Kağıtlarım... Hayatım (Birinci Kısım)

Nevval Saadavi d. 1442 AH
140

Kağıtlarım... Hayatım (Birinci Kısım)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Türler

انتبهت إلى أنني أمشي في الغابة وحدي، صديقي رجاء لم يعد موجودا، مات منذ اثني عشر عاما في نهاية أكتوبر عام 1981م. قبل أن يموت بأربعة أيام أرسل إلي رسالة من باريس، تراكمت مع البريد فوق مكتبي في بيتي بشارع مراد بالجيزة، كنت غائبة عن البيت، أعيش داخل زنزانة في سجن النساء بالقناطر شمال مدينة القاهرة.

خرجت من الغابة إلى طريق الجامعة، سأدخل بعد دقائق إلى الفصل لألقي على الطلبة والطالبات محاضرة جديدة عن الإبداع والتمرد، أطرد بيدي ذكريات السنين الماضية، أشد ذراعي من ذراع رجاء، لا أودعه، أدخره في ذاكرتي لأعود إليه، مهرجان الألوان يشتعل فوق رءوس الأشجار داخل الكامباس، شريف يسبقني إلى الفصل، أراه من الخلف وهو يمشي، يرتدي بلوفر بنيا فيه مثلثات رمادية، حذاء كاوتش لونه بني، في يده حقيبة جلدية مطوية، انحناءة قليلة مع الخطوة النشيطة السريعة، شعره تساقط قليلا في منتصف الرأس، جسمه نحيف مشدود يندفع إلى الأمام، نوع من الاقتحام العنيد، إرادته حديدية لا تلين، قضى أربعة عشر عاما داخل سجون مصر، لم تتغير إرادته، كأنما الزمن داخل السجن معدوم، لم تتغير ملامحه، شمس المحاريق في الصحراء جعلت بشرته سمراء تشوبها حمرة، الصمت في السجن زاده صمتا، الأكل القليل زاده نحافة، القضبان الحديدية أضافت إليه العود المستقيم، التقينا في ربيع عام 1964م، ربيع معلق فوق سحب الشتاء والنفحات الأولى لزهر البرتقال، لم نكن نؤمن بالمؤسسة الزوجية، نسخر معا من قانون الزواج، العقد المكتوب يشبه عقود تأجير الدكاكين، كنا نعيش في مدينة القاهرة، بدون ختم الدولة «النسر» لا يلتقي الرجل والمرأة إلا وثالثهما الشيطان.

القاهرة مدينتي المقهورة، أصبحت داخل قلبي منذ الطفولة، أحببتها وكرهتها، ما إن أعود إليها حتى أفكر في الرحيل، ما إن أرحل عنها حتى أفكر في العودة، تلازمني في الليل والنهار كأضغاث الأحلام، كواليس الحصار والمطاردة والسجن، خفقات النشوة والحب، آلام الهزيمة ولذة المقاومة، والسقوط والنهوض، والنهوض والسقوط، مدينة القاهرة تقدم لي الحياة والموت في كأس واحدة، أعود إليها كل مرة لأغادرها إلى الأبد.

إن كان هناك زمن فهو ما أخلقه بالكتابة، أسترجع تجارب الحياة في تلك القاهرة، المدينة الغارقة في اللامكان واللازمان، مدينة تبدو من البعد غير موجودة إلا في خيالي، إن الحياة تبدأ هنا والآن، مع حركة الهواء داخل صدري، حركة القلم بين أصابعي، عقارب الساعة تتحرك أمام عيني، اللحظة الحاضرة هي التاريخ الحقيقي لحياتي، لحظة طويلة ممتدة ما بين الولادة والموت، هي الماضي بعد أن مات، وهي المستقبل غير الموجود.

توقفت لحظة عن الكتابة، من خلال النافذة فوق غصن الشجرة رأيت السنجاب الصغير، يسمونه «إسكويريل»، يتمرغ تحت الشمس بعد أن ولدته أمه، انقض عليه طائر ضخم يشبه النسر يسمونه «الهوك»، أكله أمامي من الرأس إلى القدم، عيناي منجذبتان إلى عملية القتل، لا أستطيع تحريك رأسي بعيدا عن المشهد، السنجاب الوليد يقاوم دون جدوى، القوة الهائلة المفترسة لا تترك له مساحة التنفس، يداي إلى جواري مشلولتان، لا أستطيع إنقاذ الطفل المأكول، الشجرة بعيدة عني وعالية وأنا جالسة في مقعدي، جسمي محبوس بين المكتب والجدار، قشعريرة تسري من رأسي إلى قدمي عبر العمود الفقري، أسمع قرقشة العظام الصغيرة بين الفكين الكبيرين كأنهما عظامي، كأنما أنا هذا السنجاب الصغير المأكول، كأنما النسر اختطف حياتي كلها وهي ساخنة متأججة بالحياة، اختطفتها مني مدينة القاهرة كالوجبة الشهية قبل أن ألمسها، قبل أن أتذوق طعمها.

أنشد الحياة بعد الموت عن طريق الكتابة، مثل الأنبياء والآلهة، لست في شجاعة صديقي رجاء، مات دون أن يكتب شيئا: «ما جدوى الكتابة يا نوال إذا كانت الرقابة تحذف أهم ما نكتب؟» كان رجاء شاعرا، التقيت به لأول مرة في عيادتي بميدان الجيزة عام 1959م، كتب قصيدة شعرية عن فشل الوحدة بين مصر وسوريا، حذفت الرقابة أهم أجزائها، لم يبق منها إلا أبيات مفككة بلا معنى، قبل أن يموت بأربعة أيام بعث إلي برسالة قصيرة لا تزيد على سطرين: «أكتب إليك بعد أن استقر بي الحال أخيرا، أنت الوحيدة التي أذكرها في غربتي الطويلة ولا أكاد أعرف إن كان حبي لك هو الحقيقة.» •••

الذكريات تمر بخاطري وأنا واقفة في الفصل، بدأ شريف يتحدث عن الإبداع والتمرد مع الطلبة والطالبات، تجربة جديدة نعيشها في جامعة ديوك، زوجان يتقاسمان الفصل كما يتقاسمان الفراش، أحيانا يحدث الصراع، لم يكن شريف من الرجال الذين تؤرقهم ذكورتهم، معركته في الحياة لم تكن لإثبات تفوقه الجنسي، كان يعيش حلما كبيرا منذ الطفولة، تغيير العالم، إسقاط الرأسمالية الكونية، إحلال الاشتراكية، العدل المثالي والحب، التقينا حول هذه المبادئ الثلاثة منذ ثلاثين عاما، الحلم المثالي اللازوردي، مدينة القاهرة تتمطى تحت الشمس كالراقصة، تسهر تحت الفجر عارية، في ضوء الشمس المشرقة تصحو طاهرة مثل زوجة الإله آمون، تتخفى وراء الحجاب كالعذراء مريم، تطل على نهر النيل بلونه البرونزي، وأهرامات الفراعنة فوق هضبة الجيزة، الآلهة الذين حكموا مصر منذ نشوء العبودية، لم يتنازلوا عن العرش حتى بعد الموت، اكتشفوا العالم الآخر لمجرد الاستمرار في الحكم، أخذوا معهم إلى قبورهم أملاكهم: الذهب والفضة والتاج والصولجان ، حتى الوجبات الشهية الساخنة وضعوها إلى جوار رءوسهم الميتة، ومعها الفاكهة والحلوى، وقطع الحشيش والأفيون لزوم الوهم، لا تخلو رءوسهم من الوهم بعد الموت، لا يخلو موتهم من القبلات الحارة، الأكلات اللذيذة والشهوة المتأججة لحين البعث في دار النعيم.

الفراعنة المصريون هم أول من اكتشف الدين، هم سادة التوحيد والروحانية، سادة الشهوة والمادية الحسية، باعوا الوهم للمعدمين داخل أناشيد الإله إخناتون ومزامير النبي موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف حتى آخر القائمة، هم سادة الحب والحرب والطب والتحنيط والفلك والفلسفة والفن والمعمار، من هرم خوفو إلى جسد أبي الهول، رأس نفرتيتي، لوحات كليوباترا، والآلهة من النساء والفيلسوفات، من نوت وإيزيس ومعابد إلهة العدل وسخمت إلهة الطب إلى هيباثيا في الإسكندرية، قتلها الغزاة الرومان وحرقوا كتبها، مصر مقبرة الغزاة، يدخلونها ويخرجون، لا بد من طردهم وإن مرت القرون، لكنهم يعودون، لا بد من عودتهم، تحت أي حجة، تتغير الحجة من زمن إلى زمن، والسلاح في أيديهم يتغير، أيام نابليون تمنطقوا بالبنادق، وقت الاحتلال البريطاني أمسكوا المدافع الرشاشة، في الاعتداء الثلاثي (الإسرائيلي الفرنسي الإنجليزي) ركبوا الدبابات والطائرات المقاتلة تسقط القنابل، في أوقات اللاحرب يتمنطقون بحزام السلام والعملات الصعبة، يدخلون إلى مصر، هؤلاء الرجال الطوال القامة البيض البشرة المشربة بالحمرة، القادمون من وراء البحر والمحيط، مفسرو النظريات الكونية، يحملون لقب «الخبراء»، يشبهون سربا من الطيور الجارحة منفوشة الريش، يطوفون شوارع القاهرة بأحاسيس الغزاة يقتلون المعارضين، يشفقون على الشحاذين، يناولونهم البقشيش، يزورون بيوتهم داخل المقابر، في مدينة الموتى أسفل جبل المقطم ، وراء الشارع الأسفلت الممدود بين مصر القديمة ومطار القاهرة الدولي، يحمل اسم أحد رجال الثورة «صلاح سالم»، كان يرتدي نظارة سوداء تشبه طاقية الإخفاء، لا تظهر صورته إلا في صحيفة المساء مثل خفافيش الليل.

في المنفى رأيت مدينتي القاهرة، تمتد في خيالي بين أحاسيس الكره والحب، الرغبة والنفور، تمتد أمامي في الغربة الطويلة، تسكنها وجوه صديقاتي وأصدقائي، يشتعل قلبي بالحنين لأسكن معهم هذه المدينة، أجوب معهم شوارعها، أتمشى على شاطئ النيل تحت ضوء القمر مع رجاء وصفية وسامية ورفاعة وبطة.

منذ خمس سنوات كان الرحيل عن القاهرة إجباريا، الرغبة في الإفلات من الموت، الدفاع المشروع عن الحياة، جاءوا إلي قبل الفجر بقليل، ليلة التاسع من يونيو عام 1992م. •••

Bilinmeyen sayfa