آه! قلت: ولنرجع إلى الكتاب، ففي الكتاب قصة محب تبدأ هذه البدأة، وتجري في هذا المنزع، ثم تطرد وتنساق فلا يقرأها من عرف الحب إلا أحس كأن خيال ذلك المحب قد خرج من الكتاب ولزمه، لشدة ما تؤثر القصة في النفس، حتى لكأنها حادثة وقعت لمن يقرؤها، أو كأنه يرى القصة رأي عين.
رجل وقع من الحب بين لا، وليت، وهيهات ولات
4
بين التمني بأسلوبين، والبعد عما يتمنى بأسلوبين أيضا، فأحب ليتعذب، وتعذب ليتصل بمعنى نفسه، واتصل بنفسه؛ لينفذ منها إلى طرف من معنى الألوهية، وإن أردت الاختصار قلت لك: إنه أحب ليتأله!
هل تفعل بسمات الحبيبة كل هذا؟ ألا قل لي من أنت، فإن الكتاب لا يقول لي شيئا؛ وما كنت أقرؤه بل أقرؤك.
5
ماذا ترى في الابتسامات؟ أمر تسقط عليه بندى السماء في نشر الروض وعطره، أم تلذع قلبك بالخمر الضاحك الذي لا يقال فيه حين يشتعل إنه اشتعل، بل إنه، بل إنه تندى ... ذلك الجمر الذي يحرق من غير أن يتضرم، فلا يفني ما يحرقه ولا يأخذ منه، بل يصبح كلهيب الياقوت في الياقوت وديعة إلهية جميلة في شكل النار؟ •••
في كل صفحة من الكتاب كنت أراك فأرى المعاني شعاعا فكريا منبعثا من جبهتك السامية لا من الأسطر وأوراقها.
كأس الكتاب مملوءة بماء الشعر العذب؛ ولكن مؤلفه لم يناولني كأسا بل نقلني إلى الينبوع المتفجر؛ إذ نقلني إليك. أعطاني هو مادة القراءة، وهيأت لي أنت مادة الفكر فيما أقرأ فوضعني هو في الكتاب ووضعتني أنت في نفسي!
روحية الكلام المكتوب يا صديقي هي وحدها التي تجعل الكتاب عالما من العوالم يحمل دنيا مستقلة وإن كان هو يحمل في اليد، ولن يستطيع مؤلف أن يخلق في كتابه هذه الروحية، بل يبثها القارئ فيها يقرأ من ذات صدره أو ذات نفسه: فلا بد للمؤلف الناجح من ثلاث: نوع الكتابة، ونوع الأسلوب، ونوع القراءة؛ ومتى أصاب هذه الثلاث التأم قليله بالكثير، واجتمعت فصوله بالحوادث؛ وتلبست كلماته بالأعمال، ووجد من قرائه تفسيرا لكل ما يقول؛ فإذا هو قد ارتفعت به الحال فلم يعد كاتبا ينتظر قراءه بل نبيا ينتظر المؤمنين به؛ لأنه خارج من إحدى نواحي القلوب، وراجعا إلى القلوب من ناحية أخرى. •••
Bilinmeyen sayfa