Augustinus: Çok Kısa Bir Giriş
أوغسطينوس: مقدمة قصيرة جدا
Türler
1 - تشكيل عقلية أوغسطينوس: شيشرون وماني وأفلاطون والمسيح
2 - الفنون التحررية
3 - حرية الاختيار
4 - مجتمع فلسفي
5 - المشوار المهني
6 - الاعترافات
7 - الوحدة والانقسام
8 - الخلق والثالوث
9 - مدينة الله
10 - الطبيعة والنعمة الإلهية
Bilinmeyen sayfa
قراءات إضافية
مصادر الصور
1 - تشكيل عقلية أوغسطينوس: شيشرون وماني وأفلاطون والمسيح
2 - الفنون التحررية
3 - حرية الاختيار
4 - مجتمع فلسفي
5 - المشوار المهني
6 - الاعترافات
7 - الوحدة والانقسام
8 - الخلق والثالوث
Bilinmeyen sayfa
9 - مدينة الله
10 - الطبيعة والنعمة الإلهية
قراءات إضافية
مصادر الصور
أوغسطينوس
أوغسطينوس
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
هنري تشادويك
ترجمة
Bilinmeyen sayfa
أحمد محمد الروبي
مراجعة
هاني فتحي سليمان
هذا الكتاب يستعين بمادة مأخوذة من محاضرات لاركين ستيوارت، تورونتو 1990، ومحاضرات ساروم، أكسفورد 1992-1993.
الفصل الأول
تشكيل عقلية أوغسطينوس: شيشرون وماني وأفلاطون والمسيح
لا يمكن في مقدمة قصيرة عن فكر أوغسطينوس أن تعرض أيضا سيرة ذاتية له. فنظرا لأنه كتب أشهر السير الذاتية القديمة وأكثرها وقعا وأثرا، جذب الجانب النفساني للرجل وشخصيته بطبيعة الحال اهتماما شديدا. كان يتمتع بين القدماء بقوة لا مثيل لها على التعبير عن المشاعر. وكتاباته أيضا تعد مصدرا أساسيا للتاريخ الاجتماعي لعصره. ليس في وسع هذا الكتاب أن يتناول ذاك الجانب من شخصيته، لكنه يعنى بتشكل عقليته. وكان هذا التشكل عملية طويلة؛ حيث إنه بدل رأيه بخصوص بعض النقاط، وطور وجهة نظره بخصوص نقاط أخرى. ووصف نفسه ب «الرجل الذي يكتب وهو يتطور، والذي يتطور وهو يكتب» (الرسائل
Epistulae ). وكانت التحولات التي شهدها وثيقة الصلة بضغوط الخلافات المتعاقبة التي لعب فيها دورا؛ ولذا فإن الإشارة المرجعية للبيئة التاريخية محورية للفهم. ولكننا، بخلاف ذلك، لسنا معنيين هنا ب «حياته وأيامه».
شكل 1-1: أقدم صورة للقديس أوغسطينوس. تصوير جصي، القرن السادس.
ولد أوريليوس أوغسطينوس عام 354 ميلاديا وتوفي عام 430. وقد عاش كل حياته، فيما خلا خمسة أعوام منها، في شمال أفريقيا الخاضع للحكم الروماني، وكان خلال الأربعة والثلاثين عاما الأخيرة من عمره أسقفا لمدينة بحرية تضج بالحركة والنشاط، كانت تعرف آنذاك باسم هيبو، وتمثلها الآن مدينة عنابة بالجزائر. وفي ميناء هيبو، كانت الكتب حكرا على القديس أوغسطينوس، ولم تكن خلفية عائلته ذات ثقافة عالية، فقد حصل هو تلك الثقافة من طريق التعليم. ومن خلال كتاباته التي يتجاوز ما تبقى منها ما وضعه أي مؤلف قديم، أمسى يمارس أثرا واسعا لا على معاصريه وحسب، بل وخلال السنوات اللاحقة أيضا على الغرب بأسره. ويمكن إيجاز مدى هذا الأثر بواسطة سرد النقاشات التي كانت جزءا من إرث الرجل: (1)
Bilinmeyen sayfa
كان لاهوت وفلسفة أساتذة جامعات العصور الوسطى وبناة تلك الجامعات ضاربين بجذورهما في الأفكار الأوغسطينية عن العلاقة بين الإيمان والعقل. عندما جمع بيتر لومبارد كتابه «الحكم» (1155) ليقدم مرجعا أساسيا لعلم اللاهوت، استقى نسبة كبيرة من أفكاره من القديس أوغسطينوس. وكذا معاصره جراتيان استشهد بالعديد من النصوص من أوغسطينوس؛ إذ ألف المرجع الأساسي للقانون الكنسي. (2)
لم تتملص طموحات الصوفيين الغربيين قط من أثره؛ وذلك إلى حد كبير نظرا لمركزية فكرة حب الرب في تفكيره. لقد رأى أولا المفارقة التي مفادها أن الحب الباحث عن السعادة الشخصية يوحي ضمنا، بضرورة الحال، بشيء من إنكار الذات وألم تحول الإنسان إلى شيء بخلاف ذاته الحقيقية. (3)
وجد الإصلاح دعامته الأساسية في نقد التنسك الكاثوليكي في العصور الوسطى باعتباره يستند إلى الجهود البشرية بقدر أكثر من النعمة الإلهية. وردت حركة الإصلاح المضاد بأن المرء يستطيع أن يؤكد سيادة نعمة الله دون أن ينكر أيضا حرية الإرادة والقيمة (أي «الجدارة») الأخلاقية للسلوك الحسن. والتجأ طرفا الجدل كلاهما بدرجة كبيرة إلى نصوص أوغسطينوس. (4)
شهد القرن الثامن عشر انقساما شديدا بين الذين يؤكدون كمال الإنسان والذين يرون طبيعة الإنسان مثقلة بثقل الغرور الشخصي والجمعي؛ وبتعبير آخر بما أطلق عليه أوغسطينوس «الخطيئة الأصلية». آمن رجالات التنوير بأن الكمال الفعلي للإنسان يعرقله الإيمان بالخطيئة الأصلية، ولم يرق لهم أوغسطينوس كثيرا. واستاءوا إذ وافق الفيلسوف كانط الذي أعلن بفصاحة شديدة المبدأ التنويري الذي يقضي بأنه على المرء أن يجازف بالتفكير بنفسه على المبدأ القائل بأن الطبيعة البشرية يشوهها الشر المتطرف المتفشي. (5)
في ردة فعل ضد حركة التنوير، ساوت الحركة الرومانسية ما بين صلب العقيدة والمشاعر بدلا من نتائج الجدالات الفكرية. لم يكن أوغسطينوس مطلقا معاديا للفكر، لكنه لم يظن أن الفكر له الكلمة العليا، كما أنه كان رائدا لتقدير إيجابي جدا للمشاعر البشرية. فنحن ندين له باستعمالنا لكلمة «قلب» بهذا المعنى. (6)
كان أوغسطينوس أكثر الأفلاطونيين المسيحيين حدة، وبذل جهدا جهيدا من أجل إرساء أسس التآلف ما بين المسيحية والتوحيد الكلاسيكي النابع من أفلاطون وأرسطو. لقد ترك أفلوطين في القرن الثالث بعد الميلاد أثرا عظيما فيه بفضل تنظيمه للتقليد الأفلاطوني، لكن أوغسطينوس أمسى أيضا واحدا من أكثر النقاد جميعا بصيرة لهذا التقليد الفلسفي الذي دان له هو نفسه بالكثير. (7)
رأى أوغسطينوس بشكل أوضح بكثير من سابقيه (وقبل من جاءوا بعده بوقت طويل جدا) أن القضايا ذات الأهمية القصوى تثيرها مشكلة العلاقة ما بين الكلمات والواقع الذي يحاولون توصيفه. كان أوغسطينوس رائدا في الدراسة النقدية للتواصل غير اللفظي.
وعاش كل من أنسلم وتوما الأكويني وبترارك (الذين لا تخلو جيوبهم مطلقا من نسخة من كتاب «الاعترافات
Confessiones »)، ولوثر وبيلارمين وباسكال وكيركجور في جلباب أوغسطينوس الفضفاض. كانت كتاباته من بين الكتب المفضلة للفيلسوف النمساوي فيتجنشتاين، وكان أبغض الناس لنيتشه. وتنبأ تحليله النفساني بأجزاء من أعمال فرويد؛ فهو أول من استكشف وجود «اللاوعي».
وكان أوغسطينوس «أول رجل حديث»؛ بمعنى أن القارئ يشعر معه أن الكاتب يخاطبه على مستوى من العمق النفساني غير مسبوق، ويجد أمامه نظاما متناسقا من الفكر، أجزاء كبيرة منه ما برحت تجذب بقوة الاهتمام والاحترام. ولقد أثر في الطريقة التي تفكر بها الغرب بالتبعية في طبيعة الإنسان وما نعنيه بكلمة «الرب». ورغم أن أوغسطينوس كتابع من أتباع أفلاطون لم يكن معنيا بقدر كبير بالبيئة المادية الطبيعية، وألف مؤلفاته وهو يخشى أن تجرى الأبحاث العلمية دون احترام للاعتبارات الأخلاقية، فإن فرضية العالم الحديث بأن النظام الرياضي والعقلانية هما السمتان الرفيعتان في العالم لم يكن لها من نصير بليغ في الماضي أفضل منه. ولذا، فقد أسهم إسهاما كبيرا في التوجه نحو النظام المخلوق الذي جعل نشأة العلم الحديث ممكنا. ومن ناحية أخرى، لا يمكن قراءة أوغسطينوس بإنصاف إذا عومل بخلاف ما كان عليه في حقيقة الأمر؛ أعني رجلا من العالم القديم تشكلت عقليته وثقافته بالكامل بفعل آداب وفلسفة اليونان وروما، ووضعه اعتناقه المسيحية بدرجة ما في صراع مع الماضي الكلاسيكي. وفيما يتعلق بهذا الماضي، وقف أوغسطينوس موقف الناقد والناقل لعالم العصور الوسطى والعالم الحديث.
Bilinmeyen sayfa
وكما افترض اليونانيون، بشيء من المنطق، أن أحدا لم ينافس هوميروس في كتابة الشعر، أو كتب التاريخ بطريقة تضارع هيرودوت وثوسيديديس، أو فلسفة لم تكن محض سلسلة من الحواشي لكتابات أفلاطون وأرسطو والرواقيين وإبيقور؛ نسب الرومانيون مكانة النموذج الكلاسيكي لساداتهم السابقين؛ شيشرون للنثر والخطابة، وفيرجيل وهوراس للشعر. على أيام أوغسطينوس، كان هناك رجال متعلمون يحفظون خطب كاملة لشيشرون وكافة أعمال فيرجيل عن ظهر قلب. ونظرا لأن اختراع الطباعة جعل الكتب أقل تكلفة نسبيا من المخطوطات، فقد بدت قدرات الاستظهار تلك غير ذات جدوى، وتكاد تكون مستحيلة بالنسبة إلينا في عصرنا هذا، ولكن في العالم القديم وفي العصور الوسطى استند الكثير من التعليم المدرسي إلى التعليم بالاستظهار في سن يمكن التأثير فيها بسهولة. انطبع نثر شيشرون وشعر فيرجيل بشدة على عقل أوغسطينوس لدرجة أنه لم يستطع أن يكتب عدة صفحات دون أن يسترجع أعمالهما أو يلمح إليها لفظا. وفي شبابه، قرأ أيضا بإعجاب شديد تاريخ الجمهورية الرومانية المظلم لسالوست والأعمال الكوميدية لتيرانس. وكانت هذه الأعمال أيضا جزءا من الهواء الأدبي الذي تنسم نسائمه بطبيعة الحال. وفي أعماله النثرية كان كثيرا ما يورد عبارات هنا وهناك بتصرف مستقاة من الأدب اللاتيني الكلاسيكي. ولم يتم العثور على تلك الإشارات الضمنية إلا مؤخرا نسبيا، ومن المؤكد أن هناك المزيد منها بانتظار إماطة اللثام عنه.
لم يكن أوغسطينوس متفردا في عصره من حيث امتلاكه لهذه الثقافة الأدبية العالية؛ فخلفيته الثقافية كانت خلفية أفريقية رومانية، وتحديدا ثقافة الأقاليم المستعمرة الثرية التي طالما تمتعت بالسلام والرخاء وقطنها أناس مثقفون جدا زينوا فيلاتهم بالفسيفساء والتماثيل البديعة، كتلك التي يستطيع المرء أن يراها في متحف باردو بتونس. منذ الفتح الإسلامي للمنطقة، بعد وفاة أوغسطينوس بأكثر من 200 عام، انتمى الجانبان الشمالي والجنوبي للبحر المتوسط إلى عوالم ثقافية - إن لم تكن تجارية - منفصلة، وتكلم أهلهما لغات مختلفة، فيما خلا فترة الهيمنة الفرنسية القصيرة نسبيا خلال العصور الحديثة. في عصر أوغسطينوس، انتمى الشمال والجنوب إلى عالم واحد، وتكلما وكتبا بلاتينية فصيحة تحدث بها الأفارقة بلكنة إقليمية مميزة. وأمد شمال أفريقيا إيطاليا بالجزء الأغلب من غلالها. وكانت الرحلة الصيفية من قرطاج أو هيبو إلى بوتسوولي أو أوستيا جولة بحرية قصيرة يقوم بها عدد من السفن كل أسبوع، وكان الاتصال بإيطاليا متواترا وسهلا يسيرا. وكانت ثروات أفريقيا الرومانية غالبا تتجاوز ثروات إيطاليا حتى بين العائلات الميسورة الحال، وكان لدى الأقاليم الأفريقية إحساس قوي باستقلالها وبرغبتها في صنع قراراتها بنفسها.
أفرزت أفريقيا الرومانية كتابا مميزين: ففي القرن الأول، كتب مانيليوس دليلا نثريا عن علم الفلك؛ وفي القرن الثاني صعد نجم فرونتو معلم الإمبراطور ماركوس أوريليوس؛ وأبوليوس ابن مدينة مداوروش الكاتب الأكثر بيعا، لا لكتابه «الحمار الذهبي» (التحولات) وحسب بخليطه المميز من السحر والدين والجنس، ولكن أيضا لكتيباته المسهبة المؤثرة حول الفلسفة الأفلاطونية؛ وأولوس جيليوس مؤلف «ليالي أتيكا»، وهو دليل مختصر نوعا ما لتبادل أطراف الحديث بفعالية أثناء حفلات العشاء. وعاصر أوغسطينوس الكاتب اللاتيني ماكروبيوس، الذي أمست تعليقاته على «حلم سيبيو» (الكتاب السادس من «الجمهورية») مصدرا رئيسا للمعلومات المتعلقة بالفلسفة الأفلاطونية الجديدة للغرب في العصور الوسطى. وعاصر أوغسطينوس أيضا مارتيانوس كابيلا الوثني باختياره الذي ألف، ربما بعد وفاة أوغسطينوس، كتاب «الزواج بين فقه اللغة وعطارد (رسول الآلهة)» ليعلم قراءه عناصر الفنون الحرة السبعة، وليبين كيف لدراستها أن ترتقي بالإنسان إلى الفردوس.
وخلال القرن الثاني، أقامت إرسالية مسيحية نشطة في شمال أفريقيا عددا كبيرا من الأبرشيات التي ترجم الإنجيل الإغريقي إلى اللاتينية من أجلها. كان من بين المهتدين شخصيات رائعة مثل ترتليان الذي لمع نجمه في نهاية القرن الثاني، وهو مؤلف مفردات اللاهوت الغربي وأستاذ في الجدل الساخر الموجه ضد النقاد الوثنيين أو المهرطقين الخطرين. وهناك قبريانوس أسقف قرطاج الذي انتخب فور تعميده بفترة وجيزة، واستشهد بعدها بعشر سنوات عام 258 مصرا على التمسك بالطهارة الطقسية للكنيسة الكاثوليكية والسلطة القضائية للكهنوت الرسولي. وفي عصر قسطنطين العظيم في بداية القرن الرابع، كتب أفريقيان مسيحيان دفاعات عن عقيدتهما ضد النقاد الفلسفيين؛ ودان أرنوبيوس ولاكتانتيوس نوعا ما بالفضل إلى المؤلفين اليونانيين المسيحيين السابقين لهما.
كانت التركيبة السكانية لأفريقيا الرومانية مختلطة جدا؛ ففي المزارع، كان الفلاحون مزيجا من البربر والفينيقيين الذين يتكلمون البونيقية. وفي موانئ مثل قرطاج وهيبو، كان كثير من التجار يتكلمون اليونانية وتربطهم علاقات وثيقة بصقلية وجنوب إيطاليا، وهي المناطق التي كان في تلك الحقبة (ومن بعدها لفترة طويلة) يتحدث أهلها اليونانية على نطاق واسع. لكن اللاتينية كانت لغة المتعلمين والجيش والإدارة، وكانت ثقافة أوغسطينوس المنزلية والمدرسية لاتينية كليا، ولو أن أمه مونيكا كانت تحمل اسما بربريا.
كانت مدينة قرطاج الرومانية القديمة مدينة تجارية بارزة، ولم يكن سكانها يميلون وحسب إلى المصارعات بين الحيوانات والمصارعين من البشر في المسرح المدرج، بل نزعوا كذلك إلى الأنشطة الأقل دموية كالمسابقات الشعرية والمسرحيات الراقية بالمسارح. وكانت المدينة تتمتع بقضاة وأطباء ومعلمين للأدب بارعين عرفوا باسم «الرياضيين». لم يولد أوغسطينوس ولم يترعرع في هذا العالم المدني، بل كان فتى من فتيان الريف الإقليمي حيث ولد في بلدة جبلية داخلية تعرف باسم «طاغست» بإقليم نوميديا التي تعتبر مفترق طرق، وسوقا تعرف الآن في شرق الجزائر باسم سوق أهراس. وهنالك كان والده باتريك يمتلك فدادين قليلة من الأرض وأمة أو أمتين، لكنه لم يكن ثريا على الإطلاق. توفي باتريك عندما بلغ أوغسطينوس مراهقته. وكان لأوغسطينوس شقيق وشقيقة، لكن ليس هناك دليل إن كان هو الابن الأكبر أم الثاني أم الثالث. التعليم بالمدرسة المحلية بطاغست، كما في كل البلدات الصغيرة المثيلة، كان يوكل لمعلم واحد فقط. ووجد أوغسطينوس المعلم أكثر فعالية بعصاه فيما يتعلق بإلهام تلاميذه الاهتمام بدراساتهم. وسرعان ما انتقل إلى معلم آخر بمنطقة مداوروش الدانية. وبعد وفاة باتريك، انتقل أوغسطينوس إلى قرطاج بتمويل من جاره الثري رومانيانوس.
لاحقا، نظر أوغسطينوس إلى الأيام التي أمضاها بالمدرسة باعتبارها تجربة بائسة، ولا قيمة لها إلا كتدريب على صراعات ومظالم وخيبات أمل حياة الرشد. ولما كان صبيا شديد الحساسية واسع الاطلاع، أحس أوغسطينوس بأنه ثقف نفسه بنفسه باطلاعه على أعمال المؤلفين العظماء. فالعقوبات التي تحملها الأطفال، مهما كانوا يستحقونها، لم تنفع إلا الذين كانوا نزاعين أساسا للانتفاع بها، وخلقت ممن سواهم جيلا ساخطا وأكثر معاداة للمجتمع من قبل. لم يكتب قط أوغسطينوس بإعجاب أو امتنان عن أي من معلميه.
بدأ أوغسطينوس، بينما كان صبيا بالمدرسة، يتعلم اليونانية. ورغم أنه كره عناء الدراسة واللغة، فإنه سرعان ما استطاع استخدام كتاب مكتوب باليونانية كلما استدعت الحاجة ذلك، وعندما نضج أمسى على درجة من الكفاءة تسمح له بترجمة نصوص فلسفية موغلة في فنياتها. لكنه لم يحلم قط بأن يتقن أعمال هوميروس والأدب اليوناني كما فعل عدد من الأرستقراطيين الرومانيين المتأخرين. وصرح بشعور لم يكن غريبا على الغرب اللاتيني العتيق؛ ألا وهو أن الغرب حري به الآن أن يتمتع بكبرياء فكرية. لقد كان بحاجة لأن يقف على قدميه ولا يكتفي وحسب بالتكيف مع الأعمال اليونانية النادرة لخطباء لاتينيين ثانويين. لم يكن الناس يعرفون آنذاك أو يريدون الإقرار بأن بطلهم فيرجل يدين بالكثير لهوميروس. لكنهم كانوا رغم ذلك على دراية بأن الإغريق كانوا، وما برحوا، أساتذة الفلسفة الكبار؛ فقد ألف شيشرون وسينيكا حوارات و«رسائل» بما يلائم النقاشات الفلسفية اليونانية لتعليم الرومانيين. وكانت الحوارات الفلسفية لشيشرون منجما لمعلومات منظمة بشكل واضح عن النقاشات الدائرة بين المدارس المختلفة، وفي عشرينياته تمكن أوغسطينوس من الإحاطة بمحتواها إحاطة تامة.
رغم أنه لم يكن جاهلا باليونانية، كان أوغسطينوس دوما أكثر أريحية مع النسخة اللاتينية إن وجدت. وكان على دراية بمقولات أرسطو التي كانت متاحة له باللاتينية، وأبحاث قوانين الاستنباط السليم. وكانت المشكلة المعقدة - «العوارض المستقبلية» - الوارد نقاشها في الفصل التاسع الشهير من أطروحة أرسطو عن «التفسير» مألوفة له أيضا. واتفاقا مع الأفلاطونيين الجدد المعاصرين له، استخدم أوغسطينوس اللغة التي تكتنف الشكوك المتعلقة بالمستقبل، والتي كانت أكثر حتمية مما راق لأتباع أرسطو؛ حيث أراد أن يقول إن الأحداث التي تكون بالنسبة إلينا «عارضة» (أي إنها لم تكن لتحدث إلا إذا حدث أمر فترتبت عليه) ليست مشكوكا فيها بالنسبة إلى الرب (ردا على فاوست). وبتعبير آخر، رغم أن عقولنا التي نملكها محدودة جدا فلا يتسنى لها رؤيته، فإن المستقبل يستحيل تغييره شأنه شأن الماضي. كان أوغسطينوس مهتما تحديدا بالمنطق الرواقي والتأكيدات الأخلاقية. وكان مفتونا بمسألة إلى أي مدى تستطيع اللغة توصيل المعنى المتعلق بالواقع. وكان قادرا على إجراء تحليل دقيق للمشكلات الواردة في المحاجة الأبيقورية المنسوبة إلى مذهب المتعة والقائلة بأننا نعني بال «الخطأ» و«الصواب» في حقيقة الأمر «الممتع» و«المثير للاستياء».
ومن المفارقة أن المفكر الإغريقي الذي تشربت أفكار أوغسطينوس بأفكاره أكثر من غيره بكثير كان أفلاطون، الذي لم يكن متاحا من أعماله باللاتينية سوى النذر اليسير جدا. ولقد ترجم شيشرون قرابة نصف محاورة «طيماوس»، وألف كالسيديوس في القرن الرابع تعليقا مدروسا كان من الممكن أن يعرفه أوغسطينوس (لكنه لم يحط به علما على الأرجح). ولم يكن من الصعب بالنسبة إليه أن يجد نسخا يونانية من الحوارات الأفلاطونية، سواء في قرطاج أو في روما، حيث تلقى العلم لفترة من الوقت؛ فقد كان بعض مواطني المدينتين يتحدثون اللغة اليونانية. لكن يبدو أنه لم يبادر بدراسة النص الأصلي دراسة مباشرة.
Bilinmeyen sayfa
تمثلت الفلسفة الأفلاطونية التي فتنت عقله في نهاية المطاف (عندما بلغ الحادية والثلاثين من عمره) في الأفلاطونية «الحديثة»، التي نطلق عليها حاليا الأفلاطونية الجديدة التي درسها قبله بقرن أفلوطين (205-270) لفئة محددة وحسب، وقدمها بهمة ونشاط إلى العامة تلميذه الدءوب ومحرر أعماله ومؤلف سيرته الذاتية فرفوريوس الصوري (حوالي 232-305). ورغم أن أفلوطين ألقى تعاليمه في روما، بينما عاش فرفوريوس جزءا من حياته في صقلية، فإن الاثنين ألفا باليونانية حصريا. ورغم تجريد الأفكار وتعقيدها، كان لأفلوطين وفرفوريوس أثر هائل في الغرب اللاتيني والشرق الإغريقي على حد سواء. أعلن أوغسطينوس في أوج حماسه الأول للأفلاطونية أنه وجد في أفلوطين «أفلاطون يبعث إلى الحياة مجددا» (ردا على الأكاديميين
Contra Academicos )، وهي العبارة التي تعكس بدقة الأعمال التي كلف أفلوطين بها نفسه؛ حيث اعتبر أفلاطون أكثر من مجرد رجل ذي ملكات فكرية مستقلة، بل كان بالنسبة إليه مرجعا.
وباستيعابها المذاهب الأساسية للأخلاق الرواقية، وقسما كبيرا من المنطق الأرسطي أيضا على يد فرفوريوس، أمست الأفلاطونية الجديدة مهيمنة بالكامل على كل المواقف الفلسفية الأخرى في أواخر العصور القديمة. ترجم أعمال أفلوطين وفرفوريوس إلى اللاتينية ماريوس فيكتورينوس الأفريقي الذي درس البلاغة والفلسفة في روما، وأدهش خلال الفترة التي لمع فيها نجمه - تقريبا قرب الفترة التي ولد فيها أوغسطينوس - الطبقة الأرستقراطية الوثنية إلى حد كبير عن طريق تعميده. وترجم فيكتورينوس أيضا بعض الأعمال التي تتناول المنطق لأرسطو وفرفوريوس، ولا سيما «مقدمة» منطق أرسطو التي ألفها فرفوريوس بجلاء ودقة بالغين، حتى إن الكتاب أمسى دليلا قياسيا لألفية كاملة.
شيشرون
نبع أقوى أثر مبدئي على الإطلاق استرشد به أوغسطينوس في شبابه فيما يختص بالمسائل الفلسفية من حوارات شيشرون. ومن بين الأعمال الكثيرة التي أحاط بها أوغسطينوس علما لشيشرون، ثمة محاورة واحدة تسمى «هورتنسيوس»، تبرر ضرورة التفكير الفلسفي لإصدار أي حكم نقدي حتى بالنسبة إلى أي إنسان منشغل بالحياة العامة والسياسية، كان لها أثر تشجيعي غير مسبوق على أوغسطينوس. وفي أعماله الأخيرة، لم يزل أوغسطينوس يقتبس عبارات من هذا الكتاب الذي طالعه أول مرة بينما كان طالبا في التاسعة عشرة من عمره في قرطاج. وقد أسدى شيشرون نصيحة للعالم الروماني تفيد بدراسة الفلسفة التي وضعها أرسطو نفسه دون من هم أدنى منه. وكان نموذج شيشرون يتمثل في الكفاية الذاتية الشخصية ووعي بأن السعادة، التي يسعى إليها الجميع، لا وجود لها في حياة موغلة في المتعة الذاتية التي تدمر احترام الذات والصداقات الحقة تماما. وإذ تدبر مفارقة أن جميع الناس يسعون وراء السعادة بينما الغالبية العظمى منهم بائسون كل البؤس، خلص شيشرون إلى استنتاج محمل بالمعاني مفاده أن بؤس الإنسان ربما كان ضربا من الحكم الإلهي، وحياتنا الآن قد تكون كذلك تكفيرا عن آثام ارتكبناها في شكل سابق من أشكال التجسد. وتضمنت أيضا محاورة «هورتنسيوس» تحذيرا من أن السعي وراء المتع الحسية، ممثلة في المأكل والمشرب والجنس، مشتت للعقل في بحثه عن الأشياء الأكثر سموا.
لم يكن أوغسطينوس قط مسرفا لا في المأكل ولا في المشرب، لكن رغبته الجنسية كانت جامحة؛ ففي السابعة عشرة والثامنة عشرة من عمره بينما كان في قرطاج، ضاجع صديقة له من طبقة اجتماعية متدنية، وهي العلاقة المنتظمة التي وضعت نهاية لمغامرات فترة المراهقة. وعلى مدار نحو ثلاثين عاما، عاش أوغسطينوس معها مخلصا لها بالكامل. وسرعان ما أسفرت علاقتهما عن صبي لم يكونا يرغبان فيه في البداية، لكن أحباه بعد ذلك، أطلقا عليه اسم «أديوداتوس» أو «هبة الله»، وهو الاسم الموازي لثيودور أو جوناثان. صار الصبي بارعا جدا، لكنه توفي في السابعة عشرة من عمره.
كان الأثر الفوري لقراءة محاورة «هورتنسيوس» على أوغسطينوس أن فكر جديا في قضايا أخلاقية ودينية. كان أبوه وثنيا، ولم يعمد إلا وهو على فراش الموت وحسب. كما كان نزقا، وليس مخلصا على الدوام لزوجته. ولا يشي أوغسطينوس بأي علامة على شعوره بالتعلق بأبيه. أما أمه من ناحية أخرى، فقد كانت تقية ومتبحرة في العقيدة المسيحية وممارسة طقوسها، كانت حريصة على الصلاة يوميا في كنيستها المحلية، وكانت تسترشد عادة بالأحلام والرؤى التي تراودها. وجعلت أمه منه متنصرا في طفولته. وكمراهق شكاك، درج بين الحين والآخر على حضور قداس الكنيسة مع أمه، لكنه وجد نفسه منشغلا أساسا بلفت انتباه الفتيات الجالسات على الجانب الآخر من الكاتدرائية. وفي قرطاج عندما بلغ التاسعة عشرة من العمر، اكتشف أوغسطينوس أن جدية الأسئلة التي طرحها شيشرون، ولا سيما فيما يختص بالبحث عن السعادة، حثته على مطالعة إنجيل لاتيني. ونفره غموض محتواه والأسلوب البربري للنسخة البدائية التي أنتجها مبشرون أنصاف متعلمين في القرن الثاني الميلادي. لم يكن الإنجيل اللاتيني القديم (الذي كانت عملية إعادة ترميمه على يد علماء حداثيين عملية حرجة جدا) ليبهر رجلا عقله معبأ بأسلوب شيشرون الأنيق المنمق وأسلوب فيرجل التعبيري المميز، ويستمتع بالمسرحيات الراقية بالمسارح. نأى أوغسطينوس بنفسه بازدراء عما بدت أسطورة ساذجة عن آدم وحواء، والأخلاق المريبة للبطاركة الإسرائيليين. إن التنافر ما بين سلاسل نسب المسيح في إنجيل متى وإنجيل لوقا كان بمنزلة الضربة القاضية الأخيرة التي دمرت آمال عودته إلى الكنيسة مع أمه (العظات
Sermones ).
لذا، التمس أوغسطينوس العون في مكان آخر؛ فقد افتتن بعلم الفلك الذي بدا أنه يمده بدليل للحياة دون أن يظهر بشكل مبالغ فيه كالعقيدة، ومن بعد علم الفلك انجذب إلى الثيوصوفية التي كان يدرسها ماني من قرن مضى (سنة 216-277 ميلاديا).
ماني
Bilinmeyen sayfa
عبرت عقيدة ماني أو المانوية بشكل شعري عن النفور من العالم المادي، وأمست الأساس المنطقي لأخلاق موغلة في التقشف. واعتبر أتباع المانوية «النصف الأدنى من الجسد» عملا مثيرا للاشمئزاز من أعمال الشيطان الذي هو أمير الظلام. وكان الجنس والظلام مرتبطين بعلاقة وثيقة في عقلية ماني؛ وكان الظلام بالنسبة إليه هو جوهر الشر نفسه. وقد يخيل إلى المرء أن مثل هذا الدين لم يكن ليستقطب شابا يافعا كان الجنس بالنسبة إليه محوريا (اللهم إلا إذا كان المرء يستطيع أن ينسب كل نزواته الدنيئة لقوى الظلام ويتبرأ من المسئولية الشخصية). ورغم ذلك، تألف المجتمع المانوي من طبقتين أو مستويين للإخلاص. ولم يكن التبتل المطلق مطلوبا إلا من أصحاب المستوى الأعلى وحسب الذي يعرف باسم «الصفوة». أما المستمعون الذين انضم إليهم أوغسطينوس، فقد أجيز لهم ممارسة العلاقات الجنسية في فترات «آمنة» من الشهر، وأنيط بهم اتخاذ خطوات محددة لتفادي إنجاب الأطفال. ولكن إذا ولد طفل ما، فلم يكن ذلك داعيا لإقصاء الوالد من المجتمع المانوي؛ ولذا، سمح للمستمعين العيش مع أزواج لهم أو، كما في حالة أوغسطينوس، مع محظيات، لكن لم يكن هناك باعث لهم للتفكير في الجنسانية بأي شكل إيجابي؛ فهي صنيعة الشيطان.
أنكر ماني أي سلطة للعهد القديم بفرضيته المسبقة المتعلقة بخيرية النظام المادي للأشياء وبصانعه، وحذف جميع النصوص الموجودة في العهد الجديد التي افترضت إما نظام المادة وخيريتها وإما وحي وسلطة نصوص العهد القديم باعتبارها زيادات مقحمة. وبخلاف ذلك، فقد رأى أن عهده الجديد المنقى كتاب سليم. ولقد أقر بسخاء بكل الأنظمة العقائدية، ونبذ المسيحية الكاثوليكية الأرثوذكسية لكونها حصرية بشكل مبالغ فيه وسلبية تجاه غيرها من الأساطير والأشكال العقائدية للعبادة. ومع ذلك، فقد أراد أن يعتبره الآخرون مسيحيا، حتى وهو يشدد على أن وحيه أسس ل «ديانة مميزة». كان «مهرطقا»، بمعنى كونه إنسانا يود أن يبقى ضمن المجتمع في الوقت الذي يعيد فيه تفسير وثائقه ومعتقداته الأساسية بطرق لا يقبلها النظام السائد، ويصر عليها عندما يطلب إليه أن يصحح نفسه. ولقد وظف بعض الأفكار والمفردات الإنجيلية، وأجاز دورا فدائيا للمسيح، فهو وحده استوعب المسيح كرمز لمحنة البشرية كلها لا كشخصية تاريخية تمشي على الأرض وتعرضت للصلب. فالمنقذ شبه المقدس لم يكن في واقع الأمر ليولد أو ليقتل فعليا (وهو الرأي الذي يبشر بالمذهب الإسلامي)؛ وحادثة الصلب لم تكن ضربا من الواقع بل رمزا للمعاناة التي تعتبر حالة البشر أجمعين.
لقد فسر ماني كل شيء اقتبسه من المسيحية في إطار ازدواجي ووجودي؛ ويتجلى ذلك في الأسطورة المعقدة والمفصلة جدا التي وضع مذهبه في قالبها. كانت المسألة المحورية بالنسبة إليه أصل الشر؛ ففسر الشر على اعتبار أن منبعه صراع كوني بدائي ما برح مستمرا بين النور والظلام؛ حيث أشار هذان الاصطلاحان إلى الواقع الرمزي والمادي. ولقوى الخير والشر في العالم نقاط ضعف وقوة بحيث لا يستطيع أن يتغلب أحدهما على الآخر. وكنتيجة للضرر الذي تلحقه قوى الظلام بعالم النور، أمست شذرات صغيرة من الإله - أو الروح - متناثرة في العالم كله في كل الكائنات الحية، بما في ذلك الحيوانات والنباتات. اعتبر أن البطيخ والخيار يحويان مكونا كبيرا من الألوهية؛ ولذا كانت لهما مكانة بارزة لدى الصفوة المانوية، وكانت قوانين الطعام بالنسبة إلى طبقة الصفوة مدروسة ومفصلة، وكان الخمر محظورا تماما. طاب لمعلمي المانوية ومبشريها استقطاب أعضاء الكنيسة، ويمكن استشفاف تسلل الأفكار المانوية إذ تقبل المسيحيون المضيف في القربان المقدس دون كأس القربان نفسه . يمكن إبهار أعضاء الكنيسة بورق البرشمان الأنيق والخطوط البديعة للكتب المانوية المقدسة والقداسة الخاصة لموسيقاها.
ورغم أن ماني كرس مكانة خاصة في أسطورته للمسيح، فإن المكانة التدريسية العليا المعصومة لمجتمعه لم تختص بالمسيح ولا بالكتب اليهودية القديمة بل بماني نفسه، رسول الرب، والمعزي الذي تنبأ به المسيح وأخبر أنه سيأتي من بعده ليظهر الحقائق التي لم يكن التابعون اليهود المخلصون جدا متأهبين لها. ولم يكن لدى ماني أي مكان قط للخصوصية التي ورثتها الكنيسة من القالب اليهودي. وبحبكة غريبة، طرح ماني أسطورته الخصبة والإيروتيكية نوعا ما، زاعما أنها رواية عقلانية ومتماسكة للحقيقة المنزلة، في تعارض قوي مع العقيدة البسيطة للمسيحيين الأرثوذكسيين الذين يؤمنون بالسلطة وحسب. لقد كرست الدعاية المانوية جل اهتمامها للهجوم على الأخلاق الواردة في العهد القديم ودقته التاريخية، وتلك الأجزاء من العهد الجديد التي بدت يهودية أكثر من اللازم للذوق المانوي. وفوق كل شيء، زعم المانويون أنهم يملكون الإجابة الوحيدة المرضية لإشكالية الشر: فهو بالنسبة إليهم قوة لا سبيل لاستئصالها راسخة في بنية العالم المادي. وما من أحد يمكن أن يزعم بشكل منطقي بأن الخالق المطلق لهذا العالم المضطرب يمكن أن يكون على كل شيء قدير وفي الوقت نفسه خيرا جدا. وإذا شئنا للحجة أن تكون متماسكة، فلا بد من التضحية إما بالقدرة المطلقة وإما بالخيرية المطلقة. ولقد سلم معلمو المانوية بأن كل الناس يعلمون دون المزيد من الإسهاب أو البحث والتمحيص المقصود من كلمة «شر».
خلال عشر سنوات كاملة تولى فيها أوغسطينوس مناصب تدريسية أولا في قرطاج ثم في روما، ظل مرتبطا بالمانويين. ولما كان ناقدا شرسا للأرثوذكسية الكاثوليكية وواعيا بتفوقه الفكري على أعضاء الكنيسة التي ازدرى أساقفتها لضحالة تعليمهم وقصور بحثهم النقدي، فقد تمكن من هداية كثير من الأصدقاء إلى المعتقدات المانوية. ولكن خلال العشرينيات من عمره، لم يكن يدرس الأدب اللاتيني وفنون البلاغة وحسب، بل كان يتدبر أيضا القضايا الفلسفية والمعضلات المنطقية التي أفضت إليها بطبيعة الحال دراسات البلاغة. وطفقت الشكوك المتزايدة تثقل كاهله وتحيط به. أكان ماني على صواب عندما أكد أن قوة النور الخيرية واهنة وعقيمة في صراعها مع الظلام؟ وكيف للمرء أن يعبد كما ينبغي إلها في قمة العجز والذل؟ علاوة على ذلك، فقد منحت الأسطورة المانوية دورا كبيرا للنورين العظيمين والخيرين للشمس والقمر، وتبنت موقفا حاسما من تفسير ظاهرة الكسوف الشمسي؛ ألا وهو أن الشمس والقمر يستخدمان أثناء تلك الظاهرة ستائر خاصة لحجب المشهد المفجع للمعارك الكونية. وانزعج أوغسطينوس إذ اكتشف أن الرواية المانوية كانت متعارضة مع أقوال أبرز علماء الفلك. يجوز أن يزيل المرء الإطار الأسطوري الذي يحيط بالمسيحية الأرثوذكسية، ويتبقى له مع ذلك شيء عظيم الأهمية، لكن أوغسطينوس شعر أن هذا لا ينطبق على المانوية التي كانت الأسطورة فيها هي الجوهر والأساس. وبلغت خيبة أمل أوغسطينوس في الطائفة المانوية ذروتها عندما عرض شكوكه على معلم ذي مكانة مرموقة بين أتباع المانوية يدعى فاوست؛ فقد اكتشف أن قدرة فاوست على البيان أكبر من قدرته على المحاجة الفكرية. عوضا عن ذلك، اتضح أن الحياة الأخلاقية لطبقة الصفوة التي زعم منسوبوها لأنفسهم الكمال المعصوم ليست عذرية كما كان يفترض.
بدأ أوغسطينوس يبحث عن بدائل للمانوية. وكان قد بدأ يبدي اهتماما بالمزج ما بين المعتقدات المانوية عن التوازن ما بين الخير والشر والأفكار الفيثاغورسية الجديدة المتعلقة بالنسبة باعتبارها عنصرا من عناصر جمال الكل، و«الجوهر الفرد» الخير (الواحد واحد وحده وسيظل هكذا أبد الآبدين) في مقابل الشر ذي التعددية اللامتناهية. في منتصف العشرينيات من عمره، كتب أوغسطينوس كذلك كتابا حول هذا الموضوع احتقره لاحقا عندما خطر على ذهنه باعتباره عملا منقوصا ذا محتوى عصي على الاستيعاب والفهم (الاعترافات). وتدريجيا، أغرقته الشكوك في تعليق الحكم. وأمسى مهتما جدا بنظرية المعرفة: كيف لنا أن نعرف أي شيء؟ وكيف يمكننا التأكد بما لا يدع مجالا للشك؟ وكيف يمكن أن نتواصل بعضنا مع البعض إذا كانت الكلمات يحتمل أن تكون مضللة أو تفهم بمعنى يختلف تماما عما يعنيه المتكلم؟ هل اللغة التي نتحاور بها يوميا، والتي كثيرا جدا ما تتحدى قواعد المنطق، مصدر للنور أم الضلال؟
في هذه الحالة الذهنية المترددة، انكب أوغسطينوس بنهم على مطالعة كتب لفلاسفة متشككين وحاسمين عقائديا حيال عدم موثوقية وعدم حسم كل الأفكار المكتسبة والإدراك الحسي وقدرة الكلمات على أن تطلع المرء على أي شيء مهم لا يعرفه بالفعل.
هكذا كانت الأفكار التي تدور في عقله عندما وصل إلى ميلانو عام 384 ميلاديا ليتسلم منصبه الجديد أستاذا جديدا للبلاغة بالمدينة، لكن الأمل كان يحدوه بأن يرقى في المناصب. كانت ميلانو مقرا إمبرياليا. وإذا استطاع، رغم ابتسامات الإيطاليين من مخارج أحرفه اللينة الأفريقية الطابع، أن يتحدث ببلاغة شديدة بحيث يلفت الانتباه في البلاط، وإذا تسنى له أن يكسب دعم المسئولين أصحاب السطوة والنفوذ، فربما يجوز أن يطمح في الترقي إلى منصب حاكم إقليم (الاعترافات). باعتراف الجميع، كانت هناك معوقات أمام طموح أوغسطينوس؛ فقد كان قرويا من الطبقة الوسطى لا تشفع له ولا تدعمه ثروة شخصية. علاوة على ذلك، فما برحت «زوجته العرفية» وفتاته القرطاجية ووالدة أديوداتوس تعيش معه. وما لن يثير التساؤلات إذ يصدر عن أستاذ في البلاغة بالمدينة قد لا يكون مقبولا بمقر الحاكم. ولقد رأت أمه مونيكا، الأرملة التي لحقت به مخلصة إلى ميلانو، أن شريكة ابنها الجاهلة وخليلة مهجعه عقبة مهلكة في الطريق أمام رغبته العلمانية في التميز والشرف. وفي نهاية المطاف، أرسلت عشيقته إلى قرطاج، وكان الفراق مؤلما بالنسبة إليهما. في تلك الفترة، كان أوغسطينوس قد خطب وريثة شابة سييسر مهرها تحقيق آماله وأحلامه. وحتى تصل إلى السن القانونية للزواج، التفت أوغسطينوس إلى شريكة مؤقتة ليعزي بها نفسه؛ فهي لم تكن تمثل أهمية كبرى بالنسبة إليه، وكانت مشاعره جامدة.
في ميلانو، التقى أوغسطينوس لأول مرة في حياته بمفكر مسيحي يتمتع بقدرات لا تقل عن قدراته الخاصة؛ الأسقف أمبروسيوس، وهو رجل حاصل على تعليم عال ويتمتع بعلاقات قوية بأصحاب النفوذ في البلاط. استقبل أمبروسيوس أوغسطينوس بلطف وكياسة، وأجلته مونيكا وأكنت له كل الاحترام ككاهن. قبل أن يمسي أمبروسيوس أسقفا عام 374، كان حاكما إقليميا لذاك الجزء الشمالي من إيطاليا، وساعده تلقيه تعليمه في بيت أرستقراطي مسيحي على إتقان اليونانية. ولم يستق أمبروسيوس أفكاره وإلهامه لعظاته وحسب من علماء لاهوت يونانيين أمثال باسيليوس مدينة قيصرية واللاهوتي اليهودي فيلو، المعاصر الأكبر للقديس بولس، ولكنه استقاها أيضا من أفلوطين. وعمل الدين الذي دان به أمبروسيوس لأفلوطين جنبا إلى جنب مع الحذر بشأن الفلسفة الوثنية كدليل للحقيقة.
ثمة مفكر مسيحي آخر في ميلانو ترك أثرا في أوغسطينوس، وهو رجل عجوز يدعى سيمبليسيان الذي انجذب من خلاله إلى جماعة من العلمانيين المتعلمين تعليما عاليا والمحتلين مكانة اجتماعية مرموقة، وكانت يجتمع أفرادها من أجل قراءة أعمال أفلوطين وفرفوريوس. ولقد أعجبوا بشدة بالقديس ماريوس فيكتورينوس الذي كرس السنوات الأخيرة من حياته لنشر المنطق الأفلاطوني الجديد دفاعا عن المعتقد الثالوثي الأرثوذكسي. لم يكن أوغسطينوس قط متأثرا بشدة بالكتابات اللاهوتية الغامضة لفيكتورينوس، لكن قراءاته لأفلوطين وفرفوريوس بترجمة فيكتورينوس ألهبت أفكاره. وقد يبدو هذا مستغربا للقارئ الحديث الذي يمكن أن تبدو له الأفلاطونية الحديثة معقدة وموجهة لفئة خاصة. إن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة للوجود لها فرضيات مسبقة أو بديهيات مختلفة كل الاختلاف عن تلك الخاصة بالمنهج العلمي الحديث؛ فنقطة انطلاقها هي العقل لا المادة.
Bilinmeyen sayfa
أفلوطين وفرفوريوس
تصور السيرة الذاتية التي كتبها فرفوريوس لأفلوطين الهيبة التي كان يتمتع بها هذا الفيلسوف العظيم، على الأقل في دائرة تلاميذه الداخلية. كتب فرفوريوس تلك السيرة الذاتية بحيث ترافق نسخته من أفلوطين؛ وذلك لأنه أراد من ناحية أن يعرف الجميع كيف كان بطله على حق إذ استأمنه على نشر أطروحاته، وكيف أعجب أفلوطين بشدة بالعقلية النقدية لتلميذه وقدرته على تأليف أشعار بهيجة ملهمة، وكيف أنه في سن الثامنة والستين تأتى لفرفوريوس نفسه في مناسبة هانئة التوحد الصوفي مع الإله، وهي التجربة التي يعيشها المرء أربع مرات فقط في الحياة، حتى بالنسبة إلى أفلوطين المستنير بنور إلهي. يتمثل أفلوطين على هيئة رجل ذي عبقرية فريدة لم تكن روحه الحارسة قوة دونية، ولم يهدأ عقله من التركيز على أسمى ذرى الفكر.
وشأنه شأن معاصره المسيحي الأكبر سنا أوريجن، عاش أفلوطين حياة متقشفة؛ فلم يأكل ولم ينم إلا قليلا، واقتات على النباتات ولم يستحم. «فقد بدا دوما خجلا من وجوده المادي»، ولم يحتفل قط بعيد ميلاده. ولقد أمسى أفلوطين بالنسبة إلى كثير من تلاميذه، ذكورا وإناثا، رمزا للأب الذي يستشيرونه في القرارات الحياتية كبيرها وصغيرها. وكانت لديه قدرة عجيبة على كشف الكذب، وشأنه شأن الأساقفة المسيحيين كان يطلب إليه التحكيم في النزاعات. ولقد نجح في إقناع فرفوريوس بالعدول عن الانتحار.
في نظامه الفلسفي، انطلق أفلوطين يرسم نوعا من الصور اللفظية للبناء الكامل للأشياء على فرض أن هناك تناظرا حميما ما بين الواقع وعملية الفكر البشري. ولقد علق أهمية كبيرة على جدلية محاورتي أفلاطون «بارمينيدس» و«السفسطائي»، ولا سيما تحليل أفلاطون للهوية والاختلاف؛ أي إنه إذا قلنا إن «س» و«ص» هما «الشيء نفسه»، فإننا نوحي بأن ثمة تمايزا بينهما إذا أردنا أن يكون التأكيد على الهوية مثيرا للاهتمام. وعلى النقيض، فإن بيان أن «س» و«ص» مختلفان يوحي بأن ثمة رابطا كامنا للهوية بينهما. ولذا، وراء التعددية والاختلافات المحسوسة والمشهودة في هذا العالم، ثمة وحدة وأداء. وبالمثل فعالم المظاهر المدركة عالم دائم التغير؛ لكن التغير يفترض مسبقا وجود بنية تحتية تظل دائمة أبدية.
نسب أفلاطون صفة عدم التبدل إلى العالم الأسمى للوجود الذي يدركه العقل في مقابل التدفق الدائم التغير للتحول الذي تدركه الحواس الجسدية؛ ولذا، فإن نظرية أفلاطون الخاصة بالأشكال (أو الأفكار)، والمطلقات الأبدية هي كالتالي: أيا كان ما في هذا العالم نصفه بالخيرية أو الجمال أو الحق فهو يتسم بتلك الصفات بقدر ما يستقي صفاته من المطلق الخاص بكل صفة. والأشكال هي الواقع الموضوعي الثابت والساري عالميا. علاوة على ذلك، فإن هذه المسلمات لا تدركها الحواس الجسمانية الخمس، بل عملية رياضية ببساطة للتجريد الفكري القح. وبقدر ما تبدو تلك التجريدات خالية من الحياة، فإن الأفلاطونية تستوعب تلك المسلمات باعتبارها سببية إلى حد كبير؛ فالموجودات الفردية يستحيل تفسيرها بمعزل، بل كأعضاء من فئة سابقة لها؛ ولذا، فالمسلم بالنسبة إلى أي أفلاطوني أكثر واقعا من أي واقعة محددة، وهو المذهب الذي عارضه أرسطو منتقدا كون المسلمات تصنيفات ذهنية لا تتجسد في الواقع إلا عندما تتجسد في موجودات محددة. وفي عمله «مقدمة»، تتبع فرفوريوس فكرته الخاصة بالمصالحة ما بين أفلاطون وأرسطو؛ إذ وضع هذين الرأيين كلا منهما بجانب الآخر وأعرض بوعي عن إصدار حكم يميل به إلى أي منهما.
كان أرسطو معنيا بالوعي بالذات الذي يتطابق فيه العارف والشيء المعروف. وطور أفلوطين هذه الملاحظة وانطلق بها لمستوى أبعد، فصاغ علم لاهوت بدى الكثير من الأفكار الواردة فيه مسلمات ذاتية البيان لأوغسطينوس. على قمة هرم الوجود هناك الواحد، ويراد به الإله، المطلق الذي لا سبيل لمعرفته، ومع ذلك تدركه الروح كشكل من أشكال الوجود الذي يتجاوز كل المعرفة. وفي السلسلة العظيمة أو تسلسل الوجود الذي حدده أفلوطين باعتباره هيكل الأشياء وبنيتها، يعتبر المستوى الأعلى علة ما دونه أيا كان مباشرة. تكلم أفلوطين عن التحول أو التطور الطارئ على البناء الهرمي للوجود على أنه «انبثاق»، وصورة مادية قوية، وفي عملية الانبثاق تحدث خسارة تدريجية؛ وذلك لأن كل أثر يكون أدنى بعض الشيء من علته. ورغم ذلك، فإن عدم الكمال المتأصل في دونيته يمكن التغلب عليه بينما يرتد إلى علته. والعلة نفسها لا يشوبها نقص دوما بفعل عطائها السرمدي للوجود للأثر الأدنى.
لقد مكن هذا النوع من التفكير في الانبثاق السببي في السلسلة الكبرى للوجود أفلوطين من تحقيق عدة إنجازات في آن واحد؛ فمن ناحية، استطاع حل مشكلة كيف يحول دون فقدان الإله والعالم كل علاقة تربط بينهما دون أن يكف المطلق عن أن يكون مطلقا، ودون أن يسقط العالم بشكل منطقي من الوجود كليا. ولقد عبر هذا النوع من التفكير عن نوع من التعويض من طريق «التحول» إلى مصدر الوجود. ومن ناحية أخرى، فقد خفف من وطأة المشكلة التي تسببت في حيرة ذهنية مضنية لجميع الأفلاطونيين؛ ألا وهي الإجابة عن السؤال المتعلق بكيفية ولوج الشر إلى تسلسل الأشياء في الوقت الذي كان فيه هذا التسلسل تدفقا فائضا من الخيرية والقوة الساميتين.
درس أفلوطين أنه على قمة الهرم هناك ثلاثة موجودات مقدسة: الواحد (الإله) والعقل والروح. الواحد خير إلى أقصى حد، ولذا يتعين أن تكون جميع المستويات الأدنى للبناء الهرمي دون الواحد أيضا متمايزة عن الخيرية؛ أي أن تكون أدنى من الخيرية المثالية. وحتى العقل فيه شيء من الدونية ممثلة في بعض الضلالات حول عظمته. أما الروح، وهي أدنى بقدر أكبر في البناء الهرمي، فتتمتع بالقدرة على إنتاج المادة. والمادة، باعتبارها على الطرف النقيض تماما في البناء الهرمي من الواحد الخير، تعتبر شرا مطلقا وعدما لا هيئة له.
كره الأفلاطونيون الجدد الثيوصوفية من كل قلبهم، ومقتوا شكلها المانوي أكثر من أشكالها الأخرى. ولقد افتتحت أطروحة أفلوطين «ضد الغنوصيين» بمجموعة من المقالات الأفلاطونية الحديثة في الجدل المناوئ للمانوية. وإذ رأى أفلوطين الكون كسلسلة عظيمة من الوجود، استطاع أن يعلن أن الشر ما هو إلا عيب في الوجود والخيرية متأصل في حقيقة وجود مستوى أدنى. ولكن، ثمة تفسيران آخران للشر كانا أيضا بارزين في تفكيره. ومن بين هذين التفسيرين، تناولت الإجابة الأولى تبعات الاختيار الحر المساء استغلاله والراسخ في احتمالية ضعف الروح، أما الإجابة الثانية، فبحثت في المادة. إن الضعف في الروح مال إلى جعلها مستغرقة في أشياء خارجية ومادية؛ ولذا، فالشر الكوني اللاأخلاقي الممثل في عيب الوجود الراسخ في المادة يصبح جذرا للشر الأخلاقي في الروح. «من دون المادة، يستحيل أن يوجد شر أخلاقي قط» (أفلوطين). إن وجود المادة في الروح يجلب لها الضعف ويتسبب في سقوطها. وفي الوقت نفسه، تمنى أفلوطين أن يتحدث عن انبثاق الروح وسقوطها كحدث ضروري للوفاء بقدراتها المحتملة وللخدمة التي يتعين على الروح تقديمها لعالم الحواس الدوني. ومن المنصف أن نستنتج أنه حتى أفلوطين أخفق في تحقيق مكانة واضحة ومتسقة، فبعد التحول الذي شهده أوغسطينوس، سعى إلى تصحيح أخطاء أفلوطين.
كانت مذاهب فرفوريوس شبيهة جدا بمذاهب سيده أفلوطين. وفي المدرسة الأفلاطونية الحديثة كان هناك شقاق حيال طائفة الأرباب؛ فقد شعر أفلوطين وفرفوريوس بالتحفظ تجاه المشاركة في التضحيات الهادفة لاسترضاء الأرواح. كتب فرفوريوس أطروحة عن «عودة الروح» (أي إلى الرب). وبالنسبة إلى قراءات أوغسطينوس المثيرة بشكل متعمق، مثلت هذه الأطروحة موقفا وسطا؛ فقد سلم بأن الفلسفة السديدة يمكن استخلاصها في المعابد من المشاورات التي ينطق بها أبوللو إله الشمس عبر نبياته. لكنه كتب بعين ناقدة عن الرفاق الوثنيين الذين افترضوا أن الروح يمكن تطهيرها مباشرة عبر المشاركة في الأضاحي بالمعبد أو عبر ممارسة أنشطة طقسية خارجية. وكانت الأضاحي الحيوانية أيضا دنيوية. علاوة على ذلك، لم تكن عادة تناول اللحم بعد الأضحية متوائمة مع المبادئ النباتية؛ ولذا، دفع فرفوريوس بأن تطهير الروح يمكن أن يتحقق وحسب ب «الفرار من الجسد» الذي اتحدت به بفعل سلسلة من الحوادث المؤسفة. فبالإعراض عن اللحم والنشاط الجنسي، يمكن تحرير الروح تدريجيا من أصفادها البدنية.
Bilinmeyen sayfa
ودرس فرفوريوس أن السعادة تكمن في الحكمة التي يمكن العثور عليها بطاعة الأمر القديم لديلفي «اعرف نفسك». باعتراف الجميع، يجعل الشر الكامن في الروح الإنسان عاجزا عن ممارسة التأمل الفكري المستمر، فتمسي تلك اللحظات عابرة بالنسبة إليه. ولكن «مرن نفسك على العودة إلى نفسك، واجمع من الجسد كل العناصر الروحانية المتناثرة والمختزلة في كتلة من القطع الصغيرة.» و«يزج بالروح في الفقر والعوز كلما تعززت روابطها بالجسد. لكن، يمكن أن تصبح الروح خصبة حقا باكتشاف ذاتها الحقيقية الممثلة في الفكر.» «غايتنا تحقيق تأمل الوجود.» «الذين يعرفون الرب يستحضرونه، والذين لا يعرفونه يغيبون عن الرب الموجود في كل مكان.» يعكس كتاب «الاعترافات» لأوغسطينوس هذه اللغة.
ودرس فرفوريوس أن الرب يحيط بكل الأشياء، ولا يحيط به شيء. والواحد موجود لكل من يشارك في الوجود المتدفق من مصدره في الرب. والخيرية يجب أن تكون ذاتية الانتشار، لكن كل التعددية تعول على الوحدة العليا وتسعى للعودة إليها. وفي البناء الهرمي للوجود، من البديهي أنه من الجيد أن يكون المرء موجودا، وأن درجات الوجود هي أيضا درجات للخيرية . كتب فرفوريوس يقول: «كل ما هو موجود خير بقدر ما له من وجود؛ حتى الجسد له جماله ووحدته الخاصان» (يقول أوغسطينوس الشيء نفسه، «حول الدين الحق
De vera
religione »). تحتل الروح، بين الأشياء المادية والعوالم الأسمى للحقيقة البائنة، مكانة وسيطة. وبالإهمال والتحدي العنيف العصي على التفسير، من الممكن أن تغرق الروح في مستنقع الكبرياء والحسد والأشياء الشهوانية. ولكن، بضبط النفس المتقشف والتأمل الاستبطاني، يمكن للروح أن تسمو إلى كمالها الحقيقي. وهذا الكمال هو «التمتع بالرب». تبنى أوغسطينوس هذه العبارة الأخيرة.
واستقى فرفوريوس من أفلوطين مبدأ أنه عند قمة سلسلة الوجود - حيث لا تستطيع حواسنا الخمس الوصول - هناك ثالوث مقدس قوامه الوجود والحياة والذكاء، وهو ثالوث تبادلي كله، ويعرف كوحدة يستطيع المرء داخلها أن يميز العلامات الفارقة. وهيكل الأشياء يطابق بنية الانطلاق المتناغم من المبدأ المطلق للوجود، ومن الاحتمالية إلى الواقع، ومن المجرد إلى الملموس، ومن الهوية إلى تلك الغيرية التي تعتبر أيضا تدنيا في مستوى الوجود. إن مصير الأرواح الأبدية العودة من حيث أتت؛ فالأرواح سرمدية أصلا. ومبدأ العودة أو التحول هو مغزى مبدأ أفلاطون لاستعادة الذكريات؛ أي إن كل المعارف ما هي إلا استرجاع ما عرفه المرء ذات مرة (في وجود سابق) ولكن نسيه. ولقد استعاض الأفلاطونيون الجدد، وأوغسطينوس من بعدهم، بفكرة التنوير الإلهي الذي يضيء من داخل الروح مباشرة عن هذا المذهب إلى حد كبير.
قرب نهاية حياة فرفوريوس (الذي زعم بعض الكتاب المسيحيين أنه كان مسيحيا في شبابه ثم ارتد عن دينه)، ألف هجوما مطولا ولاذعا على المعتقدات المسيحية والجدارة التاريخية للأناجيل. لم يكن كتابه الذي هاجم فيه المسيحية معروفا بالنسبة إلى أوغسطينوس. ولكن، يجوز وصف أعمال فرفوريوس بإنصاف بأنها تقدم فلسفة دينية بديلة مصممة، سواء عن عمد أو من دون عمد، لتوفر منافسا للمسيحية وترياقا لها.
فتنت مجموعة أفلاطونيي ميلانو أستاذهم في البلاغة الجديد بترجمات فيكتورينوس لأعمال أفلوطين وفرفوريوس. وقد كان للغة التي تعرض لها أوغسطينوس في تلك الأعمال التي تتناول معضلة الشر والتجربة الصوفية للعالم اللامادي السامي أثر عظيم. كان الأفلاطونيون الجدد يقولون له إن الروح لها قوة المعرفة الذاتية الفورية والراسخة بداخلها. علاوة على ذلك، فهذه القوة يمكن أن تتحقق وحسب عند تنحية إدراكات الحواس الخمس جانبا، فيشهد العقل عملية تطهير، بفعل الجدل، تطهره من الصور المادية وتسمو به إلى الرؤية المقدسة السعيدة التي تحدث عنها أفلاطون. ولقد آمنوا بأن هذه قوة طبيعية للروح تتحقق بينما تحتضن الروح تدريجيا النور والحقيقة المقدسين.
وصف أوغسطينوس لاحقا في الكتاب السابع من «الاعترافات» كيف أنه حاول في ميلانو أن يتأمل تأملا عميقا المنهج الأفلاطوني الجديد؛ فقد حررته الأفلاطونية من المفهوم المانوي للإله باعتباره مادة مضيئة خفية. وبالاستبطان بمعزل عن الناس وبممارسة طريقة الارتداد الجدلي من الخارجي إلى الداخلي، ومن الدوني والمادي إلى السامي والذهني، نال رؤية عابرة للحقيقة السرمدية والجمال غير المتبدل. وأصيب بالإحباط بسبب سرعة زوال تلك التجربة العميقة جدا، وحقيقة أنه وجد نفسه بعدها مستغرقا في كبريائه وشبقه كما في السابق. ومع ذلك، عرف أوغسطينوس أنه في تلك «اللحظة المضيئة العابرة» حظي بلمحة مذهلة للوجود السرمدي الذي لا يتبدل، والواقع اللامادي الذي يتجاوز بالكامل ذهنه المتغير دوما (الاعترافات). ولا يوجد تلميح لاقتراح في كتاباته اللاحقة، التي كتبها كمسيحي، يفيد بأن تجربة ما قبل التحول هذه لم تكن حقيقية بأي حال من الأحوال. لاحقا في «الاعترافات» (الكتاب الحادي عشر) سيتبنى أوغسطينوس تقريبا لغة مطابقة حول الوحدة بين الحب والهيبة، تلك الهيبة المترتبة على تأمل الآخر المنيع والبعيد جدا و«المغاير»، والحب النابع من الدراية بالآخر الذي هو مألوف جدا وقريب جدا؛ الهيبة المقابلة للسمات السلبية والمجردة، والحب الذي يروم التعبير عنه بكلمات شخصية وبصراحة شديدة.
وفي قلب التجربة التي وصفها استقر الإيمان بأن المخلوق المحدود القدرات لديه شوق نهم للإشباع الموجود وحسب فيما يتجاوزه، وفيما يتجاوز في حقيقة الأمر القدرة البشرية على التعبير أو الوصف.
شكل 1-2: رؤية القديس أوغسطينوس للقديس جيروم بريشة فيتوري كاراباشيو، مدرسة سان جورجيو ديلجي شيافوني، البندقية.
Bilinmeyen sayfa
أعادت العظات الأفلاطونية الحديثة الناصحة بكبت الشهوات والحواس المادية أوغسطينوس إلى تحذير شيشرون من أن الانغماس الجنسي لا يمثل أرضا خصبة للجلاء الذهني. وورد في الورقة الدعائية لفرفوريوس حول التغذي بالنباتات الصرفة أنه «كما يتعين على القساوسة بالمعابد الإعراض عن الجماع لكي تتحقق لهم الطهارة الطقسية ساعة تقديم الأضحية، كذلك على الروح الفردية أن تكون طاهرة بالقدر نفسه كي تنال رؤية الرب.» أدرك أوغسطينوس أنه «منساق بفعل ثقل الحياة الشهوانية.» لم يكن مسيحيا، ورغم ذلك اكتشف بواسطة مسيحيين أمثال سيمبليسيان في ميلانو تجربة ذات أهمية نفسية عظيمة له؛ حيث منحته تأكيدا كاملا وكذا وعيا بزواله الشخصي في مقابل الوجود السرمدي للواحد. واكتشف أنه ممزق في صراع ما بين الفلسفة التأملية التي دعت روحه إلى أشياء أسمى من الجسد، وعادة النشاط الجنسي التي شعر بسببها بأنه مقيد، والتي طالما وجد فيها مصدرا للإشباع الجسدي، إن لم يكن النفسي أيضا. وبدأ يعقد الآمال على أن ينال الحصانة والعفة في نهاية المطاف، وصلى من أجل ذلك، «لكن ذلك لم يتحقق بعد» (الاعترافات، الكتاب الثامن). ومما أراح باله وكان له بمنزلة الحافز في الوقت نفسه أن محاورة هورتنسيوس لشيشرون ورد فيها أن «البحث المحض عن السعادة العليا، لا نيلها الفعلي وحسب، كنز يتجاوز كل ثروات البشر أو شرفهم أو متعتهم المادية.»
باتجاه الهداية
إذا كان الأثر الذي ينطوي على مفارقة لمحاورة هورتنسيوس لشيشرون عندما كان أوغسطينوس في التاسعة عشرة من عمره يتمثل في استقطابه نحو المانوية، فقد كان أثر قراءاته الأفلاطونية في الحادية والثلاثين من عمره أن حثته على الاتجاه نحو أكثر ما يكره فرفوريوس؛ ألا وهي الكنيسة. لقد كانت الجماعة الأفلاطونية الحديثة في ميلانو مهتمة خصيصى بأجزاء من العهد الجديد، مثل مقدمة إنجيل القديس يوحنا أو أسلوب القديس بولس المصطبغ بصبغة أفلاطونية في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس 3-4 التي قدمت أساسا إنجيليا لأفلاطونية مسيحية. وكان المسيحيون في هذه الجماعة معنيين بتفسير رسالة القديس بولس إلى رومية بطريقة تفادت الحتمية والازدواجية المانوية. لقد فسر أوغسطينوس كمانوي أن الحواري لا يتعارض وحسب مع العهد القديم، بل ومع نفسه أيضا؛ فلغة بولس عن الصراع ما بين الجسد والروح (غلاطية، رومية) اقتبسها المانويون كميثاق لإيمانهم بأن النزعات الجنسية للجسد هي أصل كل الشرور. تبنى أفلاطونيو ميلانو الجدد وجهة نظر أقل تشاؤما بعض الشيء. وسرعان ما اقتنع أوغسطينوس بأن المسافة الفاصلة ما بين أفلاطون والمسيح لم تكن بالكاد خطوة قصيرة وبسيطة، وأن تعليم الكنيسة كان فعليا «أفلاطونية للجمهور»، وطريقة صورية ومجازية للتعاطي مع العقول غير الفلسفية لجعلها عقلانية على الأقل في سلوكها. وحتى نهاية حياته، وبعد أن أمست تحفظاته بشأن عناصر بعينها في التقليد الأفلاطوني محددة وواضحة بفترة طويلة، لم يكن أوغسطينوس ليقصر في الإقرار إقرارا سخيا بالدين الذي يدين به لكتب الأفلاطونية الحديثة. وبينما كان على فراش الموت في هيبو أثناء الحصار الطويل الذي ضربته قبيلة الواندال على مدينته، كانت آخر كلماته المؤرخة اقتباسا من أفلوطين.
إن النزعة الروحانية الأفلاطونية الحديثة والتشديد على الاستبطان والتحرر من عوامل التشتيت بالعالم الخارجي شحذت شعور أوغسطينوس بالانسياق في اتجاهين مختلفين؛ حيث ساقته نزعته الجنسية إلى القاع. وبينما طالع رسائل القديس بولس، بدأ يفكر أن الحواري استوعب حالته بالكامل، ووجد نفسه في دوامة من الصراع الداخلي. وزاد وعيه ببؤسه ذات يوم بشدة بينما كان سائرا في شارع من شوارع ميلانو مرورا بشحاذ يضحك بسعادة غامرة تحت التأثير المخدر للخمر (الاعترافات، الكتاب الخامس). وأدرك أن شعوره عند تأمل الرجل لم يكن الشفقة بل الحسد. واكتشف أستاذ البلاغة أن نسخته من رسائل القديس بولس أمست مهمة بالنسبة إليه.
وفي نهاية شهر يوليو عام 386، وفي بستان البيت بميلانو حيث كان يعيش بصحبة أمه وتلميذه الأسبق أليبيوس (وهو محام بارع ما برح في عام 386 يفند المعتقدات المانوية، ولاحقا أصبح أسقفا لبلدة طاغست)، بلغ أوغسطينوس أخيرا مرحلة لا بد فيها من قرار؛ فقد تدهورت حالته الصحية بسبب الربو الذي أصاب صدره، وبح صوته. ولم يستطع أن يحدد إن كان هذا عرض لوعكته أم علة مساهمة في قراره. قرر أوغسطينوس أن يترك منصبه التعليمي، وأن يتخلى معه عن طموحاته بمسار عملي علماني. وكانت الذروة لما تخلى عن نيته في الزواج بالكامل. هل يستطيع أن يحمل نفسه على العيش من دون امرأة؟ علم أوغسطينوس من صديق أفريقي له يعمل في ديوانية البلاط عن وجود مجتمع من الزاهدين الذين يعيشون في ميلانو وعن تنازل أنطوني الناسك المصري عن ثروته، وسيرته الذاتية التي كتبها بابا الإسكندرية أثناسيوس وسرعان ما ترجمت إلى اللاتينية للقراء الغربيين. إذا استطاعوا أن يحققوا كبت النفس عن الشهوات، فلا بد أن ذلك باستطاعته أيضا؛ أم إن إرادته واهنة أكثر من اللازم؟
وفقا للسرد الوارد في الكتاب الثامن من «الاعترافات» التي كتبها بعد تلك المرحلة بأربعة عشر عاما، أمسك أوغسطينوس بنسخته من إنجيل القديس بولس، وفتحها بشكل عشوائي، وعلى غرار الذين التمسوا إرشاد فيرجل لهم في المستقبل، استرشد أوغسطينوس بأول نص وقعت عليه عيناه، وكانت الكلمات الختامية لرسالة بولس إلى أهل رومية 13 التي تقارن ما بين الشهوانية الجنسية والدعوة إلى أن «البسوا الرب يسوع المسيح.» ووصف قراره بلغة أدبية رائعة تردد صدى أسلوب الشاعر بيرسيوس، وعبارة مذهلة من أفلوطين، وتلميح رمزي إلى سقوط آدم من جنة عدن. وسرد كيف سمع صوتا، إذا جاز التعبير، أشبه بصوت طفل يملي عليه أن «أمسك بالكتاب واقرأ!» ثمة خلاف حول مقدار السرد المكتوب نثرا والمقدار المكتوب بلغة أدبية أو بزخارف بلاغية، لكن لا شك أن هناك عاملا أدبيا. ومن المؤكد أيضا أنه في ميلانو بنهاية يوليو 386 قرر أوغسطينوس أن يتخلى عن فكرة الزواج والطموح العلماني، وأن يخوض تجربة التعميد. واستقال من مهنة التدريس بالمدينة.
لم تكن هدايته مفاجأة، بل نتاج أشهر عدة من المخاض الموجع. ولقد شبه هو نفسه لاحقا عملية الهداية بالحمل والولادة. وكان هذا الاختيار إيذانا بتحول أخلاقي أكثر منه فكري في المحتوى. والقصة الواردة في «الاعترافات» تفترض مسبقا أن أوغسطينوس عام 386 اعتبر الشغف الجنسي العقبة الوحيدة بين روحه والتوحد مع الحقيقة المعنوية السرمدية. وما لقنه إياه أفلوطين وفرفوريوس أمسى الآن ممكنا وفعليا بمساعدة نص من نصوص القديس بولس. وبعدها بخمسة عشر عاما، سيعكف أوغسطينوس على الكتابة عن «الوهم» الذي يعيش فيه البعض في هذه الحياة، ومفاده أنه في هذه الحياة من الممكن للعقل البشري أن يفصل نفسه عن العالم المادي كي يستوعب «النور النقي للحقيقة الثابتة» (الانسجام بين الأناجيل
De consensu evangelistarum ). ومع ذلك، في تلك الفترة راودته أحاسيس «العودة إلى المرفأ بعد الرحلة العاصفة». أجيبت صلوات مونيكا لهدايته وتعميده. من المستحيل أن يهلك ابن الدموع الغزيرة.
بعد ذلك بأشهر قلائل أعلن أوغسطينوس أنه رغم أن الرغبات القديمة لم تكف عن مطاردته في أحلامه، فقد بدأ يحرز تقدما؛ حيث أمسى الآن ينظر للجماع بمقت وكراهية باعتباره «حلاوة مرة» (مناجاة النفس
Soliloquia ). لم تجعل طموحات العيش في تقشف منه ناسكا، وكان يشتاق إلى العيش بين أصدقاء عاديين مشاركا إياهم شغفه وحماسه لأفلاطون والقديس بولس مع شيء من أعمال شيشرون (ولا سيما مناقشات توسكولوم) بين الحين والآخر. مرت ثمانية أشهر ما بين قراره الذي اتخذه في بستان ميلانو وعيد الفصح عام 387 عندما عمد على يد أمبروسيوس، كما عمد ابنه غير الشرعي أديوداتوس وصديقه أليبيوس المحامي. وخلال تلك الأشهر، أعطي هو ومونيكا ومجموعة من الأصدقاء والتلاميذ فيلا على سبيل الاستعارة في مدينة كاسيكاسيوم على التلال على مقربة من مدينة كومو. وهناك استعاد عافيته، وتفكر في موقفه.
Bilinmeyen sayfa
شكل 1-3: مشاهد من حياة القديس أوغسطينوس: تعميد القديس أوغسطينوس، 1645 بريشة بينوزو جوزولي. تصوير جصي، كنيسة القديس أوغسطينوس، قرية جيمنيانو، إيطاليا.
لا تظهر هداية أوغسطينوس في كتاباته آنذاك على اعتبار أنها كانت مدفوعة بالفرار من الشكوك الأليمة للريبة الفلسفية عن طريق الاعتصام بالسلطة العقائدية للكنيسة، فمصدر بؤسه وعدم رضاه يكمن داخله. ومع ذلك، كانت مشكلة السلطة واضحة في الخلافات التي نشبت ما بين الكاثوليكيين والمانويين، وأقر أوغسطينوس بخضوعه للمسيح ولمجتمعه، وهو ادعاء بتقرير المصير أمسى يراه لاحقا ضربا من الكبرياء (الاعترافات، الكتاب العاشر). منذ خريف عام 386 فصاعدا، أضحت كتاباته تحوي تلميحات كثيرة للإنجيل وللعقيدة المسيحية. وفي مدينة كاسيكاسيوم، كتب أوغسطينوس عن السلطة والعقل باعتبارهما سبيلين موازيين للحقيقة؛ حيث كانت السلطة ممثلة في المسيح والعقل في أفلاطون. من الممكن أن تعطي السلطة توجيهات يستوعبها العقل بالتبعية. والسلطة سابقة زمنيا، والعقل سابق في ترتيب الواقع. ويفضل المتعلمون تعليما رفيعا اتباع المسار الفلسفي للعقل، ولكن حتى في هذه الحالة لا يمكن أن يكون العقل كافيا لتوفير كل التوجيه الذي تقتضيه الضرورة. من ناحية أخرى، التعويل الحصري على السلطة لا محالة يحيق به خطر عظيم؛ فكيف للمرء من دون عقل أن يميز ما بين الادعاءات المتنافسة للسلطة؟ وكيف للمرء أن يميز ما بين السلطة الإلهية أصلا وسلطة الأرواح الأدنى منزلة التي يوقرها الوثنيون الذين يزعمون قدرتهم على التنبؤ بالمستقبل بالعرافة والكهانة؟ لكن السلطة الإلهية للمسيح مثبتة باعتبارها أسمى منطق في الوقت نفسه، فهو حكمة الإله نفسها التي تطابق الثالوث الأعلى لعقل أفلوطين (الحياة السعيدة
De
beata vita ).
وأخيرا، على المرء أن يتساءل عن الأفكار المحددة عن الرب والإنسان التي قبلها أوغسطينوس كنتيجة لتعميده واعترافه بالعقيدة المسيحية. باختزالها إلى أكثر عناصرها بدائية وهيكلية، دعت العقيدة المسيحية أوغسطينوس إلى التصريح بالتأكيدات التالية؛ أولا: أن العالم المنتظم ينبع من الخير الأسمى، الذي يعتبر أيضا القوة الأسمى، ولا نعني أفضل قوة يصادف أن يكون لها وجود، بل كمالا لا تستطيع عقولنا حتى أن تتخيل فكرة لأي وجود أسمى منه. ولذا، فإنه «هو» موضوع الهيبة والعبادة. ولا ينبغي أن نفكر في الرب على اعتبار أنه منخرط في صراع من الأدنى إلى الأعلى كالبشر (وكقوة النور المانوية)، بل على اعتبار أنه يمتلك غاية إبداعية وتخليصية متسقة فيما يتعلق بالكون عموما والخلق العقلاني خصوصا. والمستوى الأسمى على سلم القيمة هو الحب، الذي هو طبيعة الرب عينها.
ثانيا: الطبيعة البشرية بحسب معرفتنا بها الآن تخفق في الانسجام مع نوايا الخالق؛ فالبؤس البشري تخلده الأنانية الاجتماعية والفردية، فيطارد الإنسان الجهل والفناء وقصر الحياة وضعف الإرادة، وقبل هذا وذاك الإنكار المتعجرف والعنيد للخير الحقيقي. وخلاصة القول أن البشرية بحاجة إلى علاج الحياة السرمدية وغفران الخطايا أو البعث تحت مظلة حب الرب.
ثالثا: أن الرب الأسمى تصرف في إطار الوقت والتاريخ الذي نحيا فيه، والذي «يسمو» هو فوقه ويتجاوزه، فيجلب لنا المعرفة والحياة والقوة والتواضع (أعظم هبة على الإطلاق) التي من دونها لم يكن أحد ليتعلم أي شيء. ولهذا الفعل ركيزته البالغة ذروتها في المسيح، قدوة البشرية في حياته وتعاليمه الحكيمة وعلاقته البنوية الفريدة بال «الآب» الأسمى. لقد جسد المسيح هبة حب الرب بتواضع انبعاثه وموته. والوصول إلى حركة الرب هذه من أجل إنقاذ الإنسان الساقط يتسنى عبر ارتقاء الإيمان ولزوم مجتمع أتباع المسيح، وهو مجتمع هيكلي يأتمنه على الإنجيل وعلامات العهد المقدس الممثلة في الماء والخبز والخمر. وبذلك توحد روح القداسة ما بين الإنسان والرب، وتمنح الأمل في الحياة القادمة التي يعتبر انبعاث المسيح عهدها المطلق، وتحدث تحولا في الحياة الشخصية والأخلاقية للفرد كي يكون أهلا لمجتمع القديسين في حضرة الرب.
خاطبت التعاليم المسيحية أوغسطينوس من خلال هذه الأفكار بأسلوب أخروي قوي يرتبط بقوة بالأخلاقيات والميتافيزيقا الأفلاطونية. وكان من الأهمية بمكان أن جمع ما بين لغة أفلوطين السلبية الموضوعية حيال الواحد أو المطلق والمفهوم الإنجيلي عن الرب باعتباره ممثلا للحب والقوة والعدل والغفران. ومن المحوري للتوحيد أن يعرف سر الرب لا في هيبة الطبيعة وعظمتها فحسب، بل عن طريق كشف عن الذات أيضا، قياسا على الشخص الذي يعلم الآخرين ما لم يستطيعوا اكتشافه بأنفسهم. ومنذ عام 387 فصاعدا، تناول أوغسطينوس تلك الأفكار باعتبارها مبادئ أولى.
الفصل الثاني
الفنون التحررية
Bilinmeyen sayfa
ربما لأن الأفلاطونية أسهمت بقدر كبير في هدايته إلى المسيحية، لم يبادر أوغسطينوس قط بوضع حدود واضحة وحاسمة بين الفلسفة وعلم اللاهوت؛ فهو لم ينظر إلى المنطق الفلسفي كوصيف للعقيدة أو كداعر خطير مهمته إغراء العقل بافتراض أن باستطاعته الوصول إلى غايته المطلقة دون مساعدة الرب ورعايته. عرف أوغسطينوس الموضوع الأساسي للفلسفة بأنه «دراسة الرب والروح البشرية» (مناجاة النفس). يلاحظ المرء استبعاد العالم المادي؛ فالدافع الذي أدى بالناس إلى التفلسف، كما وصف أوغسطينوس بأسلوب شيشروني، هو ببساطة البحث عن السعادة.
ينتشر علم الوجود الأفلاطوني، أو مذهب الوجود وطبيعة الأشياء الوارد وصفه في الفصل الأخير، في شتى كتاباته. هناك فقط بعض الجوانب التي عدل تفاصيلها؛ الأمر الذي يعطينا الانطباع بأنه بقدر ما قبل الحجج الأفلاطونية، قد حولها دوما إلى نتائج تحددها عقيدته. وربما كان من الأصح أن نقول إنه لم يجد منطقا كافيا في الانفصال عن التقليد الأفلاطوني إلا إذا لم يكن متوائما مع مقتضيات العقيدة الكاثوليكية. بطبيعة الحال، فقد اعتبر أوغسطينوس الأفلاطونيين الوثنيين مخطئين في قبولهم الشرك بالله وتعدد الآلهة، ودورات العالم الخالدة، وتناسخ الأرواح. ولقد كان الاعتقاد القديم بالتناسخ قدريا بالكامل بقدر مبالغ فيه، لدرجة أنه لم يتوافق مع مفهوم الرب باعتباره القوة الإبداعية المتفردة العاملة بشكل تخليصي كي تجلب خلقها العقلاني إلى غايته الحقيقية الممثلة في رفقة الرب.
كانت هناك نقاط خلافية أخرى أقل جلاء ولكنها ليست أقل حيثية. ورغم أهمية نبذ الممارسات الجنسية في سياق هدايته، لم يتفق أوغسطينوس مع أفلوطين في رؤيته للمادة والمادية باعتبارهما الأصل الرئيس للشر. ومرة أخرى، على النقيض من أفلوطين (على خطى أفلاطون في «الجمهورية» 509 قبل الميلاد)، لم يقل أوغسطينوس بأن الرب ينبغي أن يوصف بالواحد «المتجاوز للوجود»، واستطاع أن يقبل الأطروحة الأفلاطونية النقيضة عن الواحد والعديد كرواية للعلاقة ما بين الخالق السامي والتنوع المتشعب للخلق، لكن الإله الواحد لا يتجاوز الوجود قط، وطمأنته الآية 3: 14 من سفر الخروج بأن الرب نفسه وجود، وأنه الوجود نفسه: فهو كل ما هو موجود فعلا. (ألقيت عظتان مؤثرتان جياشتان في هيبو على جمع من عمال الموانئ والمزارعين وطورتا هذه الفكرة المميزة: (شروحات المزامير
Enarrationes in Psalmos
ومعاهدة إنجيل يوحنا
Tractatus in Evangelium Johannis ).)
إن الخلق «مشاركة» في الوجود. ويوحي هذا اللفظ بالاشتقاق. وهو مميز لما يشتق، وما يملكه المرء حينئذ يكون متمايزا عن كينونته. بالنسبة إلى المخلوقات، الوجود شيء والتحلي بالإنصاف والحكمة شيء آخر. ولكن الوجود بالنسبة إلى الرب يعني الإنصاف والخيرية والحكمة في الوقت نفسه؛ فالإنسان يمكن أن يكون موجودا دون أن يتحلى بالإنصاف أو الخيرية أو الحكمة، أما الرب فلا؛ فالرب «هو من يملك». عبر أفلوطين عن النقطة نفسها بلغة أرسطية قائلا: في «المادة» الإلهية (أي الجوهر الميتافيزيقي) لا يجوز أن تكون هناك أي عوارض. واتفق أفلوطين وأوغسطينوس على أن الفئة الأولى وحسب من الفئات العشر، ألا وهي المادة، هي التي تنطبق على وجود الرب (الاعترافات).
وجد أوغسطينوس مقدمة إنجيل يوحنا (وهي جزء من العهد الجديد أبهر الفلاسفة الأفلاطونيين الحداثيين) تصريحا نبيلا للصورة العالمية الأفلاطونية، ولنور الرب الذي يشع في الظلام ليعيد العالم المستوحش إلى العوالم العليا. ولكن، إذ وجد المسيحية تعبر عن الحقيقة بشكل أفلاطوني جدا، لاحظ أوغسطينوس نقطة خلافية شديدة؛ إذ لم تقل «كتب الأفلاطونيين» إن الكلمة صارت جسدا. لقد كان مبدأ الوحي الفريد في سياق حياة محددة فكرة مسيحية اضطر ماني إلى تبديلها تبديلا جذريا. بالنسبة إلى أفلاطوني وثني، بدت خصوصية تلك الفكرة غير متوافقة بشكل فاضح مع الثبات الإلهي والسريان الشمولي للعناية الإلهية في الكون ككل. لم يفكر الأفلاطونيون في وجود غاية إلهية تعمل عملها في فوضى التاريخ وخلالها، ومفاهيمهم الخاصة بالزمن كانت دورية لا خطية؛ بتعبير آخر، في فترات زمنية فاصلة كبيرة يرجع تكوين النجوم إلى الموضع نفسه، وحينئذ تبدأ الأشياء كلها مجددا في المسير في نفس الحلقة المفرغة. إن مفهوم التجسيد الفريد الذي يدعو الإنسان لاتخاذ قرار وجودي تترتب عليه تبعات أبدية يعني أن الأفلاطونية لم تكن شيئا يستطيع أوغسطينوس أن يتركه دون تعديل. ومن ناحية أخرى، فقد شعر هو أيضا أنه من الضروري تفسير التجسيد بلغة العناية الإلهية الشمولية كخطوة محورية باتجاه غاية التاريخ ومفتاح لفهم معناه.
خلال الفترة التي اهتدى فيها للمسيحية، كان أوغسطينوس في نحو الثالثة والثلاثين من عمره، وكان قد أمسى أستاذا مرموقا في الأدب والأسلوب البلاغي. ولو كان قد سعى وراء الوظيفة العلمانية التي حلم بها، لما عرفت الأجيال اللاحقة عنه الكثير بخلاف اسمه، ربما فقط باعتباره مثالا مذهلا للتحول الاجتماعي الذي قام به شاب بارع مثله متحدر من عائلة إقليمية معدمة من ريف مملكة نوميديا الأمازيغية، والذي كد في عمله وحالفه الحظ إذ استمتع بشيء من الرعاية المفيدة لمستقبله. الآن تخلى أوغسطينوس عن كل هذا، وكان عليه أن يجد الإجابات الشافية عن الأسئلة الملحة. وكانت مهمته الأدبية الأولى البحث في أسئلة شائكة عن الشر والقدر التي فرضها عليه في فترة من الفترات المانويون. وكان عليه أيضا أن يرد على المفكرين المشككين الذين كانوا، خلال فترة حرجة، منسجمين مع ذهنه بشدة.
خلال الأشهر التي أمضاها في كاسيكاسيوم، ألف أوغسطينوس سلسلة من المحاورات الفلسفية، التي غالبا ما اتخذت قالب محاورات شيشرون التي كتبها في معتزله في توسكولوم. ولقد مكنه التقليد الأدبي لشكل المحاورة من التصريح بصعوبات كان لم يزل هو نفسه يكابدها، وأصبح باستطاعته أن يناقشها مع نخبة متعمقة التفكير. كانت أجواء المحاورات أشبه بأجواء قاعة المحاضرات؛ حيث استخدم أوغسطينوس المناقشة الجدلية كوسيلة للتلقين، عارضا المشكلات وملتمسا الحلول. وكانت الموضوعات التي تناولها، في بداية المطاف، طبيعة السعادة (الحياة السعيدة)، ونقدا لنظرية المعرفة المتشككة ومذهب تعليق الحكم (ردا على الأكاديميين)، والتأكيد على أن القدر الشخصي أو الخاص ممكن في سياق النظام المتسق للكون، وسلسلة العلة والمعلول (حول الحكم
Bilinmeyen sayfa
De ordine ). وفي المحاورة الأخيرة من تلك المحاورات، أدرج أوغسطينوس دفاعا عن دراسة الفنون الحرة كإعداد للعقل لتلقي الحقائق الأكثر سموا، واقترح أنها ينبغي أن ترتب على سلم تصاعدي، على أن تأتي الهندسة والموسيقى تحديدا لتكشف عن النظام الحسابي الكامن وراء الكون. واستعار أوغسطينوس صورة من أفلوطين، واستخدم صورة الرصيف المصنوع من الفسيفساء الذي لا ترى جماله العين المنكبة على قطعة صغيرة واحدة، بل العين التي تحاول فحسب أن تنظر للصورة ككل. وفي فقرة تتوافق بشدة مع الأفلاطونية الجديدة، أعلن أوغسطينوس بأنه «كي نرى الواحد، يجب أن ننسحب من التعددية؛ ولا أعني وحسب تعددية البشر، بل وتعددية الإدراكات الحسية. ونلتمسه وكأنه مركز دائرة تمسك ما حولها بقوة وتحافظ على تجانسه» (حول الحكم).
وفي كاسيكاسيوم، كتب أيضا «مناجاة النفس» (استحدث أوغسطينوس هذه التسمية)، وهي عبارة عن محاورة سلم أوغسطينوس - بحثا عن اليقين خاصة فيما يتعلق بخلود الروح - نفسه فيها إلى إملاءات العقل. ولقد أدت تحفة أدبية ذات طابع أفلاطوني حديث تحديدا من الجدل به إلى تأكيد أن الحقيقة الحسابية صحيحة بشكل سرمدي، وأن العقل الذي يعرف هذه الحقيقة أيضا يشارك في هذا السمو للتسلسل الزمكاني، وهو الرأي المشار إليه على استحياء في أعمال أفلاطون (مينو)، وطوره إلى حد كبير أفلوطين. وفي مزيج خصب من العبارات المستعارة من شيشرون، تمزج «مناجاة النفس» ما بين لغة الإنجيل وخليط قوي من الوجودية الأفلاطونية الحديثة. ثمة إشارة مؤكدة بالاسم لكل من أفلاطون وأفلوطين، ووجود الأفكار المستخلصة من فرفوريوس محتمل جدا. يقول أوغسطينوس هنا إنه ما من سبيل وحيد لينال المرء رؤية الرب؛ ولكن على الأقل يتعين على المرء أن يفر من كل شيء مادي، وينحي بحثه عن الإشباع؛ سواء إشباع الحب الجنسي «حتى الذي يكنه المرء لزوجة متعلمة ومتواضعة»، أو إشباع المال أو السمعة والشهرة، كما يتعين عليه تدريب ذهنه على الوقائع غير المرئية بواسطة عملية شبيهة بالتجريد الهندسي؛ بحيث لا يفكر المرء في المربعات ذات الأحجام المختلفة، بل في المبادئ التي بموجبها تمتاز المربعات بشكلها المربع. وبعدئذ، يجوز أن يبدأ المرء في فهم السمو الغامض للرب الذي تجد فيه الروح الخالدة المطهرة غايتها الحقيقية. والطريق إلى التطهير الداخلي يكون بالإيمان. إن الاقتراح الأخير هو الوحيد الذي ربما كان سيثير حيرة فرفوريوس.
تمزج محاورات كاسيكاسيوم ما بين الثقة بأن ثمة نظاما قدريا وانعداما للثقة بالنفس حيال قدرة الإنسان على فهم ذاك النظام في كل الحالات. وينظر إلى الثقة بالقدر بأكثر من كونها لغزا فكريا: «ستمنح الرؤية لكل من يعيش عيشة كريمة ويحسن الدعاء ويكد في دراسته» (حول الحكم). ولكن، من المقترح أنه في خضم كل هذه التنوعات وتوترات التجربة، يمكن أن يكون هناك انسجام مطلق، وجمال يكمن في النقائض والتباينات كما في صورة مرسومة تحوي من الألوان الفاتح والداكن؛ وعليه، فمن المحتمل أيضا أن تكمن وحدة الحقيقة فيما وراء الموضوعات المتعددة للمعرفة البشرية بمناهجها المختلفة للبحث والاستقصاء.
في ظل تخصيص هذه المكانة العظيمة لدراسة الفنون الحرة، كان من الطبيعي لأوغسطينوس، في الأيام الأولى التالية لتعميده، أن يشرع في وضع سلسلة من الكتيبات المتعلقة بالموضوعات الأساسية للمنهج التعليمي القديم. من بين هذه الكتيبات، لم تصمد دون مساس إلا كتبه عن المنطق والموسيقى. وعثر على كتابه عن قواعد اللغة، وعرضت نسخة منه على عائلة كاسيودوروس في القرن السادس الميلادي، واعتبر ذا فائدة عظيمة لدرجة أن نسخته التي في مكتبته سرقت. وتنقل لنا مخطوطات العصور الوسطى كتابين في قواعد اللغة باسم أوغسطينوس، ومن المحتمل جدا أن أحدهما (ويعرف باسم
Ars breviata ) هو النص «المفقود». والنتيجة واضحة؛ وهي أن الهداية إلى المسيحية والتعميد لم يتمكنا من سحق النزعة التربوية والإنسانية لدى أوغسطينوس. وألقت به التأثيرات الأفلاطونية الحديثة على الطريق إلى النظر إلى الفنون الحرة (ولا سيما الجدلية والهندسة والموسيقى) كتدريب ذهني محبذ بشدة في الفكر التجريدي المؤهل للاستكشافات الميتافيزيقية الأسمى.
في نهاية حياته، كتب أوغسطينوس نقدا أملاه عليه ضميره لعمله الخاص طوال حياته، وأسماه «المراجعات» أو «إعادات نظر» (استدراكات، ولا يجوز ترجمتها «تراجعات»؛ وذلك لأن الكتاب يكاد يكون في أغلبه دفاعا عن أفكاره بقدر ما هو تراجع عن أفعاله الطائشة). في هذا الكتاب، شعر أوغسطينوس أنه مال في شبابه إلى المغالاة في قيمة مثل هذه الدراسات الحرة وأهميتها: «كثير من رجال الدين لم يدرسوا هذه الفنون قط، وكثير ممن درسوها ليسوا برجال دين» (المراجعات
Retractationes ).
تجلى الاهتمام التعليمي لدى أوغسطينوس تجليا مختلفا في فترة نضجه، ولا سيما في واحد من كتبه الأكثر أثرا، وأول الكتب التي طبعت في القرن الخامس عشر. كان هذا الكتاب بعنوان «حول الثقافة المسيحية»، وراجع أوغسطينوس الكتاب وأضاف إليه قرب نهاية حياته. ولقد حفظت مخطوطة النسخة الأولى التي كتبها أوغسطينوس في حياته، وهي موجودة الآن في مدينة سانت بطرسبرج. ويتناول هذا العمل التمحيص في المهارات الضرورية لتفسير الإنجيل تفسيرا صحيحا وبشكل مقنع. واستغل أوغسطينوس «كتاب القوانين» لعالم اللاهوت المنشق تكنيوس ليصوغ شرائع التأويل التي ستتفادى الذاتية، مثلا في تحديد ما هو حرفي وما هو مجازي، وفي حالة المجازي، تحديد المعنى المستتر. لقد أفصح الإنجيل حقا عن حكمة الرب؛ لكن العلوم البشرية كانت غير ذات صلة تماما باكتشاف تلك الحكمة وبيانها؛ فمفسرو الإنجيل الواثقون بوحيهم الداخلي الخاص ارتكبوا أخطاء كثيرة وفادحة. ويسجل أوغسطينوس بشيء من الدهشة أن ثمة مسيحيين معاصرين في أفريقيا لم يقرءوا شيئا بخلاف الإنجيل، ولا يتحاورون غالبا إلا بترجمات غريبة للإنجيل اللاتيني القديم، وذلك استباقا لإنجليزية جمعية الأصدقاء الدينية. كان على يقين من ضرورة إجراء دراسات أكثر توسعا؛ فالعالم بالإنجيل بحاجة إلى معرفة شيء من التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية والرياضيات والمنطق والبلاغة (كيفية الكتابة والتحدث بوضوح وبشكل ملائم). وقد تكون هناك أماكن تساعد فيها معرفة طفيفة بالتكنولوجيا المفسر. ولا شك أن معرفة بسيطة باللغة اليونانية كانت ذات قيمة قصوى في التحقق من الترجمات والقراءات المختلفة.
لم يدرس أوغسطينوس العبرية قط، رغم أنه كان يفهم الكلمات القرطاجية التي يتحدثها الفلاحون، وكان يعرف تمام المعرفة أنها لغة سامية من أصل واحد هي والعبرية. ووفر عليه وجوب تعلم العبرية نوعا ما إتقان معاصره الأرفع مكانة وصديقه بالمراسلة جيروم لها، وكذلك لأنه كان على يقين من أن الترجمة اليونانية للعهد القديم التي أنجزها سبعون حبرا (السبعونية) لم تكن أقل إلهاما من النسخة العبرية نفسها. ولقد أزعجه الإنجيل اللاتيني الجديد لجيروم (النسخة اللاتينية للإنجيل) كلما وجد كلمات مألوفة منذ زمن طويل مبدلة بلا داع. فهذا أمر يستاء له العلماني الذي دائما ما يكون عدائيا تجاه التغييرات الطقسية.
لقد عكس العمل المتعلق بالثقافة المسيحية التوقير الخاص الذي كان أوغسطينوس يكنه للإنجيل. فقد أنكر صراحة أن الكتاب المقدس يمثل الوسيط الوحيد للوحي الإلهي (العظات)؛ لكنه مثل مبدأ السلطة الذي بدا مركزيا للإيمان المسيحي بطريقة إلهية معينة للخلاص للبشرية الجاهلة الضالة. لقد اعتمدت سلطة الإنجيل والكنيسة على الدعم المتبادل، واستخدامه في الكنائس حدد قيود الشريعة. ولقد رسخت نصوص الإنجيل الطبيعة المقدسة التكوين للكنيسة.
Bilinmeyen sayfa
لقد جعل الجدل الموجه ضد نقاد المانوية أوغسطينوس يصر على وجود مغزى روحاني داخلي، ولا سيما للعهد القديم. «يكمن المغزى من العهد الجديد مستترا في العهد القديم، ويتكشف مغزى العهد القديم من خلال العهد الجديد» (تلقين غير المتعلمين
De catechizandis rudibus ). وعلى ذلك، فقد أشبع مجيء المسيح طموحات رسل العهد القديم. لقد جعله المانويون واعيا جدا بالخط الفاصل ما بين الكتب المعترف بها باعتبارها مطابقة للشرع الكنسي من قبل الكنيسة والأناجيل والأعمال المزيفة التي غالبا ما كان يلتمسها ماني؛ خاصة لأن هذه الأعمال المزيفة وضعت لدعم وجهة النظر القائلة بأن الزواج لا محل له من الإعراب للمؤمن. إن حجة المانوي، التي مفادها أن نص العهد الجديد تعرض للتحريف أثناء انتقاله، جعلته على دراية بأهمية القراءات المختلفة بين المخطوطات، أو بالأخطاء الواردة في الإنجيل اللاتيني القديم. فهو لم يستوعب أن النص الإنجيلي يحمل في طياته معنى واحدا فقط قصده آنذاك المؤلف الأصلي. فقد استخدم كتاب الأناجيل أنفسهم كثيرا الرمز والمجاز. والإصرار على معنى حرفي وتاريخي لا محالة يعني الإخفاق في فهم الرسالة الكامنة.
في مواطن قليلة، استطاع أوغسطينوس أن يكتب بثقة عن وضوح الإنجيل وجلائه. ولكن، هناك مواطن أخرى اضطر فيها إلى الاعتراف بأن نصوص الإنجيل غامضة، وأنه ليس كل شيء ضروري للخلاص واضحا لأي قارئ عادي. وتعزز ذلك ملاحظة أن الكثير من المهرطقين ينطلقون من تفسير خاطئ للإنجيل أو متحيز ضده. ولأنهم بارعون ومغرورون، تراهم يترددون في تصحيح أنفسهم؛ «فجزء من الطبيعة الكاثوليكية أن يعرب المرء عن رغبته في قبول التصحيح إذا وقع في الخطأ» (ردا على رسالتين للبيلاجيين
Contra duas epistulas Pelagianorum ).
الفصل الثالث
حرية الاختيار
في صيف عام 387، بينما كان يعيش برفقة مونيكا في روما خلال آخر سنوات عمرها، بدأ أوغسطينوس في كتابة أطروحة كبيرة ومعقدة «عن أصل الشر وحرية الاختيار» (الإرادة الحرة)، وهو العمل الذي أتمه بعدها بستة أعوام أو سبعة. ولقد أفضى به نقده للازدواجية والحتمية المانويتين إلى التأكيد بشدة على الإرادة. ولقد دلل على أن للإرادة مكانة محورية في كل فعل أخلاقي بالاستناد إلى الفضائل الأساسية الممثلة في العدل والفطنة وضبط النفس والشجاعة. والفضيلة تعتمد على الحق والاختيارات العقلانية؛ ولذا تكمن السعادة في حب خيرية الإرادة. وفي المقابل، البؤس نتاج الإرادة الشريرة، والشر نبع من حرية الاختيار المساء استخدامها التي تجاهلت قيم الخيرية والجمال والحق الأبدية.
لقد رأينا أن أوغسطينوس كان يفضل تأصيل الشر في اضطراب الروح بدلا من توطينه في الجسد والمادة، وهو مذهب أفلوطين (مدينة الله
De civitate Dei ). لقد كان ضعف الروح بالنسبة إليه العلة المباشرة - إن لم تكن العلة الكافية بضرورة الحال - للخطيئة. لكنه رأى هذا الاضطراب للروح متأصلا في حقيقة أن الروح تنشأ من لا شيء؛ ومن ثم فهي «طارئة» وعرضة لأن تحيد عن مسارها. وحتى خلودها نجد أنها تملكه لا بطبيعتها الخاصة المتأصلة، بل بهبة من الخالق وبإرادته.
يترتب على الخلق من العدم بالنسبة إلى أوغسطينوس نتيجة مفادها أنه في كل شيء يخلق بهذه الطريقة ثمة عنصر عدمي و«نزعة للعدم»، رغم أن هذه المرحلة المطلقة لا يتوصل إليها قط. وبهذه اللغة، سعى أوغسطينوس إلى التوحيد ما بين المفهوم الإنجيلي لمخلوقية الروح وتبعيتها والتأكيد الأفلاطوني على خلود الروح. في مقالة سابقة عن «خلود الروح» (وهي العمل الذي يحتوي على العديد من الفقرات التي يحاكي فيها فرفوريوس)، كتب أوغسطينوس يقول إنه حتى مادة الجسد لا تفنى بالموت، وكذلك الروح الآثمة تحتفظ إلى الأبد بمسحة من الصورة والشكل الإلهيين. في مرحلة نضجه، كتب أنه «حتى الروح الساقطة تظل صورة للرب» (الثالوث
Bilinmeyen sayfa
De Trinitate )، «وقادرة على معرفة الرب» (القدرة على تلقي الرب). و«حتى اللادينيون» يفكرون في الخلود بالإيحاء، وذلك عندما يصدرون أحكاما أخلاقية تأكيدية على سبيل المثال حول سلوك الآخرين، متجاهلين حقيقة أنهم لا يحسنون التصرف هم أنفسهم. ولذا، حتى في أسوأ السيناريوهات، تحتفظ الروح بعلامات العقلانية والحرية التي تعد مغزى «صورة الرب» التي يهبها للإنسان بواسطة الخلق. وفي الوقت نفسه، فإن الروح، إذ خلقت من العدم، ثابتة لا تتغير، وإمكانية السقوط لذلك تمنح بالخلق. ومع ذلك، فإن الاختيار الفعلي للإرادة بتجاهل الخير لا مبرر له ويتعذر تفسيره.
والمعضلة هنا أرقته طويلا. تساءل أوغسطينوس لم سقط بعض الملائكة دون بعض؟ في مرحلة نضجه، بدا له أنه من غير المناسب أن يتحدث عن المصادفة العشوائية واللاعلية. وللتعاطي مع هذه الصعوبة، لجأ أوغسطينوس إلى مبدأ القضاء والقدر.
رغم أن أوغسطينوس انشق عن الرأي الأفلوطيني القائل بأن الشر ينبع من المادة، فإنه وافق على أن التبعة الرئيسية للاختيار الخاطئ للروح هي أنها أمست مرتبطة بشكل وسواسي بالجسد. والمادة بحد ذاتها محايدة أخلاقيا؛ ورغم ذلك فبمقتضى حقيقة كونها مخلوقة من العدم، وبموجب كونها هي ذاتها عديمة الشكل، فهي تحمل في طياتها دونية ميتافيزيقية عميقة. ومع ذلك، الروح هي المعترك الحقيقي. إن «الطبيعة» التي وهبها الله للبشرية خيرة؛ فقد كان لآدم قبل السقوط وللمسيح في انبعاثه «طبيعة نقية» لا يتأتى لبقية البشرية الآن نيلها. ويؤدي فساد الخيارات الواهنة إلى نشوء سلسلة من العادات تقيد الشخصية وتصبح متأصلة، وتمسي طبيعة معيبة أو «فاسدة».
تدلل الخبرة بالقرارات الأخلاقية على أننا جاهلون بما هو صواب، والأدهى أنه عندما نميز الصواب، نجد صعوبة بالغة في لزومه والعمل به. لقد شعر أوغسطينوس بالتردد حيال سؤال إن كان «الجهل والصعوبة» جزءا من خطة الرب الأولية لمخلوقاته لكي يعلمهم، بينما يصلون إلى مرحلة النضح تدريجيا، إجادة التعامل مع مشكلاتهم والوقوف على أرض صلبة بأنفسهم، أم إن الصراع الأخلاقي تبعة دائمة وعقابية لموقف سقوط الإنسان منذ أول عصيان لآدم وحواء. لا ضير من تردد أوغسطينوس في تلك المرحلة ما دام الأمر لم يكن مهما نسبيا نوعا ما لحجة أطروحته حول حرية الاختيار. لاحقا، أمسى أوغسطينوس أكثر ميلا إلى النظرة العقابية. ولكن في العمل السابق، كانت غايته ببساطة دحض الزعم المانوي بأن شرور الحياة البشرية تثبت أن العالم المخلوق ليس من صنع الخيرية السامية والقوة التي لا تجابهها قوة. كان أوغسطينوس على دراية بأنه سيترك عددا من الأسئلة معلقة.
لاحقا حظيت أطروحة الإرادة الحرة بثناء نقاد أوغسطينوس الذين تأسوا ببيلاجيوس إيمانا منهم بأن أوغسطينوس المتأخر أخفق في أن يعطي الحرية حقها؛ ومن ثم انتزع القيمة الأخلاقية من أعمال الفضيلة. وطاب للنقاد اقتباس الأطروحة انطلاقا من كونها تحوي حججا للإرادة الحرة لم يدحضها حتى مؤلفها. ويستطيع أن يجيب بمنطق سديد بأن محاولة وضع أوغسطينوس الشاب في منافسة مع أوغسطينوس العجوز محاولة واهية الأساس. اعترف أوغسطينوس أن هناك بعض الجمل القليلة كان من الممكن أن يصوغها صياغة أكثر دقة، وأحس بأن الكتاب تناول الخطيئة بشكل أفضل من الفضيلة. تضمنت حجة الأطروحة إصرارا على انتقال إثم آدم وعقوبته إلى نسله، وعلى عجز الإنسان الآثم عن إنقاذ نفسه بإرادته، والحاجة إلى أن يقهر تواضع المنقذ الكبرياء والحسد اللذين يشكلان أكثر السمات الشيطانية للسقوط.
يحوي الجزء الثاني من الأجزاء الثلاثية لأطروحة «الإرادة الحرة» أهم تصريح أدلى به أوغسطينوس وأكثرها ديمومة وثباتا للحجة المؤيدة لوجود الرب. تعاطى أوغسطينوس مع المشكلة بشكل مميز كقضية محورية في نظرية المعرفة، ولم يأخذ على عاتقه إثبات وجود الرب وكأنه يدلل على وجود شيء ما في عالم الحس؛ فحجته لا تفيد بأن المجموع الكلي للأشياء يشمل الرب بالطريقة التي يتضمن بها هذا المجموع الأشياء المدركة بالعقل عبر الحواس الخمس؛ فهو يستوعب أن الرب يتجاوز الزمان والمكان؛ وذلك لأن الإنسان لا يستطيع في سياق الزمان والمكان اكتشاف السعادة أو الكمال المطلقين. وبالمثل، فإن الرب مفترض مسبقا بكل الفكر المتعلق بالمسلمات والتواصل ما بين العقول؛ فالمنطق الرياضي والجمالي والأخلاقي يسلم بأن هناك عالما واقعيا خارج نطاق الحواس. (فالأشياء المادية يمكن إدراكها، أما النظرية المادية فلا، ومع ذلك يتعين صياغتها بلغة مستخلصة من عالم الأشياء المحسوسة؛ فالشخص الذي ينكر حقيقة أسس الفيزياء يعتبر غريب الأطوار. والاعتراض على أن اللغة الخاصة بتلك الأسس متشابهة إلى حد كبير اعتراض غير جاد.)
ولذا، إذا شككنا في النظام البديع للطبيعة بأشيائها النبيلة، فإن هذه الأشياء تهمس في أذن المنطق أن «اليد التي صنعتنا مقدسة» (الاعترافات، الكتاب التاسع، والكتاب الحادي عشر، اقتباس من أفلوطين). لكن النظام والتصميم والجمال، وحتى إمكانية التبدل والتدفق نفسها التي يتمتع بها العالم، وحقيقة أن وجوده ليس «ضروريا»؛ تصبح اعتبارات ثانوية وداعمة لا أكثر للحجة. ويظهر جوهر المادة في إيمان أوغسطينوس بأن الرب ليس شخصا أو شيئا ما موجودا مصادفة؛ فهو الوجود نفسه، ومصدر كل الكائنات الفانية. كأفلاطوني مخلص، يجد أوغسطينوس هذه الحجة معززة بواقع المبادئ الأخلاقية الممثلة في العدل والحكمة والحق. فهي تتجلى بسمو في ميزان القيمة، ومع ذلك فهي وقائع لم يرها أحد أو يمسها أو يتذوقها أو يشمها أو يسمعها.
ولا نعني أن أوغسطينوس كان سينتقص من أهمية الحواس؛ فدليلها محوري لكل الأشياء التي تقع في مجالها، والمسائل المتعلقة بالتذوق واللون والليونة والحجم والشكل وما إلى ذلك نقررها بالحواس ذات الصلة بها. ولكن إدراكات الحواس شكل أدنى من أشكال الفهم. لقد حذر الفلاسفة المتشككون عن حق من أن الحواس يمكن أن تكون خداعة، تماما كما يبدو المجداف في الماء منكسرا. إن المعلومات المستخلصة من الحواس تخضع لفحص العقل الواعي العارف وحكمه.
أعجب أوغسطينوس بصيغة وجدها في أعمال أفلوطين اقتبسها الأخير بدوره من محاورة «فيليبوس» لأفلاطون، ومفادها أنه عندما يتلقى الجسد الإحساس، فإن الروح «لا تكون واعية» بهذه الحقيقة. إن تفوق الروح ضمني، ولكن، هناك فجوة بين التدفق السرمدي وتغير عالم الحواس الخمس والحقائق السرمدية للرياضيات والمسلمات.
بين يدي أوغسطينوس تمتزج الحجة المتعلقة بوجود الرب بحجة الأفلاطونيين الخاصة بواقع المسلمات باعتبارها حقائق سرمدية وثابتة، سواء أكانت حقائق متعلقة بالرياضيات أم بالقيم السامية للعدل والحق، وعلى ضوئها يحكم العقل على كون فعل أو مقترح بعينه منصفا أو صحيحا. بالنسبة إليه تكمن الذروة في أن هناك عالما واقعا يتجاوز العقل البشري ويسمو عليه، وهو بحد ذاته متغير ونادرا ما يستمر طويلا في حالة واحدة. وها نحن نرى مجددا بصمة الاعتقاد المتولد من التجربة الصوفية الموصوفة في الكتاب السابع من «الاعترافات»، ومن خلال تلك التجربة واجهته حالة التناقض ما بين مؤقتيته الخاصة والديمومة السرمدية للرب الموجود.
Bilinmeyen sayfa
ومن ثم، وجد أوغسطينوس الغاية من استنباطاته في فكرة الموجود الثابت السرمدي الضروري. بطبيعة الحال، كان على دراية تامة بأن الغاية منحها إياه الإيمان؛ فما من ساع وراء الحقيقة يبدأ من دون قناعات عن مكانها وكيفية العثور عليها. ولكن الفهم يظل مسألة استدلال واستنباط فلسفي. وطاب لأوغسطينوس الاقتباس (من نسخة سفر إشعياء اللاتيني القديم): «عليك أن تؤمن كي تفهم!» ولكن، كانت العلاقة بين الإيمان والمنطق بالنسبة إلى أوغسطينوس على خلاف ما أمست عليه بالنسبة إلى علماء العصور الوسطى. لقد اتضح أن فرضيات الحقيقة التي يسعى الفهم إلى تفسيرها مسائل غير متعلقة بالوحي، ولكن بما كان يمكن أن يطلق عليه علماء اللاهوت في العصور الوسطى «اللاهوت الطبيعي»؛ (أي) المسائل المثبتة بالحجة الفلسفية دون قبول نسبتها إلى أي كشف أو وحي محدد. في أطروحته عن الإرادة الحرة، يسعى أوغسطينوس لإثبات أنه من المنطقي القبول بالإيمان بالرب والخلود والحرية والمسئولية الأخلاقية؛ وهي القناعات التي عرفها الفلاسفة الأفلاطونيون وأظهروها دون أن يكون لديهم إنجيل يسترشدون به.
تحوي الأطروحات التي كتبها أوغسطينوس في العقد الرابع من عمره إشارات مرجعية لمسألة الخلود، وفي ذلك المقالة الغامضة نوعا ما عن إضفاء الصبغة الأفلاطونية على الجدلية فيما يختص ب «خلود الروح» (وهو العمل الذي لم ينسب إليه هو نفسه مكانة عالية إذ اطلع عليه مجددا في فترة لاحقة من حياته). كانت فكرة الموت حاضرة غالبا في وعيه، وخاصة كلما حصد أرواح الأصدقاء أو الشباب المرضى. لقد وصف حياة البشر بأنها سباق نحو الموت (مدينة الله)؛ وعلى المرء ألا يبدأ كل يوم يحياه «راضيا بأنه صمد ليوم آخر، بل بندم على أن يوما آخر من الفترة المخصصة له على الأرض ضاع إلى الأبد.» وأخيرا، فإن إيمانه بأن الموت ليس النهاية لم يعتمد على الجدلية الأفلاطونية، بل على الإيمان بالمسيح القائم (الثالوث).
الفصل الرابع
مجتمع فلسفي
بحلول خريف عام 388، وبعد القداس الذي أقيم على روح مونيكا في أوستيا، عاد أوغسطينوس إلى موطنه أفريقيا (التي لم يغادرها قط بعد ذلك)، واستقر في مدينته الأم طاغست بغية إجراء تجربة على الاعتزال التقشفي مع القديس أليبيوس وغيره من الأصدقاء. التقى الجمع العلماني بانتظام لأداء الصلاة اليومية ولتلاوة سفر المزامير. (لا يسعنا التأكيد بما يكفي على أهمية سفر المزامير لروحانية أوغسطينوس؛ فقد ثبت أن اقتباسات الترانيم محورية لبنية «الاعترافات» نفسها.) وفيما بين الساعات التي كرسوا أنفسهم فيها للتنسك والعبادة، ناقشوا شيشرون والقديس بولس والأفكار الأفلاطونية. كان الجمع الأكثر طمأنينة، تأمليا في روحه، وأكاديميا نوعا ما، ومعتمدا على أوغسطينوس باعتباره القائد المعترف به الذي يقدم أجوبة عن الأسئلة التي تثار في النقاشات. وتم تداول هذه الأجوبة كتابة، وجمعت لاحقا في كتاب شهير بعنوان «حول 83 مسألة مختلفة». وتشمل المسألة السادسة والأربعون بيانا مهما عن نظرية الأفكار لأفلاطون يصون التوحيد الإنجيلي بزعمه أن المسلمات هي «أفكار في عقل الرب». لم يكن الجمع الطاغستي يسمى ديرا، وتقاسم «مجتمع الأخوة»، كما أطلقوا عليه، الممتلكات وعاشوا عيشة بسيطة مقتصدة، لكن لم تكن لديهم عهود رسمية ولا ملابس متطابقة، ولا قاعدة محددة أو شرط معين للطاعة، وكانوا أكثر ثقافة من أغلب مجتمعات الرهبان اللاحقة عليهم. لقد كان هذا فعليا أول مجتمع رهباني في أفريقيا اللاتينية.
في هذا المجتمع العلماني، عاش أوغسطينوس عامين ونصف العام، وكانت فترة مثمرة لكتاباته. ولقد ميز التحول التدريجي من تدريس العلوم الحرة إلى الانخراط الجاد في علم اللاهوت كتبه الستة «عن الموسيقى». وقد خصص خمسة من الكتب الستة للنقاش التقني المتعلق بالوزن الشعري والإيقاع. وكانت نيته لاحقا أن يستمر في دراساته بمناقشة الجوانب النظرية للنغم، لكنه لم يكتب هذه المناقشة قط، وترك هذا المجال مفتوحا للفيلسوف بوئثيوس بعدها ب 120 عاما. (لم يكن التأليف العملي للموسيقى مسعى مناسبا للمفكر والنبيل في القدم؛ فقد تركت تلك المهمة للرعاع من الرجال والنساء الذين يستعان بهم لتسلية النبلاء بعد العشاء).
والكتاب السادس عن الموسيقى له طبيعة مختلفة، وكان يتمتع بشيء من التداول المستقل. كان هذا الكتاب إعادة صياغة أوغسطينوس لإيمان أفلاطون بأن المبادئ الرياضية تكمن وراء كل شيء في الكون، وأنها الدلائل الأساسية لنظامه القدري. ولا سيما في محاورة طيماوس، درس أفلاطون أن بنية الروح نفسها تتحدد بنسب مرتبطة مباشرة بنسب الفواصل الزمنية في الموسيقى؛ على سبيل المثال، النغمة الثمانية تقع في الفاصل ما بين 2 و1، والنغمة الخماسية ما بين 3 و2، والرباعية ما بين 4 و3، والنغمة الكاملة تستقر ما بين 9 و8. وحقيقة الأمر أن النسب نفسها تحكم المسافات بين الكواكب.
ويذكر أوغسطينوس أكثر من مرة أنه كان سريع التأثر بصوت الموسيقى؛ ففي ميلانو، حيث اعتاد في بداية الأمر على زيارة الكاتدرائية ليبدي إعجابه بالمهارة الخطابية لأمبروسيوس، لم يجد نفسه منبهرا وحسب بمحتوى النقاشات، بل كذلك بإنشاد المزامير. كان يعلم أن الموسيقى المناسبة قادرة على استحضار معنى الكلمات في القلب. عندما كان شابا يافعا، وجد أوغسطينوس الموسيقى لا غنى عنها للحياة كمصدر للسلوان. وعندما بلغ رشده، لم يكن لديه الوقت الكافي لذلك على أي حال، لكنه ظل مقتنعا بأطروحة أفلاطون القائلة بأن ثمة «تناغما خفيا» (الاعترافات، الكتاب العاشر) ما بين الموسيقى والروح. وما من فن آخر يستبعد على الأقل أربعا من الحواس الخمس، ومحكوم إلى هذا الحد بمبادئ الرياضيات. أي قوة يملكها العقل أكثر إدهاشا من قدرته على تذكر الموسيقى دون أن يسمع فعلا أية أصوات حقيقية؟ بدت هذه الملاحظة لأوغسطينوس دليلا صارخا على سمو الروح بالنسبة إلى الجسد.
لقد تركت دراسة تحليل أفلوطين لطبيعة الجمال (الجزء الأول) أثرا عميقا؛ فقد ذهل أوغسطينوس بفعل تغلغل النظام الرياضي في الكون، وكانت هذه فكرة بارزة في محاورات كاسيكاسيوم. وهنالك كان دفاعه عن العناية الإلهية في مادته جماليا وأفلوطينيا؛ أي إن جلاء وعتمة النور والظلام يساهمان في جمال الكل. لكن هذا الجمال ليس وحسب شعورا ذاتيا، بل هو راسخ في الأرقام. فهناك دقة لا في البيئة العديمة الحياة وحسب، بل كذلك في عمليات الحياة البشرية، كما هو واضح من دراسة الأجنة التي تبين كيف يصل الجنين إلى كل مرحلة متعاقبة من مراحل النمو عند فواصل زمنية ثابتة ودقيقة. أضاف أوغسطينوس أنه علاوة على ذلك يعتمد جمال بناية ما على نسبها الرياضية. ويعتمد تناظر تركيب النوافذ على القياسات؛ ولذا، فالجمال له أساس موضوعي. تمتع الأشياء العين لجمالها، وليس العكس. (كان هذا حكما سيوثقه جزئيا وحسب عندما يتحدث عن حب الرجل للمرأة. وأضاف أوغسطينوس أنه بينما يعد تناظر الجسد البشري وتناسبه قابلين للقياس فعليا بلغة الرياضيات، بشكل يجوز أن يبدو للقارئ الحديث ضربا من الرومانسية غير العادية، «فإن آدم لم يحب حواء لأنها جميلة؛ فحبه لها هو الذي جعلها جميلة»: شروحات المزامير.)
في بعض النصوص، نصادف وجهة النظر الأفلاطونية الحديثة العادية التي مفادها أن الرياضيات محطة انتقالية في الرقي من العالم المادي إلى الميتافيزيقا واللاهوت. كان عليه أن يحذر قراءه من الظن بأنه يعني أن الرياضيات البحتة هي ميتافيزيقا من دون شرط أو قيد. ولا ينبغي أن يفترض المرء أن الهندسة طريقة غامضة تحديدا لتناول اللاهوت (مناجاة النفس). على أي حال، يلاحظ أوغسطينوس على غير المتوقع، أن حفنة لا أكثر من علماء الرياضيات البارعين الذين يعرفهم هم الجديرون فعلا بوصفهم ب «الحكماء» (حرية الاختيار
Bilinmeyen sayfa
De libero arbitrio ).
لم يرد أوغسطينوس أن يسأل عن علة وجود العالم وحسب، بل كذلك عن كيفية معرفة عقولنا للأشياء سواء عن طريق الحواس الخمس أو بواسطة الكلمات التي هي «علامات». إن الأسئلة التحليلية المتعلقة بوظيفة اللغة يتعين أن تطرح أولا إذا كان المرء يعتزم أن ينطلق منها إلى الأسئلة الوجودية التي تكمن وراءها. إن هذا الاهتمام بالكلمات والمعاني وعلاقتها بالواقع أثاره فيه دوره المتنامي كعالم لاهوت علماني قائم على تفسير خطاب ذاتي مقدس عبر «كلمة الرب». لقد كان حساسا جدا تجاه حقيقة أن قسما كبيرا من اللغة الدينية كان مجازيا أو غير مباشر؛ فما قد يفسره غير المتأملين، سواء المؤمنون أو الكافرون، على اعتبار أنه نثر تقريري بسيط غالبا ما يكون مزيجا من الاستعارات الخيالية التي تثري الحدس والبصيرة العميقين بدلا من أن تمثل نتيجة استنباط مدروس. كان أوغسطينوس على دراية بأن الطموح الديني يمكن، على الأقل لكثيرين، أن يكون ذا صلة وثيقة بالموسيقى. وخلال حياته، كانت الكنائس الكاثوليكية في شمال أفريقيا تتصالح بقدر متزايد مع الفن الصوري، وتبادر بتثبيت جداريات تصور المسيح والعذراء وبطرس وبولس، رسل العهد القديم، وآدم وحواء (بلباس محتشم)، والتضحية بإسحاق، وغير ذلك من جداريات. شعر بحس الأفلاطوني لديه بالتحفظ تجاه قوة الفن علها تعترض السبيل ما بين الروح والرب بدلا من أن تعمل دوما كجسر من الحواس إلى الروح. لكنه دافع عن الموسيقى الكنسية ضد التطهيريين الذين أرادوا استبعادها بالكامل، وأقر بأنها، على خطورتها المحتملة، وسط طبيعي لمشاعر السمو والتواضع المهيب.
كتب أوغسطينوس أيضا كعلماني في طاغست اثنين من أكثر أعماله أثرا؛ ألا وهما «المعلم» و«حول الدين الحق».
كان عمله «المعلم» بمنزلة تذكار لابنه غير الشرعي البارع أديوداتوس الذي صيغت أفكار أوغسطينوس بالتحاور معه. يختص هذا العمل بكيفية توصيل الحقيقة للبشر، وتبدأ المناقشة بالإجابة البسيطة أننا نوصل الحقيقة للبشر بالكلمات. ولكن هذه الإجابة الساذجة تتعرض بشكل متزايد لنيران النقد؛ فالكلمات مجرد أصوات تستقي أهميتها من العادة والتقليد، لكنها تنقل المعنى وحسب بطريقة متناقضة وبدرجة محدودة. ومعنى اللفظ يتحدد على الأقل بنبرة الصوت أو السياق أو الإيماءات بقدر ما يتحدد بالمقاطع المنطوقة. وتعبير ملامح وجه المتكلم ستفضحه أمام المحيطين به إذا كان ساخرا. وبعض العبارات الاصطلاحية يمكن أن تحمل معنى معاكسا لما تشي به الكلمات في ظاهرها. وإذا وصفت رجلا بأنه محام نزيه فقد لا يعني بضرورة الحال أن هذا هو مقصدك بالضبط من وصفك له. علاوة على ذلك، فالكلمات يمكن استخدامها كذريعة للتستر أو للخداع بغية نقل معلومات مغلوطة. وعلى أي حال، فالكلمات مجرد أصوات مادية، والعقل هو الذي يضفي عليها أهمية.
لا شك أن أوغسطينوس كان آخر من ينكر أن الكلمات مفيدة؛ فالأستاذ البارع جدا في تطويعها كان من المستبعد أن يفكر أنها لا تلعب دورا. إضافة إلى ذلك، يوظف الإنجيل الكلمات، والطقوس الدينية «كلمات مرئية» (ردا على فاوست)؛ وذلك أن الكلمة والروح هما اللتان تضفيان قوة ومغزى باطنيا على ما كان يمكن أن يكون فعلا طقسيا خارجيا وحسب (معاهدة إنجيل يوحنا). ولكن لا يستتبع ذلك أن الكلمات بحد ذاتها يمكن أن تكون فعالة أو كافية لنقل المعنى بالكامل في الأمور العظيمة الثقل. فالحقيقة تنقل في نهاية المطاف عبر تجربة غير محسوسة وغير مسموعة وعصية على الوصف للتواصل ما بين عقل وآخر؛ وذلك لأن العقل لا يمكن أن يعرفه إلا العقل.
أدت هذه الأطروحة بأن تفكر أوغسطينوس في طبيعة الصلاة؛ فعقول الأصدقاء المقربين يمكنها التواصل بعضها مع بعض دون أن ينبسوا ببنت شفة، وربما حتى دون إيماءة واحدة. والرب المبهم السامي هو أيضا أكثر «استبطانا» من أي شيء يمكن أن نعبر عنه، «عندما نصلي، عادة لا نكاد نعرف معنى الكلمات التي نستخدمها» (مناجاة النفس). وهذا القصور متأصل نوعا ما في حقيقة أن مصطلحاتنا وتقسيماتنا تنتمي إلى خطاب مستخلص من عالم المكان والزمان والتتابع هذا؛ ولذا، فهي تشوش الحقيقة المتعلقة بما هو ثابت وخالد وتحرفها. وهذا القصور نوعا ما علامة على كل الأمور التي تنطوي على شعور عميق (ما من كلمة أمست أكثر تمييزا لأوغسطينوس من «التوق») لدرجة أنها تستقر في مكان عميق جدا لا تصل إليه الكلمات. «لا يستطيع الإنسان أن يقول شيئا عما يعجز عن الشعور به، لكنه يستطيع أن يشعر بما يعجز عن صياغته في كلمات» (العظات، شروحات المزامير).
إن القوة المطلقة للفهم المتبادل ما بين الأصدقاء، بحسب معتقد أوغسطينوس، تعول على المشاركة في المنطق العلوي. ولقد انسجم هذا المعتقد مع لغته السامية العاطفية أحيانا التي يستخدمها لوصف هبة الصداقة. ومشاركة النور المشع من المسيح المعلم تعني أن يمسي المرء متمكنا من إدراك الإيمان المطابق لدى الآخرين. وتحدث أوغسطينوس أحيانا عن الجمع الديني على اعتبار أنه يملك القدرة، التي تتسنى له بالحدس الغامض، على إدراك أشكال أصيلة وغير أصيلة للإيمان. وحدث نفسه أن «الآذان الكاثوليكية» لم تكن بحاجة عادة إلى قرارات رسمية من المجامع الكنسية لتملي عليها أسس عقيدتها (ردا على رسالتين للبيلاجيين). إن هذا التنوير العقلي إذن قوة أو إحساس بالرشد والتعقل وليس معلومات عن الحقائق. وهو يتغلغل في المستويات الأكثر عمقا للشخصية. لقد علم الاستبطان أوغسطينوس وجود اللاوعي: «يمكنك أن تعرف شيئا لا تدري أنك تعرفه» (الثالوث).
من المعروف أن هناك سلسلة أخرى من النصوص كتب فيها أوغسطينوس عن الأعماق السحيقة للقلب البشري، وعن «هوة» الإنسان . «كل قلب مغلق على كل قلب» (شروحات المزامير). بالنسبة إلى الرب كل دافع معلوم، لكن الأمر خلاف ذلك بالنسبة إلى الإنسان؛ فالإنسان نفسه عميق عمق المحيطات، وشديد العمق (الاعترافات)، والفرد لا يستطيع حتى أن يفهم شخصيته وقلبه (شروحات المزامير).
لقد كان لديه أكثر من اهتمام عادي بالتداخلات المنطقية. لكن اهتمامه فيما يعتبره القارئ الحديث علم نفس متعمقا ساعد على أن يجعله متشككا في الحيل اللغوية البارعة التي يمارسها الجدليون؛ فمذهبهم «افتقر للعمق» (الاعترافات، الكتاب التاسع وفي مواضع أخرى). وإذ كان الدين ذا قيمة عظيمة كتدريب على المنطق من وجهة نظره (واعتبره لا غنى عنه بالنسبة إلى علماء اللاهوت)، فقد كان يمس مستويات أعمق من الشخصية. ولقد تحدث عن الحقيقة الدينية باعتبارها تنويرا داخليا من «الرب شمس الأرواح». ولم يقترح قط أن الأفكار الحقيقية متأصلة في الروح أو كامنة بداخلها، فهي دوما تبدو كهبة الخالق.
وبلفظ «الروح» كان أوغسطينوس يعني العنصر اللامادي الأسمى في الإنسان، والجزء الذي يمثل العقل فيه مجرد وظيفة. واعتبر أوغسطينوس ماهية «الروح» وكيفية خلق الرب لها شيئا يتجاوز المعرفة البشرية. وقد علق ذات مرة فيما يختص بتعميد المواليد (تعليق حرفي على سفر التكوين
Bilinmeyen sayfa
De Genesi ad litteram ) أنه لقد كان من قبيل التبسيط لو استقت ذرية آدم الأرواح وكذلك الأجساد من أبيها الأول بالوراثة. لكن هذا المذهب (انتقال الروح بالوراثة) الذي يقضي بأن الأرواح تكتسب بالوراثة يحمل في طياته مضامين مادية أكثر على الأقل مما يشعر الأفلاطونيون بالانسجام معه. وربما كان من المفضل القول بأن الرب يخلق صراحة روحا لكل شخص أثناء خلقه (تجاهل أوغسطينوس الاعتراض على أن الخالق يجب ألا يتجشم عناء لا نهاية له باعتباره اعتراضا سخيفا) أو أن كل الأرواح، وهي وجهة النظر الأكثر أفلاطونية، موجودة في الرب من البداية، وهي إما ترسل وإما تختار أن تأتي وتستوطن الأجساد على الأرض. وكان الفلاسفة الأفلاطونيون الحداثيون مختلفين فيما بينهم حول الإجابة الصحيحة، ولم يقدم الإنجيل ما يسترشدون به. في ذهن أفلاطون، لم يكن بالإمكان استبعاد أي من تلك الخيارات نهائيا. ورفضه التصريح برأي محدد جلب عليه نقدا شديدا من بعض من شعروا أن هذه المسألة ببساطة لا يصح أن تترك معلقة في ظلمات الحيرة. لكن أوغسطينوس ظل على رأيه.
إن عدم الثقة بالنفس فيما يتعلق بقدرة العقول المحدودة على فهم اللامحدود والسرمدي أفضت به إلى استخدام لغة نسبية بقوة عن الرب الذي يتجاوز معرفتنا. وتعليقا على مقدمة إنجيل يوحنا، كتب أوغسطينوس: «لأن يوحنا أوحي إليه، كان قادرا على أن ينطق بشيء. ولو لم يوح إليه، لما كان لينبس ببنت شفة.» وحتى قبول الوحي الإلهي بوساطة من الإنجيل جعل القول بأن هذا الوحي ملائم للقدرة المتواضعة للمتلقي ومعبر عنه بالصور قولا غير مؤهل (الاعترافات، الكتاب الثالث عشر). في عبارة واحدة صريحة، أعلن أوغسطينوس أن هذا المبدأ لا بد أنه أقل من المقبول بالنسبة إلى الرب «إذا كان باستطاعتك فهمه» (العظات)، أو، وهو الأمر الذي ينطوي على مفارقة، «من الأفضل أن تجد الرب بألا تجده [أي بإدراك أنه يتجاوز قدرتك على الفهم والاستيعاب] عن أن يستقر رأيك على ألا تجده» (الاعترافات، الكتاب الأول). إن سببية النعمة دائما ما تتجاوز فهم البشر (حول الروح والحرف
De spiritu et littera ). ومع ذلك، فإن اللاأدرية المهولة لهذه المقولات لم تتراجع وتستحيل شكا، وكان أوغسطينوس يعلم أن هناك درجات لانعدام الكفاية.
واجه أوغسطينوس الأكاديميين المشككين في احتمالية اليقين كرجل كان في فترة من الفترات واحدا منهم. طاب لهم القول بأن المرء يستحيل أن يصل للحقيقة، بل جل ما يستطيع أن يبلغه محض احتمال أو تقريب؛ شيء أشبه بالحقيقة. وظن أوغسطينوس أنه إذا استطاع القول بأن ثمة مقترحا ما يشبه الحقيقة، فلا بد أن هناك حقيقة يحكم المرء بناء عليها أن ذلك المقترح يشبهها. ولقد أكد كثيرا على حجة غالبا ما كان يكررها، وأمست، في سياق آخر، ذات أهمية كبيرة لديكارت في القرن السابع عشر: «أنا أفكر، إذن أنا موجود؛ حتى وإن كنت مخطئا، فأنا موجود.» إن الشخص الذي يشكك يجب أن يكون على الأقل واثقا تمام الثقة بوجوده الشخصي ، وإلا لما كان في موقف يسمح له بالشك. ولذا، فإن تعليق الحكم ليس موقفا محكما أو عقلانيا.
قد نلاحظ بشكل عابر أن أوغسطينوس، على العكس من ديكارت، لم يحتج بأن اليقين موجود حصريا في الحالة الذاتية للعقل الشكاك؛ فهو لم يكن بحاجة، شأن ديكارت، لأن يجعل تفكيره الأساس الوحيد للمعرفة. لكن صحيح أنه اعتبر الحقائق المحضة للرياضيات مؤكدة عن أي إدراكات حسية للحواس الخمس.
أسهب أوغسطينوس في حجته بقدر أكبر - في اتجاه أفلاطوني - إذ ألمح إلى أن هناك قدرة لدى العقل لمعرفة الحقائق بطريقة أهم بمراحل من سيل الأحاسيس والإدراكات النابع من الجسد. ولذا، إذا كان شيء ما غير قابل للنقاش، فالواقع أن ثمة حقائق يمكن معرفتها. العقل يصبو للحقيقة، وما من أحد يتحمل أن يتعرض للخداع (الاعترافات، الكتاب العاشر؛ العظات؛ العقيدة المسيحية
De doctrina christiana ). وما من أحد يمكن أن ينعم بالسعادة إذا كان يرغب في الحقيقة بشدة لكنه لا يستطيع أن ينالها. لكن هذا الاقتراح الأخير عدله أوغسطينوس تحت ضغط اعتبار ديني؛ ففي الحقيقة الدينية، لا تمثل المعرفة ملكية ثابتة للعارف، لكنها علاقة لا تفتأ تتنامى بالرب. وكل شخص يسعى وراء الحقيقة سيجد لديه الرب إلى جواره يشد من أزره، وهذا بحد ذاته يكفي لنيل السعادة حتى من دون الفهم الكامل للحقيقة الجاري السعي وراءها (عن الحياة السعيدة). والاستمتاع بالرب «رضا لا يشبع منه الإنسان» (العظات). في عدد من النصوص، يبني أوغسطينوس سلما يرتقي عليه يشتمل على سبع درجات لتطور الروح في نضج الفهم (حول الدين الحق؛ كمية النفوس
De quantitate animae ؛ العقيدة المسيحية).
لم يظن أوغسطينوس أن هناك معرفة لا يلعب فيها العقل العارف دورا كبيرا. فمن ناحية، ما من شيء يعرف ما لم تكن هناك رغبة داخلية للعقل تنتقل به إلى الرغبة في الفهم. ولا يسعنا أن نحب ما لا يعرف عنه شيء. لكن هذه البديهية تفترض مسبقا أن المرء لديه بالفعل فكرة عن الموضوع الذي يثير فضوله. «من العناصر المهمة في عملية الكشف أن تطرح السؤال الصحيح وأن تكون على دراية بما تود أن تكتشفه » (مقدمة «أسئلة عن التوراة»
Quaestiones de Heptateucho ). ولقد استخدم لغة أفلاطونية تعبيرا عن العملية التعليمية؛ فهي استدعاء لقدرة - معرفة نوعا ما - موجودة بالفعل.
Bilinmeyen sayfa
شارك أوغسطينوس أفلوطين في بغضه لفكرة أن الشيء المعروف متمايز بالكامل عن الذات العارفة وخارج عنها لدرجة أنه في فعل المعرفة لا يوجد عنصر شخصي مهم. يرتبط عنصر الوعي بالذات بمعرفتنا بالعالم الخارجي، والذات الشخصية لا يجوز استبعادها؛ فإذا كنت تعرف شيئا، فأنت تعرف أيضا أنك أنت الذي يعرف ذاك الشيء؛ ولذا، فإن فكرة أن الفهم يتطلب حبا كي يحقق غايته تمتزج من هذا الطريق مع علم اللاهوت. عبر أوغسطينوس عن هذه الفكرة على النحو التالي: كل البحث والتقصي في مسألة كيفية معرفتنا للرب تتلخص في السؤال التالي: «ما مفهومنا للحب؟» (الثالوث). إن حب الخالق كامن في عقل المخلوقات العاقلة وإرادتهم (الثالوث). «إننا نقترب إلى الرب لا بالمسير بل بالحب.» «ليست أقدامنا هي التي تقربنا إليه بل طبيعتنا الأخلاقية. ولا يتم تقييم الطبيعة الأخلاقية بما يعرفه الإنسان بل بما يحبه» (الرسائل).
وعلى ذلك، فالمسار السلبي الذي يحيط فكرة الرب بصفات سلبية حصرا ليس السبيل الوحيد. لا شك أننا نستطيع أن ننفي عن الرب ما ليس من ماهيته أكثر من قدرتنا على تحديد ماهيته (شروحات المزامير). لكن، على الأقل جهلنا جهل مطلع (الرسائل). ولغة المؤمن تتذبذب ما بين الثقة والاستحياء. هنا نسب أوغسطينوس مفارقة لنفسه عثر عليها في أعمال فرفوريوس. إن التدبر في الرب تجربة تتجاوز التفكير، «وهذه الأشياء بطريقة ما تعرف من طريق عدم المعرفة؛ لذا، وبهذا النوع من عدم المعرفة، يدرك غموضها» (مدينة الله؛ الاعترافات، الكتاب الثاني عشر).
ألف أوغسطينوس أطروحة «حول الدين الحق» لأجل رومانيانوس، صاحب العقارات الثري بمدينة طاغست الذي سبق أن كان مصدر التمويل الأساسي لتعليم أوغسطينوس، وهداه الأخير في شبابه إلى المانوية، وكان على أوغسطينوس أن يهديه مجددا ويعيده إلى الكاثوليكية. وكانت الأطروحة تتمتع بنبرة معادية للمانوية، لكنها كانت مميزة في المقام الأول لاحتوائها على أفكار أفلاطونية حديثة داخل إطار مسيحي وكاثوليكي بقوة. وكانت حجته تفرد الكنيسة الواحدة، «الكنيسة الكاثوليكية» تلك التي تقر وتعترف حتى الطوائف المنافسة بتفردها («سلهم أين الكنيسة الكاثوليكية في مدينة ما؟ حتى هم لن يتجرءوا على دعوتك إلى اجتماعاتهم السرية الخاصة»). وصكوك ملكية هذه الكنيسة الواحدة تكمن في تاريخ مقدس مسجل في الكتاب المقدس. ومذاهبها مثبتة بموجب اتساقها مع المنطق (أي مع الأفلاطونية).
إن الاتساق ما بين العقيدة والمنطق رآه أوغسطينوس في حقيقة أنه إذا استبعد الإقرار بالطقوس الشركية من الأفلاطونية، لكانت تلك الفلسفة قريبة جدا من المسيحية، لدرجة أنه «بتعديل بعض الكلمات والآراء، يمسي كثير من الأفلاطونيين مسيحيين» (حول الدين الحق). من الممكن دمج فكرة الأفلاطونيين الحداثيين عن هرمية الوجود ودفاعهم عن العناية الإلهية بشكل نظامي في الإطار المسيحي، وغاية التقليد الأفلاطوني هي نفسها التي أتاحها المسيح. ولذلك، يعرف محتوى الخلاص بالسعادة، والأمان الداخلي الذي يتأتى بينما تحيد الروح عن الكبر والشغف والكثير من الملهيات، وتسمو نحو الواحد، والعقل المحض وباتجاه الرب الذي نتلاقى معه في تواضع المسيح. لقد ظن أوغسطينوس أن المسيح قادر على أن يجلب الخلاص لأنه الرب والإنسان في شخص واحد. والرب-الإنسان هو السبيل والسلم الذي يمكننا بواسطته الرب من الارتقاء من المؤقت إلى السرمدي. وهو الدرب والغاية في الوقت نفسه، وهو سلم يعقوب. وبمعرفة ابن الإنسان في التاريخ، يجوز أن نفطن لحكمة الرب الخالدة (الثالوث). وهو نموذج وهبة، وهو قدوتنا وكفارتنا؛ وهو الوسيط الذي لم يكن لدى فرفوريوس حيز له، ولو أنه استضاف عددا كبيرا من الوسطاء الآخرين الأدنى منزلة والأقل شأنا. في البداية، يبدأ المؤمنون بنموذج المسيح الإنسان الذي كلمته بمنزلة «غذاء الروح»؛ لكن المسيح يرفع إلى مستواه الحقيقي كل من يطيعه ويضع ثقته فيه (الاعترافات، الكتاب السابع). يصف الكثير من نصوص أوغسطينوس بجرأة الخلاص ب «التأليه»، وهي كلمة مشتركة أكثر شيوعا لدى علماء اللاهوت اليونانيين من اللاهوتيين اللاتينيين القدماء. لكن اللغة غالبا ما تكون مقيدة: «فأن تكون الرب شيء وأن تشارك فيه شيء آخر» (مدينة الله). ولا يمكننا الجزم بأننا «في الحياة الأخرى سنتغير ونتحول إلى مادة الرب ونصبح مطابقين له، كما يزعم البعض» (حول الطبيعة والنعمة الإلهية
De natura et gratia ). والمقصود أننا «نتحد مع الرب بالحب» (حول أخلاق الكنيسة الكاثوليكية وأخلاق المانويين
De moribus ecclesiae catholicae et de moribus
Manichaeorum ).
لم يسع بعض معاصري أوغسطينوس ممن فقدوا كل إيمانهم بالأرباب القديمة وراء أي بديل لها بالتطلع إلى المسيحية. ووصفهم أوغسطينوس بأنهم ينكرون كل الأديان على اعتبار أنها مجرد خرافات آسرة، وأرادوا أن يشددوا على حرية الفرد وسيادته كربان لروحه في رحلته في بحر الإيمان. وكان تعليق أوغسطينوس (الذي كان قاسيا أكثر منه صحيحا) أن التأكيد على الاستقلال الرائع سيكون أكثر إبهارا لو لم ينته المطاف بالذين يزعمون أنهم تخلصوا من أصفاد كل الأديان إلى أن يجدوا أنفسهم في الأسر. وقد تتمثل عبوديتهم الأنانية في الإمتاع والراحة الجسديتين، أو الطموح المحض للسلطة والثروة، أو - في حالة النخبة المثقفة - السعي اللانهائي وراء تلك المعرفة الدنيوية التي لا تنعقد الآمال قط على أن تكون أكثر من مجرد كونها نسبية، والتي تميل إلى التذوق الفني. (أثرت الأفلاطونية أيضا التي لم تشجع أوغسطينوس كثيرا على الاهتمام بالعلوم الطبيعية فيه واصطدمت بفكرة أرسطو القائلة بأنه يجوز السعي وراء المعرفة لذاتها. لقد اعتبر أنه من البديهيات أن تكمن المهام الرئيسية للفلسفة في المنطق والأخلاق.) «يكون الإنسان أسيرا للشيء الذي يأمل أن يجلب له السعادة» (حول الدين الحق). والتوق لسعادة حقيقية هي النقطة التي يكتشف عندها الإنسان الرب بداخله (يلاحظ المرء هنا الامتزاج ما بين محاورة هورتنسيوس وفرفوريوس). «لا تخرج عن ذاتك»، ولو حتى بالنظر إلى العالم الخارجي بكماله الرياضي؛ ولكن عد إلى شخصيتك الخاصة. إن العقل مرآة تعكس الحقيقة المقدسة، لكنه متقلب؛ ولذا، «تجاوز ذاتك» واسع وراء أساس ثابت وسرمدي للوجود كله، وحينئذ ستكتشف أن «خدمة الرب هي الحرية المثالية» (حول الدين الحق).
ويتقاطع مع نزوع الأطروحة إلى ما هو عمومي في الطبيعة وفي المنطق فكرة مختلفة كليا؛ ألا وهي التأكيد على الغاية المقدسة في التاريخ. وتختزل هذه الفكرة في النقائض الإنجليزية بين الحنطة والزوان، والعجوز والشاب، والخارجي والباطني. هناك «نوعان من الناس». إن هذه الازدواجية تتناول الوجود الغامض، في مجتمع مغترب وعلماني، لأناس ربانيين مستترين. وبهذه الطريقة، أمسى التباين الأفلاطوني ما بين الحس والعقل مندمجا مع الفكرة الرئيسية المستخلصة في نهاية المطاف من سفر الرؤية الإنجيلي. وهذه الفقرة (حول الدين الحق) هي أول ذكر لفكرة سيشدد عليها أوغسطينوس إلى أقصى حد ممكن لاحقا. بعد عشر سنوات، أمسى نوعا الناس «حبين» ومدينتين، بابل والقدس. وبعدها بأكثر من عشرين عاما، أمسى مذهب المدينتين أساسا لواحدة من أعظم أعمال أوغسطينوس؛ ألا وهو «مدينة الله».
كان هناك خلاف بين الباحثين حول المصدر أو الحافز الذي جعل تلك الفكرة مهمة لأوغسطينوس. أكانت بقايا الازدواجية المانوية بصراعها الكوني ما بين النور والظلام وما بين الرب وأمير الظلام؟ ثمة بديل بدا أكثر معقولية بكثير لأغلب العلماء؛ ألا وهو الانطباع العميق الذي تركه على أوغسطينوس تايكونيوس اللاهوتي المحسوب على الدوناتيين الانشقاقيين الذين انشقوا عن زملائه إذ آمنوا بأن الكنيسة الحقة يجب أن تكون عالمية. ولقد قربته أفكاره جدا من الكاثوليكيين المكروهين لدرجة أنه حرم كنسيا. ولم ينضم إلى المجتمع الكاثوليكي لأسباب لا يمكن إلا أن نستنبطها؛ على سبيل المثال، أن التحول في الولاء الفردي يمكن أن يعوق التقارب المؤسسي. ألف تايكونيوس «كتاب القواعد» - لا يزال باقيا - لتفسير الكتاب المقدس، كما ألف مقالا يعلق فيه على رؤيا يوحنا تدلل الشذرات المتبقية منه على أن التباين ما بين مدينتي بابل والقدس كان مهما بالنسبة إليه.
Bilinmeyen sayfa