مريم على آسيا ليكون المثل مكونا من امرأتين مؤمنتين، كالمثل الأول كان مكونا من امرأتين كافرتين فقال عز وجل ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها عن الرجال في الوقت الذي عم البغاء والزنا ديار بني إسرائيل كما هي الحال اليوم في ديار اليهود وأمثالهم قد لا تسلم امرأة من الزنا بها فلم يضر ذلك مريم لما كانت عفيفة طاهرة بل أكرمها الله لما أحصنت فرجها بأن أرسل إليها روحه جبريل عليه السلام وأمره أن ينفخ في كم درعها فسرت النفخة بقدرة الله تعالى في جسمها فحملت بعيسى الذي كان بكلمة الله كن فكان في ساعة وصول هواء النفخة وولدته للفور كرامة الله للتي أحصنت فرجها خوفا من الله وتقربا إليه، وما ضرها أن العهر والزنا قد انتشر حولها ما دامت هي طاهرة كما لم يضر كفر فرعون آسيا الطاهرة. وكما لم ينفع إيمان وصلاح نوح ولوط امرأتيهما الكافرتين الخائنتين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بغت امرأة نبي قط، وهو كما قال فوالله ما زنت امرأة نبي قط لولاية الله تعالى لأنبيائه فكيف يخزيهم ويذلهم حاشاه تعالى أن يخزي أولياءه أو يذلهم فالمراد من الخيانة المذكورة في قوله تعالى فخانتاهما الخيانة في الدين وإفشاء الأسرار.
وقوله تعالى: وصدقت بكلمات ربها أي بشرائعه وبكتبه التي أنزلها على رسله، وكانت من القانتين أي المطيعين لله تعالى الضارعين له المخبتين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الجهاد في الكفار بالسيف وفي المنافقين باللسان، وعلى حكام المسلمين القيام بذلك لأنهم خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في أمته.
2- تقرير مبدأ: لا تزر وازرة وزر أخرى. فالكافر لا ينتفع بالمؤمن يوم القيامة.
3- والمؤمن لا يتضرر بالكافر ولو كانت القرابة روحية نبوة أو إنسانية أو أبوة أو بنوة فإبراهيم لم يضره كفر آزر، ونوح لم يضره كفر كنعان ابنه، كما أن آزر وكنعان لم ينفعهما إيمان وصلاح الأب والإبن.
هذا وقرابة المؤمن الصالح تنفع المؤمن دون الصالح لقوله تعالى والذين آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم.
[67 - سورة الملك]
[67.1-5]
شرح الكلمات:
تبارك الذي بيده الملك: أي تعاظم وكثر خير الذي بيده الملك أجمع ملكا وتصرفا وتدبيرا.
وهو على كل شيء قدير: أي وهو على إيجاد كل ممكن وإعدامه قدير.
الذي خلق الموت والحياة: أي أوجد الموت والحياة فكل حي هو بالحياة التي خلق الله وكل ميت هو بالموت الذي خلق الله.
ليبلوكم أيكم أحسن عملا: أي أحياكم ليختبركم أيكم يكون أحسن عملا ثم يميتكم ويحييكم ليجزيكم.
وهو العزيز الغفور: أي وهو العزيز الغالب على ما يريده الغفور العظيم المغفرة للتائبين.
طباقا: أي طبقة فوق طبقة وهي السبع الطباق ولا تماس بينها.
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت: أي من تباين وعدم تناسب.
هل ترى من فطور: أي من شقوق أو تصدع.
كرتين: أي مرتين مرة بعد مرة.
خاسئا وهو حسير: أي ذليلا مبعدا كالا تعبا منقطعا عن الرؤية إذ لا يرى خللا.
بمصابيح: أي بنجوم مضيئة كالمصابيح.
رجوما للشياطين: أي مراجم جمع مرجم وهو ما يرجم به أي يرمى.
وأعتدنا لهم عذاب السعير: أي وهيأنا لهم عذاب النار المسعرة الشديدة الاتقاد.
معنى الآيات:
قوله { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير } مجد الرب تعالى نفسه وعظمها وأثنى عليها بما هو أهله من الملك والسلطان والقدرة والعلم والحكمة فقال عز وجل تبارك أي تعاظم وكثر خير الذي بيده الملك الحقيقي يحكم ويتصرف ويدير بعلمه وحكمته لا شريك له في هذا الملك والتدبير والسلطان. { وهو على كل شيء قدير } فما أراد ممكنا إلا كان، ولا أراد انعدام ممكن إلا انعدم. الذي خلق الموت والحياة لحكمة عالية لا باطلا ولا عبثا كما يتصور الكافرون والملاحدة الدهريون بل { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } أي خلق الحياة بكل ما فيها، ليذكر ويشكر من عباده فمن ذكر وشكر وأحسن ذلك، أعد له جنات ينقله إليها بعد نهاية الحياة والعمل فيها، ومن لم يذكر ولم يشكر أو ذكر وشكر ولم يحسن ذلك بأن لم يخلص فيه لله، ولم يؤده كما شرع الله أعد له نارا ينقله إليها بعد نهاية الحياة الدنيا حياة العمل، إذ هذه الحياة للعمل، وحياة الآخرة للجزاء على العمل. وقوله تعالى { وهو العزيز الغفور } ثناء آخر أثنى به تعالى على نفسه فأعلم أنه العزيز الغالب الذي لا يحال بينه وبين ما يريد الغفور العظيم المغفرة إذ يغفر الذنوب للتائب ولو كانت مثل الجبال وزبد البحر. وقوله { الذي خلق سبع سموت طباقا } هذا ثناء آخر بعظيم القدرة وسعة العلم والحكمة خلق سبع سماوات طباقا سماء فوق سماء مطابقة لها ولكن من غير مماسة إذ ما بين كل سماء وأخرى هواء وفراغ مسيرة خمسمائة عام فالمطابقة المعادلة والمساواة في الجرم لا بوضع سماء على الأخرى كغطاء القدر مثلا.
وقوله { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } أي من اختلاف أو تضاد وتباين والسماء فوقك فإنك لا تجد إلا الاتساق والانتظام لا تصدع ولا انفطار وإن شئت فارجع البصر وانظر هل ترى من فطور أي إنك لا ترى ذلك ثم ارجع البصر كرتين فإنك لا تجد تفاوتا ولا تباينا أبدا ولو نظرت الدهر كله كل ما في الأمر أن بصرك أيها الناظر إلى السماء يرجع إليك خاسئا أي ذليلا مبعدا مما أراد، وهو حسير أي كليل تعب وقوله تعالى { ولقد زينا السمآء الدنيا } أي هذه الدانية من الأرض القريبة منها بمصابيح هي النجوم والكواكب. وجعلناها أي النجوم رجوما للشياطين ترجم بها الملائكة شياطين الجن الذين يريدون استراق السمع من كلام الملائكة حتى لا يفتنوا الناس في الأرض عن دين الله عز وجل. وقوله تعالى { وأعتدنا لهم عذاب السعير } أي وهيأنا للشياطين عذاب السعير يعذبون به يوم القيامة كسائر الكافرين من الإنس والجن.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير ربوبية الله تعالى بعرض دلائل القدرة والعلم والحكمة والخير والبركة وهي موجبة لألوهيته أي عبادته دون من سواه عزوجل.
2- بيان الحكمة من خلق الموت والحياة.
3- بيان الحكمة من خلق النجوم وهي في قول قتادة رحمه الله: أن الله جل ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال: زينة لسماء الدنيا، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها.
[67.6-11]
شرح الكلمات:
كفروا بربهم: أي لم يؤمنوا به فلم يعبدوه.
إذا ألقوا فيها: أي في جهنم ألقتهم الملائكة فيها وذلك يوم القيامة.
سمعوا لها شهيقا: أي سمعوا لجهنم صوتا منكرا مزعجا كصوت الحمار.
وهي تفور تكاد تميز من الغيظ: أي تغلي تكاد تتقطع من الغيظ غضبا على الكفار.
سألهم خزنتها: سؤال توبيخ وتقريع وتأنيب.
ألم يأتكم نذير: أي رسول ينذركم عذاب الله يوم القيامة؟.
وقلنا ما نزل الله من شيء: أي كذبنا الرسل وقلنا لهم ما نزل الله مما تقولون لنا من شيء.
إن أنتم إلا في ضلال كبير: أي ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال كبير أي خطأ عقلي وتصور نفسي باطل.
لو كنا نسمع أو نعقل: أي وبخوا أنفسهم بأنفسهم وقالوا لو كنا في الدنيا نسمع أو نعقل لآمنا وعبدنا الله وما كنا اليوم في أصحاب السعير.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة أنه أعد للشياطين مسترقي السمع من الملائكة في السماء عذاب السعير عطف عليه قوله { وللذين كفروا بربهم } أي جحدوا ألوهيته ولقاءه فما عبدوه ولا آمنوا به من الإنس والجن عذاب جهنم وبئس المصير هي أي جهنم يصيرون إليها وينتهون إلى عذابها شرابها الحميم وطعامها الضريع والزقوم. وقوله تعالى في وصف ما يجري في النار { إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا } إذا ألقي الكافرون في النار سمعوا لها شهيقا أي صوتا منكرا مزعجا كصوت الحمار إذا شهق أو نهق. { وهي تفور } تغلي { تكاد تميز } أي تقرب أن تتقطع من الغيظ الذي هو شدة الغضب وغضبها من غضب الرب مالكها لما غضب الجبار غضبت لغضبه، وكل مؤمن بالله عارف به يغضب لما يغضب له ربه ويرضى به ربه. وقوله تعالى { كلما ألقي فيها فوج } أي جماعة { سألهم خزنتهآ } أي الملائكة الموكلون بالنار وعذابها وهم الزبانية وعددهم تسعة عشر ملكا سألوهم سؤال توبيخ وتقريع لأنهم يعلمون ما يسألونهم عنه { ألم يأتكم نذير } أي رسول في الدنيا يدعوكم إلى الإيمان والطاعة؟ فيجيبون قائلين { بلى } قد جاءنا نذير ولكن كذبنا الرسل وقلنا لهم ردا على دعوتهم { ما نزل الله من شيء } أي مما تقولون وتدعوننا إليه { إن أنتم إلا في ضلال كبير } أي وقلنا لهم ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال عقلي وخطأ تصوري كبير. ثم رجعوا إلى أنفسهم يوبخونها بما أخبر تعالى به عنهم في قوله { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } قال تعالى { فاعترفوا بذنبهم فسحقا } أي بعدا بعدا من رحمة الله { لأصحاب السعير } أي سعير جهنم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري فيها من عذاب وعقاب.
2- بيان أن تكذيب الرسل كفر موجب للعذاب، وتكذيب العلماء كتكذيب الرسل بعدهم أي في وجوب العذاب المترتب على ترك طاعة الله ورسوله.
3- بيان أن ما يقوله أهل النار في إعترافهم هو ما يقوله الملاحدة اليوم في ردهم على العلماء بأن التدين تأخر عقلي ونظر رجعي.
4- تقرير أن الكافر اليوم لا يسمع ولا يعقل أي سماعا ينفعه وعقلا عن المهالك باعتراف أهل النار إذ قالوا { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }.
[67.12-15]
شرح الكلمات:
يخشون ربهم بالغيب: أي يخافونه وهم غائبون عن أعين الناس فلا يعصونه.
لهم مغفرة وأجر كبير: أي لذنوبهم وأجر كبير هو الجنة.
ألا يعلم من خلق: أي كيف لا يعلم سركم كما يعلم جهركم وهو الخالق لكم فالخالق يعرف مخلوقه.
وهو اللطيف الخبير: أي بعبادة الخبير بهم وبأعمالهم.
ذلولا: أي سهلة للمشي والسير عليها.
فامشوا في مناكبها: أي في جوانبها ونواحيها.
وإليه النشور: أي إليه وحدة مهمة نشركم أي إحياءكم من قبوركم للحساب والجزاء.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى جزاء الكافرين وأنه عذاب السعير رغب في الإيمان والطاعة للنجاة من السعير فقال { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } أي يخافونه وهم لا يرونه، وكذا وهم في غيبة عن الناس فيطيعونه ولا يعصونه هؤلاء لهم مغفرة لما فرط من ذنوبهم وأجر كبير عند ربهم أي الجنة. ولما قال بعض المشركين في مكة لا تجهروا بالقول فيسمعكم إله محمد فيطلعه على قولكم قال تعالى ردا عليهم وتعليما { وأسروا قولكم أو اجهروا به } فإنه يعلم السر وما هو أخفى منه كحديث النفس وخواطرها { إنه عليم بذات الصدور } أي بما هو مكنون مستور في صدور الناس { ألا يعلم من خلق } أي كيف لا يعلم من خلقهم وهو اللطيف بهم الخبير بأحوالهم وأعمالهم. وقوله تعالى { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا } أي سهلة فامشوا في مناكبها جوانبها ونواحيها شرقا وغربا وكلوا من رزقه الذي خلق لكم، وإليه وحده نشوركم أي إحيائكم وإخراجكم من قبوركم ليحاسبكم ويجزيكم على إيمانكم وطاعتكم بخير الجزاء وهو الجنة ونعيمها، وعلى كفر من كفر منكم وعصى بشر الجزاء وهو النار وعذابها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإيمان بالغيب ومراقبة الله تعالى في السر والعلن.
2- مشروعية السير في الأرض لطلب الرزق من التجارة والفلاحة وغيرهما.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
[67.16-19]
شرح الكلمات:
أن يخسف بكم الأرض: أي يجعلها بحيث تغورون فيها وتصبحون في جوفها.
فإذا هي تمور: أي تتحرك وتضطرب حتى يتم الخسف بكم.
أن يرسل عليكم حاصبا: أي ريحا عاصفا نرميكم بالحصباء فتهلكون.
كيف نذير: أي كان عاقبة إنذاري لكم بالعذاب على ألسنة رسلي.
فكيف كان نكير: أي إنكاري عليهم الكفر والتكذيب والجواب كان إنكارا حقا واقعا موقعه.
صآفات: أي باسطات أجنحتها.
ويقبضن: أي ويمسكن أجنحتهن.
ما يمسكهن إلا الرحمن: أي حتى لا يسقطن على الأرض حال البسط للأجنحة والقبض لها.
معنى الآيات:
يقول تعالى واعظا عباده ليؤمنوا به ويعبدوه وحده فيكملوا ويسعدوا أأمنتم من في السماء الذي هو العلو المطلق وهو الله عز وجل في عليائه فوق عرشه بائن من خلقه أن يخسف بكم الأرض لتهلكوا كلكم في جوفها فإذا هي حال الخسف تمور أي تتحرك وتضطرب حتى تغورو في بطنها والجواب لم يأمنوا ذلك فكيف إذا يصرون على الشرك والتكذيب للرسول وقوله { أم أمنتم من في السمآء } وهو الله عز وجل أن يرسل عليكم حاصبا أي ريحا تحمل الحصباء والحجارة فتهلكهم { فستعلمون كيف نذير } إي إنذاري لكم الكفر والتكذيب أي أنه حق وواقع مقتضاه وقوله تعالى { ولقد كذب الذين من قبلهم } كعاد وثمود وغيرهما أي كذبوا رسلي بعدما أنكروا عليهم الشرك والكفر فأهلكناهم { فكيف كان نكير } أي إنكاري لهم كان حقا وواقع المقتضى وقوله تعالى { أولم يروا إلى الطير فوقهم صفت } أي باسطات أجنحتهن ويقبضنها ما يمسكهن في حالة البسط أو القبض إلا الرحمن الذي أنكره المشركون وقالوا وما الرحمن وهم يعيشون في رحمته التي وسعت كل شيء وهو متجلية حتى في الطير تحفظه من السقوط والتحطيم أي أينكرون ألوهية الله ورحمته ولم يروا إلى الطير وهي صافات وقابضات أجنحتها ولا يمسكها أحد من الناس فمن يمسكها إذا؟ إنه الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه بما شاء من السنن والنواميس التي يحكم بها خلقه ويدبر بها ملكوته أن أمر المشركين في كفرهم بالله لعجب وقوله { إنه بكل شيء بصير } سواء عنده السابح في الماء والسارح في الغبراء والطائر في السماء والمستكن في الأحشاء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تحذير المعرضين عن الله وإنذارهم بسوء العواقب إن استمروا على إعراضهم فإن الله قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصبا من السماء وليس هناك من يؤمنهم ويجيرهم بحال من الأحوال. إلا إيمانهم وإسلامهم لله عز وجل.
2- في الهالكين الأولين عبر وعظات لمن له قلب حي وعقل يعقل به.
3- من آيات الله في الآفاق الدالة على قدرة الله وعلمه ورحمته الموجبة لعبادته وحده طيران الطير في السماء وهو يبسط جناحيه ويقبضهما ولا يسقط إذ المفروض أن يبقى دائما يخفق بجناحيه يدفع نفسه فيطير بمساعدة الهواء أما إن قبض أو بسط المفروض أنه يسقط ولكن الرحمن عز وجل يمسكه فلا يسقط.
[67.20-27]
شرح الكلمات:
جند لكم: أي أعوان لكم.
من دون الرحمن: أي غيره تعالى يدفع عنكم عذابه.
إن الكافرون: أي ما الكافرون.
إلا في غرور: غرهم الشيطان بأن لا عذاب ينزل بهم.
إن أمسك رزقه: أي إن أمسك الرحمن رزقه؟ لا أحد غير الله يرسله.
بل لجوا في عتو ونفور: أي إنهم لم يتأثروا بذلك التبكيت بل تمادوا في التكبر والتباعد عن الحق.
أفمن يمشي مكبا: أي واقعا على وجهه.
أمن يمشي سويا: أي مستقيما.
والأفئدة: أي القلوب.
قليلا ما تشكرون: أي شكركم قليل.
ذرأكم في الأرض: أي خلقكم في الأرض وإليه تحشرون لا إلى سواه.
متى هذا الوعد: أي الذي تعدوننا وهو يوم القيامة.
قل إنما العلم عند الله: أي علم مجيئه عند الله لا غير.
فلما رأوه زلفة: أي لما رأوا العذاب قريبا منهم في عرصات القيامة.
سيئت وجوه الذين كفروا: أي تغيرت مسودة.
هذا الذي كنتم به تدعون: أي هذا العذاب الذي كنتم بإنذاره تكذبون وتطالبون بهد تحديا منكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية كفار قريش فقال تعالى مخاطبا لهم { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن }؟ أي من هذا الذي هو جند لكم أيها المشركون بالله تعالى ينصركم من دون الرحمن أن أراد الرحمن بكم سوءا فيدفعه عنكم. وقوله تعالى { إن الكافرون إلا في غرور } أي ما الكافرون إلا في غرور أوقعهم الشيطان فيه زين لهم الشرك ووعدهم ومناهم أنه لا حساب ولا عقاب، وأن آلهتهم تشفع لهم وقوله تعالى { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور } أي أي من هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم إن أمسك الله ربكم رزقه عنكم فلو قطع عليكم المطر ما أتاكم به أحد غير الله. وقوله تعالى { بل لجوا في عتو ونفور } أي أنهم لم يتأثروا بهذا التبكيت والتأنيب بل تمادوا في الكبر والبتاعد عن الحق.
وقوله تعالى { أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم }؟ هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد تبيانا لحالهما وتحقيقا لواقع مذهبهما فقال أفمن يمشي مكبا أي واقعا على وجهه هذا هو المشرك الذي سيكب على وجهه في جهنم أهدى أمن يمشي سويا أي مستقيما على صراط مستقيم أي طريق مستقيم هذا هو الموحد فأيهما أهدى؟ والجواب قطعا الذي يمشي سويا على صراط مستقيم إذا النتيجة أن الموحد مهتد والمشرك ضال. وقوله تعالى { قل هو الذي أنشأكم } أي خلقكم { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } أي القلوب أي وأنتم لا تنكرون ذلك فمالكم إذا لا تشكرون المنعم عليكم بهذه النعم وذلك بالإيمان به وبرسوله وطاعته وطاعة رسوله إنكم ما تشكرون إلا قليلا وهو اعترافكم بأن الله هو المنعم لا غير.
وقوله تعالى { قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون } أي قل لهم يا رسولنا الله هو الذي ذرأكم في الأرض أي خلقكم لا أصنامكم التي لا تخلق ذبابا وإليه تعالى وحده تحشرون يوم القيامة إذا فكيف لا تؤمنون به وبرسوله ولا تشكرونه ولا تخافونه وإليه تحشرون فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم.
وقوله تعالى { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } أي ويقول الكافرون لرسول الله والمؤمنين: متى هذا الوعد الذي تعدوننا به وهو يوم القيامة أي متى يجيء؟ وهنا قال تعالى لرسوله إجابة لهم على سؤالهم: قل { قل إنما العلم عند الله } أي علم مجيء القيامة عند الله، وليس هو من شأني وإنما أنا نذير منه مبين لا غير. وقوله تعالى { فلما رأوه } أي عذاب يوم القيامة { زلفة } أي قريبا منهم { سيئت وجوه الذين كفروا } أي أساءها الله فتغيرت بالاسوداد والكآبة والحزن. وقيل لهم أو قالت لهم الملائكة هذا العذاب الذي كنتم به تطالبون متحدين رسولنا والمؤمنين وتقولون: { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير حقيقة ثابتة وهي أن الكافر يعيش في غرور كامل ولذا يرفض دعوة الحق.
2- تقرير حقيقة ثابتة وهي انحراف الكافر وضلاله واستقامة المؤمن وهدايته.
3- وجوب الشكر لله تعالى على نعمة السمع والبصر والقلب وذلك بالإيمان والطاعة.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
[67.28-30]
شرح الكلمات:
قل أرأيتم: أي أخبروني.
ومن معي: أي من المؤمنين.
أو رحمنا: أي لم يهلكنا.
فمن يجير الكافرين: أي فمن يحفظ ويقي الكافرين العذاب.
قل هو الرحمن: أي قل هو الرحمن الذي أدعوكم إلى عبادته.
إن أصبح ماؤكم غورا: أي غائرا لا تناله الدلاء ولا تراه العيون.
بماء معين: أي تراه العيون لجريانه على الأرض.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية كفار قريش فقال تعالى لرسوله قل لهؤلاء المشركين الذين تمنوا موتك وقالوا نتربص به ريب المنون قل لهم { أرأيتم } أي أخبروني { إن أهلكني الله ومن معي } من المؤمنين، { أو رحمنا } فلم يهلكنا بعذاب { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم }؟ والجواب: لا أحد إذا فماذا تنتفعون بهلاكنا. وقوله تعالى { قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين قل هو الرحمن الذي يدعوكم إلى عبادته وحده وترك عبادة غيره آمنا به وعليه توكلنا أي اعتمدنا عليه وفوضنا أمرنا إليه فستعلمون في يوم ما من هو في ضلال ممن هو على صراط مستقيم. وقوله { قل أرأيتم إن أصبح مآؤكم غورا } أي غائرا { فمن يأتيكم بمآء معين } أي قل لهؤلاء المشركين يا رسولنا تذكيرا لهم أخبروني إن أصبح ماؤكم الذي تشربون منه " بئر زمزم " وغيرها غائرا لا تناله الدلاء ولا تراه العيون. فمن يأتيكم بماء معين غير الله تعالى؟ والجواب لا أحد إذا فلم لا تؤمنون به وتوحدونه في عبادته وتتقربون إليه بالعبادات التي شرع لعباده أن يعبدوه بها؟
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان عليه المشركون من عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنوا موته.
2- وجوب التوكل على الله عز وجل بعد الإيمان.
3- مشروعية الحجاج لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
[68 - سورة القلم]
[68.1-7]
شرح الكلمات:
ن: هو أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا ن ويقرأ نون.
والقلم وما يسطرون: أي والقلم الذي كتب به الذكر " القدر " والذي يخطون ويكتبون.
ما أنت بنعمة ربك: أي لست بما أنعم الله عليك من النبوة وما وهبك من الكمال.
بمجنون: أي بذي جنون كما يزعم المشركون.
غير ممنون: أي غير مقطوع بل هو دائم أبدا.
بأيكم المفتون: أي بأيكم الجنون.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ن } هذا أحد الحروف المقطعة نحو ق، وص، وحم الله أعلم بمراده به وقوله تعالى { والقلم وما يسطرون } أي والقلم الذي كتب أول ما خلق وقال له اكتب فقال ما اكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى بذلك وما يسطرون أي وما تسطره وتكتبه الملائكة نقلا من اللوح المحفوظ، وما يكتبه الكرام الكاتبون من أعمال العباد قسمي أي أقسم تعالى بشيئين الأول القلم، والثاني ما سطر به وكتب مما خلق من كل شيء. والمقسم عليه قوله { مآ أنت بنعمة ربك بمجنون } تكذيب للمشركين الذين قالوا إن محمدا مجنون بسبب ما رأوا من الوحي والتأثير به على من هداه الله للإيمان، وقوله تعالى { وإن لك لأجرا غير ممنون } هذا داخل تحت القسم أي مقسم عليه وهو أن للنبي صلى الله عليه وسلم أجرا غير مقطوع أبدا بسبب ما قدمه من أعمال صالحة أعظمها ما بينه من الهدى وما سنه من طرق الخير إذ من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين كما أن الجنة أجر كل عمل صالح وللرسول فيها أجر غير مقطوع بل له أعلاها وأفضلها وقوله { وإنك لعلى خلق عظيم } هذا أيضا داخل في حيز المقسم عليه وهو أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم لعلى خلق أي أدب عظيم حيث أدبه ربه فكيف لا يكون أكمل الخلق أدبا وسيرته وما خوطب به في القرآن من مثل خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. ومثل وشاورهم في الأمر ومثل لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك إلى غير ذلك من الآداب الرفيعة التي أدب الله بها رسوله مما جعله أكمل الناس أدبا وخلقا وقد سئلت عائشة عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن وقال هو عن نفسه أدبني ربي فأحسن تأديبي وقال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
وقوله تعالى { فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون } أي دم على ما أنت عليه من الكمال يا رسولنا واصبر على دعوتنا فستبصر بعد قليل من الزمن ويبصر قومك المتهمون لك بالجنون بأيكم المفتون أي المجنون أنت - وحاشاك - أو هم.
وقوله تعالى { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } في هذا الخبر تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ليصبر على دعوة الله وفيه تهديد ووعيد للمشركين المكذبين فكون الله أعلم من كل أحد بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين معناه أنه سيعذب حسب سنته الضال وسيرحم المهتدي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير مسألة أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه.
2- بيان فضل القلم الذي يكتب به الهدى والخير.
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ كان ذلك بالقلم الذي أول ما خلق الله.
4- بيان كمال الرسول صلى الله عليه وسلم في أدبه وأخلاقه وجعله قدوة في ذلك.
[68.8-16]
شرح الكلمات:
ودوا لو تدهن: أي تمنوا وأحبوا لو تلين لهم بأن لا تذكر آلهتهم بسوء.
فيدهنون: فيلينون لك ولا يغلظون لك في القول.
كل حلاف مهين: أي كثير الحلف بالباطل حقير.
هماز مشاء بنميم: أي عياب مغتاب.
معتد أثيم: أي على الناس بأذيتهم في أنفسهم وأموالهم أثيم يرتكب الجرائم والآثام.
عتل بعد ذلك زنيم: أي غليظ جاف. زنيم دعي في قريش وليس منهم وهو الوليد بن المغيرة.
قال أساطير الأولين: أي ما روته الأولون من قصص وحكايات وليس بوحي قرآني.
سنسمه على الخرطوم: أي سنجعل على أنفه علامة يعير بها ما عاش فخطم أنفه بالسيف يوم بدر.
معنى الآيات:
قوله تعالى { فلا تطع المكذبين } أي بناء على أنك أيها الرسول مهتد وقومك ضالون فلا تطع هؤلاء الضالين المكذبين بالله ولقائه وبك وبما جئت به من الدين الحق وقوله { ودوا لو تدهن فيدهنون } أي ومما يؤكد لك عدم مشروعية طاعتهم فيما يطالبون ويقترحونه عليك أنهم ودوا أي تمنوا وأحبوا لو تلين لهم فتمالئهم بسكوتك عن آلهتهم فيدهنون بالكف عن أذيتك بترك السب والشتم. وقوله تعالى { ولا تطع كل حلاف مهين } بعدما نهاه عن إطاعة الكافرين عامة نهاه عن طاعة أفراد شريرين لا خير فيهم البتة كالوليد بن المغيرة فقال: { ولا تطع كل حلاف } كثير الحلف بالباطل { مهين } أي حقير. { هماز } عياب { مشآء بنميم } أي مغتاب نمام ينقل الحديث على وجه الإفساد { مناع للخير } أي يبخل بالمال أشد البخل { معتد أثيم } أي ظالم للناس معتد على أموالهم وأنفسهم { أثيم } كثير الإثم لغشيانه المحرمات وقوله { عتل بعد ذلك زنيم } أي غليظ الطبع جاف لا أدب معه. { زنيم } أي دعي في قريش وليس منهم. وقوله تعالى { أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } أي لأجل إن كان ذا مال وبنين حمله الشعور بالغنى على التكذيب بآيات الله فإذا تليت عليه وسمعها قال أساطير الأولين ردا لها ووصفها بأنها أسطورة أي أكذوبة مسطرة ومكتوبة من أساطير الأولين من الأمم الماضية. قال تعالى { سنسمه على الخرطوم } أي نجعل له سمة شر وقبح يعرف بها مدى حياته تكون بمثابة من جدع أنفه أو رسم على أنفه فكل من رآه استقبح منظره.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بأصحاب الصفات التالية كثرة الحلف بالكذب، المهانة، الهمزة النميمة، الغيبة، البخل، الاعتداء، غشيان الذنوب، الغلظة والجفاء، الشهرة بالشر.
2- التحذير من كثرة المال والولد فإنها سبب الطغيان
إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى
[العلق: 6-7].
3- التنديد بالمكذبين بآيات الله تعالى جملة أو تفصيلا. والعياذ بالله تعالى.
[68.17-33]
شرح الكلمات:
إنا بلوناهم: أي امتحنا كفار مكة بالمال والولد والجاه والسيادة فلم يشكروا نعم الله عليهم بل كفروا بها بتكذيبهم رسولنا وإنكارهم توحيدنا فأصبناهم بالقحط والقتل لعلهم يتوبون كما امتحنا أصحاب الجنة المذكورين في هذا السياق.
ليصرمنها: أي ليجدنها أي يقطعون ثمارها صباحا.
فطاف عليها طائف من ربك وهو نائمون: أي نار فأحرقتها.
فأصبحت كالصريم: أي كالليل الأسود الشديد الظلمة والسواد.
على حرثكم: أي غلة جنتكم وقيل حرث لأنهم عملوا فيها.
وهم يتخافتون: أي يتشاورون بأصوات مخفوضة غير رفيعة حتى لا يسمع بهم.
وغدوا على حرد قادرين: أي وغدوا صباحا على قصد قادرين على صرمها قبل أن يطلع عليهم المساكين.
إنا لضالون: أي مخطئوا الطريق أي ما هذا طريق جنتنا ولا هي هذه.
بل نحن محرومون: أي لما علموا أنها هي وقد احترقت قالوا بل نحن محرومون منها لعزمنا على حرمان المساكين منها.
قال أوسطهم: خيرهم تقوى وأرجحهم عقلا.
لولا تسبحون: أي تسبحون الله وتستثنون عندما قلتم لنصرمنها مصبحين.
يتلاومون: أي يلوم بعضهم بعضا تندما وتحسرا.
إنا إلى ربنا راغبون: أي طامعون.
كذلك العذاب: أي مثل هذا العذاب بالحرمان العذاب لمن خالف أمرنا وعصانا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قريش قوم محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى { إنا بلوناهم } يعني كفار قريش أي امتحناهم واختبرناهم بالآلاء والنعم لعلهم يشكرون فلم يشكروا ثم بالبلاء والنقم اي بالقحط والجدب والقتل لعلهم يتوبون كما بلونا أصحاب الجنة فتابوا ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الجنة الذين ابتلاهم فتابوا إليه ورجعوا الى طاعته فقال { إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة إذ أقسموا } - حلفوا - { ليصرمنها مصبحين } أي ليقطعن ثمارها ويجدونه في الصباح الباكر قبل أن يعلم المساكين حتى لا يعطوهم شيئا. ولا يستثنون أي لم يستثنوا في حلفهم لم يقولوا إلا أن يشاء الله. { فطاف عليها طآئف من ربك } يا رسولنا وهو نار أحرقتها { فأصبحت كالصريم } أي الليل المظلم الأسود الشديد السواد. { فتنادوا مصبحين } أي نادى بعضهم بعضا وهو إخوة كثير في أول الصباح قائلين { اغدوا على حرثكم } إن كنتم فعلا جادين في الصرام هذا الصباح. { فانطلقوا وهم يتخافتون } يتشاورون في صوت خافت حتى لا يفطن لهم فقراء البلد ومساكينها وأجمعوا على { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } كما كانوا يدخلونها ويأخذون منها أيام حياة والدهم رحمة الله عليه قال تعالى { وغدوا على حرد قادرين } أي وانطلقوا صباحا على حرد أي قصد تام قادرين على أن لا يدخلنها اليوم عليهم مسكين بل يجدونها ويحملونها إلى مخازنهم ولا يشعر بهم أحد من الفقراء والمساكين.
قال تعالى { فلما رأوها } محترقة سوداء مظلمة { قالوا } ما هذه جنتنا { إنا لضآلون } عنها بأن أخطئنا الطريق إليها، ولما علموا أنها هي ولكن احترقت ليلا اضربوا عن قولهم الأول وقالوا { بل نحن محرومون } أي منها لعزمنا على منع المساكين منها وقد كان والدنا يمنحهم منها ويعطيهم شكرا لله وأداء لحقه. وهنا تكلم أوسطهم أي خيرهم تقوى وأرجحهم عقلا بما أخبر تعالى عنه في قوله { قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون } أي ألم يسبق لي أن قلت لكم لما قلتم لنصرمنها مصبحين ولم تستثنوا فقلت لكم هلا تستثنون وأطلق لفظ التسبيح على الاستثناء لأن التسبيح تنزيه لله عن الشرك وسائر النقائص ومنها العجر والاستثناء تنزيه لله عن ذلك لأن الذي يقول أفعل ولم يستثن أعطى لنفسه قدرة كقدرة الله الذي إذا قال أفعل فعل ولا يعجز فهو هنا أشرك نفسه في صفة من صفات الله تعالى فلذا كان الاستثناء تسبيحا لله وتنزيها له عن المشارك في صفاته وأفعاله. فلما ذكرهم أخوهم العاقل الرشيد قالوا { سبحان ربنآ إنا كنا ظالمين } فنابوا بهذا الاعتراف قال تعالى { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } أي يلوم بعضهم بعضا على خطأهم في عزمهم على حرمان المساكين وعلى عدم الاستثناء في اليمين قالوا من جملة ما قالوا { يويلنا } أي يا هلاكنا احضر { إنا كنا طاغين } أي متجاوزين حدود الله التي حد لنا غفلة منا وجهلا بأنفسنا وبما يعاقب به أمثالنا. وهنا بعد أن رجعوا على أنفسهم باللوم وإلى الله بالتوبة رجوا ربهم ولم ييأسوا من رحمته فقالوا { عسى ربنآ أن يبدلنا خيرا منهآ إنآ إلى ربنا راغبون } هكذا ابتلوا بالنعمة ثم بسلبها فتابوا فهل كفار قريش وقد ابتلوا بالنعمة ثم سلبوها فهل يتوبون كما تاب أصحاب الجنة؟ إنما سيقت هذه القصة تذكيرا وتعليما فهلا يتذكرون فيتوبوا؟ قال تعالى { كذلك العذاب } أي مثل هذا العذاب بالحرمان العذاب لمن خالف أمر الله وعصاه { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } فإن عذاب الدنيا وقته محدود وأجله معدود أما عذاب الآخرة فإنه أبدي لا يحول ولا يزول.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الابتلاء يكون بالسراء والضراء أي بالخير والشر وأسعد الناس الشاكرون عند السراء الصابرون على طاعة الله ورسوله عند الضراء.
2- مشروعية التذكير بأحوال المبتلين والمعافين ليتخذ من ذلك طريق إلى الشكر والصبر.
3- صلاح الآباء ينفع أبناء المؤمنين فقد انتفع أصحاب الجنة بصلاح أبيهم الذي كان يتصدق على المساكين من غلة بستانه وعلامة انتفاعهم توبتهم.
4- مشروعية الاستثناء في اليمين وأنه تسبيح لله تعالى، وأن تركه يوقع في الإثم ولذا إذا حنث الحالف الذي لم يستثن تلوثت نفسه بإثم كبير لا يمحى إلا بالكفارة الشرعية التي حددها الشارع وهي إطعام أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة فإن لم يقدر على واحدة من هذه الأنواع صام ثلاثة أيام ليمحي ذلك الذنب من نفسه.
[68.34-43]
شرح الكلمات:
إن للمتقين: أي الذين اتقوا ربهم فآمنوا به ووحدوه فاتقوا بذلك الشرك والمعاصي.
عند ربهم جنات النعيم: أي لهم جنات النعيم يوم القيامة عند ربهم عز وجل.
أفنجعل المسلمين كالمجرمين: أي أنحيف في الحكم ونجور فنجعل المسلمين والمجرمين متساوين في العطاء والفضل والجواب لا، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة.
أم لكم كتاب فيد تدرسون: أي تقرأون فعلمتم بواسطته ما تدعون.
أن لكم فيه لما تخيرون: أي فوجدتم في الكتاب الذي تقرأون أن لكم فيه ما تختارونه.
أم لكم أيمان علينا بالغة: أي ألكم عهود منا موثقة بالأيمان لا نخرج منها ولا نتحلل إلى يوم القيامة.
إن لكم لما تحكمون: أي أعطيناكم عهودنا الواثقة أن لكم ما تحكمون به لأنفسكم كما تشاءون.
سلهم أيهم بذلك زعيم: أي سلهم يا رسولنا عن زعيمهم الذي يكفل لهم مضمون الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل مما يعطى المؤمنون.
أم لهم شركاء: أي أعندهم شركاء موافقون لهم في هذا الذي قالوا يكفلون لهم به ما ادعوه وحكموا به لأنفسهم وهو أنهم يعطون أفضل مما يعطى المؤمنون يوم القيامة.
يوم يكشف عن ساق: أي يوم يعظم الهول ويشتد الكرب ويكشف الرب عن ساقه الكريم التي لا يشبهها شيء عندما يأتي لفصل القضاء.
ترهقهم ذلة: أي تغشاهم ذلة يالها من ذلة.
وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون: أي وقد كانوا يدعون في الدنيا إلى الصلاة وهو سالمون من أية علة ولا يصلون حتى لا يسجدوا تكبرا وتعظما.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إن للمتقين } الآيات نزلت ردا على المشركين الذين ادعوا متبجحين أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يعطون أفضل مما يعطى المؤمنون قياسا منهم على حالهم في الدنيا حيث كانوا أغنياء والمؤمنون فقراء فقال تعالى { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } أي جنات كلها نعيم لا شيء فيها غيره. ثم قال في الرد منكرا على المشركين دعواهم مقرعا مؤنبا إياهم في سبعة استفهامات إنكارية تقريعية أولها قوله تعالى { أفنجعل المسلمين } الذين أسلموا لله وجوههم وأطاعوه بكل جوارحهم كالمجرمين الذين أجرموا على أنفسهم بارتكاب أكبر الكبائر كالشرك وسائر الموبقات أي نحيف ونجور في حكمنا فنجعل المسلمين كالمجرمين في الفضل والعطاء يوم القيامة، فنسوي بينهما وثانيها قوله: ما لكم؟ أي أي شي حصل لكم حتى ادعيتم هذه الدعوى وثالثها كيف تحكمون أي كيف أصدرتم هذا الحكم ما حجتكم فيه ودليلكم عليه؟ ورابعها قوله { أم لكم كتاب فيه تدرسون } أي أعندكم كتاب جاءكم به رسول من عند الله تقرأون فيه هذا الحكم الذي حكمتم به لأنفسكم بأنكم تعطون يوم القيامة أفضل مما يعطى المؤمنون إن لكم فيه لما تخيرون أي ألكم في هذا الكتاب ما تختارون والجواب.
لا. لا وخامسها قوله { أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون } أي أي ألكم عهودنا موثقة بأيمان لا نتحلل منها إلى يوم القيامة بأن لكم ما حكمتم به لأنفسكم من أنكم تعطون أفضل مما يعطى المؤمنون وسادسها { سلهم أيهم بذلك زعيم } أي سلهم يا رسولنا عن زعيمهم الذي يكفل لهم مضمون الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل مما يعطى المؤمنون سابعها قوله { أم لهم شركآء فليأتوا بشركآئهم إن كانوا صادقين } أي ألهم شركاء موافقون لهم في هذا الذي قالوه يكفلونه لهم فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في ذلك. بهذه الاستفهامات الإنكارية التقريعية السبعة نفى تعالى عنهم كل ما يمكنهم أن يتشبثوا به في تصحيح دعواهم الباطلة عقلا وشرعا. وقوله تعالى { يوم يكشف عن ساق } أي اذكر لهم يا رسولنا مبينا واقع الأمر يوم القيامة، ليخجلوا من تشدقهم بدعواهم الساقطة الباردة اذكر لهم يوم يعظم الهول ويشتد الكرب، ويأتي الرب لفصل القضاء ويكشف عن ساق فيخر كل مؤمن ومؤمنة ساجدا ويحاول المنافقون والمنافقات السجود فلا يستطيعون إذ يكون ظهر أحدهم طبقا واحدا أي عظما واحدا فلا يقدر على السجود وذلك علامة شقائه المترتب على نفاقه في الدنيا. ويدعون إلى السجود أي امتحانا لهم ليعرف من كان يسجد إيمانا واحتسابا ممن كان يسجد نفاقا ورياء فلا يستطيعون لأن ظهر أحدهم يصبح عظما واحدا خاشعة أبصارهم لا تطرف من شدة الخوف ترهقهم ذلة أي تغشاهم ذلة عظيمة وقوله وقد كانوا يدعون إلى السجود أي في الدنيا وهم سالمون معافون في أبدانهم ولا يسجدون تكبرا وكفرا بالله ربهم وبشرعه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير أن المجرمين لا يساوون المؤمنين يوم القيامة أذ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة فمن زعم أنه يعطى ما يعطاه المؤمنون من جنات النعيم فهو مخطئ في تصوره كاذب في قوله.
2- بيان عظم هول يوم القيامة وأن الرب تبارك وتعالى يأتي لفصل القضاء ويكشف عن ساق فلا يبقى أحد إلا سجد وأن الكافر والمنافق لا يستطيع السجود عقوبة له وفضيحة إذ كان في الدنيا يدعى إلى السجود لله فلا يسجد أي إلى الصلاة فلا يصلي تكبرا وكفرا.
[68.44-52]
شرح الكلمات:
ذرني ومن يكذب: أي دعني ومن يكذب أي لا يصدق.
بهذا الحديث: أي بالقرآن الكريم.
سنستدرجهم: أي نستنزلهم درجة درجة حتى نصل بهم إلى العذاب.
وأملي لهم: أي وأمهلهم.
إن كيدي متين: أي شديد قوي لا يطاق.
فهم من مغرم مثقلون: أي فهم مما يعطونكه مكلفون حملا ثقيلا.
أم عندهم الغيب: أي اللوح المحفوظ.
فهم يكتبون: أي ينقلون منه ما يدعونه ويقولونه.
ولا تكن كصاحب الحوت: أي يونس في الضجر والعجلة.
وهو مكظوم: أي مملوء غما.
بالعراء: أي الأرض الفضاء.
وهو مذموم: لكن لما تاب نبذ وهو غير مذموم.
فاجتباه ربه: أي اصطفاه.
ليزلقونك بأبصارهم: أي ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد أن يصرعك.
وما هو إلا ذكر: أي محمد صلى الله عليه وسلم.
للعالمين: أي الإنس والجن فليس بمجنون كما يقول المبطلون.
معنى الآيات:
بعد ذلك التقريع الشديد للمشركين المكذبين الذي لم يؤثر في نفوسهم أدنى تأثير قال تعالى لرسوله { فذرني } أي بناء على ذلك فذرني ومن يكذب بهذا الحديث أي دعني وإياهم، والمراد من الحديث القرآن الكريم { سنستدرجهم } أي نستنزلهم درجة درجة { من حيث لا يعلمون } حتى تنتهي بهم إلى عذابهم المترتب على تكذيبهم وشركهم. وقوله تعالى { وأملي لهم إن كيدي متين } أي وأمهلهم فلا أعاجلهم بالعذاب فأوسع لهم في الرزق وأصحح لهم الجسم حتى يروا أن هذا لكرامتهم عندنا وأنهم خير من المؤمنين ثم نأخذهم. وهذا من كيدي الشديد الذي لا يطاق، وقوله تعالى { أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون } أي بل أتسألهم على تبليغ الدعوة أجرا مقابل التبليغ فهم من مغرم مثقلون أي فهم يشعرون بحمل ثقيل من أجل ما يعطونك من الأجر فلذا هم لا يؤمنون بك ولا يتابعونك على دعوتك. أم عندهم الغيب أي اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما هم يقولون به ويقرونه والجواب لا إذا فاصبر يا رسولنا لحكم ربك فيك وفيهم وامض في دعوتك ولا يثني عزمك تكذيبهم ولا عنادهم ولا تكن كصاحب الحوت يونس بن متى أي في الضجر وعدم الصبر. إذ نادى وهو مكظوم أي مملوء غما فقال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وقوله لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم أي لولا أن أدركته رحمة الله تعالى حيث ألهمه الله التوبة ووفقه لها لنبذ أي لطرح بالفضاء وهو مذموم ولكن لما تاب الله عليه طرح على ساحل البحر وهو غير مذموم بل محمود فاجتباه ربه أي اصطفاه مرة ثانية بعد الأولى فجعله من الصالحين أي الكاملي الصلاح من الأنبياء والمرسلين، ومعنى اجتباه مرة ثانية لأن الاجتباء الأول إذ كان رسولا في أهل نينوي وغاضبوه فتركهم ضجرا منهم فعوقب وبعد العقاب والعتاب اجتباه مرة أخرى وأرسله إلى أهل بلاده بعد ذلك الانقطاع قال تعالى من سورة اليقطين فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين.
وقوله تعالى { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } أي وإن يكاد الذين كفروا ليصرعونك من شدة النظر إليك وكلهم غيظ وحنق عليك بأبصارهم { لما سمعوا الذكر } أي القرآن نقرأه عليهم. ويقولون إنه لمجنون حسدا لك، وصرفا للناس عنك، وما هو أي محمد صلى الله عليه وسلم إلا ذكر للعالمين أي يذكر به الله تعالى الإنس والجن فليس هو بمجنون كما يقول المكذبون المفتونون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- رد الأمور إلى الله إذا استعصى حلها فالله كفيل بذلك.
2- لا يصح أخذ أجرة على تبليغ الدعوة.
3- وجوب الصبر على الدعوة مهما كانت الصعاب فلا تترك لأذى يصيب الداعي.
4- بيان حال المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وما كانوا يضمرونه له من البغض والحسد وما يرمونه به من الاتهامات الباطلة كالجنون والسحر والكذب.
[69 - سورة الحاقة]
[69.1-12]
شرح الكلمات:
الحاقة: أي الساعة الواجبة الوقوع وهي القيامة.
بالقارعة: أم بالقيامة لأنها تقرع القلوب بالخوف والهول.
فأهلكوا بالطاغية: أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم فأخذتهم صيحة طاغية أيضا.
بريح صرصر عاتية: أي ذات صوت لشدة عصوفها عاتية على خزانها في الهبوب.
حسوما: أي متتابعات الهبوب بلا فاصل كتتابع الكي القاطع للداء.
كأنهم أعجاز نخل خاوية: أي أصول نخل ساقطة فارغة ليس في جوفها شيء.
والمؤتفكات بالخاطئة: أي أهلها وهي قرى لوط بالفعلات ذات الخطأ.
أخذة رابية: أي زائدة في الشدة على غيرها.
لما طغا الماء: أي علا فوق كل شيء من الجبال وغيرها.
حملناكم في الجارية: أي السفينة التي صنعها نوح ونجا بها هو ومن معه من المؤمنين.
وتعيها أذن واعية: أي وتحفظها أذن واعية أي حافظة لما تسمع.
معنى الآيات:
قوله تعالى { الحاقة ما الحآقة } أي أي شيء هي؟ وما أدراك ما الحاقة أي أي شيء أعلمك بها، والمراد بها القيامة لأنها حاقة المجيى واجبته لا محالة. وقوله تعالى { كذبت ثمود وعاد بالقارعة } أي كذبت ثمود قوم صالح وعاد قوم هود بالقارعة أي بالقيامة. فهم ككفار قريش مكذبون بالبعث والجزاء. فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم فأخذتهم صيحة طاغية، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر أي ذات صوت شديد عاتية أي عتت على خزانها في الهبوب. سخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما أي متتابعات بلا انقطاع حسما لوجودهم كما يحسم الدواء بالكي الحاسم للداء المتتابع. وقوله تعالى فترى أيها الرسول القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية أي فترى القوم في تلك الليالي والأيام صرعى ساقطين على الأرض كأنهم أصول نخل ساقطة فارغة ليس في أجوافها شيء فهل ترى لهم من باقية أي من نسلهم لا شيء إذ هلكوا كلهم أجمعون، وقوله تعالى { وجآء فرعون ومن قبله } كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات بالخاطئة أي بالأفعال الخاطئة وهي الشرك والمعاصي وبينها تعالى بقوله { فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية } أي زائدة في الشدة على غيرها وقوله تعالى { إنا لما طغا المآء } أي ماء الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح حملناكم في الجارية أي حملنا آباءكم في الجارية التي هي سفينة نوح عليه السلام وقوله لنجعلها لكم تذكرة أي لنجعل السفينة تذكرة لكم عظة وعبرة وتعيها أي وتحفظ هذه العظة أذن حافظة لا تنسى ما هو حق وخير من المعاني.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان أن كلا من عاد وثمود كانوا يكذبون بالبعث وبيان ما أهلكهم الله به.
3- بيان أن معصية الرسول موجبة للعذاب الدنيوي والأخروي.
4- التذكير بحادثة الطوفان وما فيها من عظة وعبرة.
[69.13-18]
شرح الكلمات:
نفخة واحدة: أي النفخة الأولى.
حملت الأرض والجبال: أي رفعت من أماكنها.
فدكتا دكة واحدة: أي ضرب بعضها ببعض فاندكت وصارت كثيبا مهيلا.
وقعت الواقعة: أي قامت القيامة.
فهي يومئذ واهية: أي مسترخية ضعيفة القوة.
على أرجائها: أي على أطرافها وحافاتها.
ثمانية: أي من الملائكة وهم حملة العرش الأربعة وزيد عليهم أربعة.
لا تخفى منكم خافية: أي لا تخفى منكم سريرة من السرائر التي تخفونها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن القيامة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي هي الدافع إلى فعل الخير وترك الشر في الدنيا فقال تعالى { فإذا نفخ في الصور } أي نفخ إسرافيل في الصور الذي هو البوق أو القرن النفخة الأولى وهو المراد بقوله { نفخة واحدة } ، وقوله تعالى { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } أي ضرب بعضها ببعض فاندكت فصارت هباء منبثا، { فيومئذ وقعت الواقعة } أي قامت القيامة { وانشقت السمآء } أي انفطرت وتمزقت { فهي يومئذ واهية } ضعيفة مسترخية. { والملك على أرجآئهآ } أي على أطرافها وحافاتها، { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } أي ثمانية من الملائك أربعة هم حملة العرش دائما وزيد عليهم أربعة فصاروا ثمانية قال تعالى { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } أي سريرة مما كنتم تسرون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان كيفية الانقلاب الكوني لنهاية الحياة الأولى وبداية الحياة الثانية.
3- تقرير العرض على الله عز وجل للحساب ثم الجزاء.
[69.19-24]
شرح الكلمات:
هاؤم: أي خذوا.
إني ظننت: أي علمت.
راضية: أي يرضى بها صاحبها.
قطوفها دانية: أي ما يقتطف ويجنى من الثمار.
بما أسلفتم: أي بما قدمتم.
في الأيام الخالية: أي الماضية.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري في يوم القيامة فقال تعالى { فأما من أوتي كتبه بيمينه فيقول هآؤم اقرءوا كتبيه } أي إنه بعد مجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء تعطى الكتب فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله فأما من أوتي كتابه الذي ضم حسناته بيمينه فيقول في فرح عظيم هاؤم أي خذوا كتابي فاقرأوه إنه مشرق كله ما فيه سواد السيئات، ويعلل لسلامة كتابه من السيئات فيقول إني ظننت أي علمت أني ملاق حسابية لا محالة فلذا لم أقارف السيئات وإن قدر علي شيء فقارفته جهلا فإني تبت منه فورا فانمحى أثره من نفسي فلم يكتب علي قال تعالى مخبرا عن آثار نجاحه في سلامة كتابه من السيئات فهو في عيشة راضية. أي يرضاها لهناءتها وسعة خيراتها في جنة عالية قطوفها أي جناها وما يقتطف منها دانية أي قريبة التناول ينالها بيده وهو متكيء على أريكته ويقال لهم كلوا واشربوا من طعام الجنة وشرابها هنيئا ويذكر لهم سبب فوزهم فيقول { بمآ أسلفتم } أي قدمتم لأنفسكم { في الأيام الخالية } أي أيام الدنيا الماضية إذ كانوا مؤمنين صوامين قوامين بالمعروف آمرن وعن المنكر ناهين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء أي الإيمان باليوم الآخر.
2- آثار الإيمان بالبعث والجزاء ظاهرة في سلامة كتاب المؤمن من السيئات. وقد علل لذلك بقوله إني ظننت أني ملاق حسابي فلذا لم أعص ربي.
3- إثبات حقيقة هي قول العامة الدنيا مزرعة الآخرة أي من عمل في الدنيا نال ثمار عمله في الآخرة خيرا أو شرا.
[69.25-37]
شرح الكلمات:
يا ليتني لم أوت كتابية: أي يتمنى أنه لم يعط كتابه لما رأى فيه من السيئات.
كانت القاضية: أي الموتة في الدنيا كانت القاطعة لحياتي حتى لا أبعث.
هلك عني سلطانية: أي قوتي وحجتي.
خذوه: أي أيها الزبانية خذوا هذا الكافر.
فغلوه: أي اجعلوا يديه إلى عنقه في الغل.
ثم الجحيم صلوه: أي ثم في النار المحرقة أدخلوه وبالغوا في تصليته كالشاة المصلية.
حميم: أي من قريب ينفعه أو صديق.
إلا من غسلين: أي صديد أهل النار الخارج من بطونهم لأكلهم شجر الغسلين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجري من أحداث وقد تقدم ذكر الذي أوتي كتابه بيمينه وما له من كرامة عند ربه وفي هذه الآيات ذكر الذي أوتي كتابه بشماله وما له من مهانة وعذاب جزاء كفره فقال تعالى { وأما من أوتي كتبه } أي في عرصات القيامة فيقول بعد النظر فيه وما يلوح له فيه من السيئات { يليتني لم أوت كتبيه } يتمنى لو أنه لم يعط كتابه ولم يدر ما حسابه وأن الموتة التي ماتها في الدنيا يتمنى لو كانت القاطعة لحياته حتى لا يبعث، ثم يواصل تحسره وتحزنه قائلا { مآ أغنى عني ماليه } أي مالي والهاء في ماليه وفي كتابيه وحسابيه وفي ماليه وسلطانيه يقال لها هاء السكت يوقف عليها بالسكون قراءة كافة القراء وقوله { هلك عني سلطانيه } أي ذهبت عني حججي فلم أجد ما احتج به لنفسي قال تعالى للزبانية { خذوه فغلوه } أي شدوا يديه في عنقه بالغل { ثم الجحيم صلوه } أي أدخلوه فيها وصلوه بحرها المرة بعد المرة كما يصلى الكبش المشوى المصلي، { ثم في سلسلة } طويلة { ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } ولم يعرف مدى طول هذه الذراع إلا أنه إذا كان الكافر ما بين كتفيه كما بين مكة وقديد قرابة مائة وخمسين ميلا فإن السلسلة في ذرعها السبعين ذراعا لا بد وأن تكون مناسبة لهذا الجسم { فاسلكوه } أي ادخلوه فيها فتدخل من فمه وتخرج من دبره كسلك الخرزة في الخيط وذكر تعالى علة هذا الحكم عليه فقال { إنه كان } أي في الدنيا { لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين } فانحصرت جريمته في شيئين الكفر بالله ومنع الحقوق الواجب في المال ثم أخبر تعالى عن حال هذا الكافر الشقي في جهنم فقال { فليس له اليوم ها هنا } أي في جهنم { حميم } أي صديق أو قريب ينتفع به فيدفع عنه العذاب أو يخففه { ولا طعام إلا من غسلين } أي وليس له طعام يأكله إلا من طعام الغسلين الذي هو صديد أهل النار فإنهم عندما يأكلون شجر الغسلين يكون كالمسهل في بطونهم فيخرج كل ما في بطونهم وذلك هو الغسلين الذي يأكلونه ذلك الغسلين الذي لا يأكله إلا الخاطئون أي الذين ارتكبوا خطيئة الكفر والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها.
2- المال الذي باع المفلسون فيه الأمة والملة لا يغني يوم القيامة عن صاحبه شيئا.
3- التنديد بالكفر بالله وأهله.
4- عظم جريمة منع الحقوق المالية من الزكاة وغيرها.
[69.38-52]
شرح الكلمات:
بما تبصرون وما لا تبصرون: أي بكل مخلوق في الأرض وفي السماء.
إنه لقول رسول كريم: أي القرآن قاله تبليغا رسول كريم هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وما هو بقول كاهن: أي ليس القرآن بقول كاهن إذ ليس فيه من سجع الكهان شيء.
لأخذنا منه باليمين: أي بالقوة أو لأخذنا بيمينه لنقتله.
ثم لقطعنا منه الوتين: أي نياط القلب الذي إذا انقطع مات الإنسان.
حاجزين: أي مانعين وهو خبر ما النافية العاملة عمل ليس وجمع لأن أحد يدل على الجمع نحو لا نفرق بين أحد من رسله وبين لا تقع إلا بين اثنين فأكثر.
وإنه لحسرة على الكافرين: أي التكذيب بالقرآن حسرة يوم القيامة على المكذبين به.
وإنه لحق اليقين: أي الثابت يقينا أو اليقين الحق.
فسبح باسم ربك العظيم: أي نزه ربك العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير أي قل سبحان ربي العظيم.
معنى الآيات:
قوله تعالى فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون أي فلا الأمر كما ترون وتقولون أيها المكذبون أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون من المخلوقات في الأرض وفي السماوات إنه أي القرآن لقول رسول كريم على ربه تعالى وهو محمد صلى الله عليه وسلم أي إنه تبليغه وقوله إليكم وما هو بقول شاعر. كما تقولون كذبا قليلا ما تؤمنون أي إن إيمانكم قليل ضيق الدائرة فلو كان واسعا لا تسع للإيمان بالقرآن إنه كلام الله ووحيه وليس هو من جنس الشعر لمخالفته له نظما ومعنى. وما هو بقول كاهن قليلا ما تذكرون أي وليس القرآن بقول كاهن قليلا ما تذكرون أي تذكركم قليل جدا فلو تذكرتم كثيرا لعلمتم أن القرآن ليس بكلام الكهان لملازمته للصدق والحق والهدى ولبعد قائله عن الإثم والكذب بخلاف قول الكهان فإن سداه ولحمته الكذب وقائله هو الإثم كله فأين القرآن من قول الكهان؟ وأين محمد الرسول من الكهان اخوان الشيطان إنه تنزيل من رب العالمين أيها المكذبون الضالون. وأمر آخر وهو أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولو تقول علينا بعض الأقاويل ونسبها إلينا لأخذنا منه باليمين أي لبطشنا به وأخذنا بيمنيه ثم لقطعنا منه الوتين فيهلك إذ الوتين هو عرق القلب إذا قطع مات الإنسان وإذا فعلنا به هذا فمن منكم يحجزنا عنه؟ وهو معنى قوله تعالى { فما منكم من أحد عنه حاجزين } وقوله تعالى { وإنه } أي القرآن { لتذكرة } أي موعظة عظيمة للمتقين الذين يخافون عقاب الله ويخشون نقمه وعذابه وإنا لنعلم أن منكم أيها الناس مكذبين ليس بخاف عنا أمرهم وسنجزيهم وصفهم وإنه لحسرة على الكافرين أي يوم القيامة عندما يرون المؤمنين به يؤخذ بهم ذات اليمين إلى دار السلام والمكذبين به يؤخذ بهم ذات الشمال إلى دار البوار.
وإنه لحق اليقين أي اليقين الحق. بعد هذا التقرير في إثبات الوحي والنبوة أمر تعالى رسوله الذي كذب برسالته المكذبون أمره أن يستعين على الصبر بذكر الله تعالى فقال له { فسبح باسم ربك العظيم } أي قل سبحان ربي العظيم منزها اسمه عن تحريفه وتسمية المحدثات به معظما ربك غاية التعظيم إذ هو العلي العظيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لله تعالى أن يحلف بما شاء من مخلوقاته لحكم عالية وليس للعبد أن يحلف بغير الرب تعالى.
2- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
3- وصف الرسول بالكرم وبكرامته على ربه تعالى.
4- عجز الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكذب على الله تعالى وعدم قدرته على ذلك لو أراده ولكن الذي لا يكذب على الناس لا يكذب على الله كما قال هرقل ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ردا على أبي سفيان لما قال له لم نجرب عليه كذبا قط..
5- مشروعية التسبيح بقول سبحان ربي العظيم إن صح أنه لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه اجعلوها في ركوعكم فكانت سنة مؤكدة سبحان ربي العظيم ثلاثا في الركوع أو أكثر.
[70 - سورة المعارج]
[70.1-18]
شرح الكلمات:
سأل سائل: أي دعا داع بعذاب واقع.
ليس له دافع من الله: أي فهو واقع لا محالة.
ذي المعارج: أي ذي العلو والدرجات ومصاعد الملائكة وهي السماوات.
تعرج الملائكة والروح إليه: أي تصعد الملائكة وجبريل إلى الله تعالى.
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة: أي تصعد الملائكة وجبريل من منتهى أمره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السماوات السبع في يوم مقداره خمسون ألف سنة بالنسبة لصعود غير الملائكة من الخلق.
إنهم يرونه بعيدا: أي العذاب الذي يطالبون به لتكذيبهم وكفرهم بالبعث.
يوم تكون السماء كالمهل: اي كذائب النحاس.
وتكون الجبال كالعهن: أي كالصوف المصبوغ ألوانا في الخفة والطيران بالريح.
ولا يسأل حميم حميما: أي قريب قريبه لانشغال كل بحاله.
يبصرونهم: أي يبصر الأحماء بعضهم بعضا ويتعارفون ولا يتكلمون.
وصاحبته: أي زوجته.
وفصيلته التي تؤويه: أي عشيرته التي تضمه إليها نسبا وتحميه من الأذى عند الشدة.
إنها لظى نزاعة للشوى: أي إن جهنم هي لظى نزاعة للشوى جمع شواة جلدة الرأس.
أدبر وتولى: أي عن طاعة الله ورسوله وتولى عن الإيمان فأنكره وتجاهله.
وجمع فأوعى: أي جمع المال وجعله في وعاء ومنع حق الله تعالى فيه فلم ينفق منه في سبيل الله.
معنى الآيات:
قوله تعالى { سأل سآئل بعذاب واقع } هذه الآيات نزلت ردا على دعاء النضر بن الحارث ومن وافقه اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو إئتنا بعذاب أليم فأخبر تعالى عنه بقوله { سأل سآئل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع } أي إنه واقع لا محالة إذ ليس له دافع من الله { ذي المعارج } أي صاحب العلو والدرجات ومصاعد الملائكة وهي السماوات وقوله تعالى { تعرج الملائكة والروح إليه } أي تصعد الملائكة وجبريل إليه تعالى { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } أي يصعدون من منتهى أمره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السماوات السبع في يوم مقداره خمسون ألف سنة بالنسبة لصعود غير الملائكة من الخلق { فاصبر صبرا جميلا } وقوله تعالى { إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا } يعني أن المشركين المكذبين يرون العذاب بعيدا لتكذيبهم بالبعث الآخر. ونحن نراه قريبا ويبين تعالى وقت مجيئه فقال { يوم تكون السمآء كالمهل } أي تذوب فتصير كذائب النحاس { وتكون الجبال كالعهن } أي الصوف المصبوغ خفة وطيرانا بالريح وهذا هو الانقلاب الكوني حيث فني كل شيء ثم يعيد الله الخلق فإذا الناس في عرصات القيامة واقفون حفاة عراة { ولا يسأل حميم حميما } لانشغال كل بنفسه كما قال تعالى
لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
[عبس: 37] عن السؤال عن غيره أو عن سؤال غيره وقوله تعالى { يبصرونهم } أي عدم سؤال بعضهم بعضا ليس ناتجا عن عدم معرفتهم لبعضهم بعضا لا بل يبصرهم ربهم بهم فيعرف كل قريب قريبه ولكن اشتغاله بنفسه يحول دون سؤال غيره، ويشرح هذا المعنى قوله تعالى يود المجرم أي ذو الاجرام على نفسه بالشرك والمعاصي لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه أي أولاده الذكور ففضلا عن الإناث وصاحبته أي زوجته وأخيه وفصيلته التي تؤويه بأن تضمنه إلى نسبها والفصيلة العشيرة انفصلت من القبيلة ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه لنتصور عذابا يود المجرم من خوفه منه أن يفتدي بكل شيء في الأرض كيف يكون؟ ومن هنا يرى القريب قريبه ولا يسأله عن حاله لانشغال نفسه عن نفس غيره. وقوله تعالى { كلا } أي لا قرابة يومئذ تنفع ولا فداء يقبل { إنها } أي جهنم { لظى نزاعة للشوى } أي لجلدة الرأس ولكل عضو غير قاتل للإنسان إذا نزع منه. تدعو أي جهنم المسماة لظى تدعو تنادي إلي إلي يا من أدبر عن طاعة الله ورسوله وتركها ظهره فلم يلتفت إليها وتولى عن الإيمان فلم يطلبه تكميلا له ليصبح إيمانا يحمله على الطاعات وجمع الأموال فأوعاها في أوعية ولم يؤد منها الحقوق الواجبة فيها من زكاة وغيرها إذ في المال حق غير الزكاة. ومن دعته جهنم دفع إليها دفعا كما قال تعالى
يوم يدعون إلى نار جهنم دعا
[الطور: 13] نعوذ بالله من جهنم وموجباتها من الشرك والمعاصي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة سؤال العذاب فإن عذاب الله لا يطاق ولكن تسأل الرحمة والعافية.
2- وجوب الصبر على الطاعة وعلى البلاء فلا تسخط ولا تجزع.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- عظم هول الموقف يوم القيامة وصعوبة الحال.
5- التنديد بالمعرضين عن طاعة الله ورسوله الجامعين للأموال المشتغلين بها حتى سلبتهم الإيمان والعياذ بالله فأصبحوا يشكون في الله وآياته ولقائه.
[70.19-35]
شرح الكلمات:
إن الإنسان خلق هلوعا: أي إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا أي كثير الجزع سريعه وكثير المنع حريصا عليه.
على صلاتهم دائمون: أي لا يقطعونها أبدا ما داموا أحياء يعقلون.
حق معلوم: أي نصيب معين عينه الشارع وهو الزكاة.
للسائل والمحروم: أي الطالب الصدقة والذي لا يطلبها حياء وتعففا.
يصدقون بيوم الدين: أي يؤمنون بيوم القيامة للبعث والجزاء.
مشفقون: أي خائفون متوقعون العذاب عند المعصية.
لفروجهم حافظون: أي صائنون لها عن النظر إليها وعن الفاحشة.
أو ما ملكت أيمانهم: أي من السريات من الجواري التي يملكونها.
فأولئك هم العادون: أي المعتدون الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.
لأماناتهم: أي ما ائتمنوا عليه من أمور الدين والدنيا.
راعون: أي حافظون غير مفرطين.
قائمون: أي يقيمون شهاداتهم لا يكتمونها ولا يحرفونها.
يحافظون: أي يؤدونها في أوقاتها في جماعات مع كامل الشروط والأركان والواجبات والسنن.
معنى الآيات:
قوله تعالى إن الإنسان أي هذا الآدمي المنتصب القامة الضاحك الذي سمي بالإنسان لأنسه بنفسه ورؤية محاسنها ولنسيانه واجب شكر ربه هذا الإنسان خلق هلوعا قابلا لوصف الهلع فيه عند بلوغه سن التمييز والهلع مرض نفسي عرضه الذي يعرف به جزعه الشديد متى مسه الشر، ومنعه القوي للخير متى مسه وظفر به. فقد فسر تعالى الهلع بقوله، { إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا }. ثم ذكر تعالى ما يعالج به هذا المرض باستثنائه من جنس الإنسان من يتصفون بالصفات الآتية وهي عبارة عن عبادات شرعية بعضها فعل وبعضها ترك من شأنها القضاء على هذا المرض الخطير المسمى بالهلع والذي لا يعالج إلا بما وصف تعالى في قوله:
1) إدامة الصلاة بالمواظبة عليها ليل نهار إذ قال تعالى { إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دآئمون } وبشرط أن تؤدى إيمانا واحتسابا وأداء صحيحا بمراعاة شروطها وأركانها وسننها.
2) الاعتراف بما أوجب الله في المال من حق وإعطاء ذلك الحق بطيب نفس لمن سأل ولمن لم يسأل ممن هم أهل للزكاة والصدقات لقوله { والذين في أمولهم حق معلوم للسآئل والمحروم }.
3) التصديق الكامل بيوم القيامة وهو البعث والجزاء لقوله تعالى { والذين يصدقون بيوم الدين }.
4) الاشفاق والخوف من عذاب الله عند عروض خاطر المعصية بترك واجب أو فعل محرم لقوله تعالى { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } أي دائما وأبدا لأن عذاب ربهم غير مأمون الوقوع.
5) حفظ الفرج بستره عن أعين الناس ما عدا الزوج وصيانته من فاحشة الزنا واللواط وجلد عميرة أي الاستمناء باليد والمعروف اليوم بالعادة السرية لقوله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } من السراري { فإنهم غير ملومين } في إتيانهم أزواجهم وجواريهم اللائي ملكوهن بالجهاد أو الشراء الشرعي وقوله تعالى { فمن ابتغى } أي طلب ما وراء الزوجة والسرية { فأولئك هم العادون } أي الظالمون الذين تجاوزوا الحلال إلى الحرام فكانوا بذلك معتدين ظالمين.
6) حفظ الأمانات والعهود ومن أبرز الأمانات وأقوى العهود ما التزم به العبد من عبادة الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله والوفاء بذلك حتى الموت زيادة على أمانات الناس والعهود لهم الكل واجب الحفظ والرعاية لقوله { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } أي حافظون.
7) إقامة الشهادة بالاعتدال فيها بحيث يؤذيها ولا يكتمها ويؤديها قائمة لا اعوجاج فيها لقوله تعالى { والذين هم بشهاداتهم قائمون }.
8) المحافظة على الصلوات الخمس مستوفاة الشروط والأركان من الخشوع إلى الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال في القيام لقوله تعالى { والذين هم على صلاتهم يحافظون } بعد أدائها وعدم قطعها بحال من الأحوال.
فهذه الوصفة الربانية متى استعملها الإنسان المؤمن تحت إشراف عالم رباني إن وجده وإلا فتطبيقها بدون إشراف ينفع بإذن الله متى اجتهد المؤمن في حسن تطبيقها برئ من ذلك المرض الخطير واصبح أهلا لإكرام الله تعالى في الدار الآخرة قال تعالى في ختام هذه الوصفة { أولئك في جنات مكرمون } أي أولئك المطبقون لهذه الوصفة الناجحون فيها { في جنات مكرمون } في جوار ربهم اللهم اجعلنا منهم يا غفور يا رحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بين شر صفات الإنسان وانها الهلع.
2- بيان الدواء لهذا الداء داء الهلع الذي لا فلاح معه ولا نجاح.
3- انحصار العلاج في ثماني صفات أو ثماني مركبات دوائية.
4- وجوب العمل بما اشتملت عليه الوصفة من واجبات.
5- حرمة ما اشتملت عليه الوصفة من محرمات.
[70.36-44]
شرح الكلمات:
قبلك مهطعين؟: أي نحوك مديمي النظر إليك.
عزين: أي جماعات حلقا حلقا يقولون في استهزاء بالمؤمنين لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلها قبلهم.
إنا خلقناهم مما يعلمون: أي من مني قذر وإنما يستوجب دخول الجنة بالطاعات المزكية للنفوس.
على أن نبدل خيرا منهم: أي إنا لقادرون على أن نهلكهم ونأتي بأناس خير منهم.
وما نحن بمسبوقين: أي بعاجزين على إيجاد ما ذكرنا من إهلاك القوم والإتيان بخير منهم.
يوم يخرجون من الأجداث: أي من القبور مسرعين إلى المحشر.
سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون: أي كأنهم في إسراعهم إلى المحشر إلى نصب أي شيء منصوب كراية أو علم يسرعون.
ترهقهم ذلة: أي تغشاهم ذلة.
ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون: أي يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة.
معنى الآيات:
قوله تعالى فما للذين كفروا قبلك مهطعين يخبر تعالى مقبحا سلوك المشركين إزاء رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول ما للذين كفروا من كفار مكة قبلك أي جهتك حيث كنت في المسجد الحرام مهطعين أو مسرعين مديمي النظر إليك عن اليمين وعن الشمال عزين أي عن يمينك وعن شمالك عزين جمع عزة أي جماعة فهم حلق حلق يستمعون إلى قراءتك بحثا عن كلمة يمكنهم أن يشنعوا بها عليك ويجعلونها مطعنا في دعوتك أي سخرية يسخرون بها وبك ويقولون استهزاء بالمؤمنين لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم فرد تعالى عليهم منكرا طمعهم الفارغ بقوله { أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم } أي بستان إكرام وتنعم كلا لن يتم هذا لهم ولن يكون وهم أنجاس الأرواح بالشرك والمعاصي، ولفت النظر إلى أصل الخلقة وهي المني القذر والقذر لا يدخل دار السلام فمن أراد الجنة فليزك نفسه وليطهرها بالإيمان والعمل الصالح مبعدا لها عما يدسيها من الشرك والمعاصي وهو ما تضمنه قوله تعالى { إنا خلقناهم مما يعلمون } وقوله عز وجل { فلآ أقسم برب المشرق والمغرب } أي فلا الأمر كما يتصورون من أنهم لا يبعثون بعد موتهم أقسم برب المشارق الثلاثمائة والستين مشرقا ومغربا حيث الشمس تطلع كل يوم في مطلع وتغرب في آخر لا تعود إليه إلا بعد سنة في مثل ذلك اليوم فأقسم تعالى بنفسه، والمقسم عليه قوله { إنا لقدرون } أي على أن نهلكهم ونأتي بخير منهم { وما نحن بمسبوقين } أي عاجزين عن ذلك فكيف إذا لا نعيدهم أحياء بعد موتهم يوم القيامة { فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون } أي أمر تعالى رسوله أن يتركهم وما يخوضون فيه من اللهو واللعب والباطل في القول والعمل، وهو تهديد خفي لهم { حتى يلقوا } على ما هم عليه من أدران الشرك وأوضار المعاصي يومهم الذي يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة وشرح حال اليوم فقال يوم يخرجون من الأجداث أي القبور جمع جدث سراعا أي مسرعين كأنهم إلى نصب أي شيء منصوب من راية أو علم أو تذكار يوفضون أي يحشرون مسرعين حال كون أبصارهم خاشعة أي ذليلة من الفزع والخوف ترهقهم ذلة أي تغشاهم ذلة عجيبة عظيمة.
وقوله تعالى { ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } أي هذا هو اليوم الذي كانوا يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة الذي أنكروه وكذبوا به ها هو ذا قد حصل فليتجرعوا غصص الندم وألوان العذاب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان الحال التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بين ظهراني قريش وما كان يلاقي من أذاهم.
2- بيان أن الجنة تدخل بالطهارة الروحية من قذر الشرك والمعاصي وإلا فأصل الناس واحد المني القذر باستثناء آدم وحواء وعيسى فآدم أصله الطين وحواء خلقت من ضلع آدم، وعيسى كان بنفخ روح القدس في كم درع مريم فكان بكلمة الله تعالى ومن عدا الثلاثة فمن ماء مهين ونطفة قذرة.
3- الاستدلال بالنشأة الأولى على إمكان الثانية.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
5- بيان أن حياة أهل الكفر مهما تراءى لهم ولغيرهم أنها حياة مدنية سعيدة لم تعد كونها باطلا ولهوا ولعبا.
[71 - سورة نوح]
[71.1-4]
شرح الكلمات:
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه: أي أهل الأرض كافة والدليل إغراقهم أجمعين.
أن أنذر قومك: أي بإنذار قومك.
إني لكم نذير مبين: أي بين النذارة ظاهرها.
أن اعبدوا الله: أي وحده بفعل محابه وترك مكارهه ولا تشركوا به شيئا.
واتقوه: فلا تعصوه بترك عبادته ولا بالشرك به.
وأطيعون: فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي وربكم.
يغفر لكم من ذنوبكم: أي ذنوبكم التي هي الشرك والمعاصي فمن زائدة لتقوية الكلام أو هي تبعيضية لأن ما كان حقا لآدمي كمال وعرض لا يغفر إلا بالتوبة.
ويؤخركم إلى أجل مسمى: أي إلى نهاية آجالكم المسماة لكم في كتاب المقادير فلا يعجل لكم بالعذاب.
إن أجل الله: أي بعذابكم.
لا يؤخر: إن لم تؤمنوا.
لو كنتم تعلمون: أي لآمنتم.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه } يخبر تعالى لافتا نظر منكري رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وكفار مكة أن محمدا رسول الله ليس بأول رسول تنكر رسالته، كما أن السورة بجملتها فيها تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يلاقي من مشركي قومه إذ نوح عليه السلام قد لاقى ما هو أشد وأطول مدة والآيات ناطقة بذلك وقوله تعالى { أن أنذر قومك } أي أرسلناه بإنذار قومه من قبل أن يأتيهم عذاب أليم هو عذاب الدنيا بالاستئصال وعذاب الآخرة بالاستمرار والدوام. وقوله تعالى { قال يقوم إني لكم نذير مبين } أي امتثل نوح أمر ربه وقال لقومه يا قوم أني لكم نذير مبين أي مخوف من عواقب كفركم بالله وشرككم به. { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا واتقوه فلا تعصوه بترك عبادته ولا بالشرك به، وأطيعون فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي وربكم ولا آمركم إلا بما يكملكم ويسعدكم ولا أنهاكم إلا عما يضركم ولا يسركم فإن تجيبوا لما دعوتكم إليه يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى أي إلى نهاية آجالكم فلا يعاجلكم بالعقوبة { إن أجل الله } أي بعذابكم إذا جاء لا يؤخر { لو كنتم تعلمون } أي لو علمتم ذلك لأنبتم إلى ربكم فتبتم إليه واستغفرتموه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية إذ الذي أرسل نوحا يرسل محمدا صلى الله عليه وسلم ومن شاء إلى من شاء.
2- تقرير التوحيد إذ نوح أرسل إلى قوم مشركين لإبطال الشرك وتحقيق التوحيد.
3- تقرير معتقد القضاء والقدر لقوله { ويؤخركم إلى أجل مسمى } أي في كتاب المقادير.
[71.5-20]
شرح الكلمات:
ليلا ونهارا: أي دائما باستمرار.
إلا فرارا: أي مني ومن الحق الذي أدعوهم إليه وهو عبادة الله وحده.
جعلوا أصابعهم في آذانهم: أي حتى لا يسمعوا ما أقول لهم.
واستغشوا ثيابهم: أي تغطوا بها حتى لا ينظروا إلي ولا يروني.
وأصروا: على باطلهم وما هم عليه من الشرك.
يرسل السماء عليكم مدرارا: أي ينزل عليكم المطر متتابعا كلما دعت الحاجة إليه.
ويجعل لكم جنات: أي بساتين.
ما لكم لا ترجون لله وقارا: أي لا تخافون لله عظمته وكبرياءه وهو القاهر فوق عباده.
وقد خلقكم أطوارا: أي حالا بعد حال فطورا نطفة وطورا علقة وطورا مضغة.
وجعل الشمس سراجا: أي مضيئة.
أنبتكم من الأرض نباتا: أي أنشأكم من تراب الأرض.
ثم يعيدكم فيها: أي تقبرون فيها.
ويخرجكم منها إخراجا: أي يوم القيامة.
سبلا فجاجا: أي طرقا واسعة.
معنى الآيات:
هذه الآيات تضمنت لوحة مشرقة يهتدي بضوئها الهداة الدعاة إلى الله عز وجل إذ هي تمثل عرض حال قدمه نوح لربه عز وجل هو خلاصة دعوة دامت قرابة تسعمائة وخمسين سنة ولنصغ إلى نوح عليه السلام وهو يشكوا إلى ربه ويعرض عليه ما قام به من دعوة إليه فقال { رب إني دعوت قومي } وهم أهل الأرض كلهم يومئذ { ليلا ونهارا } أي بالليل وبالنهار إذ بعض الناس لا يمكنه الاتصال بهم إلا ليلا { فلم يزدهم دعآئي } إياهم إلى الإيمان بك وعبادتك وحدك { إلا فرارا } مني ومما أدعوهم إليه وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم بأن يستغفروك ويتوبوا إليك لتغفر لهم { جعلوا أصابعهم في آذانهم } حتى لا يسمعوا ما أقول لهم، { واستغشوا ثيابهم } أي تغطوا بها حتى لا يروني ولا ينظروا إلى وجهي كراهة لي وبغضا في { وأصروا } على الشرك والكفر إصرارا متزايدا عنادا { واستكبروا استكبارا } عجيبا.
{ ثم إني دعوتهم } إلى توحيدك في عبادتك وإلى ترك الشرك فيها { جهارا } أي مجاهرا بذلك { ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا } بحسب الجماعات والظروف أطرق كل باب بحثا عن استجابتهم للدعوة وقبولهم للهدى فقلت { استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السمآء عليكم مدرارا } أي ينزل عليكم المطر متتابعا فلا يكون قحط ولا محل { ويمددكم بأموال وبنين } كما هي رغبتكم { ويجعل لكم جنات } بساتين ذات نخيل وأعناب { ويجعل لكم أنهارا } تجري في تلك البساتين تسقيها. ثم التفت إليهم وقال لهم منكرا عليهم استهتارهم وعدم خوفهم { ما لكم لا ترجون لله وقارا } أي ما دهاكم أي شيء جعلكم لا ترجون لله وقارا لا تخافون عظمته وقدرته وكبرياءه { وقد خلقكم أطوارا } ولفت نظرهم إلى مظاهر قدرة الله تعالى فقال لهم { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموت طباقا } سماء فوق سماء مطابقة لها { وجعل القمر فيهن نورا } ينير ما فوقه من السماوات وما تحته من الأرض { وجعل الشمس سراجا } وهاجا مضيئا يضيء بوجهه السماوات وبقفاه الأرض كالقمر { والله أنبتكم من الأرض نباتا } إذ أصلكم من تراب والنطف أيضا الغذاء المكون من التراب ثم خلقتكم تشبه النبات وهي على نظامه في الحياة والنماء.
{ ثم يعيدكم فيها } أي في الأرض بعد الموت فتدفنون فيها { ويخرجكم } منها أيضا { إخراجا } يوم القيامة للحساب والجزاء { والله جعل لكم الأرض بساطا } أي مفروشة مبسوطة صالحة للعيش فيها والحياة عليها، { لتسلكوا منها سبلا فجاجا } أي طرقا واسعة وهكذا تجول بهم نوح عليه السلام في معارض آيات الله الكونية وكلها دالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبة للعبادة له عقلا ونفيها عما سواه كانت هذه مشكلة نوح وعرض حاله على ربه وهو أعلم به وفي هذا درس عظيم للدعاة الهداة المهديين جعلنا الله منهم آمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- رسم الطريق الصحيح للدعوة القائم على الصبر وتلوين الأسلوب.
2- بيان كره المشركين للتوحيد والموحدين أنهم لبغضهم لنوح ودعوة التوحيد سدوا آذانهم حتى لا يسمعوا وغطوا وجوههم حتى لا يروه واستكبروا حتى لا يروا له فضلا.
3- استعمال الحكمة في الدعوة فإن نوحا لما رأى أن قومه يحبون الدنيا أرشدهم إلى الاستغفار ليحصل لهم المال والولد.
4- استنبط بعض الصالحين من هذه الآية أن من كانت له رغبة في مال أو ولد فليكثر من الاستغفار الليل والنهار ولا يمل يعطه الله تعالى مراده من المال والولد.
[71.21-24]
شرح الكلمات:
عصوني: أي لم يطيعوني فيما دعوتهم إليه وأمرتهم به من عبادتك وحدك وترك الشرك بك.
واتبعوا: أي السفلة منهم والفقراء.
من لم يزده ماله وولده: أي الرؤساء المنعم عليهم.
إلا خسارا: أي طغيانا وكفرا.
مكرا كبارا: أي عظيما جدا بأن كذبوا نوحا وآذوه أذى شديدا.
وقالوا: أي الرؤساء قالوا للسفلة منهم.
لا تذرن آلهتكم: أي لا تتركن آلهتكم.
ولا تذرن: أي ولا تتركن كذلك ودا ولا سواعا ولا يغوث ولا يعوق ونسرا.
وقد أضلوا: أي بالأصنام كثيرا من الناس حيث أمروا بعبادتها.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض الكريم الذي تقدم به رسول الله نوح عليه السلام إلى ربه ليعذره ويكرمه تقدم بشكوى مشفوعة بالدعاء بالهلاك على الظالمين { قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا } أي طغيانا وكفرا. { ومكروا مكرا كبارا } أي عظيما جدا حيث كانوا يعرضون بنوح وقد يضربونه وهو صابر محتسب وقالوا لبعضهم البعض متواصين بالباطل { لا تذرن آلهتكم } وسموا منها رؤساءها وهم خمسة ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وقد أضلوا كثيرا أي من عباد الله حيث ورثوا هذه الأصنام فيهم فتبعهم الناس على ذلك فضلوا ثم دعا عليهم قائلا { ولا تزد الظالمين إلا ضلالا } قال هذا بعد أن أيس من إيمانهم وعدم هدايتهم لطول ما مكث بينهم يدعوهم وهم لا يزدادون إلا كفرا وضلالا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الشكوى إلى الله تعالى ولكن بدون صخب ولا نصب.
2- بيان أن السفلة والفقراء يتبعون الرؤساء والأغنياء وأصحاب الحظ.
3- بيان أن المكر من شأن الكافرين والظالمين.
4- بيان أن المشركين لضلالهم يطلقون لفظ الآلهة على من يعبدونهم من الأصنام والأوثان.
5- مشروعية الدعاء على الظالمين عند اليأس من هدايتهم.
[71.25-28]
شرح الكلمات:
مما خطيئاتهم أغرقوا: أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا بالطوفان.
فأدخلوا نارا: أي بعد موتهم أدخلت أرواحهم النار.
ديارا: أي من يدور يذهب ويجيء أي لم يبق أحد.
إن تذرهم: أي أحياء لم تهلكهم.
إلا تبارا: أي هلاكا وخسارا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { مما خطيئاتهم أغرقوا } يخبر تعالى عن نهاية قوم نوح بعد أن دعا عليهم نوح لما علم بالوحي الإلهي أنهم لا يؤمنون فقال تعالى مما خطيئاتهم أي ومن خطيئاتهم أي بسبب خطيئاتهم التي هي الشرك والظلم والتكذيب والأذى لنوح عليه السلام أغرقوا بالطوفان فلم يبق منهم أحد { فأدخلوا نارا } أي بمجرد ما يغرق الشخص وتخرج روحه يدخل النار في البرزخ. وقوله تعالى { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا } وهو كذلك فمن ينصر من يريد هلاكه وخزيه وعذابه. ثم ذكر تعالى دعوة نوح التي كان الطوفان بها والهلاك وهي قوله { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } أي لا تترك ولا تبق على الأرض اليابسة كلها يومئذ من الكافرين بخلاف المؤمنين { ديارا } أي إنسانا يدور أي يذهب ويجيء أي لا تبق من الكافرين أحدا ثم علل لطلبه الهلاك للكافرين فقال { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك } عن صراطك الموصل إلى رضاك وذلك هو عبادتك وحدك وطاعتك وطاعة رسولك { ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } أي إلا من يفجر عن دينك ويكفر بك وبرسولك قال نوح هذا لطول التجارب التي عاشها مع قومه إذ عاشرهم قرابة عشرة قرون ثم دعا الله تعالى له ولوالديه ولمن دخل مسجده ومصلاه من المؤمنين والمؤمنات، وأن لا يزيد الظالمين إلا خسارا وهلاكا فقال { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- هلاك قوم نوح كان بخطاياهم فالخطايا إذا موجبة للهلاك.
2- تقرير عذاب القبر فقوم نوح ما إن أغرقوا حتى ادخلوا نارا.
3- مشروعية الدعاء على الظلمة والكافرين والمجرمين.
4- مشروعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات.
5- يستحب البدء في الدعاء بنفس الداعي ثم يعطف من يدعو لهم.
[72 - سورة الجن]
[72.1-7]
شرح الكلمات:
أنه استمع: أي إلى قراءتي.
نفر من الجن: أي عدد من الجن ما بين الثلاثة والعشرة.
قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا: أي لبعضهم بعضا قرآنا عجبا أي يتعجب منه لفصاحته وغزارة معانيه.
يهدي إلى الرشد: أي الصواب في المعتقد والقول والعمل.
وأنه تعالى جد ربنا: أي تنزه جلال ربنا وعظمته عما نسب إليه.
ما اتخذ صاحبة ولا ولدا: أي لم يتخذ صاحبة ولم يكن له ولد.
سفيهنا: أي جاهلنا.
شططا: أي غلوا في الكذب بوصفه الله تعالى بالصاحبة والولد.
على الله كذبا: حتى تبين لنا أنهم يكذبون على الله بنسبة الزوجة والولد إليه.
يعوذون: أي يستعيذون.
فزادوهم رهقا: أي إثما وطغيانا.
أن لن يبعث الله أحدا: أي لن يبعث رسولا إلى خلقه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } يأمر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول معلنا للناس مؤمنهم وكافرهم أنه قد أوحى الله تعالى إليه نبأ مفاده أن نفرا من الجن ما بين الثلاثة إلى العشرة قد استمعوا إلى قراءته القرآن وذلك ببطن نخلة والرسول يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عامدا مع أصحابه إلى سوق عكاظ. وكان يومئذ قد حيل بين الشياطين وخبر السماء حيث أرسلت عليهم الشهب فراجع الشياطين بعضهم بعضا فانتهوا إلى أن شيئا حدث لا محالة فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها يتعرفون إلى هذا الحدث الجلل الذي منعت الشياطين بسببه من السماء فتوجه نفر منهم إلى تهامة فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح بأصحابه فاستمعوا إلى قراءته في صلاته فرجعوا إلى قومهم من الجن فقالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا } فأنزل الله تعالى هذه السورة " سورة الجن " مفتتحة بقوله { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } أي أعلن للناس يا رسولنا أن الله قد أوحى إليك خبرا مفاده أن نفرا من الجن قد استمعوا إلى قراءتك فرجعوا إلى قومهم وقالوا لهم { إنا سمعنا قرآنا عجبا } أي يتعجب من فصاحته وغزارة معانيه. يهدي إلى الرشد والصواب في العقيدة والقول والعمل { فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا } وفي هذا تعريض بسخف البشر الذين عاش الرسول بينهم إحدى عشرة سنة يقرأ عليهم القرآن بمكة وهم مكذبون به كارهون له مصرون على الشرك والجن بمجرد أن سمعوه آمنوا به وحملوا رسالته إلى قومهم وها هم يدعون بدعاية الاسلام ويقولون { فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا وأنه تعالى جد ربنا } أي وآمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وحاشاه وإنما نسب إليه ذلك المفترون.
{ وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا } هذا من قول الجن واصلوا حديثهم قائلين وأنه كان يقول جاهلونا على الله شططا أي غلوا في الكذب بوصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد تقليدا للمشركين واليهود والنصارى { وأنا ظننآ أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا } أي وقالوا لقومهم وإنا كنا نظن أن الإنس والجن لا يكذبون على الله ولا يقولون عليه إلا الصدق وقد علمنا الآن أنهم يكذبون على الله ويقولون عليه ما لم يقله وينسبون إليه ما هو منه براء. وقالوا { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } يخبرون بخبر عجيب وهو أنه كان رجال من الناس من العرب وغيرهم إذا نزلوا منزلا مخوفا في واد أو شعب يستعيذون برجال من الجن كأن يقول الرجل أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فزاد الإنس الجن بهذا اللجأ إليهم والاحتماء بهم رهقا أي إثما وطغيانا . إذ ما كانوا يطمعون أن الإنس تعظمهم هذا التعظيم حتى تستجير بهم. وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا أي وقالوا مخبرين قومهم وأنهم أي الإنس ظنوا كما ظننتم أنتم أيها الجن أن لن يبعث الله أحدا رسولا ينذر الناس عذاب الله ويعلمهم ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية وأن محمدا رسول للثقلين الإنس والجن معا.
2- بيان علو شأن القرآن وكماله حيث شهدت الجن له بأنه عجب فوق مستوى كلام الخلق.
3- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.
4- تقرير أن الإنس كالجن قد يكذبون على الله وما كان لهم ذلك.
5- حرمة الاستعانة بالجن والاستعاذة بهم لأن ذلك كالعبادة لهم.
[72.8-15]
شرح الكلمات:
وأنا لمسنا السماء: أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا.
حرسا شديدا: أي حراسا وحفظة من الملائكة يحفظونها بشدة وقوة.
وشهبا: أي نجوما يرمى بها الشياطين أو يؤخذ منها شهاب فيرمى به.
مقاعد للسمع: أي من أجل أن نسمع ما يحدث وما يكون في الكون.
شهابا رصدا: أي أرصد وأعد لرمي الشياطين وإبعادهم عن السمع.
رشدا: أي خيرا وصلاحا.
كنا طرائق قددا: أي مذاهب مختلفة إذا الطرائق جمع طريقة، والقدد جمع قدة وهي الضروب والأجناس المختلفة.
ولن نعجزه هربا: أي لا نفوته هاربين في الأرض أو في السماء.
لما سمعنا الهدى: أي القرآن الداعي إلى الهدى المخالف للضلال.
بخسا ولا رهقا: أي نقصا من حسناته ولا إثما يحال عليه ويحاسب به.
ومنا القاسطون: أي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإسلام.
تحروا رشدا: أي تعمدوا الرشد فطلبوه بعناية فحصلوا عليه.
فكانوا لجهنم حطبا: أي وقودا تتقد بهم يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ما قالته الجن بعد سماعها القرآن الكريم. وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله { وأنا لمسنا السمآء } اي طلبناها كعادتنا { فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا } أي ملائكة أقوياء يحرسونها وشهبا نارية يرمى بها كل مسترق للسمع منا. وقالوا: { وأنا كنا نقعد منها } أي من السماء { مقاعد } أي أماكن معينة لهم { للسمع } أي لأجل الاستماع من ملائكة السماء. { فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } أي أرصد له خاصة فيرمى به فيحرقه أو يخبله، وقالوا { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } أقول عجبا لهؤلاء المؤمنين من الجن كيف تأدبوا مع الله فلم ينسبوا إليه الشر ونسبوا إليه الخير فقالوا { أشر أريد بمن في الأرض } ولو أساءوا الأدب مثلنا لقالوا أشر أراده الله بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا أي خيرا وصلاحا قالوا هذا لما وجدوا السماء قد ملئت حرسا شديدا وشهبا وهو تفكير سديد ناتج عن وعي وإدراك سليم. وهذا التغير في السماء الذي وجدوه سببه أن الله تعالى لما نبأ رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأخذ يوحي إليه حمى السماء حتى لا يسترق الشياطين السمع ويشوشوا على الناس فيصرفوهم عن الإيمان والدخول في الإسلام وهو الرشد الذي أراد الله لعباده وقالوا { وأنا منا الصالحون } أي المؤمنون المستقيمون على الإيمان والطاعة { ومنا دون ذلك } ضعف إيمان وقلة طاعة، { كنا طرآئق قددا } أي مذاهب وأهواء مختلفة. { وأنا ظننآ أن لن نعجز الله في الأرض } أي إن أراد بنا سوءا ومكروها ولن نعجزه هربا إن طلبنا في الأرض أو في السماء.
{ وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به } أي بالقرآن الذي هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا } أي نقصا من حسناته يوم القيامة { ولا رهقا } أي إثما يضاف إلى سيئآته ويعاقب به وهو لم يرتكبه في الدنيا. وقالوا { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } أي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإسلام. فمن أسلم أي انقاد لله تعالى بطاعته وخلص من الشرك به فهؤلاء تحروا الرشد وفازوا به، { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } توقد بهم وتستعر عليهم وعلى الكافرين الجائرين أمثالهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجود تجانس بين الجن والملائكة لقرب مادتي الخلق من بعضها إذ الملائكة خلقوا من مادة النور، والجن من مادة النار، ولذا يرونهم ويسمعون كلامهم ويفهمونه.
2- من الجن أدباء صالحون مؤمنون مسلمون أصحاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- ذم الطرق والأهواء والاختلافات.
4- الاشادة بالعدل وتحري الحق والخير.
[72.16-24]
شرح الكلمات:
على الطريقة: أي الإسلام.
ماء غدقا: أي مالا كثيرا وخيرات كبيرة.
لنفتنهم فيه: أي نختبرهم أيشكرون أم يكفرون.
عن ذكر ربه: أي القرآن وشرائعه وأحكامه.
عذابا صعدا: أي شاقا.
فلا تدعوا: أي فيها مع الله أحدا.
عبد الله يدعوه: أي محمد صلى الله عليه وسلم يدعو الله ببطن نخلة.
عليه لبدا: أي في ركوب بعضهم بعضا تزاحما لأجل أن يسمعوا قراءته.
ضرا ولا رشدا: أي غيا ولا خيرا.
ملتحدا: أي ملتجأ ألجأ إليه فأحفظ نفسي.
أي بلاغا: أي لا أملك إلا البلاغ إليكم.
وأقل عددا: أي أعوانا المسلمون أم الكافرون.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وألو استقاموا على الطريقة } أي وأوحى إلي أن لو استقام هؤلاء المشركون من كفار قريش استقاموا على الإيمان والتوحيد والطاعة لله ولرسوله - وهم يشكون القحط - { لأسقيناهم مآء غدقا } فتكثر أموالهم وتتسع أرزاقهم، { لنفتنهم فيه } أي لنختبرهم في ذلك الخير الكثير أيشكرون أم يكفرون؟ ثم إن شكروا زادهم، وإن كفروا سلبهم وعذبهم. وقوله تعالى { ومن يعرض عن ذكر ربه } أي القرآن وما يدعو إليه من الإيمان وصالح الأعمال ولم يتخل عن الشرك وسوء الأفعال { يسلكه عذابا صعدا } أي ندخله في عذاب شاق في الدنيا بالذل والمهانة والفقر والرذالة والنذالة. وفي الآخرة في جهنم حيث السموم والحميم، والضريع والزقوم. وقوله { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } أي ومما أوحي إلي أن المساجد لله فإذا دخلتموها للعبادة فلا تدعو فيها مع الله أحدا إذ كيف البيت له وأنت فيه وتدعو معه غيره زيادة على أن الشرك محرم وصاحبه في النار فإنه من غير الأدب أن يكون المرء في بيت كريم ويدعو معه غيره من فقراء الخلق أو أغنيائهم وقوله { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } أي وأوحي إلي أنه لما قام عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم يدعو ربه في الصلاة ببطن نخلة كاد الجن أن يكونوا عليه لبدا أي كالشيء المتلبد بعضه فوق بعض. وقوله { قل إنمآ أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا } هذا إجابة لقريش عندما قالوا له صلى الله عليه وسلم لقد جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك أي نحفظك فأمر أن يقول لهم إنما أدعو ربي أي أعبده إلها واحدا ولا أشرك به أحدا. وأن يقول أيضا إني لا أملك لكم يا معشر قريش الكافرين ضرا ولا رشدا أي ضلالا ولا هداية إنما ذلك لله وحده يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأمر أن يقول لهم أيضا إني لن يجيرني من الله أحد إن أنا عصيته وأطعتكم، ولن أجد من دونه أي من غيره ملتحدا أي ملتجأ التجأ إليه.
وقوله إلا بلاغا من الله ورسالاته أي لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا بلاغا من الله ورسالته فإني أبلغكم عنه ما أمرني به وأرشدكم إلى ما أرسلني به من الهدى والخير والفوز وقوله { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا } أي يخبر تعالى موعدا أن من يعصي الله بالشرك به وبرسوله بتكذيبه وعدم اتباعه فيما جاء به فإن له جزاء شركه وعصيانه نار جهنم خالدين فيها أبدا. وقوله { حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا } أي فإن استمروا على شركهم وتكذيبهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من عذاب يوم القيامة فسيعلمون عندئذ من أضعف ناصرا أي من ناصره ضعيف أو قوي، ومن أقل عددا من أعوانه المؤمنون محمد وأصحابه أم هم المشركون المكذبون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الاستقامة على منهج الله تعالى القائم على الإيمان والطاعة لله ورسوله يفضي بسالكه إلى الخير الكثير والسعادة الكاملة في الدنيا والآخرة.
2- المال فتنة وقل من ينجح فيها قال عمر رضي الله عنه أينما يكون الماء يكون المال وأينما يكون المال تكون الفتنة.
3- حرمة دعاء غير الله في المساجد وفي غيرها إلا أنها في المساجد أشد قبحا.
4- الخير والغير والهدى والضلال لا يملكها إلا الله فليطلب ذلك منه لا من غيره.
5- معصية الله والرسول موجبة لعذاب الدنيا والآخرة.
[72.25-28]
شرح الكلمات:
قل إن أدري: أي قل ما أدري.
ما توعدون: أي من العذاب.
أمدا: أي غاية وأجلا لا يعلمه إلا هو.
فلا يظهر: أي لا يطلع.
من ارتضى من رسول: أي فإنه يطلعه.
رصدا: أي ملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع الوحي الذي يبلغه لكافة الناس.
ليعلم: أي الله علم ظهور أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم.
أحصى كل شيء عددا: أي أحصى عدد كل شيء.
معنى الآيات:
قوله تعالى { قل إن أدري } أمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين المطالبين بالعذاب استخفافا وعنادا وتكذيبا أمره أن يقول لهم ما أدري أقريب ما وعدكم ربكم به من العذاب بحيث يحل بكم عاجلا أم يجعل له ربي أمدا أي غاية وأجلا بعيدا يعلمه هو ولا يعلمه غيره. عالم الغيب إذ هو عالم الغيب وحده فلا يظهر علي غيبه أي لا يطلع على غيبه أحدا من عباده إلا من ارتضى من رسول أي رضيه أن يبلغ عنه فإنه يطلعه مع الاحتياط الكافي حتى لا يتسرب الخبر الغيب إلى الناس { فإنه يسلك من بين يديه } الرسول المرتضى ومن خلفه رصدا من الملائكة ثم يطلعه ضمن الوحي الذي يوحي إليه. وذلك ليعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قد بلغت رسالات ربها لما أحاطها تعالى به من العناية حتى أنه إذا جاءه الوحي كان معه أربعة ملائكة يحمونه من الشياطين حتى لا يسمعوا خبر السماء فيبلغوه أولياءهم من الإنس، فتكون فتنة في الناس وقوله { وأحاط } أي الله جل جلاله { بما لديهم } أي بما لدى الملائكة والرسل علما { وأحصى كل شيء عددا } أي وأحصى عدد كل شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استئثار الله تعالى بعلم الغيب فلا يعلم الغيب إلا الله.
2- قد يطلع الله تعالى من ارتضى أن يطلعه من الرسل على غيب خاص ويتم ذلك بعد حماية كاملة من الشياطين كيلا ينقلوه إلى أوليائهم فيفتنوا به الناس.
3- بيان إحاطة علم الله بكل شيء واحصائه تعالى لكل شيء عدا.
[73 - سورة المزمل]
[73.1-9]
شرح الكلمات:
يا أيها المزمل: أي المتلفف بثيابه أي النبي صلى الله عليه وسلم.
قم الليل: أي صل.
إلا قليلا: أي نصف الليل.
نصفه أو انقص منه قليلا: أي انقص من النصف إلى الثلث.
أو زد عليه: أي إلى الثلثين فأنت مخير في أيها تفعل تقبل.
ورتل القرآن ترتيلا: أي ترسل في قراءته وبينه تبيينا.
إنا سنلقي عليك قولا: أي قرآنا.
ثقيلا: أي محمله ثقيلا العمل به لما يحوى من التكاليف.
إن ناشئة الليل: أي ساعة الليل من صلاة العشاء فما فوق كل ساعة تسمى ناشئة.
هي أشد وطئا: أي هي أقوى موافقة السمع للقلب على تفهم القرآن فيها.
وأقوم قيلا: أي أبين قولا وأصوب قراءة من قراءة النهار لسكون الأصوات.
واذكر اسم ربك: أي دم على ذكره ليلا ونهارا على أي وجه من تسبيح وتهليل وتحميد.
وتبتل إليه تبتيلا: أي انقطع إليه في العبادة وفي طلب الحاجة وفي كل ما يهمك.
لا إله إلا هو: أي لا معبود بحق سواه ولا تنبغي العبادة لغيره.
فاتخذه وكيلا: أي فوض جميع أمورك إليه فإنه يكفيك.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يأيها المزمل } نادى الرب تبارك وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مذكرا إياه بتلك الساعة السعيدة التي فاجأه فيها الوحي لأول مرة فرجع بها ترجف بوادره فانتهى إلى خديجة وهو يقول زملوني دثروني فالمزمل هو المتزمل أي المتلفف في ثيابه ليقول له قم الليل إلا قليلا أي صل في الليل { نصفه أو انقص منه قليلا } إلى الثلث { أو زد عليه } أي على النصف إلى الثلثين وامتثل الرسول أمر ربه فقام مع أصحابه حتى تورمت أقدامهم. ثم خفف الله تعالى عنهم ونزل آخر هذه السورة بالرخصة في ترك القيام الواجب وبقى الندب والاستحباب وقوله تعالى { ورتل القرآن ترتيلا } يرشده ربه إلى أحسن التلاوة وهي الترسل وعدم السرعة حتى يبين الكلمات تبيينا ويترقى القلب في معانيها. وقوله { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } يخبره ربه تعالى بأنه سيلقي عليه قولا ثقيلا هو القرآن فإنه ثقيل مهيب ذو تكاليف العمل بها ثقيل إنها فرائض وواجبات أعلمه ليوطن نفسه على العمل ويهيئها لحمل الشريعة علما وعملا ودعوة. وقوله { إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا } يخبر تعالى معلما أن ساعات الليل من بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل القيام فيها يجعل السمع يواطيء القلب على فهم معاني القرآن الذي يقرأه المصلي، وقوله وأقوم قيلا أي أبين قولا وأصوب قراءة من قراءة الصلاة في النهار. وقوله { إن لك في النهار سبحا طويلا } يخبر تعالى رسوله بأن له في النهار أعمالا تشغله عن قراءة القرآن فلذا أرشده إلى قيام الليل وترتيل القرآن لتفرغه من عمل النهار وقوله { واذكر اسم ربك } أي داوم على ذكره ليلا ونهارا على أي وجه كان الذكر من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل.
وقوله { وتبتل إليه } أي إلى الله { تبتيلا } أي انقطع إليه في العبادة إخلاصا له وفي طلب حوائجك، وفي كل ما يهمك من أمر دينك ودنياك وقوله { رب المشرق والمغرب } أي هو تعالى رب المشرق والمغرب أي مالك المشرقين والمغربين { لا إله إلا هو } فلا تنبغي العبادة إلا له ولا تصح الألوهية إلا له أيضا وقوله { فاتخذه وكيلا } أي من كل ما يهمك فإنه يكفيك وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الندب إلى قيام الليل وأنه دأب الصالحين وطريق المتقربين.
2- الندب إلى ترتيل القرآن وترك العجلة في تلاوته.
3- صلاة الليل أفضل من صلاة النهار لتواطئ السمع والقلب فيها على فهم القرآن.
4- الندب إلى ذكر الله تعالى بأي وجه من صلاة وتسبيح وطلب علم ودعاء وغير ذلك.
[73.10-19]
شرح الكلمات:
واصبر على ما يقولون: أي على ما يقوله لك كفار مكة من أذى كقولهم شاعر وساحر وكاذب .
واهجرهم هجرا جميلا: أي اتركهم تركا جميلا أي لا عتاب معه.
وذرني: أي اتركني.
والمكذبين: أي صناديد قريش فإني أكفكهم.
أولي النعمة: أي أهل التنعم والترف.
ومهلهم قليلا: أي انتظرهم قليلا من الزمن حتى يهلكوا ببدر.
إن لدينا أنكالا: أي قيودا وهي جمع نكل وهو القيد من حديد.
وطعاما ذا غصة: أي يغص في الحلق هو الزقوم والضريع.
يوم ترجف الأرض: أي تتزلزل.
كثيبا مهيلا: أي رملا مجتمعا مهيلا أي سائلا بعد اجتماعه.
فأخذناه أخذا وبيلا: أي ثقيلا شديدا غليظا.
فكيف تتقون يوما: أي عذاب يوم يجعل الولدان لشدة هوله شيبا.
السماء منفطر به: أي ذات انفطار وانشقاق أي بسبب هول ذلك اليوم.
كان وعده مفعولا: أي وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم كان مفعولا أي كائنا لا محالة.
إن هذه تذكرة: أي أن هذه الآيات المخوفة تذكرة أي عظة للناس.
اتخذ إلى ربه سبيلا: أي طريقا بالإيمان والطاعة إلى النجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تربية الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بأنواع التربية الربانية الخاصة فقال تعالى لرسوله { واصبر على ما يقولون } أي كفار قريش من كلام يؤذونك به كقولهم هو ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وما إلى ذلك، وقوله { واهجرهم هجرا جميلا } يرشد تعالى رسوله إلى هجران كفار قريش وعدم التعرض لهم والهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه وقوله { وذرني والمكذبين أولي النعمة } أي اتركني والمكذبين من صناديد قريش أولي النعمة أي النعم والترف { ومهلهم قليلا } أي انظرهم ولا تستعجل فإني كافيكهم، ولم يمض إلا زمن يسير حتى هلكوا في بدر على أيدي المؤمنين. وقوله تعالى { إن لدينآ أنكالا وجحيما وطعاما } أي عندنا للمكذبين بك في الآخرة أنكالا قيودا من حديد وجحيما أي نارا مستعرة محرقة وعذابا أليما أي موجعا وطعاما هو الزقوم والضريع ذا غصة أي يغص في حلق آكله، وعذابا أليما أي موجعا وذلك يحصل لأهله وينالهم يوم ترجف الأرض والجبال، أي تتحرك وتضطرب وكانت الجبال كثيبا أي من الرمل مهيلا سائلا بعد اجتماعه. وقوله تعالى { إنآ أرسلنآ إليكم } أي يا أهل مكة وكل من ورائها من سائر الناس والجن { رسولا شاهدا عليكم } بما تعملون في الدنيا لتجزوا بها في الآخرة وقوله { كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا } أي موسى بن عمران عليه السلام { فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا } أي غليظا شديدا. وقوله تعالى مخاطبا الكافرين المكذبين { فكيف تتقون إن كفرتم يوما } أي عذاب يوم { يجعل الولدان شيبا } وذلك لهوله وللكرب الذي يقع وحسبه أن السماء منفطر به أي منشقة بسبب أهواله.
وذيك يوم يقول الرب تعالى لآدم يا آدم ابعث بعث النار أي خذ من كل ألف من أهل الموقف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ولم ينج من كل ألف إلا واحد هنا يشتد البلاء ويعظم الكرب. وقوله { كان وعده مفعولا } أي وعده تعالى بمجيء هذا اليوم كان مفعولا اي كائنا لا محالة وقوله { إن هذه تذكرة } أي إن هذه الآيات المشتملة على ذكر القيامة وأهوالها تذكرة وعظة وعبرة { فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا } فليتخذها وهي الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الصبر على الطاعة وعن المعصية.
2- الهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه.
3- تقرير النبوة المحمدية.
4- تقرير البعث والجزاء.
[73.20]
شرح الكلمات:
أنك تقوم: أي للتهجد.
أدنى: أي أقل.
وطائفة: أي وطائفة معك من أصحابك تقوم كذلك.
والله يقدر الليل والنهار: أي يحصيها ويعلم ما يمضي من ساعات كل منهما وما يبقى.
علم أن لن تحصوه: أي الليل فلا تطيقون قيامه كله لأنه يشق عليكم.
فتاب عليكم: أي رجع بكم إلى التخفيف في قيام الليل إذ هو الأصل.
فاقرأوا ما تيسر: أي صلوا من الليل ما سهل عليكم ولو ركعتين.
وأقيموا الصلاة: أي المفروضة.
وآتوا الزكاة: أي المفروضة.
وأقرضوا الله قرضا حسنا: أي تصدقوا بفضول أموالكم طيبة بها نفوسكم فذلك القرض الحسن.
وما تقدموا لأنفسكم من خير: أي من نوافل العبادة من صلاة وصدقة وصيام وحج وغيرها.
معنى الآيات:
يخبر تعالى رسوله بأنه يعلم ما يقومه من الليل هو وطائفة من أصحابه وأنهم يقومون أحيانا أدنى من ثلثي الليل أي أقل ويقومون أحيانا النصف والثلث، كما في أول السورة هذا معنى قوله تعالى { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي اليل ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك } ، وقوله { والله يقدر اليل والنهار } أي يحصي ساعاتهما فيعلم ما مضى من الليل وما بقى من ساعاته، وقوله { علم أن لن تحصوه } أي لن تطيقوا ضبط ساعاته فيشق عليكم قيام أكثره تحريا منكم لما هو المطلوب. { فتاب عليكم } لذلك وبهذا نسخ قيام الليل الواجب وبقى المستحب يؤدى ولو بركعتين في أي جزء من الليل وكونهما بعد صلاة العشاء أفضل وقوله تعالى فاقرأوا ما تيسر من القرآن أي صلوا من الليل ما تيسر أطلق لفظ القرآن وهو يريد الصلاة لأن القرآن هو الجزء المقصود من صلاة الليل، وقوله { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقتلون في سبيل الله } فذكر فيه تعالى ثلاثة أعذار لهم وهي المرض، والضرب في الأرض للتجارة والجهاد في سبيل الله وكلها يشق معها قيام الليل فرحمة بالمؤمنين نسخ الله تعالى هذا الحكم الشاق بقوله { فاقرءوا ما تيسر منه } ، كرره تأكيدا لنسخ قيام الليل الذي كان واجبا وأصبح بهذه الآية مندوبا. وقوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أي المفروضتين. وقوله وأقرضوا الله قرضا حسنا أي أنفقوا في سبيل الله الذي هو الجهاد فإن الحسنة فيه بسبعمائة وما تقدموا لأنفسكم من نوافل الصلاة والصدقات والحج وسائر العبادات تجدوه عند الله يوم القيامة هو خيرا وأعظم أجرا. وقوله واستغفروا الله من كل ما يفرط منكم من تقصير في جنب الله تعالى إن الله غفور رحيم يغفر لمن تاب ويرحمه فلا يؤاخذه بذنب قد تاب منه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومونه من الليل تهجدا.
2- نسخ واجب قيام الليل وبقاء استحبابه وندبه.
3- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة .
4- الترغيب في التطوع من سائر العبادات.
5- وجوب الاستغفار عند الذنب وندبه واستحبابه في سائر الأوقات لما يحصل من التقصير.
[74 - سورة المدثر]
[74.1-10]
شرح الكلمات:
يا أيها المدثر: أي يا أيها المدثر أي المتلفف في ثيابه وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
قم فأنذر: أي خوف أهل مكة النار إن لم يؤمنوا ويوحدوا.
وربك فكبر: أي عظم ربك من إشراك المشركين.
وثيابك فطهر: أي طهر ثيابك من النجاسات.
والرجز فاهجر: أي أدم هجرانك للأوثان.
ولا تمنن تستكثر: أي لا تمنن على ربك ما تقوم به من أعمال لأجله طاعة له.
فإذا نقر في الناقور: أي نفخ في الصور النفخة الثانية.
معنى الآيات:
قوله تعالى { يأيها المدثر } أي المتلفف في ثيابه والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم روى الزهري قال فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة فحزن حزنا فجعل يعدو شواهق رؤوس الجبال ليتردى منها فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل عليه السلام فيقول إنك نبي الله فيسكن جأشه وتسكن نفسه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن ذلك فقال
" بينما أنا أمشي يوما إذ رأيت الملك الذي كان يأتيني بحراء على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت إلى خديجة فقلت زملوني "
فزملناه أي فدثرناه فأنزل الله يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر قال الزهري فأول شيء أنزل عليه اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. وعليه فهذا النداء الإلهي كان بعد فترة الوحي الأولى ناداه ملقبا له بهذا اللقب الجميل تكريما وتلطفا معه ليقوم بأعباء الدعوة وما أشد ثقلها، ومن يقدر عليها إنها أعباء ثقيلة اللهم لقد أعنت عليها رسولك فأعني على قدر ما أقوم به منها، وإن كان ما أقوم به منها لا يساوي جمرة من لظى ولا قطرة من ماء السماء. يا أيها المدثر في ثيابه يا محمد رسولنا قم فأنذر لم يبق لك مجال للنوم والراحة فأنذر قومك في مكة وكل الثقلين من وراء مكة أنذرهم عذاب النار المترتب على الكفر والشرك بالواحد القهار وربك فكبر أي وربك فعظمه تعظيما يليق بجلاله وكماله فإنه الأكبر الذي لا أكبر منه والعظيم الذي لا أعظم منه فأعلن عن ذلك بلسانك قائلا الله أكبر وبحالك فلا تذل إلا له ولا ترغب إلا فيه وكبره بأعمالك فلا تأت منها إلا ما أذن لك فيه أو أمرك به { وثيابك فطهر } أي طهر ثيابك من النجاسات مخالفا بذلك ما عليه قومك؛ إذ يجرون ثيابهم ولا يتنزهون من أبوالهم { والرجز فاهجر } أي والأصنام التي يعبدها قومك فاهجرها فلا تقربها ودم على هجرانها على دعوتك أجرا، ولا تمنن عطاء أعطيته لغيرك تستكثر به ما عندك إن ذاك مناف لأجمل الأخلاق وكريم السجايا وسامي الآداب.
ولربك وحده دون سواه فاصبر على كل ما تلقاه في سبيل إبلاغ رسالتك ونشر دعوتك دعوة الخير والكمال هذا الذي أدب به الله رسول الله في فاتحة دعوته. ثم نزل بعد فإذا نقر في الناقور والناقور البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل والنقر يحدث صوتا والصوت هو صوت البوق والمراد به النفخة الثانية نفخة البعث والجزاء فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير صعب شديد لا يحتمل ولا يطاق على الكافرين غير يسير فذكر به من تدعوهم فإن التذكير به نافع إن شاء الله، ولذا كان من أعظم أركان العقيدة التي إن تمكنت من النفس تهيأ صاحبها لحمل كل ثقيل ولإنفاق كل غال ورخيص ولفراق الأهل والدار الإيمان بالله واليوم الآخر إذ هما محور العقيدة وعليهما مدار الإصلاح والهداية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الجد طابع المسلم، فلا كسل ولا خمول ولا لهو ولا لعب ومن فارق هذه فليتهم نفسه في إسلامه.
2- وجوب تعظيم أسمائه وصفاته وتعظيم كلامه وكتابه، وتعظيم شعائره وتعظيم ما عظم.
3- وجوب الطهارة للمؤمن بدنا وثوبا ومسجدا. أكلا وشربا وفراشا ونفسا وروحا.
4- حرمة العجب فلا يعجب المؤمن بعمله ولا يزكي به نفسه ولو صام الدهر ، وأنفق الصخرة وجاهد الدهر.
5- وجوب الصبر على الطاعات فعلا وعلى المعاصي تركا وعلى البلاء تسليما ورضا.
[74.11-30]
شرح الكلمات:
ذرني ومن خلقت وحيدا: أي اتركني ومن خلقته وحيدا منفردا بلا مال ولا ولد فأنا أكفيكه.
وبنين شهودا: أي يشهدون المحافل وتسمع شهادتهم وأغلب الوقت حاضرون ولا يغيبون.
ومهدت له تمهيدا: أي بسطت له في العيش والعمر والولد والجاه حتى كان يلقب بريحانة قريش.
عنيدا: أي معاندا وهو الوليد بن المغيرة المخزومي.
سأرهقه صعودا: أي سأكلفه يوم القيامة صعود جبل من نار كلما صعد فيه هوى في النار أبدا.
إنه فكر وقدر: أي فيما يقول في القرآن الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقدر في نفسه ذلك.
ثم نظر ثم عبس وبسر: أي تروى في ذلك ثم عبس أي قبض ما بين عينيه ثم يسر أي كلح وجهه.
ثم أدبر واستكبر: أي عن الإيمان واستكبر عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
سحر يؤثر: أي ينقل من السحرة كمسيلمة وغيره.
سأصليه سقر: سأدخله جهنم وسقر اسم لها يدخله فيها لإحراقه بنارها.
لا تبقي ولا تذر: أي لا تترك شيئا من اللحم ولا العصب إلا أهلكته ثم يعود كما كان لإدامة العذاب.
لواحة للبشر: أي محرقة مسودة لظاهر جلد الإنسان وهو بشرته والجمع بشر.
عليها تسعة عشر: أي ملكا وهم خزنتها.
معنى الآيات:
لقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبء الدعوة وأمر بالصبر وشرع صلى الله عليه وسلم في إنذار قومه وبدأت المعركة كأحر وأشد ما تكون إذ أعلم قومه وهم من هم أنه لا إله إلا الله وأنه هو رسول الله فتصدى له طاغية من أعظم الطغاة ساد الوادي مالا وولدا وجاها عريضا حتى لقب بريحانة قريش هذا هو الوليد بن المغيرة صاحب عشرة رجال من صلبه وآلاف الدنانير من الذهب فلما أرهب رسول الله وأخافه قال له ربه تبارك وتعالى { ذرني } أي دعني والذي خلقته { وحيدا } فريدا بلا مال ولا ولد، { وجعلت له مالا ممدودا } واسعا تمده به الزراعة والتجارة فصلا بعد فصل ويوما بعد يوم، { وبنين شهودا } لا يغيبون كما يغيب الذين يطلبون العيش كما أنهم لمكانتهم يستشهدون فيشهدون فهم شهود على غيرهم. ويشهدون المحافل وغيرها. { ومهدت له تمهيدا } أي بسطت له في العيش والعمر والولد والجاه العريض في ديار قومه، { ثم يطمع أن أزيد } أي أن أزيده من المذكور في الآيات { كلا } أي لن أزيده بعد اليوم، وعلل تعالى لمنعه الزيادة بقوله: { إنه كان لآياتنا } " القرآنية " { عنيدا } أي معاندا يحاول إبطالها بعد رفضه لها. { سأرهقه صعودا } أي سأكلفه عذابا شاقا لا قبل له به وذلك جبل من نار في جهنم يكلف صعوده كلما صعد سقط وذلك أبدا.
وعلل أيضا لهذا العذاب الذي أعده له وأوعده به فقال تعالى { إنه فكر } أي فيما يقول في القرآن لما طلبت منه قريش أن يقول فيه ما يراه من صلاح أو فساد. { وقدر } في نفسه { فقتل كيف قدر } أي لعن كيف قدر ذلك التقدير الذي هو قوله { إن هذآ إلا سحر يؤثر إن هذآ إلا قول البشر }. { ثم قتل كيف قدر } فلعنه الله لعنتين تلازمانه واحدة في الدنيا والأخرى في الآخرة وقوله تعالى عنه { ثم نظر } أي تروى { ثم عبس } أي قطب فقبض ما بين عينيه { وبسر } أي كلح وجهه فاسود. فقال اللعين نتيجة تفكير وتقدير ونظر { إن هذآ إلا سحر يؤثر } أي ما هذا القرآن إلا سحر ينقل عن السحرة في اليمين ونجد والحجاز { إن هذآ إلا قول البشر } أي ما هذا الذي يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم إلا قول البشر قال تعالى موعدا إياه على قولته الكافرة الفاجرة { سأصليه سقر } أي سأدخله نار سقر يصطلي بنارها، ثم عظم تعالى من شأن سقر فقال { ومآ أدراك ما سقر } أي أي شيء يدريك ما هي وما شأنها فإنها عظيمة { لا تبقي ولا تذر } أي لا تبقي لحما ولا تذر عصبا بل تأتي على الكل لواحة للبشر أي تحرق الجلود وتسودها. والبشر جمع بشرة الجلدة ومن ذلك سمي الآدميون بشرا لأن بشرتهم مكشوفة ليست مستورة بوبر ولا صوف ولا شعر ولا ريش. وقوله تعالى { عليها تسعة عشر } أي على سقر ملائكة يقال لهم الخزنة عدتهم تسعة عشر ملكا لقد كان لنزول هذه الآية سبب معروف وهو أن قريشا اتهمت الوليد بأنه صبا أي مال إلى دين محمد فسمع ذلك منهم فأنكر وحلف لهم فطلبوا إليه إن كان صادقا أن يقول في القرآن كلمة يصرف بها العرب عن محمد وما يقوله ويدعو إليه فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويقرأ في صلاته فاستمع إليه ففكر وقدر كما أخبر تعالى عنه في هذه الآيات وقال قولته الفاجرة الكافرة. إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر بعد أن وصف القرآن وصفا دقيقا بقوله ووالله إن لقوله لحلاوة وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى أي عليه فقالوا والله لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه فقال دعوني حتى أفكر ففكر وقال ما تقدم فنزلت هذه الآيات { ذرني ومن خلقت وحيدا } إلى قوله { تسعة عشر }.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- المال والبنون والجاه من عوامل الطغيان إلا أن يسلم الله عبده من فتنتها.
2- من أكفر الناس من يعاند في آيات الله يريد صرف الناس عنها وإبطال هدايتها.
3- بيان ما ظفر به طاغية قريش الوليد بن المغيرة من لعنة وعذاب شديد.
4- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
5- تقرير البعث والجزاء.
[74.31-37]
شرح الكلمات:
أصحاب النار: أي خزنتها مالك وثمانية عشر معه.
إلا ملائكة: أي لم نجعلهم بشرا ولا جنا حتى لا يرحموهم بحكم الجنس.
وما جعلنا عدتهم: أي كونهم تسعة عشر.
إلا فتنة للذين كفروا: أي ليستخفوا بهم كما قال أبو الأشدين الجمحي فيزدادوا ضلالا.
ليستيقن الذين أوتوا الكتاب: أي ليحصل اليقين لأهل التوراة والإنجيل بموافقة القرآن لكتابيهما التوراة والإنجيل.
ولا يرتاب: أي ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون في حقيقة ذلك.
وليقول الذين في قلوبهم مرض: أي مرض النفاق.
ماذا أراد الله بهذا مثلا: أي أي شيء أراد الله بهذا العدد الغريب استنكارا منهم.
كذلك: أي مثل اضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
وما هي إلا ذكرى للبشر: أي وما النار إلا ذكرى للبشر يتذكرون بها.
إذ أدبر: أي ولى ومضى.
إذا أسفر: أي أضاء وظهر.
إنها لإحدى الكبر: أي جهنم لإحدى البلايا العظام.
نذيرا للبشر: أي عذاب جهنم نذير لبني آدم.
لمن شاء منكم: أي أيها الناس.
أن يتقدم: أي بالطاعة.
أو يتأخر: أي بالمعصية.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وما جعلنآ أصحب النار إلا ملئكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } هذه الآية نزلت ردا على أبي الأشدين كلدة الجمحي الذي قال لما سمع قول الله تعالى
ومآ أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر
[المدثر: 27-30] قال لقريش ساخرا مستهزئا أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين، ومرة قال أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فنخل الجنة. فأنزل الله تعالى قوله { وما جعلنآ أصحب النار إلا ملئكة } أي لم نجعلهم بشرا ولا جنا حتى لا يرحموا أهل النار بخلاف لو كانوا بشرا قد يرحمون بني جنسهم ولو كانوا جنا فكذلك، ولذا جعلهم من الملائكة فلا تناسب بينهم وبين الإنس والجن والمراد بأصحاب النار خزنتها وهم مالك وثمانية عشر هؤلاء رؤساء في جهنم أما من عداهم فلا تتسع لهم العبارة ولا حتى الرقم الحسابي وكيف وقد قال تعالى { وما يعلم جنود ربك إلا هو } ، وقوله { وما جعلنا عدتهم } أي كونهم تسعة عشر { إلا فتنة للذين كفروا } ليزدادوا ضلالا وكفرا وقد تم هذا فإن أبا جهل كأبي الشدين قد فتنا بهذا العدد وازدادا ضلالا وكفرا بما قالا، وقوله تعالى { ليستيقن الذين أوتوا الكتب } أي أخبرنا عن عددهم وأنه تسعة عشر ليستيقن الذين أوتوا الكتاب لموافقة القرآن لما عندهم في كتابهم. ويزداد الذين آمنوا إيمانا فوق إيمانهم عندما يرون أن التوراة موافقة للقرآن الكريم كشاهد له، وقوله { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتب والمؤمنون } أي حتى لا يقعوا في ريب وشك في يوم من الأيام لما اكتسبوا من المناعة بتضافر الكتابين على حقيقة واحدة.
وقوله { وليقول الذين في قلوبهم مرض والكفرون ماذآ أراد الله بهذا مثلا } اي وما جعلنا عدتهم تسعة عشر إلا ليقول الذين في قلوبهم مرض وهو النفاق والشك والكافرون الكفر الظاهر من قريش وغيرهم ماذا أراد الله بهذا مثلا أي أي شيء أراده الله بهذا الخبر الغريب غرابة الأمثال قالوا هذا استنكارا وتكذيبا. فهذه جملة علل ذكرها تعالى لإخباره عن زبانية جهنم ثم قال وقوله الحق { كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء } أي مثل اضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه يضل الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته. وقوله تعالى { وما يعلم جنود ربك إلا هو } هذا جواب أبي جهل القائل أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر استخفافا وتكذيبا فأخبر تعالى أن له جنودا لا يعلم عددها ولا قوتها إلا هو وقد ورد أن لأحدهم مثل قوة الثقلين يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار ويرمي الجبل عليهم، ولا عجب وأربعة ملائكة يحملون العرش الذي هو أكبر من السماوات والأرضين فسبحان الخلاق العليم سبحان الله العزيز الرحيم سبحان الله ذي الجبروت والملكوت. وقوله تعالى وما هي أي جهنم إلا ذكرى للبشر اي تذكرة يذكرون بها عظمة الله ويخافون بها عقابه. وقوله { كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذآ أسفر } أي كلا أي ليس القول كما يقول من زعم من المشركين أنه يكفي أصحابه المشركين خزنة جهنم حتى يجهضهم عنها. والقمر والليل إذا أدبر ولى ذاهبا والصبح إذا أسفر أي أضاء وأقبل { إنها لإحدى الكبر } أي أقسم تعالى بالقمر والليل إذا أدبر والصبح إذا أسفر على أن جهنم لإحدى الكبر أي البلايا العظام { نذيرا للبشر } أي بني آدم، وقال نذيرا ولم يقل نذيرة وهي جهنم لأنها بمعنى العذاب أي عذابها نذير للبشر. وقوله { لمن شآء منكم أن يتقدم } في طاعة الله ورسوله حتى يبلغ الدرجات العلا، { أو يتأخر } في معصية الله ورسوله حتى ينزل الدركات السفلى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان الحكمة من جعل عدد الزبانية تسعة عشر والإخبار عنهم بذلك.
2- موافقة التوراة والإنجيل للقرآن من شأنها أن تزيد إيمان المؤمنين من الفريقين.
3- في النار من الزبانية ما لا يعلم عددهم إلا الله تعالى خالقهم.
4- جهنم نذير للبشر أي عذابها نذير للبشر لمن شاء أن يتقدم بالطاعة أو يتأخر بالمعصية.
[74.38-56]
شرح الكلمات:
كل نفس: أي مأمورة منهية.
رهينة: أي مرهونة مأخوذة بعملها في جهنم.
إلا أصحاب اليمين: أي المؤمنين فهم ناجون من النار وهم في جنات النعيم يتساءلون عن المجرمين.
ولم نك نطعم المسكين: أي بخلا بما آتاهم الله.
وكنا نخوض: أي في الباطل وفيما يكره الله تعالى مع الخائضين.
نكذب بيوم الدين: بيوم المجازاة والثواب ولا نصدق بثواب ولا عقاب.
حتى أتانا اليقين: أي الموت.
عن التذكرة معرضين: أي الموعظة منصرفين لا يسمعونها ولا يقبلون عليها.
حمر مستنفرة: أي كأنهم حمر وحشية مستنفرة.
فرت من قسورة: أي هربت من أسد أشد الهرب.
بل يريد كل امرئ منهم: أي ليس هناك قصور في الأدلة والحجج التي قدمت لهم بل يريد كل واحد منهم.
أن يؤتى صحفا منشرة: أي يصبح وعند رأسه كتاب من الله رب العالمين إلى فلان آمن بنبينا محمد واتبعه.
إنه تذكرة: أي عظة وعبرة.
فمن شاء ذكره: أي قرأه واتعظ به.
هو أهل التقوى: أي هو أهل لأن يتقي لعظمة سلطانه وأليم عقابه.
وأهل المغفرة: أي وأهل لأن يغفر للتائبين من عباده والموحدين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى { كل نفس } أي يوم القيامة { رهينة } بمعنى مرهونة محبوسة أي كل نفس مأمورة منهية بمعنى مكلفة بخلاف نفوس غير المكلفين من أطفال ومجانين وقوله { إلا أصحاب اليمين } فإنهم قد فك رهنهم وهم في جنات النعيم يتساءلون فيما بينهم عن أصحاب الجحيم وكيف حالهم ثم يتصلون بهم وهم في جنات النعيم والمجرمون في سواء الجحيم، ويتم الاتصال برؤية الشخص وسماع كلامه وفي الصناعات الحديثة اليوم ما جعل هذا أمرا معقولا فيقولون لهم { ما سلككم في سقر } أي أدخلكم في سقر فأجابوهم قائلين { لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخآئضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين }. فذكروا لهم أعظم الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والتخوض مع أهل الباطل في كل شر وفساد والتكذيب بيوم القيامة وإنه لا حساب ولا جزاء أي لا ثواب ولا عقاب وأنهم مع هذه الجرائم الموجبة للسلوك في سقر لم يتوبوا منها حتى أتاهم اليقين الذي هو الموت فإن من مات دخل الدار الآخرة من عتبتها وهي القبر فلذا قالوا حتى أتانا اليقين أي الموت. وقد يقال ألم يكن هناك شفعاء من الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء يشفعون؟ والجواب هو في قوله تعالى { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } أي لم تكن لهم شفاعة لأنهم ملاحدة مجرمون. وقوله تعالى { فما لهم عن التذكرة معرضين } أي فما لهؤلاء المشركين المكذبين بالبعث والجزاء عن التذكرة التي يذكرون بها في آيات هذه السورة وغيرها معرضين إنه أمر عجيب أي شيء يجعلهم يعرضون عنها هاربين منها فارين { كأنهم حمر } وحشية { مستنفرة فرت من قسورة } أي فرت هاربة أشد الهرب من أسد من أسود الصحراء الطاغية إن فرارهم من هذه الدعوة وإعراضهم عنها ليس عن قصور في أدلتها وضعف في حجتها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى كتابا من الله يأمره فيه بالإيمان واتباع محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو العناد والمكابرة وصاحبهما غير مستعد للإيمان بحال من الأحوال.
وهذه الآية كقوله تعالى:
حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه
[الإسراء: 93] هذا معنى قوله تعالى { بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة }. وقوله تعالى { كلا بل لا يخافون الآخرة } أي ليس الأمر كما يقولون ويدعون بل إن علة إعراضهم الحقيقية هي عدم خوفهم من عذاب الله يوم القيامة. وقوله تعالى { كلا إنه تذكرة } أي ألا إن هذا القرآن تذكرة فمن شاء ذكره أي قرأه فاتعظ به فآمن بالله واتقاه فإنه ينجو ويسعد في جوار مولاه ومن لم يشأ ذلك فحسبه سقر وما أدراك ما سقر. وقوله تعالى { وما يذكرون إلا أن يشآء الله } أي ما يذكر من يذكر إلا بمشيئة الله فلا بد من الافتقار إلى الله وطلب توفيقه في ذلك إذ لا استقلال لأحد عن الله ولا غنى بأحد عن الله بل الكل مفتقر إليه ومشيئته تابعة لمشيئته وقوله { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } لقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فكاك كل نفس مرهونة بكسبها هو الإيمان والتقوى.
2- بيان أكبر الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والخوض في الباطل وعدم التصديق بالحساب والجزاء.
3- لا شفاعة يوم القيامة لمن مات وهو يشرك بالله شيئا.
4- مرد الانحراف في الإنسان إلى ضعف إيمانه بالبعث والجزاء.
5- الله جل جلاله هو ذو الأهلية الحقة لأمرين عظيمين التقوى فلا يتقى على الحقيقة إلا هو والمغفرة فلا يغفر الذنوب إلا هو اللهم اغفر ذنوبنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
[75 - سورة القيامة]
[75.1-15]
شرح الكلمات:
لا: أي ليس الأمر كما يدعي المشركون من أنه لا بعث ولا جزاء.
أقسم بيوم القيامة: أي الذي كذب به المكذبون.
ولا أقسم بالنفس اللوامة: أي لتبعثن ولتحاسبن ولتعاقبن أيها المكذبون الضالون.
اللوامة: أي التي إن أحسنت لامت عن عدم الزيادة وإن أساءت لامت عن عدم التقصير.
أيحسب الإنسان: أي الكافر الملحد.
أن لن نجمع عظامه: أي ألا نجمع عظامه لنحييه للبعث والجزاء.
بلى قادرين: أي بلى نجمعها حال كوننا قادرين مع جمعها على تسوية بنانه.
على أن نسوي بنانه: أي نجعل أصابعه كخف البعير أو حافر الفرس فلا يقدر على العمل الذي يقدر عليه الآن مع تفرقة أصابعه. كما نحن قادرون على جمع تلك العظام الدقيقة عظام البنان وردها كما كانت كما نحن قادرون على تسوية تلك الخطوط الدقيقة في الأصابع والتي تختلف بين إنسان وإنسان اختلاف الوجوه والأصوات واللهجات.
بل يريد الإنسان: أي بإنكار البعث والجزاء.
ليفجر أمامه: أي ليواصل فجوره زمانه كله ولذلك أنكر البعث.
يسأل أيان يوم القيامة: أي يسأل سؤال استنكار واستهزاء واستخفاف.
فإذا برق البصر: أي دهش وتحير لما رأى ما كان به يكذب.
وخسف القمر: أي أظلم بذهاب ضوئه.
وجمع الشمس والقمر: أي ذهب ضوءهما وذلك في بداية الانقلاب الكوني الذي تنتهي فيه هذه الحياة.
أين المفر: أي إلى أين الفرار.
كلا: ردع له عن طلب الفرار.
لا وزر: أي لا ملجأ يتحصن به.
بل الإنسان على نفسه بصيرة: أي هو شاهد على نفسه حيث تنطق جوارحه بعمله.
ولو ألقى معاذيره: أي فلا بد من جزائه ولو ألقى معاذيره.
معنى الآيات:
قوله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة } أي ما الأمر كما تقولون أيها المنكرون للبعث والجزاء أقسم بيوم القيامة الذي تنكرون وبالنفس اللوامة التي ستحاسب وتجرى لا محالة لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير. وقوله تعالى { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه } أي بعد موته وفنائه وتفرق أجزائه في الأرض، والمراد من الإنسان هنا الكافر الملحد قطعا { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } أي بلى نجمعها حال كوننا قادرين على ذلك وعلى ما هو أعظم وهو تسوية بنانه أي أصابعه بأن نجعلها كخف البعير أو حوافر الحمير، فيصبح يتناول الطعام بفمه كالكلب والبغل والحمار. وقوله { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } أي ما يجهل الإنسان قدرة خالقه على إعادة خلقه ولكنه يريد أن يواصل فجوره مستقبله كله فلا يتوب من ذنوبه ولا يؤوب من معاصيه لأن شهواته مستحكمة فيه، وقوله تعالى { يسأل أيان يوم القيامة }؟ يخبر تعالى عن المنكر للبعث من أجل مواصلة الفجور من زنا وشرب خمور بأنه يقول أيان يوم القيامة استبعادا واستنكارا وتسويفا للتوبة فبين تعالى له وقت مجيئه بقوله { فإذا برق البصر } أي عند الموت بأن تحير واندهش { وخسف القمر } أي أظلم وذهب ضوءه، { وجمع الشمس والقمر } أي ذهب ضوءهما وذلك في بداية الانقلاب الكوني الذي تنتهي فيه هذه الحياة { يقول الإنسان } الكافر { يومئذ أين المفر }؟ أي إلى أين الفرار يا ترى؟ قال تعالى { كلا } أي لا فرار اليوم من قبضة الجبار أيها الإنسان الكافر { لا وزر } اي لا حصن ولا ملتجأ وإنما { إلى ربك } اليوم { المستقر } أي الانتهاء والاستقرار إما إلى جنة وإما إلى نار وقوله تعالى { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } أي يوم تقوم الساعة يخبر الإنسان من قبل ربه تعالى بما قدم من أعماله في حياته الخير والشر سواء وبما أخر بعد موته من سنة حسنة سنها أو سيئة كذلك وقوله تعالى { بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره } أي عندما يتقدم الإنسان للاستنطاق فيخبر بما قدم وأخر هناك يحاول أن يتنصل من بعض ذنوبه فتنطق جوارحه ويختم على لسانه فيتخذ من جوارحه شهود عليه فتلك البصيرة ولو ألقى معاذيره واعتذر ولا يقبل منه ذلك لكونه شاهدا على نفسه بجوارحه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان إفضال الله على العبد في خلقه وتركيب أعضائه.
3- معجزة قرآنية أثبتها العلم الصناعي الحديث وهي عدم تسوية خطوط الأصابع.
4- فكما خالف تعالى بين الإنسان والإنسان وبين صوت وصوت فرق بين خطوط الأصابع فلذا استعملت في الإمضاءات وقبلت في الشهادات.
5- تقرير مبدأ أن المؤمن يثاب على ما أخر من سنة حسنة يعمل بها بعده كما يأثم بترك السنة السيئة يعمل بها كذلك بعده.
[75.16-25]
شرح الكلمات:
لا تحرك به لسانك: أي لا تحرك بالقرآن لسانك قبل فراغ جبريل منه.
لتعجل به: أي مخافة أن يتفلت منك.
إن علينا جمعه: أي في صدرك.
وقرآنه: أي قراءتك له بحيث نجريه على لسانك.
فإذا قرأناه: أي قرأه جبريل عليك.
فاتبع قرآنه: أي استمع قراءته.
ثم إن علينا بيانه: أي لك بتفهيمك ما يشكل عليك من معانيه.
كلا: أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث ولا جزاء.
يحبون العاجلة: أي الدنيا فيعملون لها.
ويذرون الآخرة: أم ويتركون الآخرة فلا يعملون لها.
ناضرة: أي حسنة مضيئة.
إلى ربها ناظرة: أي إلى الله تعالى ربها ناظرة بحيث لا تحجب عنه تعالى.
باسرة: أي كالحة مسودة عابسة.
تظن: أي توقن.
أن يفعل بها فاقرة: أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.
معنى الآيات:
لما ندد تعالى بالمعرضين عن القرآن المكذبين به وبالبعث والجزاء ذكر في هذه الآيات المقبلين على القرآن المسارعين إلى تلقيه فكانت المناسبة بين هذه الآيات وسابقاتها المقابلة بالتضاد. فقال تعالى مؤدبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم { لا تحرك به } أي بالقرآن { لسانك } قبل فراغ جبريل من قراءته عليك. إذ كان صلى الله عليه وسلم حريصا على القرآن يخاف أن يتفلت منه شيء فأكرمه ربه بالتخفيف عليه وطمأنه أن لا يفقد منه شيئا فقال له { لا تحرك به لسانك لتعجل به } مخافة أن يتفلت منك { إن علينا جمعه } أي في صدرك { وقرآنه } على لسانك حيث نسهل ذلك ونجريه على لسانك، { فإذا قرأناه } أي قرأه جبريل عليك { فاتبع } له ثم اقرأه كما قرأه واعمل بشرائعه وأحكامه، وقوله تعالى { ثم إن علينا بيانه } أي إنا نبين لك ما يشكل عليك من معانيه حتى تعمل بكل ما طلب منك أن تعمل به. وقوله تعالى { كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة } عاد السياق الكريم إلى تقرير عقيدة البعث والجزاء والتي عليها وعلى الإيمان بالله مدار الإصلاح والتهذيب فقال { كلا } أي ليس كما تدعون من عدم إمكان البعث والجزاء لأنكم تعلمون أن القادر على إيجادكم اليوم وإعدامكم غدا قادر على إيجادكم مرة أخرى، ولكن الذي جعلكم تكذبون بالبعث والجزاء هو حبكم للحياة للعاجلة أي للدنيا وما فيها من لذات وشهوات، وترككم للآخرة أي للحياة الآخرة لأنها تكلفكم الصلاة والصيام والجهاد، والتخلي عن كثير من اللذات والشهوات. بعد أن كشف عن نفسيات المكذبين توبيخا لهم وتقريعا عرض على أنظارهم منظرا حيا وصورة ناطقة لما يتجاهلونه من شأن الآخرة فقال { وجوه يومئذ } أي يوم إذ تقوم القيامة { ناضرة } أي حسنة مضيئة مشرقة لأن أرواح أصحابها كانت في الدنيا مشرقة بنور الإيمان وصالح الأعمال { إلى ربها ناظرة } سعيدة بلقاء ربها مكرمة بالنظر إليه وهي في جواره { ووجوه يومئذ باسرة } أي كالحة مسودة عابسة وذلك لأن أرواح أصحابها كانت في الدنيا تعيش على ظلمة الكفر وعفن الذنوب ودخان المعاصي فانطبعت النفس على الوجه فهي باسرة حالكة عابسة { تظن } أي توقن أي الوجوه والمراد أصحابها { أن يفعل بها فاقرة } أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر منها وهي إلقاؤه في سقر
ومآ أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر
[المدثر: 27-30]، فاذكروا هذا يا بشر!!
[75.26-40]
شرح الكلمات:
إذا بلغت: أي النفس.
التراقي: جمع ترقوة أي عظام الحلق.
وقيل من راق: أي وقال من حوله من عواده أو ممرضيه هل هناك من يرقيه ليشفى؟
وظن أنه الفراق: أي أيقن أنه الفراق للدنيا لبلوغ الروح الحلقوم.
والتفت الساق بالساق: أي التقت إحدى ساقيه بالأخرى أو التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة وما فيها من أهوال.
إلى ربك يومئذ المساق: أي إذا بلغت الروح الحلقوم تساق إلى ربها وخالقها لتلقى جزاءها.
فلا صدق ولا صلى: أي الإنسان الذي يحسب أن لن يجمع الله عظامه ما صدق ولا صلى.
ولكن كذب: أي بالقرآن.
وتولى: أي عن الإيمان.
يتمطى: أي يتبختر في مشيته إعجابا بنفسه.
أولى لك: أي وليك المكروه أيها المعجب بنفسه المكذب بلقاء ربه.
فأولى: أي فهو أولى بك.
ثم أولى لك فأولى: أي وليك المكروه مرة ثانية فأولى فهو أولى بك أيضا.
أن يترك سدى: أي مهملا لا يكلف في الدنيا ولا يحاسب ويجزى في الآخرة.
تمنى: أي تصب في الرحم.
فخلق فسوى: أي خلق الله منها الإنسان فسواه بتعديل أعضائه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقوله تعالى { كلا } أي ليس الأمر كما تحسب أيها الإنسان أن الله لا يجمع عظامك ولا يحييك ولا يجزيك انظر إليك وأنت على فراش الموت إلى أين يكون مساقك إذا بلغت روحك التراقي من عظام حلقك وقال عوادك وممرضوك هل من راق يرقيك أو طبيب يداويك وأيقنت أنه الفراق لدنياك وأهلك وذويك، والتفت ساقك اليمنى باليسرى وشدة فراقك الدنيا بشدة إقبالك على الآخرة هنا انظر إلى أين يذهب بك أما جسمك فإلى مقره في الأرض تواريك، وأما روحك فإلى ربك ليحكم فيك. وقد كذبت بآياته وكفرت بآلائه. فلا صدقت ولا صليت، ولكن كذبت وتوليت كان هذا نصيبك من دينك، وأما دنياك، فقد كنت تتمطى استكبارا وتتبختر إعجابا. إذا { أولى لك فأولى } أي وليك الهلاك في الدنيا { ثم أولى لك فأولى } أي وليك العذاب في الأخرى وعودة إلى تقريعك وتوبيخك يا من كفرت ربك وتنكرت لأصلك اسمع ما يقال لك أحسبت أنك تترك سدى، تعيش سبهللا، لا تؤمر ولا تنهى، لا يؤخذ منك ولا تعطى كلا ألم تك قبل كفرك وجحودك نطفة قطرة ماء من مني تمنى قل بلى أو أولى لك فأولى، ثم كنت علقة فخلقك الله جل جلاله منها فسوى خلقك بتعديل أعضائك فجعل من نوعك الذكر والأنثى. قل لي بربك هل تنكر ذلك فإن قلت لا. قلنا أليس الله بقادر على أن يحيى الموتى؟ سبحانك اللهم بلى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الرقية إذا كانت بالقرآن أو الكلم الطيب.
2- التنويه بشأن الزكاة والصلاة فرائض ونوافل.
3- تحريم العجب والكبرياء والتبختر في المشي.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
5- الإنسان لم يخلق عبثا والكون كله كذلك.
6- مشروعية قول سبحانك اللهم بلى لمن قرأ هذه الآية أو سمعها إماما كان أو مأموما وهي { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى }.
[76 - سورة الانسان]
[76.1-12]
شرح الكلمات:
هل أتى: أي قد أتى.
على الإنسان: أي آدم عليه السلام.
حين من الدهر: أي أربعون سنة.
لم يكن شيئا مذكورا: أي لا نباهة ولا رفعة له لأنه طين لازب وحمأ مسنون وذلك قبل أن ينفخ الله تعالى فيه الروح.
أمشاج: أي أخلاط من ماء المرأة وماء الرجل.
نبتليه: أي نختبره بالتكاليف بالأمر والنهي عند تأهله لذلك بالبلوغ والعقل.
إنا هديناه السبيل: أي بينا له طريق الهدى ببعثة الرسل وإنزال الكتب.
إنا أعتدنا: أي هيأنا.
سلاسل: أي يسحبون بها في نار جهنم.
وأغلالا: أي في أعناقهم.
وسعيرا: أي نارا مسعرة مهيجة.
إن الأبرار: أي المطيعين لله ورسوله الصادقين في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم.
مزاجها: أي ما تمزج به وتخلط.
يفجرونها: أي يجرونها ويسيلونها حيث شاءوا.
شره مستطيرا: أي ممتدا طويلا فاشيا منتشرا.
عبوسا: أي تكلح الوجوه من طوله وشدته.
نضرة وسرورا: أي حسنا ووضاءة في وجوههم وفرحا في قلوبهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } يخبر تعالى عن آدم أبي البشر عليه السلام أنه أتى عليه حين من الدهر قد يكون أربعين سنة وهو صورة من طين لازب لا روح فيها، فلم يكن في ذلك الوقت شيئا له نباهة أو رفعة فيذكر. هذا الإنسان الأول آدم أخبر تعالى عن بدء أمره. وقوله { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج } يخبر تعالى عن الإنسان الذي هو ابن آدم أنه خلقه من نطفة وهي ما ينطف ويقطر من ماء الرجل وماء المرأة، ومعنى أمشاج أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة فهذا مبدأ خلق الإنسان ابن آدم. وقوله { نبتليه } أي نختبره بالتكاليف بالأمر والنهي وذلك عند تأهله لذلك بالبلوغ والعقل ولذلك جعله سميعا بصيرا إذ بوجود السمع والبصر معا أو بأحدهما يتم التكليف فإن انعدما فلا تكليف لعدم القدرة عليه.
وقوله تعالى { إنا هديناه السبيل } أي بينا له طريق الهدى ببعثة الرسل وإنزال الكتب واستبان له بذلك أيضا طريق الغي والردى إذ هما النجدان إن عرف أحدهما عرف الثاني وهو في ذلك إما أن يسلك سبيل الهدى فيكون شكورا، وإما أن يسلك سبيل الغي والردى فيكون كفورا، والشكور المؤمن الصادق في إيمانه المطيع لربه، والكفور المكذب بآيات الله ولقائه. وقوله تعالى { إنآ أعتدنا للكافرين } الآيات شروع في بيان ما أعد لكل من سالكي سبيل الرشد وسالكي سبيل الغي فقال بادئا بما أعد لسالكي سبيل الغي موجزا في بيان ما أعد لهم من عذاب بخلاف ما أعد لسالكي سبيل الرشد فإنه نعيم تفصيله محبوب والإطناب في بيانه مرغوب فقال { إنآ أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا } يسحبون بها في النار، وأغلالا تغل بها أيديهم في أعناقهم وسعيرا متأججا وجحيما مستعرا.
هذا موجز ما أعد لسالكي سبيل الغي أما سالكي سبيل الرشد فقد بينه بقوله { إن الأبرار } أي المؤمنين المطيعين في صدق لله والرسول { يشربون من كأس } ملأى شرابا مزاجها كافورا ومزجت بالكافور لبرودته وبياض لونه وطيب رائحته عينا يشرب بها عباد الله لعذوبة مائها وصفائه أصبحت كأنها أداة يشرب بها ولذا قال يشرب بها ولم يقل يشرب منها وقوله يفجرونها تفجيرا أي يجرونها ويسيلونها حيث شاءوا من غرفهم وقصورهم ومجالس سعادتهم. وقوله { يوفون بالنذر } قطع الحديث عن نعيمهم ليذكر بعض فضائلهم ترغيبا في فعلهم ونعيمهم، ثم يعود إلى عرض النعيم فقال { يوفون بالنذر } أي كانوا في دار الدنيا يوفون بالنذر وهو ما يلتزمونه من طاعات لربهم كالصلاة والصيام والحج والصدقات تقربا إلى ربهم وتزلفا إليه ليحرزوا رضاه عنهم وتلك غاية مناهم. وقوله ويخافون يوما كان شره مستطيرا أي وكانوا في حياتهم يخافون يوم الحساب يوم العقاب يوما كان شره فاشيا منتشرا ومع ذلك يطعمون الطعام على حبه أي مع حبهم وشهوتهم له ورغبتهم فيه، يطعمونه مسكينا فقيرا مسكنه الفقر وأذلته الحاجة، ويتيما لا عائل له ولا مال عنده، وأسيرا سجينا بعيد الدار نائي المزار لا يعرف له أصل ولا فصل يطعمونهم ولسان حالهم أو قالهم يقول إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء تجازوننا به في يوم ما من الأيام ولا شكورا ينالنا منكم. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا أي كالح الوجه مسودا ثقيلا طويلا لا يطاق. واستجاب الله لهم وحقق بفضله مناهم فوقاهم الله شر ذلك اليوم العبوس القمطرير، ولقاهم نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم وجزاهم بما صبروا على فعل الصالحات وعن ترك المحرمات جنة وحريرا، وما سيذكر بعد في الآيات التاليات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان نشأة الإنسان الأب والإنسان الأبن وما تدل عليه من إفضال الله وإكرامه لعباده.
2- حاستا السمع والبصر وجودهما معا أو وجود إحداهما ضروري للتكليف مع ضميمة العقل.
3- بيان أن الإنسان أمامه طريقان فليسلك أيهما شاء وكل طريق ينتهي به إلى غاية فطريق الرشد يوصل إلى الجنة دار النعيم، وطريق الغي يوصل إلى دار الشقاء الجحيم.
4- وجوب الوفاء بالنذر فمن نذر شيئا لله وجب أن يفي بنذره إلا أن ينذر معصية فلا يجوز له الوفاء بنذره فيها فمن قال لله على أن أصوم يوم أو شهر كذا وجب عليه أن يصوم ومن قال لله علي أن لا أصل رحمي، أو أن لا أصلي ركعة مثلا فلا يجوز له الوفاء بنذره وليصل رحمه وليصل صلاته ولا كفارة عليه.
5- الترغيب في إطعام الطعام للمحتاجين إليه من فقير ويتيم وأسير.
[76.13-22]
شرح الكلمات:
على الأرائك: أي على الأسرة بالحجلة واحد الأرائك أريكة.
ولا زمهريرا: أي ولا بردا شديدا ولا قمرا إذ هي تضاء من نفسها.
ودانية: أي قريبة منهم ظلال أشجار الجنة.
وذللت قطوفها تذليلا: أي بحيث ينالها المؤمن قائما وقاعدا ومضطجعا.
وأكواب: أي أقداح بلا عرا.
من فضة: أي يرى باطنها من ظاهرها.
قدروها تقديرا: أي على قدر الشاربين بلا زيادة ولا نقص.
ويسقون فيها كأسا: أي خمرا.
كان مزاجها زنجبيلا: أي ما تمزج وتخلط به زنجبيلا.
مخلدون: أي بصفة الولدان لا يشيبون.
لؤلؤا منثورا: أي من سلكه أو من صدفه لحسنهم وجمالهم وانتشارهم في الخدمة.
وإذا رأيت ثم: أي في الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا واسعا لا يقدر.
ثياب سندس: أي حرير.
واستبرق: أي ما غلظ من الديباج.
وحلوا: أي تحليهم الملائكة بها.
شرابا طهورا: أي فائقا على النوعين السابقين ولذا أسند سقيه إلى الله عز وجل.
إن هذا: أي النعيم.
مشكورا: أي مرضيا مقبولا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر ما أعد الله تعالى للأبرار من عباده المؤمنين المتقين فقال تعالى { متكئين } في الجنة { على الأرائك } التي هي الأسرة بالحجال { لا يرون فيها } أي في الجنة { شمسا ولا زمهريرا } إن كان المراد بالشمس الكوكب المعروف فالزمهرير القمر، فلا شمس في الجنة ولا قمر وإن كان المراد بالشمس الحر فالزمهرير البرد وليس في الجنة حر ولا برد وكلا المعنيين مراد وواقع فلا شمس في الجنة ولا قمر لعدم الحاجة إليهما ولا حر ولا برد كذلك.
{ ودانية عليهم ظلالها } أي قريبة منهم أشجارها فهي تظللهم ويجدون فيها لذة التظليل وراحته ومتعته وإن لم يكن هناك شمس تستلزم الظل. { وذللت قطوفها تذليلا } أي ما يقطف من ثمار أشجارها مذلل لهم بحيث يناله القائم والقاعد والمضطجع فلا شوك به ولا بعد فيه سهل التناول لأن الدار دار نعيم وسعادة وراحة وروح وريحان { ويطاف عليهم بآنية من فضة } أي يطوف عليهم الخدم الوصفاء بآنية من فضة ومن ذهب { وأكواب } أي أقداح لا عرى لها كانت بفضل الله وإكرامه { قواريرا قواريرا من فضة } يرى باطنها من ظاهرها لصفائها مادتها فضة وصفاؤها صفاء الزجاج ولذا سميت قارورة وجمعت على قوارير. { قدروها تقديرا } أي قدرها الخدم الطائفون عليهم بحيث لا تزيد فتفيض ولا تنقص فلا يجمل منظرها. وقوله { ويسقون فيها كأسا } أي خمرا { كان مزاجها } أي ما تمزج به { زنجبيلا } من عين في الجنة { تسمى سلسبيلا }. وقوله تعالى { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } أي ويطوف على أولئك الأبرار في الجنة ولدان غلمان مخلدون لا يهرمون ولا يموتون حالهم دائما حال الغلمان لا تتغير { إذا رأيتهم } ونظرت إليهم { حسبتهم } في جمالهم وانتشارهم في الخدمة هنا وهناك { لؤلؤا منثورا }.
ويقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { وإذا رأيت ثم } أي هناك في الجنة { رأيت نعيما } لا يوصف { وملكا كبيرا } لا يقادر قدره { عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق } يخبر تعالى أن عاليهم أي فوقهم ثياب سندس أي حرير خضر واستبرق وهو ما غلظ من الديباج. وثياب من استبرق بعضها بطائن وبعضها ظهائر البطائن ما يكون تحت الظهائر وقوله تعالى { وحلوا أساور من فضة } أي وحلاهم ربهم وهم في دار كرامته أساور من فضة ومن ذهب أيضا إذ يحذف المقابل لدلالة المذكور عليه نحو سرابيل تقيكم الحر أي وأخرى تقيكم البرد وقوله { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } هذا غير ما ذكر فيما تقدم هذا إكرام خاص وهو أن الله تعالى هو الذي يسقيهم وأن هذا الشراب بالغ مبلغا عظيما في الطهارة لوصفه بالطهور. ويقال لهم تكريما لهم وتشويقا لغيرهم من أهل الدنيا الذين يسمعون هذا الخطاب التكريمي إن هذا النعيم من جنات وعيون وأرائك وغلمان وطعام وشراب ولباس وما إلى ذلك { كان لكم جزآء } على إيمانكم وتقواكم { وكان سعيكم } أي عملكم في الدنيا { مشكورا } أي مرضيا مقبولا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر صور من الجزاء الأخروي.
2- حرمة استعمال أواني الذهب والفضة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم
" هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ".
3- حرمة الخمر لحديث
" من شرب الخمر في الدنيا لا يشربها في الآخرة إن مات مستحلا لها ".
4- مشروعية اتخاذ خدم صالحين يخدمون المرء ويحسن إليهم.
5- حرمة لبس الحرير على الرجال وإباحته للنساء، وكالحرير الذهب أيضا.
[76.23-31]
شرح الكلمات:
نزلنا عليك القرآن تنزيلا: أي شيئا فشيئا ولم ننزله جملة واحدة لحكمة بالغة.
فاصبر لحكم ربك: أي عليك بحمل رسالتك وإبلاغها إلى الناس.
ولا تطع منهم آثما أو كفورا: الآثم هنا عتبة بن ربيعة والكفور الوليد بن المغيرة.
واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا: أي صل الصبح والظهر والعصر.
ومن الليل فاسجد له: أي صل صلاة المغرب والعشاء.
وسبحه ليلا طويلا: أي تهجد بالليل نافلة لك.
يحبون العاجلة: أي الدنيا.
ويذرون وراءهم يوما ثقيلا: أي يوم القيامة.
وشددنا أسرهم: أي قوينا أعضاءهم ومفاصلهم.
وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا: أي جعلنا أمثالهم في الخلقة بدلا منهم بعد أن نهلكهم.
إن هذه تذكرة: أي عظة للناس.
اتخذ إلى ربه سبيلا: أي طريقا إلى مرضاته وجواره بالإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي.
في رحمته: أي الجنة.
أعد لهم عذابا أليما: أي في النار والأليم ذو الألم الموجع.
معنى الآيات:
لقد عرض المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضا مفاده أن يترك دعوة الله تعالى إلى عبادته وتوحيده ويعبد ربه وحده ويترك المشركين فيما هم فيه وله مقابل ذلك مال أو أزواج أو رئاسة وما إلى ذلك فأبى الله تعالى له ذلك وأنزل قوله { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك } على تحمل رسالتك وتبليغها إلى الناس { ولا تطع منهم } أي من مشركي قريش { ءاثما } كأبي جهل وعتبة بن ربيعة { أو كفورا } كالوليد بن المغيرة أي لا تطعهما فيما طلبا إليك وعرضا عليك، وواصل دعوتك واستعن بالصلاة والتسبيح والذكر والدعاء، وفي قوله تعالى { بكرة وأصيلا } إشارة إلى صلاة الصبح والظهر والعصر، وفي قوله { ومن الليل فاسجد له } إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء، وقوله { وسبحه ليلا طويلا } صريح في أنه التهجد إذ الصلاة نعم العون للعبد ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وقوله تعالى { إن هؤلاء يحبون العاجلة } أي الدنيا يعني بهم كفار قريش يحبون الدنيا وسميت بالعاجلة لأنها ذاهبة مسرعة، { ويذرون ورآءهم يوما ثقيلا } هو يوم القيامة فلم يؤمنوا ولم يعملوا بما يسعدهم فيه ويذكرهم تعالى بأنه خالقهم وقادر على تبديلهم بغيرهم فيقول { نحن خلقناهم } أي أوجدناهم من العدم { وشددنآ أسرهم } أي قوينا ظهورهم وأعضاءهم ومفاصلهم { وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم تبديلا } أي جعلنا أمثالهم في الخلقة بدلا عنهم وأهلكناهم ولو شاء تعالى ذلك لكان ولكنه لم يشأ مع أنه في كل قرن يبدل جيلا بجيل هذا يميته وهذا يحييه وهو على كل شيء قدير. وفي خاتمة هذه السورة المشتملة على أنواع من الهدايات الكثيرة يقول تعالى { إن هذه تذكرة } أي هذه السورة موعظة { فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا } طريقا إلى رضاه أولا ثم مجاورته في الملكوت الأعلى ثانيا، ولما أعطى تعالى المشيئة قيدها بأن يشاء الله ذلك المطلوب أولا، ومن هنا وجب الافتقار إلى الله تعالى بدعائه والضراعة إليه وهو قوله { وما تشآءون إلا أن يشآء الله } إن الله كان عليما بخلقه وبما يصلحهم أو يفسدهم حكيما في تدبيره لأوليائه خاصة ولباقي البشرية عامة فله الحمد وله المنة.
وقوله { يدخل من يشآء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما } إنه بهذا يدعو كافة البشرية إلى الافتقار إليه ليغنيهم وإلى عبادته ليزكيهم وإلى جواره فيطهرهم ويرفعهم هؤلاء أولياؤه من أهل الإيمان والتقوى { والظالمين } أي المشركين { أعد لهم عذابا أليما } أي أهانهم لكفرهم به وشركهم في عبادته فأعد لهم عذابا مؤلما موجعا نعوذ بالله من عذابه وشديد عقابه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة طاعة ذوي الإثم وأهل الكفر في حال الاختيار.
2- على المؤمن أن يستعين بالصلاة والذكر والدعاء فإنها نعم العون.
3- استحباب نافلة الليل.
4- مشيئة الله عز وجل قبل فوق كل مشيئة.
5- القرآن تذكرة للمؤمنين.
[77 - سورة المرسلات]
[77.1-15]
شرح الكلمات:
والمرسلات عرفا: المرسلات الرياح الطيبة والعرف المتتابعة.
فالعاصفات عصفا: فالرياح الشديدة الهبوب المضرة لشدتها.
والناشرات نشرا: الرياح تنشر المطر وتفرقه في السماء نشرا.
فالملقيات ذكرا: أي فالملائكة تلقى بالوحي على الأنبياء للتذكير به.
عذرا أو نذرا: أي للأعذار بالنسبة إلى أقوام أو إنذار بالنسبة إلى آخرين.
إنما توعدون لواقع: أي إنما توعدون أيها الناس لكائن لا محالة.
فإذا النجوم طمست: أي محى نورها وذهبت.
وإذا السماء فرجت: أي انشقت وتصدعت.
وإذا الجبال سيرت: أي نسفت فإذا هي هباء منبث مفرق هنا وهناك.
وإذا الرسل أقتت: أي جمعت لوقت حدد لها لتحضر فيه.
ليوم الفصل: أي اليوم الذي يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والمرسلات عرفا } هذا بداية قسم الله تعالى أقسم فيه بعدة أشياء من مخلوقاته ولله أن يقسم بما شاء، والحكمة من الإقسام أن تسكن النفوس للخبر وتطمئن إلى صدق المخبر فيه وبذلك يحصل الغرض من إلقاء الخبر على السامعين والمقسم به هنا المرسلات وهي الرياح المتتابعة الطيبة العذبة والعاصفات منها وهي الشديدة الهبوب التي قد تعصف بالأشجار وتقتلعها وبالمباني وتهدمها والناشرات نشرا وهي الرياح المعتدلة التي تنشر السحاب وتفرقه أو تسوقه للإمطار وإنزال المطر والفارقات فرقا وهي آيات القرآن الكريم تفرق بين الحق والباطل والملقيات ذكرا عذرا أو نذرا وهي الملائكة تلقى بالوحي على من اصطفى الله تعالى من عباده للاعذار والانذار أي تعذر أناسا وتنذر آخرين هذا هو القسم والمقسم هو الله والمقسم عليه هو قوله جل ذكره إن ما توعدون أيها الناس من خير أو شر لواقع أي كائن لا محالة وعليه فأصلحوا أعمالكم بعد تصحيح نياتكم فإن الجزاء واقع لا يتخلف أبدا ولا يتغير ولا يتبدل ومتى يقع هذا الموعود الكائن لا محالة والجواب يقع في يوم الفصل إذا فما هو يوم الفصل والجواب يوم يحضر الله الشهود من الملائكة والرسل ويفصل بين الناس ومتى يكون يوم الفصل والجواب إذا النجوم طمست أي ذهب نورها ومحى وإذا السماء فرجت أي انشقت وتصدعت وإذا الجبال نسفت أي فتت وإذا الرسل أقتت أي حدد لها وقت معين تحضر فيه وهو يوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل تفخيم لشانه وإعلام بهوله وقوله تعالى { ويل يومئذ } أي يوم يقع الفصل العذاب الهائل الكبير { للمكذبين } بالله وبآياته ولقائه ورسوله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وليس للعبد أن يقسم بغير خالقه عز وجل.
3- علامات القيامة وظاهرة الانقلاب الكوني العام وهي انطماس ضوء النجوم وانفراج السماء ونسف الجبال.
4- الوعيد الشديد بالويل الذي هو واد في جهنم تستغيث جهنم من حره للمكذبين بما يجب التصديق به من أركان الإيمان الستة، والوعد والوعيد الإلهيين.
[77.16-28]
شرح الكلمات:
ألم نهلك الأولين: أي كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى البعثة النبوية وذلك بتكذيبهم.
ثم نتبعهم الآخرين: أي إن أصروا على التكذيب ككفار مكة.
كذلك نفعل بالمجرمين: أي مثل ذلك الهلاك نهلك المجرمين.
ويل يومئذ للمكذبين: أي إذا جاء وقت الهلاك ويل فيه للمكذبين.
من ماء مهين: أي المني والمهين الضعيف.
في قرار مكين: أي حريز وهو الرحم.
إلى قدر معلوم: أي إلى وقت الولادة.
فقدرنا: أي خلقه.
فنعم القادرون: أي نحن على الخلق والتقدير.
كفاتا: أي تكفت الناس أي تضمهم أحياء فوق ظهرها وأمواتا في بطنها.
رواسي شامخات: أي جبال عاليات.
فراتا: أي عذبا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين } إنه لما أقسم تعالى على وقوع ما أوعد به المكذبين من عذاب يوم القيامة وذكر وقت مجيئه وعلامات ذلك وذكر أن الرسل أقتت ليوم الفصل وهو اليوم الذي يفصل فيه تعالى بين الخلائق فيقتص من الظالم للمظلوم، ويجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وتوعد المكذبين بذلك فقال ويل يومئذ للمكذبين دلل هنا على قدرته على إهلاك المكذبين بما سبق له أن فعله بالمكذبين فقال في استفهام تقريري لا ينكر { ألم نهلك الأولين } من الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط إلى زمن البعثة النبوية { ثم نتبعهم الآخرين } فقد أهلك أكابر مجرمي قريش في بدر وقوله { كذلك نفعل بالمجرمين } وهو وعيد صريح وحقا والله لقد أهلك المجرمين ولو ينج من الهلاك مجرم وويل يومئذ للمكذبين وقوله تعالى { ألم نخلقكم من مآء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون }. هذا استدلال آخر على قدرة الله وعلمه اللذين لا يتم البعث والجزاء إلا عليهما قدرة لا يعجزها شيء وعلم لا يخفى معه شيء فقال مستفهما استفهاما تقريريا { ألم نخلقكم من مآء مهين } أي ضعيف هو المني { فجعلناه } أي الماء { في قرار مكين } أي حريز حصين وهو الرحم { إلى قدر معلوم } وهو زمن الولادة { فقدرنا } أي خلق الجنين على أحسن صورة أدق تركيب المسافات بين الأعضاء كما بين العينين كما بين اليدين والرجلين كما بين الأذنين كلها مقدرة تقديرا عجيبا لا تزيد ولا تنقص { فنعم القادرون } على الخلق والتقدير معا والجواب بلى ولم إذا تكفرون وتكذبون؟ { ويل يومئذ للمكذبين } وقوله { ألم نجعل الأرض كفاتا أحيآء وأموتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم مآء فراتا }؟ هذا استدلال آخر على قدرة الله على البعث والجزاء والاستفهام فيه للتقرير أيضا { ألم نجعل الأرض كفاتا } أي مكان كفاية مأخوذ من كفت الشيء إذا ضمه إلى بعضه بعضا والأرض ضامة للناس كافية لهم كافتة الأحياء على ظهرها يسكنون ويأكلون ويشربون والأموات في بطنها لا تضيق بهم أبدا كما لم تضق بالأحياء { وجعلنا فيها } أي في الأرض { رواسي شامخات } أي جبال عاليات { وأسقيناكم مآء فراتا } أي عذبا وهو ماء السماء ناقعا في الأرض وجاريا في الأودية والأنهار والجواب بلى، بلى إذا مالكم أيها المشركون كيف تكذبون؟ { ويل يومئذ للمكذبين } أي ويل لهم إذا حان وقت هلاكهم أي
ليوم الفصل ومآ أدراك ما يوم الفصل
[المرسلات: 13-14].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- الاستدلال على البعث والجزاء بالقدرة والعلم إذ هما أساس البعث والجزاء.
3- بيان انعام الله تعالى على عباده في خلقهم ورزقهم وتدبير حياتهم أحياء وأمواتا.
4- بيان أن الناس أكثرهم لا يشكرون.
5- الوعيد الشديد للمكذبين الكافرين.
[77.29-40]
شرح الكلمات:
انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون: أي من العذاب.
ظل ذي ثلاث شعب: أي دخان جهنم إذا ارتفع انقسم إلى ثلاث شعب لعظمته.
لا ظليل: أي كنين ساتر يكن ويستر.
ولا يغني من اللهب: أي ولا يرد شيئا من الحر.
إنها: أي النار.
بشرر كالقصر: أي الشررة الواحدة كالقصر في عظمته وارتفاعه.
كأنه جمالة صفر: أي الشرر المتطاير من النار الشررة كالقصر في عظمها وارتفاعها وكالجمل في هيئتها ولونها والجمل الأصفر الأسود الذي يميل إلى صفرة.
هذا يوم لا ينطقون: أي فيه بشيء.
ولا يؤذن لهم: أي في العذر.
جمعناكم والأولين: أي من المكذبين قبلكم.
فإن كان لكم كيد فكيدون: أي حيلة في دفع العذاب فاحتالوا لدفع العذاب عنكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الحياة كلها قوله تعالى { انطلقوا } هذا يقال للمكذبين يوم القيامة وهم في عرصاتها يقال لهم تقريعا وتبكيتا انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون وهو عذاب الآخرة ويتهكم بهم ويسخرون منهم فيقولون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب وهو دخان النار إذا ارتفع يتشعب إلى ثلاث شعب وذلك لعظمته لا ظليل أي ليس هو ظلا حقيقيا كظل لشجرة والجدار فيكن ويستر ولا يغني من اللهب فيدفع الحر وقال تعالى في وصفها { إنها } أي النار { ترمي بشرر كالقصر } الشررة الواحدة كالقصر في كبره وارتفاعه كأنه أي الشرر جمالة صفراء اي الشررة كالجمل الأصفر وهو الأسود المائل إلى الصفرة. ثم قال تعالى { ويل يومئذ للمكذبين } يتوعد المكذبين به وبآياته ولقائه ورسوله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى { هذا يوم لا ينطقون } أي هذا يوم القيامة يوم لا ينطقون أي فيه بشيء { ولا يؤذن لهم } أي في الاعتذار فهم يعتذرون لا اعتذار ولا إذن به. ولطول يوم القيامة وتجدد الأحداث فيه يخبر القرآن مرة باعتذارهم وكلامهم في موطن، وينفيه في آخر، إذ هو ذاك الواقع في مواطن يتكلمون بل ويحلفون كاذبين وفي مواطن يغلب عليهم الخوف والحزن فلا يتكلمون بشيء وفي مواطن يطلب منهم أن يتكلموا فيتكلموا وفي أخرى لا، { ويل يومئذ للمكذبين } وعيد لكل المكذبين بهذا وبغيره وقوله تعالى { هذا يوم الفصل جمعنكم والأولين } أي يقال لهم يوم القيامة وهم في عرصاتها هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون جمعناكم فيه أيها المكذبون من هذه الأمة والمكذبين الأولين من قبلها، فإن كان لكم كيد أي حيلة على خلاصكم مما أنتم فيه فكيدون أي احتالوا علي وخلصوا أنفسكم يقال لهم تبكيتا لهم وخزيا وهو عذاب روحي أشد ألما من العذاب الجسماني { ويل يومئذ للمكذبين } أي ويل يوم إذ يجيء يوم الفصل للمكذبين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التهكم والسخرية والتبكيت من ألم أنواع العذاب الروحي يوم القيامة.
2- عرصات القيامة واسعة والمقام فيها طويل والبلاء فيها شديد.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يتم فيه.
4- التكذيب هو رأس الكفر، وبموجبه يكون العذاب.
[77.41-50]
شرح الكلمات:
إن المتقين: أي الذين اتقوا ربهم فآمنوا به وأطاعوه بفعل ما يحب وترك ما يكره.
في ظلال: أي في ظلال الأشجار الوارفة.
وعيون: أي من ماء ولبن وخمر وعسل.
مما يشتهون: لا مما يجدون كما هي الحال في الدنيا.
إنا كذلك نجري المحسنين: أي كما جزينا المتقين نجزي المحسنين.
كلوا وتمتعوا: أي في هذه الحياة الدنيا.
وإذا قيل لهم اركعوا: أي صلوا لا يصلون.
بعده يؤمنون: أي بعد القرآن إذ الكتب غيره ليست معجزة والقرآن هو المعجز بألفاظه ومعانيه فمن لم يؤمن بالقرآن ما آمن بغيره بحال من الأحوال.
معنى الآيات:
من باب الترغيب والترهيب وهو أسلوب أمتاز به القرآن الكريم ذكر تعالى ما للمتقين من نعيم مقيم بعد ذكر ما للمكذبين الضالين من عذاب الجحيم فقال تعالى { إن المتقين } وهم الذين اجتنبوا الشرك والمعاصي { في ظلال وعيون } في ظلال أشجار الجنة وعيونها من ماء ولبن وخمر وعسل وفواكه كثيرة منوعة مما يشتهون على خلاف الدنيا إذ الناس يأكلون مما يجدون فلوا اشتهوا شيئا ولم يجدوه ما أكلوه وأما دار النعيم فإن المرء ما اشتهى شيئا إلا وجده وأكله وهذا هو السر في التعبير في غير موضع بكلمة مما يشتهون. ومن إتمام النعيم أن يقال لهم تطييبا لخواطرهم كلوا واشربوا هنيئا أي متهنئين بما كنتم تعملون من الصالحات وتتركون من السيئات. وقوله تعالى إنا كذلك نجزي المحسنين أي كهذا الجزاء الذي جزينا به المتقين نجزي به المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين أي بهذا الوعد الكريم. قوله تعالى { كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون }. هذا قول الله تعالى لمشركي قريش وكفارها يهددهم الرب تبارك وتعالى ناعيا عليهم إجرامهم حتى يحين وقتهم وقد حان حيث أعلمهم أنهم لا يتمتعون إلا قليلا وقد أهلكوا في بدر. وقوله { ويل يومئذ للمكذبين } هو توعد بالعذاب الأليم لمن يكذب بوعيد الله هذا ووعده ذاك. وقوله تعالى { وإذا قيل لهم اركعوا } أي صلوا { لا يركعون } أي لا يصلون ولا يخشعون ولا يتواضعون فيقبلون الحق ويؤمنون به، ويل يومئذ للمكذبين بشرائع الله وهداه التاركين للصلاة وقوله تعالى { فبأي حديث بعده يؤمنون } أي فبأي كتاب يؤمن هؤلاء المكذبون إذا لم يؤمنوا بالقرآن وذلك لما فيه من الخير والهدى ولما يدعو إليه من السعادة والكمال كما أنه معجز بألفاظه ومعانيه بخلاف الكتب غيره فمن لم يؤمن به لا يرجى له أن يؤمن بغيره بحال من الأحوال.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه المؤمنين المتقين المحسنين.
2- بيان نعيم أهل التقوى والاحسان وفضلهما أي فضل التقوى والإحسان.
3- صدق القرآن في أخباره إذ وعيد الله لأكابر مجرمي مكة نفذ بعد أقل من خمس سنوات.
4- من دخل مسجدا وأهله يصلون فليدخل معهم في صلاتهم وإن كان قد صلى حتى لا يكون غيره راكعا لله وهو غير راكع وقد جاء في الصحيح هذا المعنى.
[78 - سورة النبإ]
[78.1-16]
شرح الكلمات:
عم: أي عن أي شيء؟.
يتساءلون: أي يسأل بعض قريش بعضا.
عن النبأ العظيم: أي ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة والبعث الآخر.
الذي هم فيه مختلفون: أي ما بين مصدق ومكذب.
سيعلمون: عاقبة تكذيبهم عند نزع أرواحهم وعند خروجهم من قبورهم.
أوتادا: أي تثبت بها الأرض كما تثبت الخيمة بالأوتاد.
سباتا: أي راحة لأبدانكم.
لباسا: أي ساترا بظلامه وسواده.
وجعلنا النهار معاشا: أي وقتا للمعاش كسبا وأكلا.
شدادا: أي قوية محكمة الواحدة شديدة والجمع شداد.
سراجا وهاجا: أي ضوء الشمس وهاجا وقادا.
المعصرات: أي السحابات التي حان لها أن تمطر كالجارية المعصر التي دنا وقت حيضها.
ثجاجا: أي صبابا.
وجنات ألفافا: أي بساتين ملتفة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { عم يتسآءلون } أي عن أي شيء يتساءل رجال قريش فيسأل بعضهم بعضا إنهم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون إنه ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة والبعث الآخر. قال تعالى ردعا لهم وتخويفا كلا سيعلمون عند نزع أرواحهم عاقبة تكذيبهم لرسولنا وإنكارهم لتوحيدنا ولقائنا، ثم كلا سيعلمون يوم يبعثون من قبورهم ويحشرون إلى نار جهنم حين لا ينفعهم علم ولا يجديهم إيمان. وقوله تعالى { ألم نجعل الأرض مهدا } الآيات فذكر تعالى من مظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة ما يوجب الإيمان به وبتوحيده ورسوله ولقائه لو كان القوم يعقلون فقال { ألم نجعل الأرض مهدا } أي فراشا ووطاء للحياة عليها؟ وهل يتم هذا بدون علم وقدرة والجبال أوتادا تثبت الأرض بها فيأمنون على حياتهم من الميدان وسقوط كل بناء وخلقناكم أزواجا الخلق مظهر من مظاهر القدرة والعلم وكونهم أزواجا مظهر من مظاهر الحكمة والرحمة وجعلنا نومكم سباتا أي راحة لأبدانكم. وجعلنا الليل لباسا ساترا بظلامه. وجعلنا النهار معاشا للعيش كسبا له وتمتعا به. وبنينا فوقكم سبعا شدادا وهي السماوات السبع الشديدة القوية البناء لا تفنى ولا تزول إلى أن يأذن هو سبحانه وتعالى بزوالها، وجعلنا سراجا وهاجا هو الشمس المشرقة المضيئة. وأنزلنا من المعصرات أي السحابات التي حان لها أن تمطر تشبيها لها بالجارية المعصر التي قاربت الحيض ماء ثجاجا صبابا وابلا، وذلك لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا الحب كالبر والذرة لطعامكم، والنبات كالكلأ والعشب لحيواناتكم، وجنات أي بساتين ملتفة الأشجار غناء بالثمار المختلف الألوان، والطعوم كل هذه المذكورات مفتقرة إلى قدرة لا يعجزها شيء وعلم أحاط بكل شيء وحكمة لا يخلو منها شيء ورحمة تعم كل شيء والله وحده ذو القدرة والعلم والحكمة والرحمة فكيف ينكر توحيده ويكذب رسوله، ويستبعد بعثه لناس يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم على أعمالهم في هذه الدار وهي مختلفة منها الصالح ومنها الفاسد هل من الحكمة في شيء أن يظلم الظالمون ويفسد المفسدون، ويعدل العادلون ويصلح المصلحون ويموتون سواء ولا يكون هناك حياة أخرى يجزي فيها المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه اللهم لا لا إنه لا بد من حياة أخرى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة الإلهية في كل الآيات من قوله ألم نجعل الأرض مهادا إلى قوله وجنات ألفافا.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء والنبوة والتوحيد وهي التي اختلف الناس فيها ما بين مثبت وناف، ومصدق ومكذب.
3- سيحصل العلم الكامل بهذه المختلف فيها بين الناس عند نزع الروح ساعة الموت، ولكن لا فائدة من العلم ساعتها إذ قضي الأمر وانتهى الخلاف.
[78.17-30]
شرح الكلمات:
إن يوم الفصل: أي الفصل بين الخلائق ليجزي كل امرئ بما كسب.
كان ميقاتا: أي ذا وقت محدد معين لدى الله عز وجل فلا يتقدم ولا يتأخر.
يوم ينفخ في الصور: أي يوم ينفخ إسرافيل في الصور.
فتأتون أفواجا: أي تأتون أيها الناس جماعات جماعات إلى ساحة فصل القضاء.
وفتحت السماء: أي لنزول الملائكة.
وسيرت الجبال: أي ذهب بها من أماكنها.
فكانت سرابا: أي مثل السراب فيتراءى ماء وهو ليس بماء فكذلك الجبال.
إن جهنم كانت مرصادا: أي راصدة لهم مرصدة للظالمين مرجعا يرجعون إليها.
لابثين فيها أحقابا: أي دهورا لا نهاية لها.
لا يذوقون فيها بردا: أي نوما ولا شرابا مما يشرب تلذذا به إذ شرابهم الحميم.
وغساقا: أي ما يسيل من صديد أهل النار، جوزوا به عقوبة لهم.
جزاء وفاقا: إذ لا ذنب أعظم من الكفر، ولا عذاب أعظم من النار.
كذابا: أي تكذيبا.
فلن نزيدكم إلا عذابا: أي فوق عذابكم الذي أنتم فيه.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى آيات قدرته على البعث والجزاء الذي أنكره المشركون واختلفوا فيه ذكر في هذه الآيات عرضا وافيا للبعث الآخر وما يجري فيه، وبدأ بذكر الأحداث للانقلاب الكوني، ثم ذكر جزاء الطاغين تفصيلا فقال عز وجل { إن يوم الفصل } أي بين الخلائق كان ميقاتا لما أعد الله للمكذبين بلقائه الكافرين بتوحيده المنكرين لرسالة نبيه فيه، يجزيهم الجزاء الأوفى، ثم ذكر تعالى أحداثا تسبقه فقال { يوم ينفخ في الصور } أي يوم ينفخ إسرافيل نفخة البعث وهي الثانية فتأتون أيها الناس أفواجا أي جماعات. { وفتحت السمآء } أي انشقت { فكانت أبوابا } لنزول الملائكة منها { وسيرت الجبال فكانت سرابا } هباء منبثا كالسراب في نظر الرائي. وقوله تعالى { إن جهنم كانت مرصادا } أي إنه بعد الحساب يأتي الجزاء وها هي ذي جهنم قد أرصدت وأعدت فهي مرصاد، مرصاد لمن؟ للطاغين المتجاوزين الحد الذي حدد لهم وهو أن يؤمنوا بربهم ويعبدوه وحده ويتقربوا إليه بفعل محابه وترك مكارهه فتجاوزوا ذلك إلى الكفر بربهم والإشراك به وتكذيب رسوله وفعل مكارهه وترك محابه هؤلاء هم الطاغون الذي أرصدت لهم جهنم فكانت لهم مرصادا ومرجعا ومآبا { لابثين فيهآ أحقابا } أي دهورا، { لا يذوقون فيها بردا } أي نوما لأن النوم يسمى البرد في لغة بعض العرب، { ولا شرابا } ذا لذة { إلا حميما } وهو الماء الحار { وغساقا } وهو ما يسيل من صديد أهل النار { جزآء وفاقا } أي موافقا لذنوبهم لأنه لا أعظم من الكفر ذنبا ولا من النار عذابا ثم ذكر تعالى مقتضى هذا العذاب فقال { إنهم كانوا لا يرجون حسابا } أي ما كانوا يؤمنون بالحساب ولا بالجزاء ولا يخافون من ذلك { وكذبوا بآياتنا كذابا } أي بآياته وحججه تكذيبا زائدا.
وقوله تعالى { وكل شيء أحصيناه كتابا } إذ كانت الملائكة تكتب أعمالهم وتحصيها عليهم فهم يتلقون جزاءهم العادل ويقال لهم توبيخا وتبكيتا وهم في أشد العذاب وأمره { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا } فيعظم عندهم الكرب ويستحكم من نفوسهم اليأس. وهذا جزاء من تنكر لعقله فكفر بربه وآمن بالشيطان وعبد الهوى. والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بالطغيان وبيان جزاء الظالمين.
2- التنديد بالتكذيب بالبعث والمكذبين به.
3- أعمال العباد مؤمنهم وكافرهم كلها محصاة عليها ويجزون بها.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر آثارها.
5- أبدية العذاب في الدار الآخرة وعدم إمكان نهايته.
[78.31-40]
شرح الكلمات:
إن للمتقين: أي الذين اتقوا الشرك والمعاصي خوفا من ربهم وعذابه.
مفازا: أي مكان فوز ونجاة وهو الجنة.
حدائق وأعنابا: أي بساتين وأعنابا.
وكواعب: أي شابات تكعبت ثديهن الواحدة كاعب والجمع كواعب.
أترابا: أي في سن واحدة وأتراب جمع واحدة ترب.
وكأسا دهاقا: أي خمرا كأسها ملأى بها.
لا يسمعون فيها: أي في الجنة لغوا أي باطلا ولا كذبا من القول.
عطاء حسابا: أي عطاء كثيرا كافيا يقال أعطاني فأحسبني.
يوم يقوم الروح: ملك عظيم يقوم وحده صفا والملائكة صفا وحدهم.
مآبا: أي مرجعا سليما وذلك بالإيمان والتقوى إذ بهما تكون النجاة.
ما قدمت يداه: أي ما أسلفه في الدنيا من خير وشر.
يا ليتني كنت ترابا: أي حتى لا أعذب وذلك يوم يقول الله تعالى للبهائم كوني ترابا وذلك بعد الاقتصاص لها من بعضها بعضا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء المستلزمة لعقيدة التوحيد والنبوة بعد أن ذكر تعالى حال الطغاة الفجار وبين مصيرهم غاية البيان ثنى بذكر المتقين الأبرار وبين مصيرهم وأنه جنات تجري من تحتها الأنهار فقال وقوله الحق وخبره الصدق { إن للمتقين مفازا } أي مكان فوز ونجاح وبينه بقوله حدائق أي بساتين وأعنابا وكواعب جمع كاعب الفتاة ينكعب ثديها أي يستدير ويرتفع كالكعب وذلك عند بلوغها وقوله في وصفهن { أترابا } جمع ترب أي في سن واحدة دون الثلاثين سنة { وكأسا دهاقا } أي كأس خمر ملأى { لا يسمعون } أي في الجنة { لغوا ولا كذابا } لا قولا باطلا ولا كذبا. وقوله تعالى { جزآء من ربك عطآء حسابا } أي جزاهم ربهم بذلك فجعله عطاء كافيا ووصف الجبار نفسه تعليما وتذكيرا فأبدل من قوله من ربك: قوله { رب السموت والأرض وما بينهما } أي مالكهما والمتصرف فيهما { الرحمن } رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها { لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح } ملك عظيم لا يقادر قدره وحده صفا { والملائكة صفا } هنا لا يملك أحد من الخلق { لا يملكون منه خطابا } وقوله { لا يتكلمون } بين يديه { إلا من أذن له الرحمن وقال } قولا { صوابا } وفي الصحيح أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم هو أول من يكلم الله عز وجل في الموقف حيث يأتي تحت العرش فيخر ساجدا فلا يزال ساجدا يحمد الله تعالى. بمحامد يلهمها ساعتئذ فيقول له الرب تعالى ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وقوله تعالى { ذلك اليوم الحق } الذي لا مرية فيه ولا شك وهو يوم الفصل وبناء عليه فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا أي مرجعا إليه بالإيمان والطاعة. وقوله تعالى { إنآ أنذرناكم عذابا قريبا } أي خوفناكم عذابا قريبا جدا يبتدئ بالموت ولا ينتهي أبدا، وذلك { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } من خير أو شر أي يرى جزاء عمله عيانا إن كان عمله خيرا جزي بمثله وإن كان شرا جزي بمثله.
{ ويقول الكافر يليتني كنت ترابا } إنه لما يرى البهائم بعد القصاص لها صارت ترابا يتمنى الكافر وهو في عذابه أن لو كان ترابا مثل البهائم ولولا العذاب وشدته ودوامه لما تمنى أن يكون ترابا ابدا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان كرامة المتقين وفضل التقوى.
2- وصف جميل لنعيم الجنة.
3- ذم الكذب واللغو وأهلهما.
4- بيان شدة الموقف وصعوبة المقام فيه.
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
6- الترغيب في العمل الصالح واجتناب العمل السيء الفاسد.
[79 - سورة النازعات]
[79.1-14]
شرح الكلمات:
والنازعات غرقا: أي الملائكة تنزع أرواح الفجار والكفار عند الموت بشدة.
والناشطات نشطا: أي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين الصالحين نشطا أي تسلها برفق.
والسابحات سبحا: أي الملائكة تسبح من السماء بأمر الله أي تنزل به إلى الأرض.
فالسابقات سبقا: أي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة.
فالمدبرات أمرا: أي الملائكة تدبر أمر الدنيا أي تنزل بتدبيره من لدن الله المدبر الحكيم.
يوم ترجف الراجفة: أي النفخة الأولى نفخة الفناء التي يتزلزل كل شيء معها.
تتبعها الرادفة: أي النفخة الثانية.
واجفة: أي خائفة قلقة.
أئنا لمردودون في الحافرة: أي أنرد بعد الموت إلى الحياة إذ الحافرة اسم لأول الأمر.
تلك إذا كرة خاسرة: أي رجعة إلى الحياة خاسرة.
فإنما هي زجرة واحدة: أي نفخة واحدة.
فإذا هم بالساهرة: أي بوجه الأرض أحياء سميت ساهرة لأن من عليها بها يسهر ولا ينام.
معنى الآيات:
قوله تعالى والنازعات غرقا الآيات هذا قسم عظيم أقسم تعالى به على أنه لابد من البعث والجزاء حيث كان المشركون ينكرون ذلك حتى لا يقفوا عند حد في سلوكهم فيواصلوا كفرهم وفسادهم جريا وراء شهواتهم كل أيامهم وطيلة حياتهم كما قال تعالى بل يريد الإنسان ليفجر أمامه فأقسم تعالى بخمسة أشياء وهي النازعات والناشطات والسابحات والسابقات والمدبرات، ورجح أنهم أصناف من الملائكة وجائز أن يكون غير ذلك ولا حرج إذ العبرة بكونه تعالى قد أقسم ببعض مخلوقاته على أن البعث حق ثابت وواقع لا محالة، وتقدير جواب القسم بلتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم إذ هو معهود في كثير من الإقسام في القرآن كقوله تعالى من سورة التغابن زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير وسيتم ذلك البعث والجزاء يوم ترجف الراجفة التي هي النفخة الأولى التي ترجف فيها العوالم كلها ويفنى فيها كل شيء، ثم تتبعها الرادفة وهي النفخة الثانية وهي نفخة البعث من القبور أحياء وأن بين النفختين أربعين سنة كما ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وقوله تعالى قلوب يومئذ واجفة أي خائفة قلقة أبصارها خاشعة أي أبصار أصحاب تلك القلوب خاشعة أي ذليلة خائفة. وقوله تعالى يقولون أي منكرو البعث أئنا لمردودون في الحافرة أي أنرد بعد الموت إلى الحياة من جديد كما كنا أول مرة، أئذا كنا عظاما نخرة أي بالية مفتتة وقولهم هذا استبعاد منهم للبعث وإنكار له، وقالوا تلك إذا كرة خاسرة يعنون أنهم إذا عادوا إلى الحياة مرة أخرى فإن هذه العودة تكون خاسرة وهي بالنسبة إليهم كذلك إذ سيخسرون فيها كل شيء حتى أنفسهم كما قال تعالى قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين.
وقوله تعالى فإنما هي زجرة واحدة أي صيحة واحدة وهي نفخة إسرافيل الثانية نفخة البعث { فإذا هم } أولئك المكذبون وغيرهم من سائر الخلق بالساهرة أي وجه الأرض وقيل فيها الساهرة لأن من عليها يومئذ لا ينامون بل يسهرون أبدا فرد تعالى بهذا على منكري البعث الآخر وقرره عز وجل بما لا مزيد عليه إعذارا وإنذارا ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته بخلاف العبد لا يجوز له أن يقسم بغير ربه تعالى.
2- بيان أن روح المؤمن تنزع عند الموت نزعا سريعا لا يجد من الألم ما يجده الكافر.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بالإقسام عليها وذكر كيفية وقوعها.
[79.15-26]
شرح الكلمات:
موسى: أي موسى بن عمران عليه السلام.
بالواد المقدس طوى: أي بالواد الطاهر المبارك المسمى بطوى.
اذهب إلى فرعون: أي بأن اذهب إلى فرعون.
إنه طغى: أي تجاوز حده كعبد إلى ادعاء الربوبية والألوهية.
إلى أن تزكى: أي تسلم فتطهر من رجس الشرك والكفر بالإسلام لله تعالى.
وأهديك إلى ربك: أي أرشدك إلى معرفة ربك الحق فتخشاه وتطيعه فتنجو من عذابه.
فأراه الآية الكبرى: أي العصا واليد إذ هي من أكبر الآيات الدالة على صدق موسى.
ثم أدبر يسعى: أي بعد ما كذب وعصى رجع يجمع جموعه ويحشر جنوده لحرب موسى وقال كلمة الكفر أنا ربكم الأعلى فلا طاعة إلا لي.
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى: أي عذبه تعالى عذاب الآخرة وهو قوله أنا ربكم الأعلى وعذاب الأولى وهي قوله ما علمت لكم من إله غيري.
معنى الآيات:
قوله تعالى هل أتاك حديث موسى الآيات.. المقصود من هذه الآيات تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعاني من تكذيب قومه له ولما جاء به من التوحيد والشرع فقص تعالى عليه طرفا من قصة موسى مع فرعون تخفيفا عليه، وتهديدا لقومه بعقوبة تنزل بهم كعقوبة فرعون الذي كان أشد منهم بطشا وقد أهلكه الله فأغرقه وجنده.. فقال تعالى { هل أتاك } يا رسولنا { حديث موسى } بن عمران، { إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } أي بالواد المطهر المبارك المسمى طوى ناده فأعلمه أولا أنه لا إله إلا هو وأمره بعبادته، ثم أمره بأن يذهب إلى فرعون الوليد بن الريان ملك القبط بمصر فقال له اذهب إلى فرعون إنه طغى أي عتا وتكبر وظلم فأفحش في الظلم والفساد. وعلمه ما يقول له إذا انتهى إليه فقل { هل لك إلى أن تزكى } أي إلى أن تسلم فتزكو روحك وتطهر بالإسلام وأهديك إلى ربك فتخشى أي وأرشدك إلى ربك وأعرفك به فتخشى أي عقابه فتترك الظلم والطغيان قال تعالى فأراه الآية الكبرى والتي هي اليد والعصا، فكذب فرعون موسى في دعوته وعصى ربه فلم يستجب له ولم يطعه فيما أمره به ودعاه إليه من الإيمان برسالة موسى وإرسال بني إسرائيل معه بعد الإسلام لله ظاهرا وباطنا. ثم أدبر فرعون أي عن دعوة الحق رافضا لها يسعى في الباطل والشر { فحشر } رجاله وجنده { فنادى } أي ناداهم ليعدهم إلى حرب موسى { فقال أنا ربكم الأعلى } يعني أنه لا رب فوقه، { فأخذه الله } أي عذبه { نكال } أي عذاب { الآخرة } أي الكلمة وهي قوله: { أنا ربكم الأعلى } ونكال الأولى وهي قوله
ما علمت لكم من إله غيري
[القصص: 38] وبين الكلمتين الخبيثتين أربعون سنة فالأولى قالها في بداية الدعوة حيث ادعى أنه بحث واستقصى في البحث واجتهدو أنه بعد كل ذلك الاجتهاد لم يعلم أن للناس من قومه من إله سواه.
وقوله تعالى إن في ذلك { لعبرة لمن يخشى } أي فيما قص تعالى من خبر موسى وفرعون { لعبرة } أي عظة لمن يخشى الله وعذاب الدار الآخرة فيؤمن ويتقي أي فيزداد إيمانا وتقوى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الداعي إلى الله تعالى وحمله على الصبر في دعوته حتى ينتهي بها إلى غاياتها.
2- إثبات مناجاة موسى لربه تعالى وأنه كلمه ربه كفاحا بلا واسطة.
3- تقرير أن لا تزكية للنفس البشرية إلا بالإسلام أي بالعمل بشرائعه.
4- لا تحصل الخشية من الله للعبد إلا بعد معرفة الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء.
5- وجود المعجزات لا يستلزم الإيمان فقد رأى فرعون أعظم الآيات كالعصا واليد وما آمن.
6- التنديد والوعيد الشديد لمن يدعي الربوبية والألوهية فيأمر الناس بعبادته.
[79.27-33]
شرح الكلمات:
أأنتم أشد خلقا أم السماء؟: أي أشد خلقا.
رفع سمكها: أي غلظها وارتفاعها.
فسواها: أي جعلها مستوية سطحا واحدا ما فيها نتوء ولا انخفاض.
وأغطش ليلها: أي أظلمه جعله مظلما.
وأخرج ضحاها: أي ضوءها ونهارها.
والأرض بعد ذلك دحاها: أي بعد أن خلق الأرض خلق السماء ثم دحا الأرض أي بسطها وأخرج منها ماءها ومرعاها.
والجبال أرساها: أي أثبتها على سطح الأرض لتثبت ولا تميد بأهلها .
متاعا لكم ولأنعامكم: أي اخرج من الأرض ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم وهي المواشي من الحيوان.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ءأنتم أشد خلقا } الآيات.. سيقت هذه الآيات الكريمة لتقرير عقيدة البعث والجزاء بايراد أكبر دليل عقلي لا يرده العاقل أبدا وهو أن السماء في خلقها وما خلق الله فيها، وأن الأرض في خلقها وما خلق الله فيها أشد خلقا وأقوى وأعظم من خلق الإنسان بعد موته فالبشرية كلها لا يساوي حجمها حجم كوكب واحد من كواكب السماء ولا سلسلة واحدة من سلاسل الجبال في الأرض فضلا عن السماء والأرض. إذا فالذي قدر على خلق السماء وما فيها والأرض وما فيها قادر قطعا ومن باب أولى على خلق الإنسان مرة أخرى وقد خلقه أولا فإعادة خلقه بإحيائه بعد موته أيسر وأسهل وأمكن من خلقه أولا على غير مثال سبق، ولا صورة تقدمت، ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأنهم لا يفكرون وهذا عرض الآيات قوله تعالى { ءأنتم أشد خلقا } أيها المنكرون للبعث المكذبون به { أم السمآء } والجواب الذي لا شك فيه هو أن السماء أشد خلقا منهم وبيان ذلك فيما يلي:
1) بناها فهي سقف للأرض مرفوعة فوقها مسواة فلا انفطار فيها ولا ارتفاع لبعض وانخفاضا لبعض آخر بل هي كالزجاجة في سمتها واعتدالها في خلقها.
2) رفع سمكها فإن غلظها مقدر بمسيرة خمسمائة عام.
3) أغطش ليلها فجعله مظلما.
4) وأخرج ضحاها فجعل نهارها مضيئا. هذه هي السماء. والأرض بعد ذلك أي بعد أن خلقها أولا وقبل السماء عاد إليها فدحاها بأن بسطها للأنام وأخرج منها ماءها ففجر فيها عيونها وأخرج منها مرعى وهو ما يرعى من سائر الحبوب والثمار والنبات والأشجار منفعة للإنسان ولحيوانه المفتقر إليه في ركوبه وطعامه وشرابه وما ذكر تعالى من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة في الأرض لا يقل عما ذكر في السماء إن لم يكن أعظم فكيف إذا ينكر الإنسان على ربه أن يعيده حيا بعد إماتته له ليحاسبه وليجزيه إنه بدل أن ينكر يجب عليه أن يشكر، ولكن الإنسان ظلوم كفار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان إفضال الله تعالى على الإنسان وإنعامه عليه.
3- مشروعية الاستدلال بالكبير على الصغير وبالكثير على القليل وهو مما يعلم بداهة وبالضرورة إلا أن الغفلة أكبر صارف وأقوى حايل فلا بد من إزالتها أولا.
[79.34-46]
شرح الكلمات:
الطامة الكبرى: أي النفخة الثانية وأصل الطامة الداهية التي تعلو على كل داهية.
ما سعى: أي ما عمل في الدنيا من خير وشر.
فأما من طغى: أي كفر وظلم.
وآثر الحياة الدنيا: أي باتباع الشهوات.
فإن الجحيم هي المأوى: أي النار مأواه.
مقام ربه: أي قيامه بين يديه ليسأله عما قدم وأخر.
ونهى النفس عن الهوى: أي المردى المهلك باتباع الشهوات.
فإن الجنة هي المأوى: أي مأواه الذي يأوي إليه بعد الحساب.
عن الساعة: أي القيامة للحساب والجزاء.
أيان مرساها: أي متى وقوعها وقيامها.
فيم أنت من ذكراها: أي في أي شيء من ذكراها أي ليس عندك علمها حتى تذكرها.
إلى ربك منتهاها: أي منتهى علمها إلى الله وحده فلا يعلمها سواه.
لم يلبثوا: أي في قبورهم.
إلا عشية أو ضحاها: أي عشية يوم أو ضحى تلك العشية.
معنى الآيات:
بعد أن بين تعالى مظاهر قدرته في حياة الناس وما خلق لهم فيها تدليلا على البعث والجزاء وذكر في هذه الآيات مظاهر قدرته في معادهم تدليلا على قدرته على بعثهم بعد موتهم ومحاسبتهم ومجازاتهم فقال عز من قائل { فإذا جآءت الطآمة الكبرى } أي القيامة وسميت بالطامة الكبرى لأنها تطم على كل شيء ولا يعظمها شيء لا ريح عاد ولا صيحة ثمود ولا رجفة يوم الظلة. { يوم يتذكر الإنسان ما سعى } من خير أو شر لأنه أيقن أنه محاسب ومجزي بعمله. { وبرزت الجحيم } أي أبرزها فظهرت لمن يراها لا يخفيها شيء. والناس بعد ذلك مؤمن وكافر والطريق طريقان طريق جنة وطريق نار. { فأما من طغى } أي عتا عن أمر ربه فعصاه ولم يطعه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه. { وآثر الحياة الدنيا } على الآخرة فعمل للدنيا وصرف كل جهده وطاقته لها، ولم يعمل للآخرة فما صام ولا صلى ولا تصدق ولا زكى { فإن الجحيم هي المأوى } أي مأواه ومستقره ومثواه شرابه الحميم وطعامه الزقوم { وأما من خاف مقام ربه } وهو الوقوف بين يديه لمساءلته ومجازاته فأدى الفرائض واجتنب النواهي، { ونهى النفس عن الهوى } أي نفسه عن هواها فلم يجبها في هوى يبغضه الله ولم يطعها في شيء حرمه الله فإن الجنة دار السلام والأبرار والمتقين الأخيار هي مأواه ولنعم المأوى هي حيث العيون الجارية والسرر المرفوعة والأكواب الموضوعة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة والكواعب العرب الأتراب ولقاء الأحباب. وقوله تعالى: { يسألونك عن الساعة أيان مرسها } أي يسألك يا رسولنا المنكرون للبعث عن الساعة أي قيامها ومتى رسوها وثبوتها وهي كالسفينة سائرة ليل نهار متى ترسو؟ { فيم } أي في أي شيء أنت من ذكراها أي ليس عندك علمها فتذكرها لهم إلى ربك وحده علم وقت مجيئها وساعة رسوها لتنقل الناس من دنياهم إلى آخرتهم، وبذلك تنتهي رحلتهم ويستقر قرارهم.
وينتهي ليلهم ونهارهم. وقوله تعالى { إنمآ أنت منذر من يخشها } أي ليس إليك يا رسولنا علمها ولا منتهى أمرها إنما أنت مهمتك غير ما يطلب منك إنها إنذار من يخشى الساعة ويخاف حلولها لإيمانه بها وبما يكون فيها من نعيم وجحيم أما من لا يؤمن بها فهو لا يخافها وسؤاله عنها سؤال استهزاء، فلا تحفل بهم ولا تهتم لهم فإنهم يوم يرونها كأن لم يلبثوا في دنياهم هذه وقبورهم { إلا عشية أو ضحها } أي عشية يوم أو ضحى تلك العشية لما يستقبلون من أهوال الموقف وفظائع العذاب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوالها وصفاتها.
2- الناس يوم القيامة مؤمن تقي في الجنة، وكافر وفاجر في النار.
3- بيان استئثار الله تعالى بعلم الغيب والساعة.
4- بيان أي الشدائد ينسى بعضها بعضا فإن عذاب القبر يهون أمام عذاب النار.
[80 - سورة عبس]
[80.1-16]
شرح الكلمات:
عبس: أي النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى كلح وجهه وتغير.
وتولى: أي أعرض.
أن جاءه الأعمى: أي لأجل أن جاء عبد الله بن أم مكتوم فقطعه عما هو مشغول به من دعوة بعض أشراف قريش للإسلام.
لعله يزكى: أم يتطهر من الذنوب.
أو يذكر: أي يتعظ.
فتنفعه الذكرى: أي الموعظة.
وأما من استغنى: عن الإيمان والعلم والدين بالمال والجاه.
فأنت له تصدى: أي تقبل عليه وتتصدى له.
وما عليك ألا يزكى: أي ليس عليك بأس في عدم تزكيته نفسه بالإسلام.
يسعى: أي في طلب الخير من العلم والهدى.
فأنت عنه تلهى: أي تشاغل.
كلا: أي لا تعد لمثل ذلك.
إنها تذكرة: أي الآيات عظة للخلق.
مكرمة: أي عند الله.
مرفوعة: أي في السماء.
مطهرة: أي منزهة عن مس الشياطين.
بأيد سفرة: كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ.
كرام بررة: مطيعين لله وهم الملائكة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { عبس وتولى أن جآءه الأعمى } هذا عتاب لطيف يعاتب به الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فالذي عبس بمعنى قطب وجهه وأعرض هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والأعمى الذي لأجله عبس رسول الله وأعرض عنه هو عبدالله بن أم مكتوم الأعمى أحد المهاجرين ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين. وسبب هذا العتاب الكريم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مكة يوما ومعه صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف يدعوهم إلى الإسلام مجتهدا معهم يرغبهم ويرهبهم طمعا في إسلامهم فجاء عبد الله بن أم مكتوم ينادي يا رسول الله اقرئني وعلمني مما علمك الله وكرر ذلك مرارا فانزعج لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسوله الله صلى الله عليه وسلم قطعه لحديثه مع القوم فعبس وتولى عنه لا يجيبه، وما إن عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله حتى نزلت هذه الآيات { عبس وتولى } أي قطب وأعرض { أن جآءه الأعمى وما يدريك } أي وما يعلمك أنه { يزكى } بما يطلب من القرآن والسنة أي يريد زكاة نفسه وتطهير روحه بما يتعلمه منك، أو يذكر فتنفعه الذكرى. أي وما يعلمك لعله بندائه لك وطلبه منك أن يتذكر بما يسمع منك فيتعظ به وتنفعه الذكرى منك. وقوله تعالى { أما من استغنى } أي عن الإيمان والإسلام وما عندك من العلم بالله والمعرفة استغنى بماله وشرفه في قومه { فأنت له تصدى } أي تتعرض له مقبلا عليه { وما عليك ألا يزكى } أي وأي شيء يلحقك من الأذى إن لم يتزك ذاك المستغنى عنك بشرفه وماله.
وكرر تعالى العتاب بالكلمات العذاب فقال { وأما من جآءك يسعى وهو يخشى } جاءك مسرعا يجري وراءك يناديك بأحب الأسماء إليك يا رسول الله والحال أنه يخشى الله تعالى ويخاف عقابه فلذا هو يطلب ما يزكي به نفسه ليقيها العقاب والعذاب { فأنت عنه تلهى } أي تتشاغل بغيره { كلا } أي لا تفعل مثل هذا مرة أخرى. وقوله تعالى { إنها تذكرة } أي هذه الآيات وما تحمل من عتاب حبيب إلى حبيب موعظة { فمن شآء } من عباد الله { ذكره } أي ذكر هذا الوحي والتنزيل { في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة } مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء مطهرة منزهة عن مس الشياطين لها { بأيدي سفرة كرام بررة } أي مطيعين لله صادقين هم الملائكة كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وما أقرب هذا الوصف من مؤمن كريم النفس طاهر الروح يحفظ كتاب الله ويعمل به بيده مصحف يقرأه ويرتل كلام الله فيه وقد جاء في الصحيح أن هذا العبد الذي وصفت مع السفرة الكرام البررة. اللهم اجعلني منهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مقام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أشرف مقام وأسماه دل على ذلك أسلوب عتاب الله تعالى له حيث خاطبه في أسلوب شخص غائب حتى لا يواجهه بالخطاب فيؤلمه فتلطف معه، ثم أقبل عليه بعد أن أزال الوحشة يخاطبه وما يدريك.
2- إثبات ما جاء في الخبر أدبني ربي فأحسن تأديبي فقد دلت الآيات عليه.
3- بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأديب ربه له مستوى لم يبلغه سواه، فقد كان إذا جاءه ابن أم مكتوم يوسع له في المجلس ويجلسه إلى جنبه ويقول له مرحبا بالذي عاتبني ربي من أجله وولاه على المدينة مرات، وكان مؤذنا له في رمضان.
4- استحالة كتمان الرسول صلى الله عليه وسلم لشيء من الوحي فقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لو كان للرسول أن يكتم شيئا من وحي الله لكتم عتاب الله تعالى له في عبس وتولى.
[80.17-32]
شرح الكلمات:
قتل الإنسان: لعن الإنسان الكافر.
ما أكفره: أي ما حمله على الكفر؟.
من أي شيء خلقه: من نطفة خلقه.
فقدره: أي من نطفة إلى علقة غلى مضغة فبشر سوي.
ثم السبيل يسره: أي سبيل الخروج من بطن أمه.
إذا شاء أنشره: أي إذا شاء إحياءه أحياه.
كلا: حقا أو ليس الأمر كما يدعي الإنسان أنه أدى ما عليه من الحقوق.
لما يقض ما أمره: أي ما كلفه به من الطاعات والواجبات في نفسه وماله.
إلى طعامه: أي كيف قدر ودبر له.
حبا وعنبا: أي الحب الحنطة والشعير والعنب هو المعروف.
وقضبا: أي ألقت الرطب وسمي قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد مرة.
وحدائق غلبا: أي كثيرة الأشجار والواحدة غلباء كحمراء كثيفة الشجر.
وفاكهة وأبا: أي ما يتفكه به من سائر الفواكه والأب التبن وما ترعاه البهائم.
متاعا لكم ولأنعامكم: أي ما تقدم ذكره منفعة لكم ولأنعامكم التي هي الإبل والبقر والغنم.
معنى الآيات:
بعدما عاتب الرب تبارك وتعالى رسوله على انشغاله بأولئك الكفرة المشركين وإعراضه عن ابن أم مكتوم الأعمى فكان أولئك المشركون هم السبب في إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن ابن أم مكتوم وفي عتاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فاستوجبوا لذلك لعنة الله تعالى عليهم لكفرهم وكبريائهم جرد الله تعالى شخصا منهم غير معلوم والمراد كل كافر متكبر مثلهم فقال { قتل الإنسان } أي الكافر { مآ أكفره } أي ما حمله على الكفر والكبر. فلينظر { من أي شيء خلقه } ربه الذي يكفر به؟ إنه خلقه من نطفة قذرة { خلقه فقدره } أي أطوارا نطفة فعلقة فمضغة. أمن كان هذا حاله يليق به أن يكفر ويتكبر ويستغني عن الله؟ فلينظر إلى مبدئه ومنتهاه وما بينهما مبدأه نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة. وهو بينهما حامل عذرة. كيف يكفر وكيف يتكبر؟ وقوله تعالى { ثم السبيل يسره } فلولا أن الله تعالى يسر له طريق الخروج من بطن أمه والله ما خرج. { ثم أماته } بدون استشارته ولا أخذ رأيه { فأقبره } هيأ له من يقبره وإلا لأنتن وتعفن وأكلته الكلاب، { ثم إذا شآء أنشره } { كلا }. أما يصحو هذا المغرور أما يفيق هذا المخدوع. { لما يقض مآ أمره } فما له لا يقضي ما أمره ربه من الإيمان به وطاعته { فلينظر الإنسان إلى طعامه } الذي حياته متوقفة عليه كيف يتم له بتقدير الله تعالى وتدبيره لعله يذكر فيشكر { أنا صببنا المآء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا } كالبر والشعير والذرة وسائر الحبوب المقتاتة وعنبا يأكله رطبا ويابسا { وقضبا } وهو القت الرطب يقضب أي يقطع مرة بعد مرة وهو علف البهائم، { وزيتونا } يأكله حبا ويدهن به زيتا { ونخلا } يأكله ثمره بسرا ورطبا وتمرا { وحدآئق غلبا } أي بساتين ملتفة الأشجار كثيرتها الواحدة غلباء { وفاكهة وأبا } الفاكهة لكم والأب علف لدوابكم { متاعا لكم ولأنعامكم } أي هذه المذكورات بعضها متاعا لكم أي منافع تتمتعون بها وبعضها لأنعامكم وهو القضب والأب منفعة لها تعيش عليها فبأي وجه تكفر ربك يا أيها الإنسان الكافر؟.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وهي مقتضية للإيمان به وبآياته ورسوله ولقائه.
2- الاستدلال بالصنعة على الصانع. وأن أثر الشيء يدل عليه، ولذا يتعجب من كفر الكافر بربه وهو خلقه ورزقه وكلأ حياته وحفظ وجوده إلى أجله.
3- بيان أن الإنسان لا يزال مقصرا في شكر ربه ولو صام الدهر كله وصلى في كل لحظة من لحظاته.
[80.33-42]
شرح الكلمات:
فإذا جاءت الصاخة: أي النفخة الثانية.
وصاحبته: أي زوجته.
شأن يغنيه: أي حال تشغله عن شأن غيره.
مسفرة: أي مضيئة.
عليها غبرة: أي غبار.
ترهقها قترة: أي ظلمة من سواد ومعنى ترهقها تغشاها.
الكفرة الفجرة: أي الجامعون بين الكفر والفجور.
معنى الآيات:
بعدما بين تعالى بداية أمر الإنسان في حياته ومعاشه فيها ذكر تعالى معاده ومآله فيها فقال عز من قائل { فإذا جآءت الصآخة } وهي القيامة ولعل تسميتها بهذا الاسم الصاخة نظرا إلى نفخة الصور التي تصخ الآذان أي تصمها بمعنى تصيبها بالصمم لشدتها. وهي النفخة الثانية وقوله تعالى { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصحبته } أي زوجته { وبنيه } وهؤلاء أقرب الناس إليه ومع هذا يفر عنهم أي يهرب خشية أن يطالبوه بحق لهم عليه فيؤخذ به. وقوله تعالى { لكل امرىء منهم يومئذ شأن } أي حال وأمر { يغنيه } عن السؤال عن غيره ولو كان أقرب قريب إليه. هنا ورد أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة يا نبي الله كيف يحشر الرجال؟ قال حفاة عراة، ثم انتظرت ساعة فقالت يا نبي الله كيف يحشر النساء؟ قال كذلك حفاة عراة قالت واسوأتاه من يوم القيامة: قال وعن ذلك تسألين إنه قد نزلت علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أم لا قالت أي آية هي يا نبي الله قال { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه }. وقوله تعالى { وجوه يومئذ مسفرة } أي مضيئة مشرقة { ضاحكة مستبشرة } وهي وجوه المؤمنين والمؤمنات أهل التقوى وجوههم حسنة مشرقة بالأنوار مستبشرون بالقدوم على ربهم والنزول بجواره الكريم. { ووجوه يومئذ } أي تقوم القيامة ويحشر الناس لفصل القضاء { عليها غبرة } أي غبار { ترهقها } أي تغشاها { قترة }. أي ظلمة وسواد أولئك اي الذين عليهم الغبرة وتغشاهم القترة هم { الكفرة } في الدنيا { الفجرة } فيها الذين عاشوا على الكفر والفجور وماتوا على ذلك والفجور هو الخروج عن طاعة الله تعالى بترك الواجبات وغشيان المحرمات كالربا والزنا وسفك الدماء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان شدة الهول يوم القيامة يدل عليه فرار المرء من أقربائه.
2- خطر التبعات على العبد يوم القيامة وهي الحقوق التي يطالب بها العبد يوم القيامة.
3- شدة الهول والفزع تنسي المرء يوم القيامة أن ينظر إلى عورة أحد من أهل الموقف.
4- ثمرة الإيمان والتقوى تظهر في الموقف نورا على الوجه وإشراقا له وإضاءة وثمرة الكفر والفجور تظهر ظلمة وسوادا على الوجه وغبارا.
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض صورة من صورها.
[81 - سورة التكوير]
[81.1-14]
شرح الكلمات:
إذا: أي ظرف لما ذكر بعد من المواضع الأثني عشر، وجوابها علمت نفس ما أحضرت.
كورت: أي لفت وذهب بنورها.
انكدرت: أي انقضت وتساقطت على الأرض.
سيرت: ذهب بها عن وجه الأرض فصارت هباء منبثا.
وإذا العشار: أي النوق الحوامل.
عطلت: أي تركت بلا راع أو بلا حلب لما دهاهم من الأمر.
الوحوش حشرت: أي جمعت وماتت.
وإذا البحار سجرت: أي أوقدت فصارت نارا.
وإذا النفوس زوجت: أي قرنت بأجسادها ثم بقرنائها وأمثالها في الخير والشر.
وإذا الموءودة: أي البنت تدفن حية خوف العار أو الحاجة.
سئلت: أي تبكيتا لقاتلها.
بأي ذنب قتلت: أي بلا ذنب.
وإذا الصحف نشرت: أي صحف الأعمال فتحت وبسطت.
وإذا السماء كشطت: أي نزعت من أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة.
وإذا الجحيم سعرت: أي النار أججت.
وإذا الجنة أزلفت: أي قربت لأهلها ليدخلوها.
علمت نفس ما أحضرت: أي كل نفس وقت هذه المذكورات ما أحضرت من خير وشر.
معنى الآيات:
قوله تعالى إذا الشمس كورت إلى قوله علمت نفس ما أحضرت اشتمل على اثنى عشر حدثا جللا، ستة أحداث منها في الدنيا وستة في الآخرة وكلها معتبرة شرطا لجواب واحد وهو قوله تعالى علمت نفس ما أحضرت أي من خير وشر لتجزي به والسياق كله في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها العرب المشركين وبالغوا في إنكارها مبالغة شديدة وكونها عليها مدار إصلاح الفرد والجماعة وأنه بدونها لا يتم إصلاح ولا تهذيب ولا تطهير عني القرآن بها عناية فائقة ويدل لذلك أن فواتح سور والصافات والذاريات والطور والمرسلات والنازعات والتكوير والانفطار والانشقاق والبروج والفجر كل هذه بما فيها من إقسامات عظيمة هي لتقرير عقيدة البعث والجزاء.
وهذه الأحداث الستة التي تقع في الدنيا وهي مبادئ الآخرة.
1) تكوير الشمس بلفها وذهاب ضوئها.
2) انكدار النجوم بانقضائها وسقوطها على الأرض.
3) تسيير الجبال بذهابها عن وجه الأرض واستحالتها إلى هباء يتطاير.
4) تعطيل العشار وهي النوق الحوامل فلا تحلب ولا تركب ولا ترعى لما أصاب أهلها من الهول والفزع وكانت أفضل أموالهم وأحبها إلى نفوسهم.
5) حشر الوحوش وموتها وهي دواب البر قاطبة.
6) تسجير البحار باشتعالها نارا.
وهذه الأحداث الستة التي تقع في الآخرة:
1) تزويج النفوس وهو قرنها بأجسادها بعد خلق الأجساد لها، وبعد ذلك بأمثالها في الخير والشر.
2) سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت به؟
3) نشر صحف الأعمال وفتحها وبسطها.
4) كشط السماء أي نزعها من أماكنها نزع الجلد عن الشاة عند سلخها.
5) تسعير النار أي تأجيجها وتقويتها.
6) إزلاف الجنة وتقريبها لأهلها أهل الإيمان والتقوى.
وجواب هذه الأحداث التي وقعت شرطا لحرف " إذا " هو قوله تعالى علمت نفس ما أحضرت من حسنات فتصير بها إلى الجنة، أو سيئات فتصير بها إلى النار. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان مفصل عن مبادئ القيامة، وخواتيمها وفي حديث الترمذي الحسن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من سره أن ينظر إلي يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت ".
3- الترغيب في الإيمان والعمل الصالح إذ بهما المصير إلى الجنة.
4- الترهيب من الشرك والمعاصي إذ بهما المصير إلى النار.
[81.15-29]
شرح الكلمات:
الخنس: أي التي تخنس بالنهار أي تختفي وتظهر بالليل.
الجواري الكنس: أي التي تجري أحيانا وتكنس في مكانسها أحيانا أخرى والمكانس محل إيوائها كمكانس بقر الوحش وهي الدرارى الخمسة عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل.
إذا عسعس: أي أقبل أو أدبر لأن عسعس من أسماء الأضداد.
تنفس: أي امتد حتى يصير نهارا بينا.
إنه: أي القرآن.
لقول رسول كريم: أي جبريل كريم على الله تعالى وأضيف إليه القرآن لنزوله به.
ذو قوة: أي شديد القوى.
عند ذي العرش مكين: أي عند الله تعالى ذي مكانة.
مطاع ثم أمين: أي مطاع في السماء تطيعه الملائكة أمين على الوحي.
وما صاحبكم بمجنون: أي محمد صلى الله عليه وسلم أي ليس به جنون.
ولقد رآه بالأفق المبين: أي ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلق عليها بالأفق الأعلى البين من ناحية المشرق.
وما هو على الغيب: أي وما محمد صلى الله عليه وسلم على الغيب وهو ما غاب من الوحي وخبر السماء.
بضنين: أي ببخيل وفي قراءة بالظاء اي بمتهم فينقص منه ولا يعطيه كله.
وما هو بقول شيطان رجيم: أي وليس القرآن بقول شيطان مسترق للسمع مرجوم.
فأين تذهبون: أي فأي طريق تسلكون في إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه.
ما هو إلا ذكر للعالمين: أي ما القرآن إلا موعظة للإنس والجن.
أن يستقيم: أي يتحرى الحق ويعتقده ويعمل بمقتضاه.
وما تشاءون إلا أن يشاء الله: أي ومن شاء الاستقامة منكم فإنه لم يشأها إلا بعد أن شاءها الله قبله إذ لو لم يشأها الله ما أشاءها عبده.
معنى الآيات:
لما قرر تعالى عقيدة البعث والجزاء بوصف كامل لأحداثها وكان الوصف من طريق الوحي فافتقر الموضوع إلى صحة الوحي والإيمان به فإذا صح الوحي وآمن به العبد آمن بصحة البعث والجزاء. ومن هنا أقسم تعالى بأعظم قسم على أن القرآن نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم وما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله ووحيه وليس هو بمجنون يقول ما لا يدري ويهذر بما لا يعني ولا هو بقول شيطان رجيم ممن يسترقون السمع ويلقونه إلى إخوانهم من الكهان بل هو كلام الله صدقا وحقا وما يخبر به كما يخبر صدق وحق فقال تعالى { فلا } أي ليس الأمر كما تدعون بأن ما يقوله رسولنا هو من جنس ما تقوله الكهنة. ولا مما يقوله الشعراء ، ولا هو بكلام مجانين. ولا هو سحر الساحرين أقسم بالخنس الجواري الكنس أي بكل ما يخنس ويجري ويكنس من الظباء وبقر الوحش والكواكب والدراري الخمسة عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل.
والمراد من الخنوس الاختفاء والكنوس إيواءها إلى مكانسها مواضع إيوائها. وقوله { والليل إذا عسعس } أي أقسم بالليل إذا أقبل أو أدبر إذ لفظ عسعس بمعنى أقبل وأدبر فهو لفظ مشترك بين الإقبال والإدبار { والصبح إذا تنفس } أي امتد ضوءه فصار نهارا بينا أقسم بكل هذه المذكرات على أن القرآن الذي يصف لكم البعث والجزاء حق الوصف هو قول رسول كريم أي جبريل الكريم على ربه ذي قوة لا يقادر قدرها فلا يقدر إنس ولا جن على انتزاع ما عنده من الوحي ولا على زيادة فيه أو نقص منه. عند ذي العرش سبحانه وتعالى مكين أي ذي مكانة محترمة مطاع في السماوات أمين على الوحي هذا أولا وثانيا والله وما صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم { بمجنون } كما تقولون { ولقد رآه } أي رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبرل بالأفق المبين رآه على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح رآه بالأفق ناحية الشرق وقد سد الأفق كله، والأفق بين والنهار طالع. { وما هو } أي محمد صلى الله عليه وسلم { على الغيب بضنين } أي بمظنون فيه التهمة بأن يزيد فيه أو ينقص منه أو يبدل أو يغير كما هو ليس ببخيل فيظن فيه أنه يكتم منه شيئا أو يخفيه بخلا به أو ينقص منه شحا به وبخلا. { وما هو بقول شيطان رجيم } ممن يسترقون السمع ويلقونه إلى أوليائهم من الإنس فيخلطون فيه ويكذبون. وقوله تعالى: { فأين تذهبون } ينكر عليهم مسلكهم الشائن في تكذيب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم واتهامه بالسحر، والقرآن بالشعر والكهانة والأساطير. وقوله إن هو إلا ذكر للعالمين أي ما القرآن الكريم إلا ذكر للعالمين من الإنس والجن يذكرون به خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وما له عليهم من حق العبادة وواجب الشكر ويتعظون به فيخافون ربهم فلا يعصونه بترك فرائضه عليهم ولا بارتكاب ما حرمه عليهم وقوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم على منهاج الحق فيتحرى الحق أولا ويؤمن به ويعمل بمقتضاه ثانيا. ولما سمع أبو جهل هذه الآية { لمن شآء منكم أن يستقيم } قال الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم. أنزل تعالى قوله { وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العالمين } فاكبت اللعين فاعلم أن من شاء الاستقامة من العالمين لم يشأها إلا بعد أن شاءها الله تعالى له ولو لم يشأها الله تعالى والله ما شاءها العبد أبدا إذ مشيئة الله سابقة لمشيئة العبد، وفي كل ما يشاؤه الإنسان فإن مشيئة الله سابقة لمشيئته لأن الإنسان عبد والله رب والرب لا مشيئة تسبق مشيئته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الإقسام بالله تعالى وأسمائه وصفاته.
2- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
3- بيان صفات جبريل الكمالية الأمانة، القوة، علو المكانة، الطاعة، الكرم.
4- براءة الرسول مما اتهمه به المشركون.
5- بيان أن مشيئة الله سابقة لمشيئة العبد. فلا يقع في ملك الله تعالى إلا ما يريد.
[82 - سورة الإنفطار]
[82.1-12]
شرح الكلمات:
إذا السماء انفطرت: أي انشقت.
وإذا الكواكب انتثرت: أي تساقطت.
وإذا البحار فجرت: أي اختلطت ببعضها وأصبحت بحرا واحدا الملح والعذب سواء.
وإذا القبور بعثرت: قلب ترابها وبعث موتاها.
علمت نفس ما قدمت: أي من الأعمال وما أخرت منها فلم تعمله وذلك عند قراءتها كتاب أعمالها.
ما غرك بربك: أي أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه.
الذي خلقك: أي بعد أن لم تكن.
فسواك: أي جعلك مستوى الخلقة سالم الأعضاء.
فعدلك: أي جعلك معتدل الخلق متناسب الأعضاء ليست يد أطول أو رجل أطول من الأخرى.
كلا بل تكذبون بالدين: ليس الكرم هو الذي غره وإنما جرأه على المعاصي تكذيبه بالدين الذي هو الجزاء بعد البعث حيا من قبره.
وإن عليكم لحافظين كراما: أي وإن عليكم لملائكة كراما على الله تعالى حافظين لأعمالكم.
كاتبين: أي لها أي لأعمالكم خيرها وشرها حسنها وقبيحها.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إذا السمآء انفطرت } أي انشقت { وإذا الكواكب انتثرت } أي انفضت وتساقطت { وإذا البحار فجرت } أي اختلط ماؤها بعضه ببعض ملحها بعذبها لانكسار ذلك الحاجز الذي كان يفصلهما عن بعضهما لزلزلة الأرض إيذانا بخراب العالم، { وإذا القبور بعثرت } قلبت وأخرج ما فيها من الأموات، إذا حصلت هذه الأحداث الأربعة ثلاثة منها في الدنيا وهي انفطار السماء وانتثار الكواكب وتفجر البحار وهذه تتم بالنفخة الأولى والرابع وهو بعثرة القبور يتم في الآخرة بعد النفخة الثانية، وعندها تعلم نفس ما قدمت وما أخرت وهذا جواب إذا في أول الآيات. ومعنى { علمت نفس } أي كل نفس مكلفة ما قدمت من أعمال حسنة أو سيئة، وما أخرت من أعمال لحقتها بعدها وذلك ما سنته من سنن الهدى أو سنن الضلال، لحديث
" من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملها لا ينقص من أوزارهم شيء "
، وهذا العلم يحصل للنفس أولا مجملا وذلك عند ابيضاض الوجوه واسودادها، ويحصل لها مفصلا عندما تقرأ كتاب أعمالها. وقوله تعالى { يأيها الإنسن ما غرك بربك الكريم } يخاطب تعالى الإنسان الكافر والفاجر ليسأله موبخا إياه مقرعا مؤنبا بقوله ما غرك أي أي شيء خدعك وجرأك على الكفر بربك الكريم وعصيانه بالفسق عن أمره والخروج عن طاعته. وهو القادر على مؤاخذتك والضرب على يديك ساعة ما كفرت به أو عصيته أليس هو الذي خلقك فسوى خلقك وعدل أعضاءك وناسب بين أجزائك في أي صورة ما شاء ركبك إن شاء بيضك أو سودك طولك أو قصرك جعلك ذكرا أو انثى إنسانا أو حيوانا قردا أو خنزيرا هل هناك من يصرفه عما أراد لك والجواب لا أحد إذا كيف يسوغ لك الكفر به وعصيانه والخروج عن طاعته وبعد هذا التوبيخ والتأنيب قال تعالى { كلا } أي ما غرك كرم الله ولا حلمه { بل تكذبون بالدين } أي بالبعث والجزاء في الدار الآخرة هو الذي جرأكم على الكفر والظلم والإجرام وما علمتم والله إن عليكم لحافظين يحفظون عليكم أعمالكم ويحصونها لكم ويكتبونها في صحائفكم.
يعلمون ما تفعلون في السر والعلن وسوف تفاجأون يوم تعلم نفس ما قدمت وأخرت بصحائف أعمالكم وقد حوت كل أعمالكم لم تغادر صغيرة منها ولا كبيرة ويتم الجزاء بموجبها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أحداث تسبق يوم البعث وذلك في نفخة الفناء وأما النفخة الثانية وهي نفخة البعث حيث تجمع الخلائق ويجري الحساب فتعطى الصحف وتوزن الأعمال وينصب الصراط، ثم إلى جنة أو إلى نار.
2- التحذير من السنة السيئة يتركها المرء بعده فإن أوزارها تكتب عليه وهو في قبره.
3- التحذير من الغرور والانخداع بعامل الشيطان من الإنس أو الجن.
4- التحذير من التكذيب بالبعث والجزاء فإنه أكبر عامل من عوامل الشر والفساد في الدنيا وأكبر موجب للعذاب يوم القيامة.
5- تقرير عقيدة كتابة الأعمال حسنها وسيئها والحساب بمقتضاها يوم القيامة بواسطة ملكين كريمين على كل إنسان مكلف لحديث الصحيح
" يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار "
الحديث.
[82.13-19]
شرح الكلمات:
إن الأبرار: أي المؤمنين المتقين الصادقين.
وإن الفجار: أي الكافرين والخارجين عن طاعة الله ورسوله.
يصلونها يوم الدين: أي يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء وهو يوم القيامة.
وما هم عنها بغائبين: أي بمخرجين.
وما أدراك ما يوم الدين: أي أي شيء جعلك تدري لولا أنا علمناك.
لا تملك نفس لنفس شيئا: أي من المنفعة وإن قلت.
والأمر يومئذ لله: أي لا لغيره، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه.
معنى الآيات:
تقدم أن العرض على الله حق وأن المجازاة تكون بحسب الأعمال التي عملها المرء، وأنها محفوظة محصاة عليه بواسطة ملائكة كرام. وأن الناس يومئذ كما هم اليوم مؤمن بار وكافر فاجر.
بين تعالى جزاء الكل مقرونا بعلة الحكم فقال عز وجل { إن الأبرار لفي نعيم } أي في الجنة دار السلام وذلك لبرورهم وهو طاعتهم لله في صدق كامل { وإن الفجار لفي جحيم } أي نار ذات جحيم وذلك لفجورهم وهو كفرهم وخروجهم عن طاعة ربهم. وقوله { يصلونها } أي يدخلونها ويقاسون حرها { يوم الدين } أي يوم الجزاء الذي كفروا به فأدى بهم إلى الفجور وارتكاب عظائم الذنوب. وقوله { وما هم عنها بغآئبين } أي إذا دخلوها لا يخرجون منها. وقوله { ومآ أدراك ما يوم الدين } أي وما يعلمك يا رسولنا ما يوم الدين إنه يوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين هكذا يخبر تعالى عن عظم شأن هذا اليوم. ويؤكد ذلك فيقول { ثم مآ أدراك ما يوم الدين } ويكشف عن بعض جوانب الخطورة بقوله { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } من المنفعة حيث يكون الأمر كله فيه لله وحده ولا تنفع فيه الشفاعة إلا بإذنه وما للظالمين فيه من شفيع ولا حميم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم الله في أهل الموقف إذ هم ما بين بار صادق فهو في نعيم وفاجر كافر فهو في جحيم.
2- بيان عظم شأن يوم الدين وأنه يوم عظيم.
3- بيان أن الناس في يوم الدين لا تنفعهم شفاعة ولا خلة إذ لا يشفع أحد إلا بإذن الله والكافرون هم الظالمون، وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع.
[83 - سورة المطففين]
[83.1-6]
شرح الكلمات:
ويل: كلمة عذاب، وواد في جهنم.
للمطففين: المنقصين في كيل أو وزن الباخسين فيهما.
إذا اكتالوا على الناس: أي من الناس.
يستوفون: الكيل.
وإذا كالوهم: أي كالوا لهم.
أو وزنوهم: أي وزنوا لهم.
يخسرون: أي ينقصون الكيل أو الوزن.
ألا: استفهام توبيخي إنكاري.
يظن: أي يتيقن.
ليوم عظيم: أي يوم القيامة لما فيه من أهوال وعظائم الأمور.
يوم يقوم الناس: أي من قبورهم.
لرب العالمين: أي يقومون خاشعين ذليلين ينتظرون حكم الله فيهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى ويل للمطففين هذه الآيات الأولى من سورة المطففين قال أحد الأنصار رضي الله عنه كنا أسوأ الناس كيلا، حتى إنه ليكون لأحدنا مكيالان مكيال يشتري به وآخر يبيع به، وما إن نزلت فينا ويل للمطففين حتى أصبحنا أحسن كيلا ووزنا. وصدق هذا الصاحب الجليل فوالله لقد نزلت المدينة مهاجرا عام ثلاثة وسبعين وثلثمائة وألف فوجدتهم على ما كانوا عليه ولقد كنت أشفق عليهم إذا كالوا لي أو وزنوا لي. فقوله تعالى { ويل للمطففين } يتوعد سبحانه وتعالى بواد في جهنم بسيل صديد أهل النار الذين يبخسون الناس الكيل والميزان أي ينقصونهم ويبينهم تعالى بقوله { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون } أي اشتروا منهم يأخذون كيلهم وافيا وكذا إذا وزنوا وإذا كالوهم أي كالوا لهم أو وزنوا لهم يخسرون أن ينقصون. قال تعالى موبخا لهم منكرا { ألا يظن أولئك } المطففون { أنهم مبعوثون } من قبورهم { ليوم عظيم } هو يوم الدين والجزاء والحساب { يوم يقوم الناس لرب العالمين } خاشعين ذليلين ينتظرون حكمه فيهم، ويطول بهم الموقف المائة سنة وأكثر وإن أحدهم ليلجمه العرق إلجاما ومنهم من يصل العرق إلى نصف أذنيه والروايات في هذا كثيرة وصحيحة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة التطفيف في الكيل والوزن وهو أن يأخذ زائدا ولو قل أو ينقص عامدا شيئا ولو قل. وما كان بغير عمد ولا قصد فإنه مما يعفا عنه.
2- التذكير بالبعث والجزاء وتقريرهما.
3- عظم يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين ليحكم بينهم ويجزي كلا بعمله خيرا أو شرا.
[83.7-13]
شرح الكلمات:
كلا: أي حقا وأن الأمر ليس كما يظن المطففون.
لفي سجين: سجين علم على كتاب ديوان الشر دون فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة وهو أيضا موضع في أسفل الأرض السابعة فيه سجين الذي هو ديوان الكتب وبه أرواح الأشقياء عامة.
كتاب مرقوم: أي مسطور بين الكتابة فيه أعمالهم.
يوم الدين: أي يوم القيامة الذي هو يوم الحساب والجزاء.
كل معتد: أي ظالم مضيع حقوق ربه تعالى وحقوق غيره.
أثيم: منغمس في الآثام مكثر منها.
أساطير الأولين: أي ما سطره الأولون من القصص والأخبار التي لا تصح.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في التحذير من الظلم والفسق عن أوامر الرب تبارك وتعالى وقوله تعالى { كلا } أي ليس الأمر كما يظن المطففون والباخسون للحقوق أنه لا دقة في الحساب والجزاء أو أن مثل هذا لا يكتب ولا يحاسب عليه ولا يجزى به حقا { إن كتاب الفجار } أي الظلمة الفاجرين عن الشرع وحدوده { لفي سجين } موضع في أسفل الخلق به أرواح الكافرين والظالمين وكتب أعمالهم، وقوله { ومآ أدراك ما سجين } أي وما أعلمك يا رسولنا ما سجين تفخيم لشأنه. وقوله { كتاب مرقوم } بيان لكتاب الفجار أي أنه مكتوب مسطور بين الكتابة، { ويل يومئذ للمكذبين } أي العذاب الأليم بوادي الويل يوم القيامة للمكذبين بالله وآياته ولقائه المكذبين بيوم الجزاء والحساب وقوله تعالى: { وما يكذب به إلا كل معتد أثيم } يريد وما يكذب بيوم الجزاء والحساب إلا كل معتد ظالم متجاوز للحد أثيم مرتكب للذنوب والآثام بفسقه عن أوامر ربه وخروجه عن طاعة الله بغشيانه المحارم وقوله { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } هذا بيان لذلك المعتدي الأثيم وهو أنه إذا قرئت عليه آيات الله تذكيرا له وتعليما ردها بقوله أساطير الأولين أي هذه حكايات وأخبار الأولين مسطرة مكتوبة وأنكر كتاب الله وكذب به.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان كتاب الفجار وأنه في سجين وسجين ديوان تدون فيه سائر كتب الفجار من أهل النار وموضع أسفل الأرض السابعة مستودع لكتب أعمال الفجار من كفار وفساق ولأرواحهم إلى يوم القيامة ولفظ سجين مشتق من السجين الذي هو الحبس.
2- الوعيد الشديد للمكذبين بالله وبآياته ولقائه.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
[83.14-17]
شرح الكلمات:
ران على قلوبهم: أي غطى قلوبهم وحجبها عن قبول الحق.
ما كانوا يكسبون: أي من الذنوب والآثام.
لمحجوبون: أي يحال بينهم وبين رؤية الرب إلى يوم القيامة.
لصالو الجحيم: أي لداخلوها ومحرقون معذبون بها.
هذا الذي كنتم به تكذبون: أي يقال لهم توبيخا وخزيا لهم وهم في العذاب هذا الذي كنتم به تكذبون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في التنديد بالاعتداء والمعتدين والإثم والآثمين فقال تعالى { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } اي ما الأمر كما يدعون من أن القرآن أساطير الأولين وإنما ران على قلوبهم أي غشاها وغطاها أثر الذنوب والجرائم فحجبها عن معرفة الحق وقبوله، وقوله { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } أي ردعا لهم وزجرا عن أقوالهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة إنهم عن ربهم لمحجوبون فلا يرونه ولا يرون كرامته { ثم إنهم لصالوا الجحيم } أي لداخلوها ومصطلون بحرها معذبون بأنواع العذب فيها ثم يقال لهم توبيخا وخزيا وتأنيبا { هذا } أي العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذبون حتى واصلتم كفركم وإجرامكم فحل بكم هذا الذي أنتم فيه الآن فذوقوا فلن تزدادوا إلا عذابا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من مواصلة الذنوب وعدم التوبة منها حيث يؤدي ذلك بالعبد إلى أن يحرم التوبة ففي حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب صقل منها فإن عاد عادت حتى تعظم في قلبه فذلك الران الذي قال الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ".
2- تقرير رؤية الله تعالى في الآخرة بدليل قوله إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون أي الأشقياء إذا فالسعداء غير محجوبين فهم يرون ربهم ويشهد له قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
[83.18-28]
شرح الكلمات:
كتاب الأبرار: أي كتاب أعمالهم والأبرار هم المطيعون لله ولرسوله الصادقون.
لفي عليين: أي في موضع يسمى عليين في أعلى الجنة.
كتاب مرقوم: أي كتاب مرقوم بأمان من الله إياه من النار يوم القيامة والفوز بالجنة.
يشهده المقربون: أي يحضره المقربون من أهل كل سماء ويحفظونه لأنه يحمل أمانا لصاحبه من النار وفوزه بالجنة.
إن الأبرار لفي نعيم: أي إن الذين بروا ربهم بطاعته بأداء الفرائض واجتناب النواهي لفي نعيم الجنة.
على الأرائك: أي على الأسرة ذات الحجال.
ينظرون: أي ما آتاهم ربهم من صنوف النعيم.
تعرف في وجوههم نضرة النعيم: أي حسنه وبريقه وتلألؤه.
من رحيق: أي من خمر صرف خالصة لا غش فيها ولا دنس.
مختوم: أي مختوم على إنائها لا يفك ختمه إلا هم.
ختامه مسك: أي آخر شربها يفوح برائحة المسك.
وفي ذلك: أي لا في غيره.
فليتنافس المتنافسون: أي فليطلب بالطاعة والاستقامة الطالبون للنعيم المقيم.
ومزاجه من تسنيم: أي ومزاج شرابهم من عين تجري من عال تسمى التسنيم.
عينا يشرب بها المقربون: عينا هي التسنيم يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى كتاب الفجار وما ختم له به ذكر كتاب الأبرار وما ختم له به فقال { كلا } أي حقا { إن كتاب الأبرار } وهو جمع بر أو بار وهو المؤمن الذي بر ربه بطاعته في أداء فرائضه واجتناب نواهيه وكان صادقا في ذلك كتاب أعمال هؤلاء الأبرار في عليين { ومآ أدراك } يا رسولنا { ما عليون } أنه موضع في أعلى الجنان. وقوله { كتاب مرقوم } يريد كتاب الأبرار الموضوع في عليين كتاب مرقوم بأمان من الله لصاحبه من النار والفوز بالجنة { يشهده المقربون } أي مقربو كل سماء يحضرونه ويحفظون له ويشهدون بما فيه من الأمان لصاحبه من النار والفوز بالجنة. وقوله تعالى { إن الأبرار } وأصحاب الكتب المودعة في عليين لفي نعيم يريد يوم القيامة والنعيم هو نعيم الجنة وهذا لون منه على الأرائك اي الأسرة ذات الحجال { ينظرون } إنهم جالسون على الأرائك ينظرون باستحسان وإعجاب ملكهم الكبير الذي ملكهم الله تعالى وقد يمتد مسافة ألفي سنة وينتهي إليه بصرهم { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } أي حسنه وبريقه وتلألؤه وقوله { يسقون من رحيق مختوم } أي من خمر هي الرحيق صافية لا دنس فيها ولا غش مختوم على أوانيها لا يفكها إلا هم. ختامه مسك آخر هذا الشراب يفوح برائحة المسك الأذفر فهي طيبة الرائحة للغاية. وقوله تعالى { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } أي وفي مثل هذا النعيم لا في غيره من حطام الدنيا وشرابها وملكها الزائل يجب أن يتنافس المتنافسون أي في طلبه بالإيمان وصالح الأعمال بعد البعد كل البعد عن الشرك وسيئي الأقوال وقبيح الأفعال.
وقوله تعالى { ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون } أي إن ذلك الرحيق يمزج لأصحاب اليمين بماء عين تسمى التسنيم ويشربه المقربون صرفا أي خالصا بدون مزج من عين التسنيم وقوله { يشرب بها } الباء بمعنى من أو ضمن يشرب معنى يلتذ أي يلتذ بها وقد سبق في سورة الإنسان وقلت إنها لطيب شرابها تكاد تكون آلة للشرب فتكون الباء للآلة على بابها نحو شربت بالكأس.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الثناء على الأبرار وبيان ما أعد الله تعالى لهم وهم المؤمنون المتقون الصادقون في ذلك.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجري فيها.
3- الترغيب في العمل الصالح للحصول على نعيم الجنة لقوله تعالى { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون }.
[83.29-36]
شرح الكلمات:
إن الذين أجرموا: أي على أنفسهم بالشرك والمعاصي كأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن أبي معيط.
من الذين آمنوا: أي كبلال وياسر وعمار وصهيب وخبيب.
يتغامزون: أي يشيرون إلى المؤمنين بالجفن والحاجب استهزاء بهم.
فكهين: أي إذا رجعوا إلى ديارهم وأهليهم يرجعون نشاوى فرحين معجبين بحالهم.
وإذا رأوهم: أي وإذا رأى أولئك الفكهون رأوا المؤمنين.
قالوا إن هؤلاء لضالون: إن هؤلاء يعنون المؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لضالون بتركهم دينهم واتخاذهم لدين محمد صلى الله عليه وسلم الجديد.
وما أرسلوا عليهم حافظين: أي ولم يكلفهم الله تعالى بحفظ أعمالهم ورعاية أحوالهم. وإنما هم متطفلون.
فاليوم: أي يوم القيامة.
من الكفار يضحكون: أي من أجل ما هم فيه من العذاب حيث يرونهم وهم على أرائكهم.
هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون: أي هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلون من الكفر والشر والفساد؟ والجواب نعم نعم نعم.
معنى الآيات:
بعدما بين تعالى حال الأبرار في دار الأبرار وذكر ما شاء الله أن يذكر من نعيمهم ترغيبا وتعليما بعد أن ذكر في الآيات قبلها حال المجرمين وما أعد لهم من عذاب في دار العذاب. ذكر تعالى هنا في خاتمة السورة ما أوجب للمجرمين وهو النار، وما أوجب للمؤمنين وهو الجنة فذكر طرفا من سلوك المجرمين وآخر من سلوك المؤمنين فقال عز من قائل { إن الذين أجرموا } أي على أنفسهم أي أفسدوها بالشرك والشر والفساد كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي وغيرهم كانوا من الذين آمنوا كبلال وعمار وصهيب وخبيب وأضرابهم من فقراء المؤمنين { يضحكون } استهزاء بهم وسخرية. { وإذا مروا بهم } في شوارع مكة وحول المسجد الحرام { يتغامزون } يشيرون إليهم بالجفن والحاجب على عادة المتكبرين { وإذا انقلبوا } أي رجعوا { إلى أهلهم } في ديارهم { انقلبوا فكهين } ناعمين معجبين بحالهم فرحين بما عندهم { وإذا رأوهم } أي وإذا رأى أولئك المجرمون المؤمنين أشاروا إليهم وقالوا { إن هؤلاء لضالون } بتركهم دينهم واعتناق دين محمد الجديد في نظرهم. قال تعالى { ومآ أرسلوا عليهم حافظين } أي على أعمالهم وأحوالهم حتى يقولوا ما قالوا وإنما هم متطفلون يدعون ما ليس لهم لقبح سلوكهم وسوء فهومهم، قال تعالى { فاليوم } يوم القيامة { الذين آمنوا من الكفار يضحكون } أي من الكفار { على الأرآئك } أي الأسرة ذات الحجال { ينظرون } إلى الكفار وهم في النار ويضحكون منهم وهم يعذبون ولا عجب في كيفية رؤيتهم لهم وهم في النار أسفل سافلين والمؤمنون في أعلى عليين إذ البث التلفزيوني اليوم قطع العجب وأبطله وقوله تعالى { هل ثوب الكفار } أي هل جوزي الكفار على أفعالهم الإجرامية؟ والجواب معلوم مما تقدم إذ وصفت حالهم وبين عذابهم والعياذ بالله من عذابه وأليم عقابه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بالإجرام والمجرمين.
2- بيان ما كان عليه المشركون في مكة إبان الدعوة وما لقيه المؤمنون منهم.
3- بيان أن المؤمنين سيرون المشركين في الجحيم ويضحكون منهم وهم في نعيمهم والمشركون في جحيمهم.
4- بيان إكرام الله لأوليائه، وإهانته تعالى لأعدائه.
[84 - سورة الإنشقاق]
[84.1-15]
شرح الكلمات:
إذا السماء انشقت: أي بالغمام وهو سحاب أبيض رقيق وذلك لنزول الملائكة.
وأذنت لربها: أي سمعت وأطاعت.
وحقت: أي وحق لها أن تسمع أمر ربها وتطيعه.
وإذا الأرض مدت: أي زيد في سعتها كما يمد الأديم أي الجلد إذ لم يبق عليها بناء ولا جبل.
وألقت ما فيها وتخلت: أي ألقت ما فيها من الموتى ألقتهم أحياء إلى ظهرها وتخلت عنه أي عما كان في بطنها.
إنك كادح: أي عامل كاسب للخير أو الشر.
إلى ربك كدحا: أي إلى أن تلقى ربك وأنت تعمل وتكسب فليكن عملك مما يرضي عنك ربك.
فملاقيه: أي ملاق ربك بعد موتك وبعملك خيره وشره.
كتابه: أي كتاب عمله وذلك بعد البعث.
وينقلب إلى أهله مسرورا: أي بعد الحساب اليسير يرجع إلى أهله في الجنة من الحور العين فرحا.
وراء ظهره: أي يأخذه بشماله من وراء ظهره إهانة له.
يدعو ثبورا: أي ينادي هلاكه قائلا واثبوراه واثبوراه أي يا هلاكه.
ويصلى سعيرا: أي ويحرق بالنار تحريقا وينضج انضاجة بعد أخرى على قراءة يصلى بالتضعيف.
إنه ظن أن لن يحور: أي أنه كان في الدنيا يظن أنه لا يرجع إلى الحياة بعد الموت فلذا لم يعمل خيرا قط ولم يتورع عن ترك الشر قط لعدم إيمانه بالبعث.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إذا السمآء انشقت } يخبر تعالى أنه إذا انشقت السماء أي تصدعت وتفطرت وذابت فصارت كالدهان { وأذنت لربها وحقت } أي وسمعت لأمر ربها واستجابت { فكانت } كما أمرها الله أن تكون منشقة منفطرة حتى تكون كالمهل، { وإذا الأرض مدت } من الأديم واتسعت رقعتها حيث زال منها الجبال والآكام والمباني والعمارات وأصبحت قاعا صفصفا { وألقت ما فيها } أي ما في بطنها من أموات { وتخلت } عنه أي عما كان في بطنها { وأذنت لربها } في ذلك كله أي سمعت وأجابت { وحقت } أي وحق لها أن تسمع وتجيب وتطيع وجواب إذا الأولى والثانية واحد وهو
علمت نفس ما قدمت وأخرت
[الانفطار: 5] أو ما أحضرت كما تقدم نظيره في التكوير والانفطار. وقوله تعالى { يأيها الإنسن } أي يا بن آدم { إنك كادح إلى ربك كدحا } أي إنك عامل تعمل يوميا وليل نهار إلى أن تموت وتلقى ربك إنك لا تبرح تعمل لا محالة وتكسب بجوارحك الخير والشر إلى الموت حيث تنتقل إلى الدار الآخرة وتلقى ربك وتلاقيه هذا يشهد له قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح
" كلكم يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها "
، إذا فمن الخير لك يا أيها الإنسان المكلف أن تعمل خيرا تلاقي به ربك فيرضى عنك به ويكرمك إنك حقا ملاق ربك بعملك فأنصح لك أن يكون عملك صالحا وانظر إلى الصورة التالية { فأما من أوتي كتبه بيمينه } لأنه حوى الخير ولا شر فيه { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } ينظر في كتابه ويقرر هل فعلت كذا فيعترف ويتجاوز عنه وينقلب إلى أهله في الجنة وهم الحور العين والنساء المؤمنات والذرية الصالحة يجمعهم الله ببعضهم كرامة لهم وهو قوله تعالى
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم
[الطور: 21] { وأما من أوتي كتبه } أي كتاب أعماله { ورآء ظهره } حيث تغل اليمني مع عنقه وتخرج الشمال وراء ظهره ويعطى كتابه وراء ظهره { فسوف يدعوا ثبورا } أي ينادي هلاكه قائلا واثبوراه واثبوراه أي يا هلاكه احضر فهذا أوان حضورك { ويصلى سعيرا } أي ويدخل نارا مستعرة شديدة الالتهاب ويصلى أيضا فيها تصلية أي ينضح فيها لحمه المرة بعد المرة وأبدا. والعياذ بالله وعلة ذلك وسببه هو { إنه كان في أهله } في الدنيا { مسرورا } لا يخاف الله ولا يرجو الدار الآخرة يعمل ما يشاء ويترك ما يشاء إنه ظن أن لن يحور أي أنه لا يرجع حيا بعد موته ولا يحاسب ولا يجزى هذه علة هلاكه وشقائه فاحذروها أيها الناس اليوم فآمنوا بربكم ولقائه واعملوا عملا ينجيكم من عذابه. وقوله تعالى { بلى إن ربه كان به بصيرا } اي ليحورن وليبعثن وليحاسبن وليس كما يظن أنه لا يبعث ولا يحاسب ولا يجزى بل لا بد من ذلك كله إن ربه تعالى كان به وبعمله بصيرا لا يخفى عليه من أمره شيء ونتيجة لذلك تم له هذا الحساب والعقاب بأمر العذاب وأشده دخول النار وتصلية جحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان مقدماته في انقلاب الكون.
2- بيان حتمية لقاء الإنسان ربه.
3- كل إنسان مكلف بالعقل والبلوغ فهو عامل وكاسب لا محالة إلى أن يموت ويلقى ربه.
4- أهل الإيمان والتقوى يحاسبون حسابا يسيرا وهو مجرد عرض لا غير ويفوزون أما من نوقش الحساب فقد هلك وعذب لأنه لا يملك حجة ولا عذرا.
5- التنعم في الدنيا والانكباب على شهواتها وملاذها مع ترك الطاعات والصالحات ثمرة عدم الإيمان أو اليقين بالبعث والجزاء.
[84.16-25]
شرح الكلمات:
بالشفق: أي بالحمرة في الأفق بعد غروب الشمس.
وما وسق: أي دخل عليه من الدواب وغيرها.
إذا اتسق: اجتمع وتم نوره وذلك في الليالي البيض.
طبقا عن طبق: أي حالا بعد حال الموت، ثم الحياة، ثم ما بعدها من أحوال القيامة.
فما لهم لا يؤمنون: أي أي مانع لهم من الإيمان بالله ورسوله ولقاء ربهم والحجج كثيرة تتلى عليهم.
وإذا قرئ عليهم القرآن: أي تلي عليهم وسمعوه.
لا يسجدون: أي لا يخضعون فيؤمنوا ويسلموا.
بما يوعون: أي يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب.
لهم أجر غير ممنون: أي غير مقطوع.
معنى الآيات:
قوله تعالى { فلا أقسم } أي فليس الأمر كما تدعون من أنه لا بعث ولا جزاء أقسم بالشفق وهي حمرة الأفق بعد غروب الشمس والليل وما وسق أي وما جمع من كل ذي روح من سابح في الماء وطائر في السماء وسارح في الغبراء والقمر إذا اتسق أي اجتمع وتم نوره وذلك في الليالي البيض. وجواب القسم قوله تعالى { لتركبن طبقا عن طبق } أي حالا بعد حال الموت ثم الحياة، ثم العرض، ثم الحساب، ثم الجزاء فهي أحوال وأهوال فليس الأمر كما تتصورون من أنه موت ولا غير. وقوله تعالى { فما لهم لا يؤمنون وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون } أي ما للناس لا يؤمنون أي شيء منعهم من الإيمان بالله ورسوله والدار الآخرة مع كثرة الآيات وقوة الحجج وسطوع البراهين. وما لهم أيضا إذ تلي عليهم القرآن وسمعوه لا يخضعون ولا يخشعون ولا يخرون ساجدين مع ما يحمل من أنواع الحجج والبراهين وقوله تعالى { بل الذين كفروا } أي بدل أن يؤمنوا ويسلموا يكذبون { والله أعلم بما يوعون } في قلوبهم من الكفر والتكذيب وفي نفوسهم من الحسد والكبر والغل والبغض وبناء على ذلك فبشرهم يا رسولنا أي أخبرهم بما يسوءهم بعذاب أليم عاجلا وآجلا { إلا الذين ءامنوا } أي منهم آمنوا بالله ورسوله وآيات الله ولقائه وعملوا الصالحات فأدوا الفرائض واجتنبوا المحارم فهؤلاء { لهم أجر } أي ثواب عند الله إلى يوم يلقونه { غير ممنون } أي غير منقوص ولا مقطوع في الجنة دار السلام. اللهم اجعلنا من أهلها برحمتك يا أرحم الراحمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الإنسان مقبل على أحوال وأهوال حالا بعد حال وهولا بعد هول إلى أن ينتهي إلى جنة أو نار.
2- بيان أن عدم إيمان الإنسان بربه أمر يستدعي العجب إذ لا مانع للعبد من الإيمان بخالقه وهو يعلم أنه مخلوق وقد تعرف إليه فأنزل كتبه وبعث رسله وأقام الأدلة على ذلك.
3- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية وهي وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون.
4- علم الله تعالى بما يعي الإنسان في قلبه وما يحمل في نفسه فذكره للعبد بأن يراقب ربه فلا يعي في قلبه إلا الإيمان ولا يحمل في نفسه إلا الخير فلا غل ولا حسد ولا شك ولا عداء ولا بغضاء.
[85 - سورة البروج]
[85.1-11]
شرح الكلمات:
ذات البروج: أي منازل الشمس والقمر الاثنى عشر برجا.
واليوم الموعود: أي يوم القيامة إذ وعدت لله تعالى عباده أن يجمعهم فيه لفصل القضاء.
وشاهد: أي يوم الجمعة.
ومشهود: أي يوم عرفة.
قتل أصحاب الأخدود: أي لعن أصحاب الأخدود.
الأخدود: أي الحفر تحفر في الأرض وهو مفرد وجمعه أخاديد.
إذ هم عليها قعود: أي على حافتها وشفيرها.
وما نقموا منهم: أي ما عابوا أي شيء سوى إيمانهم بالله تعالى.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والسمآء ذات البروج } هذا قسم من أعظم الأقسام إذ أقسم تعالى فيه بالسماء ذات البروج وهي منازل الشمس والقمر الأثنا عشر برجا، وباليوم الموعود وهو يوم القيامة إذ وعد الرب تعالى عباده أن يجمعهم فيه ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون وبالشاهد وهو يوم الجمعة وبالمشهود وهو يوم عرفة وجواب القسم أو المقسم عليه محذوف قد يكون تقديره لتبعثن ثم لتنبؤن لأن السورة مكية والسور المكية تعالج العقيدة بأنواعها الثلاثة التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، وجائز أن يكون الجواب قتل بتقدير اللام وقد نحو لقد قتل أي لعن أصحاب الأخدود وهي حفر حفرها الكفار وأججوا فيها نارا وأتوا بالمؤمنين المخالفين لدينهم وعرضوا عليهم الكفر أو الإلقاء في النار فاختاروا الإلقاء في النار مع بقاء إيمانهم حتى إن امرأة كانت ترضع صبيا فأحجمت عن إلقاء نفسها مع طفلها في النار فأنطق الله الصبي فقال لها: أماه امضي فإنك على الحق فاقتحمت النار. وقوله { إذ هم عليها قعود } بيان للحال التي كانوا يفتنون فيها المؤمنين والمؤمنات إذ كانوا على شفير النار وحافتها قاعدين، وقوله تعالى { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين } من الإلقاء في النار والارتداد عن الإسلام { شهود } أي حضور، ولم يغيروا منكرا ولم يأمروا بمعروف. وقوله تعالى { وما نقموا منهم } أي وما عابوا عنهم شيئا سوى إيمانهم بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض، فحسب العبد من الله هذه الصفات فإنها توجب الإيمان بالله وطاعته ومحبته وخشيته وهي كونه سبحانه وتعالى عزيزا في انتقامه لأوليائه حميدا يحمده لآلائه ونعمه سائر خلقه مالكا لكل ما في السماوات والأرض ليس لغيره ملك في شيء معه وعلمه الذي أحاط بكل شيء دل عليه قوله وهو على كل شيء شهيد. فكيف ينكر على المؤمن إيمانه بربه ذي الصفات العلا. والجلال والجمال والكمال. سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك. وقوله تعالى { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } أي فتنوهم عن دينهم فأحرقوهم بالنار { ثم لم يتوبوا } بعد فتنتهم للمؤمنين والمؤمنات { فلهم عذاب جهنم } جزاء لهم. { ولهم عذاب الحريق } عذاب جهنم في الدار الآخرة وعذاب الحريق في الدنيا.
فقد روي أنهم لما فرغوا من إلقاء المؤمنين في النار والمؤمنون كانت تفيض أرواحهم قبل وصولهم إلى النار فلم يحسوا بعذاب النار والكافرون خرجت لهم النار من الأخاديد وأحرقتهم فذاقوا عذاب الحريق في الدنيا، وسيذوقون عذاب جهنم في الآخرة هذا بالنسبة إلى أبدانهم أما أرواحهم فإنها بمجرد مفارقة الجسد تلقى في سجين مع أرواح الشياطين والكافرين وقوله تعالى { إن الذين آمنوا } بالله وعملوا الصالحات أي آمنوا بالله ربا وإلها وعبدوه بأداء فرائضه وترك محارمه { لهم جنات } أي بساتين { تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت أشجارها وقصورها. وقوله تعالى { ذلك الفوز الكبير } حقا هو فوز كبير، لأنه نجاة من النار أولا ودخول الجنة ثانيا. كما قال تعالى
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
[آل عمران: 185].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- فضل يومي الجمعة وعرفة.
3- بيان ما يبتلى به المؤمنون في هذه الحياة ويصبرون فيكون جزاؤهم الجنة.
4- الترهيب والترغيب في ذكر جزاء الكافرين والمؤمنين الصالحين.
[85.12-22]
شرح الكلمات:
إن بطش ربك: أي أخذه أذا أخذ الكافر شديد.
يبدئ ويعيد: أي يبدئ الخلق ويعيده بعد فنائه ويبدئ العذاب ويعيده.
الغفور الودود: أي لذنوب عباده المؤمنين المتودد لأوليائه.
ذو العرش المجيد: أي صاحب العرش إذ هو خالقه ومالكه والمجيد المستحق لكمال صفات العلو.
في تكذيب: أي بما ذكر في سياق الآيات السابقة.
من ورائهم محيط: أي هم في قبضته وتحت سلطانه وقهره.
قرآن مجيد: أي كريم عظيم.
في لوح محفوظ: أي من الشياطين والمراد به اللوح المحفوظ.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ما توعد به الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من أجل إيمانهم أخبر رسوله معرضا بمشركي قومه وطغاتهم الذين آذوا المؤمنين في مكة من أجل إيمانهم أخبره بقوله { إن بطش ربك لشديد } أي إن أخذه إذا بطش أخذه أليم شديد ودلل على ذلك بقوله { إنه هو يبدىء ويعيد } فالقادر على البدء والإعادة بطشه شديد. وقوله { يبدىء } أي الخلق ثم يعيده. ويبدئ العذاب أيضا ثم يعيده { وهو الغفور الودود } فهو قادر على البطش بأعدائه، وهو الغفور لذنوب أوليائه { ذو العرش المجيد } أي صاحب العرش خلقا وملكا المجيد العظيم الكريم، { فعال لما يريد } إذ لا يكره تعالى على شيء ولا يقدر أحد على إكراهه.
وقوله تعالى { هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود } كيف أهلكهم الله لما طغوا وبغوا وكفروا وعصوا نعم قد أتاك وقرأته على قومك الكافرين ولم ينتفعوا به لأنهم يعيشون في تكذيب لك يحيط بهم لا يخرجون منه لأنه تكذيب ناشئ من الكبر والحسد والجهل فلذا هم لم يؤمنوا بعد. وقوله تعالى { والله من ورآئهم محيط } أي هم في قبضته وتحت قهره وسلطانه لا يخفى عليه منهم شيء ولا يحول بينه وبينهم متى أراد أخذهم شيء. وقوله تعالى { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } يرد بهذا على المشركين الذين قالوا في القرآن إنه سحر وشعر واساطير الأولين فقال ليس هو كما قالوا وادعوا وإنما هو قرآن مجيد في لوح محفوظ من الشياطين فلا تمسه ولا تقربه ولا من غير الشياطين من سائر الخلق أجمعين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تهديد الظلمة بالعذاب عقوبة في الدنيا وفي الآخرة.
2- إن الله تعالى لكرمه يتودد لأوليائه من عباده.
3- فائدة القصص هي الموعظة تحصل للعبد فلا يترك واجبا ولا يغشى محرما.
4- بيان إحاطة الله تعالى بعباده وأنهم في قبضته وتحت سلطانه.
5- شرف القرآن الكريم، وإثبات اللوح المحفوظ وتقريره.
[86 - سورة الطارق]
[86.1-17]
شرح الكلمات:
والطارق: أي كل ما يطرق ويأتي ليلا وسمي النجم طارقا لطلوعه ليلا.
النجم الثاقب: أي الثريا والثاقب المضيء الذي يثقب الظلام بنوره.
لما عليها حافظ: أي إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظ عملها.
خلق من ماء دافق: أي ماء ذي اندفاق وهو بمعنى مدفوق أي مصبوب في الرحم.
من بين الصلب والترائب: الصلب: عظم الظهر من الرجل، والترائب عظام الصدر والواحدة تريبة.
يوم تبلى السرائر: أي تختبر ضمائر القلوب في العقائد والنيات. والسرائر جمع سريرة كالسر.
ذات الرجع: أي ذات المطر لرجوعه كل حين والرجع من أسماء المطر.
ذات الصدع: أي التصدع والتشقق بالنبات.
لقول فصل: أي يفصل بين الباطل وفي الخصومات يقطعها بالحكم الجازم.
وما هو بالهزل: أي باللعب والباطل بل هو الجد كل الجد.
يكيدون كيدا: أي يعملون المكائد للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأكيد كيدا: أي أستدرجهم من حيث لا يعلمون لأوقعهم في المكروه.
أمهلهم رويدا: أي زمنا قليلا وقد أخذهم في بدر.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والسمآء والطارق } هذا قسم إلهي حيث أقسم تعالى بالسماء والطارق ولما كان لفظ الطارق يشمل كل طارق آت بليل، وأراد طارقا معينا فخم من شأنه بالاستفهام عنه الدال على تهويله فقال { ومآ أدراك ما الطارق } ثم بينه بقوله { النجم الثاقب } وكل نجم هو ثاقب للظلام بضوئه. والمراد به هنا الثريا لتعارف العرب على إطلاق النجم على الثريا. هذا هو القسم والمقسم عليه هو قوله تعالى { إن كل نفس لما عليها حافظ }. وهنا قراءتان سبعيتان الأولى بتخفيف ميم لما وحينئذ تصبح زائدة لتقوية الكلام لا غير واللام للفرق بين إن النافية والمؤكدة الداخلة على الأسم وهو هنا ضمير شأن محذوف والتقدير أنه أي الحال والشأن كل نفس عليها حافظ. والثانية بتشديد لما وحينئذ تكون إن نافية بمعنى ما ولما بمعنى إلا ويصير الكلام هكذا. ما كل نفس إلا عليها حافظ من ربها يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشر. وقوله تعالى { فلينظر الإنسان } أي الكافر المكذب بالبعث والجزاء { مم خلق } أي من أي شيء خلق. وبين تعالى مما خلقه بقوله { خلق من مآء دافق } أي ذي اندفاق وهو المني يصب في الرحم يخرج من بين الصلب والترائب أي يخرج الماء من صلب الرجل وهو عظام ظهره وترائب المرأة وهي محل القلادة من صدرها، وقد اختلف في تقدير فهم هذا الخبر عن الله تعالى وجاء العلم الحديث فشرح الموضوع وأثبت أن ماء الرجل يخرج حقا مما ذكر الله تعالى في هذه الآية وأن ماء المرأة كذلك يخرج مما وصف عز وجل وصدق الله العظيم.
وقوله تعالى { إنه على رجعه لقادر } أي الذي خلقه مما ذكر من ماء دافق فجعله بشرا سويا ثم أماته بعد أن كان حيا قادر على إرجاعه حيا كما كان وأعظم مما كان. وذلك يوم تبلى السرائر أي تختبر الضمائر وتكشف الأسرار وتعرف العقائد والنيات الصالحة من الفاسدة والسليمة من المعيبة ويومها { فما له من قوة ولا ناصر } ليس لهذا الكافر والمكذب بالبعث والحياة الثانية ماله قوة يدفع بها عن نفسه عذاب ربه ولا ناصر ينصره فيخلصه من العذاب. وقوله تعالى { والسمآء ذات الرجع والأرض ذات الصدع } أقسم تعالى بالسماء ذات السحب والغيوم والأمطار، والأرض ذات التشقق عن النباتات والزروع المختلفة على أن القرآن الكريم قول فصل وحكم عدل في كل مختلف فيه من الحق والباطل فما أخبر به وحكم فيه من أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها هو الحق الذي لا مرية فيه والصدق الذي لا كذب معه وقوله تعالى وما هو بالهزل أي وليس القرآن باللعب الباطل بل هو الحق من الله الذي لا باطل معه. وقوله تعالى { إنهم يكيدون كيدا } أي إن كفار قريش يمكرون بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وبدعوته مكرا ويكيدون لهما كيدا.
وقوله { وأكيد كيدا } أي وأنا أمكر بهم وأكيد لهم كيدا فمن يغلب مكره وكيده الخالق المالك أم المخلوق المملوك؟ فمهل الكافرين يا رسولنا أمهلهم قليلا، فقد كتبنا في كتاب عندنا
لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز
[المجادلة: 21] وقد أنجز الله وعده لرسوله والمؤمنين فلم يمض إلا سنيات قلائل، ولم يبق في مكة من سلطان إلا الله، ولا من معبود يعبد إلا الله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير المعاد والبعث والجزاء.
2- تقرير أن أعمال العباد محصية محفوظة وأن الحساب يجري بحسبها.
3- بيان مادة تكوين الإنسان ومصدر تكوين تلك المادة.
4- التحذير من إسرار الشر وإخفاء الباطل، وإظهار خلاف ما في الضمائر، فإن الله تعالى عليم بذلك، وسيختبر عباده في كل ما يسرون ويخفون.
5- إثبات أن القرآن قول فصل ليس فيه من الباطل شيء وقد تأكد هذا بمرور الزمان فقد صدقت أنباؤه ونجحت في تحقيق الأمن والاستقرار أحكامه.
[87 - سورة الأعلى]
[87.1-13]
شرح الكلمات:
سبح اسم ربك: أي نزه اسم ربك أن يسمى به غيره وأن يذكر بسخرية أو لعب أي لا يذكر إلا بإجلال وإكبار ونزه ربك عما لا يليق به من الشرك والصاحبة والولد والشبيه والنظير.
الأعلى: أي فوق كل شيء والقاهر لكل شيء.
الذي خلق فسوى: أي الإنسان فسوى أعضاءه بأن جعلها متناسبة غير متفاوتة.
والذي قدر فهدى: أي قدر ما شاء لمن شاء وهداه إلى إتيان ما قدره له وعليه.
والذي أخرج المرعى: أي أنبت العشب والكلأ.
فجعله غثاء أحوى: أي بعد الخضرة والنضرة هشيما يابسا أسود.
سنقرئك فلا تنسى: أي القرآن فلا تنساه بإذننا.
إلا ما شاء الله: أي إلا ما شئنا أن ننسيكه فإنك تنساه وذلك إذا أراد الله تعالى نسخ شيء من القرآن بلفظه فإنه ينسي فيه رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونيسرك لليسرى: أي للشريعة السهلة وهي الإسلام.
فذكر إن نفعت الذكرى: أي من تذكر أو لم تنفع ومعنى ذكر عظ بالقرآن.
ويتجنبها: أي الذكرى أي يتركها جانبا فلا يلتفت إليها.
الأشقى: أي الكافر الذي كتبت شقاوته أزلا.
يصلى النار الكبرى: أي نار الدار الآخرة.
لا يموت فيها ولا يحيا: أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا فيهنأ.
معنى الآيات:
قوله تعالى { سبح اسم ربك الأعلى } هذا أمر من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمته تابعة له بأن ينزه اسم ربه عن أن يسمى به غيره، أو أن يذكر في مكان قذر، أو أن يذكر بعدم إجلال واحترام، والأعلى صفة للرب تبارك وتعالى دالة على علوه على خلقه فالخلق كله تحته وهو قاهر له وحاكم فيه. الذي خلق فسوى اي أوجد من العدم المخلوقات وسوى خلقها كل مخلوق بحسب ذاته فعدل أجزاءه وسوى بينها فلا تفاوت فيها { والذي قدر فهدى } أي قدر الأشياء في كتاب المقادير من خير وغيره وهدى كل مخلوق إلى ما قدره له أو عليه فهو طالب له حتى يدركه في زمانه ومكانه وعلى الصورة التي قدر عليها { والذي أخرج المرعى } أي ما ترعاه البهائم من الحشيش والعشب والكلأ. { فجعله غثآء أحوى } أي فجعله بعد الخضرة والنضرة هشيما متفرقا يابسا بين سواد وبياض وهي الحوة هذه خمس آيات الآية الأولى تضمنت الأمر بتنزيه اسم الله والأربع بعدها في التعريف به سبحانه وتعالى حتى يعظم اسمه وتعظم ذاته وتنزه عن الشريك والصاحبة والولد وقوله تعالى { سنقرئك فلا تنسى } هذه عدة من الله تعالى لرسوله. لعل سببها أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالآيات يخاف نسيانها فيستعجل قراءتها قبل فراغ جبريل عليه السلام من إملائها عليه فيحصل له بذلك شدة فطمأنه ربه أنه لا ينسى ما يقرئه جبريل { إلا ما شآء الله } أن ينسيه إياه لحكمة اقتضت ذلك فإنه ينساه فقد كان صلى الله عليه وسلم ينسى وذلك لما أراد الله أن ينسخه من كلامه.
وقوله تعالى { إنه يعلم الجهر وما يخفى } هذه الجملة تعليلية لقدرة الله تعالى على أن يحفظ على رسوله القرآن فلا ينساه ومعنى يعلم الجهر وما يخفى أي أن الله تعالى يعلم ما يجهر به المرء من قراءة أو حديث وما يخفيه الكل يعلمه الله بخلاف عباده فإنهم لا يعلمون ما يخفى عليهم ويسر به وقوله تعالى { ونيسرك لليسرى } أي للطريقة السهلة الخالية من الحرج وهي الشريعة الإسلامية التي بنيت على أساس أن لا حرج في الدين
وما جعل عليكم في الدين من حرج
[الحج: 78] وقوله تعالى { فذكر إن نفعت الذكرى } من آيسناك من إيمانهم أو لم تنفع. لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالبلاغ فيبلغ الكافر والمؤمن ويذكر الكافر والمؤمن. والأمر بعد لله. وقوله تعالى { سيذكر من يخشى } أي سيذكر ويتعظ من يخشى عقاب الله لإيمانه به ومعرفته له { ويتجنبها } أي الذكرى { الأشقى } أي أشقى الفريقين فريق من يتذكر وفريق من لا يتذكر { الذى يصلى النار الكبرى } أي يدخل النار الكبرى نار يوم القيامة { ثم لا يموت فيها } من جراء عذابها فيستريح { ولا يحيا } فيهنأ ويسعد إذ الشقاء لازمه. وهذه حال أهل النار ونعوذ بالله من حال أهل النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب تسبيح اسم الله وتنزيهه عما لا يليق به كوجوب تنزيه ذات الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
2- مشروعية قول سبحان ربي الأعلى عند قراءة هذه الآية سبح اسم ربك الأعلى.
3- وجوب التسبيح بها في السجود في كل سجدة من الصلاة سبحان ربي الأعلى ثلاثا فأكثر.
4- مشروعية قراءة هذه السورة في الوتر فيقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة والأعلى وفي الثانية بالفاتحة والكافرون، وفي ركعة الوتر بالفاتحة والصمد أو الصمد والمعوذتين.
5- أحب الرسول صلى الله عليه وسلم سورة الأعلى لأنها سورة ربه وأن ربه بشره فيها بشارتين عظيمتين الأولى أنه ييسره لليسرى، ومن ثم ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما والثانية أنه حفظه من النسيان بأن جعله لا ينسى. ولذا كان يصلي بهذه السورة الجمع والأعياد والوتر في كل ليلة فصلى الله عليه وسلم.
[87.14-19]
شرح الكلمات
أفلح: أي فاز بأن نجا من النار، ودخل الجنة.
من تزكى: أي تطهر بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والمعاصي.
وذكر اسم ربه: أي في كل أحايينه عند الأكل وعند الشرب وعند النوم وعند الهبوب منه وفي الصلاة وخارج الصلاة من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير.
فصلى: أي الصلوات الخمس والنوافل من رواتب وغيرها.
تؤثرون: أي تقدمون وتفضلون الدنيا على الآخرة.
إن هذا لفي الصحف الأولى: أي إن هذا وهو قوله قد أفلح إلى قوله وأبقى.
صحف إبراهيم: إذ كانت عشر صحف.
وموسى: أي توراته.
معنى الآيات:
قوله تعالى قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى يخبر تعالى بفلاح عبد مؤمن زكى نفسه أي طهرها بالإيمان وصالح الأعمال، وذكر اسم ربه على كل أحايينه عند القيام من النوم عند الوضوء بعد الوضوء في الصلاة وبعد الصلاة وعند الأكل والشرب وعند اللباس فلا يخلو من ذكر الله ساعة فصلى الصلوات الخمس وصلى النوافل. ومعنى الفلاح الفوز والفوز هو النجاة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب. والمراد منه في الآية النجاة من النار ودخول الجنة الآية آل عمران
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز
[الآية: 185]. وقوله تعالى { بل تؤثرون الحياة الدنيا } أيها الناس أي تفضلونها على الآخرة فتعملون لها وتنسون الآخرة فلا تقدمون لها شيئا. هذا هو طبعكم أيها الناس إلا من ذكر الله فصلى بعد أن آمن واهتدى في حين أن الآخرة خير من الدنيا وأبقى خير نوعا وأبقى مدة حتى قال الحكماء لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف.. طين لاختار العاقل ما يبقى على ما يفنى، لأن الدنيا فانية والآخرة باقية وقوله تعالى { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } أي إن قوله تعالى قد أفلح من تزكى إلى قوله خير وأبقى مذكور في كل من صحف إبراهيم وكانت له عشر صحف ولموسى، التوراة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الترغيب في الزكاة والذكر والصلاة، ويحصل هذا للمسلم كل عيد فطر إذ يخرج زكاة الفطر أولا ثم يأتي المسجد يكبر، ثم يصلي حتى أن بعضهم يرى أن هذه الآية نزلت في ذلك.
2- التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة لفناء الدنيا وبقاء الآخرة.
3- توافق الكتب السماوية دليل أنها وحي الله وكتبه أنزلها على رسله عليهم السلام.
[88 - سورة الغاشية]
[88.1-16]
شرح الكلمات:
هل أتاك: أي قد جاءك.
الغاشية: أي القيامة وسميت الغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها.
وجوه يومئذ: أي يوم إذ تقوم الساعة.
خاشعة: أي ذليلة أطلق الوجوه وأراد اصحابها.
عاملة ناصبة: أي ذات نصب وتعب بالسلاسل والأغلال وتكليف شاق الأعمال.
تصلى نارا حامية: ترد هذه الوجوه نارا حامية قد اشتدت حرارتها.
تسقى من عين آنية: أي بلغت أناها من الحرارة يقال أني الحميم إذا بلغ منتهاه.
إلا من ضريع: أي أخبث طعام وأنتنه، وضريع الدنيا نبت يقال له الشبرق لا ترعاه الدواب لخبثه.
وجوه يومئذ ناعمة: أي حسنة نضرة.
لسعيها راضية: أي لعملها الصالحات في الدنيا راضية في الآخرة لما رأت من ثوابها.
لاغية: أي كلمة لاغية من اللغو والباطل.
وأكواب: أقداح لا عرا لها موضوعة على حافة العين للشرب.
ونمارق مصفوفة: أي ومساند جمع نمرقة مصفوفة الواحدة إلى جنب الأخرى للاستناد إليها.
وزرابي مبثوثة: أي بسط وطنافس لها خمل ومالا خمل لها يسمى سجاده ومعنى مبثوثة مفروشة هنا وهناك مبسوطة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { هل أتاك حديث الغاشية } هذا خطاب من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم يقول له فيه هل أتاك نبأ الغاشية وخبرها العظيم وحديثها المهيل المخيف إن لم يكن أتاك فقد أتاك الآن إنه حديث القيامة التي تغشي الناس بأهوالها وصعوبة مواقفها واشتداد أحوالها وإليك عرضا سريعا لبعض ما يجري فيها: { وجوه يومئذ } تغشاهم الغاشية { خاشعة } ذليلة { ناصبة } أي ذات نصب وتعب من جر السلاسل والأغلال، وتكليف أشق الأعمال { تصلى نارا حامية } أي ترد نارا { تسقى } أي فيها { من عين آنية } قد بلغت أناها وانتهت إلى غايتها في حرارتها هذا هو الشراب أما الطعام فإنه ليس لهم طعام إلا من ضريع قبيح اللون خبيث الطعم منتن الريح، { لا يسمن } آكله ولا يغنيه من جوع. هذه حال من كفر وفجر كفر بالله وبآياته ولقائه ورسوله، أو فجر عن طاعة الله ورسوله فترك الفرائض وغشي المحارم هذه وجوه ووجوه يومئذ ناعمة أي نضرة حسنة فإنها لسعيها راضية أي لسعيها في الدنيا وهو إيمانها وصبرها إيمانها وجهادها إيمانها وتقواها إيمانها وعملها الصالح أصحاب هذه الوجوه راضون بأعمالهم لما رأوا من ثوابها والجزاء عليها.
إنهم أدخلوا في جنة عالية لا يقادر علاها، لا تسمع فيها لاغية أي كلمة باطلة تنغص سعادتهم ولا كلمة نابية تقلق راحتهم. فيها عين جارية من غير أخدود حفر لها، فيها سرر مرفوعة قدرا وحالا ومكانا، وأكواب أقداح لا عرا لها من ذهب وفضة موضوعة لشربهم إن شاءوا شربوا بأيديهم أو ناولتهم غلمانهم، ذاك لون من الشراب أما الفراش فإنها سرر مرفوعة، ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة، وسائد قد صفت للراحة والاتكاء الواحدة إلى جنب الأخرى طنافس ذات خمائل مبثوثة مفروشة هنا وهناك مبسوطة. هذه لمحة خاطفة عن الدار الآخرة تعتبر ذكرى للذاكرين وعظة للمتقين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر عرض سريع لها.
2- من أسماء القيامة الغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها.
3- بيان أن في النار نصبا وتعبا. على عكس الجنة فإنها لا نصب فيها ولا تعب.
4- من مؤلمات النفس البشرية لغو الكلام وكذبه باطله وهو ما ينزه عنه المؤمنون أنفسهم.
[88.17-26]
شرح الكلمات:
أفلا ينظرون: أي أينكرون البعث فلا ينظرون نظر اعتبار.
إلا الإبل كيف خلقت: أي خلقا بديعا معدولا به عن سنن سائر المخلوقات.
وإلى السماء كيف رفعت: أي فوق الأرض بلا عمد ولا مستند.
وإلى الجبال كيف نصبت: أي على وجه الأرض نصبا ثابتا لا يتزلزل.
وإلى الأرض كيف سطحت: أي بسطت.
فذكر: أي ذكرهم بنعم الله ودلائل توحيده.
بمسيطر: أي بمسلط.
معنى الآيات:
قوله تعالى { أفلا ينظرون } أي أينكرون البعث والجزاء وما أعد الله لأوليائه من النعيم المقيم وما أعد لأعدائه من عذاب الجحيم. أفلا ينظرون نظرة اعتبار إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فهل خلق الإبل على تلك الصورة العجيبة وذاك التسخير لها وما فيها من منافع إذ يشرب لبنها ويركب ظهرها ويؤكل لحمها لا يدل على قدرة الخالق على إحياء الموتى وهل خلق السماء بكواكبها وشمسها وقمرها ثم رفعها بغير عمد يدعمها ولا سند يسندها لا يدل على قدرة الله على بعث الموتى أحياء ليحاسبهم ويجزيهم، وهل نصب الجبال بعد خلق ترابها وإيجاد صخورها لا يدل على قدرة الله خالقها على بعث الرمم وإحياء الأجساد البالية كيف شاء ومتى شاء وهل خلق الأرض بكل ما فيها ثم بسطها وتسطيحها للحياة عليها والسير فوقها وتعميرها بأنواع العمران لا يدل على قدرة الله على البعث والجزاء. فما للقوم لا ينظرون ولا يفكرون وقوله تعالى { فذكر إنمآ أنت مذكر لست عليهم بمصيطر } بعد لفت أنظار المشركين إلى ما لو نظروا إليه وتفكروا فيه لاهتدوا إلى الحق وعرفوا أن الخالق لكل شيء لا يعجزه بعث عباده ولا جزاؤهم. أمر رسوله أن يقوم بالمهمة التي أنيطت به وهي التذكير دون الهداية التي هي لله وحده دون سواه فقال له { فذكر إنمآ أنت مذكر } أي ذكر بمظاهر قدرتنا وآياتنا في الآفاق وآلائنا على العباد إنما أنت مذكر ليس غير. وقوله { لست عليهم بمصيطر } أي بمتسلط تجبرهم على الإيمان والاستقامة وقوله { إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر } أي لكن من تولى عن الإيمان فكفر بآياتنا ورسولنا ولقائنا فيعذبه الله العذاب الأكبر وهو عذاب الآخرة. وقوله تعالى { إن إلينآ إيابهم } أي رجوعهم إلينا لا إلى غيرنا. { ثم إن علينا } لا على غيرنا { حسابهم } ومن ثم سوف نجزيهم الجزاء اللائق بهم، ولذا فلا يضرك يا رسولنا إعراضهم ولا توليهم. وحسبك تذكيرهم فمن اهتدى نجا ونجاته لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها إذ عاقبة ضلاله وهي الخسران التام عائدة عليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء بالدعوة إلى النظر إلى الأدلة الموجبة للإيمان به.
2- بيان أن الداعي إلى الله تعالى مهمته الدعوة دون هداية القلوب فإنها إلى الله تعالى وحده.
3- بيان أن مصير البشرية إلى الله تعالى وهي حال تقتضي الإيمان به تعالى وطاعته طلبا للنجاة من عذابه والفوز برحمته. وهو مطلب كل عاقل لو أن الناس يفكرون.
[89 - سورة الفجر]
[89.1-14]
شرح الكلمات:
والفجر: أي فجر كل يوم.
وليال عشر: أي عشر ذي الحجة.
والشفع والوتر: أي الزوج والفرد.
والليل إذا يسر: أي مقبلا أو مدبرا.
لذي حجر: أي حجى وعقل.
بعاد إرم: هي عاد الأولى.
ذات العماد: إذ كان طول الرجل منهم اثني عشر ذراعا.
جابوا الصخر بالواد: أي قطعوا الصخر جعلوا من الصخور بيوتا بوادي القرى.
ذي الأوتاد: أي صاحب الأوتاد وهي أربعة أوتاد يشد إليها يدي ورجلي من يعذبه.
طغوا في البلاد: أي تجبروا فيها وظلموا العباد وأكثروا فيها الفساد.
فأكثروا فيها الفساد: أي الشرك والقتل.
سوط عذاب: أي نوع عذاب.
لبالمرصاد: أي يرصد أعمال العباد ليجزيهم عليها.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والفجر وليال عشر والشفع والوتر واليل إذا يسر } هذه أربعة أشياء قد أقسم الله تعالى بها وهي الفجر وفي كل يوم فجر وجائز أن يكون قد أراد تعالى فجر يوم معين وجائز أن يريد فجر كل يوم { وليال عشر } وهي العشر الأول من شهر ذي الحجة وفيها عرفة والأضحى وقد أشاد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال
" ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله تعالى من عشر ذي الحجة "
والشفع وهو كل زوج والوتر وهو كل فرد فهو إقسام بالخلق كله { واليل إذا يسر } مقبلا أو مدبرا فهو بمعنى والليل إذا سار والسير يكون صاحبه ذاهبا أو آيبا وقوله تعالى { هل في ذلك قسم لذى حجر } أي لذي حجر ولب وعقل أي نعم فيه قسم عظيم وجواب القسم أو المقسم عليه جائز أن يكون قوله تعالى { إن ربك لبالمرصاد } الآتي، وجائز أن يكون مقدرا مثل لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير، وهذا لأن السورة مكية وهي تعالج العقيدة ومن أكبر ما أنكره المشركون البعث والجزاء فلذا هذا الجواب مراد ومقصود. ويدل عليه ما ذكر تعالى من مظاهر قدرته في الآيات بعد والقدرة هي التي يتأتى بها البعث والجزاء فقال عز وجل { ألم تر كيف فعل ربك } أي ألم تنظر بعيني قلبك كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وهي عاد الأولى قوم هود الذين قالوا من أشد منا قوة، وقال لهم نبيهم هود وزادكم في الخلق بسطة فقد كان طول الرجل منهم اثني عشر ذراعا، ولفظ إرم عطف بيان لعاد فإرم هي عاد قوم هود ووصفها بأنها ذات عماد وأنها لم يخلق مثلها في البلاد هو وصف لها بالقوة والشدة وفعلا كانوا أقوى الأمم وأشدها ولازم طول الأجسام أن تكون أعمدة المنازل كأعمدة الخيام من الطول ما يناسب سكانها في طولهم.
ومع هذه القوة والشدة فقد أهلكهم الله الذي هو أشد منهم قوة وقوله تعالى { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد }. أي وانظر كيف فعل ربك بثمود وهم أصحاب الحجر (مدائن صالح) شمال المدينة النبوية قوم صالح الذين كانوا أقوياء أشداء حتى إنهم قطعوا الصخور نحتا لها فجعلوا منها البيوت والمنازل كما قال تعالى عنهم
وتنحتون الجبال بيوتا
[الأعراف: 74] والمراد بالواد واديهم الذي كان بين جبلين من جبالهم التي ينحتون منها البيوت. فمعنى جابوا الصخر بالواد أي قطعوا الصخور بواديهم وجعلوا منها مساكن لهم تقيهم برد الشتاء القارص وحر الصيف اللافح، ومع هذا فقد أهلكهم الله ذو القوة المتين وقوله { وفرعون ذى الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد } وانظر يا رسولنا كيف فعل ربك بفرعون صاحب المشانق والقتل والتعذيب إذ كان له أربعة أوتاد إذا أراد قتل من كفر به وخرج عن طاعته قيد كل يد بوتد وكل رجل بوتد ويقتله كما هي المشانق التي وضعها الطغاة الظلمة فيما بعد. وقوله تعالى { الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد } وهو الشرك والمعاصي فأهلكهم الله أجمعين عاد إرم وثمود وفرعون وملأه إذ صب عليهم ربك سوط عذاب أي نوع عذاب من أنواع عذابه فأهلك عاد إرم بالريح الصرصر، وثمود بالصيحة العاتية، وفرعون بالغرق في البحر. وقوله تعالى { إن ربك لبالمرصاد } أي لكل جبارعات وطاغية ظالم أي هو تعالى يرصد أعمال العباد ليجزيهم بها في الدنيا وفي الآخرة. ولفظ المرصاد يطلق على مكان يرصد فيه تحركات الصيد الذي يصاد، أو تحركات العدو وهو كبرج المراقبة. والرب تبارك وتعالى فوق عرشه والخليقة كلها تحته يعلم ظواهرها وبواطنها ويراقب أعمالها ويجزيها بحسبها قال تعالى
وهو الله في السموت وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون
[الأنعام: 3].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى العاشر منه.
2- بيان مظاهر قدرة الله في إهلاك الأمم العاتية والشعوب الظالمة مستلزم لقدرته تعالى على البعث والجزاء والتوحيد والنبوة وهو ما أنكره أهل مكة.
3- التحذير من عذاب الله ونقمه فإنه تعالى بالمرصاد فليحذر المنحرفون عن سبيل الله والحاكمون بغير شرعه والعاملون بغير هداه أن يصب عليهم سوط عذاب.
[89.15-20]
شرح الكلمات:
فأما الإنسان: أي الكافر المشرك.
ابتلاه: أي اختبره.
وأكرمه ونعمه: أي بالمال والجاه ونعمه بالخيرات.
أكرمن: أي فضلني لمالي من مزايا على غيري .
فقدر عليه رزقه: أي ضيقه ولم يوسعه عليه.
أهانن: أي أذلني بالفقر ولم يشكر الله على ما وهبه من سلامة جوارحه والعافية في جسمه.
كلا: أي ليس الأمر كما يرى هذا الكافر ويعتقد ويقول.
التراث: أي الميراث.
أكلا لما: أي أكلا كثيرا ولما شديدا إذ يلمون نصيب النساء والأطفال لما لهم فلا يورثونهم من التركة.
حبا جما: أي حبا شديدا كثيرا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن } لقد تقدم قول الله تعالى
إن ربك لبالمرصاد
[الآية: 14] وهو دال على أن الله تعالى يحب من عبده أن يعبده ويشكره ليكرمه في دار كرامته يوم لقائه، وإعلام الله تعالى عباده بأنه بالمرصاد يراقب أعمالهم دلالته على أنه يخوفهم من معاصيه ويرغبهم في طاعته واضحة فتلخص من ذلك أن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر وأنه يحب لهم الشكر فأما الإنسان فماذا يحب وماذا يكره قال تعالى عنه فأما الإنسان وهو المشرك وأكثر الناس مشركون إذا ما ابتلاه ربه أي اختبره فأكرمه بالمال والولد والجاه ونعمه بالأرزاق والخيرات لينظر الله هل يشكر أو يكفر فيقول مفاخرا ربي أكرمن أي فضلني على غيري لما لي من فضائل ومزايا لم تكن لهؤلاء الفقراء وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن أي وأما إذا ما اختبره وضيق عليه رزقه لينظر تعالى هل يصبر العبد المختبر أو يجزع فيقول ربي أهانن أي أذلني فأفقرني.
وقوله تعالى { كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحآضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما } أي ألا فارتدعوا أيها الماديون الذين تقيسون الأمور كلها بمقاييس المادة فالله جل جلاله يوسع الرزق اختبارا للعبد هل يشكر نعم الله عليه فيذكرها ويشكرها بالإيمان والطاعة ويضيق الرزق امتحانا هل يصبر العبد لقضاء ربه أو يجزع. وإنما أنتم أيها الماديون ترون أن في التوسعة إكراما وفي التضييق إهانة كلا ليس الأمر كذلك، ونظريتكم المادية هذه أتتكم من حبكم الدنيا واغتراركم بها ويشهد بذلك إهانتكم لليتامى وعدم إكرامكم لهم لضعفهم وعجزهم أمامكم، وعدم الاستفادة المادية منهم. وشاهد آخر أنكم لا تحضون أنفسكم ولا غيركم على إطعام المساكين وهم جياع أمامكم، وآخر أنكم تأكلون التراث أي الميراث أكلا لما شديدا تجمعون مال الورثة من الأطفال والنساء إلى أموالكم. وتحرمون الضعيفين الأطفال والنساء. وآخر وتحبون المال حبا جما أي قويا شديدا. كلا ألا ارتدعوا وأخرجوا من دائرة هذه النظرية المادية قبل حلول العذاب، ونزول ما تكرهون. فآمنوا بالله ورسوله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- النظرية المادية لم تكن حديثة عهد إذ عرفها الماديون في مكة من مشركي قريش قبل أربعة عشر قرنا.
2- وجوب إكرام اليتامى والحض على إطعام الجياع من فقراء ومساكين.
3- وجوب إعطاء المواريث لمستحقيها ذكورا أو إناثا صغارا أو كبارا.
4- التنديد بحب المال الذي يحمل على منع الحقوق، ويزن الأمور بميزانه قوة وضعفا.
[89.21-30]
شرح الكلمات:
إذا دكت الأرض دكا: أي حركت حركة شديدة وزلزلت زلزالا قويا فلم يبق عليها شاخص البتة.
والملك صفا صفا: أي والملائكة أي صفا بعد صف.
وجيء يومئذ بجهنم: أي تجر بسبعين ألف زمام كل زمام بأيدي سبعين ألف ملك.
يتذكر الإنسان: أي الكافر ما قالت له الرسل من وعد الله ووعيده، يوم لقائه.
وأنى له الذكرى: أي لا تنفعه في هذا اليوم الذكرى.
قدمت لحياتي: أي هذه الإيمان وصالح الأعمال.
لا يعذب عذابه أحد: أي لا يعذب مثل عذاب الله أحد أي في قوته وشدته.
ولا يوثق وثاقه أحد: أي ولا يوثق أحد مثل وثاق الله عز وجل.
يا أيتها النفس المطمئنة: أي المؤمنة الآمنة اليوم من العذاب لما لاح لها من بشائر النجاة.
ارجعي إلى ربك: أي إلى جواره في دار كرامته أي الجنة.
فادخلي في عبادي: أي في جملة عبادي المؤمنين المتقين.
وادخلي جنتي: أي دار كرامتي لأوليائي.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إذا دكت الأرض دكا دكا } هو كقوله
وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت
[الانشقاق: 3-4] { وجآء ربك } أي لفصل القضاء { والملك صفا صفا } بعد صف، { وجيء يومئذ بجهنم } تجر بسبعين ألف زمام كل زمام بأيدي سبعين ألف ملك، هنا وفي هذا اليوم وفي هذه الساعة { يتذكر الإنسان } المهمل المفرط المعرض عن دعوة الرسل، الكافر بلقاء الله والجزاء على الأعمال { وأنى له الذكرى } هنا يتذكر وما يتذكر؟، وكفره كان عريضا وشره كان مستطيرا، ماذا يتذكر وهل تنفعه الذكرى، اللهم لا، لا وماذا عساه أن يقول في هذا الموقف الرهيب يقول نادما متحسرا { يليتني قدمت لحياتي } أي هذه الحياة الماثلة بين يديه، وهل ينفعه التمني اللهم لا، لا.
قال تعالى مخبرا عن شدة العذاب وقوة الوثاق { فيومئذ } إذ تقوم القيامة ويجيء الرب لفصل القضاء ويجاء بجهنم ويتذكر الإنسان ويأسف ويتحسر في هذا اليوم يقضي الله تعالى بعذاب أهل الكفر والشرك والفجور والفسوق فيعذبون ويوثقون بأمر الله وقضائه في السلاسل ويغلون في الأغلال ويذوقون العذاب والنكال الأمر الذي ما عرفه الناس في الدنيا أيام كانوا يعذبون المؤمنين ويوثقونهم في الحبال وهو ما أشار إليه بقوله: { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد } أي لا يعذب عذاب أحد في الدنيا مهما بالغ في التعذيب عذاب الله في الآخرة { ولا يوثق وثاقه أحد } أي لا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله في الآخرة هذه صورة من عذاب الله لأعدائه من أهل الشرك به والكفر بآياته ورسوله ولقائه وأما أهل الإيمان به وطاعته وهم أولياؤه الذين آمنوا في الدنيا وكانوا يتقون فها هم ينادون فاستمع { يأيتها النفس المطمئنة } إلى صادق وعد الله ووعيده في كتابه وعلى لسان رسوله فآمنت واتقت وتخلت عن الشرك والشر فكانت مطمئنة بالإيمان وذكر الله قريرة العين بحب الله ورسوله، وما وعدها الرحمن { ارجعي إلى ربك } أي إلى جواره في دار كرامته حال كونك { راضية } ثواب الله لك مرضيا عنك من قبل مولاك { فادخلي في عبادي } أي في جملة عبادي الصالحين { وادخلي جنتي } فيقال لها هذا عندما يرسل الله الأرواح إلى الأجساد يوم المعاد، فإذا دخلت تلقتها الملائكة بالسلام وتساق إلى ساحة العرض وتعطى كتابها بيمينها وثم يقال لها ادخلي في عبادي أي في جملتهم وادخلي جنتي بعد مرورها على الصراط اللهم اجعل نفسي مثل تلك النفس المطمئنة بالإيمان وذكر الله ووعد الرحمن وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير المعاد بعرض شبه تفصيلي ليوم القيامة.
2- بيان اشتداد حسرة المفرطين اليوم في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله يوم القيامة.
3- بشرى النفس المطمئنة بالإيمان وذكر الله ووعده ووعيده، عند الموت وعند القيام من القبر وعند تطاير الصحف.
[90 - سورة البلد]
[90.1-10]
شرح الكلمات:
لا أقسم بهذا البلد: أي مكة.
وأنت حل بهذا البلد: أي وأنت يا نبي الله محمد حلال بمكة.
ووالد وما ولد: أي وآدم وذريته.
في كبد: أي في نصب وشدة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة.
أيحسب أن لن يقدر: أي أيظن وهو أبو الأشدين بن كلدة وكان قويا شديدا.
أهلكت مالا لبدا: يقول هذا مفاخرا بعداوة الرسول وأنه أنفق فيها مالا كثيرا.
أيحسب أن لم يره أحد: أي أيظن أنه لم يره أحد؟ بل الله رآه وعلم ما أنفقه.
وهديناه النجدين: أي بينا له طريق الخير وطريق الشر بما فطرناه عليه من ذلك وبما أرسلنا به رسلنا وأنزلنا به كتبنا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد } هذا قسم لله تعالى أقسم فيه بمكة بلده الأمين والرسول بها وهو حل يقاتل ويقتل فيها وذلك يوم الفتح الموعود. وقد قتل صلى الله عليه وسلم يومها ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وأقسم بوالد وما ولد فالوالد آدم وما ولد ذريته منهم الأنبياء والأولياء وجواب القسم أو المقسم عليه قوله { لقد خلقنا الإنسان في كبد } أي في نصب وتعب لا يفارقانه منذ تخلقه في بطن أمه إلى وفاته بانقضاء عمره ثم يكابد شدائد الآخرة ثم إما إلى نعيم لا نصب معه ولا تعب، وإما إلى جحيم لا يفارقه ما هو أشد من النصب والتعب عذاب الجحيم هكذا شاء الله وهو العليم الحكيم. وفي هذا الخبر الإلهي المؤكد بأجل قسم على أن الإنسان محاط منذ نشأته إلى نهاية أمره بالنصب والتعب ترويح على نفوس المؤمنين بمكة وهم يعانون من الحاجة والاضطهاد والتعذيب أحيانا من طغاة قريش لا سيما المستضعفين كياسر وولده عمار وبلال وصهيب وخبيب، وحتى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهو لم يسلم من أذى المشركين فإذا عرفوا طبيعة الحياة وأن السعادة فيها أن يعلم المرء أن لا سعادة بها هان عليهم الأمر وقل قلقهم وخفت آلامهم. كما هو تنبيه للطغاة وإعلام لهم بما هم عنه غافلون لعلهم يصحون من سكرتهم بحب الدنيا وما فيها وقوله عز وجل { أيحسب } الإنسان { أن لم يره أحد } هذا الإنسان الذي قيل أنه ابو الأشدين الذي أنفق ماله في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام ويتبجح بذلك ويقول { أهلكت مالا لبدا } كثيرا بعضه فوق بعض بلى إن الله تعالى قد رآه وعلم به وعلم القدر الذي أنفقه وسوف يحساب عليه ويجزيه به، ولن ينجيه اعتقاده الفاسد أنه لا بعث ولا جزاء قال تعالى مقررا له بقدرته ونعيمه عليه { ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين } أي أعطيناه عينين يبصر بهما ولسانا ينطق به ويفصح عن مراده وزيناه بشفتين يستر بهما فمه وأسنانه ثم هديناه النجدين أي بينا له طريق الخير والشر والسعادة والشقاء بما أودعنا في فطرته وبما أرسلنا به رسلنا وأنزلنا به كتبنا أنسي هذا كله وتعامى عنه ثم هو ينفق ما أعطيناه في حرب رسولنا وديننا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- شرف مكة وحرمتها وعلو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسمو مقامه وهو فيها وقد أحلها الله تعالى له ولم يحلها لأحد سواه.
2- شرف آدم وذريته الصالحين منهم.
3- إعلان حقيقة وهي أن الإنسان لا يبرح يعاني من أتعاب الحياة حتى الممات ثم يستقبل شدائد الآخرة إلى أن يقر قراره وينتهي تطوافه باستقراره في الجنة حيث يستريح نهائيا، أو في النار فيعذب ويتعب أبدا.
[90.11-20]
شرح الكلمات:
فلا اقتحم: أي فهلا تجاوز.
العقبة: أي الطريق الصعب في الجبل، والمراد به النجاة من النار.
فك رقبة: أي أعتق رقبة في سبيل الله تعالى.
في يوم ذي مسغبة: أي في يوم ذي مجاعة وشدة مؤونة.
يتيما ذا مقربة: أي أطعم يتيما من ذوي قرابته.
مسكينا ذا متربة: أي أطعم فقيرا لاصقا بالتراب ليس له شيء.
وتواصوا بالصبر: أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله.
وتواصوا بالمرحمة: أي أوصى بعضهم بعضا برحمة الفقراء والمساكين.
أصحاب الميمنة: أي أصحاب اليمين وهم المؤمنون المتقون.
أصحاب المشأمة: أي أصحاب الشمال وهم الكفار الفجار.
مؤصدة: أي مطبقة لا نافذة لها ولا كوة فلا يدخلها هواء.
معنى الآيات:
قوله تعالى { فلا اقتحم العقبة } فهلا أنفق أبو الأشدين ما أنفقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم هلا أنفقه في سبيل الله فاقتحم بها العقبة فتجاوزها، وقوله تعالى { ومآ أدراك ما العقبة } هذا تفخيم لشأنها وتعظيم له وقوله { فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } بهذه الأمور الأربعة تقتحم العقبة وتجتاز فينجو صاحبها من النار والأمور الأربعة هي:
1- فك رقبة وقد ورد من أعتق رقبة مؤمنة فداؤه من النار.
2- إطعام في يوم ذي مسغبة أي مجاعة يتيما ذا مقربة أي قرابة أو مسكينا ذا متربة أي ذا لصوق بالأرض لحاجته وشدة فقره.
3- إيمان صادق بالله ورسوله وآيات الله ولقائه يحيا به قلبه.
4- تواصى بالصبر أي مع المؤمنين المستضعفين بالثبات على الحق ولزوم طريقه وتواصي بالمرحمة مع أهل المال أن يرحموا الفقراء والمساكين فيسدوا خلتهم ويقضوا حاجتهم.
بهذه الأربعة تجتاز العقبة وينجو المرء من عذاب الله، وفي مثل هذا تنفق الأموال لا أن تنفق في الدسائس والمكر بالصالحين وخداع المؤمنين.
وقوله تعالى { والذين كفروا بآياتنا } لما ذكر الإيمان والعمل الصالح وهما المنجيان من عذاب الله تعالى ذكر ضدهما وهما الكفر والمعاصي وهما المهلكان الشرك والمعاصي لأن الكفر بآيات الله لازمه البقاء على الشرك المنافي للتوحيد، والعصيان المنافي للطاعة وقوله تعالى { هم أصحاب المشأمة } أي الشمال { عليهم نار مؤصدة } مغلقة الأبواب مطبقة هي جزاؤهم لأنهم كفروا بآيات الله وعصوا رسوله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بمن ينفق ماله في معصية الله ورسوله، والنصح له بالإنفاق في الخير فإنه أجدى له، وأنجى من عذاب الله.
2- بيان أن عقبة عذاب الله يوم القيامة تقتحم وتجتاز بالإنفاق في سبيل الله وبالإيمان والعمل الصالح والتواصي به.
3- التنديد بالكفر والوعيد الشديد لأهله.
[91 - سورة الشمس]
[91.1-10]
شرح الكلمات:
وضحاها: أي ونهارها.
إذا تلاها: أي تلا الشمس فطلع بعد غروبها مباشرة وذلك ليلة النصف من الشهر.
إذا جلاها: أي إذا أضاءها.
إذا يغشاها: أي غشى الشمس حتى تظلم الآفاق.
وما بناها: أي ومن بناها وهو الله عز وجل حيث جعل السماء كالسقف للأرض.
وما طحاها: أي ومن بسطها وهو الله عز وجل.
وما سواها: أي ومن سوى خلقها وعدله وهو الله عز وجل.
فألهمها فجورها: أي فبين لها ما ينبغي لها أن تأتيه أو تتركه من الخير والشر.
أفلح من زكاها: أي فاز بالنجاة من النار ودخول الجنة من طهر نفسه من الذنوب والآثام.
وقد خاب: أي خسر في الآخرة نفسه وأهله يوم القيامة.
من دساها: أي دسى نفسه إذا أخفاها وأخملها بالكفر والمعاصي وأصل دسها دسسها فأبدلت إحدى السينين ياء.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والشمس وضحاها } إلى قوله { وقد خاب من دساها } تضمنت هذه الآيات العشر قسما إلهيا من أعظم الأقسام ومقسما عليه وهو جواب القسم ومقسما لهم وهم سائر الناس فالقسم كان بما يلي بالشمس وضحاها وبالقمر إذا تلاها أي تلا الشمس إذا طلع بعد غروبها وذلك ليلة النصف من الشهر وبالنهار إذا جلاها إذا أضاء فكشف الظلمة أو الدنيا، وبالليل إذا يغشاها أي يغشى الشمس حتى تظلم الآفاق وبالسماء وما بناها على أن ما تكون غالبا لغير العالم وقد تكون للعالم كما هي هنا فالذي بناها هو الله سبحانه وتعالى بالأرض وما طحاها أي بسطها وهو الله تعالى وبالنفس وما سواها أي خلقها وعدل خلقها وهو الله تعالى وقوله فألهمها فجورها وتقواها اي خلقها وسوى خلقها وألهمها أي بين لها الخير والشر أي ما تعمله من الصالحات وما تتجنبه من المفسدات فأقسم تعالى بأربع من مخلوقاته العظام وبنفسه وهو العلي العظيم على ما دل عليه قوله { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } وهو المقسم عليه وهو أن من وفقه الله وأعانه فزكى نفسه أي طهرها بالإيمان والعمل الصالح مبعدا لها عما يدنسها من الشرك والمعاصي فقد أفلح بمعنى فاز يوم القيامة وذلك بالنجاة من النار ودخول الجنة لأن معنى الفوز لغة هو السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب وأن من خذله الله تعالى لما له من سوابق في الشر والفساد فلم يزك نفسه بالإيمان والعمل الصالح ودساها اي دسسها أخفاها وأخملها بما أفرغ عليها من الذنوب وما غطاها من آثار الخطايا والآثام فقد خاب بمعنى خسر في آخرته فلم يفلح فخسر نفسه وأهله وهو الخسران المبين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر القدرة الإلهية في الآيات التي أقسم بها الرب تعالى.
2- بيان بما يكون به الفلاح، وما يكون به الخسران.
3- الترغيب في الإيمان والعمل الصالح والترهيب من الشرك والمعاصي.
[91.11-15]
شرح الكلمات:
ثمود: أي أصحاب الحجر كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام.
بطغواها: أي بسبب طغيانها في الشرك والمعاصي.
إذ انبعث: أي انطلق مسرعا.
أشقاها: أي أشقى القبيلة وهو قدار بن سالف الذي يضرب به المثل فيقال أشأم من قدار.
رسول الله: أي صالح عليه السلام.
ناقة الله وسقياها: أي ذروها وشربها في يومها.
فكذبوه: أي فيما أخبرهم به من شأن الناقة.
فعقروها: أي قتلوها ليخلص لهم ماء شربها في يومها.
فدمدم: أي أطبق عليهم العذاب فأهلكهم.
بذنبهم: أي بسبب ذنوبهم التي هي الشرك والتكذيب وقتل الناقة.
فسواها: أي سوى الدمدم عليهم فلم يفلت منهم أحد.
ولا يخاف عقباها: أي ولا يخاف الرب تعالى تبعة إهلاكهم كما يخاف الإنسان عاقبة فعله إذا هو قتل أحدا أو عذبه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { كذبت ثمود } إلى قوله { ولا يخاف عقباها } هذه الآيات سيقت للتدليل على أمور هي أن الذنوب موجبة لعذاب الله في الدنيا والآخرة، وأن تكذيب الرسول الذي عليه كفار مكة منذر بخطر عظيم إذا استمروا عليه فقد يهلكهم الله به كما أهلك أصحاب الحجر قوم صالح، وأن محمدا رسول الله حقا وصدقا وإن إنكار قريش له لا قيمة له، وأنه لا إله إلا الله. وأن البعث والجزاء ثابتان بأدلة قدرة الله وعلمه فقوله تعالى { كذبت ثمود } إخبار منه تعالى المراد به إنذار قريش من خطر استمرارها على التكذيب وتسلية الرسول والمؤمنين وقوله { بطغواهآ } أي بسبب ذنوبها التي بلغت فيها حد الطغيان الذي هو الإسراف ومجاوزة الحد في الأمر. وبين تعالى ظرف ذلك بقوله { إذ انبعث } أشقى تلك القبيلة الذي هو قدار بن سالف الذي يضرب به المثل في الشقاوة فيقال أشأم من قدار وقال فيه رسول الله أشقى الأولين والآخرين قدار بن سالف وقوله فقال لهم رسول الله أي صالح { ناقة الله } أي احذروها فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ذروها وسقياها أي وماء شربها إذ كان الماء قسمة بينهم لها يوم ولهم يوم. { فكذبوه } في ذلك وفي غيره من رسالته ودعوته إلى عبادة الله وحده { فعقروها } أي فذبحوها { فدمدم عليهم ربهم } أي أطبق عليهم العذاب وعمهم به فلم ينج منهم أحد وذلك بذنبهم لا بظلم منه تعالى، { فسواها } في النقمة والعذاب { ولا يخاف عقباها } أي تبعة تلحقه من هلاكها إذ هو رب الكل ومالك الكل وهو القاهر فوق عباده وهو العزيز الحكيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن نجاة العبد من النار ودخوله الجنة متوقف على زكاة نفسه وتطهيرها من أوضار الذنوب والمعاصي، وأن شقاء العبد وخسرانه سببه تدنيسه نفسه بالشرك والمعاصي وكل هذا من سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات.
2- التحذير من الطغيان وهو الإسراف في الشر والفساد فإنه مهلك ومدمر وموجب للهلاك والدمار في الدنيا والعذاب في الآخرة.
3- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه إذ كذبت قبل قريش ثمود وغيرها من الأمم كأصحاب مدين وقوم لوط وفرعون.
4- إنذار كفار قريش عاقبة الشرك والتكذيب والمعاصي من الظلم والاعتداء.
[92 - سورة الليل]
[92.1-11]
شرح الكلمات:
إذا يغشى: أي بظلمته كل ما بين السماء والأرض في الإقليم الذي يكون به.
إذا تجلى: أي تكشف وظهر في الإقليم الذي هو به وإذا هنا وفي التي قبلها ظرفية وليست شرطية.
وما خلق الذكر والأنثى: أي ومن خلق الذكر والأنثى آدم وحواء وكل ذريتهما وهو الله تعالى.
إن سعيكم لشتى: أي إن عملكم أيها الناس لمختلف منه الحسنة المورثة للجنة ومنه السيئة الموجبة للنار.
من أعطى واتقى: أي حق الله وأنفق في سبيل الله واتقى ما يسخط الله تعالى من الشرك والمعاصي.
وصدق بالحسنى: أي بالخلف لحديث اللهم أعط منفقا خلفا.
فسنيسره لليسرى: أي فسنيسره للخلة أي الخصلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ليوجب له به الجنة في الآخرة.
وأما من بخل واستغنى: أي منع حق الله والإنفاق في سبيل الله واستغنى بماله عن الله فلم يسأله من فضله ولم يعمل عملا صالحا يتقرب به إليه.
وكذب بالحسنى: أي بالخلف وما ثتمره الصدقة والإيمان وهو الجنة.
فسنيسره للعسرى: فسنهيئه للخلة العسرى وهي العمل بما يكرهه الله ولا يرضاه ليكون قائده إلى النار.
إذا تردى: أي في جهنم فسقط فيها.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والليل } أقسم تعالى بالليل { إذا يغشى } بظلامه الكون، وبالنهار { إذا تجلى } أي تكشف وظهر وهما آيتان من آيات الله الدالتان على ربوبيته تعالى الموجبة لألوهيته، وأقسم بنفسه جل وعز فقال { وما خلق الذكر والأنثى } أي والذي خلق الذكر والأنثى آدم وحواء ثم سائر الذكور وعامة الإناث من كل الحيوانات وهو مظهر لا يقل عظمة على آيتي الليل والنهار والمقسم عليه أو جواب القسم هو قوله { إن سعيكم لشتى } أي إن عملكم أيها الناس لمختلف منه الحسنات الموجبة للسعادة والكمال في الدارين ومنه السيئات الموجبة للشقاء في الدارين أي دار الدنيا ودار الآخرة. وبناء على هذا { فأما من أعطى } حق الله في المال فأنفق وتصدق في سبيل الله { واتقى } الله تعالى فآمن به وعبده ولم يشرك به { وصدق بالحسنى } التي هي الخلف أي العوض المضاعف الذي واعد به تعالى من ينفق في سبيله في قوله
ومآ أنفقتم من شيء فهو يخلفه
[سبأ: 39] وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح
" ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا "
، فسيهيئه للخلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ويثيبه عليه في الآخرة بالجنة { وأما من بخل } بالمال فلم يعط حق الله فيه ولم يتصدق متطوعا في سبيل الله { واستغنى } بماله وولده وجاهه فلم يتقرب إلى الله تعالى بطاعته في ترك معاصيه ولا في أداء فرائضه وكذب بالخلف من الله تعالى على من ينفق في سبيله { فسنيسره للعسرى } أي فسنهيئه للخلة العسرى وهي العمل بما يكره الله تعالى ولا يرضاه من الذنوب والآثام ليكون ذلك قائده إلى النار.
وقوله تعالى { وما يغني عنه ماله إذا تردى } يخبر تعالى بأن من بخل واستغنى وكذب بالحسنى حفاظا على ماله وشحا به وبخلا أن ينفقه في سبيل ربه هذا المال لا يغني عنه شيئا يوم القيامة إذا ألقي به في نار جهنم فتردى ساقطا فيها على أم رأسه كما قال تعالى
وأما من خفت موازينه
[القارعة: 8] أي لعدم الحسنات الكافية فيها
فأمه هاوية ومآ أدراك ما هيه نار حامية
[القارعة: 9-11].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان عظمة الله وقدرته وعلمه الموجبة لربوبيته المقتضية لعبادته وحده دون سواه.
2- تقرير القضاء والقدر وهو أن كل إنسان ميسر لما خلق له من سعادة أو شقاء لحديث
" اعملوا فكل ميسر لما خلق له "
، مع تقرير أن من وفق للعمل بما يرضى الله تعالى كان ذلك دليلا على أنه مكتوب سعيدا إذا مات على ما وفق له من العمل الصالح. وأن من وفق للعمل المسخط لله تعالى كان دليلا على أنه مكتوب شقاوته إن هو مات على ذلك.
3- تقرير أن التوفيق للعمل بالطاعة يتوقف حسب سنة الله تعالى على رغبة العبد وطلبه ذلك والحرص عليه واختياره على غيره وتسخير النفس والجوارح له. كما أن التوفيق للعمل الفاسد قائم على ما ذكرنا في العمل الصالح وهو اختيار العبد وطلبه وحرصه وتسخير نفسه وجوارحه لذلك هذه سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
[92.12-21]
شرح الكلمات:
إن علينا للهدى: أي إن علينا لبيان الحق من الباطل والطاعة من المعصية.
وإن لنا للآخرة والأولى: أي ملك ما في الدنيا والآخرة نعطي ونحرم من نشاء لا مالك غيرنا.
فأنذرتكم: أي خوفتكم.
نارا تلظى: أي تتوقد.
لا يصلاها: أي لا يدخلها ويحترق بلهبها.
إلا الأشقى: أي إلا الشقي.
الذي كذب وتولى: كذب النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وتولى أعرض عن الإيمان به وبما جاء به من التوحيد والطاعة لله ورسوله.
وسيجنبها الأتقى: أي يبعد عنها التقي.
يتزكى: أي يتطهر به فلذا يخليه من النظر إلى غير الله فهو لذلك خال من الرياء والسمعة.
وما لأحد عنده من نعمة تجزى: أي ليس لأحد من الناس عليه منة فهو يكافئه بذلك.
إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى: لكن يؤتي ماله في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
ولسوف يرضى: أي يعطيه الله تعالى من الكرامة ما يرضي به في دار السلام.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إن علينا للهدى } الآيات.. بعد أن علم تعالى عباده أن ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى، وأنه ييسر للعسرى من بخل واستغنى وكذب بالحسنى أعلم بحقيقة أخرى وهي أن بيان الطريق الموصل بالعبد لليسرى هو على الله تعالى متكفل به وقد بينه بكتابه ورسوله فمن طلب اليسرى فأولا يؤمن بالله ورسوله ويوطن نفسه على طاعتهما ويأخذ في تلك الطاعة يعمل بها وثانيا ينفق في سبيل الله ما يطهر به نفسه من البخل وشح النفس ويظهر فقره وحاجته إلى الله تعالى بالتقرب إليه بالنوافل وصالح الأعمال وبذلك يكون قد يسر فعلا لليسرى وقوله تعالى { وإن لنا للآخرة والأولى } أي الدنيا وعليه فمن طلبها من غيرنا فقد أخطأ ولا يحصل عليها بحال فطلب الآخرة يكون بالإيمان والتقوى، وطلب الدنيا يكون بالعمل حسب سنتنا في الكسب وحصول المال وقوله تعالى { فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلهآ إلا الأشقى الذي كذب وتولى } أي فبناء على ما بينا لكم فقد أنذرتكم أي خوفتكم نارا تلظى أي تتوقد التهابا لا يصلاها لا يدخلها ويصطلي بحرها خالدا فيها أبدا إلا الأشقى اي الأكثر شقاوة وهو المشرك وقد يدخلها الشقي من اهل التوحيد ويخرج منها بتوحيده، حيث لم يكذب ولم يتول، ولكن فجر وعصى، وما أشرك وما تولى، وقوله تعالى { وسيجنبها الأتقى الذى يؤتي ماله يتزكى } اي يعطي ماله في سبيل الله يتزكى به من مرض الشح والبخل وآثار الذنوب والإثم، وقوله { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغآء وجه ربه الأعلى } أي فهو ينفق ما ينفقه في سبيل الله خاصة وليس ما ينفقه من أجل أن عليه لأحد من الناس فضلا أو يدا فهو يكافئه بها لا لا، وإنما هو ينفق ابتغاء وجه ربه الأعلى أي يريد رضا ربه تعالى لا غير.
قال تعالى { ولسوف يرضى } أي ما دام ينفق ابتغاء وجهنا فقط فسوف نكافئه ونعطيه عطاء يرضى به وذلك في الجنة دار السلام. هذه الآية الكريمة نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد كان في مكة يشتري العبيد من مواليهم الذين يعذبونهم من أجل إسلامهم فكان يشتريهم ويعتقهم لوجه الله تعالى ومنهم بلال رضي الله عنه فقال المشركون إنما فعل ذلك ليد عنده أي نعمه فهو يكافيه بها فأكذبهم الله في ذلك وأنزل قوله وسيجنبها الأتقى الآيات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الله تعالى متكفل بطريق الهدى فأرسل الرسل وأنزل الكتاب فأبان الطريق وأوضح السبيل.
2- بيان أن لله تعالى وحده الدنيا والآخرة فمن أرادهما أو إحداهما فليطلب ذلك من الله تعالى فالآخرة تطلب بالإيمان والتقوى والدنيا تطلب باتباع سنن الله تعالى في الحصول عليها.
3- بيان فضل أبي بكر الصديق وأنه مبشر بالجنة في هذه الآية الكريمة.
[93 - سورة الضحى]
[93.1-11]
شرح الكلمات:
والضحى: أي أول النهار ما بين طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى الزوال.
والليل إذا سجى: غطى بظلامه المعمورة وسكن فسكن الناس وخلدوا إلى الراحة.
ما ودعك: أي ما تركك ولا تخلى عنك.
وما قلى: أي ما أبغضك.
ألم يجدك يتيما: أي فاقد الأب إذ مات والده قبل ولادته.
فآوى: أي فآواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب.
ووجدك ضالا: أي لا تعرف دينا ولا هدى.
ووجدك عائلا: أي فقيرا.
فأغنى: أي بالقناعة، وبما يسر لك من مال خديجة وأبي بكر الصديق.
فلا تقهر: أي لا تذله ولا تأخذ ماله.
فلا تنهر: أي لا تنهره بزجر ونحوه.
وأما بنعمة ربك فحدث: أي اذكر ما أنعم الله تعالى به عليك شكرا له على ذلك.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } هذا قسم من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أقسم له به على أنه ما تركه ولا أبغضه. وذلك أنه أبطأ عنه الوحي أياما فلما رأى ذلك المشركون فرحوا به وعيروه فجاءت امرأة وقالت ما أرى شيطانك إلا قد تركك. فحزن لذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله سورة الضحى يقسم له فيها بالضحى وهو أول النهار من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى ما قبل الزوال بقليل، وبالليل إذا سجى أي غطى بظلامه المعمورة وسكن فسكن الناس وخلدوا إلى الراحة فيه { ما ودعك ربك } يا محمد أي تركك { وما قلى } أي ما أبغضك { وللآخرة خير لك من الأولى } أي الدنيا وذلك لما أعد الله لك فيها من الملك الكبير والنعيم العظيم المقيم. وسوف يعطيك ربك من فواضل نعمه حتى ترضى في الدنيا من كمال الدين وظهور الأمر في الآخرة الشفاعة وأن لا يبقى أحد من أمته أهل التوحيد في النار والوسيلة والدرجة الرفيعة التي لا تكون لأحد سواه.
وقوله تعالى { ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضآلا فهدى ووجدك عآئلا فأغنى } هذه ثلاث منن لله تعالى على رسوله منها عليه وذكره بها ليوقن أن الله معه وله وأنه ما تركه ولن يتركه وحتى تنتهي فرحة المشركين ببطء الوحي وتأخره بضعة أيام. فالمنة الأولى أن والد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات عقب ولادته وأمه ماتت بعيد فطامه فآواه ربه بأن ضمه إلى عمه أبي طالب فكان أبا رحيما وعما كريما له وحصنا منيعا له، ولم يتخل عن نصرته والدفاع عنه حتى وفاته والثانية منة العلم والهداية فقد كان صلى الله عليه وسلم يعيش في مكة كأحد رجالاتها لا يعرف علما ولا شرعا وإن كان معصوما من مقارفة أي ذنب أو ارتكاب أية خطيئة إلا أنه ما كان يعرف إيمانا ولا إسلاما ولا شرعا كما قال تعالى:
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان
[الشورى: 52] والثالثة منته عليه بالغنى بعد الحاجة فقد مات والده ولم يخلف أكثر من جارية هي بركة أم أيمن وبضعة جمال، فأغناه الله بغنى القناعة فلم يمد يده لأحد قط وكان يقول
" ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني غني النفس "
هذه ثلاث منن إلهية وما أعظمها والمنة تتطلب شكرا والله يزيد على الشكر ومن هنا أرشد الله تعالى رسوله إلى شكر تلك النعم ليزيده عليها فقال فأما { فأما اليتيم فلا تقهر } لا تقهره بأخذ ماله أو إذلاله أو أذاه ذاكرا رعاية الله تعالى لك أيام يتمك. { وأما السآئل } وهو الفقير المسكين وذو الحاجة يسألك ما يسد خلته فاعطه ما وجدت عطاء أو ورده بكلمة طيبة تشرح صدره وتخفف ألم نفسه ولا تنهره بزجر عنيف ولا بقول غير لطيف ذاكرا ما كنت عليه من حاجة وما كنت تشعر به من احتياج { وأما بنعمة ربك فحدث } أي اشكر نعمة الإيمان والإحسان والوحي والعلم والفرقان وذلك بالتحدث بها ابلاغا وتعليما وتربية وهداية فذاك شكرها والله يحب الشاكرين هكذا أدب الله جل جلاله ورسوله وخليله فأكمل تأديبه وأحسه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الدنيا لا تخلو من كدر وصدق الله العظيم
لقد خلقنا الإنسان في كبد
[البلد: 4].
2- بيان علو المقام المحمدي وشرف مكانته.
3- مشروعية التذكير بالنعم والنقم حملا للعبد على الصبر والشكر.
4- وجوب شكر النعم بصرفها في مرضاة المنعم عز وجل.
5- تقرير معنى الحديث
" إذا أنعم الله تعالى على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه ".
[94 - سورة الشرح]
[94.1-8]
شرح الكلمات:
ألم: الاستفهام للتقرير أي إن الله تعالى يقرر رسوله بنعمه عليه.
نشرح لك صدرك: أي بالنبوة، وبشقه وتطهيره وملئه إيمانا وحكمة.
ووضعنا عنك وزرك: أي حططنا عنك ما سلف من تبعات أيام الجاهلية قبل نبوتك.
الذي أنقض ظهرك: أي الذي أثقل ظهرك حيث كان يشعر صلى الله عليه وسلم بثقل السنين التي عاشها قبل النبوة لم يعبد فيها الله تعالى بفعل محابه وترك مكارهه لعدم علمه بذلك.
ورفعنا لك ذكرك: أي أعليناه فاصبحت تذكر معي في الآذان والإقامة والتشهد.
فإن مع العسر يسرا: أي مع الشدة سهولة.
فإذا فرغت: أي من الصلاة.
فانصب: أي اتعب في الدعاء.
وإلى ربك فارغب: أي فاضرع إليه راغبا فيما عنده من الخيرات والبركات.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك } هذه ثلاث منن أخرى بعد المنن الثلاث التي جاءت في السورة قبلها منها الله تعالى على رسوله بتقريره بها فالأولى بشرح صدره ليتسع للوحي ولما سيلقاه من قومه من سيء القول وباطل الكلام الذي يضيق به الإنسان والثانية وضع الوزر عنه فإنه صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن له وزر حقيقة فإنه كان يشعر بحمل ثقيل من جراء ترك العبادة والتقرب إلى الله تعالى في وقت ما قبل النبوة ونزول الوحي عليه إذ عاش عمرا أربعين سنة لم يعرف فيها عبادة ولا طاعة لله، أما مقارفة الخطايا فقد كان محفوظا بحفظ الله تعالى له فلم يسجد لصنم ولم يشرب خمرا ولم يقل أو يفعل إثما قط. فقد شق صدره وهو طفل في الرابعة من عمره وأخرجت منه العلقة التي هي محطة الشيطان التي ينزل بها من صدر الإنسان ويوسوس بالشر للإنسان والثالثة رفع الذكر أي ذكره صلى الله عليه وسلم إذ قرن اسمه باسمه تعالى في التشهد وفي الأذان والإقامة وذلك الدهر كله وما بقيت الحياة. وقوله تعالى { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا } فهذه بشرى بقرب الفرج له ولأصحابه بعد ذلك العناء الذي يعانون والشدة التي يقاسون ومن ثم بشر صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو يقول
" لن يغلب عسر يسرين لن يغلب عسر يسرين "
وقوله { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } هذه خطة لحياة المسلم وضعت لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ليطبقها أمام المسلمين ويطبقونها معهم حتى الفوز بالجنة والنجاة من النار وهي فإذا فرغت من عمل ديني فانصب لعمل دنيوي وإذا فرغت من عمل دنيوي فانصب لعمل ديني أخروي فمثلا فرغت من الصلاة فانصب نفسك للذكر والدعاء بعدها، فرغت من الصلاة والدعاء فانصب نفسك لدنياك، فرغت من الجهاد فانصب نفسك للحج.
ومعنى هذا أن المسلم يحيا حياة الجد والتعب فلا يعرف وقتا للهو واللعب أو للكسل والبطالة قط وقوله إلى ربك فارغب ارغب بعد كل عمل تقوم به في مثوبة ربك وعطائه وما عنده من الفضل والخير إذ هو الذي تعمل له وتنصب من أجله فلا ترغب في غيره ولا تطلب سواه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما أكرم الله تعالى به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من شرح صدره ومغفرة ذنوبه ورفع ذكره.
2- بيان أن انشراح صدر المؤمن للدين واتساعه لتحمل الأذى في سبيل الله نعمة عظيمة.
3- بيان أن مع العسر يسرا دائما وأبدا، ولن يغلب عسر يسرين فرجاء المؤمن في الفرح دائم.
4- بيان أن حياة المؤمن ليس فيها لهو ولا باطل ولا فراغ لا عمل فيه أبدا ولا ساعة من الدهر قط وبرهان هذه الحقيقة أن المسلمين من يوم تركوا الجهاد والفتح وهم يتراجعون إلى الوراء في حياتهم حتى حكمهم الغرب وسامهم العذاب والخسف حتى المسخ والنسخ وقد نسخ إقليم الأندلس ومسخت أقاليم في بلاد الروس والصين حتى الأسماء غيرت.
[95 - سورة التين]
[95.1-8]
شرح الكلمات:
والتين والزيتون: هما المعروفان التين فاكهة والزيتون ما يستخرج منه الزيت.
وطور سنين: جبل الطور الذي ناجى الرب تعالى فيه موسى عليه السلام.
وهذا البلد الأمين: مكة المكرمة لأنها بلد حرام لا يقاتل فيها فمن دخلها آمن.
لقد خلقنا الإنسان: جنس الإنسان آدم عليه السلام وذريته.
في أحسن تقويم: أي في أجمل صورة في اعتدال الخلق وحسن التركيب.
أسفل سافلين: أي إلى أرذل العمر حتى يخرف ويصبح لا يعلم بعد أن كان يعلم.
أجر غير ممنون: أي غير منقطع فالشيخ الهرم الخرف المسلم يكتب له ما كان يفعله أيام قدرته على العمل فأجره لا ينقطع إلا بموته.
معنى الكلمات:
قوله تعالى { والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين } هذا قسم جليل من أقسام الرب تعالى حيث أقسم فيه بأربعة أشياء وهي التين وهو التين المعروف وهو أشبه شيء بفاكهة الجنة لخلوه من العجم. وما يوجد بداخل الفاكهة كالنواة ونحوها، والزيتون وهو ذو منافع يؤكل ويدهن به ويستصبح به ويتداوى به كذلك، وبطور سينين وهو جبل سينا في فلسطين إذ تم عليه أكبر حدث في تاريخ الحياة وهو أن الله تعالى كلم موسى بن عمران نبي بني إسرائيل عليه عدة مرات وأسمعه كلامه وتجلى للجبل فصار دكا. وبمكة أم القرى التي دحيت الأرض من تحتها وفيها بيت الله وحولها حرمه هذا قسم عظيم وجوابه قوله تعالى { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فلهم أجر غير ممنون } ولقد تضمن هذا الجواب لذلك القسم أكبر مظاهر القدرة والعلم والرحمة وهي موجبة للإيمان بالله وتوحيده ولقائه وهو ما كذب به أهل مكة وأنكروه وبيان ذلك أن الإنسان كائن حي مخلوق فخالقه ذو قدرة قطعا وتعديل خلقه بنصب قامته وتسوية أعضائه وحسن سمته وجمال منظره دال على علم وقدرة وهي موجبة للإيمان بالله ولقائه إذ القادر على خلق الإنسان اليوم وقبل اليوم قادر على خلقه غدا كما شاء متى شاء ولا يرد هذا إلا أحمق جاهل، وقوله ثم رددناه أسفل سافلين وذلك بهرم بعض أفراده والنزول بهم إلى ما أسفل من سن الطفولة حيث يصبح الرجل فاقدا لعقله وقواه فيفقد قواه العقلية والبدنية وقوله { إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فلهم أجر غير ممنون } وهو أن كانوا يقومون به من الفرائض والنوافل وسائر الطاعات والقربات لا ينقطع أجرهم منها بكبرهم وعدم قيامهم بها في سن الشيخوخة والهرم والخرف بخلاف الكافر والفاجر والفاسق فليس لهم أعمال لا تنقطع إلا من سن منهم سنة سيئة فإن ذنبه لا ينقطع ما بقى من يعمل بتلك السنة السيئة.
وقوله تعالى { فما يكذبك بعد بالدين } أي فمن يقدر على تكذيبك يا رسولنا بعد هذه الآيات والحجج والبراهين الدالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته فمن يكذب بالبعث والجزاء على الكسب الإرادي الاختياري في هذه الحياة من خير وشر فإنه وإن كذب بالدين وهو الجزاء الأخروي على عمل المكلفين في هذه الحياة الدنيا فإن هذا التكذيب قائم على أساس العناد والمكابرة إذ الحجج الدالة على يوم الدين والجزاء فيه تجعل المكذب به مكابرا أو جاحدا لا غير. وقوله تعالى { أليس الله بأحكم الحاكمين }؟ بلى فليس هناك أعدل من الله وأحسن حكما فكيف يظن إذا أن الناس يعملون متفاوتين في أعمالهم في هذه الدنيا ثم يموتون سواء ولا جزاء بعد بالثواب ولا بالعقاب هذا ظلم وباطل ومنكر ينزه الرب عنه سبحانه وتعالى فقضية البعث الآخر لا تقبل الجدل والمماحكة بحال من الأحوال.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان منافع التين والزيتون واستحباب غرس هاتين الشجرتين والعناية بهما.
2- بيان شرف مكة. وحرمها.
3- بيان فضل الله على الإنسان في خلقه في أحسن صورة وأقوم تعديل.
4- تقرير فضل الله على الإنسان المسلم وهو أنه يطيل عمره فإذا هرم وخرف كتب له كل ما كان يعمله من الخير ويجانبه من الشر.
5- مشروعية قول بلى وأنا على ذلك من الشاهدين بعد قراءة والتين إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
[96 - سورة العلق]
[96.1-5]
شرح الكلمات:
اقرأ: أي أوجد القراءة وهي جمع الكلمات ذات الحروف باللسان.
باسم ربك: أي بذكر اسم ربك.
الذي خلق: أي خلق آدم من سلالة من طين.
خلق الإنسان: أي الإنسان الذي هو ذرية آدم.
من علق: أي جمع علقة وهي النطفة في الطور الثاني حيث تصير علقة أي قطعة من الدم الغليظ.
وربك الأكرم: أي الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله ولا يساويه.
الذي علم بالقلم: أي علم العباد الكتابة والخط بالقلم.
علم الإنسان: أي جنس الإنسان.
ما لم يعلم: أي ما لم يكن يعلمه من سائر العلوم والمعارف.
معنى الآيات:
قوله تعالى { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } هذه الآيات الخمس من أول ما نزل من القرآن الكريم لأحاديث الصحاح فيها فإن مما اشتهر في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي حراء يتحنث فيه أي يزيل الحنث فرارا مما عليه قومه من الشرك والباطل حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء فقال يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله ثم قال اقرأ قلت ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق فقرأت الحديث.
وقوله تعالى { اقرأ باسم ربك } يأمر الله تعالى رسوله أن يقرأ بادئا قراءته بذكر اسم ربه أي باسم الله الرحمن الرحيم وقوله { الذي خلق } أي خلق الخلق كله وخلق آدم من طين وخلق الإنسان من أولاد آدم من علق والعلق اسم جمع واحدة علقة وهي قطعة من الدم غليظة كانت في الأربعين يوما الأولى في الرحم نطفة ثم تطورت إلى علقة تعلق بجدار الرحم ثم تتطور في أربعين يوما إلى مضعة لحم، ثم إما أن يؤذن بتخلقها فتخلق وإما لا فيطرحها الرحم قطعة لحم وقوله { اقرأ وربك } تأكيد للأمر الأول لصعوبة الأمر واندهاش الرسول صلى الله عليه وسلم للمفاجأة { اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم } أي وربك الأكرم هو الذي علم بالقلم عباده الكتابة والخط. وقوله { علم الإنسان ما لم يعلم } أي من كرمه الذي أفاض منه على عباده نعمه التي لا تحصى إنه علم الإنسان بواسطة القلم ما لم يكن يعلم من العلوم والمعارف وهذه إشادة بالقلم وأنه واسطة العلوم والمعارف والواسطة تشرف بشرف الغاية المتوسط لها فلذا كان لا أشرف في الدنيا من عباد الله الصالحين والعلوم الإلهية في الكتاب والسنة وما دعوا إليه وحضا عليه من العلوم النافعة للإنسان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير الوحي الإلهي وإثبات النبوة المحمدية.
2- مشروعية ابتداء القراءة بذكر اسم الله ولذا افتتحت سور القرآن ما عدا التوبة ببسم الله الرحمن الرحيم.
3- بيان تطور النطفة في الرحم إلى علقة ومنها يتخلق الإنسان.
4- إعظام شأن الله تعالى وعظم كرمه فلا أحد يعادله في الكرم.
5- التنويه بشأن الكتابة والخط بالقلم إذ المعارف والعلوم لم تدون إلا بالكتابة والقلم.
6- بيان فضل الله تعالى على الإنسان في تعليمه ما لم يكن يعلم بواسطة الكتابة والخط.
[96.6-19]
شرح الكلمات:
كلا: أي لا أداة استفتاح وتنبيه لكسر إن بعدها.
إن الإنسان: أي ابن آدم قبل أن تتهذب مشاعره وأخلاقه بالإيمان والآداب الشرعية.
ليطغى: أي يتجاوز الحد المفروض له في سلوكه ومعاملاته.
أن رآه استغنى: أي عندما يرى نفسه قد استغنى بما له أو ولده أو سلطانه.
إن إلى ربك الرجعى: أي إن إلى ربك أيها الرسول الرجعى أي الرجوع والمصير.
الذي ينهى عبدا إذا صلى: أي أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي لعنه الله.
إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى: أي هو رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني.
إن كذب وتولى: أي هو أبو جهل.
لئن لم ينته: أي من أذية رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ومنعه من الصلاة خلف المقام.
لنسفعا بالناصية: أي لنأخذن بناصيته ونسحبه إلى نار جهنم.
فليدع ناديه: أي رجال مجلسه ومنتداه.
سندع الزبانيه: أي خزان جهنم.
كلا: أي ارتدع أيها الكاذب الكافر.
واقترب: أي منه تعالى وذلك بطاعته.
معنى الآيات:
قوله تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى } يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان قبل أن يهذبه الإيمان والمعارف الإلهية المشتملة على معرفة محاب الله تعالى، ومساخطه أنه إذا رأى نفسه قد استغنى بماله أو ولده أو سلطانه أو بالكل وما أصبح في حاجة إلى غيره يطغى فيتجاوز حد الآداب والعدل والحق والعرف فيتكبر ويظلم ويمنع الحقوق ويحتقر الضعفاء ويسخر بغيره. وأبو جهل كان مضرب المثل في هذا الوصف وصف الطغيان حتى قيل إنه فرعون هذه الأمة، وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد الحرام خلف المقام فيأتيه هذا الطاغية ويهدده ويقول له لقد نهيتك عن الصلاة هنا فلا تعد، ويقول له إن وجدتك مرة أخرى آخذ بناصيتك وأسحبك على الأرض فينزل الله تعالى هذه الآيات { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } فيقف برسوله على حقيقة ما كان يعلمها وهي أن ما يجده من أبي جهل وأضرابه من طغاة قريش علته كذا وكذا ويسليه فيقول له وإن طغوا وتجبروا إن مرجعهم إلينا وسوف ننتقم لك منهم { إن إلى ربك } يا رسولنا { الرجعى } إذا فاصبر على أذاهم وانتظر ما سيحل بهم إن مصيرهم إلينا لا إلى غيرنا وسوف ننتقم منهم ثم يقول له قولا يحمل العقلاء على التعجب من سلوك أبي جهل الشائن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى }؟ وهل الذي يصلي ينهى عن الصلاة وهل الصلاة جريمة وهل في الصلاة ضرر على أحد؟ فكيف ينهى عنها؟ ويقول له { أرأيت إن كان } أي المصلي الذي نهى عن الصلاة وهو الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم { على الهدى } الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة وكرامتهما؟ { أو أمر بالتقوى } أي أمر غيره بما يتقي به عذاب الدنيا والآخرة، هل الأمر بالهدى والتقوى أي بأسباب النجاة والسعادة يعادي ويحارب؟ ويضرب ويهدد؟ إن هذا لعجب العجاب.
ويقول أرأيت يا رسولنا إن كذب هذا الذي ينهى عبدا إذا صلى أي كذب بالحق والدين وتولى عن الإيمان والشرع، كيف يكون حاله يوم يلقى ربه؟ { ألم يعلم بأن الله يرى } أي يرى أفعاله الاستفزازية المقيتة وتطاوله على رسول الله وتهديده له بالضرب إن وجده يصلي خلف المقام. بعد هذه الدعوة للطاغية لعله يرجع إلى الحق إذا سمعه، وإذا به يزدادا طغيانا ويقول في مجلس قريش يقول واللات والعزى لئن رأيت محمدا صلى الله عليه وسلم يصلي لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه على التراب، وفعلا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على ركبته فإذا به ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له مالك فقال إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا وأنزل الله تعالى { كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة } أي صاحبها وهو أبو جهل أي لئن لم ينته عن أذيه رسولنا وتعرضه له في صلاته ليمنعه منها لنأخذن بناصيته ونجره إلى جهنم عيانا.
{ فليدع } حينئذ رجال ناديه ومجلس قومه فإنا ندعو الزبانية أي خزنة النار من الملائكة كلا فليرتدع هذا الطاغية وليعلم أنه لن يقدر على أن يصل إلى رسولنا بعد اليوم بأذى.
وقال تعالى لرسوله بعد تهديده للطاغية، وردعه له، وارتدع فعلا ولم يجرؤ بعد ذلك اليوم أن يمد لسانه، ولا يده بسوء لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم { لا تطعه } فيما يطلب منك من ترك الصلاة في المسجد الحرام فقد كفيناك شره { واقترب } إلينا بالطاعات ومن أهمها الصلاة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سبب نزول الآيات كلا إن الإنسان ليطغى إلى آخر السورة.
2- بيان طبع الإنسان إذا لم يهذب بالإيمان والتقوى.
3- نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالملائكة عيانا في المسجد الحرام.
4- تسجيل لعنة الله على فرعون الأمة أبي جهل وأنه كان أظلم قريش لرسول الله وأصحابه.
5- مشروعية السجود عند تلاوة هذه السورة إذا قرأ فاسجد واقترب شرع له السجود إلا أن يكون يصلي بجماعة في الصلاة السرية فلا يسجد لئلا يفتنهم.
[97 - سورة القدر]
[97.1-5]
شرح الكلمات:
إنا أنزلناه: أي القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا.
في ليلة القدر: أي ليلة الحكم والتقدير التي يقضي فيها قضاء السنة كلها.
وما أدراك ما ليلة القدر: أي إن شأنها عظيم.
ليلة القدر خير من ألف شهر: أي العمل الصالح فيها من صلاة وتلاوة قرآن ودعاء خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر.
والروح فيها: أي جبريل في ليلة القدر.
بإذن ربهم: أي ينزلون بأمره تعالى لهم بالتنزيل فيها.
من كل أمر: أي من كل أمر قضاه الله تعالى في تلك السنة من رزق وأجل وغير ذلك.
سلام هي حتى مطلع الفجر: أي هي سلام من الشر كله من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إنا أنزلناه } أي القرآن الكريم الذي كذب به المكذبون وأنكره الكافرون يخبر تعالى أن ما يتلوه عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو حق وحي الله وكتابه أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وذلك في ليلة الحكم والقضاء التي يقضي الله فيها ما يشاء من أحداث العالم من رزق وأجل وغيرهما إلى بداية السنة الآتية وذلك كل سنة وهذا كقوله
إنآ أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم
[الدخان: 3-4] إذ ما قضاه الله تعالى وحكم بوجوده قد كتب في اللوح المحفوظ ومنه القرآن الكريم ثم في ليلة القدر تؤخذ نسخة من أحداث السنة فتعطى الملائكة وتنفذ حرفيا في تلك السنة، ولذلك كان لليلة القدر بمعنى التقدير شأن عظيم ففضلها الله على ألف شهر وأخبر عن سبب فضلها أن الملائكة تتنزل فيها وجبريل معهم بإذن ربهم أي ينزلون بإذن الله تعالى لهم وأمره إياهم بالنزول ينزلون مصحوبين بكل أمر قضاه الله وحكم به في تلك السنة من خير وشر من رزق وأجل ولفضل هذه الليلة كانت العبادة فيها تفضل غيرها من نوعها بأضعاف مضاعفة إذ عمل تلك الليلة يحسب لصاحبه عمل ألف ليلة أي ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر. هذا ما دل عليه قوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر ومآ أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر } وقوله { سلام هي حتى مطلع الفجر } أي هي سلام من كل شر إذ هي كلها خير من غروب الشمس إلى طلوع فجرها إنها كلها سلام سلام الملائكة على العابدين من المؤمنين والمؤمنات وسلامة من كل شر. والحمد لله الذي جعلنا من أهلها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
3- فضل ليلة القدر وفضل العبادة فيها.
4- بيان أن القرآن نزل في رمضان جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وأنه ابتدىء نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أيضا.
5- الندب إلى طلب ليلة القدر للفوز بفضلها وذلك في العشر الأواخر من شهر رمضان وأرجى ليلة في العشر الأواخر هي الوتر كالواحدة والعشرين إلى التاسعة والعشرين لحديث الصحيح
" التمسوها في العشر الأواخر ".
6- استحباب الإكثار من قراءة القرآن وسماعه فيها لمعارضة جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان مرتين.
[98 - سورة البينة]
[98.1-5]
شرح الكلمات:
من أهل الكتاب: أي اليهود والنصارى.
والمشركين: أي عبدة الأصنام.
منفكين: أي زائلين عما هم عليه منتهين عنه.
حتى تأتيهم البينة: أي الحجة الواضحة وهي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه القرآن الكريم.
رسول من الله: أي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صحفا مطهرة: أي من الباطل.
فيها كتب قيمة: أي في تلك الصحف المطهرة كتب من الله مستقيمة.
إلا من بعد ما جاءتهم البينة: أي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه القرآن الكريم.
وما أمروا: أي في كتبهم التوراة والإنجيل.
حنفاء: أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
دين القيمة: أي دين الملة القيمة أي المستقيمة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } وهم اليهود والنصارى والمشركون هم عباد الأصنام لم يكونوا منفصلين عما هم عليه من الديانه تاركين لها إلى غاية مجيء البينة لهم فلما جاءتهم البينة. وهي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه انفكوا أي انقسموا فمنهم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه والدين الإسلامي ومنهم من كفر فلم يؤمن. وقوله تعالى { رسول من الله } هو محمد صلى الله عليه وسلم وقوله { يتلوا صحفا } أي يقرأ على ظهر قلب ما تضمنته تلك الصحف المطهرة من الباطل والمشتملة على كتب من عند الله قيمة أي مستقيمة لا انحراف فيها عن الحق ولا بعد عن الهدى والمراد من الصحف المطهرة القرآن الكريم. وقوله تعالى { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } أي اليهود والنصارى { إلا من بعد ما جآءتهم البينة } وهي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه إذ كانوا قبل البعثة المحمدية متفقين على انتظار نبي آخر الزمان وأنه النبي الخاتم للنبوات فلما جاءهم تفرقوا فآمن بعض وكفر بعض في حين أنهم ما أمروا في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم. وكذا في القرآن وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ويقيموا الصلاة بأن يؤدوها في أوقاتها بشروطها وأركانها وآدابها ويؤتوا الزكاة التي أوجب الله في الأموال لصالح الفقراء والمساكين. وذلك دين القيمة أي وهذا هو دين الملة القيمة المستقيمة الموصلة للعبد إلى رضا الرب وجنات الخلد بعد إنجائه من العذاب والغضب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الديانات السابقة للإسلام والتي عاصرته كانت منحرفة اختلط فيها الحق بالباطل ولم تصبح صالحة للإسلام والهداية البشرية ولا فرق بين اليهودية والنصرانية والمجوسية.
2- إن أهل الكتاب بصورة خاصة كانوا منتظرين البعثة المحمدية بفارغ الصبر لعلمهم بما أصاب دينهم من فساد، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءتهم البينة على صدقه وصحة ما جاء به تفرقوا فآمن البعض وكفر البعض.
3- مما يؤخذ على اليهود والنصارى أنهم في كتبهم مأمورون بعبادة الله تعالى وحده والكفر بالشرك مائلين عن كل دين إلى دين الإسلام ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فما بالهم لما جاءهم الإسلام بمثل ما أمروا به كفروا به وعادوه. والجواب أنهم لما انحرفوا عز عليهم أن يستقيموا لما ألفوا من الشرك والضلالة والباطل.
4- بيان أن الملة القيمة والدين المنجي من العذاب المحقق للاسعاد والكمال ما قام على أساس عبادة الله وحده وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والميل عن كل دين إلى هذا الدين الإسلامي.
[98.6-8]
شرح الكلمات:
إن الذين كفروا من أهل الكتاب: أي بالإسلام ونبيه وكتابه هم اليهود والنصارى.
أولئك هم شر البرية: أي شر الخليقة.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات: أي آمنوا بالإسلام ونبيه وكتابه وعملوا الصالحات.
أولئك هم خير البرية: أي هم خير الخليقة.
جنات عدن: أي بساتين إقامة دائمة.
رضي الله عنهم: أي بطاعته.
ورضوا عنه: أي بثوابه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } إنه بعد أن بين الدين الحق المنجي من العذاب والموجب للنعيم وهو الدين الإسلامي أخبر تعالى أن من كفر به من أهل الكتاب ومن المشركين هم في نار جهنم خالدين فيها هذا حكم الله فيهم لكفرهم بالحق وإعراضهم عنه بعد ما جاءتهم البينة وعرفوا الطريق وتنكبوه رضا بالباطل واقتناعا بالكفر والشرك بدل الإيمان والتوحيد هؤلاء الكفرة الفجرة هم شر الخليقة كلها. وهو معنى قوله { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيهآ أولئك هم شر البرية } كما أخبر تعالى بأن جزاء من آمن بالله ورسوله وعمل بالدين الإسلامي فأدى الفرائض واجتنب النواهي وسابق في الخيرات والصالحات هؤلاء هم خير البرية إذ قال تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } وقوله { جزآؤهم عند ربهم } أي جزاء أولئك الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى والدين الحق أولئك هم خير الخليقة وقوله { جزآؤهم عند ربهم } أي يوم يلقونه وذلك بعد الموت { جنات عدن } أي بساتين إقامة دائمة خالدين فيها أبدا أي لا يخرجون منها ولا يموتون أبدا وقوله { رضى الله عنهم ورضوا عنه } أي رضى الله عنهم بسبب إيمانهم وطاعتهم ورضوا عنه بسبب ما وهبهم وأعطاهم من النعيم المقيم في دار السلام وقوله تعالى { ذلك لمن خشي ربه } أي ذلك الجزاء المذكور وهو جزاء عظيم إذ جمع لأهله فيه بين سعادة الروح وسعادة البدن معا هو جزاء عبد خاف ربه فلم يعصه حتى لقيه بعد موته وإن عصاه يوما تاب وإن أخطأ رجع حتى مات وهو على الطاعة لا على المعصية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان جزاء من كفر بالإسلام من سائر الناس وأنه بئس الجزاء.
2- بيان جزاء من آمن بالإسلام ودخل فيه وطبق قواعده واستقام على الأمر والنهي فيه وهو نعم الجزاء رضى الله والخلود في دار السلام.
3- فضل الخشية إن حملت صاحبها على طاعة الله ورسوله فأطاعهما بأداء الفرائض وترك المحرمات في الاعتقاد والقول والعمل.
[99 - سورة الزلزلة]
[99.1-8]
شرح الكلمات:
إذا زلزلت الأرض: أي حركت لقيام الساعة.
وأخرجت الأرض أثقالها: أي كنوزها وموتاها فألقتها وتخلت.
ما لها: أي وقال الكافر ما لها أي أي شيء جعلها تتحرك هذه الحركة.
تحدث أخبارها: أي تخبر بما وقع عليها من خير وشر وتشهد به لأهله.
أوحى لها: أي بأن تحدث أخبارها فحدثت.
يصدر الناس أشتاتا: أي من موقف الحساب.
ليروا أعمالهم: أي جزاء أعمالهم إما إلى الجنة وإما إلى النار.
مثقال ذرة: زنة نملة صغيرة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إذا زلزلت الأرض زلزالها } أي تحركت حركتها الشديدة لقيام الساعة وأخرجت الأرض أثقالها من كنوز وذلك في النفخة الأولى، وأموات وذلك في النفخة الثانية ففي الإخبار اجمال إذ المقصود تقرير البعث والجزاء ليعمل الناس بما ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة.
وقوله { وقال الإنسان ما لها }؟ لا شك أن هذا الإنسان السائل كان كافرا بالساعة ولذا تساءل أما المؤمن فهو يعلم ذلك لأنه جزء من عقيدته. وقوله تعالى { يومئذ تحدث أخبارها } أي تخبر بما جرى عليها من خير وشر بلسان القال أو الحال. وهي في هذا الإخبار مأمورة لقوله تعالى { بأن ربك أوحى لها } أي بذلك وقوله { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } أي يوم تزلزل الأرض وتهتز للنفخة الثانية نفخة يصدر الناس فيها أشتاتا أي يصدرون من ساحة فصل القضاء فمن آخذ ذات اليمين ومن آخذ ذات الشمال ليروا أعمالهم أي جزاء أعمالهم في الدنيا من حسنة وسيئة فالحسنة تورث الجنة والسيئة تورث النار. وقوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } أي وزن ذرة من خير في الدنيا يثب عليه في الآخرة ومن يعمل مثقال ذرة أي وزن ذرة من شر في الدنيا يجز به في الآخرة إلا أن يعفو الجبار عز وجل وبما أن الكفر مانع من دخول الجنة فإن الكافر إذا عمل حسنة في الدنيا يرى جزاءها في الدنيا، وليس له في الآخرة شيء منها وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها إذ سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان هل ينفعه في الآخرة ما كان يفعله في الدنيا من إطعام الحجيج وكسوتهم فقال لها. لا إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يأكل مع الرسول صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآية فرفع أبو بكر يده من الطعام وقال إني لراء ما عملت من خير وشر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن ما ترى مما تكره فهو من مثاقيل ذر شر كثير، ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة وتصديق ذلك في كتاب الله
ومآ أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير
[الشورى: 30].
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- الإعلام بالانقلاب الكوني الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات.
3- تكلم الجمادات من آيات الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته وهي موجبات ألوهيته بعبادته وحده دون سواه.
3- تقرير حديث الصحيح
" اتقوا النار ولو بشق تمرة ".
5- الكافر عمله الخيري ينفعه في الدنيا دون الآخرة.
6- المؤمن يجزي بالسيئة في الدنيا ويدخر له صالح عمله للآخرة.
[100 - سورة العاديات]
[100.1-11]
شرح الكلمات:
والعاديات: أي والخيل تعدو في الغزو.
ضبحا: أي تضبح ضبحا والضبح صوت الخيل إذا عدت أي جرت.
فالموريات قدحا: أي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت بالليل.
فالمغيرات صبحا: أي الخيل تغير على العدو صباحا.
فأثرن به نقعا: هيجن به أي بمكان عدوها نقعا أي غبارا.
فوسطن به جمعا: أي بالنقع جمع العدو أي حيث تجمعاته.
لكنود: لكفور بجحد نعمه تعالى عليه.
لشهيد: أي يشهد على نفسه بعمله.
وإنه لحب الخير: أي المال.
إذا بعثر: أي أثير وأخرج ما في القبور.
وحصل ما في الصدور: بين وأفرز ما في الصدور من الإيمان والكفر.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والعاديات ضبحا } الآيات إلى قوله { أفلا يعلم } تضمنت قسما إلهيا عظيما على حقيقة كبرى يجهلها كثير من الناس وهي كفر الإنسان لربه ولنعمه عليه يعد المصائب وينسى النعم والفواضل وهذا بيان ما أقسم تعالى به وهو العاديات ضبحا وهي الخيل تضبح أي تخرج صوتا خاصا غير الصهيل المعروف فالموريات قدحا أي الخيل توري النار بحوافرها إذا مشت فوق الحجارة ليلا ويدخل ضمن هذا كل قادحة للنار فالمغيرات صبحا أي جماعات الخيل يركبها فرسانها للإغارة على العدو بها صباحا. وقوله فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا اي فأثارت الخيل النقع وهو الغبار والتراب عند سيرها بفرسانها فتوسطت جمع العدو وكتائبه لقتال أعداء الله الكافرين بالله وآياته ولقائه المفسدين في الأرض بالشرك والمعاصي هذا ما أقسم الله تعالى به وهو الخيل ذات الصفات الثلاث: العدو والإوراء والإغارة والمقسم عليه قوله { إن الإنسان لربه لكنود } المراد من الإنسان الكافر والجاهل بربه تعالى الذي لم تتهذب روحه بمعرفة الله ومحابه ومكارهه ولم يزك نفسه بفعل المحاب وترك المكاره هذا الإنسان أقسم تعالى على أنه كفور لربه تعالى ولنعمه عليه أي شديد الكفر كثيره بذكر المصائب ويشعر بها ويصرخ لها ويصر عليها وينسى النعم والفواضل عليه فلا يذكرها ولا يشكر الله تعالى عليها. فالكنود الكفور. وقوله تعالى وإنه على ذلك لشهيد أي وإن الله تعالى على هذا الوصف في الإنسان لشهيد فأخبر تعالى بما علمه من الإنسان وشهد به عليه كما أن الإنسان شهيد بأعماله وصنائع أقواله وأفعاله شهيد على نفسه بالكفر والجحود. وقوله وإنه لحب الخير لشديد هذا مما أقسم تعالى عليه أيضا وهو وصف للإنسان الكنود وهو أنه شديد حب المال وسمي المال خيرا تسمية عرفية إذ تعارف الناس على ذلك كما أنه خير من حيث أنه يحصل به الخير الكثير إذا أنفق في مرضاة الله تعالى.
وقوله تعالى { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير } أي أيكفر الإنسان بربه ويجحد نعمه عليه وإحسانه إليه ويحب المال أشد الحب فيمنع حقوق الله فيه ويكتسبه مما حرم الله عليه وقوله تعالى { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور } أي بعثرت القبور وأخرج ما فيها من البشر للحساب والجزاء ووقفوا بين يدي الله تعالى وأفرز وبين ما كان خفيا في الصدور من الاعتقادات والنيات الصالحة والفاسدة ولا يخفى على الله تعالى منهم شيء حيث { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } كما هو اليوم خبير إلا أنها ساعة الحساب والمجازاة فذكر فيها علم الله تعالى وخبرته بالظواهر والبواطن والضمائر والسرائر فلا يخفى على الله من ذلك شيء وسيتم الجزاء العادل بحسب هذا العلم وتلك الخبرة الإلهية.
فلو علم الكفور من الناس المحب للمال هذا وأيقنه لعدل من سلوكه وأصلح من اعتقاده ومن أقواله وأعماله فالآيات دعوة إلى مراقبة الله تعالى بعد الإيمان والاستقامة على طاعته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الترغيب في الجهاد والإعداد له كالخيل أمس، ونفاث الطائرات اليوم.
2- بيان حقيقة وهي أن الإنسان كفور لربه ونعمه عليه يذكر المصيبة إذا أصابته وينسى النعم التي غطته إلا إذا آمن وعمل صالحا.
3- بيان أن الإنسان يحب المال حبا شديدا إلا إذا هذب بالإيمان وصالح الأعمال.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
[101 - سورة القارعة]
[101.1-11]
شرح الكلمات:
القارعة: القيامة وسميت القارعة لأنها تقرع القلوب بأهوالها.
ما القارعة: أي أي شيء هي؟ فالاستفهام للتهويل من شأنها.
وما أدراك ما القارعة: زيادة في تهويل أمرها وتعظيمه.
كالفراش المبثوث: أي كغوغاء الجراد المنتشر يموج بعضهم في بعض.
كالعهن المنفوش: أي كالصوف المندوف هذه حالها أولا ثم تكون كثيبا مهيلا ثم تكون هباء منبثا.
في عيشة راضية: أي يرضاها صاحبها في الجنة فهي مرضية له.
فأمه هاوية: أي مأواه ومسكنه الهاوية التي يهوي فيها على رأسه وهي النار.
نار حامية: أي هي نار حامية.
معنى الآيات:
قوله تعالى { القارعة } إلى آخر السورة الكريمة تضمنت آياتها الإحدى عشرة آية وصفا لعقيدة البعث والجزاء التي كذب بها المشركون وأنكروها وبالغوا في إنكارها فأخبر تعالى أن القيامة التي تقرع الناس بأهوالها وعظائم ما يجري فيها بحيث يكون الناس وهم أشرف الكائنات الأرضية يكونون في خفة أحلامهم وحيرة عقولهم كالفراش المبثوث وهو غوغاء الجارد وتجمعه وتراكمه وانتشاره وهو يموج بعضه فوق بعض. وتكون الجبال على رسوها وعلوها وضخامة ذواتها كالعهن المنفوش أي كالصوف المندوف بالمنداف وهو يتطاير هنا وهناك. هذا في أول الأمر وقد تكون كالرمل المتهيل. ثم كالهباء المنبث فإذا بعثوا ووقفوا بين يدي ربهم لحسابهم ومجازاتهم { فأما من ثقلت موازينه } أي موازين حسناته فقد نجا من النا ر وهو { فهو في عيشة راضية } أي مرضية له وهو بها راض وكيف لا وهي الجنة دار النعيم المقيم. { وأما من خفت موازينه } أي قلت حسناته وكثرت سيئاته أو لم يكن له حسنة بالمرة كأهل الكفر والشرك { فأمه هاوية } أي فأمه التي تضمه إليها وتؤيه عندها هاوية بحيث يهوى فيها على أم رأسه وقوله تعالى { ومآ أدراك ما هيه }؟ أي هي { نار حامية } هذا الاستفهام للتهويل من شأنها وهي كذلك لا أشد هولا منها إنها النار دار البوار والخسران أعاذنا الله تعالى منها وعتق رقابنا منها اللهم آمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر صورة صادقة لها.
2- التحذير من أهوال يوم القيامة وعذاب الله تعالى فيها.
3- تقرير عقيدة وزن الأعمال صالحها وفاسدها وترتيب الجزاء عليها.
4- تقرير أن الناس يوم القيامة فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير.
[102 - سورة التكاثر]
[102.1-8]
شرح الكلمات:
ألهاكم: أي شغلكم عن طاعة الله تعالى.
التكاثر: أي التباهي بكثرة المال.
حتى زرتم المقابر: أي تشاغلتم بجمع المال والتباهي بكثرته حتى متم ونقلتم إلى المقابر.
كلا: أي ما هكذا ينبغي أن تفعلوا فارتدعوا عن هذا التكاثر.
سوف تعلمون: أي إذا دخلتم قبوركم علمتم خطأكم في التكاثر في الأموال والأولاد.
كلا: أي حقا.
لو تعلمون علم اليقين: أي علما يقينيا عاقبة التكاثر لما تفاخرتم بكثرة أموالكم.
لترون الجحيم: أي النار.
يومئذ: أي يوم ترون الجحيم عين اليقين.
عن النعيم: أي تنعمتم به وتلذذتم من الصحة والفراغ والأمن والمطاعم والمشارب.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ألهاكم التكاثر } هذا خطاب الله تعالى للمشتغلين بجمع المال وتكثيره للمباهاة به والتفاخر الأمر الذي ألهاهم عن طاعة الله ورسوله فماتوا ولم يقدموا لأنفسهم خيرا فقال تعالى لهم ألهاكم أي شغلكم التكاثر أي في الأموال للتفاخر بها والمباهاة بكثرتها { حتى زرتم المقابر } أي بعد موتكم نقلتم إليها لتبقوا فيها إلى أن تخرجوا منها للحساب والجزاء أي يوم القيامة. وقوله لهم { كلا } أي ما هكذا ينبغي أن تفعلوا فارتدعوا عن هذا السلوك المفضي بكم إلى الهلاك والخسران سوف تعلمون عاقبة تشاغلكم عن طاعة الله وطاعة رسوله والتزود للدار الآخرة { ثم كلا سوف تعلمون } كرر الوعيد والتهديد. وقوله { كلا لو تعلمون علم اليقين } أي حقا لو تعلمون ما تجدونه في قبوركم ويوم بعثكم ونشوركم لما تشاغلتم بالأموال وتكاثرتم فيها. وقوله { لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين } هذا جواب قسم نحو وعزتنا لترون الجحيم أي النار وذلك يوم القيامة المشرك يراها ويصلاها والمؤمن يراها وينجيه الله تعالى منها. ثم لترونها عين اليقين أي الأمر الذي لا شك فيه إذ يؤتى بجهنم فيراها أهل الموقف أجمعون وقوله { ثم لتسألن يومئذ } أي يوم ترون الجحيم عين اليقين { عن النعيم } الذي كان لكم في الدنيا من صحة وفراغ وأمن وطعام وشراب. فمن أدى شكره نجا، ومن لم يؤد شكره أخذ به ولا يعفى إلا عن ثوب يستر العورة وكسرة خبز تسد الجوعة وجحر يكن من الحر والبرد وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمرو ابن التيهان
" هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة يشير إلى بسر ورطب وماء بارد "
وصح أيضا
" أنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ".
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من جمع المال وتكثيره مع عدم شكره وترك طاعة الله ورسوله من أجله.
2- إثبات عذاب القبر وتأكيده بقوله حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون أي في القبر.
3- تقرير عقيدة البعث وحتمية الجزاء بعد الحساب والاستنطاق والاستجواب.
4- حتمية سؤال العبد عن النعم التي أنعم الله تعالى عليه بها في الدنيا فإن كان شاكرا لها فاز وإن كان كافرا لها أخذ والعياذ بالله.
[103 - سورة العصر]
[103.1-3]
شرح الكلمات:
والعصر: أي الدهر كله.
إن الإنسان: أي جنس الإنسان كله.
لفي خسر: أي في نقصان وخسران إذ حياته هي رأس ماله فإذا مات ولم يؤمن ولم يعمل صالحا خسر كل الخسران.
وتواصوا بالحق: أي أوصى بعضهم بعضا باعتقاد الحق وقوله والعمل به.
وتواصوا بالصبر: أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على اعتقاد الحق وقوله والعمل به.
معنى الآيات:
قوله تعالى { والعصر } الآيات الثلاث تضمنت هذه الآيات حكما ومحكوما عليه ومحكوما به فالحكم هو ما حكم به تعالى على الإنسان كل الإنسان من النقصان والخسران والمحكوم عليه هو الإنسان ابن آدم والمحكوم به هو الخسران لمن لم يؤمن ويعمل صالحا والربح والنجاة من الخسران لمن آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فقوله تعالى { والعصر } هو قسم أقسم الله به والعصر هو الدهر كله ليله ونهاره وصبحه ومساؤه وجواب القسم قوله تعالى { إن الإنسان لفى خسر } أي نقصان وهلكة وخسران إذ يعيش في كبد ويموت إلى جهنم فيخسر كل شيء حتى نفسه التي بين جنبيه وقوله { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فهؤلاء استثناهم الله تعالى من الخسر فهم رابحون غير خاسرين وذلك بدخولهم الجنة دار السعادة والمراد من الإيمان الإيمان بالله ورسوله وما جاء به رسوله من الهدى ودين الحق والمراد من العمل الصالح الفرائض والسنن والنوافل، وقوله { وتواصوا بالحق } أي باعتقاده وقوله والعمل به وذلك باتباع الكتاب والسنة، وقوله { وتواصوا بالصبر } أي أوصى بعضهم بعضا بالحق اعتقادا وقولا وعملا وبالصبر على ذلك حتى يموت أحدهم وهو يعتقد الحق ويقول به ويعمل بما جاء فيه فالإسلام حق والكتاب حق والرسول حق فهم بذلك يؤمنون ويعملون ويتواصون بالثبات على ذلك حتى الموت.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة سورة العصر لاشتمالها على طريق النجاة في ثلاث آيات حتى قال الإمام الشافعي لو ما أنزل الله تعالى على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم.
2- بيان مصير الإنسان الكافر وأنه الخسران التام.
3- بيان فوز أهل الإيمان والعمل الصالح المجتنبين للشرك والمعاصي.
4- وجوب التواصي بالحق والتواصي بالصبر بين المسلمين.
[104 - سورة الهمزة]
[104.1-9]
شرح الكلمات:
ويل لكل همزة لمزة: كلمة يطلب بها العذاب وواد في جهنم الهمزة كثير الهمز واللمزة وكذلك وهم الطعانون المظهرون العيوب للإفساد.
جمع مالا وعدده: أي أحصاه وأعده لحوادث الدهر.
يحسب أن ماله أخلده: أي يجعله خالدا في الحياة لا يموت.
كلا: أي ليس الأمر كما يزعم ويظن.
لينبذن: أي ليطرحن في الحطمة.
في الحطمة: أي النار التي تحطم كل ما يلقى فيها.
تطلع على الأفئدة: أي تشرف على القلوب فتحرقها.
مؤصدة: أي مغلقة مطبقة.
في عمد ممددة: أي يعذبون في النار بأعمدة ممدة.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ويل لكل همزة لمزة } يتوعد الرب تبارك وتعالى بواد في جهنم يسيل بصديد أهل النار وقيوحهم كل همزة لمزة أي كل مغتاب عياب ممن يمشون بالنميمة ويبغون للبراء العيب وقوله { الذى جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده } هذا وصف آخر لتلك الهمزة اللمزة وهو أنه { جمع مالا } كثيرا من حرام وحلال { وعدده } أي أحصاه وعرف مقداره وأعده لحوادث الدهر كما يزعم. { يحسب أن ماله أخلده } أي يظن أنه لا يموت لكثرة أمواله ومتى كان المال ينجي من الموت؟ إنه الغرور في الحياة، لو كان المال يخلد أحدا لأخلد قارون، وقوله تعالى { كلا } لا يخلده ماله بل وعزتنا وجلالنا { لينبذن } أي يطرحن { في الحطمة } النار المستعرة التي تحطم كل ما يلقى فيها وقوله تعالى { ومآ أدراك ما الحطمة } هذا الاستفهام لتعظيم أمرها وتهويل شأنها، وبينها تعالى بقوله { نار الله الموقدة } أي المستعرة المتأججة، { التي تطلع على الأفئدة } أي تشرف على القلوب فتحرقها، وقوله تعالى { إنها عليهم مؤصدة } أي إن النار على أولئك الهمازين اللمازين مطبقة مغلقة الأبواب وقوله تعالى { في عمد ممددة } أي يعذبون في النار بعمد ممدة، والله أعلم كيف يكون تعذيبهم بها إذ لم يطلعنا الله تعالى على كيفيته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- التحذير من الغيبة والنميمة.
3- التنديد بالمغتربين بالأموال المعجبين بها.
4- بيان شدة عذاب النار وفظاعته.
[105 - سورة الفيل]
[105.1-5]
شرح الكلمات:
ألم تر كيف فعل ربك: أي ألم ينته إلى علمك فعل ربك بأصحاب الفيل.
بأصحاب الفيل: أي محمود وهي أكبرها ومعه اثنا عشر فيلا وصاحبها أبرهة.
ألم يجعل كيدهم: أي في هدم الكعبة.
في تضليل: أي في خسار وهلاك.
أبابيل: أي جماعات جماعات.
من سجيل: أي طين مطبوخ.
كعصف مأكول: أي كورق زرع أكلته الدواب وداسته بأرجلها.
معنى الآيات:
قوله تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } إلى قوله { مأكول } هي خمس آيات تضمنت الحديث عن حادث جلل وقع أمام ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وخلاصته أن أبرهة الأشرم والي اليمن من قبل ملك الحبشة قد رأى أن يبني بيتا في صنعاء اليمن يدعو العرب إلى حجة بدل حجهم البيت الحرام والقصد من ذلك تحويل التجارة والمكاسب من مكة إلى اليمن وعرض هذا على الملك الحبشي فوافق وسره ذلك ولما بني البيت " الكنيسة " وسماها القليس لم يبن مثلها في تاريخها جاء رجل قرشي فتغوط فيها ولطخ جدرانها بالعذرة غصبا منه، وذهب فلما رآها أبرهة الأشرم بتلك الحال استشاط غيظا وجهز جيشا لغزو مكة وهدم الكعبة وكان معه ثلاثة عشر فيلا ومن بينها فيل يدعى محمود وهو أكبرها وساروا ما وقف في وجههم حي من أحياء العرب إلا قاتلوه وهزموه حتى انتهوا إلى قرب مكة وجرت سفارة بينهم وبين شيخ مكة عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم وانتهت المفاوضات بأن يرد أبرهة إبل عبد المطلب ثم هو وشأنه بالكعبة وأمر رجال مكة أن يخلو البلد ويلتحقوا برؤوس الجبال بنسائهم وأطفالهم خشية المعرة تلحقهم من الجيش الغازي والظالم، وما هي إلا أن تحرك جيش أبرهة ووصل إلى وادي محسر وهو في وسط الوادي سائر وإذا بفرق من الطير فرقة بعد أخرى ترسل على ذلك الجيش حجارة الواحدة ما بين الحمصة والعدسة في الحجم وما تسقط الحجرة على رجل إلا ذاب وتناثر لحمه فهلكوا وفر أبرهة ولحمه يتناثر فهلك في الطريق وكانت هذه نصرة من الله لسكان حرمه وحماة بيته ومن ثم ما زالت العرب تحترم الكعبة والحرم وسكانه إلى اليوم. وقوله تعالى { ألم تر كيف } يخاطب تعالى رسوله مذكرا إياه بفعله الجبار في إهلاك الجبابرة فأين قوة ظلمة قريش كالعاص بن وائل وعمرو بن هشام والوليد وعقبة من قوة أبرهة وأبادها الله تعالى في ساعة فاصبر يا محمد ولا تحمل لهؤلاء الأعداء هما فإن لهم ساعة فكانت السورة عبارة عن ذكرى للعظة والاعتبار. وهذا شرح الآيات { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } أي ألم ينته إلى علمك فعل ربك بأصحاب الفيل.
{ ألم يجعل كيدهم في تضليل } أي ألم يجعل ما كادوه لبيتنا وحرمنا في خسارة وضلال فلم يجنوا إلا الخزي والدمار { وأرسل عليهم طيرا أبابيل } أي جماعات جماعات كانت تشاهد وهي تخرج من البحر يشاهدها رجال مكة المعتصمون بقمم الجبال إذ تمر فوقهم وهي تحمل حجارة من سجيل كل طائر يحمل ثلاثة أحجار كالحمصة والعدسة واحدة بمنقاره واثنتين بمخلبيه كل واحدة في مخلب ترميهم بها فتتفتت لحومهم وتتناثر فجعلهم كعصف مأكول أي كزرع دخلته ماشية فأكلت عصفه أي ورقه وكسرت قائمه وهشمته فكانت آية من آيات الله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاقيه من ظلم كفار قريش.
2- تذكير قريش بفعل الله عز وجل تخويفا لهم وترهيبا.
3- مظاهر قدرة الله تعالى في تدبيره لخلقه وبطشه بأعدائه.
[106 - سورة قريش]
[106.1-4]
شرح الكلمات:
لإيلاف: الإيلاف مصدر آلف الشيء يؤالفه إيلافا إذا اعتاده وزالت الكلفة عنه والنفرة منه.
قريش: هم ولد النضر بن كنانة وهم قبائل شتى.
رحلة الشتاء: أي إلى اليمن.
والصيف: أي إلى الشام.
فليعبدوا: أي إن لم يعبدوا الله لسائر نعمه فليعبدوه لتحبيب هاتين الرحلتين إليهم.
رب هذا البيت: أي مالك البيت الحرام ورب كل شيء.
الذي أطعمهم من جوع: أي من أجل البيت الحرام.
وآمنهم من خوف: أي من أجل البيت الحرام.
معنى الآيات:
قوله تعالى { لإيلاف قريش } هذا الجار والمجرور متعلق بكلام قبله وهو فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل لإيلاف قريش رحلتيهم، أو أعجبوا لإيلاف قريش رحلتهم والرحلتان هما رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام وذلك للاتجار وجلب الأرزاق إلى بلادهم التي ليست هي بذات زرع ولا صناعة فإيلافهم هاتين الرحلتين كان بتدبير الله تعالى ليعيش سكان حرمه وبلده في رغد من العيش فهي نعمة من نعم الله تعالى وعليه { فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع } بما هيأ لهم من أسباب { وآمنهم من خوف } كذلك ولم يعدلون عن عبادته إلى عبادة الأصنام والأوثان فالله أحق أن يعبدوه إذ هو الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف بما ألقى في قلوب العرب من احترام الحرم وسكانه وتعظيمه وتعظيمهم فتمكنوا من السفر إلى خارج بلادهم والعودة إليها في أمن وطمأنينة قال تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس أي لقريش تقوم مصالحهم عليها لما ألقى في قلوب العرب من تعظيم واحترام أهله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر تدبير الله تعالى وحكمته ورحمته فسبحانه من إله حكيم رحيم.
2- بيان إفضال الله تعالى على قريش وإنعامه عليها الأمر الذي تطلب شكرها ولم تشكر فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بتركها للشكر.
3- وجوب عبادة الله تعالى وترك عبادة من سواه.
4- وجوب الشكر على النعم وشكرها حمدا لله تعالى عليها والثناء عليه بها وصرفها في مرضاته.
5- الإطعام من الجوع والتأمين من الخوف عليهما مدار كامل أجهزة الدولة فأرقى الدول اليوم وقبل اليوم لم تستطع أن تحقق لشعوبها هاتين النعمتين نعمة العيش الرغد والأمن التام.
[107 - سورة الماعون]
[107.1-7]
شرح الكلمات:
أرأيت الذي يكذب بالدين: أي هل عرفته والدين ثواب الله وعقابه يوم القيامة.
فذلك الذي يدع اليتيم: أي فهو ذلك الذي يدفع اليتيم عن حقه بعنف.
ولا يحض على طعام المسكين: أي لا يحض نفسه ولا غيره على طعام المساكين.
فويل للمصلين: أي العذاب الشديد للمصلين الساهين عن صلاتهم.
عن صلاتهم ساهون: أي يؤخرونها عن أوقاتها.
يراءون: أي يراءون بصلاتهم وأعمالهم الناس فلم يخلصوا لله تعالى في ذلك.
ويمنعون الماعون: أي لا يعطون من سألهم ماعونا كالأبرة والقدر والمنجل ونحوه مما ينتفع به ويرد بعينه كسائر الأدوات المنزلية.
معنى الآيات:
قوله تعالى { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين } هذه الآيات الثلاث نزلت بمكة في العاص بن وائل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من عتاة قريش وكفارها فهذه الآيات تعرض بهم وتندد بسلوكهم وتوعدهم فقوله تعالى { أرأيت } يا رسولنا الذي يكذب بالدين وهو الجزاء في الآخرة على الحسنات والسيئات فهو ذاك الذي يدع اليتيم أي يدفعه بعنف عن حقه ولا يعطيه إياه احتقارا له وتكبرا عليه ولا يحض على طعام المسكين أي ولا يحث ولا يحض نفسه ولا غيره على إطعام الفقراء والمساكين وذلك ناتج عن عدم إيمانه بالدين أي بالحساب والجزاء في الدار الآخرة وهذه صفة كل ظالم مانع للحق لا يرحم ولا يشفق إذ لو آمن بالجزاء في الدار الآخرة لعمل لها بترك الشر وفعل الخير فمن أراد أن يرى مكذبا بالدين فإنه يراه في الظلمة المعتدين القساة القلوب الذين لا يرحمون ولا يعطون ولا يحسنون وقوله تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يرآءون ويمنعون الماعون } هذه الآيات الأربع نزلت في بعض منافقي المدينة النبوية فلذا نصف السورة مكي ونصفها مدني وقوله تعالى { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } هذا وعيد شديد لهم إذ الويل واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار وقيوحهم وهو أشد العذاب إذ كانوا يغمسون فيه أو يطعمون ويشربون منه. ومعنى عن صلاتهم ساهون أنهم غافلون عنها لا يذكرونها فكثيرا ما تفوتهم ويخرج وقتها وأغلب حالهم أنهم لا يصلونها إلا عند قرب خروج وقتها هذا وصف وآخر أنهم { يرآءون } بصلاتهم وبكل أعمالهم أي يصلون وينفقون ليراهم المؤمنون فيقولوا أنهم مؤمنون وبالمراءاة يدرءون عن أنفسهم القتل والسبي وثالث أنهم { ويمنعون الماعون } فإذا استعارهم مؤمن ماعونا للحاجة به لا يعيرون ويعتذرون بمعاذير باطلة فلا يعيرون فأسا ولا منجلا ولا قدرا ولا أية آنية أو ماعون لأنهم يبغضون المؤمنين ولا يريدون أن ينفعوهم بشيء فيحرمونهم من إعارة شيء ينتفعون به ويردونه عليهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- أيما قلب خلا من عقيدة البعث والجزاء إلا وصاحبه شر الخلق لا خير فيه البتة.
3- التنديد بالذين يأكلون أموال اليتامى ويدفعونهم عن حقوقهم استصغارا لهم واحتقارا.
4- التنديد والوعيد للذين يتهاونون بالصلاة ولا يبالون في أي وقت صلوها وهو من علامات النفاق والعياذ بالله.
5- منع الماعون من صفات المنافقين والمانع لما المسلمون في حاجة إليه ليس منهم لحديث من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم فكيف بالذي يمنعهم ما هو فضل عنده وهم في حاجة إليه؟
[108 - سورة الكوثر]
[108.1-3]
شرح الكلمات:
إنا أعطيناك الكوثر: أي إنا رب العزة والجلال وهبناك يا نبينا الكوثر أي نهرا في الجنة.
فصل لربك وانحر: أي فاشكر ذلك بصلاتك لربك المنعم عليك وحده وانحر له وحده.
إن شانئك: أي مبغضك.
هو الأبتر: أي الأقل الأذل المنقطع عقبه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إنآ أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر } هذه الآيات الثلاث مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو المخاطب بها وأنها تحمل طابع التعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه لما مات ابن النبي صلى الله عليه وسلم القاسم قال العاص بن وائل السهمي بتر محمد أو هو أبتر أي لا عقب له بعده فأنزل الله تعالى هذه السورة تحمل الرد على العاص والتعزية للرسول صلى الله عليه وسلم والبشرى له ولأمته بالكوثر الذي هو نهر في الجنة حافتاه من الذهب ومجراه على الدر والياقوت وتربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج، ومن الكوثر يملأ الحوض الذي في عرصات القيامة ولا يرده إلا الصالحون من أمته صلى الله عليه وسلم. فقوله تعالى { إنآ أعطيناك } أي خصصناك بالكوثر الذي هو نهر في الجنة من أعظم أنهارها مع الخير الكثير الذي وهبه الله تعالى لك من النبوة والدين الحق ورفع الذكر والمقام المحمود وقوله { فصل لربك وانحر } أي فاشكر هذا الإنعام بأن تصلي لربك وحده ولا تشرك به غيره وكذا النحر فلا تذبح لغيره تعالى وفي هذا تعليم لأمته وهل المراد من الصلاة صلاة العيد والنحر الأضحية لا مانع من دخول هذا في سائر الصلوات والنسك وقوله تعالى إن شانئك هو الأبتر أي إن مبغضك في كل زمان ومكان هو الأقل الأذل المنقطع النسل والعقب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
2- تأكيد أحاديث الكوثر وأنه نهر في الجنة.
3- وجوب الإخلاص في العبادات كلها لا سيما الصلاة والنحر.
4- مشروعية الدعاء على الظالم.
[109 - سورة الكافرون]
[109.1-6]
شرح الكلمات:
قل: أي يا رسول الله.
يا أيها الكافرون: أي المشركون وهم الوليد والعاص وابن خلف والأسود بن المطلب.
لا أعبد ما تعبدون: أي من الآلهة الباطلة الآن.
ولا أنتم عابدون ما أعبد: أي الآن.
ولا أنا عابد ما عبدتم: أي في المستقبل أبدا.
ولا أنتم عابدون ما أعبد: أي في المستقبل أبدا لعلم الله تعالى بذلك.
لكم دينكم: أي ما أنتم عليه من الوثنية سوف لا تتركونها أبدا حتى تهلكوا.
ولي دين: أي الإسلام فلا أتركه أبدا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { قل يأيها الكافرون } الآيات الست الكريمات نزلت ردا على اقتراح تقدم به بعض المشركين وهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب وأمية بن خلف مفاده أن يعبد النبي صلى الله عليه وسلم معهم آلهتهم سنة ويعبدون معه إلهه سنة مصالحة بينهم وبينه وإنهاء للخصومات في نظرهم، ولم يجبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء حتى نزلت هذه السورة { قل يأيها الكافرون } أي قل يا رسولنا لهؤلاء المقترحين الباطل يا أيها الكافرون بالوحي الإلهي وبالتوحيد المشركون في عبادة الله تعالى أصناما وأوثانا { لا أعبد ما تعبدون } الآن كما اقترحتم { ولا أنتم عابدون } الآن { مآ أعبد } لما قضاه الله لكم بذلك، { ولا أنآ عابد ما عبدتم } في المستقبل أبدا { ولا أنتم عابدون مآ أعبد } في المستقبل أبدا لأن ربي حكم فيكم بالموت على الكفر والشرك حتى تدخلوا النار لما علمه من قلوبكم وأحوالكم وقبح سلوككم وفساد أعمالكم { لكم دينكم } لا أتابعكم عليه { ولي دين } لا تتابعونني عليه. بهذا أيأس الله رسوله من إيمان هذه الجماعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم بطمع في إيمانهم وأيأس المشركين من الطمع في موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم على مقترحهم الفاسد، وقد هلك هؤلاء المشركون على الكفر فلم يؤمن منهم أحد فمنهم من هلك في بدر ومنهم من هلك في مكة على الكفر والشرك وصدق الله العظيم فيما أخبر به عنهم أنهم لا يعبدون الله عبادة تنجيهم من عذابه وتدخلهم رحمته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر وأن الكافر من كفر أزلا والمؤمن من آمن أزلا.
2- ولاية الله تعالى لرسوله عصمته من قبول اقتراح المشركين الباطل.
3- تقرير وجود المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الكفر والشرك.
[110 - سورة النصر]
[110.1-3]
شرح الكلمات:
إذا جاء نصر الله: أي نصر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على أعدائه المشركين.
والفتح: أي فتح مكة.
في دين الله أفواجا: أي في الإسلام جماعات جماعات.
فسبح بحمد ربك: أي نزهه عن الشريك ملتبسا بحمده.
واستغفره: أي أطلب منه المغفرة توبة منك إليه.
معنى الآيات:
قوله تعالى { إذا جآء نصر الله } الآيات الثلاث المباركات نزلت في أخريات أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تحمل علامة للنبي صلى الله عليه وسلم على قرب أجله فقوله { إذا جآء نصر الله } أي لك يا رسولنا فأصبحت تنتصر على أعدائك في كل معركة تخوضها معهم وجاءك الفتح فتح مكة ففتحها الله عليك وأصبحت دار إسلام بعد أن كانت دار كفر، { ورأيت الناس } من سكان اليمن وغيرهم { يدخلون في } دينك الدين الإسلامي { أفواجا } وجماعات جماعة بعد أخرى بعد أن كانوا يدخلون فرادى واحدا واحدا وهم خائفون إذا تم هذا ورأيته { فسبح بحمد ربك } شكرا له على نعمة النصر والفتح ودخول الناس في دينك وانتهاء دين المشركين الباطل. { واستغفره } أي اطلب منه المغفرة لما فرط منك مما هو ذنب في حقك لقربك وكمال علمك وأما غيرك فليس هو بالذنب الذي يستغفر منه ويناب إلى الله تعالى منه وقوله تعالى { إنه كان توابا } أي إن الله تعالى الذي أمرك بالاستغفار توبة إليه كان توابا على عباده يقبل توبتهم فيغفر ذنوبهم ويرحمهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية نعي الميت إلى أهله ولكن بدون إعلان وصوت عال.
2- وجوب الشكر عند تحقق النعمة ومن ذلك سجدة الشكر.
3- مشروعية قول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي في الركوع.
[111 - سورة المسد]
[111.1-5]
شرح الكلمات :
تبت يدا أبي لهب: أي خسرت يدا أبي لهب بن عبد المطلب أي خسر عمله.
وتب: أي خسر هو بذاته إذ هو من أهل النار.
ما أغنى عنه ماله: أي أي شيء أغنى عنه ماله لما سخط الله تعالى عليه وعذبه في الدنيا والآخرة.
وما كسب: أي من المال والولد وغيرها.
سيصلى نارا: أي يدخل نارا يصطلي بحرها ولفحها.
ذات لهب: أي توقد واشتعال.
وامرأته: أي أم جميل العوراء.
حمالة الحطب: أي تحمل شوك السعدان وتلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم أذية له وكرها.
في جيدها: أي في عنقها.
حبل من مسد: أي من ليف.
معنى الآيات:
قوله تعالى { تبت يدآ أبي لهب وتب } الآيات الخمس المباركات نزلت ردا على أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم إذ صح أنه لما نزلت آية
وأنذر عشيرتك الأقربين
[الآية: 214] من سورة الشعراء طلع صلى الله عليه وسلم إلى جبل الصفا ونادى: واصباحاه واصباحاه فاجتمع الناس حوله فقال لهم إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد: قولوا لا إله إلا لله كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم. فنطق أبو لهب فقال: ألهذا جمعتنا تبا لك طول اليوم فأنزل الله تعالى ردا عليه { تبت يدآ أبي لهب } أي خسر أبو لهب وخسر كل شيء له وهذه جملة دعائية ولذا هلك بمرض خطير لم يتمكنوا من غسله فأراقوا عليه الماء، فقط وقوله { وتب } إخبار من الله تعالى بهلاك عبد العزى أبي لهب وقوله { مآ أغنى عنه ماله وما كسب } أي لما سخط الله عليه وأدخله ناره لم يغن عنه أي لم يدفع عنه العذاب ماله ولا ولده. وقوله تعالى { سيصلى نارا ذات لهب } أي توقد وتأجج. { وامرأته } أم جميل العوراء { حمالة الحطب } حيث كانت تأتي بشوك السعدان وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم عند ذهابه إلى صلاة الصبح بالمسجد الحرام. وقوله تعالى { في جيدها حبل من مسد } أي في عنقها حبل من ليف النخل أو مسد شجر الدوم بهذا حكم الله تعالى على أعدائه وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم الله بهلاك أبي لهب وإبطال كيده الذي كان يكيده لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- لا يغني المال ولا الولد عن العبد شيئا من عذاب الله إذا عمل بمساخطه وترك مراضيه.
3- حرمة أذية المؤمنين مطلقا.
4- عدم إغناء القرابة شيئا من الشرك والكفر إذ أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في النار ذات اللهب.
[112 - سورة الإخلاص]
[112.1-4]
شرح الكلمات:
قل هو الله أحد: أي قل لمن سألك يا نبينا عن ربك هو الله أحد.
الله الصمد: أي الله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، الصمد: السيد الذي يصمد إليه. في الحوائج. فهو المقصود في قضاء الحوائج على الدوام.
لم يلد: أي لا يفنى إذ لا شيء يلد إلا وهو فان بائد لا محالة.
ولم يولد: أي ليس بمحدث بأن لم يكن فكان فهو كائن أولا وأبدا.
ولم يكن له كفوا أحد: أي لم يكن أحد شبيه له أو مثيل إذ ليس كمثله شيء.
معنى الآيات:
قوله تعالى { قل هو الله أحد } الآيات الأربع المباركات نزلت جوابا لمن قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين انسب لنا ربك أو صفه لنا فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل أي لمن سألوك ذلك هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد أي ربي هو الله أي الإله الذي لا تنبغي الألوهية إلا له، ولا تصلح العبادة إلا له أحد في ذاته وصفاته وأفعاله فليس له نظير ولا مثيل في ذلك إذ هو خالق الكل ومالك الجميع فلن تكون المحدثات المخلوقات كخالقها ومحدثها الله أي المعبود الذي لا معبود بحق إلا هو، الصمد أي السيد المقصود في قضاء الحوائج الذي استغنى عن كل خلقه وافتقر الكل إليه لم يلد أي لم يكن له ولد لانتفاء من يجانسه إذ الولد يجانس والده، والمجانسة منفية عنه تعالى إذ ليس كمثله شيء ولم يولد لانتفاء الحدوث عنه تعالى.
{ ولم يكن له كفوا أحد } أي ولم يكن أحد كفوا له ولا مثيلا ولا نظيرا ولا شبيها إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فلذا هو يعرف بالأحدية والصمدية فالأحدية هو أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لم يكن له كفو ولا شبيه ولا نظير والصمدية هي أنه المستغني عن كل ما سواه والمفتقر إليه في وجوده وبقائه كل ما عداه كما يعرف بأسمائه وصفاته وآياته.
من هداية الآيات:
1- معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.
2- تقرير التوحيد والنبوة.
3- بطلان نسبه الولد إلى الله تعالى.
4- وجوب عبادته تعالى وحده لا شريك له فيها، إذ هو الله ذو الألوهية على خلقه دون سواه.
[113 - سورة الفلق]
[113.1-5]
شرح الكلمات:
أعوذ: أي أستجير وأتحصن.
الفلق: أي الصبح.
من شر ما خلق: من حيوان وجماد.
غاسق إذا وقب: أي الليل إذا أظلم أو القمر إذا غاب.
النفاثات: أي السواحر اللاتي ينفثن.
في العقد: أي في العقد التي يعقدنها.
حاسد إذا حسد: أي إذا أظهر حسده وأعمله.
معنى الآيات:
قوله تعالى { قل أعوذ برب الفلق } أنه لما سحر لبيد بن معصم اليهودي بالمدينة النبي صلى الله عليه وسلم أنزل تعالى المعوذتين فرقاه بهما جبريل فشفاه الله تعالى ولذا فالسورتان مدنيتان وقوله تعالى { قل أعوذ برب الفلق } أي قل يا رسولنا أعوذ أي أستجير وأتحصن برب الفلق وهو الله عز وجل إذ هو فالق الإصباح وفالق الحب والنوى ولا يقدر على ذلك إلا هو لعظيم قدرته وسعة علمه. { من شر ما خلق } أي من شر ما خلق تعالى من الكائنات من حيوان مكلف كالإنسان وغير مكلف كسائر الحيوانات ومن الجمادات أي من شر كل ذي شر منها ومن سائر المخلوقات. وقوله { ومن شر غاسق إذا وقب } أي الليل إذا أظلم والقمر إذا غاب إذ الظلام بدخول الليل أو بغياب القمر يكون مظنه خروج الحيات السامة والحيوانات المفترسة والجماعات المتلصصة للسطو والسرقة وابتغاء الشر والفساد. وقوله تعالى { ومن شر النفاثات في العقد } أي وتعوذ بالله برب الفلق من شر السواحر وهن النساء اللاتي ينفثن في كل عقدة يرقين عليها ويعقدونها والنفث هي إخراج هواء من الفم بدون ريق ولذا ورد من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر. وقوله تعالى { ومن شر حاسد إذا حسد } أي وتعوذ برب الفلق من شر حاسد أي من الناس إذا حسد أي أظهر حسده فابتغاك بضر أو أرادك بشر أو طلبك بسوء بحسده لك لأن الحسد زوال النعمة عن المحسود وسواء أرادها أو لم يردها وهو شر الحسد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب التعوذ بالله والاستعاذة بجنابه تعالى من كل مخوف لا يقدر المرء على دفعه لخفائه أو عدم القدرة عليه.
2- تحريم النفث في العقد إذ هو من السحر. والسحر كفر وحد الساحر ضربة بالسيف.
3- تحريم الحسد قطعيا وهو داء خطير حمل ابن آدم على قتل أخيه وحمل إخوة يوسف على الكيد له.
4- الغبطة ليست من الحسد لحديث الصحيح
" لا حسد إلا في اثنتين إذ المراد به الغبطة ".
[114 - سورة الناس]
[114.1-6]
شرح الكلمات:
أعوذ: أي أتحصن وأستجير.
برب الناس: أي خالقهم ومالكهم.
ملك الناس: أي سيد الناس ومالكهم وحاكمهم.
إله الناس: أي معبود الناس بحق إذ لا معبود سواه.
من شر الوسواس: أي من شر الشيطان سمى بالمصدر لكثرة ملابسته له.
الخناس: أي الذي يخنس ويتأخر عن القلب عند ذكر الله تعالى.
في صدور الناس: أي في قلوبهم إذا غفلوا عن ذكر الله تعالى.
من الجنة والناس: أي من شيطان الجن ومن شيطان الإنس.
معنى الآيات:
قوله تعالى { قل أعوذ برب الناس } هذه السورة هي إحدى المعوذتين الأولى الفلق وهذه الناس والأولى اشتملت على أربع خصال يستعاذ منها وهي من شر كل ذي شيء من سائر الخلق والثانية من شر ما يحدث في الظلام ظلام الليل أو ظلام القمر إذا غاب والثالثة من شر السواحر النفاثات في العقد والرابعة من شر حاسد إذا حسد وقد اشتملت هذه الأربع على كل ما يخاف لأذاه وضرره أما سورة الناس فإنها قد اشتملت على شر واحد إلا أنه أخطر من تلك الأربع وذلك لتعلقه بالقلب، والقلب إذا فسد فسد كل شيء وإذا صلح صلح كل شيء ولذا كانت سورة الناس خاصة بالتعوذ من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. فقوله تعالى { قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس } أمر منه تعالى لرسوله وأمته تابعة له أعوذ أي أتحصن برب الناس أي خالقهم ومالكهم وإلههم الذي لا إله لهم سواه من شر الوسواس الذي هو الشيطان الموسوس في صدور الناس وذلك بصوت خفي لا يسمع فيلقى الشبه في القلب، والمخاوف والظنون السيئة ويزين القبيح ويقبح الحسن وذلك متى غفل المرء عن ذكر الله تعالى، وقوله تعالى { الخناس } هذا وصف للشيطان من الجن فإنه إذا ذكر العبد ربه خنس أي استتر وكانه غاب ولم يغب فإذا غفل العبد عن ذكر الله عاد للوسوسة.
وقوله تعالى { من الجنة والناس } يعني أن الموسوس للإنسان كما يكون من الجن يكون من الناس والإنسان يوسوس بمعنى يعمل عمل الشيطان في تزيين الشر وتحسين القبيح. والقاء الشبه في النفس، وإثارة الهواجس والخواطر بالكلمات الفاسدة والعبارات المضللة حتى إن ضرر الإنسان على الإنسان أكبر من ضرر الشيطان على الإنسان، إذ الشيطان من الجن يطرد بالاستعاذة وشيطان الإنس لا يطرد بها وإنما يصانع ويدارى للتخلص منه اللهم إنا نعوذ بك من شر كل ذي شر ومن شر الإنس والجن، فأعذنا ربنا فإنه لا يعيذنا إلا أنت ربنا ولك الحمد والشكر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الاستعاذة بالله تعالى من شياطين الإنس والجن.
2- تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته عز وجل.
3- بيان لفظ الاستعاذة وهو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كما بينته السنة الصحيحة إذ تلاحى رجلان في الروضة النبوية فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه أي الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
Bilinmeyen sayfa