4
فكله في الأعلى، وكله في الأسفل، وكله بين ذلك، ولا قرار له على وضع إلا أن ينكسر وينفثئ.
5
وكل شيء جميل في الطبيعة تراه يتخذ من هذا الأصل شبها عند متأمله والناظر فيه، حتى لكأن الجمال يقول للإنسان: إذا أردت أن تسر أيها الإنسان وتبتهج بي، فلا تفهمني في نفسي أنا بل في نفسك أنت، ولا تأخذني على ما أنا للوجود والطبيعة بل على ما أكون لك ولأغراضك، ولا تدعني لذاتي بل غيرني في وهمك وخواطرك، فإنك إن غيرتني فقد خلقتني، وإن خلقتني فقد جعلتني لك. •••
وعلى ذلك الأصل فجمال المرأة المشوقة إن هو إلا خرافة رجل من الناس، وبكونها خرافة عادت لا حقيقة لجمالها، وكأن الحب إن هو إلا زيادة شعاع في العين تنظر النفس به نظرا نافذا إلى موضع لذتها أو فكرها أو هواها، فإذا خطف هذا الشعاع على من يضيء في وجهه بالحب، نقل إليه النفس ببقيتها ووهمها جميعا فاختلطا على تلك الصورة فهما هناك شيء واحد: الوهم هو اليقين واليقين هو الوهم، فكل شيء من ذلك الجمال هو عقيدة ثابتة لا موضع فيها لجدل، ولا مساغ لنقض، ولا محل لرد، وحينئذ لا يكون أكبر عمل المحبوب في سياسته وتدبيره إلا أن يلم أو يوفق بين عقله هو وبين جنون عاشقه، وأن يحاول الملاءمة بين حياة الخيال الشارد في إرادة هذا المجنون وبين حياة الواقع الراهن فيه هو، وبذلك فلن ترى حبيبا إلا هو من محبه بمنزلة الطبيب من مريضه، يطب له أو يزيد في علته، أو يهلكه ... هذا حين ينبعث ذلك الشعاع، فأما حين يخمد فمنذا الذي تراه مطيقا أن يصعد السماء إلى النجم الذي انطفأ؛ ليضيئه كما كان يضيء ...؟ •••
أقول: إن الحب زيادة شعاع في العين، كأنه كهربائية تتفاعل في مركز البصر من الدماغ فينقدح منها ضوء على النفس متلون نافذ لا يثبت فيه حقيقي من المرأة على حقيقته، ولا يظهر فيه شيء إلا مصبوغا مغيرا، ولا يرده راد عن أن ينفذ إلى منتهاه، حتى لينكشف له المستور وهو في أستاره قد توارى، وما من حبيبة تجلس إلى محبها المفتون بها إلا هي تحت بصره كالعارية وإن لبست ما لبست؛ لأنها بالحب جسم حي من أفكاره وهواجسه ونزعاته.
6
ولو بقيت عين المحب على عنصرها؛ لكان الجمال في روح الجميل وشمائله وطباعه لا في وجهه وجسمه وزينته، ولعل أجمل نساء الأرض حينئذ لا تكون إلا عجوزا من العجائز ... ثم عسى أن تكون أشد النساء فتنة أشدهن قبحا ودمامة، وأبعثهن في معاني الشهوات على النفرة والجفوة والاشمئزاز، وهذا إن لم يكن هو الواقع في اعتبار العين والخيال والحب، فهو الواقع في اعتبار الفضيلة والحقيقة والكمال. •••
إنما التركيب الجميل في الشكل الفاتن إتقان للكذب بهذا الشخص على حواس عاشقه، وهو لن يحب ويعشق حتى تكون معاني هذا الاتقان موزعة على تكوينه وقسماته وتقاطيعه ومعارفه ومجاهله ... كأن جسمه بكل ما فيه عبارة مركبة يؤخذ المعنى من جملتها كلها، ولكن كل جزء فيها يسوق إلى هذا المعنى، ولذا تظهر الصورة الجميلة الفاتنة كأنها انتباه نفسي محتفل مستوفز يشد ويتوثب ليزيد، ويتكسر ويتقتل ليزيد أيضا، ويخلق حوله من الثياب والزينة والفتنة جو الأشعة والألوان والنفحات ليزيد كذلك.
وهل رأيت قط كذبا يصلح كذبا أو خداعا يكون خداعا إلا وهو قائم على مثل هذه الحال من التنبه في النفس؛ ليتغطى ولا ينكشف، ويبقى ولا يضمحل؟ ثم هل رأيت قط شبيها لمن أضل رأيه وصوابه في وجه فاتن يعشقه إلا ذلك الذي أضل حذره وفطنته حين أحكمت له الخديعة في حلاوة الظاهر، وطلاقة الكذب، وتبرج الحيلة في زينتها حتى غفل ووقع؟ فهذا كما ترى.
Bilinmeyen sayfa