Kağıtlarım... Hayatım (Birinci Kısım)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Türler
تركت في القاهرة ابني عاطف عمره عامان ونصف، وابنتي منى عمرها عشرة أعوام، يرعاهما زوجي شريف، غبت عنهم ثلاثة شهور ونصف الشهر، الحنين إليهم يشدني إلى القاهرة، أود العودة وأود البقاء. بدأت رواية جديدة أعطيتها عنوان: عين الحياة، بطلتها امرأة تشبه أم الفدائيين، طويلة القامة فارعة مثل جدتي الفلاحة في القرية ، هذه المرأة ظلت تتراءى لي في النوم حتى جلست إلى مكتبي، تجسدت فوق الورق باسم عين الحياة. بعد عودتي إلى القاهرة كنت أتابع أخبارها حتى ماتت في مدينة عمان بالأردن في سبتمبر الأسود عام 1970، قبل موت جمال عبد الناصر بشهر واحد؛ لكنها بقيت حية في روايتي عين الحياة، يقرؤها الناس في بلادنا العربية، وفي بلاد أخرى بعد أن نشرت الترجمة فيما بعد. أستعيد صورتها وهي تمشي على حافة النهر تبحث، لم يكن بحثا عاديا تعرف فيه الشيء المفقود، أو تعرف أنها قد تجده وقد لا تجده، كان بحثا غريبا عن ابن لم تلده، أو ولدته ثم ضاع منها في زمان ومكان لا تدري عنهما شيئا. •••
الليلة الأخيرة في معسكر السلط قبل أن أعود إلى القاهرة، خرجت من الخيمة أتمشى في الأغوار، كنت أرتدي بدلة الفدائيين، من فوقها معطف الأطباء الأبيض، الليل ساكن إلا من حفيف الأشجار، صوت مياه النهر من بعيد، نسمة الصيف الناعمة تتسلل بين جبال الأردن، أمشي في الأغوار كأنما أمشي في حلم داخل حلم. أسمع وقع حذائي على الأرض الصخرية، لونها أحمر كالدم يغطيها عشب أخضر، ريح باردة خفيفة من الشمال لها رائحة الخيال، نسمة دافئة تهب من الناحية الأخرى، حيث يرقد الشاب قبل أن يفقد أطرافه، أغمض عينيه ويحلم أنه عاد إلى الضفة الغربية حيث ترقد أمه العجوز، تبحث في النوم عن ابنها الغائب في الضفة الشرقية، تصطك أسنانه قليلا كأنما من الرجفة، أو رعشة الخيال، الريح محملة برائحة الحلم، صوته يسري في أذني في سكون الليل: أراك في معطفك الأبيض تسيرين بين الخيام، أراك بالعين في جسدي، في مكان غير المكان الذي توجد فيه العيون، هل عندك وقت لأكشف لك عن هذه العين وأخبرك بسر قوة ذراعي وساقي؟! لا تخافي يا دكتورة هناك في الضفة الأخرى وراء النهر أعداء اعتقدوا أنني مت، لكني لم أمت، أنا فقط جريح، والجرح ليس في محجر العين، أنا أراك هنا والآن في ضوء القمر المختفي، أشهد ما بعد الموت ، لماذا أنت صامتة؟ هل أنت جريحة مثلي؟ لا تخافي إن فقدت ذراعيك وساقيك، ما دمت قادرة على الاستماع إلي، فأنت قهرت الموت، قهرت العدو داخلك قبل العدو هناك على الضفة الأخرى، وأنا مثلك قادر على الاستماع إليك، ليس لأمثالك إلا الاقتراب، أو التلامس جسدا لجسد، أعطيني يدك، ضعيها فوق صدري العاري لألمسها وتلمسين، انتظري لا تبتعدي عني، لا تخافي من شكلي المختلف، ربما فقدت أطرافي لكني لم أفقد قلبي، لست من الرجال الذي يغتصبون النساء في الظلمة، لم يعد لي جسد رجل أو امرأة، إنما هي الرغبة الأخرى يا دكتورة، أتعرفين الرغبة الأخرى؟!
كان راقدا فوق ظهره مبتور الذراعين والساقين، حول عينه اليسرى رباط من الشاش الغارق في الدم، بشرته بلون الطوب الأحمر، لم يكن وهما ولا خيالا، كان فدائيا فلسطينيا في لحظات الاحتضار الأخيرة، يفتح فمه ويغلقه في صمت، يحاول أن يكشف قبل أن يرحل عن سر خفي، اقتربت بأذني من فمه وقلت: تكلم ... أنا أسمعك يا غسان. - يا دكتورة أتعرفين الرغبة الأخرى؟! كل الأجسام الراقدة هنا في الخيام كانوا شبابا مثلي فقراء، لا يملكون شيئا في الحياة إلا أجسادهم، وهذه الأجساد أيضا لا يملكونها، تملكها القيادة العسكرية، وهي قيادة لها رائحة تشمينها من البعد، أتعرفين رائحة القيادة؟! هواء ثقيل بارد يهب من هذه الناحية، انظري، لم أكن أعرف أن السلطة لها رائحة، ولها صوت يصطك مثل قرقعة الحديد أو ارتطام الفولاذ بالمعادن الصلبة، يتحول الصدى إلى صوت أشبه بهذا الصوت الذي نسمعه، اسمعي!
حركت رأسي في الاتجاهات الأربعة أحاول التقاط صوت الريح فلم أسمع إلا صمت الليل، ملايين الأصوات الهامسة التي تصنع الصمت، قربت أذني من فمه. - لا أسمع شيئا يا غسان. - لأنك فقدت أذنيك يا دكتورة منذ زمن بعيد، منذ ولدت على هذه الأرض، وأردت أن تحمي نفسك من سماع الكلمات النابية؛ مثل كملة «مرة»، ألم تسمعي كلمة السباب الأولى فوق هذه الأرض؟ إذا أرادوا إهانة رجل يقولون له: «ابن المرة». إن أعدائي قادرون على تمزيق جسدي بالألم، لكنه أخف منذ هذه الإهانة، وفي يوم قال لي قائدنا أو زعيمنا كما يسمونه، قال لي: «ابن المره»، منذ ذلك اليوم فقدت أذني حتى لا أسمع الكلمة مرة أخرى. لم أكن فعلت شيئا سوى أنني لم أضع قليلا من السكر في فنجان قهوته، نسيت أنه يشرب القهوة ع الريحة كما تقولون في مصر، وكان يفقد مزاجه إن لم يشرب قهوته ع الريحة في الصباح، يصبح هائجا كالضبع، يكاد يعض من حوله بأسنانه، ومن فمه تنثال كلمات السباب، أولها هذه الكلمة يا ابن المره! وهربت من المعسكر بعد أن فقدت أذني، وكنت قد فقدت ذراعي اليمنى في عملية فدائية داخل الضفة الأخرى، في قلب أرض العدو، التي كانت أرض أمي، نجحت في تدمير معسكر العدو وبدأت أهرب لأعود إلى هنا، وأنا أزحف فوق بطني شممت رائحة أمي في الأرض، تمهلت قليلا، توقفت لحظة أملأ صدري بالرائحة، وانهمرت طلقات الرصاص من حولي مثل سرائب الحمام الأبيض في ظلمة الليل، لم أعرف أنها طلقات رصاص، كنت مستغرقا في اللذة الطفولية، عدت طفلا أدس أنفي داخل صدر أمي وأملأ صدري بالرائحة، أتذكرين رائحة أمك يا دكتورة؟! - رائحة أمي؟!
فاجأني السؤال، ماتت أمي منذ تسع سنوات، نسيت رائحة أمي، بدأ الهواء يتحرك حاملا لي الرائحة، أوشكت الإمساك بها قبل أن تتسرب من الذاكرة، لكن الهواء تحرك بفعل الريح؛ فهربت مني كما تهرب السمكة الصغيرة من بين أصابعي في البحر.
جلست فوق قطعة حجر بجوار الخيمة، وهو راقد كما كان فوق ظهره، قطعة مربعة من اللحم البشري بلا ذراعين ولا ساقين، عين مربوطة بالشاش، العين الأخرى ترمقني في الظلمة كالنجمة الوحيدة في سماء سوداء، صوته يدخل مسام جسدي مع نسمة الليل كالحلم. - هربت من المعسكر يا دكتورة أزحف فوق قطعة من الخشب لها أربع عجلات، أدفعها بكتفي، لم أعرف ماذا أفعل بجسمي بلا أطراف ولا آذان ولا عيون، ولا شيء إلا هذا الصدر المكشوف والضلوع تحتها قلبي يخفق ممتلئا بالحنين للحب، ورأيت عيون الأطفال ترمقني من بعيد في خوف، يتحسسون أذرعهم وسيقانهم، يطمئنون إلى وجودها، يخشون فقدانها، كأنما يرون مستقبلهم في، وعيون الكبار ترمقني من بعيد أيضا، يلقون إلي بقطعة من النقود من بعيد، لا يكاد يقترب مني أحدهم إلا وضاعت منه أطرافه وأذناه وعيناه، تسقط قطعة النقود فوق بطني، ألتقطها بلساني، الذي أصبح يدي ألتقط بها الأشياء، وصنعت لي القيادة ملفا صغيرا ضمن ملفات أصحاب العاهات أو الشحاذين، كنت ألتقط طعامي من فضلات الناس في الطريق، وإذا جاء المبعوث الأميركي يزور قائدنا تنتشر عربات الجيب المصفحة في الشوارع تلم الشحاذين، تكنس الشوارع من القمامة، تدهن سيقان الأشجار بالبويا البيضاء، ترفع الأعلام وأقواس النصر، تحولت من الفدائي وجه الوطن المشرف إلى الوجه المخزي المطلوب إخفاؤه كالعورة عن عيون الضيوف. - وكيف عدت إلى معسكر الفدائيين يا غسان؟ - آه يا دكتورة، هذا سؤال مهم، جاءني مندوب من القيادة وسألني؛ أيهما تفضل: أن تعيش شحاذا محتقرا أم تموت شهيدا مكرما؟ قلت على الفور: أموت! كنت أنشد الموت دون جدوى، أريد أن أمسك بيدي مسدسا أو موس حلاقة لأقتل نفسي، لم تكن لي يد أمسك بها آلة القتل، ربطوا حول صدري وبطني حزاما من القنابل الموقوتة، حملوني مثل طرد من الديناميت إلى معسكر الأعداء لسوء الحظ لم تنفجر القنابل، كانت كلها مغشوشة، صفقات الأسلحة الفاسدة تجارة دولية، تقتسم القيادات الربح فيما بينها. سقطت أسيرا بين أيدي الأعداء تشاءموا من منظري فأعادوني إلى قيادتي كنوع من العقاب لها، وضعوني في هذه الخيمة في معسكر السلط.
كلما أرادوا تفجير معسكر في الضفة الأخرى ربطوا حزام القنابل حول صدري وبطني، أنطلق في مهمتي سعيدا، وعندي أمل وحيد، ألا تكون القنابل مغشوشة لأموت شهيدا وأدخل الجنة مع الأنبياء، ويحصل أبي بعد موتي على المعاش، كان أبي ينشد موتي فهو رجل فقير يعول أسرة كبيرة. أحيانا أصدق أن هناك جنة بعد الموت، وأحيانا تبدو لي الجنة مجرد خدعة من اختراع القيادة، أتعرفين أحدا في هذه القيادة يا دكتورة؟ القيادة هي القيادة في أي بلد في العالم، هل وقعت في حب أحدهم؟ هل وقع أحدهم في حبك؟ - أنا يا غسان؟! - أيوه! إنت! كيف جئت إلى هنا يا دكتورة؟ لا أحد يأتي إلى هنا من دون أن يمر على القيادة، دون أن تفحصه القيادة، إنهم رغم قبح الملامح، فيهم شيء من الجاذبية، وتشتد الجاذبية بارتفاع المكانة؛ لهذا يحظى القائد بنصيب أكبر من النساء ... هل أغراك أحدهم بالتطوع والموت في سبيله؟! نعم في سبيله وليس في سبيل الله أو الوطن؛ فالمرأة أكثر ذكاء من الرجل، لا يمكن أن تموت المرأة من أجل كلمة مجردة، بل من أجل شيء ملموس حقيقي؛ مثل جسد رجل له ذراعان يضمانها في الليل، وأنا رجل بلا ذراعين ولا ساقين لم تعد هناك امرأة ترغب في الموت من أجلي.
الساعة تنقضي وراء الساعة وأنا جالسة فوق قطعة الحجر بجوار الخيمة، وهو راقد فوق ظهره، صدره يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة، تعلوه طبقة من التراب والدم، عينه الوحيدة لا تزال مفتوحة ترمقني في الظلمة وتومض مثل ذؤابة ضوء توشك على الانطفاء، صوته ينخفض قليلا، يتقطع، أكاد لا أسمعه، أقرب أذني من فمه. - استمر ... أنا أسمعك يا غسان. - صوتك الحنن يكشف أنك عرفت في حياتك رجالا كثيرين، إن صدرك مثل صدر الأم رقدت فوقه رءوس كثيرة متعبة، لكنك كنت تطردين الرجال الأطفال الباحثين عن الأم، كنت تبحثين عن رجل مكتمل الرجولة يحمل السلاح ويقتل العدو، تريدين فدائيا شجاعا لا يخاف الموت، تضعين رأسك فوق صدره كأنما هو صدر أمك؛ ألهذا جئت إلى هنا يا دكتورة؟! - لا يا غسان، أنا لا أبحث عن صدر أضع عليه رأسي، لكني بعد الهزيمة لم أعد أطيق الحياة في مدينة القاهرة، الهواء هناك أصبح مشبعا بالدخان والهزيمة، العيون منكسرة حزينة، حتى جمال عبد الناصر نفسه تهدلت ملامحه وانكسرت عيناه مثل الأسد الجريح. - سمعت من الزملاء أنك كاتبة، هل جئت إلى هنا بحثا عن رواية جديدة؟ كنت في طفولتي أكتب الشعر وكانت هناك لها عينان سوداوان مملوءتان بالأمل والحلم مثل شعاع الشمس ، عيناها أراهما بعيني الواحدة تشبهان هذه الطفلة؟ - هل تراني يا غسان؟ - لا يا دكتورة، لا أراك؛ لأن العين الباقية لم تعد ترى، لكني أراك بقلبي، صوتك يذكرني بصوت أمي، أحلم كل ليلة أنني عدت إلى حضن الأم في الوطن القريب البعيد، أحلم بامرأة لها صدر الأم وجسد الأنثى، لكن الأمومة والأنوثة لا يجتمعان في امرأة واحدة، وأنت طبيبة وكاتبة لا يمكن لرجل أن يلمسك إلا إذا كان جريحا أو موضوع رواية جديدة، أتحلمين مثلي بالموت ودخول جنة عدن؟ لكن الجنة خلقت لنا نحن الذكور وليس فيها للإناث دور إلا الجواري الحوريات، أتعرفين هذه الحقيقة يا دكتورة؟ - نعم أعرفها يا غسان؛ لذلك لم أحلم أبدا بدخول الجنة. - أنت إنسانة ذكية، كشف زيف الذكورة والأنوثة، تجتازين المحيط الواسع بينهما بخطوة واحدة من قدمك، وأنا أريد منك طفلا يرث ذكاءك قبل أن أموت، أتحققين رغبة إنسان فقد كل شيء من أجل الوطن إلا القدرة على الإنجاب؟!
رأيته يضغط على أسنانه كأنما يكتم ألما عميقا في الجسد، يمر بلسانه على صدره المملوء بالجروح والكدمات، كان يتحرك فوق المقعد ذي العجلات بصعوبة، يريد أن يتبول، يخجل أن يتبول أمامي، تحت الشعر الأسود الكثيف أسفل بطنه كانت المثانة منتفخة ممتلئة حتى الحافة، يجز على أسنانه من شدة الألم، أسمع صوت اصطكاك الفكين القويين، وأقدام حديدية تصطك بالأرض، شباب فدائيون استيقظوا من النوم بدءوا يؤدون التدريبات، ينظفون بنادقهم يملأونها بالرصاص، يطلقونها في الجو، الفجر لم يطلع بعد، وأنا متكورة حول نفسي أمام باب الخيمة، أرتدي المعطف الأبيض فوق بدلة الحرب، في جيبي قلم رصاص جاف، في الجيب الآخر مفكرتي اليومية، قد أنزع منها ورقة غير مكتوبة لأكتب عليها اسم دواء، أو كلمة غسان، صوته أصبح ممزوجا بالعرق والدم. الآن لم يعد جسده يفزعني، لم أعد أراه مشوها، أحوطه بذراعي كأنما هو طفلي، حملت به وولدته في مكان وزمان لا أدري عنهما شيئا، إنه يموت بين ذراعي، أنا أحقق له رغبته الأخيرة قبل أن يموت.
مات غسان تلك الليلة قبل أن يطلع الفجر، وضعوه داخل حفرة في الأرض وأهالوا التراب فوقه، عدت إلى القاهرة صباح اليوم التالي، كان شريف ينتظرني بالمطار، رآني شاحبة الوجه معفرة الملابس، سألني: ماذا حدث في الأردن؟ قلت: مات غسان يا شريف. قال: من هو غسان يا نوال؟ قلت: شاعر مجهول ربما ينجب طفلا ذكيا في جنة عدن يرجم إبليس بالحجارة. ضحك شريف وقال: أهي رواية جديدة؟!
Bilinmeyen sayfa