كنت أعرف أن اللغة موضوعة لكل أهلها، شائعة في ألسنتهم جميعا، وقد خلقت من قبل أن يخلقوا، وتركها الأول للآخر، ولكن بلاغتك التي يتهلل بعضها تهلل جبينك، ويستحي بعضها استحياء خديك، ويفتر بعضها افترار شفتيك، وتأتي مفننة ناعمة كأنها جسم بديع ناضج للحب - قد جعلتني أعرف أن الكلمة التي يلقيها حبيب إلى محبه تأتي وكأنها لغة مخلوقة لساعتها؛ إذ ينتزع منها المحب صورا لا يراها في مثلها من كلام الناس، ويصيب لها في نفسه معاني لا تكون لها في ذات نفسها، ويراها مبتدعة له ابتداعا غريبا على نسق حي، فما ألقيت كلمة بين حبيبين إلا جاءت وهي تتنهد أو تبكي أو تضحك أو تتوجع، أو تنظر إلى معنى من المعاني بينهما؛ إذ لا بد أن تضرب على القلبين أحدهما أو كليهما.
إن الكلام في نفسه وسيلة من وسائل الفهم، فهو لغة، ولكنه في الحب وسيلة الجذب، فهو قوة، واللغة من بعض أدوات الحياة: أما لغة الحب خاصة فالحياة من بعض أدواتها.
لهذا يا عزيزتي، لا تكون الحياة في الحب إلا مادة: وإن النفس قد تجوع وتأكل من جوعها؛ إذ تخلق بإرادتها من الجوع أكلا فتشبع شبعا معنويا يلائمها كما جاعت ذلك الجوع الذي يلائمها: كنفس الذي قنع بالفقر وهو محتاج إلى الغنى، والذي صبر على المرض وهو فقير إلى العافية، ويطرد هذا القياس في كل أغراض الحياة، إلا في الحب، فإن جوع النفس العاشقة يقتلها قتلا؛ إذ لا غذاء لها من شيء في الوجود كله إلا ممن تحب.
ليس الحي منقطعا من الوجود، بل هو منه لأنه فيه، ويكاد كل شيء يقول له: يا ابني، أو يا أبي، أو يا أخي ... أو نحوها، فهذه الوشيجة بين الحي (والموجودات كلها)، هي قرابة العقل المسماة بالمعرفة، وصلته (بخصائص) الوجود في طائفة من الأحياء أو الموجودات، هي قرابة النفس المسماة بالصداقة، وشابكته (بأخص الخصائص) في حي واحد يجمع كل ذلك ويزيد ولا يزال يزيد، هي قرابة القلب المسماة بالحب.
نعم، وإن الحب ليكاد يكون معنى كبر في السن والقيمة والعقل من ذلك المعنى الطفلي الذي يندمج بالأم والابن معا في الوجود والعاطفة، فإذا كانت الأمومة هي التي تلد حقيقة الحياة بمعانيها الواقعة، فإن الحب وحده هو الذي يلد الحياة بشعرها ومجازها ومعانيها الخيالية الجميلة، ومن ثم لم يكن الحب رحما، وهو أشد منها صلة وأوقع في القلب، ولم يكن نسبا، وهو فوق النسب، ولم يكن دما من دم، وهو أشد ما عرف من حنين الدم للدم.
ولقد يكون في الدنيا ما يغني الواحد من الناس عن أهل الأرض كافة، ولكن الدنيا بما وسعت لا يمكن أبدا أن تغني محبا عن الواحد الذي يحبه.
هذا «الواحد» له «حساب» عجيب غير حساب العقل، فإن الواحد في الحساب العقلي: أول العدد، أما في الحساب القلبي فهو أول العدد وآخره، ليس بعده آخر إذ ليس معه آخر.
والحياة في كل موضع - يا حبيبتي - هي هي كما تكون في كل موضع وكأنها البحر: ماؤه في أمريكا هو ماؤه في مصر - إلى حيث يكون الحبيب، فهناك مع الحياة شيء غيرها، هناك المادة الخفية القادرة التي تنساغ في هذه الحياة ؛ لتلونها تلوين الزهرة منفردة بالجمال والعطر من بين أوراق شجرتها، على حين كل أوراق الشجرة مسحة لون واحد. (الحياة مادة) فأين أنت يا مادة الروح المنسكبة في روحي؟
أضع في آخر كلماتي سطرا غير مكتوب. سطر فيه كثير من المعاني المتكلمة من غير كلام ...!
رسالة للتمزيق ...1
Bilinmeyen sayfa