فانظر وتعجب كيف شبهت أممكم بالشموس والكواكب، وكيف شاكلت عقولكم نظام نبات الأرض على سطحها، ونظام جسمكم، وضارعت غرائزكم غرائز الحيوان، فهل بعد هذا من بيان، أفلا تفهم بعد هذا أن المسألة أصبحت محلولة مفهومة، يقول «كانت» الألماني: ليتعلم الإنسان مما هو أعلى. فهاكم تعلموا من العالم أمامكم، ها هي النواميس الطبيعية، والقوانين النظامية.
إنكم مختلفون ألوانا وغرائز وميولا، متقاربون حبا وعطفا وشغفا، إنكم جسم واحد، فلتجتهدوا في التعلم حتى يحب بعضكم بعضا، ويألف بعضكم بعضا، فما أبعدكم إلا تعليم مدارسكم وكلياتكم البغضاء والكراهة، فاستبدلوا الذي هو خير بالذي هو أدنى.
فقلت: وكيف يتسنى لنا زرع المحبة والمودة في القلوب، بعد أن خامرت الكراهة النفوس، وخالطت العقول، وأحاطت بالغرائز، وصارت صفات بالنفوس قائمة، وطبائع بالأرواح عالقة؟ فقال: قد ضرب لكم مثل محسوس في أكثر الأمم والممالك، أليس أكثر الديانات والعادات يحرم أن تتزوجوا الأم والأخت ونحوهما؟ قلت: بلى. قال: أفليس بعض الديانات يحلل ذلك؟ قلت: بلى. قال: فهل يأنف ملك سيام مثلا أن يتزوج أخته؟ قلت: كلا. فقال: لماذا؟ قلت: لأنه حلال عندهم. قال: وهب أنكم أبيح لكم زواج الأمهات والأخوات، معاشر النصارى واليهود والمسلمين، أفليست العادة تصدكم والأنفة تمنعكم والخجل يردعكم؟ قلت: بلى. قال: أفليس ذلك دليلا على أن الشهوة الإنسانية البهيمية لا تفرق بين القريب والبعيد والمحارم والأجانب، بدليل قوم من نوع الإنسان استباحوا هذا وجوزوه؟ قلت: بلى. قال: خبرني أليس منكم أشرار جهلاء فاسقون، فهل سمعت عن أفسق الفساق فيكم يغشى من حرمت عليه؟ قلت: لا. قال: فكفاك هذا برهانا على أن نوع الإنسان مستعد بالتعليم إلى أشرف غاية، وأعلى منصب وأرقى سعادة، فلو أن الأمم بثت في تعليم مدارسها، وتلقين أبنائها محبة إخوانهم بني الإنسان، وألفوا لهم الروايات وشخصوها في الملاهي، وجعلوها تقبيحا للحرب والضرب، وجعلوا الفخار والشرف لمن حاز قصب السبق في نفع نوع الإنسان، فمن كان أكثر عملا وأقل ضررا فله القدح المعلى في الفضل والشرف والكرم، فعند ذلك يبتدئ الإنسان في درس غريزته ونيل سعادته.
فأما الإنسان الآن فإنه معذب مهان ذليل لا شرف عنده إلا في غريزته، ولا خير إلا في فطرته.
وقصارى القول أن بناء سياسة الإنسان على قاعدة توزيع الأعمال على الفطر الإنسانية في الأفراد والجماعات، وعلى تهذيب النفوس وإصلاحها، وإدخال علم الحب العام في قلوب الناشئين ، وتنفيرهم من الحرب، وإعلامهم بمنافع المحبة العامة، ونواتجها النافعة للمجموع الإنساني.
ألا وإن منزلة هذا العلم من علم الاقتصاد كمنزلة علم الأصول من علم الفقه، وآداب اللغة من النحو، والهيئة من الفلك، فعلمنا باحث عن نظام الأمم وسياستها العامة، وعلم الاقتصاد باحث عن نظام ثروتها ونمو تجارتها وترويج بضاعتها وبيع سلعها، ونسبتها إلى ثروة الأمم الأخرى، واستعداد الدول والأمم في الأعمال العامة.
فليكن لكل أمة قسطها من العمل، وقسطها من الصناعة، وقسطها من الأرض، وليعم التعليم سائر الأمم والممالك، ليكن في جميع الممالك مدارس متشابهة، فيها صور العلوم والصناعات تعرض على الأطفال، فمن برع في فن أو أحبه علمه، وإذن يصبح العالم الإنساني أمة واحدة وجسما واحدا له أعضاء لكل عضو عمله الخاص، هذا ما أردت بيانه في هذا المقام.
الفصل الثامن عشر
في درس تعليم الأطفال الحب العام
هنالك طلبت أن أفهم طريقة الحب العام في مدارسهم. فقلت: لقد وعدتم أن تروني طريقة الحب في مدارسكم؟ قال: نعم، وأشار إلى شاب، كأنه كوكب دري، عليه ثياب بيض، وفي يده كرة بيضاء مضيئة، فذهب أمامي وسار حتى وصلنا إلى مدرسة، فأدخلني قاعة والمعلم راسم على السبورة صورة إنسان، وهو يريهم الأعضاء عضوا عضوا ويشرحها شرحا وافيا لغرض علم التشريح، ثم يكر راجعا ويقول: انظروا، فيريهم أسماء الأمم الكوكبية، مرسومة كل واحدة على عضو منها، وهو يقول هذه الأمة تجلب لنا ملابسنا من الأصواف والأوبار، ثم ينتقل إلى أخرى على عضو آخر ويقول: إن هؤلاء منا بمنزلة المعدة، فإن لديها أغذية وفاكهة، ثم يضع يده على الرجل ويقول: إن هذه الأمة المسماة كذا أبرع جنس في وضع الآلات البخارية.
Bilinmeyen sayfa