ومد بصره نحو النجوم الساهرة، وقطع السحاب المستضيئة بنورها الهادئ، وخيل إليه أنها مطلعة على نجواه فغمغم: «يا لطف السماء!» ثم سمع أميمة وهي تقول في نبرات مداعبة: أنت علمتني حب الحديقة، دعني أرد إليك الجميل!
8
وعند الفجر غادر الأب حجرته قاصدا الحديقة. كان أدهم بأقصى الردهة يترقب، وأميمة خلفه ممسكة بكتفه في الظلام. تابعا وقع الأقدام الثقيل المتزن ولكنهما لم يتبينا اتجاهها في الظلام، وكان من عادة الجبلاوي أن يسير في هذه الساعة دون حاجة إلى ضوء أو رفيق. وسكت الصوت فالتفت أدهم نحو زوجه هامسا: ألا يحسن بنا أن نعود؟
فدفعته وهي تهمس في أذنه: علي اللعنة إن كنت أضمر سوءا لإنسان.
فتقدم بخطوات حذرة، في اضطراب أليم، ويده قابضة على شمعة صغيرة في جيبه، وجعل يتحسس الجدار حتى مست يده مصراع الباب. وهمست أميمة: سأبقى هنا لأرقب المكان، اذهب مصحوبا بالعناية.
ومدت يدها فدفعت الباب حتى انفتح ثم تراجعت. ومضى أدهم نحو الحجرة بخطواته الحذرة فتلقى من داخلها رائحة مسكية شديدة النفاذ. ورد الباب وراءه ووقف يحملق في الظلام حتى تبين له خصاص النوافذ المطلة على الخلاء وهي تنضح بنور الفجر. شعر أدهم بأن الجريمة - إن كان ثمة جريمة - قد وقعت بدخوله الحجرة وأن عليه أن يتم عمله. سار مع الجدار الأيسر، مرتطما أحيانا بالمقاعد، مارا في طريقه بباب الخلوة، حتى بلغ نهايته، ثم مال مع الجدار الأوسط، وما لبث أن عثر على الخوان. جذب الدرج، وتحسس ما بداخله حتى وجد الصندوق، ثم شعر بحاجته إلى الراحة ليأخذ نفسه. ورجع إلى باب الخلوة، ففتش عن ثقبه، ثم وضع فيه المفتاح وأداره، وفتح الباب، وإذا به يتسلل إلى الخلوة التي لم يدخلها أحد قبله إلا الأب.
رد الباب، وأخرج الشمعة، ثم أشعلها، فرأى مربعا ذا سقف عال لا منفذ فيه إلا الباب، مفروش الأرض بسجادة صغيرة، وعند ضلعه الأيمن ترابيزة أنيقة عليها المجلد الكبير الذي ثبت في الجدار بعلاقة من صلب. ازدرد أدهم ريقه الجاف بشيء من الألم كأن وعكة أصابت اللوزتين، وعض على أسنانه، كأنما ليعصر الخوف الساري في أوصاله والمرعش للشمعة في يده. واقترب من الترابيزة وهو يحملق في غلاف المجلد المزخرف بخطوط مموهة بالذهب، ثم مد يده ففتحه. وجد مشقة في تركيز ذهنه ونفض الاضطراب عنه. وبدأ يقرأ بالخط الفارسي «باسم الله ...»
لكنه سمع الباب وهو يفتح بغتة. انجذب رأسه نحو الصوت بقوة ومن دون وعي كأن الباب شده إليه وهو ينفتح. رأى الجبلاوي على ضوء شمعته يسد الباب بجسمه الكبير ملقيا عليه نظرة باردة قاسية. حملق أدهم في عيني أبيه في صمت وجمود، وتخلت عنه قوى الكلام والحركة والتفكير. وأمره الجبلاوي قائلا: اخرج!
لكن أدهم لم يستطع حراكا. بقي في موقفه كالجماد إلا أن الجماد لا يشعر بالقنوط. وهتف الأب: اخرج!
أيقظه الرعب من تجمده فتحرك، وتخلى الأب عن الباب، فغادر أدهم الخلوة والشمعة لا تزال تحترق في يده. ورأى أميمة واقفة وسط الحجرة صامتة، والدمع ينحدر تباعا من مقلتيها. وأشار له الأب أن يقف إلى جانب زوجته ففعل، ثم خاطبه بصرامة قائلا: عليك أن تجيب عن أسئلتي بالصدق.
Bilinmeyen sayfa