Kağıtlarım... Hayatım (Birinci Kısım)

Nevval Saadavi d. 1442 AH
148

Kağıtlarım... Hayatım (Birinci Kısım)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Türler

وينهض يوسف إدريس من مقعده، كان طالبا في السنة النهائية، يتجه نحو المنصة بخطوة واسعة سريعة، رأسه مائل إلى الأمام بقوة كأنما ينطح الهواء، متوسط الطول والنحافة، ليس أنيقا مثل فؤاد محيي الدين، بدلته واسعة قليلا، ربطة عنقه واسعة متهدلة حول عنقه، معوجة على جنب، ربما عقدها بسرعة دون أن ينظر في المرآة، لم يحرص أن تأتي العقدة بالضبط في نقطة الوسط مثل فؤاد محيي الدين، يقف على المنصة واضعا يده اليمنى في جيبه، يحرك يده اليسرى في الهواء، يحملق في الحاضرين بعينين لامعتين غائرتين تحت عظام الجبهة، يثبتهما بحدة في عيون الجالسين كأنما يبغي تنويمهم مغناطيسيا، صوته لا يقل ارتفاعا عن صوت فؤاد محيي الدين، يخلط الفصحى بالعامية: «يا أيها الزملاء، بلادنا تمر بمرحلة خطيرة علينا أن نكون جميعا فدائيين نحمل السلاح في القنال ونطرد الاستعمار، ويا زملاء، مش كفاية القضاء على الاستعمار، لا بد من ثورة شعبية تحقق العدالة بين الطبقات الكادحة والطبقات العليا.»

تسري الهمهمة بين الطلبة، يرفع أحدهم صوته: «ده كلام شيوعي.» يتصدى له طالب آخر: «اسكت يا أخ خلينا نسمع.» أسكت يعني إيه؟ لا يمكن أسكت! تنشب مشاجرة في ركن من أركان المدرج، ينهض زعيم الوفد «سليمان محمد» يسرع إلى المنصة، لا يتخلى يوسف إدريس عن مكانه، يقف الاثنان معا فوق المنصة، زعيم الوفد أقصر قامة من يوسف إدريس، أكثر نحافة، بدلته أكثر تهدلا واتساعا، كأنما أخذها من أبيه أو أخيه الأكبر، ربطة عنقه باهتة مفكوكة، ياقة قميصه مسودة قليلا، قبضة يده تضرب المنصة أقوى من الجميع، صوته أعلاهم فهو ينتمي إلى حزب الأغلبية وهو الحزب الحاكم أيضا بزعامة النحاس باشا، يهتف بعض الطلبة النحاس! النحاس! يشتد الهرج والمرج، يقفز زعيم الوفد فوق المنصة يضرب المنصة بقدمه القوية، حذاؤه له كعب سميك تبطنه قطعة حديد على شكل حدوة الحصان، صوته أعلى من صليل الخيل: يحيا النحاس زعيم الأمة.

في الصف الآخر بجوار الباب الخلفي كنت أجلس، لأخرج حينما أشاء دون أن يراني أحد، كانت عيونهم تتجه نحوي دائما، ربما لأنني الطالبة الوحيدة التي تحضر هذه الاجتماعات السياسية، الآلام الحادة في مؤخرة رأسي أو الصداع، ربما بسبب الاختناق «الإسفكسيا» بلغة الطب، الهواء تشبع بالدخان أو النيكوتين وثاني أكسيد الكربون وانعدام الأوكسجين، ارتفعت الحرارة ونسبة السموم في الدم، جالسة في مقعدي عاجزة عن النهوض لأخرج من الباب الخلفي، عقلي مشلول، توقف الدم النقي عن تغذية خلايا المخ يؤدي إلى ضمور العقل أو البلادة، هل غفوت أو سقطت في غيبوبة تشبه النعاس؟ ثم أفقت فجأة على صوت يقول: فين أحمد حلمي؟

انتفخت عيناي لسماع الاسم، تحركت الأعناق نحوه، كان جالسا في الصف الأخير مثلي، لكن في الناحية الأخرى قرب النافذة، تفصلني عنه مساحة طويلة من المقاعد الخالية، يرتدي القميص الأبيض المفتوح، لم يكن يتعجل الكلام، لا يلقي خطبة، لا يضرب المنصة بقبضة يده، لا يضغط على مخارج الألفاظ، مع ذلك صوته مملوء بالحماس، يدخل في الموضوع مباشرة دون مقدمات: «يا زملاء كتائب الفدائيين في القنال تلزمهم ذخيرة ومؤن وخطوط خلفية، لا وقت للصراعات الحزبية، نحن في حاجة إلى الوحدة الشعبية!»

وعاد إلى مقعده بالخطوة الهادئة نفسها التي سار بها إلى المنصة، التقت عيوننا لأول مرة عبر الصف الطويل الخالي، لم يكن يرتدي نظارة الشمس، عيناه رأيتهما في لحظة خاطفة، وميض من الضوء يشف من تحته ضوء أشد، نافذتان مفتوحتان إلى عمق البحر، داخل المحارة العميقة في جوف المحيط.

عدت إلى البيت سيرا على القدمين، كان يوما خريفيا من أيام نوفمبر عام 1951م، الشمس على وشك الغروب أو غربت منذ لحظات، وصلت كوبري عباس وألوان الغسق تنتشر في السماء، مهرجان من الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر والبرتقالي والذهبي والفضي كلها تتعانق وراء السحب، تتخذ أشكالا لها رءوس وأذرع مثل آلهة الهند ومصر القديمة، تتغير أشكالها مع توهج السماء بلون الدماء ثم تذوب الحمرة في لون برتقالي فاتح، لا يلبث أن يتلاشى في اللون الرمادي، وهذا أيضا يتلاشى بدوره، يسري الليل في الكون لا صوت، لا حركة، إلا نسمة باردة خفيفة تهز أوراق الشجر، مياه النيل تمشي فوق الأرض، إيقاع صوته يرن في أذني داخل الصمت، أصل إلى شارع الهرم وأمشي وأمشي بالخطوة نفسها غير السريعة، أمشي وأمشي كأنما إلى آخر الدنيا.

تأخرت في العودة إلى البيت، سخنت أمي لي العشاء، شوربة الدجاج والأرز المفلفل، التهمت الطعام بشهية الطفلة، أمي جلست أمامي ترمقني، تحوطني بعينيها كما كانت تفعل حين أعود من المدرسة، البريق في عينيها يشف ضوءا قويا كالنافذة المفتوحة إلى أعماقي، صوتها يخترق المتاريس التي أقمتها حول القلب تحت القفص الصدري: «فيه حاجة يا نوال حصلت النهاردة في الكلية؟»

السؤال عادي تسأله أمي كل يوم، أدفن وجهي في الصحن أتفادى النظر إليها، سحابة من الشك تطفو على ملامحها، تعاود السؤال: «فيه حاجة حصلت يا نوال؟» أمضغ الكلمات مع الأكل وأغمغم: «أبدا ما فيش حاجة حصلت.»

في غرفتي وحدي أغلق الباب، أفتح النافذة أحملق في السماء، هل لأمي قرون استشعار؟ أو هما عيناي مكشوفتان كالكتاب المفتوح؟ في المرآة أحملق في وجهي، عيناي لم يتغير فيهما شيء، المقلتان السوداوان يكسوهما البريق، أشد بريقا من المعتاد، هذه الفتاة داخل المرآة أهي التي كنت أراها كل يوم؟ يأتيني الصوت الهامس في أعماقي كالصمت: ماذا حدث يا نوال؟ لا شيء! لا شيء! مجرد لقاء صامت عبر الصف الطويل من المقاعد الخالية.

منذ هذا اللقاء الصامت في نوفمبر 1951م حتى الطلاق في يناير 1957م التقينا كثيرا، تكلمنا وعشنا تجربة الحب والزواج والإنجاب، إلا أن هذا اللقاء الصامت لأقل من نصف الثانية هو الباقي في ذاكرتي، هي اللحظة غير القابلة للضياع، أتذكرها من بين ملايين اللحظات الأخرى، أهم حدث وقع في حياتنا على مدى السنوات الست من اللقاء حتى الفراق، كم من عقبات مرت بنا، وكم افترقنا ثم التقينا، ولا شيء يدفعنا إلى اللقاء إلا هذه اللحظة الواحدة الصامتة عبر الصف الأخير من المقاعد الخالية في المدرج الصغير.

Bilinmeyen sayfa