فنم صوتها عن ابتسامة وهي تقول: رأيناك ترعى أولاد الحارة كما ترعى الغنم، صحبتك السلامة.
ذهب بنعمة، وكلما مر بربع انضم إلى قافلته ماعز أو ماعزة أو جدي أو تيس. وكان يلقى بالترحاب، حتى الفتوات ردوا عليه تحياته وكانوا يتجاهلونها من قبل. واخترق الممر الملاصق لسور البيت الكبير وراء طابور طويل من الأغنام في طريقه إلى الخلاء. واستقبل شمسا لافحة تتربع فوق الجبل، وجوا يزفر أنفاسا حارة في الصباح المشرق. وتراءى عند سفح الجبل بعض الرعاة، ومر رجل مهلهل الثياب ينفخ في ناي، وانطلقت في القبة الصافية حدآت مدومة. وفي كل نسمة استنشق صفاء نقيا، وخال الجبل الضخم يحوي كنوزا من الآمال الواعدة. وسرح الطرف في الخلاء بارتياح عجيب حتى استخفه طرب جواد فراح يغني:
يا حلو يا زين يا صعيدي،
اسمك منجوش على إيدي.
وجالت عيناه بين صخرة قدري وهند وبين البقاع التي جرت بها مصارع همام ورفاعة، ولقاء الجبلاوي وجبل! هنا الشمس والجبل والرمال والمجد والحب والموت، وقلب يبزغ فيه الحب لكنه يتساءل عن معنى هذا كله، ما مضى منه وما هو آت، عن الحارة ذات الأحياء المتخاصمة والفتوات المتنابذين، عن الحكايات التي تروى في كل مقهى على شكل.
وقبيل الظهيرة ساق أغنامه نحو سوق المقطم ثم مضى إلى كوخ المعلم يحيى وجلس. وهتف به العجوز: ما هذا الذي يقال عما فعلت أمس بحارتنا؟!
ودارى قاسم حياءه باحتساء الشاي، فعاد المعلم يقول: كان الأفضل أن تتركهم يتطاحنون حتى يهلكوا جميعا.
فقال دون أن يرفع عينيه: ما تقول هذا إلا بلسانك.
فقال يحيى محذرا: تجنب المعجبين خشية أن تستفز الفتوات. - وهل يستفز الفتوات أمثالي؟
فتنهد العجوز قائلا: ومن كان يتصور أن يغدر غادر برفاعة؟
Bilinmeyen sayfa