فعقولكم قابلة للسعادة، وأنتم حكمتم عليها بالذل والحرمان والهوان، إذ اتخذ قدماؤكم نظام حياتهم على قاعدة أن الإنسان أنواع، فقوم نصبوا أنفسهم للسيادة واتخذوا غيرهم عبيدا، فالأولون سباع والآخرون غزلان، ثم وجه الطرفان تعاليمهما على هذا المنوال، وتوارثوها جيلا عن جيل، ثم تحدث أمور تختلف فيها الوجهة ويقهر المغلوبون ويذل الغالبون.
الفصل السابع
لم نقرأ إلا سطرين سطرا من المادة وسطرا من العقل
ثم قال: ألا إن مثل عقولكم كمثل المادة كما أسلفنا، وإن المادة فيها سبعون ألف سطر من حكم عجيبة، وما قرأتم منها في السياسة إلا سطرا واحدا، ثم لم تفهموا إلا جملة من السطر، وهي: «يغلب الأقوى الأضعف»، ألم تر إلى ما أودع فيها من الحيوان والنبات والمعادن، وأنتم كل يوم تخترعون وتكتشفون، وكم من نبات لا تعلمون، إن الحشائش والأشجار المحيطة بمنازلكم النابتة في حقولكم كافلة لشفائكم، ولكنكم لا تعلمونها، ولو علمتم منافعها لكنتم أنعم بالا وأسعد حالا، وكم في خفايا الأرض وبطون الأودية وعلى رءوس الجبال من المنافع، والناس عنها غافلون، ولم يقرأ الناس إلا سطرا واحدا، وحفظوا منه في السياسة الجملة المشئومة المذكورة.
وأما عقولكم فإنها عنكم مستورة مغمورة بالقوة الغضبية، والشهوة الحيوانية، ولم تستطيعوا أن تتخلصوا منها، ولم يتضح لكم من عقولكم إلا سطر واحد، مكتوب من جملة سبعين ألف سطر في الحكمة والعلم لا تزالون عنها غافلين، فالمادة والعقل صنوان في الإبداع، وفرسا رهان في الاتساع، والسطر الذي قرأتموه من عقولكم تلك العلوم العقلية والآراء الحكمية، ومنه أنكم أخذتم تحلون معضلة السياسة وأنتم لا تشعرون. فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: إنكم في سالف الزمان، سخرتم الأنعام، فأكلتم لحومها، ولبستم أصوافها وجلودها، وظننتم أن هذا غاية السعادة ومنتهى الرقي والمدنية، فلما كثرتم أيقنتم أن الأصواف لا تكسو عشر الإنسان وسائر دواب الحمل لا تقوم بحاجاتكم ولا تفي بمطلوبكم، فاخترعتم البخار والبريد البخاري والبرقي والأثيري «مركوني»، فذلك بلا ريب جملة فهمتموها من سطر من سبعين ألف سطر من حكم عقولكم، وستعين على حل مسائلكم السياسية بعد حين، كما أنكم زرعتم القطن فألبس سبعة أعشار الناس أثوابا وكساهم أردية، ولا جرم أن هذا الحل نهاية ما عرفه الإنسان، وأبرزه العرفان، وجربه الزمان. إنكم ما اتخذتم إخوانكم خولا وخدما، وأذللتموهم، إلا ليتمموا ما نقصه الحيوان من المنافع، ثم سلطتم أشعة عقولكم على المادة والنبات فألبستكم لباسا حسنا قطنيا، وأعطتكم بخارا وقطارا، فكفتكم بإرادة مبدعها، إنها لتكفل لكم الخير والنجاح، والعز والفلاح، إذا اتجه سائر نوع الإنسان إلى الطبيعة فذللها، وترك ذلك الجهل وذهب الكسل والخمول، والجور وظلم العالمين.
الفصل الثامن
أين الحكمة في المادة والعقل
فقلت: ما الحكمة في فوائد المادة إذا لم نعقلها؟ وما الفائدة في عجائب العقول البشرية إذا جهلوها؟ فقال: إن هذه المادة كلوح منقوش سطورا، فالحيوان يقرأ جزءا، وأنتم تقرءون سطرا، وسائر السطور يقرؤها آخرون في عالم آخر، أما عقول النوع البشري فإنها مستمدة من العقل العام المحيط بالعالم الفائض من علم الله عز وجل، وهذا العقل يحيط علما بالمادة وعجائبها، والعقول البشرية تطلع قليلا قليلا على ما أودع فيه من الحكم، ولئن ذبل نبات أو مات حيوان بلا فائدة ترونها، فهناك فوائد تجهلونها، ومتى تحلل إلى عناصره، وكر راجعا إلى مادته، لم يعدم خواصه، وإنما هي كامنة، فلا معدوم في هذا الوجود، وأنه لا عدم البتة، ليس يعدم إلا المظاهر.
فأما الحقائق فإنها كامنة راسخة، فالمادة فيها كل نبات وحيوان وإنسان، هكذا عقول نوع الإنسان، إنها تحفظ عناصر السعادة، وإنما يعوزها الاستخراج والإنماء، فمن نظر إلى زنجي وإفرنجي قال لأول وهلة: إن الأول من التراب، والآخر من معدن الذهب، وضل عن هذا الزاعم أن البذرة متحدة، واختلفت المظاهر بالتعهد والتربية، وما الإفرنجي إلا من أولئك البرابرة التتريين، قوم جاءوا من آسيا وأحاطوا دولة الرومان، ثم غلبتهم، وورثتهم علومهم ولغاتهم وقوانينهم، والمتوحشون أسرع قبولا للمدنية وأقوى أجساما، وترى الأرض التي بقيت بورا أمدا طويلا أنضر زرعا وأغزر شجرا من الأرض التي أنهكها الزرع والحصاد، فكيف يهرف فريق من العلماء بقولهم متوحشون ومتمدينون، ويحكمون جهلا على فريق أنهم لا يرتقون، وهم كانوا مثلهم في غابر الأزمان، فعقولكم البشرية لا تزال خاوية من الحكمة، واقفة في أول الطريق ولكنها على باب الهداية، إذ بدأتم تكشفون أسرار الخليقة، وستعتقون العقول من الرق، وتستخرجون كنوز الأرض النباتية والناموسية، فهي الكافلة بنجاحكم، والكافية لإسعادكم وإزالة العوائق المخترعة، ولتعلموا أنكم نوع واحد، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
الفصل التاسع
Bilinmeyen sayfa