فغض أدهم عينيه متأثرا وقد تصاعد الدم إلى وجهه، فقال إدريس: لعلك تعجب لما غيرني، لعلك تتساءل أين ذهب تكبره وصلفه؟ فاعلم أنني قاسيت آلاما لا يقدر عليها أحد، وعلى رغم هذا كله فإنني لا أقف موقفي هذا من أحد سواك؛ إذ إن مثلي لا ينسى كبرياءه إلا حيال الخلق اللطيف.
فغمغم أدهم قائلا: خفف الله عنك وعنا، فكم نغص مصيرك حياتي وكدرها! - كان ينبغي أن أعرف هذا من أول الأمر، ولكن الغضب جنني، وفتكت الخمر بكرامتي، ثم أجهزت حياة التشرد والبلطجة على الرمق الأخير من إنسانيتي، أعهدت مثل ذاك السلوك في أخيك الأول؟! - أبدا، كنت خير أخ وأنبل إنسان!
فقال إدريس بصوت المتوجع: حسرة على تلك الأيام، لست اليوم إلا شقيا أخبط في الخلاء جارا ورائي امرأة حبلى، أشيع في كل مكان باللعنات، وأشتري رزقي بالمنكر والعدوان. - إنك تمزق قلبي يا أخي. - معذرة يا أدهم، لكن هذه هي طويتك التي خبرتها منذ قديم، ألم أحملك صغيرا على يدي؟ ألم أشهد صباك ويفاعتك وألمس فيهما نبلك وسجاياك الحميدة؟ لعن الله الغضب حيثما احترق. - لعنة أبدية يا أخي.
وتنهد إدريس وهو يقول وكأنما يخاطب نفسه: شد ما أسأت إليك، إن ما حاق بي من شر وما سيحيق لهو دون ما أستحق من جزاء. - خفف الله عنك، أتدري أنني لم أيئس أبدا من عودتك؟ حتى في إبان غضب أبينا جازفت بمخاطبته في شأنك.
فابتسم إدريس عن أسنان علاها الاصفرار والقذارة وقال: هذا ما حدثتني به نفسي، قلت إن يكن ثمة رجاء في مراجعة أبي فلن يتأتى عن سبيل سواك.
فلمعت عينا أدهم وهو يقول: إني ألمس الهداية في روحك الكريم، ألا ترى أنه قد آن الأوان لكي نخاطب والدنا في الأمر؟
فهز إدريس رأسه الأشعث في يأس وقال: أكبر منك بيوم يعرف أكثر منك بسنة، وأنا أكبرك بعشر سنوات لا بسنة واحدة، فاعلم أن أبانا يغفر كل شيء إلا أن يهينه أحد. لن يعفو عني أبوك بعد ما كان، ولا أمل لي في العودة إلى البيت الكبير.
لا شك فيما قاله إدريس، وهذا ما زاده حرجا وضيقا، وتمتم في كآبة: ماذا في وسعي أن أفعل من أجلك؟
فابتسم إدريس مرة أخرى قائلا: لا تفكر في مساعدات مالية، فإني واثق من أمانتك كمدير للوقف، واعلم أنك إذا مددت لي يد المعونة فسيكون من حر مالك وهو ما لا أقبله، إنك اليوم زوج وغدا أب، وأنا لم أجئك مدفوعا بفقري، ولكني جئت لأعلن لك ندمي عما فرط مني في حقك، ولأسترد مودتك، ثم إن لي رجاء.
فتطلع إليه أدهم باهتمام وتساءل: قل يا أخي ما رجاؤك؟
Bilinmeyen sayfa