فالمرض الرحيم وضع النفس في وثاق يمسكها حينا؛ ليحبسها على تأمل حقائق الحياة المغطاة، ويكرهها على أن ترى الدنيا أهون من أن تصغر لها نفس، وأحسن من أن يسقط بها قلب، وأحقر من أن تتهالك عليها الأحياء، ثم ليريها رأي العين أن العالم مصبوغ بأخيلتها الوهمية التي نفضت عليه ألوان الجنة فأفسدته بهذا التمويه، وتركت أهله يتكذبون في أوصافه فيخطون في حقائقه وجعلته كالقمر: هو في ذاته حجر مظلم، ولكن ذهب الشمس يجعله كله فضة بيضاء.
إنه لا يفسد الإنسان إلا الغرور، ولا يكون الغرور إلا من الطيش ولا يطيش بالرأي إلا سوء التقدير، ولا يكون هذا السوء أكثر ما يكون إلا من بلاء العافية على الإنسان ... وإن من بلاء العافية ثلاثا: عافية الجسم، وعافية الهوى، وعافية المال، فأما الجسم: فأقرب ما وجدته إلى الحيوان الضاري الخبيث أشد ما وجدته قوة وعافية، وأما الهوى: فلم يخلق الله شيئا كل هلاكه في قوته غيره، وأما المال: فعافيته في رجل واحد مرض في ألف رجل إلى ألوف كثيرة، فهو حصر الدنيا كلها في بعض أجزائها.
فكأنما تطوف الأمراض في هذا العالم؛ لتصلح نواحي الإنسانية فيه، فتضعف الحيوانية، وتكسر شرة الهوى، وتكف طغيان المال عن النفس حتى لا شهوة فيه ولا قوة له، ولو جمعوا ما أصلحته الأديان والقوانين من أحوال النفس وطباعها، ثم ما أصلحته الأمراض منها؛ لرأيت أن لله أنبياء من هذه الأمراض يرسلها إلى الدم الإنساني، وأن «الميكروبات» السابحة في الهواء كالأملاح الذائبة في البحار: لولا هذه؛ لتعفنت الأرض، ولولا تلك؛ لتعفنت الإنسانية. •••
تأمل هذا المريض وهو حائر النفس، متخاذل الأعضاء، كاسف الوجه، ميت الهوى، لا يتماسك مما به من الضعف، ولا ينبعث لما به من الخمود؛ ولا يتشهى لما به من الفتور، ولا يتذوق بما به في روحه من المرارة، ولا يجرؤ لما في حسه من الإشفاق، ولا ينظر إلى الدنيا إلا بملء عينيه زاهدا فيها كأنما بث المرض في عينيه شعاعا ينفذ الأمور إلى حقائقها، ثم يخترق الحقائق إلى صميمها ... أفلا ترى هذا الإنسان قد عمل فيه مرض أيام قليلة ما لا تعمل العبادة مثله في أزهد الناس إلا في السنين المتطاولة؟
إنما هي ثلاث وسائل للجمع بين الإنسان وحقيقته العليا: العبادة القوية ، وقد عجزت إلا في أفراد قلائل، والحكمة الصحيحة العالية، وهي أشد عجزا إلا في الأقل. ثم لم تكن الوسيلة العامة التي تتناول الناس جميعا، ولا يستعصي عليها أحد ممن أطاع أو عصى، إلا المرض ...!
يوجد الإنسان ليمحى ويزول، ولم تتمكن الفضيلة الإنسانية من نفس إلا إذا تمكنت هذه الفكرة منها، فإن الزائل يرى ليومه ما بعد يومه، ويعلم أن حقه على الناس ليس شيئا أكثر من حقوق الناس عليه، ويحتاج إلى العمل لروحه كما يعمل لجسمه، وما يكون زاد الروح إلا من آثارها في الأرواح الأخرى، ومن آثار هذه الأرواح فيها، فإذا كانت حقوق الأجسام تدفع الناس إلى التنازع على البقاء، فإن حقوق الأرواح تقابل هذا الناموس بما يصلحه، فتزيد في الناس إلى القوة الرحمة، وإلى الغنى الإحسان، وإلى العزة المروءة، وإلى كل طغيان ما يمازجه فيكف من جماحه، ويجعله إلى الخير أو من الخير.
وإن أعجب ما في الإنسان أنه يرى الموت والموتى بين الساعة والساعة، ثم لا يستشعر من كل ذلك معنى زواله. كأن عادة الحياة أخمدت هذا الحس فيه أو خملت منه، وما هو إلا أساس التعاطف الإنساني، ثم لا يكون إلا أن يمرض هذا الإنساني يوم، فإذا هو قد تلقى الدرس على أحكم أساتذته، ورأى نفسه كان يمشي فقعد، ويستطيل فتقاصر، ويشمخ فانهد، ويسر فحزن، وإذا هو قد بدل من الصوت خفض الصوت، ومن الإعجاب مقت الإعجاب، ومن الخلاف ترك الخلاف، ومن جفوة الناس حاجته إلى رحمة الناس ... ثم إذا هو قد أمسك عن كل ما كان فيه من العمل، وأقبل على الصحراء المخيفة التي بين الدنيا والآخرة، وأحس من غمزة يد الله في مواضع آلامه أن الإنسان مهما يكن من قوة الأسر وشدة البأس فما هو بعد إلا حبة صغيرة واهنة بين شقي هذه الرحى العظمى الدوارة التي حجرها الشمس والقمر! •••
سبحانك اللهم! إنما هذه الأمراض أخلاق أنت تنشئ بها الرحمة في قلوبنا المتحجرة، وتصرفنا فيها إلى نفوسنا بعد أن نكون قد جهلنا هذه النفوس في أعمال الحياة أو جهلتنا، وتعلمنا جميل صنعك في تواتر حلمك علينا مع قبيح صنعنا في ترادف عصياننا لك، وتنقلنا بها في خطوة سريعة من خطر الأزلية؛ لنرى الدنيا من آخرها فلا نجد نعيمها إلا معاني الهلاك، ولا ملذاتها إلا أصبابا من الندم، ولا غناها إلا فنونا من الحسرة. ثم لا ننظر في أجسامنا إلا أشكالا قائمة من التراب، ولا نعرف من أعمارنا إلا أنفاسا كانت تصعد من فم القبر، وإذا أذنت بعد في شفائنا، ومسحت بيد العافية علينا، كانت الأمراض وسيلة من وسائل تجديد العمر، وخرج المريض وكأنه مقبل على الدنيا من ناحية لم تكن فيها؛ فينسم من كل شيء رائحة الحياة، ويرى على كل جمال أثرا كأثر الحب ولذته وحنينه، ويستقبل نفسه الراجعة إليه في موكب الحواس القوية، فلا يكون له إلا ما قد يكون مثله في الملك المخلوع أعادوه إلى العرش؛ فجاءوا بالتاج، وأقاموا له الزينة، وحشدوا له الحفل، وقالوا: سمعنا وأطعنا!
سبحانك! إنما هذه الأمراض مواعظ منك تعلمنا كيف نضع شهواتنا في موضعها من الضرورة، ونحصرها في حدودها من الازدراء والمقت، فلا تعدو بطبائعنا علينا، ولا تعدو بنا على سوانا، وإنه ما يخطئ امرؤ في الحياة إلا من إقرار شهواته في غير أمكنتها حتى تأخذ من عقله، وتنال من رأيه، وتجور على حواسه، فيقلبها ذلك من أن تكون حركة في الحياة إلى أن تصير الحياة كلها حركة من حركاتها: وحينئذ لا تكون الشهوات إلا أكثر مما هي، فتقتضي أكثر مما تستحق من الجهد والعمل الإنساني؛ ولا تكون الحياة إلا أحقر مما هي، فلا تخرج إلا أقل ما يمكن أن تخرجه من القيمة الإنسانية.
سبحانك اللهم! إنما هذه الأمراض في الدنيا بعض مواد البحث الفلسفي العميق لدرس أساليب الطبيعة البشرية، فكم من «عملية جراحية» في طب الناس هي الحقيقة «عملية حسابية» في وزن هذه الطبيعة وتقديرها، وكم من أنة وجع في المرض وهي نفسها كلمة عتاب بين الطبيعة والنفس ... وكم من ضجعة للداء هي في الواقع نهضة للأخلاق من ضجعتها.
Bilinmeyen sayfa