الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
أوائل الخريف
أوائل الخريف
قصة سيدة راقية
تأليف
لويس برومفيلد
ترجمة
رشا صلاح الدخاخني
مراجعة
محمد حامد درويش
إهداء إلى
لورا كانفيلد وود
الفصل الأول
1
أقيم حفل راقص في منزل عائلة بينتلاند العريق؛ نظرا لأنه للمرة الأولى منذ ما يقرب من أربعين عاما تقدم شابة من العائلة إلى عالم مدينة بوسطن المحترم وإلى النخبة التي دعيت لحضور الحفل من مدينتي نيويورك وفيلادلفيا. ولهذا، زين المنزل العتيق بمصابيح وباقات من زهور أواخر فصل الربيع، وفي الردهة الفخمة البارزة المطلية باللون الأبيض، جلست فرقة زنجية، تخفيها الزهور على استحياء، لتعزف موسيقى صاخبة وماجنة.
كانت سيبيل بينتلاند في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت قد عادت مؤخرا من كليتها في باريس، التي كانت قد أرسلت إليها بالمخالفة لنصيحة أفراد أسرتها المحافظين، الذين تضم أوساط معارفهم، حسبما أشيع عنهم، أغلب أهل بوسطن. وكانت عمتها الكبرى، السيدة كساندرا سترازرس، وهي امرأة مهيبة، قد راجعت بنفسها قائمة الشبان المؤهلين - من أبناء العمومة والمعارف الذين يتمتعون بالوسامة ويمتلكون الثروة التي تليق بعائلة راسخة الثراء مثل آل بينتلاند. ومن أجل هذا الهدف أقيم الحفل الراقص ودعيت إليه البلدة بأكملها، من الشباب والشيوخ، النشطين والمقعدين، ممن بلغوا منتصف العمر وأرذله - لتحقيق هذا الهدف المنشود وتعزيز فكرة أن يثبتوا للعالم أن العائلة لم تفقد هيبتها بسبب افتقارها إلى الشباب بين صفوفها. وكان لهذه الهيبة فيما مضى انتشار في الأوساط الوطنية؛ إلا أنها كانت الآن قد تضاءلت حتى صار اسم بينتلاند مغمورا خارج منطقة نيو إنجلاند. بل ربما قيل إن القوم فروا من منطقة نيو إنجلاند وعائلة بينتلاند، تاركين إياها مهجورة وشبه منسية على جانب الطريق، الذي شهد تطورا جامحا شبه بربري بعيدا عن كل ما كانت تمثله عائلة بينتلاند والمنزل العريق .
وقد حرص جد سيبيل على وجود كميات وفيرة من الشامبانيا؛ وكانت توجد موائد عامرة بالسلطات والكركند البارد والساندويتشات والدجاج الساخن المقدم في أواني المآدب الحرارية. بدا الأمر وكأن عائلة ذات تاريخ طويل في الحرص والإقتار قد ضربت بكل مظاهر ضبط النفس عرض الحائط في لفتة شجاعة من إظهار الترف والبذخ.
ولكن بطريقة ما، بدا أن اللفتة فشلت في تحقيق الغرض منها. إذ بدت الموسيقى الزنجية جامحة وجريئة، لكنها اتسمت أيضا بالطيش مع منزل عتيق وعريق للغاية كهذا. واستهلك عدد قليل من الرجال وامرأة أو امرأتان، معروفون بولعهم بالشراب، كميات كبيرة جدا من الشامبانيا، ولكن لم يسفر ذلك إلا عن البلادة، وبالأحرى مزيج من البلادة وقنوط مميت نوعا ما. ولم يكن ثمة مجال للأثرياء والعظماء والرائعين والهمج في وجود السيد لونجفيلو اللطيف والسيدين الخالدين إيمرسون ولويل الذين كانوا قد جلسوا في غرف المنزل ذات مرة وتحدثوا عن الحياة. وفي إحدى الردهات، تحت مرأى صف من صور الأجداد الذين علت وجوههم نظرات التجهم والعبوس، بدا أن الموسيقى فقدت سمة الاسترسال؛ فهي لم تكن تنتمي إلى هذا العالم الأرستقراطي. وخارج محيط الحفل، عمت حالة من السكر بين الطلاب القادمين من كامبريدج؛ إلا أن البهجة غابت عن المشهد. سقطت الشامبانيا على الأرض المقفرة. وطغت حالة من الفتور على أجواء الحفل.
وعلى الرغم من أن الحفل أقيم بالأساس من أجل تقديم سيبيل بينتلاند إلى سوق العرائس والزواج لهذا العالم الصغير، فإنه كان أيضا بمثابة مناسبة لتقديم تيريز كاليندار التي كانت قد أتت من أجل قضاء فصل الصيف في منزل «بروك كوتيدج» الريفي عبر المروج الصخرية على الضفة الأخرى من النهر المقابل لمنزل عائلة بينتلاند؛ وكمناسبة لإعادة تقديم والدتها، وهي شخصية أكثر نشاطا وإثارة للإعجاب. كانت بلدة دورهام والريف المحيط بها مكانا مألوفا بدرجة كافية لها، فقد ولدت هناك وأمضت طفولتها على مرأى من البرج الخاص بدار اجتماعات بلدة دورهام. والآن، بعد غياب دام عشرين عاما، كانت قد عادت إلى عالم اعتبره أهلها - أهل طفولتها - غريبا وغير أرستقراطي. كان عالمها مليئا بأشخاص غريبي الأطوار، عالم بعيد عن منزل عائلة بينتلاند العتيق والهادئ والمنازل الحجرية الرائعة البنية اللون بشارع كومنويلث أفينيو وشارع بيكون ستريت. قطعا كانت هذه السيدة، سابين كاليندار، هي التي سرقت أضواء الحفل الراقص كلها؛ فبجوارها، لم تبد أي شابة من الشابات، سواء ابنتها أو حتى سيبيل بينتلاند نفسها، محط اهتمام كبير. كانت سابين محط اهتمام الجميع؛ محط اهتمام معارفها من فترة طفولتها لأن الفضول كان يعتريهم لمعرفة سبب غيابها لمدة عشرين عاما، ومحط اهتمام الغرباء؛ لأنها كانت أكثر شخصية فاتنة وآسرة في الحفل الراقص.
لم يكن السبب أنها أحاطت نفسها بالشباب المعجبين المتحمسين للرقص معها. فهي، على أي حال، امرأة في السادسة والأربعين من عمرها، ولم تكن تطيق الصبيان المتسكعين الذين تقتصر أحاديثهم على تهريب الخمور والنوادي الجامعية. وكان هذا نجاحا من نوع خاص، انتصارا للامبالاة.
كان أشخاص مثل العمة كاسي سترازرس يتذكرونها بصفتها شابة خجولة صعبة المراس عادية الملامح، ذات قوام جيد وشعر أصهب كان يوصف قبل عشرين عاما مضت ب «شعر سابين المسكينة الأصهب البغيض». ففي تلك الأيام الخوالي، كانت فتاة مراهقة تعاني الأمرين في الحفلات الراقصة وحفلات العشاء، فتاة تتجنب الحياة الاجتماعية بجميع أشكالها وتفضل العزلة. والآن، ها هي قد عادت إليهم امرأة هيفاء في السادسة والأربعين من عمرها، بالقوام الرائع نفسه، والأنف الطويل ذاته والعينين الخضراوين المتقاربتين أكثر من اللازم؛ ولكنها امرأة ذات مظهر أخاذ وسلوك واثق لدرجة مكنتها بطريقة ما أن تطغى بحضورها حتى على الشابات الأصغر سنا والأجمل وتبطل تقريبا سحر الشابات الغريرات المرتديات التل الزهري والأبيض. وهي تتهادى في مشيتها من غرفة إلى أخرى، تحيي من كانوا يعرفونها في صغرها، وتخاطب أحد المعارف هنا وهناك، ممن تعرفت إليهم خلال حياة الترحال الغريبة والمستقلة التي عاشتها منذ انفصالها عن زوجها، كان في مشيتها غطرسة تخيف الشباب وتثير في نفوس الأفراد الأكبر سنا من مجتمع بلدة دورهام (جميع أبناء العمومة والمعارف والأقارب الذين يتعذر تحديد صلاتهم) شعورا بالحنق العميق . كانت يوما ما واحدة منهم، أما الآن فبدت مستقلة تماما عنهم، خائنة ضربت بجميع قواعد الحياة عرض الحائط، القواعد التي غرستها فيها العمة كاسي وغيرها من العمات وأبناء العمومة في تلك الأيام التي كانت فيها فتاة خرقاء عادية ذات شعر أصهب صارخ. كانت يوما ما تنتمي لهذا العالم الصغير الصارم، وها هي الآن قد عادت إليه - امرأة كان من المفترض أن تجر وراءها أذيال الخيبة ويتراجع مستواها الاجتماعي قليلا، إلا أنها لم تفعل هذا بطريقة أو أخرى، مما أثار غيظ الآخرين. فبدلا من ذلك، كانت «شخصية» يسعى وراءها الكثيرون في الحياة، تحيط بها هالة غامضة من الاعتزاز بالنفس كتلك التي تحيط بمثل هؤلاء الأشخاص - باختصار، امرأة قادرة على انتقاء أصدقائها من الأوساط المميزة بل حتى من أوساط المشاهير. أثارت الاهتمام بل والاستياء في النفوس، ليس فقط لأن هذا كان حقيقيا، وإنما لأن أشخاصا مثل العمة كاسي كانوا يعرفون أنه حقيقي. لقد أدارت ظهرها لهم جميعا ولم ينل منها القدر المشئوم؛ وإنما أحكمت قبضتها على حياتها وحققت فيها نجاحا مدهشا، بل وبراقا؛ وهو أمر لا يغتفر بسهولة.
وبينما كانت تتجول عبر الغرف الكبرى - في غاية الكمال والمثالية من قمة شعرها الأصهب، اللامع والمصفف على نحو رائع، وحتى أطراف حذائها الفضي - كان يحيط بها جو من الاعتداد بالنفس والثقة يتجليان في كمالها الذي وصل إلى حد الغطرسة. وكان يشع إشراق وجمال من فستانها الأخضر اللامع والسلسلة الألماس الرفيعة التي طغت على الأخريات جميعا، وهو ما جعل أغلب النساء بجانبها يبدون في مظهر رث ورديء. ولا شك أن حضورها أدى أيضا إلى تهدئة جو المرح. وكان المرء يعرف، من النظرة البادية في العينين الخضراوين المحتقرتين والابتسامة الصفراء الساخرة على الشفاه المطلية باللون الأحمر الصارخ، أنها كانت مدركة للتأثير الذي أحدثته وسعيدة بالانتصار الذي حققته. فأينما ذهبت، كان يرافقها دوما رجل كانت قد تخيرته كأنها تسدي إليه معروفا، تسبقها لمحة من الإثارة. كانت بالفعل بغيضة جدا ...
ولو كانت لديها منافسة من بين الحضور الذين كانوا يملئون أرجاء المنزل العتيق، لكانت أوليفيا بينتلاند - والدة سيبيل - التي كانت تتجول في المكان، بمفردها أغلب الوقت، تعتني بضيوفها، وهي تعي تماما أن الحفل الراقص لم يكن على المستوى الذي كان ينبغي أن يكون عليه. لم يكن ثمة شيء صارخ أو لافت بخصوصها، لا شيء متلألئ بشدة كفستان سابين كاليندار الأخضر وماساتها وشعرها الأصهب اللامع؛ وإنما كانت امرأة ناعمة، ذات طابع رقيق ومتزن؛ غزا جمالها الغامض الآخرين على نحو أبطأ وبمكر أكبر. لن تلاحظها على الفور وسط جموع الضيوف؛ وإنما تدرك وجودها تدريجيا، كما لو كان لحضورها تأثير يجتاحك بغموض كعطر ينتشر في الأجواء. وفجأة تدرك وجودها بين الآخرين ... بشعور من الإثارة الخافتة ... بوجه أبيض شاحب، يحيط به شعر أسود ناعم مشدود للوراء فوق الحاجبين معقوص في عقدة صغيرة عند مؤخرة رأسها. وتلاحظ العينين الزرقاوين الصافيتين الصريحتين، اللتين تبدوان تحت بعض الأضواء أقرب إلى السواد، ولاحظ معظم الحاضرين أنها عندما تتحدث، يخرج صوتها خفيضا ودافئا، بطريقة شديدة الإغواء، صوت له مائة درجة لون. وكان لديها أيضا أسلوب في الضحك، عندما تذهلها سخافة شيء ما، أشبه بضحكة طفل. ويراها المرء على الفور سيدة مجتمع عظيمة. ومن المستحيل أن تصدق أنها شارفت على الأربعين من عمرها وأنها أم سيبيل وصبي في الخامسة عشرة من عمره.
جعلتها الظروف وحكمتها الخاصة امرأة تبدو هادئة وخجولة وتتحاشى لفت الأنظار إليها. كانت تتمتع بأسلوب خاص لإنجاز المهام بدون جهد يذكر، وبهدوء هائل، ومع ذلك، يشعر المرء، بعد أن يعرفها، أنها تغفل عن قليل مما يحدث على مرأى أو مسمع منها؛ ليست فقط الأشياء الواضحة التي ربما كان سيلاحظها أي شخص غبي؛ وإنما أيضا التوجهات الخفية والمبهمة التي تنتقل من شخص إلى آخر. ويبدو أنها كانت تتمتع بموهبة مدهشة تتمثل في القدرة على تسوية المشكلات. كانت تكتنفها وتحيط بها حالة من الطمأنينة، تلك الطمأنينة التي عادة ما تميز أولئك الذين يعانون من درجة مفرطة من الوعي، مما جعلها تميل إلى تهدئة العالم المضطرب من حولها. ومع ذلك، كانت محيرة، أيضا، بطريقة غريبة وغامضة. كانت تحيط بها دوما عزلة وغموض، طبيعة أقرب إلى غرابة الأطوار. ولم يكن يتولد شعور باهت بعدم الارتياح لدى المرء - الذي يكتنفه هدوء حضورها اللطيف - إلا بعد أن يكون قد عرفها لفترة طويلة. وقد يخطر على بالك، بدهشة تقترب إلى حد الصدمة، أن المرأة التي تراها أمامك، تلك المرأة الرقيقة جدا والهادئة جدا، ليست أوليفيا بينتلاند مطلقا؛ وإنما دمية تخفي، وراء قناع الجاذبية، امرأة لا تعرفها مطلقا، امرأة منعزلة وحزينة وربما أيضا وحيدة. في نهاية المطاف، كانت تبعث في نفس الشخص الكيس الفطن كدرا أعمق بكثير مما كانت تبعثه سابين كاليندار المتألقة والبغيضة.
وسط ضجيج الحفل الراقص وصخبه، كانت قد أخذت تتجول هنا وهناك، وكانت الآن في هذه الغرفة الكبيرة، وفي تلك الغرفة، وقفت تتحدث بهدوء إلى ضيوفها، وتراقبهم، وتتأكد من أن كل شيء يسير على ما يرام؛ ومثل الآخرين جميعهم، كانت منبهرة بمشهد تمرد سابين وانتصارها، بل ربما أعجبها قليلا التحدي الصبياني لامرأة في السادسة والأربعين من عمرها، تتحلى بالذكاء والاستقلالية بل والتميز أيضا، وليست بحاجة إلى أن تتجشم عناء التباهي بنجاحها.
وهي تراقب سابين، التي كانت تعرفها معرفة وثيقة بالقدر الكافي، كانت قد خمنت أن أسفل تلك القشرة الخارجية، التي صممها بروعة مصفف الشعر ومصمم الأزياء والجواهري، تقبع فتاة خرقاء صهباء الشعر تثأر لنفسها الآن، متجاهلة تماما جميع الأحكام المسبقة والعادات والتقاليد التي يحرص عليها أشخاص مثل العمة كاسي وجون بينتلاند وابن العم سترازرس سمولوود، الحاصل على دكتوراه في اللاهوت، والذي تطلق عليه سابين دوما «حواري الطبقة الأرستقراطية». خطر لأوليفيا أن الأمر أشبه بأن سابين، حتى بعد فترة نفي دامت لمدة عشرين عاما، كانت لا تزال تخشاهم وتخشى تلك السلطة الفضولية الغاشمة التي يمثلونها.
كانت تعرف أن سابين كانت، مع ذلك، تراقب الحفل في الوقت نفسه. كانت قد شاهدتها طوال الأمسية في حالة من «الاستغراق» في تفاصيله؛ وأدركت أنه حين تأتي سابين في اليوم التالي قادمة من منزل «بروك كوتيدج»، ستكون على علم بكل ما حدث في الحفل الراقص، لأن لديها شغفا يدفعها إلى تقصي أمور الحياة من حولها. فخلف قناع اللامبالاة الجامد يتأجج اهتمام دائم وشغوف بتشابكات وتعقيدات العلاقات الإنسانية. وصفت سابين بنفسها الأمر ذات مرة بأنه «لعنة القدرة على التحليل التي تسلب المرء جميع لذات الحياة.»
كانت مولعة بسابين باعتبارها إنسانة فريدة وسط عالم تجاربها الشخصية، إنسانة مسلية تعشق الحقيقة والواقع. وتتمتع بالقدرة على توجيه عقلها (وهو عقل رائع حقا) نحو المواقف المتشابكة والميئوس منها فتحللها بطريقة أو أخرى إلى عناصرها المناسبة وتجعلها تبدو فجأة واضحة وبسيطة، وبغيضة في كثير من الأحيان؛ لأن الحقيقة ليست دوما شيئا لطيفا وممتعا.
2
لم يعان أحد من عودة سابين منتصرة أكثر من العمة كاسي الكئود. فبطريقة ما، كانت تنظر دوما إلى سابين، حتى خلال السنوات الطويلة لمنفاها الاختياري بعيدا عن مباهج بلدة دورهام، باعتبارها تقع ضمن ممتلكاتها الخاصة، على نحو يشبه كثيرا نظرتها إلى كلب، لو كان في مقدور السيدة العجوز أن تحتمل من الأساس صحبة كائن فوضوي مثل الكلب. ونظرا لأنها لم تنجب أولادا، كانت قد طبقت جميع نظرياتها عن التربية على ابنة شقيق زوجها اليتيمة المسكينة.
في تلك اللحظة، جلست السيدة العجوز في منتصف درج السلم الأبيض، تتفحص بعينيها السوداوين الثاقبتين الحفل الراقص بنظرة يشوبها استنكار مستتر. جعلتها الموسيقى الصاخبة تشعر بالتوتر والضيق، وبدت لها الطريقة التي كانت الشابات تضع بها مساحيق التجميل والبودرة رخيصة ومبتذلة. قالت في نفسها مستنكرة: «ربما تقدم إحداهن أيضا على غسل أسنانها هنا على مائدة العشاء.» ظلت تقارن، في سريرتها، كل شيء في هذا الحفل بالحفل الراقص الذي أقيم لها قبل أربعين عاما، وهي مناسبة كانت قد أسفرت في النهاية عن الإيقاع بالسيد سترازرس في حبائلها. بثياب سوداء متواضعة (إذ كانت ترى أن العيش على عائد دخلها الخاص هي مسألة شرف) حدادا على زوجها المتوفى قبل ثماني سنوات، كانت أشبه بأنثى غراب وقورة، ولكن متذمرة قليلا، تقف على سياج.
لاحظت سابين أن العمة كاسي و«رفيقتها »، الآنسة بيفي، في جلوسهما معا على درج السلم، تبدوان وكأنهما أنثى غراب وحمامة نفاخة. لم تكن الآنسة بيفي بدينة وحسب، وإنما في الحقيقة كانت أيضا منتفخة؛ كانت من أولئك السيدات اللاتي يملن بطبيعتهن إلى «السمنة»، اللاتي من شأنهن أن يتصفن بالبدانة ولو اتبعن نظاما غذائيا شحيحا قائما على نشارة الخشب والماء المقطر فحسب؛ وكانت قد ظهرت في حياة الأسرة قبل ثلاثين عاما بوصفها رفيقة، أو بالأحرى أمة، مهمتها تسلية العمة كاسي أثناء فترة اعتلالها الطويلة. وظلت في مكانتها هذه منذ ذلك الحين، لتحل محل زوج غيبه الموت وأطفال لم يولدوا.
كان ثمة شيء طفولي بشأن الآنسة بيفي - يقول البعض إنها ليست ذكية جدا - لكنها كانت تناسب العمة كاسي تماما؛ إذ كانت منقادة كالأطفال ومعتمدة عليها اعتمادا كليا من الناحية المالية. وكانت العمة كاسي تمنحها ما يكفي من المال لتعويض الخسائر التي تكبدتها بسبب الاحتفاظ بمتجر صغير في بوسطن مخصص لبيع الفخاريات «الفنية». كانت الآنسة بيفي سيدة راقية، ورغم كونها معدمة، فقد كانت ذات «علاقات وطيدة» في بوسطن. وفي الستين من عمرها، كانت قد صارت ثقيلة جدا على نحو لا يتناسب مع قدميها الصغيرتين الشبيهتين بسيقان الطيور، ولذا كانت قليلة الحركة جدا. في هذه الليلة كانت ترتدي فستانا أنيقا جدا مغطى بالدانتيلا والترتر والشرائط المزركشة، كان بالأحرى على موضة أيام صباها الخوالي، كما قال لها أحدهم. كان شعرها مشوبا بخصلات رمادية ومقصوصا قصة قصيرة شعثاء غير متساوية؛ ولكن ليس لأن الشعر القصير أنيق؛ وإنما لأنها قصته قبل أن يسمع أحد عن موضة الشعر القصير بعشر سنوات، في بادرة مفاجئة وغير مجدية للتحرر في اللحظة المروعة التي قامت فيها بمحاولتها الوحيدة المتكاسلة للهروب من العمة كاسي وعيش حياتها الخاصة. وعادت في النهاية، بعد أن نفدت مدخراتها الهزيلة وتعرضت للإفلاس، لتستقبلها العمة كاسي بتنهدات وقور وارتجاف وكأنها ابنة ضالة تائبة عائدة إلى أحضانها. وفي غمار هذا الدور، عاشت منذ ذلك الحين في حالة من الخضوع التام. كانت الآن صنيعة العمة كاسي؛ تذهب حيثما تأمرها العمة كاسي، وتفعل ما تؤمر، وتكون أذنا صاغية لها حين لا يوجد أحد أجدر بالتحدث معه.
عندما رأت سابين، بفستانها الأخضر وشعرها الأصهب، تتحرك عبر الردهة الكبيرة أسفلهما، قالت العمة كاسي، وفي عينيها ومضة: «تبدو سابين قلقة على ابنتها. لا يبدو أن المسكينة تحقق نجاحا، ولكن أظن أنه لا عجب في ذلك. فالمسكينة عادية جدا. أظن أنها أخذت البشرة الشاحبة من أبيها. كان نصف يوناني ونصف فرنسي ... لم تكن سابين محبوبة مطلقا في صباها.»
وللمرة المائة، انهمكت في تكهنات مبنية على معرفتها الضئيلة للظروف المحيطة بزواج سابين التعيس وطلاقها، مستجمعة فتات المعلومات من هنا وهناك لتضيف إليها مجموعة متنوعة من التكهنات الأخرى والكثير من عبارات التقوى والورع؛ إذ بدا في معرض حديث العمة كاسي أن الرب ضالع في كل شيء. فللرب طريقة في توزيع المحن والمنح عشوائيا؛ ومن ثم يصير في النهاية مسئولا عن كل شيء.
قطعا، صارت تحقد قليلا على سابين؛ إذ ظلت عالقة في ذهنها ذكرى لقاء بينهما، جرى قبل يوم أو يومين، عندما اضطرت إلى الانسحاب تماما. فنادرا ما كانت العمة كاسي تلتقي بأي شخص يضاهيها، وعندما حدث هذا اللقاء، اعتملت ذكراه في قلبها حتى وجدت وسيلة لكبح المعتدي. مع الآنسة بيفي، كانت صريحة تماما، فعلى مدار خدمتها الطويلة، تحولت هذه العذراء المسنة السمينة إلى ما يشبه كاهن اعتراف، في حضرته تخلع العمة كاسي جميع الأقنعة. كانت تقول دوما: «لا تعبأ بالآنسة بيفي. فهي ليست ذات أهمية.»
وكانت تقول: «أرى سابين مثابرة ومحنكة للغاية. لم أعد أبدا أراها نفس الشابة المتواضعة التي تركتني قبل سنوات.» ثم تنهدت تنهيدة عميقة وأردفت قائلة: «ومع ذلك، يجب ألا نطلق الأحكام جزافا. أظن أن المسكينة قد عانت معاناة شديدة. إنني أشفق عليها من أعماق قلبي!»
وفي أحاديث العمة كاسي، بل وفي كل عبارة منها، كانت تظهر دوما نبرة متكلفة طفيفة كما لو أنها تسعى باستمرار إلى إضفاء طابع ميلودرامي على كل ما تقوله. فلا شيء تقوله ببساطة أبدا. وكل شيء يؤثر فيها تأثيرا مفرطا، يبلغ أعماق روحها، بداية من رؤية طنجرة القشدة الحامضة وحتى وفاة زوجها.
إلا أن هذا لم يستجلب أي استجابة من جانب الآنسة بيفي، التي بدت مستغرقة بحماس في مراقبة الشباب، وعيناها المستديرتان الصافيتان تلمعان عبر نظارتها الأنفية بلهفة من قضت حياتها بأكملها بصفتها «سيدة مرافقة». وفي لحظات كهذه، كانت العمة كاسي تشعر بأن الآنسة بيفي متواضعة الذكاء، وأحيانا كانت تصرح بذلك.
واستطردت تقول بثقة: «تبدو أوليفيا، الليلة، في حالة سيئة أيضا ... مرهقة ومتعبة جدا. لا تعجبني تلك الهالات أسفل عينيها ... لطالما راودتني فكرة أنها حزينة بخصوص أمر ما.»
غير أن الطبيعة المتقلبة للآنسة بيفي ظلت متوارية تماما أمام مشهد الشابات اللاتي اختلفن كثيرا عن الفتيات في أيام شبابها؛ وأمام المشهد الرائع للسيد هوسكينز، الجار الكهل البدين الرقيق الذي وقف ممسكا بكأس ممتلئة عن آخرها بالشامبانيا يتحدث بمكر إلى أوليفيا الصبورة. شرد ذهن الآنسة بيفي نفسها تماما في غمرة هذه الأجواء المرحة جدا. فلم تلاحظ النظرات التي تسددها العمة كاسي تجاهها - نظرات تقول بصراحة: «انتظري حتى أنفرد بك!»
لفترة طويلة ظلت العمة كاسي تفكر فيما أطلقت عليه «سلوك أوليفيا الغريب». وهو أمر كانت قد لاحظته العمة كاسي لأول مرة من شهر أو شهرين، حين شرعت أوليفيا، أثناء إحدى زيارات العمة الصباحية، في البكاء فجأة وبهدوء، ثم غادرت الغرفة بدون أدنى تفسير من جانبها. وكان الأمر قد تدهور مؤخرا من سيئ إلى أسوأ؛ إذ شعرت بأن أوليفيا كانت تتملص من جميع الضوابط في تحد مباشر لنصائحها الخيرة. ثم جاءت مسألة هذا الحفل بعينه. إذ كانت أوليفيا قد تجاهلت نصائحها بالاقتصاد والادخار، والآن كانت العمة كاسي تعاني، كما لو أن الشامبانيا التي تنساب من حولها بكل أريحية هي قطرات دماء تسيل من عروقها. لم تنفق مبالغ طائلة من أموال عائلة بينتلاند دفعة واحدة على متعة خالصة هكذا منذ اشترت سافينا بينتلاند عقدا من اللؤلؤ والزمرد قبل سنوات طويلة.
كما أنها كانت تستنكر نضارة وشباب أوليفيا وسابين. فامرأتان في عمرهما لا ينبغي أن تبدو عليهما النضارة والشباب هكذا. كان ثمة شيء مبتذل، بل وغير لائق بعض الشيء، في امرأة مثل سابين في السادسة والأربعين وتبدو في الخامسة والثلاثين من عمرها. ففي سن الثلاثين، كانت العمة كاسي نفسها قد استقرت في حال امرأة في منتصف العمر، ومنذ ذلك الحين لم تتغير كثيرا. فها هي في الخامسة والستين من العمر، «بلا ولد ووحيدة في هذه الدنيا» (إلا من الآنسة بيفي بالطبع)، كانت بقدر كبير نفس المرأة الثلاثينية التي لعبت دور زوجة «السيد سترازرس المتعب». كان التغيير الوحيد الذي طرأ عليها هو شفاؤها من حالة عجز جزئية، وهي معجزة تزامن وقت حدوثها مع وفاة السيد سترازرس.
لم تغفر أبدا لأوليفيا كونها دخيلة أتت من مدينة شيكاغو (من بين كل المدن) إلى شبكة الحياة المعقدة في منزل عائلة بينتلاند. ومنذ ذلك الحين تشابكت حولها خيوط من الغموض والتصق بها شعور واهن بالغربة. بالطبع، لم يكن متوقعا من أوليفيا أن تتمكن من أن تستوعب استيعابا كاملا ما يعنيه الزواج من عائلة ذات تاريخ متغلغل بعمق في تاريخ مستعمرة خليج ماساتشوستس والحياة في مدينة بوسطن. ماذا يعني لأوليفيا أن السيد لونجفيلو والسيد لويل والدكتور هولمز كثيرا ما كانوا فيما مضى يقضون أسابيع في منزل عائلة بينتلاند؟ وأن السيد إيمرسون نفسه كان فيما مضى يأتي إلى هنا لقضاء عطلات نهاية الأسبوع؟ ومع ذلك (كما اعترفت العمة كاسي لنفسها)، كانت أوليفيا قد أبلت على نحو ملحوظ بلاء حسنا. كانت من الحكمة بما يكفي لأن تراقب وتنتظر ولا تمضي في نثر الحماقات في طريقها.
وفي وسط هذه الأفكار، ظهرت أوليفيا بنفسها في المشهد، متجهة نحو السلم، تسير بجوار سابين. كانتا تضحكان على شيء ما، سابين بطريقتها الماكرة والساخرة، وأوليفيا بضحكتها الخبيثة، وبلمعة مريبة في عينيها. غمر العمة كاسي شعور بغيض بأنهما كانتا تتشاركان بعض النكات بخصوص الحاضرين للحفل؛ بل وربما بخصوصها هي نفسها والآنسة بيفي. شعرت بأن أوليفيا ازدادت غرابة وتمردا منذ عودة سابين؛ ومع ذلك، اعترفت لنفسها بأن ثمة فارقا بين الاثنتين. كانت تفضل طابع الهدوء الذي يميز أوليفيا على الانطباع العنيف الذي تتركه سابين المتألقة. استشعرت السيدة المسنة الاختلاف، ولكن نظرا لانتمائها إلى جيل عاش على العواطف لا على التحليلات، لم تتوصل إلى كنه هذا الاختلاف. فلم تكن ترى أن المرء ينتابه عند رؤية أوليفيا شعور يجعله يقول في نفسه: «ها هي سيدة راقية!» - ربما كانت، بالمعنى الحقيقي للكلمة، السيدة الراقية الوحيدة بالغرفة. كان ثمة جانب من اللطف والرقة فيها وقدر من الاتزان الذي يدعو إلى الفخر - وجميعها سمات مستحبة من جانب العمة كاسي؛ أما ما كان يضايق السيدة المسنة فهو جو الغموض الذي كان يحيط بها. فلم يكن يمكن للمرء أن يعرف يقينا ما الذي تفكر فيه أوليفيا. كانت رقيقة للغاية وتنطق بحلو الكلام. وأحيانا في الآونة الأخيرة، كانت العمة كاسي تتراجع في جزع عندما تبالغ في الضغط على أوليفيا انطلاقا من إدراكها بأن ثمة شيء خطير يتعذر تحديده في طبيعة السيدة الأصغر سنا.
قالت السيدة المسنة وهي تقف بصعوبة وتتأوه قليلا أثناء نزولها درج السلم: «لا بد أن أنصرف، يا عزيزتي أوليفيا. الآنسة بيفي سترافقني.»
لو كان الأمر بيدها ما برحت الآنسة بيفي مكانها؛ لأنها كانت مستمتعة، تراقب كل هؤلاء الشباب بالأسفل، لكنها كانت قد اعتادت على أن تطيع أوامر العمة كاسي لفترة طويلة جدا، فنهضت حينئذ، بمسحة تذمر ضئيلة، واستعدت للانصراف.
حثتهما أوليفيا على البقاء، أما سابين فقالت فجأة، وهي تسدد عينين خضراوين تعكسان بريقا مستترا من الكراهية نحو السيدة المسنة: «لطالما ظننتك تمكثين حتى النهاية المؤلمة، يا عمة كاسي.»
جاءها الرد على هيئة تنهيدة ... تنهيدة مفعمة بتلميحات بخصوص وضع العمة كاسي باعتبارها أرملة وحيدة ومريضة ثكلى انتهت الحياة بالنسبة إليها قبل فترة طويلة، ثم قالت: «لم أعد شابة، يا سابين. وأشعر أنه ينبغي على كبار السن أن يفسحوا المجال أمام الشباب. سيأتي وقت ...»
ضحكت سابين ضحكة مكتومة، ثم قالت بصوتها الجاف: «آه، لم أبدأ في الاستسلام. ما زالت أمامي سنوات عديدة لأعيشها بصحة جيدة.»
قالت السيدة المسنة بحدة واقتضاب: «لم تعودي طفلة، يا سابين.» «حقا، بالطبع لم أعد طفلة.» فأخرس هذا التعليق العمة كاسي؛ إذ آتى أثره المقصود بأن أعاد إليها ذكرى ذلك المشهد التعيس الذي هزمت فيه ببراعة شديدة هزيمة منكرة.
همت السيدتان المسنتان بنشاط عظيم في مغادرة المكان، وبدأتا رحلة بحث كبيرة عن العباءات والأوشحة والحقائب؛ ولكنهما غادرتا في النهاية، والعمة كاسي تدير رأسها لتقول من فوق كتفها النحيف الفارع: «هل ستودعين حماك العزيز يا أوليفيا؟ أظن أنه يلعب البريدج مع السيدة سومز.»
أجابت أوليفيا من الشرفة قائلة: «أجل، إنه يلعب البريدج مع السيدة سومز.»
تنحنحت العمة كاسي، بقوة، نحنحة ذات مغزى عميق. ومن خلال نظرتها، ونبرة صوتها، استطاعت أن تطلق وابلا من الاستنكار لسلوك العجوزين جون بينتلاند والسيدة سومز.
وبعد أن أمرت السائق بالسير متمهلا جدا، صعدت سيارتها القديمة المتهالكة، تتبعها الآنسة بيفي باحترام، ومضت السيارة في ممر السيارات المحفوف بأشجار الدردار بين صفوف السيارات المنتظرة على الجانبين.
كان «الحما العزيز» لأوليفيا هو شقيق العمة كاسي، ولكنها كانت تختار دوما أن تشير إلى الصلة التي تربطه بأوليفيا، كما لو أنها بهذه الطريقة توثق، بلا أمل، أواصر أوليفيا بنسيج العائلة. •••
وفي طريق عودة السيدتين الأصغر سنا إلى المنزل، تساءلت أوليفيا قائلة: «أين تيريز؟ لم أرها منذ أكثر من ساعة.» «لقد عادت إلى المنزل.» «تيريز ... عادت إلى المنزل ... من حفل راقص أقيم من أجلها!»
وقفت أوليفيا في حالة ذهول واستندت إلى الحائط، فبدت آية في السحر والجمال حتى أن سابين قالت في نفسها: «يا لها من خطيئة أن تعيش امرأة رائعة الجمال مثلها حياة كهذه.»
ثم قالت جهرا: «ضبطتها تتسلل. سارت إلى الكوخ. قالت إنها تكره الحفل وتشعر بالبؤس والملل وتفضل أن تأوي إلى الفراش.» هزت سابين كتفيها البديعتين وأضافت قائلة: «لذا، تركتها تذهب. ما الفارق الذي سيشكله ذلك؟» «لا شيء، على ما أظن.» «لا أجبرها مطلقا على فعل أشياء من هذا القبيل. لقد أجبرت على الكثير حين كنت شابة في مثل عمرها؛ وينبغي أن تتصرف تيريز كما يحلو لها تماما وأن تتمتع بالاستقلالية. المشكلة أنه قد أفسدتها معرفة رجال أكبر سنا ورجال يتحدثون بذكاء.» ثم ضحكت وأضافت: «أخطأت بعودتي إلى هنا. لن أزوجها أبدا في هذا الجزء من العالم. فالرجال جميعهم يخشونها.»
ظلت أوليفيا تراقب قوام ابنة سابين الغريب، بحجمها الضئيل وبشرتها الداكنة، وعينيها الواسعتين المتقدتين وهالة الاستقلالية المتسمة بالعبوس، وهي تسير مبتعدة عبر الممر الترابي المؤدي إلى منزل بروك «كوتيدج». كانت تختلف اختلافا كبيرا عن ابنتها سيبيل الهادئة المهذبة.
قالت أوليفيا وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة ماكرة مفاجئة: «لا أظن أن بلدة دورهام أعجبتها حقا.» «كلا ... لقد سئمتها.»
توقفت أوليفيا للحظة لتتمنى ليلة سعيدة لموكب صغير من الضيوف ... يتألف من بنات آل بينجري اللاتي ارتدين فساتين متماثلة من التل الزهري؛ والآنسة بيركنز البدينة، التي كانت لديها أرقى مجموعة من الملابس المطرزة يدويا بمنطقة نيو إنجلاند؛ ورودني فيليبس، الذي كرس حياته لتربية كلاب من سلالة سبرينجر والذي يتصرف كرجل إنجليزي نموذجي؛ والسيد تيلني المسن، الذي اعتمدت ثروته على طواحين دورهام ولين وسالم؛ والأسقف سمولوود، ابن عم آل بينتلاند وسابين (وهو من تطلق عليه سابين «حواري الطبقة الأرستقراطية»). أثنى الأسقف على جمال ابنة أوليفيا وغازل سابين مغازلة صريحة. اندفعت السيارات من بين أيكات زهور البنفسج والليلك ومرت من جانبهما واحدة تلو الأخرى.
وعندما غادرت السيارات قالت سابين فجأة: «أي نوع من الرجال هيجينز هذا ... أقصد رئيس الإسطبلات لديك؟»
أجابت أوليفيا: «من نوع طيب. الأطفال مغرمون به جدا. لماذا تسألين؟» «أوه ... لا يوجد سبب معين على الإطلاق. تصادف أنه خطر على بالي الليلة لأنني لاحظته واقفا في الشرفة يتطلع إلى الحفل الراقص.» «كان خيالا فيما مضى ... خيالا ماهرا، على ما أعتقد، إلى أن صار وزنه ثقيلا أكثر من اللازم. إنه معنا منذ عشر سنوات. وهو شخص طيب موثوق به، وأحيانا يكون مضحكا جدا. والسيد بينتلاند يعتمد عليه في كل شيء ... لا يعيبه سوى تورطه مع الفتيات القرويات. يبدو أنه لا يقاوم بالنسبة إليهن ... وهو وغد عديم الأخلاق.»
أشرق وجه سابين فجأة، كما لو أنها توصلت إلى اكتشاف عظيم. وعلقت قائلة: «ظننت ذلك.» ثم سارت مبتعدة بغتة لتواصل عملية «الانغماس» في الحفل الراقص.
كانت قد سألت عن هيجينز لأن الرجل كان عالقا في دماغها، تاركا انطباعا غريبا ومربكا عكر صفو عقل عادة ما كان يتسم بالدقة والصفاء. لم تفهم لماذا ظل هو الأكثر حيوية وحضورا بين الموكب المبهرج لجميع الحاضرين للحفل الراقص. لقد كان دخيلا، خادما، يمر مرورا سريعا على الحفل، ومع ذلك كان - رجلا لم تكن قد لاحظته من قبل قط - ذو حضور قوي وواضح، طغى على الأمسية كلها.
كان قد تصادف أنها في وقت أبكر قليلا، بينما كانت واقفة في الكوة الجدارية ذات النافذة لغرفة المكتب ذات الجدران الخشبية الحمراء العتيقة، كانت قد ولت ظهرها للحفل الراقص للحظة، لتتطلع إلى الأهوار النائية والبحر، عبر المروج حيث يقف كل حجر وشجر وسياج نباتي في سكينة رائعة في صفاء ضوء القمر والأجواء اللطيفة لمنطقة نيو إنجلاند. وإذ أسرها الجمال الهادئ والمبهر للمروج والأهوار وكثبان الرمال البيضاء النائية، مستغرقة في ذكريات ترجع إلى ما قبل أكثر من عشرين سنة، وجدت نفسها تفكر قائلة: «لطالما كانت هكذا ... جميلة وقاسية وباردة وجرداء قليلا، كل ما في الأمر أنني لم أرها من قبل مطلقا. الآن فقط، بعدما عدت بعد عشرين عاما، أرى بلدتي كما هي بالضبط.»
ثم، بينما كانت تقف هناك وحيدة تماما، أدركت ببطء أن أحدا ما يراقبها. كانت ثمة حركة مفاجئة وسط زهور الليلك توارت قليلا وسط الظلال الداكنة الكثيفة ... وبحدة أعادت إليها الحركة الطفيفة للأوراق الوعي بالمكان الذي كانت توجد فيه وسبب وجودها هناك؛ وبعدما ركزت كل انتباهها، استطاعت أن تحدد جسما ذا قوام قصير وضئيل وممتلئ، ووجه شاحب يختلس النظر من بين الغصون، مراقبا الراقصين الذين كانوا يتحركون هنا وهناك داخل المنزل. أصابها المشهد بشعور مفاجئ بعدم الارتياح وقشعريرة واهنة سرت في جسدها، واختفيا على الفور حين تعرفت على وجه هيجينز الغريب الذي غزته التجاعيد قبل أوانها، سائس منزل عائلة بينتلاند. لا بد أنها كانت قد رأته عشرات المرات قبل ذلك، وكانت بالكاد تلاحظه، ولكنها الآن كانت تراه بوضوح مستنير، بطريقة جعلت وجهه وهيئته لا ينسيان.
كان يرتدي سروال ركوب الخيل الذي كان يرتديه دائما وقميصا قطنيا بلا أكمام كشف عن ذراعين قصيرتين مشعرتين مفتولتي العضلات. وبينما كان يقف في مكانه بدا بساقيه المقوستين الراسختين في الأرض وكأنه كائن يقف مترسخا بجذوره في التربة ... مثل شجرة التفاح العتيقة الواقفة في ضوء القمر تنثر آخر بتلاتها البيضاء فوق المرج المظلم. كان ثمة شيء مزعج في المشهد، كما لو (حسبما فكرت فيما بعد) أن حيوانا ذا قدرات عقلية متواضعة أخذ يراقبها دون علمها.
ثم فجأة عاد ينسل مبتعدا، خجلا، بين أغصان زهور الليلك ... مثل ظبي. •••
ابتسمت أوليفيا في سرها، بينما كانت تتابع سابين أثناء سيرها مبتعدة، وقد عرفت وجهتها. كانت سابين بصدد التوجه إلى غرفة المكتب العتيقة، وجالسة هناك في ركن، كانت ستتظاهر بأنها مهتمة بمطالعة آخر عدد لجريدة «ميركيور دي فرانس» أو إحدى جرائد الموضة، وطوال الوقت كانت ستشاهد وتسمع ما يدور، أثناء جلوس العجوزين جون بينتلاند والسيدة سومز المسكينة المحطمة يلعبان لعبة بريدج مع اثنين من أترابهما. كانت تعرف أن سابين كانت تريد أن تستكشف حياة العجوزين. لم تكن راضية مثل الآخرين في منزل عائلة بينتلاند بالاستمرار في التظاهر بأنه لم يكن هناك أي شيء بينهما مطلقا. أرادت أن تعرف أصل الحكاية، أن تعرف الحقيقة. كانت الحقيقة، دوما الحقيقة، هي ما يأسر لب سابين.
وشعرت أوليفيا بموجة خاطفة مفاجئة، وتكاد تكون شجية، من المحبة تجاه السيدة الفظة والمتجهمة، محبة يستحيل التعبير عنها لأن سابين كانت تبالغ في احتقار جميع العواطف وكانت منغلقة جدا على نفسها ترفض استقبال أي مظهر من مظاهر التعبير عن العاطفة؛ ورغم ذلك ظنت أن سابين لاحظت أنها مغرمة بها، بنفس الطريقة الخجولة والصامتة التي عرف بها العجوز جون بينتلاند أنها مغرمة به. كان يستحيل على أي منهما التعبير صراحة عن أشياء بسيطة كالعواطف.
ومنذ أن وصلت سابين إلى دورهام، بدت الحياة لأوليفيا أقل جدبا وليس ميئوسا منها تماما. كانت سابين تتمتع بقدر لافت من القوة الشديدة التي افتقر إليها الآخرون تماما، باستثناء الرجل العجوز. كانت سابين قد توصلت إلى اكتشاف في الحياة حررها ... من كل شيء إلا ذلك الحاجز المريع من الفتور المصطنع.
وسط هذه الأفكار، أتى موكب آخر من الضيوف المغادرين، فتوارى تعبير الحزن من على وجه أوليفيا، مفسحا المجال أمام تعبير المرح المثالي المتصنع. ابتسمت وتمتمت بعبارات على غرار: «طابت ليلتكم، أيجب أن تغادروا الآن؟» و«طابت ليلتكم، أنا سعيدة جدا بأن الحفل أعجبكم.» كانت تتعامل بمكر مع الرجال المسنين الحمقى وبلطف مع الشباب الخجول وتكرر نفس العبارات مرارا وتكرارا بنفس النبرة. وكان الناس ينصرفون وهم يقولون: «أوليفيا بينتلاند، يا لها من امرأة ساحرة!»
ومع ذلك، بعدها مباشرة لم تكن تتذكر من الذي كان قد مر عليها.
واحدا تلو الآخر غادر الضيوف، وبعدها بقليل حزم العازفون السود آلاتهم الموسيقية وغادروا، وأخيرا ظهرت سيبيل، خجلة ومكفهرة، بادية شاحبة ومرهقة قليلا في فستانها الأخضر الباهت الملتصق بجسدها. وعند رؤية ابنتها، غمرت أوليفيا رعشة فخر واعتزاز خفيفة. كانت الأروع من بين جميع فتيات الحفل، ولم تكن الأكثر توهجا، وإنما الأرق وحقا الأجمل. كانت تتمتع بنفس جمال والدتها المتأني الذي يحيط المرء بغشاوة تستمر طويلا بعد أن تكون قد رحلت وتركت المكان. لم تكن صاخبة ومسترجلة وسوقية كالنساء «الجامحات»، ولم تكن عادية مثل الفتيات اللاتي كن يسرفن في وضع المساحيق ويحاولن التصرف وكأنهن نساء خبيرات بالحياة. كانت تتسم فعلا بالسرمدية التي تغلف أي سيدة راقية بصرف النظر عن العصر الذي تظهر فيه؛ كانت تتسم بغموض وأناقة ومعرفة بدروب الحياة تتغلب على بهرجة الأخريات الرخيصة. ومع ذلك، بطريقة ما، كانت تتمتع أيضا بنفس الاتزان الرائع والخجول والجمال الذي كان يرهب الناس. وجد الفتيان، الذين اعتادوا على أن يطلقوا على الشابات «فلانة وعلانة»، أنفسهم عاجزين أمام وقار الشابة التي بدت في فستانها الأخضر أشبه بحورية غابة رائعة. وكدر هذا أوليفيا بشدة، ليس من أجل نفسها، وإنما لأنها أرادت أن تكون الفتاة سعيدة - وأكثر من ذلك، أن تسبر أغوار السعادة التي كانت قد استشعرتها هي نفسها ولكن لم تعثر عليها مطلقا. بدا نوعا ما كما لو أنها رأت نفسها من جديد في سيبيل، كما لو أنها تستطيع، من واقع الاسترشاد الآن بتجاربها السابقة، أن توجه هذه النسخة المصغرة منها، التي تقف على حافة الحياة، عبر مسارات أقل جدبا من تلك التي وطأتها قدماها من قبل. كان من الضروري جدا أن تغرم سيبيل برجل من شأنه أن يسعدها. عند أغلب الفتيات ما كان هذا ليشكل فارقا كبيرا بطريقة أو بأخرى، ما دمن يملكن المال؛ فلو شعرن بالتعاسة أو الملل، فمن شأنهن أن يتطلقن من أزواجهن ويجربن حظهن مرة أخرى لأن تلك كانت القاعدة في عالمهن. أما عند سيبيل، فإما أن يكون الزواج سعادة غامرة لا حد لها أو مأساة شديدة وبائسة.
تأملت فجأة فيما كانت سابين قد قالته عن تيريز قبل قليل. «أخطأت بعودتي إلى هنا. لن أجعلها تتزوج أبدا في هذا الجزء من العالم.»
كان الأمر نفسه ينطبق على سيبيل بطريقة أو بأخرى. الفتاة نفسها كانت، بطريقة غامضة ما، تعرف ما تريده؛ وهذه الحياة لم تكن حياة آمنة ومضمونة، تسير بسلاسة وفق روتين صارم تحدده العادات والظروف. لم يكن ما تطمح إليه هو الزواج من رجل يشبه بقية الرجال في عالمه. بل كان أعمق من ذلك كله. كانت تريد بطريقة ما أن تسبر غور تلك الحياة التي تحيط بها، إلى أعماقها حيث يوجد طعم لكل ما تفعله. إنه جوع فهمته أوليفيا جيدا.
اقتربت الفتاة من أمها، ووضعت ذراعها حول خصرها، وظلت واقفة بجوارها، تنظر إلى العالم من حولهما كما لو كانت أخت أوليفيا.
سألتها أوليفيا: «هل استمتعت بالحفل؟» «أجل ... كان مسليا.»
ابتسمت أوليفيا. وأردفت تقول: «ولكن ليس كثيرا، أليس كذلك؟» «أجل، ليس كثيرا.» ضحكت سيبيل بغتة، كما لو أنه خطرت على بالها فجأة ذكرى مضحكة .
قالت والدتها: «لقد هربت تيريز.» «أعرف ... قالت لي إنها ستفعل ذلك.» «لم يعجبها الحفل.» «أجل ... رأت الفتيان أغبياء.» «إنهم يشبهون إلى حد كبير جدا جميع الفتيان الذين في مثل سنهم. ليست مرحلة عمرية مشوقة.»
قطبت سيبيل جبينها قليلا. ثم أردفت تقول: «لا تظن تيريز ذلك. تقول إن كل ما يمكنهم الحديث عنه هو نواديهم وعاداتهم في الشرب ... وأي من الموضوعين ليس مثيرا للاهتمام جدا.» «ربما كانا سيصبحان كذلك، لو كنت تعيشين هنا دوما ... مثل الفتيات الأخريات. أنت وتيريز تريان الأمر من الخارج.» لم تحر الفتاة جوابا، فسألتها أوليفيا: «ألا ترين أنني أخطأت في إرسالك إلى فرنسا للدراسة؟»
التفتت سيبيل بسرعة وأجابت قائلة: «أوه، كلا ... كلا» ثم أضافت بحماسة متقدة: «لم أكن لأستبدل بذلك أي شيء في العالم.» «ظننت أنك ربما تستمتعين بالحياة أكثر إذا رأيت أكثر من ركن واحد فيها ... أردت أن تبتعدي عن هنا لقليل من الوقت.» (لم تقل لها ما الذي كانت تفكر فيه، فلو فعلت ذلك لقالت: «لأنني أردت أن تهربي من المفسدة التي تصيب كل شيء في منزل عائلة بينتلاند.»
أجابت الفتاة قائلة: «أنا سعيدة. أنا سعيدة لأن هذه التجربة تجعل كل شيء مختلفا ... لا أستطيع تفسير ذلك ... كما لو أن كل شيء اكتسب معنى أكبر مما لو سارت الأمور على خلاف ذلك.»
فجأة قبلت أوليفيا ابنتها وقالت: «أنت فتاة ذكية؛ وأي شيء من أجلك لا يعد إهدارا. والآن اذهبي إلى الفراش. سأذهب لأتمنى لهم ليلة سعيدة.»
راقبت الفتاة وهي تسير مبتعدة عبر القاعة الكبيرة الخاوية مرورا بالسلسلة الطويلة للصور الشخصية الخاصة بعائلة بينتلاند، ليخطر على بالها في تلك اللحظة أن سيبيل تبدو إلى جوارهم مفعمة بالحيوية ومتقدة بالحماس والنشاط؛ وحين استدارت أخيرا، رأت حماها والسيدة سومز العجوز يسيران عبر الرواق الضيق المؤدي إلى غرفة المكتب. أذهلها بشدة أن العجوز جون بينتلاند الوسيم والنحيل بدا الليلة مسنا فعلا، بطريقة لم يسبق لها مثيل، مسنا ومحني الظهر قليلا، وتحت عينيه السوداوين اللامعتين هالات أرجوانية.
كانت السيدة سومز العجوز، بالتسريحة المضحكة والمعقدة لشعرها المصبوغ باللون الأسود، وبخديها المتوردين، وذقنها المترهل المدعوم بعقد من اللؤلؤ، تستند إلى ذراعه - حطام امرأة جميلة لجأت إلى حيل سخيفة وواضحة مثل أحمر الشفاه وصبغة الشعر - عجوز متغطرسة كئيبة لم تعرف مطلقا أنها كانت مثارا للسخرية. فعندما رأتها أوليفيا، خطرت على بالها صورة ذهنية كاملة من الذكريات؛ مناسبة تلو أخرى كانت فيها السيدة سومز ترتدي صدرية مزخرفة وتاجا وتقف في صف الاستقبال تنحني وتتكلف الابتسام ضمن طقوس صمدت بطريقة قروية ساذجة من عصر اجتماعي أكثر ظلاما وبربرية.
وعندما رأت الرجل المسن يسير برفق وتؤدة، بدافع من المراعاة لعجز السيدة سومز، شعرت أوليفيا برغبة مفاجئة في البكاء.
قال جون بينتلاند: «سأوصل السيدة سومز بالسيارة، يا عزيزتي أوليفيا. يمكنك أن تتركي الباب مفتوحا من أجلي!» وبعدما نظر إلى كنته نظرة حنونة سريعة، قاد السيدة سومز عبر الشرفة إلى سيارته.
وبعد أن غادرا اكتشفت أوليفيا أن سابين واقفة في الرواق بفستانها الأخضر اللامع تراقب العجوزين في ظل إحدى النوافذ الغائرة. وللحظة، استغرقتا في تأمل جون بينتلاند وهو يساعد السيدة سومز بود شديد لتصعد إلى السيارة، ولم تنطق أي منهما ببنت شفة، ولكن بينما كانت السيارة تبتعد في الطريق الطويل الذي تظلله أشجار الدردار المكتسية بنور القمر الفضي، تنهدت سابين وقالت: «أستطيع أن أتذكرها نموذجا لجمال بديع ... جمال بديع حقا. لم يعد يوجد أي أحد مثلها، ممن يجعلون جمالهم حرفة. كنت أراها حين كنت فتاة صغيرة. كانت جميلة، مثل ديانا، آلهة الصيد والقمر، في حقل الصيد. إنهما على هذه الحالة منذ ... منذ متى ... حتما منذ أربعين عاما، على ما أظن.»
قالت أوليفيا بنبرة هادئة: «لا أعرف. إنهما على هذا الوضع منذ جئت إلى منزل عائلة بينتلاند.» (أثناء حديثها اجتاحها شعور فظيع بالحزن، وبعبثية ساحقة. كان هذا الشعور قد أخذ يكتنفها في الآونة الأخيرة على نحو متزايد، لدرجة أنه أحيانا أقلقها وجعلها تخشى من أن يصيبها السقم.)
عاودت سابين الحديث بنبرتها المألوفة المنمقة الرنانة. فقالت: «أتساءل ما إذا كان هناك أي شيء ...»
قاطعت أوليفيا حديثها، متكهنة ببقية سؤالها، وأجابت بسرعة قائلة: «كلا ... أنا واثقة من أنه ليس هناك أي شيء مطلقا أكثر مما رأيناه ... أنا أعرفه جيدا بما يكفي لأكون واثقة من ذلك.»
ظلت سابين مستغرقة في التفكير لفترة طويلة، وفي النهاية قالت: «أجل ... أظن أنك محقة. لا يمكن أن يكون هناك أي شيء. إنه آخر البيوريتانيين المتشددين ... الآخرون لا يعول عليهم. إنهم يتظاهرون باستمرار، ولكنهم لم يعودوا يؤمنون. لم تعد لديهم أي همة. ليسوا سوى منافقين وأطياف ... إنه آخر السلالة العظيمة.»
التقطت عباءتها الفضية وأسدلتها فوق كتفيها الرقيقتين البيضاوين، وقالت فجأة: «أوشك الصبح أن ينبلج. يجب أن أحصل على قسط من النوم. سيحين الوقت الذي سيتعين علي فيه أن أفكر في تلك الأمور. لم نعد صغارا كما كنا، يا أوليفيا.»
وفي الشرفة التي يضيئها نور القمر، التفتت وتساءلت: «أين كان أوهارا؟ لم أره.» «كلا ... لقد دعي. أظن أنه لم يأت بسبب آنسون والعمة كاسي.»
كان الجواب الوحيد من سابين تنهيدة ساخرة. ثم استدارت مبتعدة وركبت سيارتها. انتهى الحفل الآن وغادر آخر الضيوف، ولم يفتها شيء - لا العمة كاسي ولا العجوز جون بينتلاند ولا غياب أوهارا ولا حتى مراقبة هيجينز لهم جميعا في ضوء القمر في ظلال شجيرات الليلك.
كانت برودة الليل قد ازدادت مع اقتراب الصبح، وارتعشت أوليفيا قليلا أثناء وقوفها في المدخل وهي تراقب سابين تستقل سيارتها وتقودها مبتعدة. وبعيدا عبر المروج، رأت أضواء سيارة جون بينتلاند تنطلق على الطريق في طريقها إلى منزل السيدة سومز العجوز؛ وراقبتهما وهما يتواريان عن الأنظار وراء أيكة أشجار البتولا ويعاودان الظهور بعد الطريق الرئيسي، وبينما كانت تستدير جال في خاطرها أن الحياة في منزل عائلة بينتلاند قد شهدت تغييرا طفيفا منذ عودة سابين.
الفصل الثاني
كان من عادة أوليفيا (وبطريقة ما كان كل تصرف بسيط في منزل عائلة بينتلاند يتحول حتما إلى عادة) أن تتجول في أرجاء المنزل كل ليلة قبل صعود الدرج المكسو بالألواح الخشبية، للتأكد من أن كل شيء على ما يرام، وتلقائيا مضت في جولتها الصغيرة كالمعتاد بعدما غادرت سابين، وأخذت تتوقف هنا وهناك تتحدث إلى الخدم وتأمرهم بالذهاب للفراش وتنظيف المكان في الصباح. وفي طريقها وجدت أن باب غرفة الجلوس، الذي كان مفتوحا طيلة الأمسية، مغلق الآن لسبب ما.
كانت غرفة مربعة كبيرة تنتمي إلى الجزء القديم من المنزل الذي كانت قد بنته عائلة بينتلاند التي جنت ثروتها من تجهيز السفن المسلحة وممارسة نوع من القرصنة على التجار البريطانيين؛ غرفة أصبحت بمرور السنين أشبه بمتحف مليء بالآثار والهدايا التذكارية لعائلة يمكن تتبع أصولها لثلاثمائة عام إلى صاحب متجر صغير منشق وصل إلى ساحل نيو إنجلاند الكئيب بعيد وصول المهاجرين الأوائل أمثال مايلز ستانديش وبريسيلا ألدن. كانت غرفة تستخدمها كثيرا العائلة كلها وتبدو بالية الشكل لكنها سائغة المنظر، مما يعوض القبح والتناقض الناجم عن مجموعة الصور والأثاث. كان بها مقعدان أو ثلاثة من طرازي شيراتون وهيبلوايت، وطاولة قديمة أنيقة مصنوعة من خشب الماهوجني، وأريكة فخمة وكرسي هزاز ضخم مجهول الطراز، ومصباح برونزي بشع كان هدية من السيد لونجفيلو إلى والدة العجوز جون بينتلاند. وكانت بها أيضا لوحتان قبيحتان بالألوان المائية - إحداهما لنهر التيبر وقلعة سانت أنجلو، والأخرى لقرية إيطالية - رسمتهما الآنسة ماريا بينتلاند أثناء جولة في إيطاليا عام 1846، وكرسي محشو مزدان بشراريب قماش، مهدى من الكولونيل هيجينسون العجوز، ونقش جاف على الفولاذ لتوقيع إعلان استقلال الولايات المتحدة كان معلقا فوق رف المدفأة الأبيض، ومجموعة كاملة من مؤلفات وودرو ويلسون عن تاريخ الولايات المتحدة مهداة من سيناتور لودج (الذي تشير إليه العمة كاسي دوما ب «السيد لودج العزيز»). في هذه الغرفة، جمعت تذكارات من الزيارات الطويلة التي قام بها السيد لويل والسيد إيمرسون والجنرال كورتيس وغيرهم من سكان نيو إنجلاند الطيبين، جميع الهدايا التذكارية التي كانت أوليفيا قد تركتها بالضبط كما وجدتها عندما أتت إلى المنزل الكبير عروسا لآنسون بينتلاند؛ ومن منظور أولئك الذين كانوا يعرفون الغرفة والعائلة لم يكن ثمة أي شيء قبيح أو سخيف بشأنها. كانت ذات طابع تاريخي. عند دخولها، يكاد المرء يتوقع أن يظهر له مرشد سياحي ويقول: «يوما ما كتب السيد لونجفيلو على هذا المكتب» و«كان هذا هو الكرسي المفضل للسيناتور لودج.» كانت أوليفيا تعرف كل قشة في هذه الغرفة ويربطها بها إحساس قوي بالألفة.
فتحت الباب بهدوء ووجدت أن الأنوار لا تزال مضاءة، والأمر الأغرب، أن زوجها كان جالسا إلى المكتب القديم محاطا بالكتب العتيقة والخطابات والأوراق المصفرة التي كان يجمع منها بجهد جهيد كتابا بعنوان «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس». تفاجأت لرؤيته؛ لأنه كان معتادا على التوقف عن العمل في موعد محدد هو الحادية عشرة مساء كل ليلة، حتى في مناسبة كهذه. كان قد اختفي قبل ساعات من الحفل الراقص، وكان لا يزال جالسا هنا مرتديا بذلة السهرة، رغم أن الوقت كان قد تجاوز منتصف الليل بكثير.
كانت قد دخلت الغرفة بهدوء شديد لدرجة أنه لم يسمعها، وللحظة ظلت تنظر إليه في صمت، كما لو أنها لم تقرر ما إذا كان ينبغي أن تتحدث أم تنصرف في هدوء. أما هو فكان جالسا موليا ظهره إليها؛ بحيث بدا الكتفان المنحنيان والرقبة النحيلة المجعدة والرأس الأصلع إلى حد ما واضحين في خلفية الجدران الخشبية البيضاء. وفجأة، وكأنه أدرك كونه مراقبا، استدار ونظر إليها. كان رجلا في التاسعة والأربعين من عمره لكنه يبدو أكبر من سنه، ذا وجه طويل وملامح صارمة مثل وجه العمة كاسي - وجه وسيم لكنه يبدو عليه الإرهاق والشحوب نوعا ما - وعينين صغيرتين مستديرتين لهما لون الخزف الأزرق الفاتح. عند رؤيته لأوليفيا، ارتسم على وجهه تعبير عابس يدل على الحنق ... تعبير كانت تعرف جيدا أنه يرتسم على وجهه عندما ينوي الشكوى من شيء ما.
قالت بهدوء، متعمدة استخدام نبرة توحي بأنها لم تلاحظ أي شيء غير عادي: «أطلت السهر.»
رد قائلا: «كنت أنتظر التحدث معك. أريد أن أتحدث معك. من فضلك اجلسي للحظة.»
بدت طريقة تعامل أحدهما مع الآخر غريبة إلى حد ما، وكأنه لم تكن توجد أي مودة بينهما ، حتى قبل سنوات عندما كان طفلاهما صغيرين. ومن ناحيته اتصف أسلوبه أيضا بالتكلف المتسم بالحدة والعصبية، أسلوب غريب وفيكتوري متعجرف إلى حد ما، وبه لمسة غريبة من الجبن. كان رجلا من النوع الذي ربما لا يقدم دوما على فعل الصواب، لكنه يفعل ما تعتبره عشيرته «صوابا».
كانت هذه هي المرة الأولى التي يتبادلان فيها محادثة منذ الصباح، وهي محادثة بدت من النوع النمطي الذي تكرر يوما بعد يوم على مدار سنوات عديدة. عندما كان يقول إنه يريد التحدث إليها، كان هذا عادة يعني أن ثمة شكوى ما من الخدم، وغالبا من هيجينز، الذي كان يبغضه بشدة لدرجة غريبة لا يمكن تفسيرها.
جلست أوليفيا، منزعجة لأنه اختار هذا التوقيت وهي متعبة، ليبدي تعليقا تافها بشأن أمور تتعلق بأعمال المنزل. وبدون تفكير مسبق من ناحية ومن ناحية أخرى من منطلق معرفتها المباغتة والغاضبة بأنه سيشعر بالضيق لرؤيتها تدخن، أشعلت سيجارة؛ وبينما كانت جالسة هناك، منتظرة حتى يمحو بحرص شديد كل ما كان بالصفحة التي كان يكتب فيها، شعرت ببطء برغبة غريبة غير معتادة في التصرف بشكل غير مقبول، في أن تخلق بطريقة ما نوعا من الإثارة من شأنه أن يقضي ولو للحظة على ذلك الشعور بالملل الذي كان يغمرها؛ ومن ثم تهدئ أعصابها. فكرت قائلة: «ماذا حدث لي؟ هل أنا واحدة من أولئك النساء اللاتي يستمتعن بافتعال المشاكل؟»
نهض من كرسيه، بقامته الطويلة جدا وجسده النحيل، وكتفاه منحنيتان، ونظر إليها بعينيه الشاحبتين وقال: «يتعلق الأمر بسيبيل. أعلم أنها تذهب لركوب الخيل كل صباح مع هذا الرجل الذي يدعى أوهارا.»
أجابت أوليفيا بهدوء قائلة: «هذا صحيح. إنهما يذهبان كل صباح قبل الإفطار، وقبل أن يخرج بقيتنا من المنزل.»
قطب جبينه وعلى نحو شبه تلقائي تقمص سلوكا ينم عن الغضب لكرامته. وقال: «أتقصدين أنك كنت على علم بذلك طوال الوقت؟» «إنهما يلتقيان في المروج بالقرب من مقلع الحجارة القديم؛ لأنه لا يهتم بالمجيء إلى المنزل.» «ربما لأنه يعلم أنه لن يكون موضع ترحيب.»
ابتسمت أوليفيا بسخرية بعض الشيء. وقالت: «أنا متأكدة من أن هذا هو السبب. ولذلك لم يأت الليلة، رغم أنني دعوته. لا بد أنك تعلم يا آنسون أن شعوري تجاهه مختلف عن شعورك.» «كلا، لا أظن ذلك. نادرا ما يكون الأمر كذلك.»
قالت بهدوء: «لا داعي لأن تكون بغيضا.»
أجابها قائلا: «يبدو أنك تعرفين الكثير عن الأمر.» «سيبيل تخبرني بكل شيء تفعله. وأظن أنه من الأفضل أن تسير الأمور بهذه الطريقة.»
راقبته، ومنحها هذا شعورا بشيء من الرضا والارتياح لرؤيته منزعجا من هدوئها، ومع ذلك شعرت أيضا بشيء من الخجل؛ لأنها أرادت افتعال مشكلة صغيرة، مجرد مشكلة بسيطة للغاية، لتجعل الحياة تبدو أكثر إثارة قليلا. قال: «لكنك تعرفين شعور العمة كاسي وأبي تجاه أوهارا.»
عندئذ، ولأول مرة، بدأت أوليفيا تستوعب الأمر. قالت: «يعرف والدك كل شيء عن ذلك يا آنسون. لقد ذهب معهما بنفسه على الفرس الحمراء، مرة أو مرتين.» «هل أنت متأكدة من ذلك؟»
قالت: «ما الذي سيجعلني أختلق كذبة سخيفة كهذه؟ علاوة على ذلك، أنا ووالدك متفاهمان جيدا. وأنت تعرف ذلك.» كان ردها أشبه بوكزة خفيفة حققت الغرض منها؛ إذ أشاح آنسون بوجهه مغاضبا. كان ما قصدت حقا أن تقوله له هو: «والدك يستشيرني أنا في كل شيء، ولا يستشيرك أنت. وليس هو من يعارض الوضع وإلا كنت سأعلم بذلك.» وجهرا قالت: «أضف لذلك أنني رأيته بعيني هاتين.»
قال: «إذن سأتحمل أنا مسئولية الاعتراض هنا. لا يعجبني هذا الوضع وأريد وضع حد له.»
أثناء حديثهما هذا رفعت أوليفيا حاجبيها قليلا مع نظرة يمكن تفسيرها على أنها توحي بالدهشة أو السخرية أو ربما قليل من كليهما. للحظة ظلت ساكنة، تفكر، وأخيرا قالت: «هل أنا على صواب في افتراض أن العمة كاسي وراء كل هذا؟» حين لم يحر جوابا أكملت حديثها قائلة: «لا بد أن العمة كاسي قد استيقظت مبكرا جدا لرؤيتهما وهما يغادران.» ساد الصمت مرة أخرى، ثم دفعها الشيطان الصغير الكامن بداخلها إلى أن تقول: «أو ربما حصلت على معلوماتها من الخدم. فهي دائما ما تفعل ذلك، كما تعلم.»
ببطء، بينما كانت تتحدث، ازدادت حدة الغضب المرتسم على وجه زوجها شيئا فشيئا. بدا أن لون بشرته قد تغير وأصبح أخضر فاتحا نتيجة تأثير الضوء المنبعث من الثريا الفيكتورية الطراز المعلقة فوق رأسه الضيق الأفق.
قال: «أوليفيا، ليس من حقك التحدث عن عمتي بهذه الطريقة.»
فقالت: «لسنا بحاجة للخوض في ذلك. أظن أنك تعرف أن ما قلته هو الحقيقة.» وببطء بدأ يسيطر عليها شعور بالرضا. كانت قد بدأت في إثارة غضبه. وبعد كل هذه السنوات الطويلة، كان يكتشف أنها لم تكن لطيفة تماما.
بدا عليه الآن السخط والذهول. قال بنبرة أكثر لطفا: «أوليفيا، لا أفهم ماذا جرى لك مؤخرا.»
وجدت نفسها مستغرقة في التفكير، وقالت في نفسها: «لعله يلين. ربما لا يزال يوجد احتمال للمودة والحنو بداخله. ربما سيصبح الآن، بعد مرور سنوات طويلة، لطيفا وعطوفا وربما ... وربما ... أكثر من ذلك.»
كان يقول: «أنت غريبة جدا. وأنا لست الوحيد الذي يظنك كذلك.»
قالت أوليفيا بنبرة حزينة بعض الشيء: «بالطبع. تظن العمة كاسي ذلك أيضا. لقد أخذت تخبر الحي بأكمله أنني أبدو تعيسة. ربما يكون ذلك لأنني مرهقة قليلا. فأنا لم أحصل منذ وقت طويل على قسط كبير من الراحة ... من جاك، ومن العمة كاسي، ومن والدك ... و... منها.» وبينما كانت تنطق بالكلمة الأخيرة، أشارت برأسها بطريقة مثيرة للفضول في اتجاه الجناح الشمالي المظلم من المنزل الكبير.
ظلت تراقبه، مدركة أنه صدم واندهش لأنها ذكرت دفعة واحدة العديد من الأمور التي لم يتطرقا إلى مناقشتها مطلقا في منزل عائلة بينتلاند، أشياء دفناها في صمت وحاولا نسيانها بالتظاهر بأنها غير موجودة.
تابعت حديثها قائلة بنبرة حزينة: «يجب أن نتكلم عن هذه الأمور في بعض الأحيان. في بعض الأحيان التي نكون بمفردنا تماما ولا يمكن لأحد أن يسمعنا، عندما لا يشكل ذلك أي فارق. فلا يمكننا التظاهر إلى الأبد بأن تلك الأمور غير موجودة.»
ظل صامتا لفترة من الوقت، وبدا عليه التردد وهو يبحث بقنوط عن رد. وأخيرا قال بنبرة واهنة: «ومع ذلك تجلسين طوال الليل تلعبين البريدج مع سابين والسيدة سومز العجوز ووالدي.»
قالت: «هذا مفيد لي. يجب أن تعترف بأنه تغيير على الأقل.»
اكتفى بأن أجاب: «أنا لا أفهمك»، وبدأ يتحرك جيئة وذهابا منفعلا بينما كانت جالسة هناك تنتظر، في الواقع تنتظر، حتى يصل الموقف إلى الذروة. انتابها شعور مفاجئ بالنصر، وبسعادة غامرة لم تشعر بها منذ سنوات، منذ كانت فتاة شابة؛ وفي الوقت نفسه أرادت أن تضحك، بقوة وبشكل هستيري على آنسون، الطويل والنحيف جدا، الذي أخذ يتحرك وكأنه يتقافز لأعلى ولأسفل.
توقف أمامها فجأة وقال: «ولا أرى فائدة من دعوة السيدة سومز إلى هنا كثيرا.»
رأت الآن أن التوتر والانفعال بينهما قد بلغا مبلغا أعظم مما تخيلت، إذ كان آنسون قد تحدث عن السيدة سومز ووالده، وهذا شيء لم يتطرق إليه من قبل أحد من العائلة. وكان قد فعل ذلك بصراحة شديدة، وبمحض إرادته.
سألته قائلة: «ما الضرر الذي يمكن أن ينتج عن ذلك الآن؟ وما الفارق الذي يمكن أن يحدثه؟ إن ذلك هو مصدر السعادة الوحيد الباقي لتلك العجوز الضعيفة المحطمة، وهي أحد القلة الذين بقوا لوالدك.»
بدأ آنسون يتمتم في اشمئزاز. «إنها علاقة سخيفة ... اثنان من كبار السن ... من كبار السن ...» لم ينه الجملة؛ لأنه لم تكن توجد سوى كلمة واحدة كان يمكن أن تنهيها وهي كلمة لم يكن يستخدمها مطلقا أي رجل نبيل وبالتأكيد ما كان ليستخدمها أحد أفراد عائلة بينتلاند للإشارة لوالده.
قالت أوليفيا: «ربما تكون علاقة سخيفة الآن ... لكني لست متأكدة من أنها كانت كذلك دوما» «ماذا تقصدين بذلك؟ أتقصدين ...» مرة أخرى تلعثم بحثا عن الكلمات، محاولا تجنب استخدام الكلمات التي كان من الواضح أنها تبادرت إلى ذهنه. كان من الغريب رؤيته وهو يضطر إلى مواجهة الحقائق، ويبدو عليه العجز الشديد والارتباك. تلعثم قائلا: «هل تقصدين أن والدي قد تصرف من قبل ...» توقف قليلا، عاجزا على استكمال الحديث، ثم أضاف: «على نحو مخز؟»
قالت: «آنسون ... أشعر بغرابة كوني صريحة جدا الليلة ... فقط لمرة واحدة ... مرة واحدة فقط.» «وأنت لا تجيدين سوى الخداع.»
قالت: «لا ...»، ووجدت نفسها تبتسم ابتسامة حزينة، وتضيف قائلة: «إلا إذا كنت تقصد أن في هذا المنزل ... في هذه الغرفة ...» وأشارت بذراعها البيضاء في حركة كاسحة لتلك المجموعة من الهدايا التذكارية الفيكتورية، كل تذكارات العائلة البيوريتانية المتشددة التي كانت تتمتع فيما مضى بالسلطة والنفوذ، ثم قالت: «في هذه الغرفة، الاتصاف بالصدق والأمانة هو الخداع في حد ذاته.»
في هذه اللحظة كان سيقاطعها في غضب، لكنها رفعت يدها وتابعت حديثها قائلة: «كلا يا آنسون؛ سأخبرك صراحة بما أظن ... سواء كنت تريد سماعه أم لا. ولا آمل في أن يجدي ذلك أي نفع. لا أدري ما إذا كان والدك قد تصرف، على حد تعبيرك، على نحو مخز أم لا. وحقا أتمنى لو أنه فعل ذلك ... آمل أنه كان حبيب السيدة سومز في الأيام التي كان فيها الحب يعني شيئا لهما ... نعم ... الشيء الحسي هو ما أقصده تحديدا ... أظن أن ذلك كان سيصبح أفضل. أظن أنهما ربما كانا سعيدين ... سعادة حقيقية لوقت قصير ... وليس مجرد شخصين يعيشان في حالة من الافتتان بينما يومهما هو تكرار لليوم التالي ... أظن أن والدك، من بين كل الرجال، كان يستحق هذه السعادة.» ثم تنهدت وأضافت بصوت خفيض: «حسنا، ها قد علمت مقصدي!»
مضى وقت طويل وهو واقف دون حراك يحدق في الأرض بعينيه الزرقاوين المستديرتين اللتين كانتا أحيانا تصيبانها بالذعر لأنهما كانتا تشبهان كثيرا عيني تلك المرأة العجوز التي لم تغادر مطلقا الجناح الشمالي المظلم وكانت معروفة في العائلة ببساطة ب «هي»، كما لو أنها من منظورهم لم تعد تنتمي للبشر. أخيرا تمتم عبر شاربه المتدلي على شفتيه، كما لو كان يحدث نفسه، قائلا: «أعجز عن تخيل ما حدث لك.»
قالت أوليفيا: «لا شيء. لا شيء. أنا كما كنت دائما، كل ما هنالك أنني الليلة انتهيت من الطاعة العمياء وقول «نعم، نعم» لكل شيء، وانتهيت من التظاهر الدائم، حتى نتمكن جميعا هنا من الاستمرار في العيش بهدوء في حلمنا ... مؤمنين دوما بأننا أعلى شأنا من أي شخص يعيش على هذه الكرة الأرضية، وأنه بسبب كوننا أغنياء فنحن أصحاب نفوذ وأبرار، وأنه بسبب ... أوه، لا جدوى من الكلام ... أنا تماما كما كنت دائما، كل ما هنالك أنني الليلة جاهرت بمكنون صدري. جميعنا هنا نعيش في حلم ... حلم سيتحول يوما ما إلى كابوس. عندها ماذا سنفعل؟ ماذا ستفعل أنت ... والعمة كاسي والباقون؟»
في غمرة انفعالها توردت وجنتاها ونهضت فجأة، بقامتها الطويلة وجمالها، متكئة على رف المدفأة؛ لكن زوجها لم ينتبه إليها. بدا شاردا في تفكير عميق، واتخذت ملامح وجهه تعبيرا يدل على التركيز بتجهم.
بعد قليل قال: «أعلم ما حدث. إنها سابين. ما كان ينبغي أن تعود إلى هنا أبدا. دائما ما كانت هكذا ... تثير المتاعب ... حتى عندما كانت طفلة صغيرة. لقد اعتادت على مقاطعتنا أثناء اللعب بقولها: «لن ألعب لعبة البيت. من يمكن أن يتصف بالحماقة لدرجة التظاهر بأن المياه الموحلة أرجوانية داكنة! إنها لعبة سخيفة.»» «هل تقصد أنها تقول ذلك مرة أخرى الآن ... إنها لعبة سخيفة أن نتظاهر بأن المياه الموحلة أرجوانية داكنة!»
أشاح بوجهه دون إجابة، وبدأ مرة أخرى يسير فوق الورود الكبيرة الباهتة المرسومة على السجادة الفيكتورية الطراز. بعدها قال: «لا أعرف ما الذي تلمحين إليه. كل ما أعرفه أن سابين ... امرأة شريرة.» «هل تكره سابين لأنها صديقة لي؟»
لقد لاحظت على مدار سنوات عديدة أنه يكره صديقاتها، ويدبر لأن يتخلص منهن بطريقة ما، وأن يمنعها من رؤيتهن، ويجبرها على حضور حفلات العشاء الكثيرة التي تقام بمنازل الرجال الذين يعتبرهم موضع ثقة، الرجال الذين درسوا بنفس كليته وينتمون إلى ناديه، الرجال الذين لن يفعلوا أبدا أي شيء غير متوقع. وفي النهاية، كانت تفعل دائما ما يريده منها. ربما كان ذلك تعبيرا عن استيائه من كل أولئك الذين لم يكن يستطيع فهمهم بل وحتى (كما ظنت) كان يخشاهم قليلا؛ تصرف رجل لن يسمح للآخرين بالاستمتاع بما لا يمكنه أن يستحوذ عليه. كانت هذه المرة الأولى التي تتحدث فيها عن هذا المسلك الذي يماثل المثل الشهير عن الكلب في المذود الذي يرفض أن تأكل الخيل القش الذي لا يمكنه هو أن يأكله، لكنها وجدت نفسها غير قادرة على التزام الصمت أكثر من ذلك. شعرت وكأن قوة خارجية قد استحوذت على جسدها. كان لديها إحساس غريب بالخزي في نفس اللحظة التي تحدثت فيها، بالخجل من صوتها، الذي كان متوترا وهيستريا قليلا.
وكان هناك شيء غريب أيضا في مشهد آنسون وهو يتحرك جيئة وذهابا في الغرفة القديمة المليئة بالهدايا التذكارية الدالة على ذلك الوقار المتفسخ الذي يحيط به نفسه ... بخطوات تنطوي على الخيلاء يبدو فيها كل إجحافه، ومظانه وخرافاته. والآن كانت أوليفيا قد أزاحت الستار عن الحقيقة بمنتهى القسوة مسلطة الضوء عليها.
قال بمرارة: «يا لسخافة ما تقولين!»
تنهدت أوليفيا. وقالت: «كلا، لا أظن أن كلامي سخيف ... أظن أنك تعرف بالضبط ما أقصده.» (كانت على دراية تامة بالحيلة التي تمارسها العائلة، المتمثلة في التظاهر بعدم فهم أي عبارة صادقة ومزعجة بالنسبة إليهم.)
لكنه رفض الرد على قولها هذا أيضا. وبدلا من ذلك، التفت إليها، أكثر شراسة وانفعالا مما رأته في أي وقت مضى، وثائرا جدا لدرجة أنه بدا للحظة وكأنه يتمتع بوميض باهت من القوة والكرامة. قال: «ولا يعجبني المظهر الغريب لابنتها، التي جابت معها العالم وملأت عقلها بالأفكار الهمجية.»
عند النظر إليه وسماع نبرة صوته خطرت لأوليفيا فكرة مفاجئة فسرت مسار محادثتهما بأكمله، بل وفسرت في الواقع كل السنوات التي قضتها هنا في منزل عائلة بينتلاند أو في المنزل الحجري الضخم البني اللون في شارع بيكون ستريت. عرفت فجأة ماهية ما أخاف آنسون والعمة كاسي وعالم العائلة المعقد بأكمله. كانوا يخشون أن تنهار أسس وركائز وجودهم تاركة إياهم بلا حول ولا قوة، وينكشف كبرياؤهم وغرورهم، ويجردوا من كل القوانين وأشكال الإجحاف التي ابتدعوها لحماية أنفسهم. ولهذا السبب كرهوا أوهارا، الرجل الأيرلندي، الذي يتبع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فقد كان يهدد أمنهم. وكان انكشافهم هكذا سيكون كارثة، لأنه في أي عالم آخر باستثناء عالمهم، في عالم يقفون فيه دون حماية كل تلك الأموال الموجودة في صناديق ائتمانية مستقرة، لن يكون لهم أي وجود على الإطلاق. سيظهرون فجأة على حقيقتهم.
رأت كل ذلك، لأول مرة، بمنتهى الوضوح، وقالت بهدوء: «أظن أنك تكره تيريز لأسباب فيها ظلم للفتاة. إنك لا تثق بها لأنها مختلفة عن الأخريات ... عن نوعية الفتيات اللاتي تمرست على الاعتقاد بأنهن كاملات. يعلم الرب أنه يوجد ما يكفي منهن هنا ... فتيات متشابهات كأنهن نسخ مكررة بعضهن من بعض.» «وماذا عن هذا الفتى الذي سيأتي للإقامة مع سابين وابنتها ... هذا الفتى الأمريكي الذي يحمل اسما فرنسيا ولم ير بلاده قط حتى الآن؟ أظن أنه سيكون غريبا مثل الآخرين كلهم. من الذي يعرف أي شيء عنه؟»
قالت أوليفيا: «سابين.»
قاطعها قائلا: «سابين! سابين! وهل تهتم بمن هو أو من أين أتى؟ لقد طوت صفحة الأشخاص المحترمين منذ زمن بعيد، عندما فرت من هنا وتزوجت ذلك الوغد الغريب. سابين ... سابين لا تفعل شيئا سوى جلب المتاعب لنا ... نحن، العائلة التي تنتمي إليها. إنها تكرهنا ... هي بشق الأنفس تستطيع التحدث معي بطريقة متحضرة.»
ابتسمت أوليفيا بهدوء وألقت بسيجارتها في الرماد أسفل النقش الفولاذي لتوقيع إعلان الاستقلال. بعدها قالت: «بدأت تتفوه بالهراء يا آنسون. دعنا نلتزم بالحقائق، لمرة واحدة. لقد التقيت بالفتى في باريس ... عرفته سيبيل هناك. إنه ذكي ووسيم ويعامل النساء باحترام شديد. لا يزال يوجد قليلات منا ممن يفضلن أن يعاملن هكذا ... كنساء ... قليلات منا حتى هنا في دورهام. بالطبع لا أتصور أنك ستهتم لأمره. فهو لا ينتمي لناديك أو كليتك، وسيرى الحياة بطريقة مختلفة. ولن يقبل أن يلقن آراء جاهزة، معدة في انتظاره.» «إنني أفكر في ابني ... لا أريدهما أن يرتبطا بأي شخص، بأول شخص يطرق بابهما.»
لم تبتسم أوليفيا. أشاحت بوجهها الآن وقالت بهدوء: «إذا كنت تشعر بالقلق على جاك، فلا داعي لذلك بعد الآن. فهو لن يتزوج تيريز. لا أظنك تعلم كم هو مريض ... أحيانا، أظن أنك لا تعرف أي شيء عنه على الإطلاق.» «أتحدث دوما مع الأطباء.» «إذن عليك أن تدرك مدى سخافة ... الكلام الذي تقوله.»
رد قائلا: «ومع ذلك، ما كان يجب أن تعود سابين إلى هنا أبدا.»
رأت الآن أن الحديث يمضي في مساره العقيم المحتوم، حيث سيستمران في الدوران في حلقة مفرغة، مثل سناجب في قفص، لن تؤدي بهما إلى أي شيء. كان هذا ما حدث مرات عدة. استدارت عازمة على إنهاء هذه المناقشة، واتجهت نحو المدفأة ... وقد عاد إليها شحوبها وأسفل عينيها الداكنتين ظهرت هالات بنفسجية باهتة. كما ظهر عليها الوهن، كما لو أن هذه الروح الغريبة التي تأججت فجأة بداخلها كانت عنيفة جدا ولم يقو جسدها على تحملها.
قالت بصوت خفيض: «آنسون، من فضلك، لنكن عقلانيين. سوف أنظر في علاقة سيبيل وأوهارا هذه وأحاول اكتشاف ما إذا كان أي شيء خطير يحدث. وإذا لزم الأمر، سأتحدث مباشرة إلى كليهما. أنا أيضا لا أوافق على هذه العلاقة، ولكن ليس لنفس السبب. فهو كبير جدا في السن عليها. لن تواجه أي مشاكل. وليس عليك فعل أي شيء ... أما فيما يخص سابين، فسأستمر في رؤيتها بقدر ما أشاء.»
وفي خضم حديثها أصبحت فجأة، وعلى نحو خطر، هادئة بالطريقة التي كانت تزعج أحيانا زوجها والعمة كاسي. تنهدت قليلا، ثم تابعت قائلة: «لقد تحليت، يا آنسون، لسنوات عدة بالطيبة واللطف، والآن، الليلة ... الليلة أشعر أنني لم أعد قادرة على ذلك ... أقول هذا فقط لتعلم أن الحال لا يمكن أن يستمر بهذه الطريقة إلى الأبد.»
التقطت وشاحها، ودون أن تنتظر رده، استدارت واتجهت نحو الباب، ولا يزال يلفها الهدوء المخيف نفسه. وعند مدخل الباب التفتت. ثم قالت: «أظن أنه يمكننا أن نعتبر أن هذه المسألة قد حسمت في الوقت الحالي، أليس كذلك؟»
طوال الوقت كان واقفا هناك يراقبها بعينيه الزرقاوين الباردتين وعلى وجهه نظرة ذهول كما لو كان يرى زوجته لأول مرة بعد كل تلك السنوات؛ ثم ببطء تبددت نظرة الذهول هذه متحولة إلى نظرة خبث، تكاد أن تكون كراهية، كما لو كان يقول في قرارة نفسه: «إذن هذه هي حقيقتك! وهذا ما كان يجول في ذهنك طوال هذه السنوات، ولم تصبحي واحدة منا مطلقا. بل كنت، طوال الوقت، تشعرين نحونا بالكراهية. لقد كنت دائما غريبة عنا؛ مجرد دخيلة سوقية، من الرعاع.»
استحال لون شفتيه الرفيعتين الممتعضتين إلى اللون الرمادي الشاحب، وعندما تحدث كان ذلك بعصبية، ويشوبه اليأس، مثل حيوان صغير محاصر في زاوية. خرجت الكلمات من بين الشفتين الرفيعتين في سيل جارف وعنيف، مثل اندفاع الفولاذ الساخن إلى حد البياض الذي يتحرر من مرجل ... كلمات منطوقة بنبرة فاترة ومحملة بالكراهية.
قال: «على أي حال، على أي حال لن أسمح بزواج ابنتي من أيرلندي من طبقة متدنية ... فالعائلة بها ما يكفي من أمثاله.»
للحظة تلكأت أوليفيا عند عتبة الباب، وقد اتسعت عيناها الداكنتان في ذهول، وكأنها تجد أنه من المستحيل تصديق ما سمعته. ثم بهدوء وحزن شديد وسكينة في صوتها، تمتمت وكأنها تحدث نفسها: «يا لحقارة ما قلته.» وبعد وقفة قصيرة، قالت، كما لو كانت لا تزال تحدث نفسها: «إذن، هذا ما كنت تفكر فيه على مدار عشرين عاما»، وصمتت مجددا، ثم قالت: «ثمة رد قاس جدا على كلامك هذا ... إنه قاس لدرجة أنني لن أصرح به، لكنني أظن أنك ... أنت والعمة كاسي تعرفان جيدا ما هو.»
صفقت الباب خلفها بسرعة، وتركته هناك، في حالة من الذهول والغضب، وسط كل الهدايا التذكارية الخاصة بعائلة بينتلاند، وببطء، وهي تشعر وكأنها في كابوس، مضت نحو الدرج، مارة بالموكب الطويل من صور أسلاف عائلة بينتلاند - المهاجر صاحب الحانوت، وقاتل الساحرات، والمبشر المحترف، وصاحب السفن الشراعية، والجميلة سافينا بينتلاند - وصعدت السلم المظلم المؤدي إلى الغرفة التي لم يتبعها زوجها إليها منذ أكثر من خمسة عشر عاما. •••
وما إن دخلت غرفتها، حتى أغلقت الباب بهدوء ووقفت في الظلام، تنصت، وتنصت، وتنصت ... في البداية لم يكن هناك أي صوت باستثناء هدير بعيد غير واضح للأمواج المتكسرة وهي تشق طريقها نحو الكثبان البيضاء، وعواء كلب بيجل آت من بعيد من اتجاه بيوت الكلاب، ثم بعد قليل، سمعت صوتا خافتا لتنفس هادئ وسلس آتيا من الغرفة المجاورة. كان منتظما وسلسا وهادئا، كما لو كان ابنها بقوة أوهارا أو هيجينز أو ذلك الشاب القوي دي سيون الذي التقت به مرة واحدة لمدة قصيرة بمنزل سابين في باريس.
غمرها الصوت بسعادة جامحة، حتى إنها نسيت ما حدث في غرفة الجلوس قبل قليل. وبينما كانت تخلع ثيابها في الظلام، أخذت تتوقف بين الفينة والأخرى، لتنصت مجددا في حالة من التوتر الشديد، كما لو كان باستطاعتها منع الصوت من التلاشي بمجرد أن تتمنى ذلك. لأكثر من ثلاث سنوات لم تدخل هذه الغرفة مرة واحدة دون أن يتملكها الرعب من أنه ربما لا ينتظرها فيها سوى الصمت. وأخيرا، بعد أن أوت إلى سريرها وراحت في النوم، استيقظت فجأة فزعة على صوت آخر، مختلف تماما، صوت صرخة جامحة، شبه بشرية ... متوحشة وشريرة، وتلاها صوت ارتطام حوافر تضرب بوحشية على جدران الإسطبل، ثم صوت هيجينز، مروض الخيول، وهو يصب اللعنات. كانت قد سمعت هذا الصوت من قبل؛ صوت الفرس الشريرة الجميلة الحمراء اللون، المملوكة للعجوز جون بينتلاند، وهي تضرب جدران إسطبلها وتصرخ بشدة. كان ثمة كراهية فائقة ولدود بينها وبين هذا الرجل الغريب الأخرق ... ومع ذلك كان بينهما أيضا نوع من الانجذاب.
وعندما انتصبت جالسة في فراشها، تنصت، وهي لا تزال في حالة ذهول من الصوت الجامح، سمعت ابنها يقول: «أمي، هل أنت هناك؟»
قالت: «أجل.»
نهضت وذهبت للغرفة الأخرى؛ حيث رأت، في الضوء الخافت المنبعث من المصباح، الصبي جالسا في فراشه، وشعره الأشقر أشعث، وعيناه مفتوحتان على اتساعهما وتحدقان قليلا.
همست قائلة: «هل أنت بخير يا جاك؟ هل ثمة خطب ما؟»
رد قائلا: «لا، لا شيء. رأيت حلما مزعجا وبعد ذلك سمعت صوت الفرس الحمراء.»
بدا شاحبا ومريضا، وبرزت العروق الزرقاء على صدغيه؛ لكنها كانت تعرف أنه الآن أقوى مما كان عليه طيلة شهور. كان في الخامسة عشرة من عمره، لكنه كان يبدو أصغر من ذلك، وكأنه صبي في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، لكنه بدا، أيضا، كبيرا في السن كدأب أولئك الذين يعانون من مرض مزمن.
سأل قائلا: «هل انتهى الحفل؟ ... هل غادروا جميعهم؟»
قالت: «أجل يا جاك ... سيطلع الصباح قريبا. من الأفضل أن تحاول النوم مرة أخرى.»
استلقى دون أن يرد عليها، وبينما كانت تنحني لتطبع قبلة على جبينه وتتمنى له ليلة طيبة، سمعته يقول بصوت خافت: «ليتني كان بوسعي حضور الحفل.»
ردت قائلة: «يوما ما ستتمكن من حضور الحفل يا جاك - في القريب العاجل. فأنت تزداد قوة يوما بعد يوم.»
مرة أخرى ساد الصمت، بينما أخذت أوليفيا تقول في قرارة نفسها: «إنه يعرف أنني أكذب. يعرف أن ما قلته مناف للحقيقة.»
وجهرا قالت: «ستخلد للنوم الآن ... مثل فتى مطيع.»
قال: «أتمنى أن تحدثيني عن الحفل.»
تنهدت أوليفيا. وقالت: «إذن، لا بد أن أغلق باب غرفة المربية، حتى لا نوقظها.» ثم أغلقت الباب المؤدي إلى الغرفة التي كانت المربية العجوز نائمة فيها، وجلست عند طرف فراش ابنها، وبدأت تسرد على مسامعه شيئا فشيئا، بحرص وبكل ما تمكنت من استحضاره من مهارة، أسماء من حضروا الحفل، وما حدث فيه. أرادت أن تمنحه، هذا الفتى المسكين الذي كانت لديه فرصة ضئيلة للبقاء على قيد الحياة، كل أحاسيس الحياة التي كانت قادرة على استحضارها.
ظلت تتحدث وتتحدث، حتى لاحظت أن الصبي قد راح في النوم، وأن لون السماء فوق الأهوار قد بدأ يتحول إلى الرمادي والوردي والأصفر مع إشراق ضوء النهار.
الفصل الثالث
1
عندما قدمت أوليفيا لأول مرة إلى المنزل العتيق زوجة لآنسون بينتلاند، كانت بلدة دورهام، الواقعة إلى الداخل من منزل آل بينتلاند والبحر، محجوبة عن الأنظار، ومستترة وسط طية من الأرض تحدد البدايات الباهتة لجبال نيو هامبشاير. كان يسود الأجواء المحيطة قدر من السلام والسكينة: إذ كان المرء يعرف أن بين طيات الأرض البعيدة التي يعلوها برج أبيض مستدق الطرف تقبع بلدة هادئة ذات بيوت خشبية بيضاء اللون مبنية على امتداد شارع واحد يسمى «هاي ستريت» وهو الشارع الرئيسي الذي تظلله صيفا أشجار الدردار العتيقة. في تلك الأيام الخوالي، كان هناك قرية ريفية، شبه ناعسة، تعج بمنازل خاوية منتشرة هنا وهناك تتهالك ببطء - قرية تضاءل عدد سكانها ليصير أقل مما كان عليه قبل مائة عام. وظلت ناعسة وخاملة هكذا لمدة خمسة وسبعين عاما تقريبا، منذ اليوم الذي سلبت فيه من سكانها الشباب الأقوياء على يد مجموعة كبيرة من المواطنين المهاجرين. ووسط الحشائش الكثيفة التي تحيط بالمصلى الكنسي العتيق يوجد لوح رخامي سجل عليه الحدث بنقش نصه: «من هذا المكان، وفي الرابع عشر من أغسطس، عام ألف وثمانمائة وثمانية عشر، خرج القس يوشيا ميلفورد، قس هذه الكنيسة، مع مائة وتسعين فردا من أبرشيته، رجالا ونساء وأطفالا، متحصنين بإيمانهم بالرب القدير، لتنفيذ مشيئته وقدرته في برية المحمية الغربية.»
وتحت النقش حفرت أسماء تلك العائلات التي قطعت الرحلة لتأسيس بلدة جديدة فاقت دورهام الهادئة ثراء ورخاء مئات المرات. ولم يكن اسم بينتلاند بين هذه الأسماء؛ لأن آل بينتلاند كانوا أثرياء حتى في عام ألف وثمانمائة وثمانية عشر، وكانوا يقضون فصل الشتاء في بوسطن وفصل الصيف في دورهام، على الأرض التي سلبها من البرية الرعيل الأول من الأسرة.
ومنذ ذلك اليوم وحتى وصلت الطواحين إلى دورهام، غرقت القرية تدريجيا في حالة من الخمول، وبعد فترة وجيزة انتهت الكنيسة نفسها، بعد أن جردت من سطوتها، وتحولت إلى متحف مترب يمتلئ بالأثاث المنزلي الأمريكي القديم وعجلات الغزل - وهو مكان نادرا ما يزوره أحد ويطليه المجلس البلدي على مضض كل خمس سنوات؛ لأنه كان يشتهر بكونه معلما تاريخيا. وقد تحولت عائلة بينتلاند منذ زمن بعيد إلى عقيدة الموحدين الواهنة أو العقائد الأكثر توافقية وتساهلا الخاصة بالكنيسة الأسقفية الأمريكية.
أما الآن، وبعد ما يقرب من عشرين عاما على مجيء أوليفيا إلى منزل عائلة بينتلاند، عادت القرية مفعمة بالحيوية والنشاط، لدرجة أنها كانت قد تجاوزت بقعتها الصغيرة من الأرض وامتدت على جانب الرابية المتاخم للبحر، في صفوف مستقيمة منبسطة من البيوت الجصية القبيحة، التي تشغل كل منها أسرة صغيرة من أسر عمال الطواحين البولنديين. وداخل البلدة نفسها، عبر شارع هاي ستريت من أعلى البرج المستدق للمصلى العتيق، ترى كنيسة جديدة، مبنية من الجص والخشب المطلي باللون الأخضر وتابعة لكنيسة روما العظيمة. وفي المنازل الخشبية العتيقة على امتداد شارع هاي ستريت كانت لا تزال توجد بقية باقية من الأسر القديمة ... من أمثال السيدة فيذرستون العجوز، التي اتخذت من الغسيل اليدوي مهنة تعول بها أربعة أحفاد مرضى ما كان ينبغي لهم أن يأتوا إلى هذه الحياة من الأساس؛ والآنسة هادون، وهي امرأة عجوز غريبة الأطوار ترتدي دوما عباءة سوداء وتعيش على إعانة من العجوز جون بينتلاند عليها بصفتها من الأقارب البعيدين للعائلة؛ وهاري بيكهان، نجار القرية؛ والسيدة مالسون العجوز، التي تعيش بمفردها في منزل عتيق رطب وبسيط وجميل يزخر بقطع من اليشم والعاج جلبت من الصين على متن سفن جدها التجارية؛ والآنسة مورجاترويد، التي حولت منذ وقت طويل منزلها الصغير إلى مقهى متهالك. وبقوا متناثرين هنا وهناك، قلة من الأحفاد اللطفاء المعدمين والمساكين المنحدرين من نسل أولئك المستوطنين الأوائل الذين جاءوا إلى البلدة مع آل بينتلاند.
إلا أن الطواحين غيرت كل شيء، تلك الطواحين التي ضخت الثروة في جيوب عشرات العائلات الثرية التي كانت تعيش في فصل الصيف على بعد أميال قليلة من دورهام.
حتى الريف نفسه كان قد تغير. لم يعد أي من أهالي نيو إنجلاند يملكون أراضي. وأحيانا عند التجول عبر الأزقة، كان المرء يصادف واحدا من تلك البقية من ذلك العرق، بوجه طويل وسخيف جالسا على جدار حجري يلوك مضغة عشب؛ ولكن ذلك كان كل شيء؛ فالآخرون كان قد انتهى بهم الحال قبل فترة طويلة في طواحين مدينتي سالم ولين أو غيبهم الموت، نتيجة الإفراط في زواج الأقارب وسوء التغذية. ووقعت القلة المتبقية من المزارع في أيدي البولنديين والتشيكيين، الذين كانوا أناسا يتمتعون بالصلابة والقوة وينقصهم التحضر في ارتباطهم الوثيق بالأرض والحيوانات التي تحيط بهم، وكانوا يتسمون بقوة الأجساد، ولم يكونوا أخلاقيين جدا، وصنعوا معجزات في أرض منطقة نيو إنجلاند الصخرية القاحلة ووقفوا خلف جدرانهم يحدقون بعيون مفتوحة على اتساعها في الأشخاص العظماء مثل آل بينتلاند وهم يمتطون خيولهم ويرتدون معاطف زهرية اللون وتحيط بهم كلاب صيد الثعالب التي تهتز ذيولها في عصبية. وعادت المزارع القديمة الأخرى، واحدة تلو الأخرى، إلى أحضان البرية بحيث يكون هناك متسع للخيول والكلاب لتلاحق الثعالب وأجولة اليانسون.
لقد تغير كل شيء تغيرا هائلا. ومن النوافذ العليا للمنزل الحجري الضخم المبني على الطراز الجورجي حيث كان يعيش آل بينتلاند، كان بوسع المرء أن يرى سجلا بجميع التغيرات التي حدثت. كانت النوافذ تطل على منظر طبيعي ممتد يتألف من مروج عشبية متواضعة وجدران حجرية، وأجمات من أشجار الصنوبر والبتولا البيضاء، وأهوار، ونهر بني متعرج راكد. وأحيانا في أواخر فصل الخريف كانت الظباء تنزل متجولة من على جبل نيو هامبشاير فتشتت انتباه كلاب الصيد عن الثعالب وتضللها بعيدا بعد الركض وراء طريدة كانت تفوقها سرعة بكثير.
وعلى مسافة أقرب، وعند منعطف النهر، تقع الأرض التي ولدت عليها سابين كاليندار وعاشت فيها حتى صارت امرأة ناضجة - الأرض التي باعتها باستهتار إلى أوهارا، السياسي الأيرلندي والمنتمي إلى الروم الكاثوليك، الذي ظهر من العدم ليستحوذ على الأرض، ويقلم سياجها الشجري، ويصلح جدرانها المتصدعة، ويطلي أبنيتها القديمة ويضع عليها بوابات وأسوارا لامعة وجديدة جدا. وأنجز هذا بدقة بالغة حقا وعلى نحو جيد للغاية لدرجة أن المكان بأكمله كانت به مسحة من التطوير العقاري الذي تتسم به الضواحي. والآن، ها قد عادت سابين لتقضي فصل الصيف في أحد منازله ولتكون ودودا جدا معه على مرأى ومسمع من العمة كاسي وآنسون بينتلاند، وعشرين ممن على شاكلتهما.
كانت أوليفيا تعرف عن ظهر قلب هذا المنظر الطبيعي الشاسع بجماله الكئيب، كل غرس وحجر فيه، من مقلع الحجارة الخطر، الذي تكاد تختفي أطرافه وراء شجيرات عتيقة، إلى أجمة الصنوبر السوداء حيث اكتشف هيجينز قبل يوم أو يومين فقط جراء ثعالب وليدة. كانت تعرف هذا المنظر الطبيعي في الأيام الغائمة عندما يكون الجو باردا ويبعث على الكآبة، وفي الأيام المشرقة والصافية جدا في نيو إنجلاند حين يبدو كل غصين وكل ورقة محددة المعالم بفعل الضوء، وفي تلك الأيام الباردة الرطبة التي ينتشر فيها ضباب رمادي عبر الأهوار آتيا من البحر ليغلف الريف بأكمله بظلام كئيب. كانت منطقة ريفية قاسية متصلبة ومتحجرة لا تعرف المبالغة في المرح أبدا.
كانت أيضا منطقة ريفية، تمنحها شعورا مزمنا بالوحدة ... وهو شعور بدا على نحو غريب جدا أنه يزداد ولا يقل أبدا بمرور السنين. لم تكن قد تعودت مطلقا على الكآبة المتقطعة لتلك المنطقة. في البداية، منذ فترة طويلة، بدت لها المنطقة مكانا غضا وهادئا ويمتلئ بالسكينة، مكانا ربما تجد فيه الراحة والسكينة ... ولكنها صارت منذ فترة طويلة تراه على حقيقته، كما كانت تراه سابين حين وقفت في نافذة غرفة المكتب، وقد انتابها الخوف من الظهور المفاجئ والغريب لسائس الخيل الضئيل البنية - منطقة ريفية جميلة وقاسية وباردة وجدباء قليلا.
2
مرت على أوليفيا أوقات بدا فيها أن ذكريات صباها تزداد وضوحا فجأة وتنقض عليها، بحيث تطغى على كل إحساس بالحاضر، أوقات أرادت فيها فجأة وبقوة أن تعود إلى الماضي البعيد الذي كان قد بدا حينئذ تعيسا؛ وكانت هذه الأوقات هي الأوقات التي شعرت فيها بأشد درجات الوحدة، الأوقات التي علمت فيها أنها مع مرور السنوات كانت قد انطوت على نفسها تماما؛ كانت تحمي نفسها مثلما تفعل السلحفاة حين تسحب رأسها إلى داخل صدفتها. وفي الوقت نفسه، رغم الابتسامات والمجاملات واللطف المبالغ فيه، كانت تشعر بأنها حقا غريبة داخل منزل عائلة بينتلاند، وبأنه توجد جدران وحواجز لا تستطيع أبدا أن تهدمها، ولا تستطيع مطلقا أن تتعداها وتخترقها، معتقدات يستحيل عليها أن تؤمن بها.
كان من الصعب عليها الآن أن تتذكر بوضوح شديد ما حدث لها قبل أن تأتي إلى دورهام؛ إذ بدا كل شيء مفقودا ومشوشا ومتواريا تحت وطأة إخلاصها لمنزل عائلة بينتلاند الشاسع. كانت قد نسيت أسماء الأشخاص والأماكن واختلطت عليها الأيام والسنون. وأحيانا كان يصعب عليها أن تتذكر الرحلات البحرية المربكة المتكررة عبر المحيط الأطلنطي ذهابا وإيابا والفنادق الشاسعة والموحشة والفسيحة التي تعاقبت صورها واحدة تلو الأخرى في سلسلة أحداث طفولتها الكئيبة وغير الواقعية.
كان بإمكانها أن تتذكر بوضوح مثير للشفقة عامين سعيدين قضتهما في المدرسة ببلدة سان كلود الفرنسية، حيث عاشت لشهور متصلة في غرفة منفردة ربما تستطيع أن تطلق عليها غرفتها الخاصة، حيث كانت تستريح، وتتحرر من الخوف الذي كان يعتريها حين تسمع والدتها تقول: «يجب أن نحزم أمتعتنا اليوم. سنغادر غدا إلى سانت بطرسبرج أو لندن أو سان ريمو أو القاهرة ...»
ولا تكاد تتذكر المنزل الحجري الضخم بأحجاره البنية الداكنة المزود بأبراج وشرفات رائعة تطل على بحيرة مشيجان. لقد بيع وتهدم قبل فترة طويلة، وتدمر مثل كل شيء كان ينتمي إلى الماضي البعيد. عجزت عن تذكر الأب الذي توفي وهي في الثالثة من عمرها؛ ولكن بقيت منه على الأقل صورة فوتوغرافية مصفرة لرجل عظيم وسيم مفتول العضلات ذي وجه أسكتلندي-أيرلندي مرح، كان قد توفي في اللحظة التي صار فيها اسمه شهيرا في كل مكان باعتباره ذا نفوذ في واشنطن. كلا، لم يبق منه شيء سوى صورة فوتوغرافية قديمة، والابتسامة الباهتة الهزيلة الساخرة التي ورثتها عنه، والطريقة التي تقول بها بلطف: «أجل! أجل!» حين كانت تنوي التصرف بطريقة مناقضة تماما.
كانت تمر عليها أوقات تصير فيها ذكرى أمها مبهمة وعجيبة، كما لو أنها لم تكن سوى شكل يطل من صورة غريبة ملتقطة في أوائل القرن العشرين ... شكل لامرأة جميلة، ترتدي ملابس أنيقة تنسدل من كلا الاتجاهين على خصر نحيل جدا. كانت مثل شكل يخرج من إحدى تلك الصور الفوتوغرافية القديمة التي يتطلع إليها المرء في حالة من الاستمتاع المقبض. تذكرت امرأة جميلة مغرورة أنانية، مولعة بالإطراء، كانت على قدر كاف من الفطنة التي تحول بينها وبين الزواج من واحد من أولئك النبلاء البواسل السمر ذوي الألقاب الرنانة الذين كانوا يأتون لزيارتها في غرفة استقبال الفندق التي لم يكن يطالها تغيير أبدا، لاصطحابها إلى حفلات الحدائق والمهرجانات والسباقات. ودوما في خلفية الذكريات كانت ثمة صورة لفتاة صغيرة كئيبة، تغمرها الوحدة والتوق إلى الأصدقاء، تركت بمفردها لتسلي نفسها بالخروج مع المربية السويسرية، وتكوين صداقات مع الأطفال الذين كانت تلتقي بهم في المتنزهات أو الشواطئ وفي شوارع المدينة الأوروبية التي كانت أمها تزورها في تلك اللحظة ... أصدقاء كانت تراهم اليوم ويختفون في الغد ولا تراهم ثانية مطلقا. ولاحظت الآن أن أمها كانت تنتمي إلى أمريكا تسعينيات القرن التاسع عشر. لم تكن الآن تراها شخصية حقيقية وإنما شخصية خرجت من إحدى روايات السيدة وارتون.
لكنها لم تكن قد تزوجت ثانية قط؛ إذ كانت قد ظلت السيدة ماكونيل الجميلة الثرية من مدينة شيكاغو حتى ذلك اليوم المأساوي (أوضح ذكرى من ذكريات أوليفيا كلها وأفظعها على الإطلاق) حين وافتها المنية فجأة إثر إصابتها بالحمى في قرية إيطالية نائية وحقيرة، ولم يكن معها ليعتني بها أحد سوى ابنتها (فتاة ذات سبعة عشر ربيعا) ومعالج محتال وسائق سيارتها الروسي.
ووصل سيل الذكريات المشوشة وغير المبهجة على الإطلاق إلى الذروة في منزل كئيب مبني من الطوب الأحمر مطل على ميدان واشنطن سكوير، حيث كانت قد ذهبت إلى هناك بصفتها فتاة يتيمة لتعيش في كنف خالة صارمة وقاسية كانت تؤمن بأن العالم كله يتمحور حول بلدة لينوكس، ووادي نهر هدسون، وميدان واشنطن سكوير - خالة لم تكن قد تحدثت مطلقا مع والد أوليفيا، لأنها، مثل آنسون والعمة كاسي، كانت متحاملة على الرجال الأيرلنديين الذين يظهرون فجأة من العدم، وينخرطون في الحياة، ويتمتعون بالحيوية والنشاط والروح المعنوية المرتفعة.
هكذا، في سن الثامنة عشرة وجدت نفسها وحيدة في هذه الدنيا إلا من خالة قاسية الطبع، بلا أصدقاء باستثناء أولئك الذين كانت قد تعرفت عليهم وهي طفلة على الشواطئ وفي المتنزهات، والذين لم يعد بوسعها أن تتذكر أسماءهم. وكان العالم الثابت الوحيد الذي عرفته هو عالم الخالة التي كانت تتحدث بلا انقطاع عن روعة مدينة نيويورك الفخمة التي كانت تفوح منها رائحة الكافور والتي لم يعد لها وجود.
الآن، كانت أوليفيا ترى كل شيء بوضوح. أدركت السبب الذي جعلها ترى آنسون بينتلاند، حين جاء لزيارة خالتها ذات ليلة، رجلا أنيقا ومذهلا، ولحضوره على العشاء القدرة على تحويل غرفة الطعام المصنوعة من خشب الجوز وخشب الماهوجني إلى مكان رائع. كان من نوعية الرجال الذين تصفهم الفتيات ب «رجل أكبر سنا»، وكان يتملقها بأدبه واهتمامه. كان قد اصطحبها، برفقة الخالة، لمشاهدة عرض مسرحي لفرقة «المدينة»، وهو لا يدري أن عدم الاحتشام الذي سيتكشف هناك سيجبرهم على الرحيل قبل انتهاء المسرحية. وخرجوا في أمسية أحد أيام الخميس (استطاعت حتى أن تتذكر اليوم بعينه) وما زالت تبتسم عندما تتذكر اعتقادهم بأن فتاة قضت حياتها كلها في أروقة الفنادق الأوروبية لا ينبغي أن تعرف ما الذي كانت تدور حوله المسرحية.
ثم انتهى الأمر بدعوتها إلى زيارة إلى منزل عائلة بينتلاند ... إلى منزل عائلة بينتلاند، حيث وجدت عالما لم تكن قد عرفته من قبل قط، عالما غضا وهادئا وآمنا؛ حيث تعامل معها الجميع بلطف مبالغ فيه لأسباب لم تعرفها إلا بعد فترة طويلة. ولم يخبروها أبدا بالحقيقة بخصوص والدة آنسون، المرأة العجوز التي تعيش في عزلة بالجناح الشمالي من المنزل. قالوا إنها كانت مريضة جدا في الوقت الحالي ولا تقوى على مقابلة أي أحد. في ذلك اليوم البعيد بدا منزل عائلة بينتلاند، للفتاة المرهقة العديمة الأصدقاء، مثل فراش أخضر فسيح ووثير يمكنها أن تلقي بنفسها عليه وتستريح إلى الأبد، عالم يمكنها فيه أن تكون صداقات وترسي جذورا من شأنها أن تشعرها بالأمان على الدوام. لفتاة اعتادت الإقامة في الفنادق، كان منزل عائلة بينتلاند جنة؛ لذا حين طلب آنسون بينتلاند يدها للزواج، وافقت عليه لأنها لم تجده منفرا حقا.
والآن، وبعد مرور كل هذه السنين، عاد الربيع من جديد ... كان الربيع هو الوقت الذي أتت فيه إلى منزل عائلة بينتلاند لأول مرة، والآن بلغت التاسعة والثلاثين من عمرها ولا تزال شابة؛ بيد أن كل شيء قد تغير. •••
شيئا فشيئا، في السنوات التي أعقبت ولادة سيبيل ثم جاك، اتخذت الصورة الإجمالية للحياة مع عائلة بينتلاند والمنزل الحجري البني اللون في شارع بيكون ستريت نمطا معينا، تشكلت من الانطباعات الأولى المشوشة والمبهمة؛ بحيث أنها، عند استرجاعها للذكريات، بدأت تدريجيا تفهم الأمر بوضوح بالغ نابع من تحررها من الوهم.
رأت نفسها شابة خجولة عاملها الجميع بلطف مبالغ فيه لأنه من الضروري جدا لآنسون أن يجد زوجة وينجب وريثا ... آنسون آخر نسل الذكور لعائلة عريقة مثل عائلة بينتلاند. (عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس.) رأت نفسها كما لا بد وأنهم قد رأوها ... شابة جميلة، أسرتها معاملتهم اللطيفة، غريبة على عالمهم ولكنها كانت على الأقل جذابة وراقية وثرية جدا. (عرفت الآن إلى أي مدى كان المال حتما مهما عند العمة كاسي.) ورأت آنسون الآن، عبر كل هذه السنوات، ليس على هيئة أمير وسيم جاء لينقذها من يد خالتها الغولة، وإنما على حقيقته ... رجلا يعاني من فقر دم، تجاوز الثلاثين من عمره، ويمتلك لباقة رائعة. (كانت ثمة سخرية مريرة في ذكريات محاولاته المترددة للتقرب منها، والنفور الذي تناول به تفاصيل الزواج ... سخرية لم تفهمها فهما كاملا إلا بعد أن تقدمت في العمر وصارت أكثر وعيا بدروب الحياة.) مسترجعة الذكريات، رأته رجلا حاول مرارا وتكرارا أن يتزوج من شابات عرفهن طوال حياته وفشل في الاقتران بهن لأنه بشكل أو آخر كان قد اكتسب سمعة غامضة بأنه ممل ... شابا، لو أنه كان قد ترك وشأنه، ما كان ليتقرب أبدا من أي امرأة، ولذهب إلى قبره أعزب بتولا كما جاء إلى الدنيا.
وأدركت الآن أنه لم يحبها قط ولو بأدنى قدر. تزوجها فقط لأنه لم يسلم من الآخرين، الأحياء وكذلك الأموات، الذين بدوا على نحو غريب وكأنهم هم أيضا أحياء في منزل عائلة بينتلاند. كان من تزوجوها هم العمة كاسي والآنسة بيفي المسكينة السخيفة والعجوز جون بينتلاند ذو النفوذ وأبناء العمومة وأولئك الأموات المعلقة صورهم في صفوف منمقة في الردهة. لم يكن آنسون سوى أداة في أيديهم؛ وحتى في أكثر اللحظات مرارة كانت تشعر على نحو غريب بالأسف لحاله؛ لأن حياته، هو الآخر، كانت قد دمرت بأكملها.
وهكذا، شيئا فشيئا عبر كل تلك السنوات الطويلة، تحولت أوليفيا ماكونيل الجميلة الخجولة والمجهولة - التي كان والدها سياسيا من مدينة شيكاجو ينتمي إلى الحزب الديمقراطي - إلى هذه المرأة الذاهلة، وأحيانا التعيسة، الدخيلة التي صارت بطريقة غامضة السند الذي يستمد منه الجميع القوة. •••
كانت السعادة تغمرها الآن لأنها تجرأت أخيرا وواجهت آنسون وكل أولئك الذين كانوا يقفون خلفه في غرفة الجلوس، الأحياء منهم والأموات، يحدقون من فوق كتفه، ويشجعونه. كان النقاش البغيض قد أدى إلى تنقية الأجواء قليلا، رغم أنه جرحها. كان قد كشف النقاب لثانية عن الحقيقة التي كانت تسعى إليها لزمن طويل جدا. كان آنسون محقا بشأن سابين؛ ففي الهواء الطلق الصافي لصباح ذلك اليوم في نيو إنجلاند أدركت أن شعورها بالقرب من سابين هو ما منحها القوة لتكون بغيضة. لقد عرفت سابين العالم الكبير، مثلما عرفته هي؛ ومن ثم كان بوسعها أن ترى عالمهم هنا في دورهام بوضوح لم يحققه الآخرون مطلقا. كانت قوية أيضا بمعرفتها أنه مهما حدث، كانت هي (أوليفيا) الشخص الوحيد الذي لم يكن بوسعهم تحمل خسارته؛ لأنهم صاروا يعتمدون عليها منذ فترة طويلة جدا.
ولكنها كانت مجروحة. ظلت تفكر مرارا وتكرارا فيما قاله آنسون ... «على أي حال، لن أسمح بزواج ابنتي من أيرلندي من طبقة متدنية. فالعائلة بها ما يكفي من أمثاله.»
كانت تعرف أن آنسون سيشعر بالخجل مما قاله، ولكنها كانت تعرف، أيضا، أنه سيتظاهر بأن شيئا لم يحدث، وبأنه لم يقل هذا الكلام مطلقا؛ لأنه كان تصرفا غير لائق برجل نبيل ينتمي إلى عائلة بينتلاند. سيتظاهر، كما كان يفعل دوما، بأن الواقعة لم تحدث مطلقا.
وعندما تحدث بهذه الطريقة، كان يقصد أنه حري بها أن تكون ممتنة لأنهم سمحوا لها بالزواج من فرد من عائلة بينتلاند. كان شيء ما دفينا داخلهم جميعا، قناعة كانت جزءا من تكوينهم ذاته ، جعلتهم واثقين من هذه المزية. ولامرأة مثلها عرفت أكثر مما عرف العالم من حولها، ورأت من الحقيقة أكثر مما رأى أي منهم، كان رد واحد فقط، سينتزع منها بحدة مأساوية ... «أوه، يا إلهي! ...»
3
كانت غرفة الطعام فسيحة ومربعة الشكل، وإذ كانت قد جددت في فترة لاحقة على بقية المنزل، كانت مصنوعة من خشب الماهوجني الثقيل، ووضعت في المنتصف طاولة كبيرة لامعة كان الجالسون عليها يظلون محافظين على تباعدهم بعضهم عن بعض حفاظا على الرسميات، حتى مع تصغير محيطها لأقصى قدر ممكن.
كانت تلك الطاولة تستخدم كثيرا؛ لأنه منذ أعاقت الظروف جون بينتلاند عن الخروج إلى العالم الخارجي، كان يأتي بجزء منه إلى بيته بحفاوة ومودة أزعجتا أخته كاسي إلى حد ما. كانت، مثل أغلب أفراد الأسرة، لا تهتم بالطعام اهتماما كبيرا، وتنظر إليه باعتباره ضرورة فحسب. وفيما يخص ذوقها في الطعام، كانت ترى البرقوق المجفف بنفس أهمية طعام فاخر مثل الكمأة. وسرا في منزلها، يدفعها ولعها بالادخار، كثيرا ما كانت تسد رمقها بلقيمات من صوان الطعام، ولكن في أوقات كهذه كانت الآنسة بيفي، التي كانت مع بساطتها نبيلة المحتد، تعاني بشدة. كانت عبارة «الوجبة السريعة» قولا متكررا على لسان العمة كاسي؛ ومن ثم كانت تمتعض من الطعام الغني المذاق الذي كان يتناوله العجوز جون بينتلاند وكنته، أوليفيا.
ومع ذلك، تناولت الكثير من الوجبات الرائعة على المائدة المصنوعة من خشب الماهوجني، بل واستطاعت أن تجلس عليها الآنسة بيفي، بجسدها الممتلئ، التي كان جون العجوز يكره ضحكتها السخيفة وتكرارها بخنوع لآراء أخته.
لم يتناول آنسون الغداء في المنزل قط؛ لأنه كان يذهب إلى بوسطن كل يوم في التاسعة صباحا، مثل رجل أعمال، لديه الكثير من الشئون التي عليه أن يتولاها. كان لديه مكتب في شارع ووتر ستريت وكان يذهب إليه بانتظام حماسي، ويقضي النهار في توافه الأمور الخاصة بلجان وجمعيات النادي لتحسين هذا الشأن أو ذاك؛ إذ كان رجلا يحصن روحه بترتيب حياة الآخرين. كان رئيس لجنة «تنقذ» الشابات اللاتي يقعن في مشكلات، ويساهم بقدر ما يمكنه أن يخرجه من دخله الضئيل جدا في أنشطة جمعية الرقابة على الكتب والفنون. وكان يقضي جل يومه في مراسلة علماء الأنساب بخصوص موضوع كتابه «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس». ولم يجن في سنة كاملة ما يكفي لدفع إيجار المكتب لشهر واحد، ومع ذلك كان لا يطيق حالات الفقر والإملاق الكثيرة التي تبلغ إلى علمه. وقد كانت أسهم وسندات ملكية آل بينتلاند محفوظة بعناية بعيدا عن متناول يده، وكان من فعل ذلك هو أبوه الذي كان يرتاب في تلك الأنشطة التي كان آنسون يمارسها، والآن وقد شارف آنسون على الخمسين من عمره، لم يكن لديه سوى دخل ضئيل تركه له جده ومصروف شخصي، يدفعه له والده شهريا، كما لو كان لا يزال شابا يدرس في الكلية.
وهكذا عندما نزلت أوليفيا لتناول الغداء في اليوم التالي للحفل الراقص، لم تكن مضطرة إلى مواجهة آنسون وشعوره بالخجل من مشهد المواجهة في الليلة السابقة. لم يكن موجودا أحد سوى الجد وسيبيل وجاك، الذي كان في حالة صحية تسمح بنزوله.
جلس الرجل المسن على رأس المائدة، في الموضع الذي لم يتنازل عنه أبدا باعتباره الديكتاتور، زعيم الأسرة بأكملها. كان طويل القامة وقوي البنية، وقد ازداد صلابة بفعل التعرض لمختلف الأجواء المناخية عبر السنوات التي عاشها في الريف، ممتطيا الخيول يوما بعد يوم تحت الأمطار والعواصف الثلجية، وتحت أشعة الشمس وفي أجواء عاصفة، كما لو كان يشتهي بطبعه حياة الجلد والمشقة التي عاشها أوائل عائلة بينتلاند حين جاءوا إلى دورهام. كان يمتطي دوما الفرس الحمراء الجميلة المتوحشة الجامحة ... وكان رجل مسن صارم مثله لائقا بهذه الفرس المشهورة بحدة الطبع. كان يشبه أخته كاسي من حيث المظهر- فقد ظهر أحد أسلاف بينتلاند السود على نحو غامض في سلالة العائلة قبل مائة عام تقريبا، وكانت له عينان سوداوان متقدتان تبرزان أسفل حاجبين كثين ... وكان رجلا مختلفا عن ابنه من حيث المظهر الخارجي والقوة الجسدية بقدر ما يمكن تخيله. (إذ إن آنسون كان نموذجا لرجال بينتلاند؛ أشقر، ذا عينين زرقاوين مستديرتين وتميل بشرته إلى الاحمرار في حال تمتعه بالصحة.) كان المرء يقف في إجلال بحضرة الرجل المسن: كان ثمة تجهم واضح على الوجه الصلب والملامح القاسية والشفتين المتصلبتين، ومسحة استنكار غريب وغامض يتعذر على المرء معرفة مصدرها أو تحليل أسبابها.
كان ملتزما الصمت اليوم، تنتابه إحدى الحالات المزاجية الكئيبة التي كانت أوليفيا تعرف جيدا منها أنه مغتم. كانت تعرف أن الأمر هذه المرة لم تكن له علاقة بمرض جاك؛ لأن الصبي كان جالسا قبالتهم، ويبدو أقوى مما كان عليه طيلة أشهر ... أشقر وشاحبا ونحيفا، والعروق الزرقاء بارزة في معصميه المثيرين للشفقة وصدغيه النحيفين الجميلين.
اجتازت أوليفيا أوقاتا عصيبة بسبب مرض جاك، وكانت تعيش هذه الأوقات دوما مع جون بينتلاند، ولذلك نشأ بينهما - الأم والجد - شعور بالتفاهم يتجاوز الحاجة إلى الكلام. كانا قد قضيا معا ليالي كثيرة جدا بجوار الصبي، يبقيانه على قيد الحياة بقوة إرادتهما الموحدة، مرغمين إياه على العيش، والتمسك بالحياة، حينما كان من شأنه أن يستسلم للموت ويلفظ أنفاسه الأخيرة بكل سهولة. تعاونا معا للإبقاء على حياته؛ لأنهما أحباه ولأنه كان آخر الأبناء الذكور في العائلة.
أحيانا كانت أوليفيا تشعر بأن سيبيل، هي الأخرى، لعبت دورا في الصراع المتواصل مع الموت. مثل جدها، لم تكن الفتاة تتحدث مطلقا عن هذه الأشياء، ولكن كان بوسع المرء أن يستقرئها في الأعماق المضطربة لعينيها البنفسجيتين. كان ذلك الصراع الطويل المرهق أحد المآسي التي لم يكونوا يتحدثون عنها مطلقا في منزل عائلة بينتلاند، تاركين إياه مطمورا في الصمت. وكنت تجد أحدهم يقول: «يبدو جاك في صحة جيدة اليوم»، ثم يردف مبتسما: «لعل الأطباء مخطئون.» كانت سيبيل تراقب شقيقها في تلك اللحظة، بتلك الطريقة الهادئة والغامضة، تراقبه بحذر لئلا يكتشف أنها تراقبه؛ لأنه كان يكتشف المتاعب بسهولة، بهذا النوع من الكياسة التي يتحلى بها الأشخاص الذين يعانون من المرض على الدوام.
كاد الحديث أن يكون منعدما بينهم أثناء تناول الغداء. كانت سيبيل تخطط لاصطحاب شقيقها في العربة التي تجرها الخيول في جولة عبر المزرعة ومنها إلى كثبان الرمال البيضاء.
قالت: «سيذهب هيجينز معنا. سيرينا جراء الثعالب الوليدة في الأجمة السوداء.»
وقال جاك: «إنه شيء غريب بخصوص هيجينز. فهو دوما يكتشف هذه الأشياء قبل أي شخص آخر. إنه يعرف متي يكون اليوم مناسبا لصيد السمك ومتى ستمطر. وهو لا يخطئ أبدا.»
قال الجد فجأة: «أجل ... إنه لشيء غريب. إنه لا يخطئ أبدا ... على الأقل طوال السنوات التي عرفته فيها.»
وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي قال فيها أي شيء أثناء تناول الطعام، وحاولت أوليفيا ملء الفراغات في الحديث، لكنها وجدت الأمر صعبا، بوجود الصبي جالسا قبالتها وقد بدا عليه الشحوب والمرض الشديدين. أحيانا كان يخيل إليها أنه لم يولد قط، وأنه ظل على الدوام بطريقة أو أخرى جزءا منها. وعندما يكون بعيدا عن ناظريها، لم تكن تعرف للراحة سبيلا لأنه كان يستحوذ عليها دوما شعور بالرعب من أنها ربما لن تراه ثانية أبدا. وكانت تعرف أن بداخل ذلك الجسد الضعيف روح، شعلة متأججة، متحدرة من الرجل المسن ومنها هي نفسها، تتقد برغبة متحمسة للحياة ولركوب الخيل والسباحة والركض عبر المروج المفتوحة ... شعلة يجب إخمادها دوما. ليته كان مثل أبيه، آنسون، الذي لم يعرف أبدا هذا التعطش للحياة ...
تحدث الرجل المسن قائلا: «عزيزتي أوليفيا ... هلا شربت قهوتك معي في المكتبة؟ ثمة شيء أريد أن أناقشه معك.»
حينئذ عرفت. لقد كانت محقة. كان ثمة شيء يكدره. كان دوما يقول الشيء نفسه كلما واجهته مشكلة عويصة للغاية تعجز كتفاه الهرمتان عن حملها. كان يقول دوما في مثل هذه الظروف: «عزيزتي أوليفيا ... هلا أتيت إلى المكتبة؟» لم يستدع مطلقا ابنه، أو أخته كاسي ... لا أحد سوى أوليفيا. كانا يتشاركان فيما بينهما أسرارا لا يمكن لأحد أن يتخيلها أبدا؛ وحين يموت، ستنتقل إليها كل هذه المشاكل ... ستئول إليها لتتعامل معها ... تلك المشاكل الموجودة في عائلة يقول عنها العالم إنها عائلة ثرية ومحترمة وتكاد تخلو من المشاكل.
4
بينما كانت تهم بمغادرة الغرفة لتتبعه، توقفت برهة لتتحدث إلى سيبيل قائلة: «هل أنت سعيدة يا عزيزتي؟ ألست نادمة على عدم عودتك للدراسة بسان كلود؟» «لست نادمة، يا أمي؛ ولم لا أكون سعيدة هنا؟ أنا أحب المكان، أكثر من أي شيء آخر في الدنيا.»
دست الفتاة يديها في جيوب معطفها المخصص لركوب الخيل. «ألا تظنين أنني أخطئت بإرسالك إلى فرنسا للدراسة ... بعيدا عن الجميع هنا؟»
ضحكت سيبيل ونظرت إلى والدتها بالطريقة الصريحة المعهودة المنطوية على بعض السخرية حين تظن أنها كشفت مؤامرة. «هل أنت قلقة بشأن تزويجي؟ ما زلت في الثامنة عشرة من عمري. أمامي الكثير من الوقت.» «أنا قلقة لأنني أظن أنه سيكون من الصعب إرضاؤك.»
ضحكت مرة أخرى. وقالت: «هذا صحيح. ولذلك سأتمهل.» «هل أنت سعيدة بوجود تيريز هنا؟» «بالتأكيد. أنت تعرفين أنني أحب تيريز كثيرا يا أمي.» «عظيم ... هيا اذهبي الآن. يجب أن أتحدث مع جدك.»
وخرجت الفتاة إلى الشرفة حيث وقف جاك تحت أشعة الشمس في انتظار عربة الخيول. كان دوما يتبع الشمس أينما كانت، ويجلس طواعية تحت أشعتها حتى ولو كان هذا في منتصف فصل الصيف، كما لو أنه لم يكن يشعر أبدا بدرجة كافية من الدفء.
كانت قلقة على سيبيل. وكانت قد بدأت تظن أن العمة كاسي ربما كانت محقة حين قالت إنه حري بسيبيل أن تلتحق بمدرسة داخلية مع البنات اللاتي لطالما عرفتهن، لتصبح أكثر ثرثرة وصخبا ومشاغبة وتلعب الهوكي وتتبادل الرسائل القصيرة السخيفة مع الصبيان في المدرسة الداخلية الموجودة في القرية المجاورة. ربما كان من الخطأ إرسال سيبيل للدراسة في مدرسة بالخارج حيث من شأنها أن تقابل فتيات من فرنسا وإنجلترا وروسيا وأمريكا الجنوبية ... أي من نصف بلدان العالم؛ مدرسة ستضطر فيها، مثلما قالت العمة كاسي بمرارة، إلى مصادقة «بنات راقصات ومغنيات أوبرا». عرفت الآن أن سيبيل لم يعجبها الحفل الراقص تماما مثل تيريز التي هربت منه دون إعطاء أي تفسير. لكن في حالة تيريز، لم يكن الأمر ذا أهمية كبيرة، لأن رأسها العنيد كان يعج بألوان شتى من الأفكار الجامحة بخصوص العلم والرسم والكتب الغريبة عن علم النفس. كان ثمة شعور بالوحدة يكتنف تيريز وأمها، سابين كاليندار، ولكن في حالتهما لم يكن هذا يهم. كانتا تتحليان، أيضا، بصلابة وبقدر من السخرية والازدراء كان يحميهما. لم يكن لدى سيبيل أي من هذه الإسقاطات. ربما أخطأت أيضا في تحويلها لسيبيل إلى «سيدة مجتمع راقية» - سيدة مجتمع راقية بالمعنى القديم للكلمة - لأنه بدا أنه لا يوجد مكان لنموذج سيدة المجتمع في منظومة الحياة كما ظهرت في الحفل الراقص الليلة السابقة. كان من الخطير أن يكون لديك سيدة مجتمع راقية، لا سيما سيدة مجتمع عازمة على الخوض في الدنيا بشغف كما تفعل سيبيل.
أرادت للفتاة أن تكون سعيدة، دون أن تدري أن السبب وراء هذا أن سيبيل كانت تبدو مثلما كانت هي نفسها ذات يوم، وكانت جزءا أصيلا من نفسها، الجزء الذي لم يعش الحياة على الإطلاق. •••
وجدت حماها يجلس إلى مكتبه الماهوجني الضخم في الغرفة العالية السقف الضيقة التي تغطي حوائطها كتب كانت مقدسة عنده، ومن هذا المكتب كان يدير المزرعة ويتعهد ثروة، بنيت تدريجيا بفطنة، وبتدبير على مدار أكثر من ثلاثمائة عام، ثروة لم يستطع أبدا أن يأتمن عليها ابنه. ففي هذه الغرفة الساحرة، بكآبتها وبرودها، ورائحة الكلاب والتفاح ودخان الخشب الذي يفوح منها، وأحيانا رائحة الويسكي، كان ينعزل الرجل المسن حين تنتابه نوبة هيستيرية متسمة بالحيرة، ويفقد الإدراك من الإفراط في الشراب. هنا كان أحيانا يجلس ليلا ونهارا، بل ويخلد إلى النوم على كرسيه الجلدي، رافضا مقابلة أي شخص باستثناء هيجينز، الذي كان يرعاه، وأوليفيا. ولذلك كانت أوليفيا وهيجينز وحدهما هما اللذان يعرفان بأمر هذه العزلة وتناول الشراب منفردا. ولم يكن العالم الخارجي، وحتى العائلة نفسها، يعرفان عن هذا الأمر إلا القليل - فقط القليل الذي كان يتسرب أحيانا عبر نميمة الخدم الذين يتسكعون ليلا في الأزقة المظلمة وحول السياجات المحيطة بدورهام.
جلس وأمامه قهوته وكأس من كونياك كورفوازييه بينما أخذ يدخن، ومظهره يدل على الاستغراق في قلق عارم؛ إذ إنه لم يرفع بصره على الفور حين دخلت الغرفة، وإنما جلس يحدق أمامه بطريقة غريبة وكأنه مسحور. ولم يرفع بصره إليها إلا على صوت إشعال الثقاب عندما سحبت سيجارة من العلبة الفضية وأشعلتها، وقال لها وهو يركز عينيه السوداوين المتقدتين: «جاك يبدو في حالة جيدة جدا اليوم.» ••• «أجل، أفضل مما كان عليه منذ فترة طويلة.» «ربما يكون الأطباء مخطئين، في نهاية المطاف.»
تنهدت أوليفيا وقالت بنبرة هادئة: «لو كنا صدقنا الأطباء، لكنا فقدناه منذ وقت طويل.» «أجل، هذا صحيح.»
صبت قهوتها بينما كان يتمتم قائلا: «ما أردت أن أحدثك بخصوصه هو هوراس بينتلاند. لقد مات. وصلني الخبر هذا الصباح. لقد مات في بلدة منتون بفرنسا، والسؤال الآن ما إذا كان ينبغي أن نحضره إلى الديار هنا ليدفن في دورهام مع بقية أفراد الأسرة.»
صمتت أوليفيا للحظة ثم رفعت عينيها قائلة: «ما رأيك أنت؟ منذ متي وهو يعيش في منتون؟» «لقد مر ما يقرب من ثلاثين عاما منذ بدأت أرسل إليه المال ليبقى هناك. إنه مجرد ابن عم لي. ومع ذلك، نحن نشترك في نفس الجد وسيكون هو أول فرد من أفراد العائلة لا يدفن هنا منذ ثلاثمائة عام.» «حدث ذلك مع سافينا بينتلاند ...» «أجل ... ولكنها مدفونة هناك، وكانت ستدفن هنا لو كان ذلك ممكنا.»
وأشار بيده في اتجاه البحر، إلى ما وراء الأهوار حيث ترقد الجميلة سافينا بينتلاند، التي كادت الآن أن تصير أسطورة، في مكان ما على عمق سحيق وسط الرمال البيضاء الناعمة في قاع المحيط.
تساءلت أوليفيا قائلة: «هل كان سيرغب في أن يدفن هنا؟» «كتب لي رسالة وطلب مني ذلك ... قبل شهر أو شهرين من وفاته. بدا أن الأمر كان في ذهنه. لقد صاغه بطريقة غريبة. كتب لي أنه يريد أن يعود إلى الديار.»
مجددا استغرقت أوليفيا في تفكير عميق لبعض الوقت. وبعد قليل تمتمت قائلة: «غريب ... مع أن الناس كانوا قساة معه.»
تصلبت شفتا الرجل المسن قليلا. «كانت غلطته هو ...» «ومع ذلك ... ثلاثون عاما مدة طويلة .»
نفض رماد سيجاره ونظر إليها بحدة. وقال: «أتقصدين أن كل شيء ربما أصبح الآن في طي النسيان؟»
أشارت أوليفيا بحركة صغيرة من يديها البيضاوين، الخاليتين من الخواتم، قائلة: «ولم لا؟» «لأن الناس لا ينسون أمورا من هذا القبيل ... ليس في عالمنا، على أي حال.»
بهدوء، في أعماق سريرتها، ظلت أوليفيا تحاول تخيل هذا المدعو هوراس بينتلاند الذي لم تره مطلقا، ذلك الشيخ الغامض، الميت حاليا، الذي كان قد أبعد قبل ثلاثين عاما. «أليس لديك أي أسباب لعدم رغبتك في أن يكون هنا بين الآخرين جميعهم؟» «أجل ... هوراس الآن ميت ... ولا يهم كثيرا إن دفن رفاته هنا أو في فرنسا.» «باستثناء، طبعا، أنهم ربما كانوا هناك أكثر لطفا معه ... ليسوا قساة القلوب للغاية.»
غشيتهما فترة من الصمت، كما لو أن روح هوراس بينتلاند، الآثم الذي لم يكن اسمه يذكر مطلقا بين أفراد العائلة عدا فيما بين أوليفيا والرجل المسن، قد عادت بطريقة ما ووقفت بينهما، في انتظار أن تسمع مصير رفاته على هذه الأرض. كانت فترة الصمت هذه واحدة من الفترات التي، عندما تكتنف المنزل العتيق، كانت أحيانا تغمر أوليفيا باضطراب غامض. وكانت عادة ما تكتنف أهل البيت في الأمسيات الطويلة التي يجلس فيها جميع أفراد العائلة ليقرءوا في غرفة الجلوس العتيقة - كما لو أن أشباحا غير مرئية واقفة تراقبهم.
قالت أوليفيا: «إذا أراد أن يدفن هنا، فلا أرى سببا يمنع ذلك.» «ستعترض كاسي على نبش فضيحة قديمة نسيت.» «بالتأكيد هذا لا يهم الآن ... بعدما مات الشيخ المسكين. يمكننا أن نكون لطفاء معه الآن ... قطعا يمكننا أن نكون لطفاء معه الآن.»
تنهد جون بينتلاند فجأة تنهيدة غريبة من فؤاد منكسر وبدت وكأنها أفلتت من قدرته على إحكام السيطرة على مشاعره، وبعد لحظة قال: «أظن أنك محقة يا أوليفيا ... سأفعل ما تقولينه ... لكننا فقط سنبقي الأمر سرا فيما بيننا حتى يحين الوقت الذي يتحتم علينا فيه أن نتكلم. وحينئذ ... حينئذ سنقيم جنازة هادئة.»
كانت ستتركه حينئذ وتغادر لولا أنها عرفت من طريقته أن ثمة شيئا آخر يريد أن يقوله. إذ كانت لديه طريقة تجعلك تعرف رغبته دون كلام. بطريقة ما كنت تشعر في حضرته أنه من المستحيل أن تنصرف إلا بعد أن يصرفك هو. وكان لا يزال يعامل ابنه، الذي كان يبلغ من العمر خمسين عاما تقريبا، كما لو كان صبيا صغيرا.
انتظرت أوليفيا، وأخذت تشغل نفسها بإعادة ترتيب زهور الليلك الجديدة التي وضعت في مزهرية طويلة فضية اللون على المكتب المصقول المصنوع من خشب الماهوجني.
قال فجأة: «رائحتها زكية. هذه آخر ما سيتفتح منها، أليس كذلك؟» «آخره حتى فصل الربيع القادم.»
قال مكررا كلماتها وكأنه يكلم نفسه: «الربيع القادم ... الربيع القادم ...» ثم قال فجأة: «الأمر الآخر الذي أود أن أحدثك بشأنه هو سابين. الممرضة أخبرتني أنها اكتشفت أن سابين هنا.» وأشار نحو الجناح الشمالي القديم بالإشارة التي يستخدمها أفراد العائلة عندما يتحدثون عن المقيمة فيه. وأردف قائلا: «لقد طلبت أن ترى سابين.» «ومن الذي أخبرها بأن سابين قد عادت؟ كيف تسنى لها أن تكتشف ذلك؟» «الممرضة لا تعرف. لا بد أنها سمعت أحدا ما يذكر الاسم تحت نافذتها. تقول الممرضة إن من يعانون من حالتها الصحية لديهم طرق غريبة لاكتشاف مثل هذه الأمور ... وكأن لديهم حاسة سادسة.» «هل تريد مني أن أطلب ذلك من سابين؟ ستأتي إذا طلبت منها ذلك.» «سيكون هذا بغيضا. بالإضافة إلى ذلك، أظن أن هذا قد يوقع ضررا بطريقة ما.»
لاذت أوليفيا بالصمت للحظة. ثم قالت: «كيف؟ ربما لن تتذكر سابين. عندما رأتها آخر مرة، كانت سابين شابة.» «لقد تشكلت لديها الآن فكرة أننا جميعا ضدها، وأننا جميعا نضطهدها بطريقة ما.» سعل ونفث سحابة من الدخان من بين شفتيه الرفيعتين. وتابع قائلا: «من الصعب أن أشرح ما أقصده ... أقصد أن سابين ربما تشجع ذلك الشعور ... دون أن تقصد سابين ذلك على الإطلاق، ربما تعطيها انطباعا بأنها حليفة لها. ثمة شيء مزعج بشأن سابين.»
قالت أوليفيا برفق: «آنسون يظن ذلك أيضا. لقد تحدث معي بخصوصه.» «ما كان ينبغي أبدا أن تعود إلى هنا. إنه صعب ... ما أحاول أن أقوله. كل ما في الأمر أنني أشعر بأنها تنوي التسبب في أذى ما. أظن أنها تكرهنا كلنا.» «ليس كلنا ...» «ربما لا تكرهك أنت. فأنت لم تنتمي إلى هنا أبدا. فقط أولئك الذين بقوا منا هنا دوما.» «ولكنها مولعة بك.» «كنت أنا وأبوها صديقين مقربين. كان يشبهها جدا ... سيئ الطبع وميالا إلى قول الحقائق البغيضة ... لم يكن رجلا محبوبا. ربما لهذا السبب هي ودود تجاهي ... بسببه.» «كلا، الأمر يفوق ذلك ...»
تدريجيا شعرت أوليفيا بأنها تعاود الانزلاق في تلك الحالة من الذهول المضطرب الذي صار يستحوذ عليها أكثر فأكثر في الآونة الأخيرة. بدا أن الحياة تزداد هشاشة وتعقيدا، وإبهاما وغموضا، إلى أن صارت أحيانا مجرد مستنقع للمشكلات الدقيقة وجدت نفسها عالقة في خضمه وعاجزة عن التصرف. لم يعد أحد يتحدث حديثا مباشرا. كان الأمر أشبه بالعيش في عالم من الألغاز. وهذا الرجل المسن، حموها، كان هو اللغز الأعظم على الإطلاق، لأنه من المستحيل مطلقا أن تعرف إلى أي مدى كان يفهم ما يدور من حوله، وإلى أي مدى يختار التجاهل من منطلق الاعتقاد بأن إنكار وجود الأمر سيؤدي إلى زواله.
جلست في حيرة من أمرها، وبدأت تنتزع ورقة من أوراق عنقود زهور الليلك وتمزقها إلى قطع صغيرة.
قالت: «أحيانا، أظن أن سابين تعيسة.» «كلا ... الأمر ليس كذلك ... إنها متجاوزة لمشاعر السعادة أو التعاسة. إن فيها صلابة وعنادا لا يلين ... صلابة تضاهي صلابة ماسة مصقولة. إنها امرأة ذكية وغريبة الأطوار. إنها واحدة من تلك المخلوقات الغريبة التي يتخلص منها أناس مثلنا من وقت لآخر. لا شيء يشبههم تماما في هذا العالم. إنهم يمضون لأقصى وأغرب حدود التطرف. كان هوراس مماثلا لها، ولكن بطريقة مختلفة وأقل مصداقية.»
فجأة نظرت إليه أوليفيا، مندهشة من ومضة الذكاء والتبصر المفاجئة التي أبداها الرجل المسن، واحدة من تلك اللمحات المفاجئة الخاطفة التي جعلتها تعتقد أنه، في أعماق روحه، كان أكثر عمقا، وأكثر ذكاء، وأكثر عنادا وتحديا للتقاليد مما سمح للعالم أن يظن. كان السؤال القديم يتردد دوما في ذهنها. ما مدى ما كان يعرفه؟ وما مدى ما لم يكن يعرفه ... وراء الوجه المجعد القاسي المتصلب الهرم؟ أم أنها كانت نوعا من الفراسة، ليست نابعة من مرض مزمن، كما هو الحال مع جاك، وإنما من التقدم في العمر؟
قالت: «سأسأل سابين.» «هذا ليس ضروريا في الوقت الحالي. يبدو أنها نسيت الأمر مؤقتا. ولكنها ستتذكره مجددا وحينها أظن أنه سيكون من الأفضل مجاراتها، مهما كانت العواقب. لعلها لن تفكر في الأمر مجددا لأشهر ... إلى أن تكون سابين قد رحلت ... أردت فقط أن أسألك ... أن أستشيرك يا أوليفيا. ظننت أن بإمكانك أن ترتبي الأمر.»
نهضت، وبينما كانت تستدير لتغادر، سمعته يقول: «ربما تحب أن ترى بعض زهور الليلك في غرفتها.» تردد ثم أضاف بصوت جامد، هامد: «كانت مغرمة جدا بالزهور فيما مضى.»
قالت أوليفيا في نفسها وهي تتحاشى النظر إلى عينيه الداكنتين: «كانت مغرمة جدا بالزهور فيما مضى ... هذا يعني قبل أربعين عاما ... أربعين عاما طويلة. أوه، يا إلهي!» ولكن بعد ثانية قالت ببساطة: «لقد بدأت تكره الزهور. إنها تتخيل أنها تمتص الهواء وتخنقها. رؤيتها أمر سيئ جدا لها.» «كان ينبغي أن أعرف أنك فكرت في ذلك بالفعل.»
للحظة وقف العجوز في مواجهتها وعلى وجهه تعبير ثابت ومتفحص جعلها تشعر بالخجل ودفعها إلى أن تشيح بوجهها عنه قليلا؛ ثم فجأة، وبمسلك تشوبه هيبة غريبة وخوف من الرجل المتجهم المظهر، أمسك بيدها وقبل جبينها وهو يتمتم: «أنت فتاة صالحة يا أوليفيا. إنهم محقون فيما يقولونه عنك. أنت فتاة صالحة. لا أعرف كيف كان سيتسنى لي اجتياز كل هذه السنوات من دونك.»
نظرت إليه مبتسمة، ولمست يده في مودة، ثم خرجت دون أن تتحدث مجددا، وهي تفكر، كما فعلت من قبل آلاف المرات، في مدى بشاعة أن يكون المرء منذ مولده عاجزا عن الإفصاح عن مشاعره وخائفا منها مثل جون بينتلاند. قالت في نفسها لا بد أن الأمر أشبه بأن يعيش المرء مسجونا إلى الأبد داخل قوقعة فولاذية يمكنه أن يطل منها ويرى أصدقاءه ولكن دون أن يلمسهم أو يعرفهم.
ومن مدخل الباب، سمعت صوتا من ورائها، يقول بنبرة شبة مرحة: «لا بد أن الأطباء أخطئوا بشأن جاك. لقد غلبناهم أنا وأنت معا يا أوليفيا.»
أجابت: «أجل»، وابتسمت له، ولكن عندما استدارت مرة أخرى لتنصرف، طرأت على ذهنها فكرة غريبة ومخيفة بعض الشيء. «ليت جاك يعيش حتى وفاة جده، حينئذ سيموت الرجل المسن سعيدا. ليته يبقى على قيد الحياة حتى ذلك الحين ...»
كانت لديها طريقة غريبة في رؤية الأمور في ضوء الحقيقة القاسية، ولقد عززت طفولتها البائسة والوحيدة هذه السمة الشخصية فيها. كانت قد جبلت على هذا، والآن بعدما صارت امرأة ناضجة وجدت أن الأمر بطريقة ما لم يكن نقمة بقدر ما هو نعمة. ففي عالم اعتمد على خداع أفراده لأنفسهم، اكتشفت أن رؤية الحقيقة ومعرفتها جعلتها قوية. وربما لهذا السبب أصبحوا جميعا يعتمدون عليها. ولكن مرت عليها أيضا أوقات رغبت فيها بشدة أن تكون أنثى ضعيفة ومسكينة، امرأة ربما تلجأ إلى زوجها وتجد فيه شخصا أقوى منها. انتابها شعور غريب بالحسد تجاه سافينا بينتلاند، التي ماتت قبل أن تولد ... سافينا بينتلاند التي كانت أيقونة الجمال في هذه العائلة، الأنثى المبذرة الطائشة، التي اشترت عقودا من اللؤلؤ واستسلمت لنوبات البكاء والإغماء.
ولكن لم يكن لديها (أوليفيا) أحد لتعتمد عليه سوى آنسون. •••
وبعدما انصرفت جلس الرجل المسن مدة طويلة يدخن ويشرب البراندي، تكتنفه وحدة صارت أشد قليلا مما كانت عليه قبيل أن يجلس ليتحدث مع أوليفيا. كان من عادته أن يجلس هكذا أحيانا لمدة ساعة، غافلا، على ما يبدو، عن العالم من حوله؛ لقد دخلت أوليفيا أكثر من مرة في مثل تلك اللحظات وانصرفت مرة أخرى، غير راغبة في فك التعويذة ولو حتى بكلمة واحدة.
وأخيرا، عندما احترق السيجار حتى نهايته، سحق العقب المشتعل بحركة مقتضبة وعنيفة، ثم هب واقفا وخرج من الغرفة العالية السقف الضيقة ومنها إلى الردهة المؤدية إلى الدرج المظلم المفضي إلى الجناح الشمالي العتيق. كان قد اعتاد صعود هذه الدرجات كل يوم منذ أن صار من الضروري إبقاء زوجته في الريف طوال العام ... كل يوم، في الساعة نفسها، درجة تلو الأخرى، وطئ بحذائه الثقيل الضخم نفس السجادة البالية التي كانت تكسو السلالم. كانت الرحلة قد بدأت قبل عام مضى كنوع من المتعة المفعمة بالأمل، والتي صارت الآن بعد فترة طويلة، مجردة من الأمل تماما، وصارت مجرد مهمة كئيبة ومملة. كانت أشبه برحلة تكفير عن الذنوب يقطعها حاج زحفا على ركبتيه صاعدا درجات لا تحصى من السلالم.
وعلى مدار أكثر من عشرين عاما، وبقدر ما بوسع أوليفيا أن تتذكر، لم يتغيب جون بينتلاند عن المنزل ليلة إلا مرتين فقط، وحينها كانت في ظرف حياة أو موت. وطيلة ذلك الوقت، سافر إلى نيويورك مرتين ولم يسافر مطلقا إلى أوروبا منذ أن كان صبيا حين قام بالجولة الكبرى التي وضع خطتها الجنرال كورتيس العجوز ... منذ فترة بعيدة للغاية لدرجة أنها بدت حتما جزءا من حياة أخرى. وطوال كل هذه السنوات، لم يهرب مطلقا ولو لمرة واحدة من العالم الذي اعتبرته عائلته مثاليا وكاملا، والذي حتما بدا له دوما عالما مقيدا وغير كاف بعض الشيء. وربما يقول المرء إن القدر وصلة الدم والظروف أنهكته شيئا فشيئا حتى صار في النهاية يعبد الآلهة نفسها التي كانوا يعبدونها. ومن حين إلى آخر، كان يخطط للهروب منهم قليلا من خلال الاستغراق في الشرب إلى حد فقدان الوعي، ولكنه دائما ما كان يستفيق مرة أخرى ليجد أن شيئا لم يتغير، وليكتشف أن سجنه كان كما هو. وهكذا، لا بد أن الأمل مات تدريجيا.
ولكن لا أحد، ولا حتى أوليفيا، كان يعرف إن كان سعيدا أم تعيسا؛ ولن يعرف أحد حقا ما كان يدور بداخله، في أعماق نفسه، وراء الوجه المسن الأشيب المتغضن.
حين يأتي ذكره، كان الناس يقولون: «لم يوجد مطلقا زوج مخلص مثل جون بينتلاند.»
بتمهل وحزم سار عبر الردهة الضيقة حتى وصل إلى نهايتها، وهناك وقف ليطرق الباب الأبيض. اعتاد دوما أن يطرق الباب؛ لأنه حدث في مرات، عندما دخل فجأة، أن رؤيته أثرت عليها بشدة لدرجة أنها دخلت في حالة هيسترية وصارت خارج حدود السيطرة تماما.
واستجابة للطرق، فتح الباب برفق واحترافية من جانب الآنسة إيجان، وهي ممرضة أنيقة وبارعة ومنعدمة المشاعر ومتيبسة للغاية؛ وبدا أن ابتسامتها كانت تظهر وتختفي بطريقة ميكانيكية، مثل الأصوات التي تصدر عند الضغط على دمية آلية. ولكن كان من المستحيل أن يتخيل المرء الضغط على أي شيء متيبس وخشن للغاية كالآنسة إيجان ذات الوجه المتورد. كانت ابتسامة تظهر فجأة بمجرد رؤية أي فرد من أفراد العائلة، ابتسامة تواضع زائف مفادها: «أعلم جيدا أنكم لا تستطيعون الاستغناء عني»؛ ابتسامة امرأة راضية جدا بتقاضي أجر ثلاثة أضعاف ما تتقاضاه ممرضة عادية. وفي غضون ثلاث أو أربع سنوات، سيكون لديها ما يكفي من المدخرات لتفتتح مصحتها الخاصة.
عدلت ابتسامتها، وواجهت الرجل المسن، قائلة: «إنها تبدو بحالة جيدة جدا اليوم ... جيدة جدا.»
وعندما فتح الباب، عبأت الرواق بأكمله رائحة كثيفة ومعقدة تتصاعد من الأدوية التي تفوق الحصر المتراصة في صفوف فوق بعضها في عتمة الغرفة المظلمة. دخل الرجل المسن الغرفة وأغلق الباب خلفه بسرعة؛ نظرا لأنها كانت تتأثر بالإضاءة الشديدة. فلم يكن يمكنها أن تتحمل وجود باب مفتوح أو نافذة مفتوحة بالقرب منها؛ وحتى في هذا اليوم المشرق أبقت الستائر المنسدلة الغرفة في ظلام دامس.
كانت قد ترسخت لديها فكرة أن أناسا بالخارج كانوا ينتظرون ليتلصصوا عليها ... مئات منهم يضغطون وجوههم على الألواح الزجاجية ليختلسوا النظر إلى غرفة نومها. مرت أيام تعذر فيها تهدئتها إلى أن غطيت ستائر النوافذ بطبقات سميكة من القماش الأسود. وكانت لا تنهض من سريرها إلا عند حلول الظلام خوفا من أن تراها الوجوه التي بالخارج واقفة مرتدية ثياب نومها.
وفقط عندما يحل الظلام كان بوسع الممرضة، عن طريق التحايل والمراوغة، تهوية الغرفة، ولهذا كانت تفوح منها رائحة كريهة منبعثة من الأدوية التي لم تتناولها قط، ولكنها ظلت موضوعة مرتبة بجوارها، صفا تلو الآخر، كما لو أنها تعاويذ أطباء مشعوذين. هكذا كانوا يجارونها مثلما كانوا يجارونها في حجب أشعة الشمس؛ لأن هذه كانت الطريقة الوحيدة التي أمكنهم بها أن يبقوها هادئة ويتجنبوا إرسالها إلى مكان ما كان من شأنها أن تحبس فيه خلف القضبان. وهذا أمر ما كان جون بينتلاند ليفكر، مجرد تفكير، فيه.
عندما دخل وجدها مستلقية على الفراش، وجسدها النحيف والهزيل لا يكاد يبين من تحت أغطية الفراش ... مجرد شبح امرأة كانت يوما جميلة بطريقة رقيقة. ولكن لم يبق الآن شيء من هذا الجمال باستثناء الشكل البديع للذقن والأنف والحاجبين. كانت مستلقية هناك، امرأة عجوز غريبة الأطوار غير واقعية، ذات شعر أبيض خفيف، وبشرة رقيقة أشبه برق كتابة، ووجه أخرق خال من التعبيرات بلا تجاعيد وكأنه وجه طفل. وعندما جلس بجانبها، انفتحت العينان الزرقاوان المستديرتان الخاليتان من التعبير وحدقتا فيه دون أي أمارة على أنها تعرفت عليه. أمسك في يده بإحدى اليدين النحيفتين ذواتي العروق الزرقاء، ولكنها ظلت، فحسب، هامدة، بينما جلس في صمت وترفق يراقبها.
مرة واحدة تكلم، مناديا إياها بلهفة باسمها، «أجنيس»؛ ولكن لم تأته أي علامة على رد، ولا حتى اختلاج واهن للجفون البيضاء الشفافة.
ومن ثم جلس طويلا هكذا في الظلام الدامس، تحيط به الرائحة الكريهة للأدوية، إلى أن استفاق على طرق على الباب وظهور مفاجئ لضوء النهار عندما فتح الباب ودخلت الآنسة إيجان، بعدما ضبطت ابتسامتها الخاطفة الكاشفة عن أسنانها، وقالت: «انتهت الخمس عشرة دقيقة يا سيد بينتلاند.»
وبعدما أغلق الباب خلفه، غادر مبتعدا وهبط على مهل وبتأن درجات السلم المتهالكة مرة أخرى وخرج إلى أشعة شمس نيو إنجلاند الربيعية الساطعة جدا. مارا بالشرفة الخضراء، المحاطة بباقات كبيرة من زهور السوسن والفاوانيا وعدد قليل من زهور التوليب الجديدة، شق طريقه إلى ساحة الإسطبل، حيث كان هيجينز قد ترك الفرس الحمراء في عهدة صبي بولندي كان يؤدي مهام غريبة في أرجاء المزرعة. وقفت الفرس، التي تضاهي في جمالها ورقتها زنبركا فولاذيا جميلا، في توتر تنبش الحصى بحوافرها وتهز رأسها الجميل. وبعيدا عنها وقف الصبي، الذي كان صبيا أخرق جدا ذا شعر أصفر كثيف، ممسكا بزمامها وذراعه مفرودة.
وما إن رآهما الرجل المسن حتى ضحك وقال: «يجب ألا تدعها تستشعر خوفك منها يا إجناز.»
أفلت الصبي الزمام وتراجع إلى الخلف مسافة قصيرة، وهو لا يزال يراقب الفرس باستياء. ثم قال متجهما: «حسنا، حاولت أن تعضني!»
وبسرعة، برشاقة الشباب، قفز جون بينتلاند على ظهر الفرس ... بسرعة كانت كافية لأن تمنعها من الانزلاق بعيدا عنه. وجرى صراع عنيف قصير بين الفارس والفرس، ووسط وابل من الحجارة انطلقا بسرعة مبتعدين على الطريق المؤدي إلى المروج، مرورا بأجمة أشجار الصنوبر السوداء ومقلع الحجارة المهجور، في اتجاه منزل السيدة سومز.
الفصل الرابع
في الركن الوطيد من العالم المحيط بقرية دورهام، لعبت العمة كاسي دور الساعي غير الرسمي الذي يتنقل من منزل إلى آخر، ومن ساحة إلى أخرى، لجمع آخر الأخبار ونقلها. فحين كان أي امرئ يرى سحابة منخفضة من الغبار تتحرك عبر سماء نيو إنجلاند المتألقة فوق الأسيجة والجدران الحجرية للريف، كان يمكنه أن يكون متيقنا من أنها كانت تخفي وراءها خط سير كاسي سترازرس في جولة زياراتها اليومية. كانت تذهب دوما سيرا على الأقدام؛ لأنها كانت تكره السيارات وتخاف من الخيول؛ وكان يمكن للمرء أن يراها قادمة من مسافة بعيدة، متشحة دوما بالسواد، تتمايل بخفة كبيرة (مقارنة بامرأة في سنها ومعروف عنها إصابتها بأسقام). وعادة ما كان يتوقع وصولها في وقت محدد، ما لم تعترض طريقها كارثة أو خبر يثير اهتماما غير عادي؛ إذ كانت امرأة دقيقة في مواعيدها وحياتها منظمة بمنتهى الدقة، مثل المنزل الكبير الذي كانت تعيش فيه مع العمة بيلا الغريبة الأطوار.
كان هذا المنزل عبارة عن مسكن بناه الراحل السيد سترازرس، في الأيام التي شاع فيها بناء القباب وشرفات المراقبة، على الأرض التي منحه إياها جد العمة كاسي في يوم زفافها. وفي الداخل كان مفروشا بعدد وافر من الشراريب الفخمة وأغطية الكراسي، جميعها منظمة ومرتبة بعناية كما لو كانت في متحف. لم يكن يوجد أبدا أي رماد سيجار على الأرضية، ولا أي غبار في الأركان، لأن العمة كاسي كانت تلاحق خدمها بعين ضابط جيش عجوز صعب الإرضاء يتفقد ثكناته. عاشت الآنسة بيفي المسكينة، التي ازدادت حالتها سوءا وبؤسا مع تقدمها في العمر، حياة محفوفة بخطر مستمر، واضطرت لبناء منزل صغير بالقرب من الاسطبلات لإيواء كلابها الصغيرة من سلالة بومرينيان وقططها السيامية. وذلك لأن العمة كاسي عجزت عن تحمل فكرة «توسيخ الحيوانات للمنزل.» وحتى «غرفة الاستراحة» الخاصة بالراحل السيد سترازرس كانت قد تحولت منذ وفاته إلى متحف نظيف وخال من التبغ والويسكي، حيث وضع كرسيه خلف مكتبه، بمسافة فاصلة تبعده عن المكتب قليلا، كما لو كانت روح صاحبه لا تزال جالسة هناك. وعلى المكتب وضع غليونه (بالضبط كما تركه) وأكوام الورق المرتبة (التي كان ينفض عنها الغبار بعناية كل يوم دون العبث بها) التي كان قد وضعها هناك بيده في صبيحة اليوم الذي وجدوه فيه جالسا على الكرسي، ورأسه راجعا للوراء قليلا، كما لو كان نائما. وفي منتصف المكتب وضع كتابان مربوطان معا بشكل أنيق - عنواناهما: «أفاريز بيوت بوسطن القديمة» و«جولات ومحادثات في باحات كنائس نيو إنجلاند» - كان قد كتبهما في هذه السنوات الحزينة الأخيرة التي بدت فيها حياته تذوي شيئا فشيئا ... السنوات التي بدا فيها أن العمة كاسي كانت تستعيد بسرعة قوتها وصحتها التي اشتهرت بها عندما كانت شابة.
قال الناس إن السيد سترازرس كان قد شيد هذا المنزل في انتظار أن تصبح لديه أسرة كبيرة، لكنه ظل كبيرا ومفتقرا لأصوات الأطفال كالقبر منذ اليوم الذي تم فيه الانتهاء من بنائه؛ وذلك لأن العمة كاسي لم تنعم مطلقا بالقوة اللازمة لأن تنجب له ورثة إلا بعد فوات الأوان.
كان لدى سابين كاليندار مجموعة كاملة من النظريات حول منزل العمة كاسي وحياتها الزوجية، لكنها كانت نظريات أبقتها بالكامل، بطريقتها الخاصة، لنفسها، وظلت تنتظر وتراقب حتى تتأكد من صحتها. كان يوجد شعور متبادل بكراهية شديدة ويصعب وصفها بين السيدتين، شعور قوي بالضغينة استتر تحت العبارات المهذبة والملاحظات العابرة ذات الطابع اللاذع. وكانتا تلتقيان بشكل متكرر أكثر مما كانت تأمل العمة كاسي؛ وذلك لأن سابين، عند عودتها إلى دورهام، أصبحت مثل العمة كاسي معتادة على التنقل من منزل إلى منزل سيرا على الأقدام بحثا عن الأخبار والتسلية. التقتا في غرف الجلوس، وفي الساحات، وأحيانا في الطرق المغبرة جدا، وكانت كل واحدة منهما تلقي التحية على الأخرى بابتسامات ونظرات خبيثة. كانتا قد صارتا أشبه بقطتين عدوانيتين تراقب إحداهما الأخرى خلسة لأيام في المرة. وأسرت العمة كاسي لأوليفيا أن سابين كانت تصيبها بالتوتر.
ورغم ذلك، كانت العمة كاسي هي أول من زار منزل «بروك كوتيدج» بعد وصول سابين. شاهدتها السيدة الأصغر سنا من نافذة المنزل وهي تقترب، محاطة بسحابة صغيرة من الغبار، وملأها هذا المشهد بسعادة لا توصف. جاءت السيدة العجوز النحيلة مفعمة بالنشاط، لا تكاد تطيق صبرا، تملؤها البهجة (هكذا اعتقدت سابين) لأن لديها الآن ذريعة للتعدي على أرض أوهارا ورؤية ما فعله بالمنزل العتيق. وكانت سابين تعتقد، أيضا، أنها جاءت لتكتشف ما فعلته الحياة ب «ابنة أخت السيد سترازرس العزيز، سابين كاليندار». لقد جاءت باعتبارها مسئولة الاستقبال الرسمية الممثلة للمجتمع المحلي، متمنية من كل قلبها أن ترى سابين عائدة كالابن الضال، امرأة محطمة، دمرها الزمن والتجارب، سيدة كانت لمدة عشرين عاما قد تجاهلتهم جميعا والآن عادت، مخلوقة محطمة وذليلة، وفي أمس الحاجة إلى العطف.
أثار المشهد سلسلة من الذكريات في نفس سابين ... ذكريات تغلغلت بعمق في طفولتها عندما كانت تعيش مع والدها في المنزل القديم الذي كان موجودا يوما ما في نفس المكان الذي بنى عليه أوهارا منزله الجديد بمداخنه المتألقة؛ ذكريات أيام كانت تهرب فيها بمفردها للعب على أعشاب البستان المتشابكة وسط زهور القلب النازف والسوسن التي أحاطت بنفس هذا المنزل الريفي الذي وقفت تشاهد منه قدوم العمة كاسي. باستثناء أنه في تلك الأيام كان منزل «بروك كوتيدج» مكانا خربا، ذا نوافذ مهشمة وأبواب متآكلة، أشبه بكوخ أشباح ويحجبه عن الرؤية تجمع النباتات وتشابكها أمامه، والآن كان متلألئا بطلاء جديد، وتحيطه الأزهار والنباتات المشذبة بعناية.
كان ثمة شيء ما في مظهر السيدة العجوز المتوترة النشيطة، شيء ضرب بعمق في الماضي الذي كانت سابين قد تمكنت إلى حد ما، مع مرور السنين، من نسيانه؛ والآن عاد كله من جديد، بحدة ومصحوبا بنوع من الألم الشديد، بحيث أحست بشعور غريب مفاجئ بأنها عادت فتاة صغيرة ... فتاة عادية، خجولة، صهباء الشعر، يكسو بشرتها النمش، وتقف في رعب من العمة كاسي ودائما ما كانت تتعرض للنقد والتوبيخ من ألف من العمات والأعمام وأبناء الأعمام لأنها لم تكن تجسد فكرتهم عما يجب أن يكون عليه نموذج الفتاة الصغيرة اللطيفة. بدا الأمر وكأن الماضي بأكمله كان مركزا في الهيئة السوداء للسيدة العجوز التي كانت بمثابة زعيمة العصابة، ونائبة الملك لجميع القبائل البعيدة، امرأة عجوز كانت قد بلغت من الكبر عتيا حتى منذ عشرين عاما مضت، ودائما ما كانت تستلقي على أريكة مغطاة بشال، تصدر الأوامر، أو تعبر عن تعاطفها الشديد، أو توجه انتقاداتها المريرة. وها هي الآن، تقترب بخفة، وكأن موت السيد سترازرس قد حررها بطريقة ما من قيود كبلتها وأزعجتها لفترة طويلة للغاية.
بينما كانت سابين تراقبها، مرت أحداث الماضي واحدة تلو الأخرى في ومضات سريعة خلال عقل سابين المتقد، وتجسد أمامها بوضوح شديد وسريع؛ اليوم الذي لاذت فيه بالفرار إلى العالم الخارجي ووجدها العجوز جون بينتلاند مختبئة في أجمة من أشجار البتولا البيضاء تأكل التوت البري بسعادة. (كان بوسعها أن ترى الآن ملامح وجهه، التي كانت صارمة تعبيرا عن رفضه لهذا السلوك الجامح، لكنها هدأت بمجرد رؤيته لهذا الوجه البريء المتسخ المليء بالنمش والملطخ بعصارة التوت). وتذكرت أيضا عودتها كأسيرة حرب، عندما أحاطت بها العمات وألبسنها فستانا نظيفا وأجبرنها على الجلوس في غرفة النوم الإضافية الكئيبة وكتاب العهد الجديد على ركبتيها إلى أن «شعرت أنها يمكنها الخروج والتصرف كفتاة صغيرة لطيفة حسنة التربية.» كان بإمكانها رؤية العمات وهن يتحدثن بالسوء عنها ويقلن: «كم من المخزي أنها لم تشبه والدتها من حيث جمال الطلعة!» و«ستواجه أوقاتا عصيبة بسبب هذا الشعر الأصهب الناعم المنبسط.»
وهناك أيضا ذكرى ذلك اليوم الذي سقط فيه آنسون بينتلاند، الصبي الجبان، الضعيف، الأشبه باللورد الصغير فنتلوري، في النهر وكان سيغرق لولا ابنة عمه سابين، التي سحبته وأخرجته وهو يصرخ ومبتل تماما بالماء، لتتلقى هي كل اللوم والتوبيخ؛ لأنها قادته إلى التصرفات الشقية. وكذلك الأوقات التي عوقبت فيها لأنها طرحت أسئلة صريحة وبسيطة لم يكن ينبغي لها طرحها.
كان من الصعب أن تتذكر أي سعادة حتى اليوم الذي توفي فيه والدها وأرسلت إلى نيويورك، فتاة في العشرين من عمرها، خبرتها بالحياة ضئيلة جدا ولا تعرف أي شيء عن أمور من قبيل الحب والزواج، لتعيش مع عم لها بمنزل ضيق مرتفع السقف في حي موراي هيل. كان هذا هو اليوم (كانت ترى هذا الآن بمنتهى الوضوح وهي تقف تراقب قدوم العمة كاسي) الذي بدأت فيه حقا حياتها. فحتى ذلك الحين كان وجودها مجرد أمر مشوش وموجع ليس فيه سوى القليل جدا من السعادة. ولم تدرك الحقيقة إلا لاحقا، على نحو مؤلم، بل ومأساوي، من خلال سلسلة من الأحداث التي حولتها ببطء إلى هذه المرأة القاسية، المحنكة، المتشائمة التي وجدت نفسها، دون أن تعرف السبب، تعود مرة أخرى للعالم الذي كانت تكرهه، وتقف في نافذة منزل «بروك كوتيدج»، امرأة يعذبها فضول شديد ومفعم بالحياة للغاية بشأن الناس والتشابكات الغريبة التي تفرضها عليهم حياتهم أحيانا.
كانت تقف في النافذة تفكر في الماضي بانهماك شديد لدرجة أنها نسيت تماما قدوم العمة كاسي وفزعت فجأة عندما سمعت نبرة الصوت الفضولية الرقيقة المألوفة، التي كان من المدهش أنها لم تتغير، تنادي من الرواق قائلة: «سابين! عزيزتي سابين! أنا عمتك كاسي! أين أنت؟» وعندئذ شعرت كأنها لم تغادر دورهام على الإطلاق، وكأن شيئا لم يتغير في عشرين عاما.
عندما رأتها السيدة العجوز، تقدمت وهي تصيح بصوت مرتعد لتطوق بذراعيها ابنة أخي زوجها الراحل. كان سلوكها أشبه بسلوك راعي غنم يستقبل شاة ضالة، سلوك مليء بالعفو والشفقة والتعاطف. ترقرقت الدموع في عينيها بمنتهى السهولة وانهمرت على وجهها.
سمحت سابين، بفتور، بأن تعانق، وقالت: «لكنك لا تبدين أكبر سنا ولو بيوم واحد أيتها العمة كاسي. تبدين أقوى من أي وقت مضى.» حددت هذه الملاحظة بطريقة ما الشكل الكامل للعلاقة بينهما، ملاحظة، على الرغم من أنها بدت ودية، بل وتنطوي على مجاملة، كان من القسوة قولها لامرأة اعتزت طيلة حياتها بفكرة الاعتلال. وكان من القسوة قولها أيضا لأنها كانت صحيحة. فحينما كانت العمة كاسي في السابعة والأربعين من عمرها، كانت بنفس القدر من الضعف والوهن الذي كانت عليه الآن، بعد مرور عشرين عاما.
قالت المرأة العجوز: «فتاتي العزيزة، أنا بائسة ... بائسة.» وبعد أن جففت الدموع المنهمرة على وجهها أضافت قائلة: «لن يمر وقت طويل قبل أن أمضي لألحق بالسيد سترازرس العزيز.»
أرادت سابين فجأة أن تضحك؛ إذ تخيلت العمة كاسي وهي تدخل الجنة برفقة زوج اعتادت دوما على مناداته، رغم حميمية الحياة الزوجية، ب «السيد سترازرس.» ظلت تفكر في أن السيد سترازرس قد لا يجد لم الشمل هذا ممتعا كما توقعت زوجته. كان لديها دوما اعتقاد غريب بأن السيد سترازرس قد آثر الموت باعتباره أفضل مخرج.
وشعرت فجأة بإحساس دافئ بعودة الذكريات؛ إحساس أثاره شغف العمة كاسي بالمغالاة في تعبيراتها. لم تستطع العمة كاسي مطلقا أن تحمل نفسها على أن تقول بكل بساطة: «سأموت»، معتقدة أن ذلك ليس صحيحا على الإطلاق. كان يجب أن تقول: «أمضي لألحق بالسيد سترازرس العزيز.»
قالت سابين: «أوه، لا ... أوه، لا ... لا تقولي ذلك.» «لم أعد أنام. بالكاد أغمض عيني في الليل.»
كانت قد جلست وأخذت تتفرس فيها، وتفحص كل شيء في الغرفة، التغييرات التي أجراها أوهارا البغيض، والأثاث الذي كان قد اشتراه للمنزل. ولكن الأهم من ذلك كله أنها كانت تتفرس في سابين، وتختلس النظر إليها بنظرات جانبية خبيثة؛ أما سابين، فلأنها كانت تعرفها جيدا، فأدركت أن السيدة العجوز كانت قد أصيبت بصدمة عنيفة. كانت قد جاءت مستعدة لأن ترى سابين كسيرة وحزينة، لكنها بدلا من ذلك وجدت هذه المرأة الرقيقة، القوية والمعتزة بنفسها، التي تبدو غاية في الأناقة والاتزان، بداية من الشعر الأصهب اللامع (ذلك الشعر الأصهب الناعم الذي ظنت العمات ذات يوم أنه بشع للغاية) وحتى الصندل الجلدي في قدمها؛ امرأة من الواضح أنها كانت قد أحكمت سيطرتها على الحياة وأخضعتها لقوتها، وكانت بطريقة ما في غاية الكمال. «طوال السنوات التي كنت فيها بعيدة يا سابين لم ينسك عمك العزيز أبدا ولو للحظة. لقد مات وترك لي أمر رعايتك.» ومرة أخرى انهمرت الدموع الغزيرة من عينيها. (قالت سابين في قرارة نفسها: «أوه، لن تتمكني من الإيقاع بي بهذه الطريقة. لن أسمح لك بحبسي مرة أخرى في سجن الماضي. لن تنالي حتى مجرد فرصة للتدخل في حياتي.»)
ثم قالت جهرا: «من المؤسف أنني كنت دائما بعيدة جدا.» «لكنني كنت أفكر فيك يا عزيزتي ... كنت أفكر فيك. نادرا ما كانت تمر ليلة لا أقول فيها لنفسي قبل أن أنام: «إن سابين المسكينة تواجه العالم بمفردها، وتدير ظهرها لنا جميعا، نحن من نحبها».» تنهدت بشدة ثم قالت: «دائما ما كنت أفكر فيك يا عزيزتي. لقد صليت ودعوت لك في الليالي الطويلة التي لم يغمض لي فيها جفن أبدا.»
تحدثت سابين بطريقة شبه آلية، واكتشفت تدريجيا أنها على الرغم من كل شيء لم تعد تخشى العمة كاسي. فهي لم تعد الفتاة الصغيرة الخجولة الخائفة البسيطة؛ بل إنها بدأت تشعر بنزعة تحد، ورغبة في القتال، ملأتها بشعور خفي بالدفء. ظلت تقول لنفسها: «إنها حقا لم تتغير على الإطلاق. فهي لا تزال تريد التقرب مني والتحكم في وفي حياتي. إنها مثل أخطبوط يمد أذرعه ليحكم سيطرته على كل فرد بالأسرة، ويرتب كل الأمور.» هكذا رأت العمة كاسي الآن، بعد عدة سنوات، من منظور جديد. وبدا لها أن شيئا غريبا، ومريبا، وخبيثا إلى حد ما كان يكمن وراء كل هذه التنهدات والدموع والتعاطف المتساهل. ربما كانت (سابين) هي الوحيدة التي كانت قد تمكنت، من بين جميع أفراد الأسرة، من الفرار من هذه الأذرع الخبيثة المتسللة ... كانت قد هربت.
في هذه الأثناء، كانت العمة كاسي قد انتقلت من الوصف الحي التفصيلي لوفاة السيد سترازرس إلى التحدث عن قائمة المصائب التي حدثت بالحي وواجهتها الأسرة، الوفيات، والعهود التي نقضت، والكوارث المالية، وظهور «أوهارا البغيض» في الأفق. ووبخت سابين على بيعها أرضها لمثل هذا الدخيل. ومع استمرارها في الحديث، أصبحت شيئا فشيئا أقل إنسانية وأكثر فأكثر أشبه بقوة خارقة مجهولة من قوى الطبيعة. أخذت سابين تراقبها بعينيها الخضراوين الثاقبتين، ووجدتها مرعبة بعض الشيء. كانت قد ازدادت حدة وقسوة مع تقدمها في العمر.
ناقشت أيضا حالات الطلاق التي وقعت في بوسطن وأخيرا، وهي تميل إلى الأمام وتلمس يد سابين بيدها النحيلة المتوترة، قالت بانكسار: «لقد شعرت بك في محنتك يا سابين. لم أكتب لك قط لأن هذا كان سيصبح مؤلما للغاية. أرى الآن أنني تهربت من واجبي. لكنني كنت أشعر بك ... حاولت أن أضع نفسي مكانك. حاولت أن أتخيل خيانة السيد سترازرس العزيز لي ... لكنني، بالطبع، لم أستطع. كان قديسا.» أخرجت المخاط من أنفها وكررت كلامها بحماس، وكأنها تحدث نفسها: «قديسا!» (قالت سابين في نفسها: «نعم، كان قديسا ... لو كان للقديسين وجود.») رأت أن العمة كاسي كانت تهاجمها الآن من زاوية مختلفة. كانت تحاول أن تشفق عليها. ومن خلال إبداء الكثير من الشفقة نحوها ستحاول المرأة العجوز تحطيم خطوط دفاعها والسيطرة عليها.
بدت في عيني سابين الخضراوين نظرة قاسية وغريبة. وسألتها قائلة: «هل سبق لك أن التقيت بزوجي؟»
قالت العمة كاسي: «لا، لكنني سمعت الكثير عنه. وقيل لي عن مدى معاناتك.»
نظرت سابين إليها وقد ارتسم على وجهها تعبير غريب وساخر. وقالت: «إذن، ما قيل لك كان منافيا للحقيقة. إنه رجل رائع. لم أعان على الإطلاق. أؤكد لك أنني كنت أفضل لو شاركتني فيه خمسون امرأة أخرى على أن أحظى وحدي بأي من الرجال الموجودين هنا.»
كان تصريحها هذا ينطوي على فجور بين وهو ما جعل العمة كاسي تلتزم الصمت وتتراجع تماما. حدقت فقط ولم تجد ما تقوله ردا على مثل هذا الكلام. من الواضح أنها طيلة حياتها لم تكن قد سمعت أبدا أي شخص يقول شيئا بهذا القدر من الصراحة والوضوح، متجردا تماما من كل مظاهر اللباقة.
واصلت سابين حديثها ببرود، وأكملت هجومها حتى النهاية. إذ قالت: «لقد طلقت منه في النهاية، ليس لأنه لم يكن مخلصا لي، بل لأن امرأة أخرى أرادت الزواج منه ... امرأة أحترمها وأحبها ... امرأة لا تزال صديقة لي. عليك أن تفهمي أنني أحببته حبا جما ... بكل ذرة في جسدي. لكن ثمة أمور تحدث ليس للمرء عليها سلطان. لم أكن المرأة الوحيدة ... لقد كان شيطانا، لكنه شيطان جذاب للغاية.»
صدمت المرأة العجوز قليلا، لكنها لم تهزم بأي حال من الأحوال. رأت سابين في عينيها نظرة تقول بوضوح: «إذن هذا ما فعله العالم بعزيزتي سابين الصغيرة البريئة المسكينة!» وأخيرا قالت وهي تتنهد: «يا له من عالم غريب ومحير. لا أعرف ماذا سيحدث أكثر من ذلك فيه.»
ردت سابين بنبرة تظهر اتفاقها التام وتعاطفها الكامل قائلة: «ولا أنا.» فهمت أن الصراع لم ينته بعد؛ لأن العمة كاسي كانت تملك طريقة تضع بها نفسها في موقف منيع، يتمثل في إحاطة نفسها بطبقات وطبقات من التنهدات والتعاطف، والطيبة والتسامح، والخنوع والدموع، بحيث لا يمكن للمرء في النهاية أن يتجاوز كل ذلك ويقول: «ها أنت ذا ... ظهرت على حقيقتك أخيرا، عجوز فضولية بغيضة!» وظلت سابين تتخيل أيضا لو أن العمة كاسي كانت قد عاشت في أيام جدها صائد الساحرات، بينتلاند المصون من الإثم، لكانت ستحرق لأن الناس كانوا سيحسبونها ساحرة.
وطوال الوقت كانت سابين تعاني، بصمت، في قرارة نفسها، خلف قناع واضح ... تعاني بطريقة ما كان لأحد في العالم أن يتوقعها؛ وذلك لأن مجرد التحدث بهذه الطريقة عن ريتشارد كاليندار، أو حتى نطق اسمه، كان يمزق قلبها ويعتصره ألما.
جهرا قالت: «وكيف حال السيدة بينتلاند ... أقصد أوليفيا ... وليس ابنة عمي ... أعرف كيف هي ... على نفس الحال.» «نعم على نفس الحال. هذا واحد من الألغاز التي لا أستطيع فهمها أبدا ... لماذا ابتلى الرب رجلا صالحا مثل أخي بهذه المصيبة.»
وفي محاولة منها لوضع نهاية مفاجئة لما بدا واضحا أنها مقدمة لموعظة دينية مملة، قالت سابين: «لكن أوليفيا ...»
قاطعتها العمة كاسي قائلة: «أوه! ... أوليفيا،» وبدأت في وصف السيدة بينتلاند الشابة. قالت: «أوليفيا ملاك ... ملاك، نعمة من الرب أرسلها إلى أخي المسكين. لكنها لم تعد على ما يرام مؤخرا. لقد أصبحت حادة معي ... وحتى مع الآنسة بيفي المسكينة، التي تتسم بالحساسية الشديدة. لا أستطيع أن أتصور ما اعتراها.»
بدا أن أوليفيا القوية الجميلة كانت تعاني من الضغوط. وقالت العمة كاسي إنها تعيسة لسبب ما، رغم أنها لم تستطع أن ترى سببا لحزنها ... فهي امرأة لديها كل شيء في الدنيا.
كررت سابين بتساؤل: «كل شيء؟ هل ينال أي شخص في هذه الدنيا كل شيء؟» «لو لم تملك أوليفيا كل شيء فهذه غلطتها. فلديها كل المقومات الأساسية. لديها زوج صالح ... زوج لا ينظر أبدا إلى النساء الأخريات.»
قاطعتها سابين قائلة: «ولا حتى لزوجته. أعرف كل شيء عن آنسون. لقد نشأت معه.»
رأت العمة كاسي أنه من الأنسب تجاهل هذه النقطة. وقالت، مستأنفة حديثها عن النعم التي لدي أوليفيا: «إنها ثرية.»
ومرة أخرى قاطعتها سابين قائلة: «لكن ما الذي يعنيه المال يا عمة كاسي؟ في عالمنا هذا يكون المرء ثريا وتكون تلك هي نهاية الأمر. إذ إنه يعتبر ثروته أمرا مسلما به. وإذا ما فقد ثروته، فإنه يخسر كل شيء. لا علاقة للمال بالسعادة.»
بدأ التوتر يظهر على وجه العمة كاسي. قالت بحدة: «لو كنت فقيرة لعرفت فائدة المال، لو لم يعتن والدك وجدك بأموالهما لفهمت قصدي.» ثم تمالكت أعصابها وأتت حركة تنم عن الاستنكار. وبعدها قالت: «لكن لا تظني أنني أنتقد عزيزتي أوليفيا. إنها أفضل وأروع امرأة عرفتها.» بدأت تحيط نفسها مرة أخرى بشرنقة من العطف والطيبة والتسامح. بعدها أردفت قائلة: «كل ما هنالك أنها تبدو لي مؤخرا غريبة الأطوار إلى حد ما.»
بدأت تظهر ابتسامة على شفتي سابين المخضبتين على نحو مصطنع بلون أرجواني. وقالت: «سيكون سيئا للغاية أن دفعت عائلة بينتلاند زوجتين إلى الجنون - واحدة تلو الأخرى.»
مرة ثانية كادت العمة كاسي أن تهزم بأن تفقد رباطة جأشها. إذ تذمرت، وساعدتها سابين على الخروج من المأزق بسؤالها بلهجة ساخرة: «وماذا عن آنسون؟» واستطردت قائلة: «ماذا يفعل عزيزي آنسون الآن؟»
أخبرتها عن عمل آنسون العظيم، كتاب «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس»، وقيمته الهائلة باعتباره مساهمة في إثراء تاريخ الأمة؛ وعندما انتهت من ذلك، انتقلت للحديث عن صحة جاك المتدهورة، قائلة بصوت منخفض وحزين: «إنها مسألة وقت لا أكثر، كما تعرفين ... على الأقل، هكذا يقول الأطباء ... بقلب معتل كهذا، هي مسألة وقت لا أكثر.» وانهمرت الدموع من عينيها مرة أخرى.
قالت سابين بنبرة متأنية: «ومع ذلك، تقولين إن أوليفيا تملك كل شيء.»
ردت العمة كاسي قائلة: «حسنا، ربما ليس كل شيء.»
قبل مغادرتها سألت عن ابنة سابين وقيل لها إنها ذهبت إلى منزل عائلة بينتلاند لرؤية سيبيل.
قالت سابين: «لقد التحقتا بالمدرسة نفسها في فرنسا. وكانتا صديقتين هناك.»
قالت العمة كاسي: «نعم. لقد عارضت سفر سيبيل إلى الخارج للالتحاق بمدرسة هناك. فهذا يملأ رأس الفتاة بأفكار غريبة ... خاصة مدرسة كهذه يمكن لأي شخص الالتحاق بها. منذ عودة سيبيل إلى الديار، وهي تتصرف بطريقة غريبة ... أظن أن هذا سيقف في طريق نجاحها في بوسطن. فالشباب لا يحبون الفتيات المختلفات.»
قالت سابين: «لعلها تتزوج أحدا من خارج بوسطن. الرجال يختلفون من مكان لآخر. حتى في بوسطن لا بد أنه يوجد رجل أو اثنان لا تعنيهما الصورة التقليدية للنساء! حتى في بوسطن لا بد أنه يوجد رجال يحبون النساء الأنيقات ... النساء الراقيات ...»
بدأت العمة كاسي تشعر بالغضب مرة أخرى، لكن سابين احتوتها. إذ أردفت تقول: «لا تشعري بالإهانة، يا عمة كاسي. أقصد فقط السيدات الراقيات اللاتي وفقا للمعنى القديم الجذاب للكلمة ... وبالإضافة إلى ذلك، من الذي يمكن أن تتزوج به ولن يكون ابن عم أو ذا قرابة من نوع ما؟» «يجب أن تتزوج هنا ... بين الأشخاص الذين تعرفهم منذ صغرها. يوجد شاب من عائلة مانيرينج قد يكون مناسبا لها، وهناك أيضا الابن الأصغر لجيمس ثورن.»
ابتسمت سابين. وقالت: «إذن لديك خطط لها بالفعل. أيعني هذا أنك حسمت الأمر؟» «بالطبع لم يحسم أي شيء. كل ما هنالك أنني أفكر في الأمر مع وضع مصلحة سيبيل في الاعتبار. إن تزوجت أحد هذين الشابين، ستعرف كم هي محظوظة. ستعرف أنها تزوجت من رجل نبيل.»
قالت سابين: «ربما ... ربما.» بطريقة ما استحوذت عليها روح شريرة وأضافت بهدوء: «وبالطبع هناك هوراس بينتلاند ... يستحيل أن يكون المرء متأكدا تماما.» (يبدو أن سابين لم تنس أي شيء مطلقا.)
وفي اللحظة نفسها رأت، وهي تقف خارج الباب الذي يفضي إلى الشرفة المجاورة للأهوار، شخصا ضخما أسمر البشرة قوي البنية، أدركت بشعور مفاجئ بالبهجة أنه أوهارا. كان يسير عبر الحقول برفقة هيجينز الصغير النحيل، الذي تركه وواصل طريقه إلى نهاية الممر في اتجاه منزل عائلة بينتلاند. عند رؤيته، حاولت العمة كاسي جاهدة الفرار بسرعة، لكن سابين قالت بنبرة متوعدة عذبة: «يجب أن تقابلي السيد أوهارا. أظن أنك لم تلتقي به من قبل. إنه رجل رائع.» ووقفت في موضع يستحيل على المرأة العجوز معه الهروب دون أن تفقد كل ما تبقى من كرامتها وهيبتها.
بعد ذلك نادت سابين بصوت لطيف قائلة: «تفضل سيد أوهارا ... السيدة سترازرس هنا وتتوق إلى مقابلة جارها الجديد.»
فتح الباب ودخل منه أوهارا، الذي كان رجلا قوي البنية يبلغ من العمر حوالي خمسة وثلاثين عاما، ذا رأس جميل يغطيه شعر قصير أسود قوي، وعينين زرقاوين أظهرتا أصله الأيرلندي لما بدا بهما من بريق مستتر ينم عن فرحة بانتقال سابين للعيش بمنزله. وكان يتمتع أيضا بفك قوي وشفتين مكتنزتين جذابتين إلى حد ما، وقدر غريب من القوة الجسدية الهائلة، كما لو أن ثيابه كلها كانت مفصلة لتغطي بصعوبة العضلات الموجودة تحتها. لم يكن يرتدي قبعة ، وكانت بشرته سمراء داكنة، وظهرت على وجنتيه حمرة تشي بتمتعه بصحة جيدة.
للوهلة الأولى، كان يمكن للمرء أن يقول إنه رجل عادي فظ أتى لهذا العالم الضيق المحيط بدورهام، رجل ربما جاء للعمل حمالا بالميناء بسبب عضلاته المفتولة. كانت سابين قد حسبت في البداية أنه شخص فظ، لكنها استسلمت في النهاية لإحساس غريب قوي وضعه في منزلة أعلى من هذه. أما هي فكانت امرأة حادة الذهن، كرست نفسها بشغف لمسألة سبر أغوار الناس؛ وكانت تعرف أن رجلا يملك عينين ماكرتين ومليئتين بالتهكم كهاتين لا يمكن أن يتسم بالفظاظة.
تقدم بهدوء واحترام شديد يشوبه قدر ضئيل من السخافة ولمسة بسيطة من الفظاظة، ما يجعل المرء غير متأكد ما إذا كان قد تعمد إخفاء الفظاظة التي يتسم بها.
قال: «إنه لمن دواعي سروري. بالطبع رأيت السيدة سترازرس عدة مرات ... في عروض الخيل ... وسباقات كلاب الويبيت.»
توقفت العمة كاسي، وتصلب جسدها، وكأنها وجدت نفسها فجأة وجها لوجه أمام أفعى جرسية.
قالت: «وأنا أيضا رأيتك. وبالطبع، شاهدت كل التحسينات التي أجريتها هنا في المزرعة.» نطقت كلمة «تحسينات» على مضض وكأنها تود استخدام كلمة مثل «تخريب» بدلا منها.
قالت سابين: «سنتناول بعض الشاي. تفضلي بالجلوس، يا عمة كاسي.»
لكن العمة كاسي لم تخفف من تصلب جسدها. وردت قائلة: «وعدت أوليفيا أن أعود إلى منزل آل بينتلاند لتناول الشاي. وقد تأخرت بالفعل.» ارتدت قفازها الأسود، ثم مالت فجأة باتجاه أوهارا. وقالت: «على الأرجح سنلتقي مرة أخرى يا سيد أوهارا، بما أننا جيران.» «بالتأكيد، آمل ذلك ...»
بعدها قبلت سابين مرة أخرى وتمتمت قائلة: «آمل، يا عزيزتي، أن تأتي كثيرا لزيارتي، بما أنك الآن عدت إلينا. اعتبري منزلي بيتك.» ثم التفتت إلى أوهارا؛ إذ اكتشفت فجأة أنه يمكن استخدامه في حربها مع سابين. وقالت: «تعرف يا سيد أوهارا إنها خائنة، بطريقتها الخاصة. لقد ترعرعت بيننا ثم اختفت مدة عشرين عاما. إنها معدومة الوفاء.»
قالت ذلك بطريقة متصلبة ومرحة كما لو كانت، بالطبع، تقول مزحة فحسب ولا تقصد شيئا مطلقا من وراء الكلام. ومع ذلك، امتلأت الأجواء بغمامة من التلميحات. كانت هذه هي نوعية التكتيكات التي تبرع فيها.
رافقتها سابين إلى الباب، وعندما عادت وجدت أوهارا يقف في النافذة، يراقب جسد العمة كاسي وهي تتحرك في سخط على الطريق في اتجاه منزل عائلة بينتلاند. وقفت سابين هناك للحظة، تتفحص البنية الجسمانية القوية المفتولة العضلات للرجل الواقف مقابل الضوء، وفجأة انتابها شعور غريب بالعداء بينه وبين المرأة العجوز. فبطريقة غريبة كانا يمثلان رمزين لقوتين هائلتين؛ إحداهما سلبية، والأخرى إيجابية بشدة؛ إحداهما تمثل القدم، والأخرى تمثل الحداثة؛ إحداهما تمثل الاضمحلال، والأخرى تمثل النمو النشط، المفرط نوعا ما. كان يستحيل أن يوفق بينهما شيء. وفقا لطبائع الأمور، سيظلان عدوين لدودين حتى النهاية. لكن سابين لم يكن لديها أي شكوك بشأن من سينتصر في النهاية؛ فطبائع الأمور نفسها لم تكن تبدي إلا القليل من المحاباة لكل ما كانت العمة كاسي تدافع عنه. كان ذلك جزءا من الحكمة التي كانت سابين قد تعلمتها منذ أن هربت من دورهام إلى العالم الكبير المليء بالحقائق التي لا مساومة فيها.
عندما تحدثت، قالت بنبرة مبهمة نوعا ما: «السيدة سترازرس امرأة لافتة للنظر.»
التفت أوهارا، ونظر إليها بعينيه الزرقاوين نظرة مفاجئة يشوبها قدر من السخرية. وقال: «استثنائية ... أنا متأكد من ذلك.»
علقت سابين: «وامرأة قوية. إنها حكيمة كالحية ووديعة كالحمامة. وليس من الجيد أبدا التقليل من شأن قوة كهذه. والآن قل لي ... كيف تحب أن تشرب الشاي؟» •••
لم يشرب الشاي بل اكتفى بمضغ القليل من الخبز المحمص وبعدها دخن سيجارا، بادي السرور من نفسه بسذاجة وهو يؤدي دور المالك الذي أتى ليستعلم من المستأجر عما إذا كان كل شيء مرضيا. كان معجبا بهذه المرأة القوية الذكية التي أصبحت الآن مجرد مستأجرة للأرض - أرضه - التي كانت تملكها فيما مضى. عندما فكر في هذه المسألة - أنه هو، مايكل أوهارا، قد أصبح مالك هذه المزرعة التي تقع وسط عالم دورهام العصري والمهيب - شعر بأن إدراك ذلك ينطوي على شيء مدهش، شيء لم يتوقف مطلقا عن إثارة حماسه ومنحه شعورا قويا بالرضا. بمجرد أن يلتفت برأسه، كان يمكنه أن يرى في المرآة انعكاس الجرح الطويل على صدغه، الجرح الناتج عن زجاجة مكسورة أصابته في خضم عراك شباب على رصيف ميناء إنديا وارف. ولقد تمكن هو، مايكل أوهارا، بدون تعليم، باستثناء ما علمه لنفسه، بدون مال، بدون نفوذ، من رفع نفسه إلى هذه المكانة قبل حلول عيد ميلاده السادس والثلاثين. ومع قدوم الخريف، سيكون مرشحا لعضوية الكونجرس، وكان على يقين من انتخابه في المقاطعات الأيرلندية القديمة. كان، مايكل أوهارا، في طريقه لأن يصبح أحد أعظم رجال نيو إنجلاند، المقاطعة التي كانت ذات يوم بمثابة جنة صغيرة مقتصرة على أناس مثل آل بينتلاند.
بالطبع لا ينبغي لأحد أن يشك أبدا في مدى عمق ذلك الشعور الهائل بالرضا.
أجل، كان معجبا بهذه المرأة الغريبة، التي كان لا بد أن تكون عدوته، لكن الغريب أنها لم تكن كذلك. كان معجبا بتوقد ذهنها الفطن والطريقة التي تجلس بها هناك أمامه، تتفحصه مرارا وتكرارا أثناء حديثه، كما لو كان حشرة صغيرة تحت المجهر. كانت بصدد اكتشاف كل شيء يخصه؛ وقد فهم ذلك؛ لأن هذه كانت حيلة يجيدها هو نفسه تمام الإجادة. فبتلك الأساليب كان قد أحرز تقدما في هذا العالم. وما أثار حيرته أيضا أنها نشأت في عالم بوسطن-دورهام هذا ومع ذلك استطاعت أن تكون مختلفة تماما عنه. انتابه شعور بأنه في مرحلة ما من مسار حياتها حدث لها شيء ما، شيء فظيع منحها في النهاية ذهنا صافيا وقدرة كبيرة على فهم الأمور. كما أدرك أيضا، على الفور تقريبا، في اليوم الذي وصلت فيه بالسيارة أمام باب المنزل، أنها كانت قد توصلت لاكتشاف عن الحياة كان قد توصل إليه هو نفسه منذ فترة طويلة ... وهو أنه لا توجد قوة تضاهي القوة التي يمتلكها شخص راض بمجرد أن يكون على طبيعته، وأنه لا شيء منيع مثل قوة الصدق المحض، ولا شيء ناجح بقدر حياة شخص يسير بمفرده. كانت قد تعلمت كل هذا في مكان ما. وكانت تبدو كامرأة لم يعد يوجد شيء جديد يمكن أن يحدث لها.
تحدثا لبعض الوقت، بهدوء ولطف، وبتفاهم غير عادي بين شخصين يعرف أحدهما الآخر منذ فترة قصيرة؛ تحدثا عن المزرعة، وعن آل بينتلاند، وعن الطواحين والبولنديين في دورهام، وعن البلدة وكيف كانت في فترة طفولة سابين. وطوال الوقت كان لديه هذا الإحساس بأنها تقيمه وتراقبه، وبأنها تستكشف الصدى الخافت لنبرة معينة في صوته، وصفة الحدة والغلظة التي تركت بصمتها عليه منذ تلك الأيام التي قضاها على رصيف ميناء إنديا وارف، وذكريات الأب الأيرلندي العاطل المؤمن بالخرافات.
ما كان له أن يعرف أنها كانت امرأة تضم شبكة أصدقائها رجالا ونساء من عشرات الجنسيات، وعاشت حياتها بين أمهر وأنجح الأشخاص في العالم ... مهندسين معماريين ورسامين وسياسيين وعلماء. وما كان له أن يعرف القاعدة الصارمة التي وضعتها والتي كانت تنص على عدم احتمال أي شخص باستثناء الأشخاص «الكاملين». وما كان له أن يعرف شيئا عن حياتها في باريس ولندن ونيويورك والتي لم يكن لها أي علاقة بالحياة في دورهام وبوسطن. لكنه كان الآن يعرف ... لقد رأى أنه، على الرغم من الاختلاف الكبير بين عالميهما، كان يوجد شيء مشترك بينهما؛ فكلاهما كان ينظر للعالم باعتباره حديقة كبيرة مليئة بالأشجار التي يمكن لأي شخص أن يقطف من ثمارها فقط إذا تحلى بالبراعة اللازمة.
أما سابين، التي من جانبها لم تكن متأكدة تماما بعد من رغبتها في إزالة كل الحواجز؛ فقد كانت تتوصل ببطء إلى الحقيقة نفسها. لم تكن توجد أي مشاعر حب أو عاطفة في الشرارة التي ومضت بينهما. كانت أكبر من أوهارا بأكثر من عشر سنوات وكانت قد اكتفت من تلك المشاعر منذ فترة طويلة. كان الأمر كله مجرد إدراك شخص قوي بقوة شخص آخر.
كان أوهارا هو أول من استغل توطيد الرابطة بينهما. إذ إنه في خضم المحادثة، حول مسار الحوار بشكل مفاجئ إلى حد ما نحو آل بينتلاند.
قال: «لم أذهب إلى منزل آل بينتلاند من قبل، وأعرف القليل جدا عن الحياة هناك، لكنني شاهدتها من بعيد وأثارت اهتمامي. إنها أشبه بحلم، كل من فيه أموات ... كلهم أموات باستثناء السيدة بينتلاند الشابة وسيبيل.»
ابتسمت سابين. وقالت: «أتعرف سيبيل، إذن؟»
أجاب قائلا: «نركب الخيل معا كل صباح ... التقينا في صبيحة أحد الأيام بالصدفة على الطريق بجانب النهر ومنذ ذلك الحين نركب الخيل معا كل يوم تقريبا.» «إنها فتاة رائعة ... التحقت بمدرسة في فرنسا مع ابنتي تيريز. وكنت أراها كثيرا في تلك الفترة.»
خطرت لها فكرة عارضة وهي أن احتمالية زواج سيبيل من أوهارا ستكون شيئا مسليا للغاية. إذ إن ذلك سيتسبب في إزعاج شديد لآنسون والعمة كاسي وباقي الأقارب ... شابة من عائلة بينتلاند تتزوج من سياسي كاثوليكي أيرلندي!
وبينما كان أوهارا يجلس في كرسيه منحنيا إلى الأمام قليلا، سأل: «إنها تشبه والدتها، أليس كذلك؟» كان معتادا على الجلوس هكذا، في حالة من اليقظة والانتباه كالقطة. «تشبه والدتها جدا ... والدتها سيدة رائعة ... امرأة جذابة ... أيضا، يمكنني أن أقول إنها امرأة عطوف جدا وكريمة، وهو من أندر الأشياء في الوجود.» «هذا ما ظننته ... لقد رأيتها ست مرات. وطلبت منها مساعدتي في زراعة الحديقة هنا في المنزل لأنني علمت أن لديها شغفا بالحدائق. ولم ترفض ... رغم أنها لم تكد تعرفني. وجاءت وساعدتني في ذلك. رأيتها حينها وبدأت أتعرف عليها أكثر. لكن عندما انتهى ذلك، عادت إلى منزل عائلة بينتلاند ولم أرها منذ ذلك الحين. يكاد الأمر يبدو وكأنها تعمدت تجنبي. أحيانا أشعر بالأسف من أجلها ... لا بد وأنها تعيش حياة غريبة على امرأة مثلها ... شابة وجميلة.» «لديها الكثير من المشاغل في منزل عائلة بينتلاند. وصحيح أن حياتها ليست رائعة. مع ذلك، أنا متأكدة من أنها لا تتحمل فكرة أن يشفق عليها أحد ... إنها آخر امرأة في العالم تريد شفقة من أحد.»
من الغريب أن وجه أوهارا احمر، وأخذت الحمرة تتزايد ببطء وتكسو بشرته السمراء.
قال في حزن: «ظننت أن أحدا قد اعترض، زوجها، أو السيدة سترازرس ... أعرف شعورهما تجاهي. لا فائدة من التظاهر بالجهل بذلك.»
قالت سابين: «هذا احتمال وارد جدا.»
فجأة ساد صمت متسم بالحرج، مما أتاح لسابين وقتا لكي تستعيد هدوءها وتنظم آلاف الأفكار والانطباعات المفاجئة. لقد بدأت تفهم شيئا فشيئا الأسباب الحقيقية وراء كراهيتهم لأوهارا، الأسباب الكامنة عميقا، وربما عميقا جدا لدرجة أن ما من أحد منهم قد رآها مطلقا على حقيقتها.
ثم كسر حاجز الصمت وسمعت صوت أوهارا يقول، بطريقة خافتة غريبة: «أريد أن أطلب منك شيئا ... شيئا قد يبدو سخيفا. لن أتظاهر بأنه ليس كذلك، لكنني عازم على أن أطلبه منك على أي حال.»
للحظة تردد ثم نهض سريعا وأشاح بوجهه عنها ونظر نحو الباب، باتجاه الأهوار الزرقاء النائية والبحر المفتوح. خيل لها أنه كان يرتجف قليلا، لكنها لم تكن متأكدة. ما كانت تعرفه بالفعل أنه بذل جهدا عظيما وبطوليا، لدرجة أنه للحظة وضع نفسه في موقف من شأنه أن يكون فيه أعزل وعرضة لأذى شديد، وهو الرجل الذي لم يفعل مثل هذه الأشياء من قبل؛ وفي تلك اللحظة الحالية، بدا أن التهور يتلاشى وحل محله حزن غريب، وكأنه شعر بأنه مهزوم بطريقة ما ...
قال: «ما أنا عازم على أن أطلبه منك هو ما يلي ... هل من الممكن أن تطلبي مني القدوم إلى هنا أحيانا عندما توجد هي أيضا؟» واستدار نحوها فجأة وأضاف قائلا: «سيعني لي ذلك الكثير ... أكثر مما يمكن أن تتخيلي.»
لم تجبه على الفور، بل أخذت تراقبه وهي جالسة في حدة لم تستطع إخفاءها؛ وبعد قليل، نفضت رماد السيجارة عن ثوبها، وسألته قائلة: «وهل تظن أن هذا سيكون تصرفا أخلاقيا من جانبي؟»
هز كتفيه ونظر لها في دهشة، وكأنه لم يتوقع منها، من بين كل الناس في العالم، طرح سؤال كهذا.
رد قائلا: «هذا قد يجعل كلينا أسعد بكثير.» «ربما تكون محقا ... وربما لا. الأمر ليس بتلك البساطة. علاوة على ذلك، السعادة لا تأتي في المرتبة الأولى عند أفراد عائلة بينتلاند.»
قال: «أجل ... لكن ...» ثم أتى بإشارة من يده بقوة وبشكل مفاجئ كما لو أنه ينحي كل الاعتراضات جانبا. «أنت رجل غريب الأطوار ... سأرى ما يمكن فعله.»
شكرها وخرج خجلا دون أن ينبس ببنت شفة، ليمشي عبر الحقول، مطأطئ رأسه الأسود الشعر في تفكير، صوب مداخنه الجديدة المتألقة. وفي عقبيه هرول كلبه، الذي كان قد استلقى منتظرا إياه أمام الباب. كان ثمة شيء ما بشأن هذا الرجل القوي البنية، وهو يعبر المرج القديم عبر الشفق الأزرق، شيء أوحى بلمحة من الوحدة والحزن. بدا وكأن ما اتصف به من ثقة بالنفس وطمأنينة قد تلاشى بطريقة غامضة. كاد الأمر يبدو وكأن رجلا قد دخل المنزل منذ فترة وجيزة ورجلا آخر، مختلفا تماما، غادره للتو. رأت سابين أن شيئا واحدا هو الذي يمكن أن يكون قد أحدث هذا الفارق، ألا وهو اسم أوليفيا. •••
عندما اختفى عن الأنظار، صعدت سابين إلى غرفتها المطلة على البحر واستلقت هناك لفترة طويلة تفكر. كانت بطبيعتها امرأة كسولة، خاصة في الأوقات التي يعمل فيها عقلها بمنتهى النشاط. وكان عقلها يعمل هكذا الآن، بنشاط محموم، مشوشا ولكن صافيا جدا في الوقت ذاته؛ وذلك لأن زيارتي العمة كاسي وأوهارا قد أثارتا شغفها الشديد لخوض تجربة مختلفة. كان لديها إحساس بأنها على شفا كارثة ما، كارثة بدأت منذ فترة طويلة وتشابكت جذورها ودوافعها، وأصبحت الآن على وشك الانفجار بفعل قوة متراكمة لسنوات.
الآن فقط بدأت تفهم قليلا ما الذي أعادها إلى مكان يحمل ذكريات حزينة جدا كتلك التي تحوم حول ريف دورهام بأكمله. رأت أنه لا بد وأنها كانت طوال الوقت رغبة في التبرير، وتعطشا لتثبت لهم أنها، على الرغم من كل شيء، من الشعر الأصهب الناعم والوجه الخالي من مظاهر الجمال، والأفكار السخيفة التي كانوا قد ملئوا بها رأسها، وحتى على الرغم من حزنها على زوجها، كانت قد تمكنت من عيش حياة ناجحة ورائعة. أرادت أن تثبت لهم أنها تقف الآن بمفردها وبمنتهى القوة، وأنه لم يعد لهم سلطة عليها ليكبحوا جماحها أو يؤذوها. وللحظة حسبت أن الدافع الخفي كان أقوى من ذلك بكثير، وربما كان أقرب إلى رغبة في الانتقام؛ ذلك لأنها كانت مقتنعة بأن عالم دورهام هذا هو المسئول عن تدمير سعادتها. أدركت الآن، بصفتها امرأة محنكة تبلغ من العمر ستة وأربعين عاما، أنها لو كانت نشأت وهي تعرف الحياة على حقيقتها، ربما ما كانت ستخسر الرجل الوحيد الذي أحيا عاطفة حقيقية في طبيعة صلبة وجافة للغاية كطبيعتها.
كان كل شيء مشوشا وملتبسا وغامضا، لكن زيارة العمة كاسي المليئة بالتلميحات والمحاولات الخفية لإخضاعها، قد جعلت كل شيء واضحا بدرجة كبيرة.
أغمضت عينيها الخضراوين، وأخذت تتخيل وقوع سلسلة كاملة من الكوارث التي يمكنها التسبب فيها. بدأت ترى كيف أنه قد يكون حتى من الممكن تقويض عالم عائلة بينتلاند بأكمله فوق رءوسهم في انهيار لن ينتج عنه سوى الحرية والسعادة لأوليفيا وابنتها. ولم تكن تربطها أي مشاعر مودة إلا بهاتين الاثنتين؛ أما الآخرون، فليهلكوا، وليذهبوا للجحيم، وستقف هي تراقبهم دون أن تحرك ساكنا.
بدأت ترى المواضع المناسبة لقطع الأحجية، الأوتاد التي قد تفتح عنوة الأبواب الموصدة للعالم المعهود غير المتغير الذي أحاط بها مرة أخرى.
وبينما هي مستلقية هناك في حالة بين النوم واليقظة، رأت كل تفاصيل عملية تجميع هذه القطع والتوفيق بينها، وشعرت بإحساس مسكر فجائي بالقوة، بامتلاك كل الأدوات في يدها، بكونها القوة الخارقة التي تحرك الكارثة.
بدأت أيضا ترى كيف أن القوة والسلطة اللتين كانتا تدعمان هذه الأسرة كانتا تقتربان ببطء من النهاية، وتتجهان نحو ضعف شديد عديم النفع. ستكون هناك دوما أموال تدعم عالمهم، وذلك لأن العائلة لم تتخل أبدا عن عادة الادخار المتوارثة من جدهم صاحب الحانوت؛ لكن في النهاية حتى المال لن ينقذهم. سيأتي وقت تكون فيه الثروة العظيمة مجرد قشرة هشة بلا فساد كامن بداخلها.
كانت لا تزال مستلقية هناك عندما أتت تيريز، التي كانت فتاة عادية قصيرة القامة، ممتلئة القوام إلى حد ما، سمراء البشرة ذات غرة قصيرة ناعمة سوداء اللون تغطي جبهتها. كانت محرورة ومتسخة بطين الأهوار، مثلما كانت الطفلة الصهباء الصغيرة الحزينة عدة مرات في طفولتها البعيدة المنسية إلى حد ما.
سألتها بلا مبالاة: «أين كنت؟» لأنه كان يوجد دوما شعور غريب بعدم الألفة بين سابين وابنتها.
قالت تيريز: «كنت أصطاد الضفادع لتشريحها. إنها قليلة جدا وقد انزلقت في النهر.»
علمت سابين جيدا، وهي تنظر إلى ابنتها، أن فتاة غريبة، وعنيدة، ومهملة جدا كهذه لن تحظى بأي فرصة للزواج في دورهام. أدركت أنها كانت فكرة سخيفة من البداية؛ وشعرت بالرضا لعلمها أنها كانت قد رسمت حياة تيريز بحيث لا يمكن لأحد أن يؤذيها أبدا مثلما فعلوا بوالدتها. ومن حياة الترحال الغريبة التي عاشتها معها، والالتقاء بكل صنوف الرجال والنساء، الذين كانوا، وفقا لفهم سابين الغريب للكلمة، «كاملين»، تمكنت الفتاة من شق طريقها بطريقة ما نحو جوهر الأشياء. كانت تبني حياتها على أساس صلب، كي تتمكن من ازدراء القوى التي أساءت لوالدتها منذ فترة طويلة. ربما، مثل أوهارا، تضعف فجأة بسبب الحب؛ لكن سابين كانت تعلم أن ذلك كان شيئا رائعا يستحق المعاناة.
أدركت ذلك في كل مرة كانت تنظر فيها إلى ابنتها وترى العينين الرماديتين الصافيتين، اللتين تشبهان عيني والد الفتاة، وهما تنظران إليها عبر هذا الوجه ذي البشرة السمراء بنفس النظرة الفخورة التي تنم عن الثقة غير المبالية، تلك النظرة التي كانت قد سحرتها من عشرين عاما. وما دامت تيريز على قيد الحياة، فلن تقدر أبدا على نسيانه تماما.
قالت: «اذهبي واغتسلي. السيد بينتلاند الكبير وأوليفيا والسيدة سومز قادمون لتناول العشاء معنا ولعب البريدج.»
وبينما كانت ترتدي ملابسها لتناول العشاء، توقفت عن طرح هذا السؤال على نفسها: «لماذا تخيلت يوما أن تيريز قد تجد زوجا هنا؟ ما الذي دفعني للعودة إلى هنا والشعور بالملل طوال الصيف؟»
كانت قد نسيت كل ذلك. وبدأت ترى أن الصيف يحمل توقعات بقضاء وقت ممتع. بل وربما أيضا يتحول إلى تجربة رائعة. كانت تعلم أن عودتها لم يكن لها علاقة بمستقبل تيريز؛ فقد عادت إلى دورهام بسبب رغبة غامضة وطاغية في الانتقام وإلحاق الأذى .
الفصل الخامس
1
عندما كان آنسون بينتلاند يعود من المدينة مساء، كانت أوليفيا دوما موجودة تؤدي واجب انتظاره وتسأله عما حدث في يومه. وكان يجيبها دائما بالردود ذاتها: «لا، لم يكن ثمة أحداث كثيرة في البلدة»، و«كان الجو شديد الحرارة»، أو «اكتشفت اليوم اكتشافا مهما سيكون ذا نفع كبير في الكتاب».
وبعد الاستحمام يظهر مرتديا ملابس من قماش التويد ليؤدي تمارينه في الحديقة، ودون جهد كبير ينظر عن كثب بعينيه الزرقاوين الحسيرتين إلى بطاقات صغيرة تحمل أسماء مثل: «جنرال بيرشينج» أو «كارولين تيستاوت» أو «بوانكاريه» أو «جورج واشنطن» ربطها بعناية على نباتات الداليا الجديدة والزهور والشجيرات الأصغر. وفي أغلب الأحيان، كان البستاني يقضي نصف صباح اليوم التالي في إزالة البطاقات ووضعها في مكانها على النباتات الصحيحة؛ فحقيقة الأمر أن آنسون لم يكن يهتم بالزهور ولا يعلم عنها إلا القليل. ولم يكن وضع البطاقات إلا جزءا من هوسه بتسمية الأشياء؛ إذ كانت تجعل حديقة آل بينتلاند تبدو مكانا أكثر هدوءا وترتيبا. أحيانا كان يبدو لأوليفيا أنه أمضى حياته في وضع البطاقات وتصنيف كل ما يصادفه في طريقه: الأخلاق، والمشاعر، والأفكار، وكل شيء. كانت عادة تتنامى لديه مع بلوغه منتصف العمر.
وجرت العادة بتأخير وجبة العشاء لأن آنسون كان يفضل استغلال أيام الصيف الطويلة وتأخر الغسق، وبعد تناول العشاء اعتاد جميع أفراد العائلة، باستثناء جاك، الذي كان يأوي إلى فراشه بعد العشاء مباشرة، على الجلوس في غرفة الجلوس المصممة على الطراز الفيكتوري، فكانوا يقرءون الرسائل ويكتبونها أو يلعبون لعبة سوليتير أحيانا، بينما يجلس آنسون في ركنه على مكتب السيد لويل عاكفا على كتابه: «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس»، ويتابع عددا هائلا من المراسلات المتبادلة مع أمناء المكتبات وكبار السن من الرجال والنساء المنشغلين بالأنساب. ونادرا ما تغير روتين المساء، فآنسون لم يكن يحب الخروج وأوليفيا لا تحبذ الخروج بمفردها. ولم يتبدل الحال ويتغير روتين العائلة إلا مع بداية فصل الصيف، عندما كبرت سيبيل وبدأت في الخروج من وقت لآخر لتناول العشاء وحضور الحفلات، وبعد أن عادت سابين المزعجة، المعروفة بعشقها للعبة البريدج، إلى الحي. وقلت الآن الأمسيات التي كانت تمضيها أوليفيا وسيبيل في لعب لعبة سوليتير والعجوز جون بينتلاند جالس يقرأ على ضوء مصباح السيد لونجفيلو أو مكتف بالجلوس صامتا محدقا في الفراغ أمامه، شاردا مع أفكاره.
وفي تلك الأمسيات الطويلة، أحيانا ما كانت أوليفيا ترفع بصرها فجأة دون سبب على الإطلاق، لتجد سيبيل جالسة بالطريقة ذاتها تنظر إليها، فتعرف كلتاهما أنهما، مثل العجوز جون بينتلاند، كانتا جالستين طوال الوقت ممسكتين بكتابيهما دون أن تعيا كلمة مما قرأتا. كان الأمر يبدو وكأن تعويذة سحرتهم، وكأنهم ينتظرون شيئا. ولكن هذا الصمت كان يقطع مرة أو مرتين بحدة حين يعلو صوت تأوهات لا تطاق آتية من الجناح الشمالي حين تباغت إحدى نوبات العنف المرأة العجوز وتستحوذ عليها.
كانت المقاطعات الوحيدة تتمثل في تعليقات آنسون العابرة وتفقد أوليفيا لغرفة جاك للتأكد من أنه لم يصبه مكروه. كانتا تتحدثان دائما بأصوات خفيضة وهما تلعبان لعبة سوليتير حتى لا تزعجا آنسون أثناء عمله. وأحيانا كانت تصادفه معلومة كان قد ظل يبحث عنها طويلا وعندئذ كان يلتفت إليهما ويخبرهما عنها.
في إحدى الليالي توصل لاكتشافه المتعلق بسافينا بينتلاند. ...
وحينها صاح قائلا: «كنت محقا بشأن سافينا بينتلاند. كانت ابنة عم توبي كاين من الدرجة الأولى، وليس من الدرجة الثانية.»
فأبدت أوليفيا اهتماما بأن قالت: «أكان ذلك ما راسلت صحيفة ترانسكربت بخصوصه؟»
فأجابها قائلا: «أجل ... وكنت واثقا من أن المحرر المختص بعلم الأنساب كان مخطئا. انظري ... الأمر مذكور هنا في أحد الخطابات التي كتبها جاريد بينتلاند وقت غرقها ... كان جاريد زوجها ... وهو يشير إلى توبي كاين بصفته ابن عمها الوحيد من الدرجة الأولى.»
قالت أوليفيا: «سيساعدك ذلك كثيرا، أليس كذلك؟»
رد قائلا: «سيساعد في إزالة الغموض عن الفصل المتعلق بأصول عائلتها.» وبعدما صمت للحظة، أردف قائلا: «أتمنى أن أتمكن من العثور على أثر ما للمراسلات المتبادلة بين سافينا بينتلاند وكاين. أنا متأكد من أنها ستوضح الكثير من الأشياء ... ولكنها تبدو غير موجودة ... فقط رسالة أو رسالتان لا توضحان شيئا.»
ثم عاد مرة أخرى إلى صمت عميق، غارقا في حفيف الكتب القديمة والرسائل المصفرة، تاركا أسطورة سافينا بينتلاند تستحوذ على أذهان الموجودين في الغرفة.
كانت لذكرى هذه السيدة طريقة في التسلل إلى أفراد العائلة دون وعي منهم، أو بالأحرى دون رغبة منهم. كانت حاضرة دوما في المنزل، نابضة بالحياة أكثر من أي سلف من أسلافهم الأكثر رصانة، ربما لأنها الوحيدة من بينهم التي أحاطتها هالة من العظمة؛ فهي الوحيدة التي كانت بطريقتها الطائشة سيدة عظيمة. كان لطيشها وبذخها سطوة، حجبت في النهاية، جميع الزوجات الأخريات اللاتي اتسمن بالبساطة والتدبير والملامح الجادة، واللاتي زينت صورهن المرسومة ردهة منزل عائلة بينتلاند، مثلما تطغى شمس مشرقة بنورها على ضوء النجوم الواهن. وأحاطت بأصولها الغامضة هالة رومانسية دائمة؛ إذ لم يكن أحد يعرف من كانت والدتها أو من أين جاءت بالضبط. لعل الأم تنحدر من أصل لا يقل تواضعا عن أصل البينتلاندي الأول صاحب الحانوت حين نزل على أرض الخليج، ولكنها كانت تحمل سمرة العرق البرتغالي؛ وقال البعض إنها كانت ابنة صياد سمك. أما سافينا نفسها فكانت تتمتع بسحر كان كافيا لإغواء أحد أفراد بينتلاند الحذرين ليفر معها مخالفا نزعة الشك والارتياب المتغلغلة في عظام ولحم عائلة بينتلاند.
برزت صورة سافينا بينتلاند بين باقي صور الردهة البيضاء، فاتنة وجميلة ليس فقط لسمرتها وحسنها، وإنما لأنها رسمت بفرشاة الرسام دومينيك آنجر في روما خلال السنوات التي قضاها في رسم السائحين ليقي نفسه من شر الموت جوعا. كانت الصورة الزيتية لامرأة صغيرة الحجم ولكن ممتلئة القوام ذات عينين داكنتين مغريتين وشعر أسود ناعم يكلل جبينها المشرق كزهرة كاميليا بيضاء وينتهي بعقدة صغيرة على مؤخرة عنقها الناصع البياض؛ امرأة أطلت من صورة قديمة بنظرة براقة نابضة بالحياة لامرأة عاشت حياتها بجرأة وشغف. كانت ترتدي ثوبا مخمليا بلون برتقالي زهري وتزينت بطقم حلي اللؤلؤ والزمرد الشهير الذي أهداه لها جاريد بينتلاند الولهان، مما تسبب في فضيحة لعائلة كان البخل والإقتار ديدنها. وعند المرور عبر المعرض الطويل من الصور المعلقة في الردهة دائما ما كانت صورة سافينا بينتلاند هي التي تجتذب الانتباه. كانت ذات نفوذ وهي معلقة فوق الجدران ولا بد وأنها كانت كذلك في حياتها، وبدت جريئة ورائعة الجمال وإن بدت أيضا سوقية بعض الشيء، لا سيما في عالم يتسم أفراده بالرصانة والاتزان كهؤلاء، ومع ذلك كانت جميلة ومفعمة بالحيوية لدرجة أنها جعلت بقية الصور المتراصة بجوارها غير جديرة بأن تؤخذ في الاعتبار.
حتى في الموت ظلت «دخيلة»؛ إذ كانت الوحيدة من بين أفراد العائلة التي لم ترقد بسلام بين الأشجار المتقزمة أعلى التل الأجرد حيث دفن آل بينتلاند الأوائل موتاهم. كان كل ما تبقى من رفات الجسد الدفيء الغض يرقد في الرمال البيضاء بقاع المحيط على مرمى بصر آل بينتلاند. بدا الأمر وكأن القدر كان قد أسلمها بالموت إلى أن تدفن في قبر تكتنفه العواصف والشدائد مثلما كانت تلاقي وهي على قيد الحياة. وفي مكان قريب منها في الرمال البيضاء المضطربة رقد توبي كاين، الذي كانت قد خرجت معه للإبحار في أحد أيام الصيف المشرقة فحولت عاصفة مفاجئة النزهة المبهجة إلى فاجعة.
وحتى العمة كاسي، التي لم تكن تثق في أي امرأة ذات نظرة جريئة ومتحررة كتلك التي رسمها آنجر بفرشاته، عجزت عن إبطال سحر أسطورة سافينا. كانت تجد ذكرى أخرى أكثر إيلاما، ذكرى تكمن في معرفتها بأن طقم اللؤلؤ والزمرد وجميع المجوهرات الأخرى التي كانت سافينا قد انتزعتها من زوجها البخيل مدفونة في مكان ما تحت الرمال البيضاء بين عظامها وعظام ابن عمها. لم تكن العمة كاسي ترى سافينا بينتلاند أكثر من مجرد مخلوقة طائشة وسفيهة. كانت معادية لثروة آل بينتلاند وكل مثل العائلة.
شكلت الصور الشخصية لأفراد العائلة قيمة كبيرة لآنسون في تأليفه لكتابه، لأنها كانت تمثل مجموعة الأسلاف الأكثر اكتمالا في سائر أمريكا. فبدءا من صورة البينتلاندي المهاجر، المرسومة على لوح خشبي رسمه رسام رحالة من رسامي لافتات الحانات، وانتهاء بصورة جون بينتلاند الوسيم، والتي رسمت له وهو في منتصف العمر مرتديا معطفا ورديا بفرشاة الرسام سارجنت، وصورة آنسون الرديئة والكئيبة إلى حد ما، التي رسمها له أيضا السيد سارجنت، كانت المجموعة مكتملة ولم يكن ينقصها إلا شخصان؛ جاريد بينتلاند المتخاذل زوج سافينا، والبينتلاندي الذي يتوسط والد جون العجوز ومالك السفينة الشراعية السريعة، الذي كان قد توفي في الثالثة والعشرين من عمره، وهو أمر من المشين أن يحدث لأي بينتلاندي.
علقت الصور في صف مزدوج منمق في الردهة العالية السقف، مرتبة زمنيا دون الاكتراث بالإضاءة، بحيث علقت الصور الجيدة، مثل تلك التي رسمها آنجر وسارجنت للعجوز جون بينتلاند والصورة غير المكتملة لآشور بينتلاند التي رسمها جيلبرت ستيوارت، في أماكن معتمة، أما الصور الرديئة مثل الصورة المرسومة على لافتة الحانة للبينتلاندي الأول فكانت معرضة لوهج ضوء ساطع.
كانت صورة هذا الأب الأكبر لجميع أفراد العائلة قد رسمت عندما كان في التاسعة والثمانين، وبدا على هذه الخلفية الخشبية شيخا عبوسا، متجهما ذا شعر أبيض وعينين ثاقبتين قريبتين جدا من بعضهما. كان له وجه يشبه الوجوه التي يمكن للمرء أن يراها بين الإخوة بليموث، من قرية ساسكس النائية الشبه المنسية، وجه رجل لافت للنظر فقط لقوة جسده وصلابة عقل خالف كل شيء. ففي سن الرابعة والثمانين، كان منبوذا بسبب انشقاقه عن الكنيسة التي كان قد صار يعتبرها ملكيته الخاصة.
وبجواره علقت صورة بينتلاندي آخر كان شخصا عاديا ولم يخلف وراءه ولو حتى أسطورة غامضة؛ وإلى جواره يظهر الوجه الوقح والبغيض، للبينتلاندي الذي عذب النساء العجائز الغريبات الأطوار بغمرهن في الماء زعما بأنهن ساحرات، وقطع آذان الكويكرز المسالمين في المستعمرة التي تأسست إعلاء ل «حرية عبادة الرب».
أما البينتلاندي الثالث فكان أعظم مبشري زمانه، رجل خاض في نيو إنجلاند حاملا شعلة التبشير عاليا، واعظا في جموع أهل القرية الغلاظ بلغة فظة ذات نبرة حماسية، لدرجة أن نساء عجائز فارقن الحياة إثر الإصابة بسكتة دماغية وأنجبت الشابات أطفالا مبتسرين. أظهرت العظات التي بقيت حتى يومنا هذا أنه كان رجلا غير مثقف، بل وفي بعض الأحيان أقرب إلى كونه أميا، ومع ذلك كان قد أسس بطاقته الهائلة مدرسة عليا وذاع صيته بصفته واعظا و«سيف الرب الملتهب» حتى وصل إلى الإخوة الجهلة والبسطاء في الريف الإنجليزي الداخلي.
أما البينتلاندي التالي فكان الابن الأكبر من بين عشرين طفلا من أطفال المبشر (من أربع زوجات)، وهو رجل كان من الواضح قد أهمل وصايا والده وظهر في صورته، مثالا للرجل الشهواني، سمينا جدا ويبدو ودودا، وذا شفتين حمراوين مكتنزتين. كان هذا البينتلاندي هو المؤسس للثروة التي أتاحت للعائلة أن تخطو خطوتها الأولى صعودا نحو الطبقة الأرستقراطية التي انتهت بآنسون المنكب على كتاب «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس». كان قد حقق ثروة كبيرة بتجهيز سفن القراصنة وممارسة ما يشبه القرصنة على التجار البريطانيين؛ وكانت هناك أيضا شائعة رائجة غامضة (كان آنسون ينوي تجاهلها) بأنه حقق أرباحا تصل إلى ثلاثمائة بالمائة من سفينة واحدة محملة بالزنوج بغرض الاتجار بالرقيق من الأفارقة.
تليه صورتان لاثنين من البينتلانديين كانا قد شاركا في الثورة، وبعدها تأتي فجوة أخرى من الأشخاص العاديين، بما في ذلك الفجوة التي مثلها جاريد المفقود، ثم يظهر أنتوني بينتلاند الذي زاد ثروة العائلة زيادة مهولة من تجارة السفن الشراعية السريعة. كانت صورة لرجل قوي داكن البشرة (أول البينتلانديين ذوي البشرة السمراء، ممن يمكن تتبع نسبهم مباشرة وصولا إلى الأصول البرتغالية لسافينا)، رسمها له فنان من الدرجة الثانية مخلص للأسلوب الواقعي في الرسم، وكان قد صور ببراعة الثآليل التي أفسدت وجه الرجل العجوز الموقر. وفي الصورة كان يقف في الحديقة أمام منزل عائلة بينتلاند في دورهام، وخلفه الأهوار وسفينته الشراعية الفاخرة سميراميس، تمخر، بأشرعتها المفتوحة كلها، المحيط البعيد.
وإلى جواره تظهر صورة والد العجوز جون بينتلاند؛ وهو رجل يظهر على ملامحه الورع، يرتدي زيا أسود بالكامل، بياقة سوداء عالية وشعر أسود غزير مموج، وهو الذي زاد ثروة العائلة حتى صارت ثروة كبيرة حقا من خلال عمله في تعاقدات توريد الأحذية والأغطية للجنود في جيتيسبيرج وبول رن وريتشموند. وبعده اندحرت الطبقة الأرستقراطية تماما، وتظهر الصورة التي رسمها سارجنت للعجوز جون بينتلاند وهو في منتصف العمر رجلا كان خبيرا في استخدام كلاب الصيد وعاش حياة رجل ريفي نبيل، رجلا يتجلى نفوذه وشخصيته، تحولت ملامحه القوية تدريجيا إلى ملامح قاسية تكسوها المرارة للرجل المسن الذي كان جالسا الآن يقرأ على ضوء مصباح السيد لونجفيلو أو يكتفي بالتحديق أمامه في الفراغ، بينما ابنه جالس يدون التاريخ الطويل للعائلة.
كان الغرباء يفتنون بمعرض الصور هذا؛ لأنه كان يمثل سجلا مرئيا لعائلة لم تفقد مطلقا أيا من أموالها (باستثناء الأموال المهدرة على ترف جواهر سافينا بينتلاند)، عائلة كانت بمثابة العمود الفقري لمجتمع محلي، عائلة تزوج فيها الرجال زوجاتهن لحسن تدبيرهن ومزاياهن كربات بيوت وليس لجمالهن، عائلة متماسكة جديرة بالاحترام ومحاطة بالإجلال. كانت عشيرة تتميز بعظمة مناقبها ونفوذها، بل وفي بعض الأحيان بعظمة تعصبها وريائها. وكان يمثلها الآن العجوز جون بينتلاند وآنسون، والفتى الذي يرقد طريح الفراش في الطابق العلوي في الغرفة المجاورة لغرفة أوليفيا، يحتضر ببطء. •••
في الساعة العاشرة من كل ليلة، كان جون بينتلاند يتمنى لهم ليلة سعيدة ثم يأوي إلى الفراش، وفي الحادية عشرة كان آنسون يتركهم ويختفي، بعد أن يرتب مكتبه بدقة ويضع أوراقه في ملفاتها، ويقول لأوليفيا: «لو كنت مكانك، لما أطلت السهر، وأنت متعبة بشدة.» وبعده بقليل، تقبل سيبيل والدتها وتصعد الدرج مرورا بجميع الأسلاف.
وحينها فقط، بعد أن ينصرفوا عنها جميعا، تنعم أوليفيا ببعض السكينة. فتزول عنها الأعباء، والهموم، والمخاوف، والأفكار التي أثقلت دوما كاهلها، وتجلس لبعض الوقت مسندة ظهرها على الكرسي ذي المسندين ومغمضة عينيها، مصغية إلى أنغام الليل؛ همهمات النسيم الخافتة بين زهور الليلك الذابلة خارج النافذة، والصرير الصادر عن المنازل العتيقة ليلا، وأحيانا الصوت المشئوم لخطوات الآنسة إيجان الصادرة من بعيد وهي تجتاز الجناح الشمالي العتيق. ثم في إحدى الليالي سمعت مرة أخرى صوت هيجينز الصادر من بعيد وهو يسب الفرس الحمراء أثناء جولة تفقده للإسطبلات قبل خلوده إلى النوم.
وبعدما انصرف الجميع ، فتحت كتابها وانهمكت في القراءة. «لم تحر السيدة كليف جوابا، وفكرت بخزي في أنها كانت ستأخذ كل ما قيل عن التغيير الذي اعترى الأمير علامات دالة على عاطفته، لو لم تكن قد تحررت من الأوهام. كانت تشعر ببعض المرارة تجاه زوجة وريث العرش. ...» كانت تشعر في هذا العالم لسبب تجهله ببعض السكينة، كما لو أنها كانت قد عاشت فيه سابقا وعادت إليه في سكون الليل.
وعند حلول منتصف الليل كانت تغلق الكتاب، وتتفقد الغرف السفلية، وتطفئ المصابيح وتصعد الدرج الطويل لتقف عند باب غرفة ابنها منصتة إلى صوت أنفاسه، الخافتة المضطربة.
2
كانت أوليفيا محقة في اعتقادها بأن آنسون شعر بالخجل من تصرفه ليلة الحفل الراقص. لكنه لم يعتذر لها ولم يأت على ذكر الأمر. واكتفى بعدم الحديث عنه ثانية. ولأسابيع بعد الواقعة لم يذكر اسم أوهارا، ربما لأن الاسم كان يثير حتما ذكرى حديثه المباغت المهين؛ غير أن شعوره بالخجل منعه من مضايقتها بالحديث في الموضوع. ما لم يعرفه مطلقا هو أن أوليفيا، رغم استيائها من الإهانة التي وجهت إلى والدها، شعرت أيضا بالسرور النابع من فساد أنثوي؛ لأنه أظهر ولو للحظة نوبة مفاجئة من الغضب الحقيقي. للحظة أوشك أن يصير الزوج الذي قد يثير اهتمام زوجته.
ولكنه في النهاية غاص من جديد في بحر من اللامبالاة التامة حتى إن حملة تلميحات العمة كاسي ومقترحاتها الخفية عجزت عن استثارته للإقدام على أي تصرف. تمكنت المرأة العجوز من الانفراد به مرة أو مرتين، قائلة له: «آنسون، والدك يكبر في السن ولا يمكنه تدبير أمر كل شيء أكثر من ذلك. يجب أن تشرع في اتخاذ موقف بنفسك. فلا يمكن للعائلة أن تعتمد على امرأة. بالإضافة إلى أن أوليفيا دخيلة حقا. ولم تفهم عالمنا قط.» وبعد ذلك كانت تهز رأسها بأسى، وتتمتم قائلة: «ستقع مشاكل يا آنسون، حين يموت والدك، إن لم تصبح سندا للعائلة. وستواجه مشكلة مع سيبيل؛ فهي غريبة وعنيدة بطريقتها الهادئة، تماما مثلما كانت أوليفيا في مسألة إلحاقها بمدرسة في باريس.»
وبعد فترة صمت، تعاود الحديث قائلة: «أنا آخر شخص في العالم يتدخل في شئون الآخرين؛ ولكنني أتحدث فقط من أجل مصلحتك ومصلحة أوليفيا ومصلحة جميع أفراد العائلة.»
ولكي يتخلص منها، كان آنسون يمنحها وعودا، مواجها إياها بعينين تتحاشيان النظر إليها في إحدى زوايا الحديقة أو المنزل القديم حيث كانت قد حاصرته بذكاء حتى لا يتمكن من الهروب منها. وكان يتركها، مضطربا وقلقا؛ لأن العالم وهذه العائلة التي أثقلت كاهله دون قصد، لن يدعاه ينعم بالسلام ليكمل كتاباته. كان يمقت العمة كاسي بشدة لأنها لم تتركه ينعم بالسلام مطلقا، منذ كان صغيرا حين جعلته يرتدي بنطالا من القطيفة وتركت شعره مجعدا فبدا أشبه باللورد الصغير فنتلوري مما أثار سخرية سابين الصغيرة الصهباء القبيحة. ولم تتوقف أبدا عن توبيخه على «عدم كونه رجلا يدافع عن حقوقه.» وبدا له أن العمة كاسي كانت تحوم دائما في الجوار، كثورة غضب خفية ملحة، تزعجه دائما؛ ومع ذلك كان يعرف، من منطلق الغريزة أكثر من أي عملية استدلال منطقي، أنها كانت حليفته في مواجهة الآخرين، حتى في مواجهة زوجته ووالده وابنيه. فهو والعمة كاسي كانا يعبدان نفس الإله.
لذلك لم يفعل شيئا، أما أوليفيا، فأوفت بكلمتها، وتحدثت مع سيبيل عن أوهارا في أحد الأيام وهما جالستان بمفردهما يتناولان وجبة الإفطار.
كانت الفتاة قد امتطت فرسها برفقته ذاك الصباح، وجلست وهي مرتدية زي ركوب الخيل، وقد تورد وجهها بفعل النشاط البدني الذي بذلته في الصباح الباكر، وكانت تخبر أمها عن جمال ريف دورهام، وعن جراء البيجل الوليدة، وعن وفاة سميث «العنيد»، الذي كان آخر مزارع في المقاطعة ينحدر من نسل سكان نيو إنجلاند القدامى. وقالت إن ابنه الأبله، سيرحل إلى ملجأ. وقالت إن أوهارا سيشتري قطعة الأرض الصخرية التي كانت ملكا له.
وعندما أنهت حديثها، قالت والدتها: «وماذا عن أوهارا؟ أنت معجبة به، أليس كذلك؟»
كانت لدى سيبيل طريقة في النظر إلى الأشخاص، وكأن عينيها البنفسجيتين كانتا تحاولان أن تخترقا كل الادعاءات المزيفة وتكشفا النقاب عن الحقيقة. كانت تتسلح بقوة نابعة من الصدق والبساطة كانت كفيلة بتبديد أي شكوك تماما، واستخدمت هذه القوة في تلك اللحظة، مبتسمة لوالدتها، بصدق.
وقالت: «أجل، أنا معجبة به كثيرا ... ولكن ... ولكن ...» وضحكت برقة. ثم قالت: «إن كنت قلقة بشأن زواجي منه، ووقوعي في حبه، فلا داعي لذلك. فأنا مولعة به لأنه الشخص الوحيد هنا الذي يحب الأشياء التي أحبها. إنه يحب ركوب الخيل في الصباح الباكر، بينما لا تزال قطرات الندى على العشب، ويحب أن يتسابق معي عبر المرج السفلي إلى جانب مقلع الحجارة، ولا أنكر أنه رجل مثير للاهتمام. فعندما يتحدث، يكون كلامه منطقيا. ولكن لا تقلقي؛ فلن أتزوجه.»
قالت أوليفيا: «شغلني الأمر، لأنك تقابلينه أكثر مما تقابلين أي أحد آخر هنا.»
فضحكت سيبيل مرة أخرى. وقالت: «ولكنه كبير في السن يا أمي. إنه يتجاوز الخامسة والثلاثين. إنه كهل. وأنا أعرف أي نوع من الرجال أريد الزواج منه. أعرف بالضبط. سيكون في مثل عمري.»
فقالت أمها: «لا يستطيع المرء دائما أن يجزم بهذا الأمر. فالأمر ليس بتلك السهولة.»
فقالت سيبيل: «أنا واثقة من أنني أستطيع أن أجزم بذلك.» وارتسم على وجهها تعبير جاد. وقالت: «لقد فكرت في الأمر مليا ورأيت الكثير من الرجال الآخرين.»
أرادت أوليفيا أن تبتسم، ولكنها كانت تعلم أنها لن تجرؤ على ذلك إن أرادتها أن تأتمنها على أسرارها اللطيفة والساذجة.
وتابعت سيبيل حديثها: «وأنا واثقة من أنني سأتعرف على الرجل المناسب عندما أراه، على الفور. سيكون الأمر أشبه بشرارة، كصداقتي مع أوهارا، لكنه سيكون أعمق من ذلك.»
فسألتها أوليفيا: «هل سبق لك أن تحدثت مع تيريز عن الحب؟»
فأجابتها: «لا، لا يمكن التحدث معها في مثل هذه الأمور. فهي لن تفهمها. تيريز تنظر إلى كل شيء من ناحية علمية، وبيولوجية. وحين تتزوج تيريز، أظنها ستتزوج رجلا تختاره ليكون أبا مناسبا لأولادها، من الناحية العلمية.» «ليست بفكرة سيئة.» «يمكنها أن تنجب منه دون أن تتزوجه، بالطريقة التي تربي بها الضفادع. أرى ذلك بغيضا.»
ومرة أخرى، استولت على أوليفيا رغبة ملحة في الضحك، وتمالكت نفسها بجهد بطولي. وظلت تفكر في مدى سذاجتها، وجهلها، حين كانت في نفس عمر سيبيل، وكانت ساذجة وجاهلة رغم نوعية الخبرات الفاسدة التي اكتسبتها في أروقة فنادق كونتيننتال. وظلت تفكر في أن لدى سيبيل فرصة أفضل بكثير لنيل السعادة ... سيبيل، الجالسة أمامها بملامح جادة، تدافع عن أفكارها الحماسية عن الرومانسية في مواجهة الهجمات العلمية لتيريز السمراء، المتحمسة.
واستطردت سيبيل قائلة: «سيكون شخصا مثل أوهارا. شخصا مفعما بالحياة؛ لكنه لن يكون كهلا مثل أوهارا.» (إذن كانت سيبيل ترى أوهارا كهلا، وكان أصغر بأربع سنوات من أوليفيا، التي شعرت بأنها في أوج شبابها وبدت هكذا. ظلت الفتاة تتحدث عن أوهارا كما لو أن حياته قد انتهت؛ ولكن ربما كان ذلك فقط لأنها هي نفسها كانت لا تزال صغيرة جدا).
حينئذ تنهدت أوليفيا، رغما عنها. وقالت: «يجب ألا تتوقعي الكثير من العالم يا سيبيل. لا شيء مثالي، ولا حتى الزواج. يتعين على المرء دوما أن يقدم تنازلات.»
فأجابتها: «أجل، أعي ذلك. لقد فكرت كثيرا في الأمر. ومع ذلك، أنا واثقة من أنني سأتعرف على الرجل الذي سأتزوجه متى وقعت عيناي عليه.» ومالت إلى الأمام وقالت بحماس: «ألم تكن لديك تلك القدرة حين كنت فتاة؟»
أجابتها أوليفيا برقة: «أجل، كنت قادرة على ذلك.»
ثم، حتما، طرحت سيبيل السؤال التي ظلت أوليفيا تدعو الرب ألا تسأله. حتى إنه كان بإمكانها سماع سؤال الفتاة قبل أن تتفوه به بالفعل. كانت تعرف بالضبط ما ستقوله.
فسألتها سيبيل: «ألم تشعري بذلك فور لقائك بأبي؟»
وعلى الرغم من كل محاولاتها، أفلت من أوليفيا صدى تنهيدة خافتة. وقالت: «أجل، شعرت به.»
ورأت سيبيل ترمقها بإحدى نظراتها الثاقبة الخاطفة الموحية بالتساؤل، ثم أحنت رأسها فجأة، وكأنها تتظاهر بتفحص النقش على طبقها.
وحين تحدثت مرة أخرى، غيرت الموضوع فجأة، فعلمت أوليفيا بأن الفتاة تشك في صدق ما قالته، وهو ما ظلت تكتمه بسرية شديدة لوقت طويل.
وسألتها: «لماذا لا تعاودي ركوب الخيل يا أمي؟ أود الذهاب معك. يمكننا الذهاب مع أوهارا في الصباح، وحينئذ لن يكون لدى العمة كاسي ما تقوله عن اختلاطي به.» ثم رفعت رأسها. وقالت: «ستعجبين به. لن تستطيعي منع نفسك من ذلك.»
لاحظت أن سيبيل كانت تحاول أن تساعدها بطريقة ما، أن تصرف انتباهها وتبدد التعاسة.
فقالت أوليفيا: «أنا معجبة به بالفعل، معجبة به كثيرا.»
ثم نهضت، وقالت: «لقد وعدت سابين أن أذهب معها بالسيارة اليوم إلى بوسطن. سنغادر في غضون عشرين دقيقة.»
انصرفت بسرعة لأنها علمت أن الجلوس وقضاء المزيد من الوقت في الحديث عن مثل هذه الأمور، بينما كانت سيبيل تراقبها بعينين تفيضان بحماس الشباب الذي ما تزال الحياة أمامه، سيكون أمرا محفوفا بالمخاطر.
ومن كل هذا الحديث الذي دار بينهما، علق في ذهن أوليفيا أمران مميزان؛ الأول أن سيبيل كانت ترى أوهارا كهلا، بل يكاد يكون مسنا، لم تعد أمامه أي فرصة للرومانسية؛ والأمر الثاني هو الاحتمال الكبير لمأساة تنتظر فتاة كانت واثقة جدا من أن الحب من شأنه أن يكون علاقة رومانسية رائعة، وواثقة بشدة من الرجل المثالي الذي ستجده ذات يوم. ماذا يتعين عليها أن تفعل مع سيبيل؟ وأين ستجد رجلا كهذا؟ وحين تجده، ما الصعوبات التي سيتعين عليها مواجهتها مع جون بينتلاند وآنسون والعمة كاسي وجميع أبناء العم والأقارب الذين سينظمون صفوفهم في مواجهتها لهزيمتها؟
وذلك لأنها رأت بوضوح كاف أن هذا الشاب الذي تنتظره سيبيل لن يجسد أبدا فكرتهم عن الزوج المناسب. سيكون رجلا بصفات أوهارا، أو حتى هيجينز، سائس الخيل. وتجلى لها بوضوح السبب الذي جعل سيبيل مولعة بهذين الدخيلين؛ كانت قد اتضحت لها الصورة أكثر فأكثر مؤخرا. كان السبب أنهما يتمتعان بقوة غريبة غامضة، يفتقر إليها الآخرون الذين يعيشون في منزل عائلة بينتلاند كلهم، ويتمتعان بحماس متقد وحيوية. فلا النسب، ولا الظروف، ولا التقاليد، ولا الثروة، جعلتهما ينظران إلى الحياة على أنها فارغة لا معنى لها، لا تتطلب منهما أي جهد، أو صراع، أو كفاح. فلم يضلا طريقهما في متاهات مبهمة. كان أوهارا، بعمله وجهده، وهيجينز بعلاقاته الغرامية الخاطفة وقربه من كل ما هو ترابي، لا يزالان يحملان في نفسيهما زهوة الاستمتاع بلذة الحياة. توصلا بطريقة ما إلى بواطن الأشياء حيث لا يزال لكل شيء طعم ومذاق خصب.
وبينما كانت تسير في الردهة، وجدت نفسها تضحك بصوت عال على عناوين الكتب الثلاثة الوحيدة التي أنتجتها عائلة بينتلاند حتى ذلك الحين؛ «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس»، وكتابي السيد سترازرس: «أفاريز منازل بوسطن القديمة» و«جولات ومحادثات في باحات كنائس نيو إنجلاند.» فكرت فجأة فيما قالته سابين بطريقة لاذعة عن نيو إنجلاند؛ أنها مكان من المرجح أن تصبح فيه الأفكار «أعلى وأقل».
ولكنها أيضا كانت خائفة؛ لأنه في ظل فتنة الحياة المحيطة بها، بدا لها أن فضائل أوهارا وهيجينز هي الأمور الوحيدة في العالم التي تستحق حيازتها. كانت تتوق إلى الشعور بأنها حية، وهو ما لم تشعر به من قبل، وعرفت أيضا أن هذا ما كانت تطمح إليه سيبيل، وهي تتحسس طريقها في سنوات الشباب نحو الرومانسية بأعين شبه مغمضة. كان شيئا استشعرته الفتاة ولم تعه بوضوح أبدا، شيئا علمت بوجوده وبأنه في انتظارها.
3
أخذت سابين تراقب أوهارا وهو يجتاز الحقول أثناء الشفق، وشعرت فجأة أنها تمكنت بحدسها من التغلغل إلى أعماق شخصيته. لعل وحدته الشديدة كانت المفتاح الذي يفتح أقفال روحه بأكملها ويطلق لها العنان، مفتاح عرفته سابين جيدا؛ لأن هذا الشعور لم يفارقها قط طوال حياتها، باستثناء لحظة أو لحظتين من اللحظات العاطفية المفاجئة في مسار حياتها مع كاليندار، عندما تحررت من شعور مؤلم بأنها وحيدة. حتى وهي برفقة ابنتها، تيريز الغريبة الأطوار، كانت وحيدة. كانت تراقب الحياة بالشغف ذاته الذي كانت تراقب به أوهارا وهو يبتعد في مواجهة الأفق، وكانت قد أدركت منذ وقت طويل أن الوحدة كانت لعنة تلازم الأحرار، حتى أولئك الذين ارتقوا قليلا فوق مستوى الإنسانية العادية. وتأملت الحياة حولها، فوجدت أن العجوز جون بينتلاند كان وحيدا، وأوليفيا، وحتى ابنتها تيريز، التي كانت تتجول بمفردها عبر الأهوار بحثا عن الحشرات والنباتات الغريبة. ورأت أن آنسون بينتلاند لم يكن وحيدا مطلقا؛ إذ كان لديه أصدقاء يشبهونه لدرجة حالت دون التمييز بينه وبينهم، وكان يتشارك مع العمة كاسي كل التقاليد والهوس ذاته. كانا جزءا من نسيج، رقعة صغيرة من نسيج الحياة الكامل، لا ينفصلان عنه.
بدا لها أن من بينهم جميعا، كما اتضح لها شيئا فشيئا عن أوهارا، كان هو أكثرهم شعورا بالوحدة. كان لديه أصدقاء، عشرات، بل مئات، في عشرات الدوائر، بدءا من الموانئ التي قضى فيها صباه وحتى العالم المحيط بدورهام الذي قابل فيه آخرين عاملوه بود وليس بالفتور الذي لقيه من جانب عائلة بينتلاند. حظي بالأصدقاء لتمتعه بخصلة مميزة لا تقاوم. ففي أعماق عينيه الزرقاوين المرحتين وفي زوايا فمه المكتنز، الشهواني نوعا ما، كان يكمن نوع من التعاطف الشامل الذي جعله متفهما لمخاوف الآخرين وآمالهم وطموحاتهم ومواطن ضعفهم. وكانت تلك الصفة، التي لا تقدر بمال في مجال السياسة، هي ما دفع أعداءه إلى التشهير به زورا عند كل الناس. لا بد أنه كان يمتلك موهبة تكوين صداقات، وهذا يفسر وجود قطاعات كاملة من بوسطن مستعدة لأن تتبعه أينما ذهب؛ ولكن خلف هذه الروابط الوثيقة غير المتكلفة كان يوجد دائما ستار من نوع ما يفصله عنهم. كان يتصرف بأريحية في الحانات المتواضعة أو في ولائم جولات الصيد الصباحية بنفس القدر من البساطة، ولكن كان هناك جانب منه - الجانب الذي كان يمثل شخصية أوهارا الحقيقية - لم ينكشف لأحد على الإطلاق، الجانب الذي كان يمثل شخصية رجل أيرلندي شديد الحميمية، رومانسي، حالم، تحركه العاطفة، طائش، غير متقيد بشيء، وهذه الشخصية كانت متوارية في موضع لا يمكن لأحد اختراقه. عرفت سابين هذا الجانب من أوهارا؛ إذ كان قد انكشف لها في لمحة خاطفة سريعة عند الإتيان على ذكر أوليفيا بينتلاند. وبعد ذلك حينما فكرت في الأمر، استسلمت له، هي (سابين كاليندار)، التي تتسم بالصلابة، والقسوة البالغة، والتشكك، مثلما فعل أناس كثر قبلها.
وبينما كان واقفا في غرفة الجلوس الخاصة بها، ضخما وقويا ومستقلا، بدا فجأة كصبي صغير، كالصبي الذي صادفته ذات مرة منذ فترة طويلة في وقت متأخر من الليل، جالسا وحيدا وصامتا على حافة الرصيف أمام منزلها في شارع دي تيلسيت. فتوقفت للحظة وراقبته، وبعد قليل اقتربت منه وسألته: «ماذا تفعل على الرصيف في هذه الساعة من الليل؟» فرفع الصبي ناظريه، وقال بجدية: «ألعب.»
حدث ذلك قبل سنوات - ولا بد أن الصبي صار شابا الآن - ولكنها تذكرت الصبي فجأة خلال اللحظة التي التفت فيها أوهارا وقال لها: «سيعني لي ذلك الكثير، أكثر مما يمكنك أن تتخيلي.»
أدركت أن تلك كانت هي حقيقة أوهارا؛ رجل حزين ووحيد بعض الشيء، وكأنه في خضم كل النجاحات التي حققها، وحياته المهنية المزدهرة ومنزله الجديد الكبير وكلابه وخيوله وكل الأشياء الأخرى مما كان يمتلكه من عتاد مبهر يخص رجلا نبيلا، تطلع إليها وقال بجدية: «ألعب.»
كانت سابين قد أدركت منذ وقت طويل أن المرء بإمكانه أن يتذوق طعم الحياة حين ينحي جانبا كل القواعد الصغيرة التي تربك كيانه، وكل الروابط، والمعتقدات والتقاليد التي كانت قد دربت عليها تدريبا مكثفا وقاسيا حتى انتهى بها الأمر إلى أن صارت متمردة عليها. ووراء كل اللامبالاة البادية على ملامحها والتعقيدات الذهنية، تستقر ركيزة من الصدق والإخلاص الشديدين اللذين دفعاها إلى البحث عن رفاقها، فكانت تتعرف إليهم بطريقة مباشرة كما يبلغ السهم هدفه، فقط من بين الأشخاص الذين أسمتهم «كاملين». كانت تسمية لم تكلف نفسها جهد تعريفها لأي أحد، ربما لأنها كانت تشك في أن أحدا غيرها سيلتفت إلى معنى هذه التسمية؛ بل كانت هي ذاتها ترى أن تلك التسمية تفتقر إلى الدقة. وعلى نحو مبهم، كانت تقصد بكلمة «الكمال» الأشخاص الذين يعولون على أنفسهم، والذين لديهم كيان قوي بما يكفي للصمود أمام أي اعتداء أو انهيار يصيب أي بيئة يكونون فيها، أشخاص يمكنهم العيش مستقلين عن أي عالم مادي، يفتخرون بامتلاكهم إحساسا بالفردية، ويمكنهم أن يثبتوا أقدامهم ويقررون مصائرهم بنجاح أينما شاء القدر أن يضعهم. كانت قد اكتشفت أن وجودهم شيء نادر، ومع ذلك كانوا موجودين في كل مكان، وهؤلاء أمثال جون بينتلاند وأوهارا وأوليفيا وهيجينز.
لذا، كانت قد خلصت إلى أن تبحث عن حياتها بينهم، مجتذبة إياهم بهدوء حولها أينما يتصادف في هذا العالم أن تتوقف لتستريح لبعض الوقت. فعلت ذلك بهدوء ودون هتافات عالية منادية ب «الحرية» و«الحب المتحرر» و«حق المرء في أن يعيش حياته»؛ لأنها كانت متحضرة بما يكفي لأن تدرك عبثية لفت أنظار العالم إليها، وكانت تتسم بانفعالية مفرطة وبنزعة فردية لدرجة أنها لم تحاول مطلقا تغيير الآخرين. لعل هنا تكمن قوتها الناعمة ومصدر ذلك الغموض الذي يجعل وجودها مربكا ومزعجا لأناس مثل آنسون والعمة كاسي. كان أمرا لا يطاق للعمة كاسي أن تظن أن سابين حقا لم تعبأ حتى باحتقارها، لا يطاق لامرأة عجوز أمضت حياتها كلها في ترتيب حياة الآخرين أن تجد أن شابة طائشة مثل سابين لا تنظر إليها إلا باعتبارها مثيرة للسخرية والشفقة. ولم تحتمل عدم قدرتها على إخراج سابين من لامبالاتها الهادئة المتغطرسة، ولم تحتمل معرفتها بأنها كانت تراقبها دائما بعينيها الخضراوين، وتتفحصها ببصرها مرارا وتكرارا وكأنها حشرة لتكتشف أنها حشرة من نوع متدن. فأولئك الذين شاركوا في اكتشاف سرها كانوا مغرمين بها، أما أولئك الذين لم يفعلوا فكانوا يبغضونها. وعلى أي حال، كان سرا شديد البساطة، مفاده ضرورة تحلي المرء بالبساطة والود والإنسانية و«الكمال». فلم يكن لديها صبر على المبالغة في إظهار العواطف، والتكلف وتصنع التقوى.
وهكذا، بدأ حضور سابين يشكل تدريجيا صدعا غير محدد المعالم في عالم قانع وراض بل وفخور بذاته. شيء ما في عينيها الخضراوين الباردتين، في صوتها الرنان، في الملاحظات المباغتة الحصيفة، المحررة من الأوهام التي كانت تعلنها في لحظات مربكة، ملأ أناسا مثل العمة كاسي بالقلق وأثار في نفوس أناس مثل أوليفيا شعورا متقدا بالتبرم والتمرد. ازدادت أوليفيا نفسها وعيا بالفارق مع مرور الأيام، وتشككت أحيانا في أن حماها، العجوز القاسي، كان واعيا بالأمر. كان الأمر بينا ومفحما لأن سابين لم تكن دخيلة؛ فمن شأن سخرية الدخلاء أن ترتد عن عالم دورهام دون تأثير مثلما ترتد الأسهم عن ظهر حيوان المدرع. لكن سابين كانت واحدة منهم؛ وكان ذلك ما أحدث الفارق؛ إذ كانت دوما داخل القوقعة.
4
في إحدى ليالي صيف يونيو الحارة التي خلت من أي نسمات، تغلبت سابين على شعورها بالخمول الباعث على الملل وجهزت وجبة عشاء في منزل «بروك كوتيدج»؛ عشاء فاخرا، به ما لذ وطاب من طعام، وربما قيل إنها أعطت لضيوفها إيحاء بلامبالاة هائلة من الكرسي الذي على رأس المائدة، حيث جلست تغطي وجهها الأصباغ، وترتدي ملابس قبيحة ومبهرجة، تراقبهم جميعا بمتعة منحرفة. فشل هذا العشاء فشلا ذريعا في ضيافة المدعوين؛ لأنه كانت قد مرت سنوات طويلة منذ أقامت سابين عشاء لم يكن فيه الضيوف الحاضرين بارعين بما يكفي لأن يؤدوا واجبات الضيافة بأنفسهم، والآن بعد أن عادت مرة أخرى إلى عالم تعددت فيه أسباب دعوة الناس إلى العشاء عدا سبب الرغبة الحقيقية في صحبتهم، تقاعست عن بذل أي جهد. وفشل العشاء أيضا، لأن تيريز، التي أقيم العشاء من أجلها، تصرفت تماما كما تصرفت في ليلة الحفل الراقص. سرت حالة من الاضطراب والتوتر، وشعور بالحرج بين الشباب الغر أما سابين وأوليفيا فشعرتا بالملل. كان أوهارا حاضرا؛ إذ كانت سابين قد أوفت بنصف وعدها؛ ولكن حتى هو جلس بهدوء، واختفت جرأته واندفاعه وحل محلهما خجل صبياني. وبدا أنه سيطرت على الوضع كله حالة من التراخي، تلك اللعنة التي أحاطت بالبيت القديم على الضفة الأخرى من النهر.
كانت أوليفيا قد جاءت، رغما عنها تقريبا، وسيطرت عليها حالة من الإرهاق بعد زيارة طويلة دار فيها حوار بينها وبين العمة كاسي حول موضوع الشائعات بوجود علاقة غرامية بين سيبيل وجارهم الأيرلندي. وحين نهضوا، تسللت بهدوء إلى الحديقة؛ لأنها لم تستطع تحمل فكرة إجراء محادثة متوترة ومصطنعة. أرادت، بشدة، أن تترك وحدها في سلام.
كانت ليلة رائعة، حارة كما ينبغي لليلة صيفية أن تكون، ولكنها كانت ليلة صافية أيضا، فبدت السماء بأكملها وكأنها قبة ياقوتية مرصعة بماسات. وعند مقدمة المنزل، خلف حدود الحديقة الصغيرة ذات الشرفات، امتدت الأهوار كسجادة داكنة صوب الكثبان الرملية البعيدة، التي كانت قد صارت مع حلول الظلام معتمة وزرقاء قبالة الخط الفاصل الأبيض الأكثر نقاء الذي صنعته الأمواج ذات الزبد. ودفعها إحساسها بالعشب الرطب الكثيف تحت نعل صندلها الفضي إلى أن تتوقف للحظة، وتتنفس بعمق، وملأها برغبة لطيفة، شبه غامضة، في الامتزاج بكل هذا الجمال المحيط بها، بأجواء الهواء الساخن، وعبير الزهور المتفتحة والسيقان الخضراء المنبثقة، بالعشب والبحر والأهوار ذات الرائحة النفاذة، لتنساق إلى حالة من العدم وفي الوقت نفسه من الكمال، لتسبح نحو الخلود. انتابها فجأة إحساس غريب، ومحير بسرمدية كل هذه القوى والأحاسيس، بسرمدية البحر والأهوار، والسيقان الخضراء المنبثقة والقبة الياقوتية المرصعة بالماسات فوق رأسها. رأت لأول مرة في حياتها كلها قوة شيء استمر ودام، متجاهلا المخلوقات الصغيرة المثيرة للشفقة مثلها ومثل الآخرين الموجودين في المنزل خلفها، قوة تجاهلت المدن والجيوش والأمم، قوة ستدوم زمنا طويلا بعد أن يكون العشب قد غطى أطلال المنزل القديم في أرض عائلة بينتلاند. كانت هذه القوة تجتاحها، تاركة إياها عالقة في مكان ما في المياه الراكدة. وانتابتها رغبة مفاجئة ملحة، للمشاركة في هذا المشهد العظيم للخصوبة السرمدية، التي كانت لغزا أقوى من أي منهم وأقوى منهم مجتمعين، قوة من شأنها أن تسحق في النهاية كل ما كان لديهم من كبرياء تافه زائل ومعتقدات وتقاليد عارضة ضئيلة.
ثم فكرت في نفسها، وكأنها كانت تدرك ذلك لأول مرة: «أنا متعبة، متعبة بشدة، وغضبى قليلا.»
بينما كانت تسير عبر العشب الرطب، جلست على مقعد حجري كان أوهارا قد وضعه أسفل إحدى أشجار التفاح العتيقة المتبقية من البستان الذي كان يغطي جميع الأراضي المحيطة بمنزل «بروك كوتيدج» أيام كانت سافينا بينتلاند لا تزال على قيد الحياة؛ ولفترة طويلة (لم تدرك قط كم استغرقت) ظلت هناك تائهة في إحدى ثغرات الوعي حينما لا يكون المرء في حالة من اليقظة أو النوم وإنما عند الحد الغامض الذي يخلو من الأفكار، والهموم، والمشاكل. ثم شيئا فشيئا أدركت أن شخصا ما يقف قريبا جدا منها، تحت الشجرة العتيقة، الملتوية الأغصان. وكأنما كان وجوده حلما تجسد بطريقة ما فصار حقيقة، لاحظت أولا رائحة دخان السيجار الذكورية تمتزج بعبير الزهور النامية في حديقة سابين، وحين التفتت رأت جسدا أسود أدركت فورا أنه أوهارا. لم تتفاجأ برؤيته؛ إذ بدا بطريقة غريبة وكأنها كانت تتوقع قدومه.
وحين استدارت، سار نحوها وبدأ الحديث. سألها: «ازدهرت حديقتنا، أليس كذلك؟ لا يمكنك أن تظني أن عمرها عام واحد فقط.»
أجابته قائلة: «أجل، لقد ازدهرت بشكل رائع.» وبعد فترة صمت قصيرة، سألته: «منذ متى وأنت واقف هنا؟»
فأجابها: «منذ لحظة فقط. رأيتك تخرجين من المنزل.» وأنصتا لبعض الوقت إلى الصوت الحزين للأمواج النائية وهي تتكسر على الشاطئ، وبعد قليل قال برقة، وبصوت خالطته الرهبة: «إنها ليلة رائعة ... ليلة مليئة بالجمال.»
حاولت جاهدة أن ترد عليه، ولكنها لم تحر جوابا. فقد أدهشها التعليق الذي قاله أوهارا بكل هدوء؛ لأنه لم يخطر ببالها أن يكون أوهارا منتبها لجمال هذه الليلة. كانت العتمة حالكة فلم تستطع تمييز ملامحه، ولكنها كانت تراه كما تتذكره، ورأته أيضا، كما تراه عيون الآخرين؛ صارما وقويا ولكنه مألوف قليلا، بالجرح في صدغه وعينيه الزرقاوين الثاقبتين، وخطوته السريعة، بخفة ورشاقة غير متوقعة من رجل بحجمه. كلا، قد يتوقع المرء من هيجينز السائس الصغير الحجم أن يقول: «إنها ليلة رائعة ... ليلة مليئة بالجمال.» فالرجال الذين كانت تعرفهم - أصدقاء آنسون - لم يكونوا يتفوهون مطلقا بمثل هذه العبارات. بل إنها كانت تشك في أنهم من المستحيل أن يلاحظوا ليلة كهذه، وإن فعلوا، فسيخجلون من أن يكونوا قد فعلوا شيئا غير عادي.
تحدث إليها: «لم يحقق هذا الحفل نجاحا كبيرا.»
فأجابته: «لا.»
فقال: «لا أحد يبدو منسجما مع أي أحد آخر. كان يجدر بالسيدة كاليندار ألا تطلب مني الحضور. ظننتها أكثر فطنة من ذلك.»
ضحكت أوليفيا برقة. وقالت: «لعلها فعلت ذلك عن قصد. فلا يسعك أبدا معرفة السبب الحقيقي وراء أي من أفعالها.»
ظل صامتا لبعض الوقت، وكأنه يتأمل ما قالته، ثم قال: «ألا تشعرين بالبرد هنا في الخارج؟»
فأجابته: «لا، ليس في ليلة كهذه.»
ساد بينهما صمت طويل جدا وغامض جدا ينذر بالخطر لدرجة أنها شعرت بالحاجة إلى قول شيء ما، بأدب وتكلف، كما لو كانا غريبين جالسين في غرفة الاستقبال بعد العشاء لا في الحديقة التي كانا قد زرعاها معا تحت أشجار التفاح العتيقة.
قالت: «لا أنفك أتساءل، كم سيستغرق الأمر حتى تزحف بيوت دورهام وتغطي هذه الأرض.»
فأجابها: «لن يحدث، ما دمت أملك أرضا بين دورهام والبحر.»
وابتسمت في الظلام لفكرة وجود سياسي أيرلندي يتبع طائفة الروم الكاثوليك حام لريف نيو إنجلاند القديم هذا، وقالت جهرا: «طباعك تزداد شيئا فشيئا شبها بالآخرين. تريد أن تجعل العالم يقف ساكنا.»
فقال: «أجل، بوسعي أن أرى أن الأمر يبدو لك بلا ريب مضحكا.» لم تكن ثمة مرارة تخالط صوته، وإنما نوع من التأذي في مشاعره، وهو ما أذهلها مجددا؛ لأنه كان من المستحيل أن تفكر في أن أوهارا شخص يمكن أن تتأذى مشاعره.
فقالت: «سيبقى منزل آل بينتلاند دائما كما هو، ولكن، بالطبع، سنموت جميعا يوما ما ثم ماذا بعد؟»
فقال: «سيكون أبناؤنا موجودين دائما.»
كانت تدرك تدريجيا أنها تنزلق عائدة إلى ذاك العالم من الهموم والمتاعب التي تركتها وراءها، العالم الذي كانت قد فرت منه قبل قليل. فقالت: «إنك تتطلع إلى مستقبل بعيد.»
قال: «ربما، ولكنني أنوي أن يكون لدي أبناء يوما ما. وفي منزل آل بينتلاند لديهم دائما سيبيل، التي ستقاتل بشراسة للحفاظ على المنزل. لن تتخلى عنه أبدا.»
فقالت أوليفيا: «ولكنه سيكون ملكا لجاك، وأنا لست واثقة بشأنه.»
تنهدت دون وعي، لعلمها الآن بأنها كانت تتظاهر مجددا، وبأنها كانت غير صادقة. كانت تتظاهر مجددا بأن جاك سيعيش حتى يأتي اليوم الذي يرث فيه منزل عائلة بينتلاند وحده، وأنه يوما ما سينجب أطفالا يواصلون مسيرته. وظلت تقول لنفسها: «وحدها الحقيقة قادرة على إنقاذنا جميعا.» وعلمت أن أوهارا فهم لعبة التظاهر الواهنة التي كانت تلعبها. علمت لأنه ظل واقفا هناك صامتا، وكأن جاك قد مات بالفعل، كما لو أنه فهم سبب التنهيدة المريرة الخافتة واحترمها.
فسألته: «أنت ترى في سيبيل آمالا عريضة، أليس كذلك؟»
فأجابها: «أجل، إنها فتاة رائعة. يمكن للمرء الاعتماد عليها.»
فقالت: «ربما لو كانت لديها بعض من خصال تيريز أو السيدة كاليندار، لكانت أكثر أمنا من التعرض للأذى.»
لم يجبها على الفور، لكنها كانت تعرف أنه كان يقف هناك في الظلام، يراقبها.
فتمتمت قائلة: «لكن كان من السخافة قول ذلك. فلا أظنك تفهم ما أعنيه.»
فأجابها بسرعة. «بل أعرف بالضبط ما تعنيه. أعرف وواثق في أن السيدة كاليندار تعرف. لقد تعلم كلانا إنقاذ نفسه؛ لم نتعلم في المدرسة ذاتها، ولكنه يظل الدرس المستفاد ذاته. أما فيما يخص سيبيل، فأظن أن ذلك منوط بهوية الشخص الذي ستتزوجه.» (قالت أوليفيا في نفسها: «الآن إذن، ها هو يوشك أن يعترف. إن سيبيل هي من يحبها. ويرغب في الزواج منها. لذلك تبعني إلى هنا.») ها هي من جديد، تعود لتتورط بقوة في تعقيدات الحياة. شعرت بغيرة مفاجئة مخجلة على سيبيل، التي كانت لا تزال في ريعان شبابها، والتي كانت قد دفعتها بالكامل إلى تذكر ماضيها مع الآخرين في عائلة بينتلاند.
قالت: «كنت أتساءل عما إذا كانت تقابلك أكثر مما ينبغي، عما إذا كانت تشكل لك إزعاجا.»
فأجابها: «لا، لن تكون كذلك أبدا.» ثم أضاف بلهجة خالطها المرح: «أعلم أنك بعد لحظة ستسألينني عن نواياي.»
فقالت: «لا، لا»، ولكنها لم تستطع التفكير في أي شيء آخر لتقوله. وشعرت فجأة بالخجل والحرج والغباء قليلا، كفتاة صغيرة ترقص رقصتها الأولى.
قال لها: «سأطلعك على نواياي»، ثم توقف فجأة عن الحديث. وقال: «لماذا يستحيل علينا أن نتحلى بالصدق في هذا العالم، في حين أنه ليس أمامنا وقت طويل لنعيشه؟ سيختلف عالمنا بالكامل لو تحلى الجميع بالصدق، أليس كذلك؟»
تردد، منتظرا إجابتها، فقالت دون وعي منها: «بلى، سيختلف كثيرا.»
عندما أجاب كانت في صوته مسحة باهتة من الحماس. فخفف منها أكثر وتحدث بسرعة أكبر. لم تستطع رؤيته في الظلام، ورغم ذلك كانت واعية جدا بهذا التغيير.
قال لها: «سأخبرك إذن. كنت أرى سيبيل كثيرا على أمل أن أرى أمها ولو قليلا.»
لم تجبه. كل ما فعلته أنها ظلت جالسة في مكانها، عاجزة عن الكلام، يسيطر عليها الارتباك، كما لو كانت فتاة صغيرة في مقابلة مع أول عشاقها. حتى إنها شعرت بالدوار قليلا لسماع صوته.
فاعتذر لها: «لقد أسأت إليك. أنا آسف. ولكنني لم أقل غير الحقيقة. ولا ضير في ذلك.»
وبجهد بطولي للتحدث بذكاء، نجحت في قول: «كلا، لست مستاءة.» (وتملكها شعور لطيف، وسخيف، بالعجز.) «لا، لست مستاءة. لا أدري ...»
كانت واثقة من شيء واحد فقط؛ هو أنها لم تختبر هذه الحالة الغريبة من الدوار، والنشوة من قبل. كانت حالة خبيثة وغامرة بطريقة لاذعة وحلوة. وظلت تفكر: «بدأت أفهم الآن كيف يمكن لفتاة أن تتعرض للإغواء، وكيف يمكن أن تعجز عن إدراك ما تفعله.»
قال لها: «أظنك تحسبينني مجترئا.»
فقالت: «لا، أفكر فقط في أن هذا مستحيل، إنه جنون.»
فقال لها: «تفكرين في أنني همجي، متشرد، أيرلندي، روماني كاثوليكي، شخص لم تسمعي عنه من قبل.» وتمهل، ثم أضاف: «أنا كل ذلك، من وجهة نظر البعض.»
فأجابته: «لا، لا أظن ذلك؛ لا أظن ذلك.»
جلس بجانبها على المقعد الحجري صامتا. ثم تابع بنعومة: «لك كل الحق في أن تفكري في ذلك. لك كل الحق في ذلك، ومع ذلك فأمور كتلك لا تشكل فارقا، لا شيء يشكل أي فارق.»
فقالت له برقة: «كان والدي يشبهك كثيرا. اعتاد أعداؤه مناداته في بعض الأحيان ب «الأيرلندي الهمجي» ...»
كانت تعلم طوال هذا الوقت أنه كان ينبغي عليها النهوض والبحث عن ملجأ تلوذ به داخل المنزل. كانت تعلم أن تصرفها ربما كان سخيفا، ولكنها مكثت في مكانها بكل هدوء. كانت مرهقة بشدة وكانت قد انتظرت وطال انتظارها لشخص يحادثها بهذه الطريقة (أدركت ذلك الآن فقط في لحظة خاطفة)، أن يحادثها كامرأة. كانت في أمس الحاجة، إلى شخص تتكئ عليه.
وسألته بدافع من شعور غامض بقلة الحيلة: «وكيف لك أن تعرفني؟ كيف لك أن تعرف أي شيء عني؟»
لم يلمسها. لم يفعل شيئا سوى الجلوس في الظلام، مشعرا إياها بنوع من القوة التي كانت تتجاوز قدرتها، فكل ما قاله للأسف كان حقيقيا.
قال: «أعرف، أعرف كل شيء عنك، كل شيء. لقد كنت أراقبك. ولقد فهمتك، أكثر حتى مما فهمك الآخرون. فرجل عاش حياة كحياتي يرى ويفهم الكثير مما لا ينتبه إليه الآخرون مطلقا؛ لأنه يعتمد على بصيرته في إدراك كل شيء. إنه أقوى سلاح يمتلكه منتهز الفرص.» مرت لحظة من الصمت وبعدها سألها: «هل يمكنك أن تفهمي ذلك؟ ربما يكون صعبا؛ لأن حياتك كانت شديدة الاختلاف.»
فأجابته: «لم تكن شديدة الاختلاف، كما قد تظن، ولكن ربما أكون فقط قد أفسدتها أكثر.» ثم استقامت في جلستها، وتمتمت قائلة: «من الحماقة أن أسمح لك بالتحدث إلي بهذه الطريقة.»
فقاطعها سريعا بحماس شبه صبياني. «ولكنك مسرورة، أليس كذلك؟ أنت مسرورة، على أي حال، سواء كنت تكترثين لأمري أم لا. أنت تستحقين ذلك منذ وقت طويل.»
بدأت تنخرط في البكاء بهدوء، في عجز تام، دون صوت، وسالت الدموع على خديها، وفكرت في نفسها قائلة: «الآن صرت مغفلة تماما. إنني أرثي لحالي.» ولكنها لم تستطع التوقف عن البكاء.
ورغم الظلام بدا أنه كان واعيا بدموعها؛ لأنه اختار ألا يقاطعها. وظلا جالسين على هذا الحال وقتا طويلا في صمت، وأوليفيا تشعر بألم حاد يعتصرها، وبجمال الليل وكانت تجد الأمر برمته غريبا وغير حقيقي ومربكا.
قال لها بهدوء: «أردتك أن تعلمي أن شخصا بالقرب منك، متيم بك، ومستعد للتخلي عن أي شيء لأجلك.» وبعد قليل قال: «لعل من الأفضل أن ندخل الآن. يمكنك الدخول عبر الفناء وضبط مساحيقك. وسأدخل أنا عبر الباب من الحديقة.»
وبينما كانا يسيران فوق العشب الرطب، العطر، قال: «سيكون من الممتع أن تشاركيني أنا وسيبيل ركوب الخيل في الصباح.»
فقالت أوليفيا: «ولكنني لم أمتط حصانا من سنوات.»
وطوال ما تبقى من الأمسية، وبينما جلست أوليفيا تلعب البريدج مع سابين وأوهارا وفتى عائلة مانيرينج، ظل ذهنها يشرد عن اللعبة في مسارات جانبية غير مألوفة. وقالت لنفسها إنها لم تكن حتى تكن لأوهارا أي مشاعر حب، ولو من بعيد؛ وكل ما في الأمر أن أحدا - رجلا لا يتمتع بجاذبية استثنائية - اعترف لها بإعجابه بها، ومن ثم شعرت بأنها شابة ومتهورة ومبتهجة. كان الأمر كله سخيفا ... ولكنه مع ذلك، وبطريقة غريبة، لم يكن سخيفا على الإطلاق. وظلت تفكر في تعليقات آنسون عن أبيه والسيدة سومز العجوز، «إنها علاقة سخيفة»، وتعليق سيبيل وهي تقول بجدية «لكنه لن يكون كهلا، مثل أوهارا»، وشعرت في نفس الوقت لأول مرة في حياتها بأنها في ريعان شبابها. لقد كانت شابة وهي تجلس على المقعد الحجري تحت شجرة التفاح العتيقة، شابة على الرغم من كل شيء.
وقالت جهرا: «أربعة بستوني»، وأدركت في الحال أنه لم يكن ينبغي أن تزايد في رهان كهذا.
كانت تشعر أيضا بالتوتر، لعلمها أن أعينا كانت منشغلة بمراقبتها، طوال الوقت، أكثر من انشغالها باللعبة؛ عيني سابين الخضراوين وعيني أوهارا الزرقاوين البراقتين. فلم تستطع رفع بصرها دون مواجهة نظرة هذه أو ذاك؛ ولتحمي نفسها واجهتهما بابتسامة صفراء متكلفة خفيفة كالابتسامة الآلية التي كانت تصطنعها الآنسة إيجان. كان هذا النوع من الابتسام هو الذي يجعلها تبدو متعبة الملامح، ولأول مرة شعرت بلمحة شفقة مثيرة للسخرية لحال الآنسة إيجان. فلا بد وأن وجه الممرضة كان يؤلمها بشدة في بعض الأحيان. •••
كان الدوار لا يزال يلازمها وهي تصعد إلى السيارة بجانب سيبيل وتنطلقان في الطريق الذي يؤدي من منزل «بروك كوتيدج» إلى منزل عائلة بينتلاند. كان الطريق جزءا من طرق مزينة بالكامل بالأشجار، تحدوها أسيجة وأشجار عتيقة، كانت تربط منازل الريف معا، وفي الليل كانت متنزها ومكانا لاجتماع الخدم الذين يعملون في هذه المنازل الكبيرة. كان المرء يصادفهم في مجموعات صغيرة من ثلاثة أو أربعة أفراد، واقفين بجانب البوابات أو الجدران الحجرية، يتبادلون أحاديث النميمة ويضحكون معا في الظلام، ويتبادلون حكايات الحياة التي تدور داخل منازل أسيادهم، وقصص ما فعله الرجل العجوز بالأمس، وكيف أن السيدة فلانة تستحم مرة واحدة فقط في الأسبوع. كان ثمة عالم كامن أسفل السطح المصمت الهش الرتيب الذي كان يحمي حياة الأثرياء، عالم مليء بالزيف والأسرار الغامضة والقيل والقال في توافه الأمور، عالم ربما كان أكثر صدقا لأنه كان مخفيا بعيدا عن الأعين - ربما باستثناء العمة كاسي، التي كانت تعرف كم الأسرار المذهلة التي لدى الخدم - ولهذا السبب ظهرت الحاجة إلى هذا النوع من التظاهر الذي وجدته أوليفيا مأساويا للغاية. كانت تلك الأسرار تتردد في الممرات المظلمة ليلا بعد انتهاء العشاء في الحي، وفي بعض الأحيان كانت أصداء السخرية الصاخبة تتصاعد من هذه الأسرار في ضحكات أيرلندية جامحة كان صداها يتردد في أرجاء المروج التي يعلوها بالضباب.
تردد أيضا على الممرات ذاتها العشاق، الذين كانوا يذهبون أزواجا لا في مجموعات من ثلاثة أو أربعة أفراد، وفي بعض الأحيان كانت تتردد أصداء لنوع مختلف من المرح؛ الضحك الجامح نصف الهيستيري لخادمة مطبخ يتودد إليها سائس أو خادم منزل في زاوية مظلمة بخشونة وحماس جامح. كان عالما كامنا لا يتفتح إلا تحت أستار الظلام. وأحيانا في عتمة الليل، كان السادة، وهم يقودون سياراتهم عائدين إلى المنزل من حفل راقص أو عشاء، يصادفون زوجا من العشاق، يغمرهما الوهج اللامع المفاجئ لمصابيح السيارة، وهما جالسان متعانقان أسفل إحدى الأشجار، أو مستلقيان شبه مختبئين بين شجيرات الزعرور المتشابكة أو الشجيرات الأقدم.
والليلة، بينما كانت أوليفيا وسيبيل تمضيان بالسيارة في صمت طوال الطريق، امتلأ الهواء الساخن برائحة قوية من أزهار الزعرور والرائحة القوية الخبيثة للماشية، التي هبت باتجاههما عبر المروج بفعل النسمات المالحة الضعيفة القادمة من ناحية الأهوار. كان الوقت متأخرا ولم ترصد أضواء السيارة أي عشاق ضالين حتى بلغتا سفح التل بجانب الجسر القديم، وهناك كشف الوهج فجأة عن ظل رجل وامرأة جالسين معا مستندين إلى الجدار الحجري. وحين اقتربتا منهما، انسلت المرأة بسرعة خلف الجدار، ثم تبعها الرجل وقفز بخفة مثل الماعز إلى الأعلى ومنه إلى الحقل المجاور. ضحكت سيبيل وتمتمت: «إنه هيجينز مجددا.»
كان هذا هيجينز. كان من السهل تمييز جسده البدين الرشيق، وملابسه؛ سروال ركوب الخيل وقميص قطني بلا أكمام، وأثار مشهده وهو يقفز فوق الجدار، انطباعا خاطفا مبهما في نفس أوليفيا أشبه بذكرى شبه منسية. وقالت في نفسها إن الغزال الصغير، حين يفزع، لا بد أنه يتوغل بين الأجمات بالطريقة ذاتها. وانتابها فجأة نفس الشعور الغريب اللاذع بالرعب الذي كان قد انتاب سابين في الليلة التي اكتشفته فيها مختبئا بين أشجار الليلك يشاهد الحفل الراقص.
وأصابتها قشعريرة، فسألتها سيبيل: «ألا تشعرين بالبرد؟»
فأجابتها: «نعم.»
كانت تفكر في هيجينز وتأمل ألا تكون هذه بداية لمشاكل جديدة. فقد أتتها مرة قبلئذ فتاة في ورطة؛ فتاة بولندية، ساعدتها وصرفتها لأنها رأت أن إجبار هيجينز على الزواج منها ما كان سيجلب لهما أي شيء إلا الشقاء. وكان سعي نصف فتيات الريف للظفر برجل مغضن وقبيح للغاية، مثل هيجينز الضئيل الوحشي المشعر، لا ينفك يذهلها. •••
وداخل غرفتها أنصتت في الظلام حتى سمعت صوت أنفاس جاك الخافتة، ثم، بعد أن بدلت ثيابها، جلست طويلا تطل من النافذة عبر المروج باتجاه الأهوار. تملكتها إثارة مكبوحة بدا أنها تسري في سائر جسدها وتؤرقها. وفارقها تعب الروح الذي كان قد جعلها تنساق خلال الأشهر المنصرمة إلى نوع من الخمول. شعرت بالحياة تدب فيها، أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى، حتى حينما كانت فتاة صغيرة؛ فتوردت وجنتاها واتقدتا، فوضعت يديها البيضاوين على وجنتيها لتشعر ببعض البرودة التي كانت تفتقر إليها نسمات الليل؛ لكن يديها أيضا كانتا متقدتين مفعمتين بالحياة.
وبينما كانت جالسة هناك، تلاشت الأصوات الآتية من غرفة سيبيل عبر الردهة وفي النهاية ساد سكون الليل إلا من صوت الأنفاس الخافتة لابنها والصرير الغامض المألوف للمنزل العتيق. باتت وحدها الآن؛ إذ كانت الوحيدة التي لم تنم، وصارت أكثر هدوءا، وهي جالسة مطلة على المروج التي يغطيها الضباب . تسللت روائح الليل الدافئة العبقة عبر النافذة، ومرة أخرى أحست بنشوة تسري في الهواء تشبه النشوة التي أحستها وهي جالسة، قبل ساعات، في شرفة سابين المطلة على البحر. وهاجمتها مرة أخرى أثناء قيادتهما للسيارة على الطريق عبر مراعي الأهوار المنخفضة على ضفاف النهر. وبلغت انفعالاتها ذروتها، حين رأت هيجينز، وهو يقفز فوق الجدار مثل الماعز، حتى إن حدة المفاجأة أرعبتها. كان هذا الشعور لا يزال يلازمها إلى حد ما، الشعور الغريب بقوة هائلة جبارة تحيط بها من كل جهة، وتتحرك بسرعة وهدوء، وتقصي أولئك الذين عارضوها وتقضي عليهم.
قالت في نفسها ثانية: «لقد مسني قليل من الجنون هذه الليلة. ماذا دهاني؟» زاد خوفها، رغم أنه كان نوعا مختلفا عن الرعب الذي أصابها في تلك اللحظات الغريبة التي كانت تشعر فيها بحضور الموتى الذين عاشوا في منزل عائلة بينتلاند وبأنهم حولها في كل مكان. فالشعور الذي كان يخالجها الآن لم يكن فزعا من الموتى؛ بل كان رعبا من حياة يملؤها الدفء والعاطفة. قالت في نفسها: «لا بد أن هذا ما حدث للآخرين. لا بد أن هذا ما شعروا به قبل وفاتهم.»
لم يكن ما تقصده هو موت الجسد، بل موت الروح بطريقة ما، موت يترك خلفه أناسا ذابلين مثل العمة كاسي وآنسون، والمرأة العجوز في الجناح الشمالي، وحتى رجل شديد الصلابة والقوة مثل جون بينتلاند، الذي ناضل بشدة أكثر من الآخرين. وشعرت فجأة بأنها عالقة بين قوتين غامضتين، تتصارعان في قتال شرس. كان أمرا مربكا وغامضا، لكنه جعلها تشعر فجأة باعتلال جسدي. تلاشى الإحساس الدافئ بالحياة والإثارة، تاركا إياها باردة وهادئة، ومرهقة في آن واحد، يملؤها شعور واهن بالإعياء، وهي لا تزال تحدق في الليل، ولا تزال قادرة على تمييز رائحة الماشية الكثيفة وأزهار الزعرور. •••
لم تعرف مطلقا إن كانت قد غفت فوق الأريكة بجوار النافذة أم لا، لكنها أدركت أنها استيقظت فجأة على صوت خطوات. خارج باب غرفتها، في الردهة الطويلة، كان شخص ما يمشي، بخفة، وحذر. وهذه المرة لم يكن الصوت مجرد صرير منبعث من المنزل العتيق؛ كان صوت خطوات، منتظمة، ذات إيقاع ثابت، متكرر، خطوات شخص لا وزن له تقريبا. أنصتت، وببطء، وبحذر، وكأن هذا الشخص كان أعمى ويتحسس طريقه في الظلام، تقدمت الخطوات حتى وصلت بعد قليل أمام بابها وأحاط خيط رفيع من الضوء بالباب الذي يؤدي إلى الردهة. نهضت بهدوء، وهي لا تزال مستغرقة في شعور غامض بأنها تتحرك داخل كابوس، وتوجهت إلى الباب وفتحته. ولمحت من بعيد في الردهة الطويلة، عند الباب الذي يفتح على السلم المؤدي إلى علية المنزل، دائرة صغيرة من الضوء منبعثة من مصباح كهربي. صنع الضوء ظلا غامقا لامرأة عجوز ذات شعر أبيض تعرفت عليها أوليفيا في الحال. تبين أن العجوز قد هربت من الجناح الشمالي. وبينما وقفت تراقبها، فتح الجسد المترنح الباب واختفى بسرعة في اتجاه الدرج.
لم يكن هناك وقت لتضيعه، ولا وقت حتى للذهاب بحثا عن الآنسة إيجان المتيبسة. فلربما ألقت المسكينة بنفسها من النوافذ العليا. لذلك، ودون أن ترتدي روبا، اجتازت أوليفيا بسرعة الردهة المظلمة وصعدت الدرج حيث اختفت المخلوقة الغريبة الأطوار المتدثرة بالروب المزخرف بالأزهار.
كانت العلية غرفة ضخمة غير مكتملة البناء تغطي المنزل بالكامل، أشبه بكهف شاسع، فارغة من كل شيء باستثناء بعض الصناديق القديمة وقطع الأثاث المحطم. كان قد اختزن بها حطام وبقايا حياة عائلة بينتلاند، مفقودا ومنسيا في أعماق الغرفة الكبيرة لأكثر من قرن من الزمان. لم يكن يدخلها أحد. فكادت أن تنسى، منذ كبر جاك وسيبيل. إذ كانا يلعبان فيها في الأيام الممطرة عندما كانا طفلين صغيرين، ومن قبلهما سابين وآنسون اللذان لعبا في الأركان المظلمة والغامضة ذاتها بين الصناديق والأرائك والكراسي المحطمة.
وجدت أوليفيا المكان غارقا في ظلام دامس باستثناء بقع من ضوء الليل الأزرق المتسلل عبر زوج من النوافذ الناتئة، وفي أقصى الغرفة، بجوار مجموعة من الصناديق القديمة، ظهرت دائرة الضوء المنبعثة من المصباح والتي ظلت تتحرك في هذا الاتجاه وذاك، كما لو كانت السيدة بينتلاند العجوز تبحث عن شيء ما. وفي عجلة هروبها وفرارها، كان شعرها الأبيض الرقيق قد انفك وانسدل فوق كتفيها. وانبعثت منها رائحة الدواء البغيضة.
لمستها أوليفيا بلطف وقالت: «ماذا فقدت يا سيدة بينتلاند؟ أيمكنني مساعدتك؟»
استدارت العجوز، ووجهت ضوء المصباح بالكامل إلى وجه أوليفيا، وحدقت فيها بعينيها الزرقاوين المستديرتين، وهي تتمتم: «أوه، هذا أنت يا أوليفيا. لا بأس إذن. ربما يمكنك مساعدتي.»
فسألتها أوليفيا: «ماذا فقدت؟ لعل بإمكاننا البحث عنه في الصباح.»
فأجابتها: «لقد نسيت الآن ما كان. أفزعتني، وأنت تعرفين أن عقلي ضعيف، حتى في أحسن الأحوال. لم يكن جيدا أبدا منذ زواجي.» ونظرت بحدة إلى أوليفيا. وسألتها: «لم يصبك ما أصابني، أليس كذلك؟ هل حدث وشعرت بأنك تنجرفين في الأوهام وأنك تزدادين خفوتا يوما بعد يوم؟ هذا غريب. لعل الأمر مختلف مع زوجك.»
رأت أوليفيا أن المرأة العجوز كانت تمر بلحظة نادرة من لحظات التعقل والصفاء الذهني والتي كانت أسوأ بكثير من جنونها لأنها كانت تجعلك لبعض الوقت ترى أنها، في نهاية المطاف، مثلك، إنسانة وقادرة على التفكير. كانت أوليفيا في هذه اللحظات تشعر وكأنها شهدت بعث الموتى.
قالت أوليفيا: «لا. لعلك تتذكرين في الصباح، إذا أويت إلى فراشك الآن.»
هزت السيدة بينتلاند العجوز رأسها نفيا بعنف. وقالت: «لا، لا، يجب أن أجدهم الآن. ربما يختلف كل شيء في الصباح وحينها لن أعي شيئا ولن تدعني تلك المرأة الأيرلندية أخرج. سأظل أكرر بعض الأسماء مثل الخوخ، والمناشر، وثمرة الكاكي. فهذا ما اعتاد السيد ديكنز على فعله مع أطفاله عندما لم يتمكن من التفكير في كلمة واحدة.»
قالت أوليفيا: «أعطيني المصباح؛ ربما أتمكن من العثور على ما تريدينه.»
وبوداعة طفلة، أعطتها العجوز المصباح اليدوي الكهربي، فأمسكت به أوليفيا ووجهته في هذا الاتجاه وذاك، بين الصناديق والقمامة القديمة، وتظاهرت بالبحث بين بيوت الدمى وأطباق الألعاب المتناثرة في أركان العلية حيث لعب الطفلان لعبة المنزل آخر مرة.
وبينما هي تبحث، واصلت المرأة العجوز ترديد عبارة واحدة، وكأنها تذكر نفسها: «إنه شيء أردت العثور عليه بشدة. سيحدث فارقا كبيرا هنا في حياتنا جميعا. ظننت أنني قد أجد سابين هنا لتساعدني. كانت هنا صباح أمس، تلعب مع آنسون. هطلت الأمطار طوال اليوم فلم يتمكنا من الخروج. وأخفيتها هنا بالأمس حين صعدت لتفقدهما.»
حاولت أوليفيا مهادنتها مرة أخرى.
فقالت: «لقد تأخر الوقت الآن يا سيدة بينتلاند. يفترض بنا الآن أن نخلد إلى النوم. حاولي أن تتذكري ما تبحثين عنه، وفي الصباح سأصعد لأجده لك.»
للحظة فكرت العجوز في هذا الاقتراح، وقالت أخيرا: «لن تعطيني إياه إن عثرت عليه. أنا واثقة من أنك لن تعطيني إياه. فأنت أيضا تخشينهم جميعا.»
قالت أوليفيا: «أعدك أنني سأعطيك إياه. يمكنك أن تثقي بي، ألا يمكنك ذلك؟»
فأجابتها: «بلى، بلى، أنت الوحيدة التي لا تعاملني على أنني غبية. أجل، أظن أن بإمكاني الوثوق فيك.» ثم خطرت لها فجأة فكرة أخرى. فقالت: «ولكنني لن أتذكر مرة أخرى. ربما أنسى. بالإضافة إلى أنني لا أظن أن الآنسة إيجان ستأذن لي.»
أمسكت أوليفيا بإحدى يدي العجوز النحيلتين، وقالت وكأنها تتحدث إلى طفل صغير: «أعرف ما علينا فعله. غدا ستدونينه في ورقة صغيرة ثم سأجده وأحضره لك.»
قالت العجوز: «أنا واثقة من أن سابين يمكنها أن تجده، إنها بارعة في مثل هذه الأمور. إنها طفلة ذكية جدا.»
فقالت أوليفيا: «سأذهب وأحضر سابين لتساعدني.»
فنظرت إليها العجوز بحدة. وسألتها: «أتعدينني بذلك؟ أتعدينني؟»
فأجابتها أوليفيا: «أجل، بالطبع.»
فقالت لها: «لأن الآخرين يخدعونني دائما.»
ثم بوداعة شديدة سمحت لأوليفيا بأن تقودها عبر رقع الأرضية المغبرة التي أضاءها نور القمر، وهبطت الدرج عائدة إلى غرفتها. وفي ردهة الجناح الشمالي صادفتا فجأة الآنسة إيجان بملامحها المتيبسة، وقد ذهب عنها التيبس والجمود، وامتقع وجهها فزعا.
قالت مخاطبة أوليفيا: «لقد بحثت عنها في كل مكان، يا سيدة بينتلاند. لا أعلم كيف تمكنت من الهرب. كانت نائمة حين تركتها. نزلت إلى المطبخ لأحضر لها عصير البرتقال، واختفت أثناء غيابي.»
كانت العجوز هي من أجابتها. قالت، وهي تنظر بحدة إلى أوليفيا، بنبرة تشوبها الثقة: «أنت تعرفين أنني لا أتحدث إليها مطلقا. إنها وضيعة. إنها خادمة أيرلندية وضيعة. يمكنهم أن يحبسوني معها، ولكنهم لن يجبروني على مخاطبتها.» ثم بدأت تنساق مرة أخرى عائدة إلى الحالة الميئوس منها التي كانت معهودة منها جدا. بدأت تغمغم وأخذت تردد مرارا وتكرارا سلسلة من الكلمات والأسماء غير المفهومة.
تجاهلتها أوليفيا والآنسة إيجان، وبدا وكأن جزءا منها - العجوز العاقلة الغامضة - قد اختفى، ليتبقى هذه المخلوقة الثرثارة المثيرة للشفقة الغريبة الأطوار.
أوضحت أوليفيا أين عثرت على العجوز وسبب ذهابها إلى هناك.
فقالت الآنسة إيجان: «إنها لم تنفك تتحدث عن هذا الشأن لأيام. أظنها تبحث عن رسائل، ربما لا وجود لها من الأساس. إنها تخلط الأمور خلطا مريعا.»
كانت أوليفيا ترتجف في ثوب نومها، من التعب والتوتر أكثر من شعورها ببرودة الليل.
وقالت: «ما كنت لأذكر الأمر لأحد من الآخرين يا آنسة إيجان. فلن يصيبهم هذا إلا بالقلق. ولا بد أن ننتبه لها أكثر فيما بعد.»
كانت العجوز قد تركتهما، وعادت إلى الغرفة المظلمة التي أمضت فيها حياتها بأكملها، وكانت الممرضة قد بدأت في استعادة القليل من ثقتها المستفزة. حتى إنها ابتسمت، تلك الابتسامة الجامدة البراقة التي تقول: «لا يمكنكم الاستغناء عني، مهما حدث.»
قالت جهرا: «لا أستطيع أن أتخيل ما حدث يا سيدة بينتلاند.»
فقالت أوليفيا: «كان حادثا عارضا، لا عليك، طابت ليلتك. ولكن أرى أنه من الأفضل عدم التحدث عما حدث. لا فائدة من وراء ذلك إلا إثارة القلق في نفوس الآخرين.»
لكن أوليفيا كانت في حيرة من أمرها؛ لأنه أسفل الروب الذي وضعته الآنسة إيجان على كتفيها، رأت أن الممرضة لم تكن ترتدي ملابس النوم ولا زيها المعتاد، وإنما كانت ترتدي حلتها الزرقاء الصوفية التي كانت ترتديها في المناسبات النادرة حينما تذهب إلى المدينة.
5
لم تتحدث مع أحد عما حدث، سواء ما حدث في الشرفة أو ما حدث في الردهة أو في أعماق العلية القديمة، وتوالت الأيام وعادوا إلى رتابة حياتهم القديمة مرة أخرى، كما لو أن الليلة الغريبة والحارة والمزعجة لم تكن سوى حلم. ولم تقابل أوهارا، ومع ذلك سمعت بأخباره، باستمرار، من سيبيل، ومن سابين، وحتى من جاك، الذي بدا أقوى مما كان عليه في أي وقت مضى وكان قادرا لبعض الوقت على التجول في المزرعة مع جده في العربة التي يجرها حصان أبيض مسن. مرت لحظات بدا فيها لأوليفيا أن الصبي قد يشفى ذات يوم ويبرأ حقا من علته، ومع ذلك لم يكن في تلك اللحظات أي فرحة حقيقية مطلقا، لأن الحقيقة كانت دوما ماثلة أمامها. كانت تعلم أن هذا لن يحدث أبدا، رغم كل ذلك النضال الشرس الذي استمرت فيه على الدوام هي والرجل المسن في مواجهة الشيء الذي كان أقوى من أي منهما. بل إنها في الواقع وجدت نوعا جديدا من الحزن في مشهد الصبي النحيل الشاحب والرجل المسن الصارم وهما يمضيان بالعربة في الطريق، وعينا الجد متألقتان بنظرة أمل خادعة. وجدتها نظرة لا تطاق؛ لأنها كانت المرة الأولى منذ أعوام، تقريبا منذ اليوم الأول الذي جاء فيه جاك إلى العالم، طفلا صغيرا لم يكن يبكي كثيرا، التي يتبدل فيها تعبير الخضوع والاستسلام على ملامح الرجل المسن.
وفي بعض الأحيان حينما كانت تشاهدهما معا، كانت تملؤها رغبة عارمة في الذهاب إلى جون بينتلاند وإخباره أنه لم يكن خطؤها أنها لم تنجب المزيد من الأطفال، ورثة آخرين يحلون محل جاك. أرادت أن تخبره أنها ودت أن تنجب عشرة أطفال لو كان ذلك ممكنا، وأنها حتى حينئذ كانت لا تزال شابة بما يكفي لإنجاب المزيد من الأطفال. أرادت أن تبوح له ببعض ذلك التوق للحياة الذي كان قد اجتاحها في تلك الليلة في حديقة سابين تحت شجرة التفاح، وهي بقعة زاخرة بالخصوبة. ولكنها أدركت أيضا مدى استحالة مناقشة مسألة كان العجوز جون بينتلاند في أعماق روحه يؤمن بأنها «غير لائقة». فمثل هذه الأمور كانت كلها متوارية خلف حجاب منع ظهور الكثير من الحقائق في حياتهم. مرت أوقات ظنت فيها أوليفيا أنه فهم كل شيء، تلك الأوقات التي أمسك فيها بيدها وقبلها بمودة. تخيلت أنه فهم وأن المعرفة تضرب بجذورها بطريقة ما في شعور الرجل العجوز بالازدراء المستتر تجاه ابنه.
لكنها رأت جيدا جدا المأساة المتأصلة جذورها في المسألة برمتها. فهمت أن آنسون لم يكن هو الملام. كانت حقيقة الأمر أنهم جميعا كانوا قد وقعوا في شراك شيء أقوى من أي منهم، قوة أجبرتها بإجحاف قاس على عيش حياة جافة رتيبة عقيمة في حين كان بإمكانها الأخذ بأسباب الحياة بشغف، قوة أجبرتها على أن تشاهد ابنها يموت ببطء أمام عينيها.
كانت تعود دائما إلى الخاطرة ذاتها، وهي أن الصبي يجب أن يبقى على قيد الحياة حتى يموت جده؛ وأحيانا، وهي واقفة في الشرفة، تطل عبر الحقول، كانت أوليفيا ترى أن السيدة العجوز سومز، مرتدية ملابس وردية غير متناسقة، وقبعة ذات حافة كبيرة، كانت تركب في العربة مع الرجل المسن وحفيده، كما لو كانت في حقيقة الأمر هي جدة جاك وليس تلك العجوز المعتوهة الراقدة في الطابق العلوي.
توالت الأيام لتستأنف جولة جديدة من الروتين الممل، ومع ذلك كان ثمة فارق، فارق غريب وغير محدد، كما لو أن الشمس صارت أكثر إشراقا مما كانت عليه، كما لو أن تلك الأيام، التي بدا فيها المنزل حتى في ضوء الشمس الساطع مكانا كئيبا مملا، قد انقضت. لم تعد قادرة على النظر عبر المروج نحو المداخن الجديدة الساطعة لمنزل أوهارا دون أن تتسارع أنفاسها بغتة، وتشعر بإحساس حميمي لطيف بأنها لم تعد تقف بمفردها تماما.
بلغ بها الأمر أنها حتى لم تعد تنزعج من زيارات العمة كاسي اليومية المرهقة، ولا من هوس المرأة العجوز بالرثاء لحالها وتلميحاتها الجامحة عن سابين وأوهارا والتذمر من ركوب سيبيل الخيل معه في الصباح عبر الحقول المكسوة بقطرات الندى. كانت ببساطة قادرة الآن على الجلوس هناك بأدب كما كانت تفعل من قبل، مكتفية بالإنصات إلى المرأة العجوز بينما كانت تتابع حديثها بلا توقف؛ كل ما في الأمر أنها لم تعد تكترث لأي مما تقوله. بدا لها في بعض الأحيان أن العمة كاسي كانت تشبه بعض الحشرات، التي تستمر بضرب رأسها بشدة في لوح من الزجاج، محاولة هباء مرارا وتكرارا دون توقف الدخول إلى مكان يستحيل عليها دخوله.
كانت سابين هي التي أعطتها لمحة تغلغل مفاجئة إلى طبيعة العمة كاسي، سابين التي قضت حياتها كلها في اكتشاف البشر. ففي صباح أحد الأيام تلاقت سحابتا الغبار، تلك التي من صنع العمة كاسي مع الأخرى التي أحدثتها سابين، حين التقتا في بداية الطريق الطويل المؤدي إلى منزل عائلة بينتلاند، ووصلت المرأتان معا - ارتدت إحداهما ملابس شديدة السواد، وخلا وجهها من أي مساحيق تجميل، وارتدت الأخرى ملابس باهظة الثمن اصطلح بعض صانعي الملابس في باريس على تسميتها بدلة رياضية، وتزينت بمساحيق تجميل جعلتها تشبه امرأة باريسية - وصلتا معا وجلستا في ساحة منزل عائلة بينتلاند وتبادلتا الإهانات ببراعة لساعة كاملة. وعندما نجحت سابين أخيرا في التغلب على العمة كاسي في التحمل (كانت بينهما منافسة دائمة؛ لأن كلا منهما كانت تعرف أن الأخرى ستهاجمها فور أن توليها ظهرها) التفتت إلى أوليفيا وقالت فجأة: «كنت أفكر في العمة كاسي، وصرت متأكدة الآن من شيء واحد. وهو أن العمة كاسي عذراء!»
كان في كلامها شيء قاس ومفاجئ دفع أوليفيا إلى الضحك.
وأكدت سابين بلهجة جادة: «أنا واثقة من ذلك. انظري إليها. إنها تتحدث دائما عن مأساة ضعفها الذي لازمها وحال دون إنجابها لأطفال. إنها لم تحاول قط. تلك هي الإجابة. إنها لم تحاول قط.» ألقت سابين ما تبقى من السيجارة التي كانت قد أشعلتها لإغاظة العمة كاسي، وتابعت حديثها: «أنت لم تعرفي عمي نيد سترازرس قط حينما كان شابا. لم تعهديه إلا رجلا مسنا بلا روح. لكنه لم يكن دوما على تلك الحال. هذا ما فعلته هي به. لقد دمرته. كان رجلا كريم المحتد يحب الشرب والخيل، ولا بد أنه كان يحب النساء أيضا، لكنها أبرأته من ذلك. كان سيحب الأطفال، لكنه لم يحظ بزوجة وإنما بامرأة لم تستطع تحمل فكرة العنوسة ومع ذلك لم تحتمل ما يعنيه الزواج. ابتلي بمخلوقة كانت تفقد وعيها وتبكي وهي ترقد على الأريكة طوال اليوم، ولكنها ظهرت عليه لأنه كان رجلا لطيفا، أحمق، نبيلا.»
انطلقت سابين في الحديث بكل الحماس الذي استولى عليها حينما كشفت عن رقعة صغيرة من الحياة وفحصتها بدقة. «لم يجرؤ حتى على خيانتها. فإذا نظر إلى امرأة أخرى غابت هي عن الوعي ومرضت بشدة وتحول الوضع إلى مشهد مأساوي مريع. أستطيع تذكر بعض من هذه المشاهد. أتذكر أنه ذات مرة زار السيدة سومز عندما كانت شابة وجميلة، وعندما عاد إلى المنزل قابلته العمة كاسي وهي في حالة هستيرية وأخبرته أنه إذا حدث ذلك مرة أخرى، فستغادر، «مع ضعفها والبؤس الذي كانت فيه»، وترتكب الزنا. أتذكر القصة لأنني سمعت والدي يرويها عندما كنت طفلة وكنت بائسة حتى اكتشفت ما يعنيه «ارتكاب الزنا». وانتهى الحال بتدميرها إياه. أنا متأكدة من ذلك.»
كانت سابين جالسة، بوجه كأنما قد من صخر، تراقب بعينيها سحابة الغبار التي كانت تتحرك على الطريق بينما كانت العمة كاسي تتقدم في جولة زياراتها الصباحية، وكأنها بطريقة ما رمز لجميع القوى التي أفسدت حياتها.
تمتمت أوليفيا: «هذا جائز.»
التفتت سابين نحوها، بحركة سريعة ومفاجئة. وقالت: «ولهذا السبب تهتم دائما بحياة الآخرين. لم تحظ بحياة خاصة بها أبدا. دائما ما كانت خائفة. هذا هو السبب وراء حبها لمصائب الآخرين، لأنها لم تكن لديها أبدا مصائبها الخاصة. حتى موت زوجها لم يكن مصيبة. فقد صارت بعده حرة، متحررة تماما من المتاعب مثلما أرادت دوما.»
ثم حدث شيء غريب لأوليفيا. بدا وكأن عمة كاسي جديدة قد ولدت، كما لو أن القديمة، التي تفيض عيناها بالدمع وتظهر تعاطفها سريعا لمن حولها والتي تظهر بصورة عجيبة متى وقعت مصيبة في الحي، العمة كاسي المعروفة بأعمالها الصالحة ودموعها ونصائحها الدينية، قد مضت عبر هذا الطريق لآخر مرة، ولن تعود مرة أخرى أبدا. صباح الغد ستصل عمة كاسي جديدة، واحدة تشبه القديمة ظاهريا؛ أوليفيا وحدها ستراها بشكل مختلف، ستراها امرأة جردت من كل تلك الحجب من التظاهر والعواطف التي غلفت بها نفسها، عجوز قبحها باد للعيان، وفهمت أوليفيا في لمحة تجل خاطفة أنها مثل حشرة تضرب لوح زجاج في محاولة عقيمة للدخول إلى مكان يستحيل عليها دخوله. ولم تعد الآن تخشى العمة كاسي. لم تكن حتى تكرهها؛ كانت فقط تشفق على المرأة العجوز لأنه كان قد فاتها الكثير؛ لأنها ستموت دون أن تعيش يوما. ولا بد أنها كانت ذات يوم شابة وجميلة، وخفيفة الظل جدا. ما زالت هناك لحظات تتجرد فيها تماما السيدة العجوز من سحرها ومزاحها ولسانها السليط.
عادت سابين تتحدث، بلهجة قاسية، لا هوادة فيها. فقالت: «كانت مستلقية هناك طوال تلك السنوات على الأريكة مغطاة بشال، تحاول لترتيب حياة جميع من حولها. قضت على استقلالية آنسون ودمرت سعادتي. وأرهبت زوجها حتى مات في النهاية هربا منها. كان رجلا دمث الخلق، ترعبه الفضائح وإثارة الجلبة.» أشعلت سابين سيجارة وألقت بالثقاب بحركة همجية مفاجئة. وتابعت: «والآن صارت تحوم في الأرجاء مثل ملاك الرحمة، ملاك رحمة نشيط جدا، مثل أفاك في زي ملاك. لقد برعت في أداء دورها. الجميع يعتقدون أنها امرأة ضعيفة، وصالحة، وتعيسة. لا بد وأن بعض القديسين كانوا يشبهونها جدا. لا بد وأن بعضهم كان يزعج العانسات العجائز.»
نهضت، ولفت وشاحا شفافا حول عنقها، وفتحت مظلتها الصفراء، قائلة: «أعرف أنني على حق. فيما يخص كونها عذراء. على الأقل.» وأضافت: «بالمعنى التقني للكلمة، هي عذراء. ولكني لا أعرف شيئا بخصوص حالتها العقلية.»
ثم غيرت مسار الحديث فجأة قائلة: «هل ستذهبين معي إلى بوسطن غدا؟ سأفعل شيئا بشأن شعري. بدأ الشيب يظهر فيه.»
لم ترد أوليفيا عليها في الحال، ولكن حين تحدثت، قالت: «أجل؛ سأعاود ممارسة ركوب الخيل وأريد شراء بعض الملابس. فثيابي القديمة ستبدو الآن مثيرة للسخرية. لقد مرت سنوات عديدة على آخر مرة امتطيت فيها حصانا.»
نظرت سابين إليها بحدة، وأشاحت بوجهها مرة أخرى، وقالت: «سآتي لاصطحابك حوالي العاشرة.»
الفصل السادس
حل على مدينة دورهام جو حار رطب ومحمل برائحة كثيفة للحشائش النضرة ورائحة شبه نتنة للأهوار المالحة، فاختزل الحياة بأكملها في حالة استرخاء مميز للمناطق الاستوائية. حتى في أوقات الصباح عندما كانت سيبيل تخرج مع أوهارا ليركبا الخيل عبر المروج، لم تكن أي نسمات باردة تهب ولم تكن أي قطرات ندى تتساقط على العشب. ولم يقاوم أحد الطقس الحار الرطب سوى العمة كاسي، بجسدها النحيل الضامر، وآنسون، مدفوعا دوما بالشعور بالواجب الذي لا يلتفت لأشياء تافهة مثل حالة الطقس. واصلت العمة كاسي، التي لم تكن تبالي بالحر ولا بالبرد، ولا بالعاصفة ولا الهواء العليل، جولاتها التي لا تعرف الكلل أو الملل. أما سابين، التي علقت بأنها كانت تعرف دوما أن نيو إنجلاند هي أحر مكان في هذا الجانب من الجحيم، فقد تعودت على حالة من الكسل التام، فلا تبرح المنزل إلا بعد مغيب الشمس. وحتى حينئذ، كان النشاط الوحيد لها هو الخروج إلى منزل عائلة بينتلاند لتجلس في حجرة الكتابة للعب البريدج بفتور مع أوليفيا وجون بينتلاند والسيدة سومز العجوز.
يوما بعد يوم بدت السيدة العجوز أكثر ارتباكا ونسيانا وإثارة للإزعاج أثناء اللعب باعتبارها اللاعبة الرابعة في لعبة البريدج. ومع ذلك، كان جون بينتلاند يصر دوما على اللعب معها كفريق ثنائي، قائلا إن أحدهما يفهم طريقة لعب الآخر؛ بيد أنه لم يخدع أحدا بذلك، عدا السيدة سومز، التي لم تكن تتمتع بذكاء كبير حتى في أفضل حالاتها؛ إذ عرف الآخرون أنه كان يفعل ذلك لحمايتها. إذ كانوا يرونه يجلس بهدوء وصبر بينما تطرح هي رهانات تعجز عن تحقيقها، وتفسد أوراقه الرابحة وتتحجج بضعف النظر. كانت تتمتع بجمال رائع فيما مضى وكانت لا تزال امرأة مختالة بنفسها، بكل مساحيق الزينة التي تضعها. وما كانت لترتدي نظارة طبية أبدا ولذلك كانت تلعب من خلال النظر عبر نظارة يدوية، وهو ما كان يبطئ إيقاع اللعبة بالكامل ويزيد الارتباك. وأحيانا، في خضم الأخطاء الفادحة التي كانت ترتكبها السيدة المسنة، كانت عينا سابين الخضراوان تعكسان نظرة غضب شديد، لكن أوليفيا كانت تتمكن بطريقة ما من كبت أي نوبة غضب؛ بل إنها كانت تستطيع أن تجبر سابين على مواصلة اللعب، ليلة تلو أخرى. تأثرت أوليفيا كثيرا بمعاملة العجوز للسيدة سومز بصبر ورقة، وخيل إليها أن سابين أيضا - سابين القاسية والساخرة والجزوعة - تأثرت بذلك. كان في شخصية سابين جانب رقيق لافت للنظر وغير متوقع، كما لو أنها بطريقة ما فهمت الرابطة التي جمعت بين العجوزين. الآن أصبحت سابين، التي لم تكن تسمح بأن يشعرها أحد بالملل، على استعداد لأن تجلس ليلة تلو الأخرى وتتحمل هذا الملل الشديد بصبر وأناة.
وذات مرة حين قالت لها أوليفيا: «سنكون جميعا كبارا في السن يوما ما. وربما سنكون في حال أسوأ من حال السيدة سومز المسنة»، ردت سابين بأن هزت كتفيها في مرارة قائلة: «كبر السن أمر مثير للضجر. وهذه هي مشكلتنا، يا أوليفيا. لن نستسلم ونصبح سيدات مسنات. جرت العادة على أن تتشبث الجميلات بمرحلة الشباب، والآن نحن جميعا نفعل الشيء نفسه. وعلى الأرجح سنكون عجائز بشعات نضع مساحيق التجميل ... مثلها.»
أجابتها أوليفيا: «ربما»، بينما استحوذ عليها شعور بالرعب من فكرة أنها ستتم الأربعين في عيد ميلادها القادم، وليس أمامها شيء، ولو في المستقبل القريب، سوى أمسيات مثل هذه، تلعب فيها البريدج مع أشخاص مسنين إلى أن تصير هي نفسها بعد قليل مسنة، دوما في الأجواء الكئيبة للمنزل الكبير لعائلة بينتلاند.
وأردفت سابين قائلة: «ولكن لن ألجأ إلى تعاطي المخدرات. على الأقل لن أفعل هذا.»
نظرت إليها أوليفيا بحدة. وسألتها: «من الذي يتعاطى المخدرات؟» «يا إلهي، هي تتعاطاها ... السيدة سومز العجوز. تتعاطى المخدرات منذ سنوات. ظننت أن الجميع يعرفون ذلك.»
قالت أوليفيا بنبرة حزينة: «كلا، لم أعرف بهذا قط.»
ضحكت سابين. وردت قائلة: «أنت ساذجة.»
وبعد أن غادرت سابين إلى بيتها، غشيتها سحابة من الكآبة استمرت لساعات. وفجأة شعرت بأن آنسون والعمة كاسي ربما يكونان محقين، في نهاية المطاف. كان ثمة شيء خطير بخصوص امرأة مثل سابين، التي هتكت كل الأستار، والتي ضحت بكل شيء في سبيل شغفها بالحقيقة. بطريقة ما أربك هذا عالما لم يكن، حتى في أفضل حالاته، مبهجا للغاية. •••
في بعض الأمسيات كانت السيدة سومز تبعث برسالة تقول فيها إنها تشعر بتعب شديد يمنعها من اللعب، وفي تلك المناسبات كان جون بينتلاند يمضي بسيارته ليعودها، وعندئذ كانت مباراة البريدج تقام في منزل «بروك كوتيدج» مع أوهارا ولاعب رابع أحضره أحد ما من الريف. ولم تكن سابين تكترث بهوية الشخص المختار ما دام يستطيع اللعب جيدا.
وحدث في هذه المناسبات أن لعب أوهارا وأوليفيا معا، ليكونا بشكل أو آخر فريقا، كان ناجحا على نحو مثير للإعجاب. كان يلعب بطريقة عرفت أنه سيتبعها في اللعب، بشراسة وذهن متقد، وبتركيز شديد وتصميم على الفوز. أذهلها أن رجلا أمضى جل حياته في دوائر لا تعرف لعبة بريدج قد أتقن هذه اللعبة المعقدة إتقانا كاملا. تخيلته يأخذ دروسا خاصة في اللعبة بنفس الحماس الذي انكب به على مساره المهني.
لم يتحدث معها ثانية عن الأشياء التي تطرق إليها أثناء وقوفهما في الفناء الأمامي في تلك الليلة الحارة الأولى، وحرصت على ألا ينفرد بها مطلقا. خجلت من اللعبة التي كانت تلعبها؛ أن تقابله دوما مع سابين أو وهي تركب الخيل مع سيبيل وألا تعطيه فرصة للحديث؛ بدا لها أن ذلك السلوك رخيص وغير نزيه. ولكنها لم تستطع أن تحمل نفسها على رفض رؤيته، لأسباب منها أن الرفض من شأنه أن يثير الشكوك لدى سابين المهتمة بالموضوع بالفعل، ولكن السبب الأهم هو أنها كانت ترغب في مقابلته. كانت تجد في نفسها نوعا من البهجة في الطريقة التي ينظر بها إليها، وفي الإتقان الذي صار به أحدهما يفهم طريقة لعب الآخر؛ وعلى الرغم من أنه لم يقابلها على انفراد، ظل يخبرها بمئات الطرق الخفية بأنه عاشق متيم بها.
كانت تقول في نفسها إنها تتصرف كتلميذة حمقاء، ولكنها لم تستطع أن تحمل نفسها على التخلي عنه تماما. بدا لها أن إضاعتها لهذه الأمسيات السعيدة النادرة كانت أمرا لا يحتمل. وكانت أيضا تخشى من أن تصفها سابين بالحماقة . •••
ومع توديع أوائل الصيف واستقبال شهر يوليو، قلت زيارات السيدة سومز المسنة للعب البريدج أكثر فأكثر، وفي أوقات كانت سابين تتناول العشاء بالخارج أو تأوي إلى الفراش مبكرا، فتحرمهم من لعب البريدج ويخيم الهدوء المعتاد والمعهود على أجواء غرفة الجلوس في منزل عائلة بينتلاند ... وفي تلك الأمسيات كانت أوليفيا وسيبيل تلعبان لعبة السولتير في حين ينكفئ آنسون على مكتب السيد لويل متحسسا طريقه عبر متاهات تاريخ عائلة بينتلاند المحير.
وفي إحدى هذه الأمسيات، عندما أجهدت القراءة عينا أوليفيا، أغلقت كتابها، والتفتت إلى زوجها، ونادته. وحين لم يجبها على الفور تحدثت إليه ثانية، وانتظرت حتى رفع نظره إليها. ثم قالت: «آنسون، لقد عدت إلى ركوب الخيل مرة أخرى. أظن أنه نشاط مفيد لي.»
ولكن آنسون، الذي كان مستغرقا في تأليف الفصل الخاص بسافينا بينتلاند وصداقتها مع آنجر، لم يبد أي اهتمام ولم يرد بكلمة.
كررت قولها ثانية: «أذهب في الصباح، قبل تناول الإفطار، مع سيبيل.»
رد آنسون قائلا: «حسنا»، ثم أردف: «أظن أنها فكرة رائعة؛ لونك صار أفضل»، وعاد إلى عمله.
هكذا نجحت في أن تخبره بأن الأمور تسير على خير ما يرام فيما يخص سيبيل وأوهارا. واستطاعت أن تخبره دون أن تقول له صراحة بأنها ستذهب معهما وتمنع حدوث أي تطورات. لقد أخبرته أيضا دون أن تلمح إلى موقف المواجهة الذي أشعره بالخجل. بالطبع، كانت تعرف حينها أنه ليس هناك خطورة من حدوث أي تعقيدات، على الأقل أي تعقيد يمس سيبيل.
وبينما كانت جالسة والكتاب المغلق في حجرها، ظلت لبعض الوقت تراقب مؤخرة رأس زوجها؛ الشعر الرمادي الخفيف، والعروق البارزة بوهن تحت الجلد المجعد، والأذنان الصغيرتان جدا الملتصقتان بالجمجمة؛ في الواقع كانت ترى طوال الوقت رأسا آخر مرتكزا على عنق مفتولة العضلات، والبشرة السمراء المشرقة المتدفقة بالنضارة، والشعر الكثيف القصير واللامع؛ وشعرت برغبة غريبة، وبلا تفسير، في أن تبكي، وفي الوقت نفسه كانت تقول في نفسها: «أنا امرأة شريرة. أنا حتما سيئة.» وذلك لأنها لم تكن قد عرفت مطلقا ماهية الوقوع في الحب، وعاشت عشرين عاما تقريبا ضمن أسرة يشغل الحب فيها مكانة ضئيلة ومنسية.
كانت جالسة على هذا النحو عندما وصل جون بينتلاند أخيرا، بادي الشحوب والإنهاك أكثر مما كان طيلة أيام. سألته بصوت خفيض، حتى لا تزعج آنسون، عما إذا كانت السيدة سومز مريضة فعلا. أجابها العجوز قائلا: «كلا، لا أظن ذلك؛ تبدو بخير، مرهقة قليلا، هذا كل ما في الأمر. نحن جميعا نتقدم في العمر.»
جلس وبدأ يقرأ مثل الآخرين، متظاهرا بكل وضوح باهتمام لم يكن يشعر به؛ إذ ضبطته أوليفيا فجأة يحدق أمامه في نقطة تتخطى حدود الصفحة المطبوعة. لاحظت أنه لم يكن يقرأ على الإطلاق، وظلت تتردد في ذهنها مجموعة صغيرة من الكلمات - «مرهقة قليلا، هذا كل ما في الأمر، نحن جميعا نتقدم في العمر؛ مرهقة قليلا، هذا كل ما في الأمر، نحن جميعا نتقدم في العمر» - ترددت الكلمات مرارا وتكرارا بوتيرة رتيبة، كما لو أنها تنوم نفسها مغناطيسيا. ووجدت نفسها، هي الأخرى، تحدق في الفراغ بنفس الطريقة المفتونة التي يحدق بها الرجل المسن. ثم، فجأة، استفاقت على شخص يقف عند مدخل الباب يومئ برأسه إليها، وركزت نظرها، فأدركت أنها المربية، مرتدية روبا، واكتسى وجهها المسن بتعبير قلق. كان لديها سبب لعدم إزعاج الآخرين؛ إذ إنها لم تنبس ببنت شفة. وقفت في الظل، وأومأت برأسها؛ فنهضت أوليفيا في هدوء، وخرجت إلى الردهة وأغلقت الباب خلفها.
هناك، تحت الإضاءة الخافتة، رأت أن المرأة العجوز كانت تبكي وترتجف من الخوف. قالت: «لقد حدث شيء ما لجاك. شيء مروع.»
كانت قد عرفت ما هو قبل أن تتفوه المربية بكلمة. بدا لها أنها كانت تعرف طوال الوقت، وفي تلك اللحظة لم تشعر بصدمة وإنما بخدر مميت لأي مشاعر.
قالت بنبرة هادئة مخيفة نوعا ما: «اتصلي بدكتور جينكينز»، واستدارت لتصعد درج السلم الطويل. •••
وفي عتمة غرفتها، لم تنتظر حينئذ حتى تسمع صوت الأنفاس. لقد أتت أخيرا ... اللحظة التي ستدخل فيها الغرفة، وتنصت إلى الصوت، ولا تجد سوى سكون الليل. وعلى الجانب الآخر، في الغرفة التي كان يشغلها جاك منذ كان طفلا صغيرا، كان ضوء الليل الخافت المعتاد في الزاوية، وعلى وهجه الباهت استطاعت أن تحدد مكان السرير الضيق وجسده ممدا فوقه كما بقي دائما مستلقيا، نائما. لا بد أنه نائم، هكذا قالت في نفسها؛ لأنه من المستحيل أن يكون قد مات بهدوء شديد، بلا أدنى حركة. ولكنها أدركت، بالطبع، أنه كان ميتا، ورأت كم كان قريبا من الموت دوما، وأن الأمر كان مسألة انتقال تدريجي، بكل بساطة وهدوء.
لقد هرب أخيرا منهما - منها هي وجده - في لحظة لم يكن خاضعا فيها لمراقبتهما؛ وفي الطابق السفلي بغرفة الجلوس كان جون بينتلاند جالسا، واضعا كتابا في حجره إلى جوار مصباح السيد لونجفيلو، ومحدقا في الفراغ، ولم يعرف شيئا بعد. وجلس آنسون يخط بقلمه تاريخ عائلة بينتلاند ومستعمرات خليج ماساتشوستس، بينما في الغرفة التي كانت واقفة فيها حينئذ كانت نهاية نسل عائلة بينتلاند قد كتبت.
لم تنتحب. عرفت أن البكاء سيأتي في وقت لاحق، بعد أن يجري الطبيب زيارته السخيفة غير المجدية ليخبرها بما كانت تعرفه بالفعل. والآن بعدما حدث الأمر الذي كانت قد قاومته طويلا، كانت واعية بحالة سكينة شديدة. بدا لها حتى أن الصبي، ابنها، صار الآن أكثر سعادة؛ لأنه كان يراودها شعور بالخوف، يخالطه شعور بالندم، من أنهم كانوا يبقونه على قيد الحياة كل تلك السنوات رغما عنه. بدا هادئا وساكنا في تلك اللحظة، على عكس ما بدا عليه في تلك الليالي الطويلة المفزعة التي كانت تجلس فيها على نفس هذا الكرسي وإلى جوار نفس السرير، والتي كان فيها يستند إلى الوسائد؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يتنفس وهو مستلق، ويقاتل من أجل النفس ومن أجل الحياة، وكان يفعل ذلك بدافع إرضائها هي وجده أكثر من كونها رغبة منه في الحياة. رأت أنه يمكن أن يوجد جمال رائع في الموت. لم يبد الأمر كما لو أنه مات بمفرده. وإنما خلد ببساطة إلى النوم.
لقد غمرها أيضا شعور غريب ومرض بالواقع ، بالحقيقة، كما لو أن الأجواء من حولها أصبحت بطريقة ما صافية ومنعشة. فالموت ليس أمرا يستطيع المرء إنكاره بالتظاهر. الموت حق. فهو يمثل نهاية شيء ما، على نحو واضح وقاطع إلى الأبد. لا وجود للخداع بشأن الموت.
تمنت الآن لو أنها كانت قد طلبت من المربية ألا تتحدث مع الآخرين. أرادت أن تبقى هناك بمفردها في الغرفة الخافتة الإضاءة حتى تستحيل السماء الممتدة إلى ما وراء الأهوار رمادية. •••
لم يتركوها وحدها في سلام مع ابنها. جاءت أولا طرقة على الباب لتدخل بعدها المربية العجوز، وهي لا تزال ترتجف وفي حالة هيستيرية، تتبعها الآنسة إيجان المتيبسة الكفء، التي تحركت هنا وهناك بهمة وسرعة بأسلوب مهني حازم، ثم أتت الأصوات الصاخبة المزعجة لسيارة دكتور جينكينز من طراز فورد أثناء قدومه من القرية، والصوت المزعج الصادر من بعيد لبوق سيارة غريبة ووهج لامع لضوء منبعث من سيارة كبيرة تستدير عند منعطف الممر في بداية الطريق وتنهب الأرض مبتعدة نحو منزل «بروك كوتيدج». بدا أن الحياة دبت فجاءة في الردهة بأناس، يتهامسون ويتمتمون فيما بينهم، وتعالى صوت بكاء هيستيري من إحدى الخادمات المرتعدات. كان الموت، الذي من المفترض أن يحدث في حالة من العزلة الجميلة الهادئة، تسلب منه جميع مظاهر وقاره. سيتصرفون على هذا النحو لأيام. أدركت أنها الآن فقط، في خضم كل ذلك الضجيج المثير للشفقة، كانت قد فقدت ابنها. رغم ذلك، كان لا يزال، بطريقة أو أخرى، ابنها، بينما كانت واقفة بمفردها في الغرفة.
وفجأة، في خضم الاضطراب، تذكرت أن ثمة آخرين يشاركونها المصاب الأليم نفسه. من هؤلاء سيبيل، التي كانت قد دخلت الغرفة ووقفت بجوارها، في حالة من الرهبة والتعاطف، تضغط على يد والدتها في صمت؛ وآنسون، الذي كان واقفا بلا حول له ولا قوة في زاوية الغرفة، منزعجا ويائسا وخائفا أكثر من أي وقت مضى في مواجهة الموت. ولكن أهمهم جميعا كان جون بينتلاند. لم يكن في الغرفة. ولم ير له أثر.
ذهبت للبحث عنه؛ لأنها كانت تعرف أنه لن يأتي مطلقا إلى هناك ليواجه الآخرين جميعهم؛ وإنما كان سينزوي بعيدا مثل حيوان جريح. عرفت أنه كان يوجد شخص واحد فقط يمكنه تحمل رؤيته. معا كانا قد ناضلا من أجل حياة الصبي، ومعا يجب أن يواجها الحقيقة الصعبة والقاسية لموته.
وجدته واقفا في الشرفة، خارج النوافذ الطويلة لغرفة الجلوس، وحين اقتربت منه، رأته شاردا في حسرته لدرجة أنه لم ينتبه إليها. كان أشبه برجل واقع تحت تأثير تعويذة ما. كان واقفا هناك بكل بساطة، بقامته الطويلة عابسا ومتجهما، محدقا عبر الأهوار صوب البحر، وحيدا كما كان دوما، محاطا بدرع الوحدة المفجعة الذي لم ينجح أحد منهم، ولا حتى هي نفسها، في اختراقه. رأت حينئذ حزنا أفظع من حزنها. كانت قد فقدت ابنها ولكن في حالة جون بينتلاند كانت تلك هي نهاية كل شيء. رأت أن العالم بأكمله قد انهار من حوله. كان الأمر وكأنه هو أيضا قد مات.
في البداية، لم تتحدث إليه، وإنما ببساطة وقفت بجواره، وأخذت يده الضخمة النحيلة في يدها، وقد أدركت أنه لم ينظر إليها، وإنما ظل يحدق عبر الأهوار صوب البحر. وأخيرا، قالت له برفق: «قضي الأمر، أخيرا.»
ظل على حاله لا ينظر إليها، لكنه أجابها بنبرة هامسة تكاد لا تكون مسموعة: «أعلم.» كانت دموع تسيل على وجنتيه المجعدتين الهرمتين. كان قد خرج في عتمة الحديقة المعبقة بالروائح الذكية لينتحب هناك. كانت هذه هي المرة الوحيدة التي رأت فيها الدموع في العينين السوداوين المتقدتين. •••
لم يهدأ الصخب المكبوح والدارج الذي يحيط بالموت ليعم الصمت مرة أخرى إلا بعد منتصف الليل بوقت طويل، لتبقى أوليفيا بمفردها في الغرفة مع سيبيل. لم تتبادلا حديثا؛ لأنهما كانتا تعرفان جيدا عجز الكلمات عن التعبير، وفيما بينهما لم تكن ثمة حاجة إلى الكلام.
وأخيرا، قالت أوليفيا: «يجب أن تنامي قليلا يا عزيزتي؛ فغدا سيكون يوما مرهقا.»
عندئذ، أقبلت سيبيل، كطفلة صغيرة، وجلست على حجر والدتها وأحاطت عنقها بذراعيها وقبلتها.
قالت الفتاة بصوت خفيض: «أنت رائعة يا أمي. أعرف أنني لن أكون أبدا امرأة رائعة جدا هكذا. كان ينبغي علينا، جميعا، أن نريحك الليلة، وبدلا من ذلك، كنت أنت من توليت تدبير كل شيء.» قبلتها أوليفيا وحسب، بل وابتسمت لسيبيل قليلا قائلة: «أظنه أسعد الآن. لن يتعب ثانية أبدا كما اعتاد.»
كانت قد نهضت لتنصرف حينها سمعتا، من مكان ما على مسافة بعيدة، صوت موسيقى. وصل إليهما الصوت غامضا ومتقطعا محمولا مع النسائم الآتية من ناحية البحر، صوت موسيقى زاخرة بإيقاع ثائر وجامح، يرتفع ويهبط مصحوبا بإحساس متقد بالحياة. بدا لأوليفيا أن قوة خفية داخل أنغام الموسيقى اخترقت سكون البيت العتيق، وحطمت الصمت المهيب الذي خيم في النهاية على المكان مع اقتراب شبح الموت. بدا وكأن الحياة تحتفل بانتصارها على الموت، بظفر شرس وجامح ومبهج.
كانت الموسيقى تبدو أيضا غريبة وحماسية في ظل الأجواء الخفيفة والصافية لليلة من ليالي نيو إنجلاند، موسيقى لم يسمع أحد منهم مثلها من قبل؛ وتدريجا، مع تصاعد أنغامها الجامحة، تعرفت عليها أوليفيا؛ كانت الموسيقى الحماسية البربرية للرقصات القبائلية لأوبرا «أمير إيجور»، تعزف عزفا بارعا بحس من بهجة متحررة.
في اللحظة نفسها، نظرت سيبيل إلى أمها وقالت: «إنه جان دي سيون ... لقد نسيت أنه كان سيصل الليلة.» ثم أردفت بنبرة حزينة: «بالطبع، لا يعرف.»
ظهر وميض مفاجئ في عين الفتاة، لمحة وميض خاطفة، تلاشت بسرعة مرة أخرى، كانت ذات صلة غريبة وحميمية بالموسيقى الحماسية. مرة أخرى كان هذا انتصارا للحياة على الموت. بعد ذلك بوقت طويل تذكرت أوليفيا جيدا ذلك البريق ... وميض شيء ظل مستمرا.
الفصل السابع
1
لم يصل الخبر إلى العمة كاسي إلا في صبيحة اليوم التالي في الساعة العاشرة صباحا، وهو ما أتى بها، مفعمة باللوم وتغلبها الدموع، عبر الطرق الترابية المؤدية إلى منزل عائلة بينتلاند. شعرت بالاستياء، على حد قولها؛ لأنهم لم يخبروها في الحال. أخذت تكرر قولها: «كان ينبغي أن أهب من فراشي وآتي على الفور. كان نومي سيئا للغاية، على أي حال. كان بإمكاني أن أتولى أمر كل شيء. كان ينبغي أن تستدعوا العمة كاسي في الحال.»
ولم تستطع أوليفيا أن تخبرها بأنهم لهذا السبب تحديدا آثروا ألا يخبروها؛ لأنهم عرفوا أنها ستقوم من فراشها وتأتي على الفور.
حملت العمة كاسي على كاهلها النحيل عبء الحزن. أخذت تنتحب على طريقة النادبات المحترفات في المآتم. أسدلت الستائر في غرفة الجلوس؛ لأن من وجهة نظرها لن يكون الموت محل احترام إلا إذا أعتمت الغرف، وجلست في زاوية الغرفة تستقبل الزائرين، كما لو كانت الأشد فجيعة بينهم جميعا، كما لو أنها الوحيدة بينهم التي عانت أشد المعاناة. لم تعد إلى مسكنها الخاص إلا في وقت متأخر من الليل وتناولت جميع وجباتها في منزل عائلة بينتلاند، وهو ما أزعج شقيقها، الذي التفت إليها في اليوم الثاني فجأة وسط وجبة الغداء وقال: «كاسي، إذا كنت لا تستطيعين الكف عن هذا العويل الذي لا نهاية له، فأرجو أن تتناولي طعامك في بيتك. هذا لن يجدي نفعا في أي شيء.»
حينئذ قامت من على مائدة الطعام، في أوج شعور مفاجئ بالحزن والاضطهاد، لتغادر الغرفة مسرعة، باكية ومستاءة. بيد أنها لم تشعر بالإهانة بالقدر الذي يجعلها تتناول وجباتها في بيتها. بل مكثت في منزل عائلة بينتلاند؛ لأنهم على حد قولها: «كانوا يحتاجون شخصا مثلها ليساعدهم ...» وأسرت إلى الآنسة بيفي المرتعدة الواهنة، التي كانت تأتي وتذهب كأرنب مذعور لإنجاز بعض المهام من أجلها، أنها مندهشة من أن أخاها وأوليفيا يتعاملان مع الموت بهذا القدر من اللامبالاة. فلم ينتحبا؛ ولم تبد عليهما أي مظاهر للحزن. كانت واثقة من أنهما يفتقران إلى الإحساس المرهف. وأنهما لم يشعرا بالفجيعة. وانتحبت مرة أخرى، وهي تستعيد ذكريات الأيام الخوالي التي كان الصبي يجيء فيها حين كان طفلا صغيرا، شاحبا ضعيفا، ليجلس عندها على أرضية غرفة الجلوس الخاوية، يقلب صفحات الكتاب المقدس المصور.
وقالت أيضا للآنسة بيفي: «في أوقات كهذه يظهر أصل المرء وتربيته. ولأول مرة تخفق أوليفيا. إنها لا تعي الأشياء التي يجب على المرء القيام بها في مناسبات كهذه. ليتها نشئت تنشئة سليمة، هنا بيننا ...»
كانت العمة كاسي ترى الموت شأنا ذا طابع تلقائي يكتسي بالرسميات يراعيه المرء بسلسلة من الموروثات المتناقلة بين الأجيال.
كان من الحظ السعيد جدا، حسب قولها، أن الأسقف سمولوود، ابن عم آل بينتلاند وسابين (والذي تطلق عليه سابين «أسقف الطبقة الأرستقراطية») كان لا يزال موجودا في الحي وبإمكانه أن يقيم قداس الجنازة. فمن الأصول أن يدفن سليل عائلة بينتلاند على يد واحد تسري في عروقه دماء آل بينتلاند (كما لو أن أي شخص آخر لا يستحق أن ينال هذا الشرف). وذهبت لمقابلة الأسقف لتناقش معه مسألة إقامة القداس. وخططت لتلك النقطة المعقدة جدا المتعلقة بترتيب مقاعد جلوس الأقارب والمعارف - جميع أفراد آل كين وآل سترازرس وآل مانرينج وآل ساذرلاند وآل بينتلاند - في الكنيسة. وزارت سابين لتقول لها إنه أيا كانت مشاعرها تجاه الجنازات، فمن واجبها أن تحضر هذه الجنازة بالذات. يجب أن تتذكر سابين أنها عادت مرة أخرى إلى عالم الأناس المتحضرين الذين يتصرفون كما يليق بالسادة والسيدات المحترمين. وأسرت لكل زائر من الزوار الذين استقبلتهم في غرفة الاستقبال المعتمة بحقيقة أن سابين قطعا مخلوقة قاسية وعديمة الشعور؛ لأنها حتى لم تكلف نفسها بزيارة منزل عائلة بينتلاند.
إلا أنها لم تكن تعرف ما كانت أوليفيا وجون بينتلاند يعرفانه؛ وهو أن سابين كانت قد أرسلت رسالة موجزة وسريعة وغير مترابطة تقريبا، تفتقر إلى عبارات الورع البالية والمعهودة في مثل هذه المناسبات، رسالة كانت تعني لهما أكثر مما يعنيه البكاء والتهامس والفوضى التي حدثت في الطابق السفلي؛ حيث توافد على المنزل أهل الريف بأكمله ذهابا وإيابا في موكب متواصل لا ينتهي.
وعندما لم تكن تجد الآنسة بيفي بالقرب منها لتنجز لها المهام، كانت تتخذ من آنسون مرسالا لها ... آنسون، الذي أخذ يهيم على وجهه عاجزا وتائها ومضطربا لأن الموت قد عرقل انسياب حياة سلسة خالية من الأحداث، يحدث فيها كل شيء وفقا لخطة محددة. كان الموت قد أربك جميع أفراد المنزل. كان من المستحيل معرفة شعور آنسون بينتلاند حيال موت ابنه. فلم يتحدث مطلقا، وبعدما تأجل تأليف كتاب «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس» وسط كل هذا الاضطراب وطمر مكتب السيد لويل تحت باقات الزهور المرسلة للتعزية، لم يكن لديه ما يفعله سوى التسكع ليعترض طريق كل شخص يقابله ويستجلب لنفسه التوبيخات اللاذعة من العمة كاسي.
كانت العمة كاسي وآنسون هما من فتحا صندوق الورود الكبير الذي أرسله أوهارا. فتحت العمة كاسي بيدها النحيفة ذات العروق الزرقاء البارزة المظروف المرفق والموجه بصريح العبارة إلى «السيدة آنسون بينتلاند». كانت العمة كاسي هي من أرغمت آنسون على قراءة ما كان مكتوبا بداخله:
عزيزتي السيدة آنسون،
تعرفين ما أشعر به. لا حاجة لقول المزيد.
مايكل أوهارا
علقت العمة كاسي قائلة: «الوقح! ولماذا يرسل زهورا من الأساس؟» وأخذت العمة كاسي تقرأ الرسالة مرارا وتكرارا، كما لو أنها ربما تجد بطريقة أو أخرى معنى مستترا وراء العبارتين المبهمتين. وكانت العمة كاسي هي من حملت الرسالة إلى أوليفيا وراقبتها وهي تقرؤها وتنحيها جانبا بهدوء فوق التسريحة. وعندما عجزت عن اكتشاف أي شيء قالت لأوليفيا: «يبدو لي أنه من الوقاحة أن يرسل زهورا ويكتب مثل هذه الرسالة. ما صلته بنا هنا في منزل عائلة بينتلاند؟»
نظرت إليها أوليفيا ببعض الإرهاق وقالت: «وما الذي يهم إن كان وقحا أو غير ذلك؟ علاوة على ذلك، كان صديقا رائعا لجاك.» ثم عدلت وضعية جسدها المرهق، ونظرت إلى العمة كاسي وقالت بنبرة متأنية: «كما أنه صديق لي.»
كانت هذه هي المرة الأولى التي ينكشف فيها انقسام القوى، حتى ولو لثانية واحدة، المرة الأولى التي تظهر فيها أوليفيا أي مشاعر تجاه أوهارا، وكان ثمة شيء منذر بالسوء في النبرة الهادئة التي نطقت بها العبارة على نحو عابر جدا. وأنهت أي نقاش محتمل بمغادرة الغرفة بحثا عن آنسون، تاركة العمة كاسي منزعجة جراء الإحساس الوجل الذي باغتها حين وجدت نفسها فجأة في مواجهة الهدوء الغامض والخطر الذي كان أحيانا يسيطر على أوليفيا. وعندما وجدت نفسها بمفردها في الغرفة، رفعت الرسالة مرة أخرى من فوق التسريحة وقرأتها بتمحيص للمرة العشرين. لم يكن فيها أي شيء ... لا شيء يمكن أن يلصق به المرء على نحو مقبول أي شبهات.
وهكذا، في غمرة الموت، المغلف برائحة زهور مسك الروم، وقفت السيدة العجوز منتصرة، بعد أن كادت تتكبد هزيمة نكراء. بطريقة ما عثرت، في هذه الفاجعة، على دورها المناسب واستطاعت أن تجتذب لنفسها أغلب الضوء من باقي الممثلين. ولا بد أنها قد عرفت أن الزوار يغادرون المنزل وهم يقولون: «كاسي تتصدى لمثل هذه المواقف بطريقة رائعة. لقد حملت كل شيء على عاتقها.» ونجحت في ترك انطباع مزدوج بأنها عانت أكثر بكثير من أي من الآخرين وأنه لم يكن بوسع أي منهم أن يفعل أي شيء من دونها.
ثم في غمرة انتصارها، حدث أسوأ ما يمكن أن يحدث. كانت أوليفيا أول من عرف بالمصيبة، نظرا لأنها كانت دوما أول شخص يعرف قبل الآخرين جميعا بما كان يعرفه العجوز جون بينتلاند؛ وما كان الآخرون سيعرفون مطلقا حتى تنتهي المراسم الحزينة الخاصة بالجنازة لولا فضول العمة كاسي المفرط.
ففي اليوم الثاني، استدعى جون بينتلاند أوليفيا إلى المكتبة، ووجدته هناك كما كانت تجده في مرات كثيرة من قبل، متجهما وصامتا ومقهورا، ولكن هذه المرة كان ثمة شيء مفجع ومنكسر بشكل لا يوصف في سلوكه.
لم تتحدث إليه؛ وببساطة انتظرت، حتى رفع بصره أخيرا، وقال بنبرة أقرب إلى الهمس: «جثمان هوراس بينتلاند وصل إلى محطة دورهام.»
ونظر إليها نظرة خاطفة تشي بعجز مثير للشفقة، نظرة رجل قوي صار فجأة ضعيفا وهرما، كما لو أن قوته قد نفدت وكان الآن يلجأ إليها. كانت هذه هي المرة الأولى التي بدأت ترى فيها أنها كانت بطريقة أو أخرى سجينة، ولكن من الآن فصاعدا، ومع مرور الأيام يوما تلو الآخر، صارت مسألة تدبير شئون الحياة بأكملها في منزل عائلة بينتلاند مهمتها. لم يكن يوجد أحد يمكن أن يحل محل الرجل المسن ... لا أحد، عداها.
سألها بنفس النبرة الهامسة: «ماذا عسانا أن نفعل؟ أنا لا أعرف. أنا في حيرة من أمري .»
قالت أوليفيا برفق: «يمكننا أن ندفنهما معا. يمكننا أن نقيم جنازة ثنائية.»
نظر إليها في ذهول. وسألها: «ألن تمانعي ذلك؟» وعندما هزت رأسها نفيا، أجاب قائلا: «ولكن لا يمكننا أن نفعل ذلك. يبدو لي أن ثمة خطبا ما في هذه الفكرة ... لا أستطيع أن أوضح مقصدي ... لا ينبغي فعل ذلك ... صبي مثل جاك وعجوز منبوذ مغضوب عليه مثل هوراس.»
كانا سيعملان على تسوية الأمر بهدوء فيما بينهما كما فعلا في الكثير من المشاكل في السنوات الأخيرة عندما كان جون بينتلاند يلجأ إليها ليستمد منها القوة، ولكن في تلك اللحظة انفتح الباب فجأة، وبلا طرق عليه، لتظهر العمة كاسي، وعيناها تتقدان ببريق غاضب وهيستيري، وحول وجهها النحيل تدلى شعرها في كل اتجاه في خصلات رمادية صغيرة.
سألتهما: «ماذا هناك؟ ما الخطب؟ أعرف أن ثمة خطبا ما، ولا يحق لكما أن تخفياه عني.» كانت تتحدث بصخب وحدة، كما لو أن كل المتعة والنشاط المحيطين بالموت خلال هذين اليومين قد أدخلاها في حالة مفرطة من الإثارة. أجفل كل من أوليفيا وجون بينتلاند من وقع صوتها. كانت قد أثارت حفيظتهما على نحو بالغ.
استمر الصوت الحاد بنبرة عالية. قائلة: «لقد كرست كل وقتي لإجراء الترتيبات. أكاد لا أنام. أضحي بنفسي من أجلكما ليلا ونهارا ومن حقي أن أعرف.» بدا كما لو أنها استشعرت الانهيار البطيء للعجوز جون بينتلاند وتسعى الآن إلى أن تطيح به، وتعزله من منصبه بصفته كبير العائلة، في انقلاب ساحق عليه، لتنصب نفسها مكانه، طاغية شديدة الاستبداد هزيلة البنيان؛ كما لو أنها تخلت أخيرا عن طريقتها القديمة الماكرة المتمثلة في محاولة استمالة رجال العائلة بالمكر والخداع. صارت الآن مستعدة لإرساء قواعد السلطة الأمومية، باعتبارها الملاذ الأخير لعائلة وهنت قوتها. كانت قد ثارت بالطريقة نفسها مرة قبل ذلك، حسبما تتذكر أوليفيا، في تلك الشهور الطويلة التي استسلم فيها السيد سترازرس، الذي كان يحتضر ببطء، مانحا إياها زهوة الانتصار.
تنهد جون بينتلاند بعمق وإرهاق، وتمتم قائلا: «لا شيء مهم يا كاسي. إنه أمر سيزعجك وحسب. أنا وأوليفيا نعمل على تسويته.»
ولكنها لم تتراجع. ظلت واقفة، متمسكة بموقفها واستمرت في وصلة التقريع، وارتفعت نبرة صوتها لتصل إلى درجة هيستيرية. قالت: «لن أهمش. لا أحد يخبرني بأي شيء مطلقا. وعلى مدار سنوات الآن، أستبعد كما لو أنني محدودة الذكاء. رغم ضعفي ووهني، أبذل قصارى جهدي لخدمة العائلة ولا أتلقى ولو كلمة شكر واحدة ... لماذا تفضل أوليفيا دوما على أختك؟» وانهمرت على وجهها دموع رثاء حسي مفرط على الذات. حتى إنها بدأت تغمغم وتخلط كلماتها، واستسلمت تماما لحالة من اللذة الحسية المصاحبة للنوبات الهيستيرية.
رأت أوليفيا، التي كانت تراقبها في هدوء، أن هذه لم تكن واقعة عادية. كانت هذه، في الحقيقة، هي العمة كاسي الجديدة التي كانت سابين قد كشفتها لها قبل أيام قليلة ... العمة كاسي حديثة العهد جدا التي كانت قد ولدت في تلك اللحظة في الشرفة الأمامية لتحل محل العمة كاسي العجوز التي دائما ما كانت محاطة بهالة من الدموع والأعمال الصالحة والمشاركة الوجدانية. الآن فهمت ما لم تفهمه من قبل مطلقا؛ وهو أن العمة كاسي لم تكن مجرد إنسانة مريضة بالوهم غير عقلانية غير مؤذية ومثيرة للشفقة؛ وإنما قوة غاشمة ومعدومة الضمير. وعرفت أنه وراء هذا الانغماس العاطفي خطة مدروسة جدا. وتشككت نوعا ما في أن الخطة كانت تهدف إلى إخضاعها، أو إجبارها (أي أوليفيا) على أن تقع تماما تحت وصاية المرأة العجوز. مرة أخرى رأت الحشرة تضرب بجناحيها باهتياج شديد نوافذ عالم لن تستطيع دخوله أبدا ...
وبهدوء قالت أوليفيا: «بالتأكيد، يا عمة كاسي، لا داعي لإحداث جلبة غير مبررة ... لا داعي للسوقية والابتذال ... في وقت كهذا.»
نظرت العجوز إلى أخيها، وقد ألجمتها المفاجأة، لكن لم تأت من جانبه أي مبادرة بالعون أو الغوث؛ لا بد أنها رأت، بوضوح تام، أنه انحاز إلى جانب أوليفيا ... الدخيلة، التي تجرأت على اتهام سليلة عائلة بينتلاند بالسوقية والابتذال. «سمعت ما قالته، يا جون ... سمعت ما قالته! وصفت أختك بالسوقية والابتذال!» ولكن فجأة بدأت نوبتها الهيستيرية تنحسر ، كما لو أنها رأت أنها اختارت، في نهاية المطاف، خطة هجوم خاطئة. لم تجبها أوليفيا. جلست في مكانها وحسب، تنتظر، وقد بدت شاحبة وصبورة وجميلة في ملابسها السوداء. كانت لحظة غير منصفة في حق العمة كاسي. فما كان أي رجل، ولا حتى آنسون نفسه، سينحاز ضد أوليفيا حينها.
قال الرجل المسن بنبرة متأنية: «إن كان يجب أن تعرفي، يا كاسي. ... الموضوع يخص شيئا لن ترغبي في سماعه. ولكن إن كان يجب أن تعرفي، فهو ببساطة أن جثمان هوراس بينتلاند وصل إلى محطة القطار في دورهام.»
انتاب أوليفيا شعور خاطف بأن قناع المراءاة والنفاق بدأ يتصدع، ويتشقق ببطء إلى أجزاء صغيرة.
في البداية، أخذت العمة كاسي تحدق فيهما وحسب، وهي تخنفر وتمسح عينيها الحمراوين، ثم قالت بنبرة هادئة على نحو مذهل: «كما ترى ... أنت لا تخبرني بأي شيء مطلقا. لم أعرف من قبل أنه توفي.» كان في مسلكها لمحة انتصار وتبرير لتصرفها.
قال الرجل المسن: «لم يكن ثمة داع لإخبارك يا كاسي. لم تسمحي بأن يتلفظ أحد في العائلة باسمه لسنوات. أنتما - أنت وآنسون - اللذان جعلتماني توعدته ودفعته إلى العيش خارج البلاد. لماذا إذن تهتمين حين يموت؟»
ظهرت على العمة كاسي علامات الانهيار مرة أخرى. وأردفت تقول: «كما ترى، أنت تلومني دوما على كل شيء. كنت أفكر في العائلة طوال هذه السنوات. ما كان بوسعنا أن نترك هوراس يجول طليقا في بوسطن.» ثم توقفت فجأة عن الحديث بإيماءة مفاجئة ومرهفة من يدها تنم عن الاشمئزاز، كما لو أنها تنفض يديها من الموضوع برمته. «كان يمكنني أن أدير الأمر بنفسي على نحو أفضل. ما كان ينبغي له أبدا أن يعود إلى أرض الوطن ... ليثير المتاعب مرة أخرى.»
ظلت أوليفيا ملتزمة الصمت بينما جاء الرد على العمة كاسي من جانب الرجل المسن. إذ قال: «أراد أن يدفن هنا ... كتب لي رسالة يطلب فيها ذلك، عندما كان يحتضر.» «لم يكن له الحق في هذا الطلب. لقد خسر جميع الحقوق بسبب سلوكه. أقولها مرة أخرى وسأظل أقولها. ما كان ينبغي له أن يعود إلى هنا ... بعدما نسيه الناس ولم يعودوا يذكرون إن كان حيا أم ميتا.»
كانت قد تملكت أوليفيا حالة من الهدوء المخيف ... كانت تتطلع من النافذة عبر الأهوار البعيدة إلى الأفق البعيد، وعندما التفتت تحدثت بهدوء مريع. قالت: «يمكنك أن تفعلي بجثة هوراس بينتلاند ما تشائين. هذا الأمر يخصك أكثر مني؛ لأنني لم أقابله مطلقا في حياتي. ولكن ابني هو من مات ... ابني، الذي ينتمي إلي أكثر من أي منكم. يمكنكم دفن هوراس بينتلاند معه في اليوم نفسه ... بمراسم القداس نفسها، بل وفي القبر نفسه. أمور كهذه لا تهم كثيرا بعد الموت. لا يمكنك الاستمرار إلى الأبد في التظاهر ... الموت أقوى كثيرا من ذلك. إنه أقوى من أي منا نحن المخلوقات الضعيفة؛ لأنه الحقيقة الوحيدة التي لا يمكننا تجنبها. فلا علاقة له بالتحيزات والكبرياء والجدارة بالاحترام. بعد مائة عام - أو حتى عام، أو شهر - ماذا ستكون أهمية ما فعلناه بجثة هوراس بينتلاند؟»
نهضت واقفة، والهدوء المخيف لا يزال يحيط بها، وقالت: «سأترك لكما أنتما الاثنان أمر هوراس بينتلاند. فدماؤه لا تسري في عروقي. أيا كان ما ستفعلانه، لن أعترض عليه ... كل ما في الأمر أنني لن أتعامل بحقارة مع الموت.»
خرجت من الغرفة، تاركة العمة كاسي مستنزفة ومبهورة ومرتبكة. كانت العجوز قد فازت في معركتها بشأن دفن هوراس بينتلاند، ومع ذلك تجرعت هزيمة نكراء. لا بد أنها رأت أنها قد خسرت حقا كل شيء؛ لأن أوليفيا تعاملت مع الأمور الجذرية وأصابت كبد الحقيقة، في حضور جون بينتلاند، الذي كان هو نفسه على شفير الموت. (تجرأت أوليفيا أن تقول بفخر، كما لو أنها كانت في الواقع تحتقر اسم عائلة بينتلاند: «دماؤه لا تسري في عروقي.»)
بيد أنها كانت هزيمة أدركت أوليفيا أنها لن تعترف بها قط: وتلك كانت إحدى الخصال التي جعلت التعامل مع العمة كاسي مستحيلا. من المحتمل أنها، حتى بينما كانت جالسة تمسح عينيها، كانت تنتقي أسلحة جديدة لصراع كان قد خرج أخيرا إلى العلن لأنه صار من المستحيل الآن خوض المعركة عبر حليف ضعيف ومتقلب مثل آنسون.
كانت العمة كاسي بطبعها امرأة تتظاهر بأنها شهيدة ومضحية. كان الاستشهاد السلاح الأنثوي العظيم على أيامها في الحقبة الفيكتورية وكانت هي متمرسة فيه؛ إذ كانت قد تعلمت جميع تفاصيله الدقيقة خلال السنوات التي استلقت فيها متدثرة بالشال على أريكة تخضع السيد سترازرس مكتمل الرجولة.
وأدركت أوليفيا أثناء مغادرتها للغرفة أنها ستضطر إلى التعامل في المستقبل مع عمة مسكينة ومريضة يساء معاملتها، بذلت كل طاقتها للأعمال الصالحة ولم تجن في المقابل سوى القسوة والفظاظة من جانب امرأة دخيلة، ومتطفلة، ونوعا ما مستهترة شقت طريقها بالمكر والخداع إلى قلب عائلة بينتلاند. بضرب من الفنون تتقن أسراره، ستجعل العمة كاسي الأمر يبدو بهذه الطريقة.
2
لم تهدأ حرارة الجو. بل ظلت السخونة عالقة في الجو على هيئة سحابة منتشرة فوق ربوع الريف بأكمله، تحيط بالموكب الأسود الذي كان يتحرك عبر الطرق الترابية المؤدية إلى الطريق السريع ومنه عبر مجموعات أكواخ الجص القبيحة التي يسكنها عمال المصانع، في طريقه مرورا بالمصلى الكنسي المهجور الذي كان بينتلاند المصون من الإثم قد ألقى فيه ذات مرة خطبة عصماء شديدة اللهجة وانطلق منه القس جوسيا ميلفورد بجماعته إلى المحمية الغربية لمستعمرة كونيتيكت ... أحاطت السحابة بالموكب الأسود البطيء حتى وصل إلى أبواب الكنيسة الحجرية الباردة المغطاة بأوراق اللبلاب (المبنية على أرض مرتفعة في محاكاة لإحدى الكنائس الإنجليزية الريفية) حيث عبد آل بينتلاند آلهة متواضعة كانت محل انتقاد واحتقار قاهر الساحرات. وفي الطريق، تحت أشجار الدردار في شارع هاي ستريت، وقفت نساء بولنديات وأطفال يحدقون ويرشمون إشارة الصليب عند رؤية الموكب الضخم.
بدت الكنيسة الصغيرة مكانا هادئا يعمه السلام بعد حرارة الجو واضطراب شارع دورهام، مكانا هادئا وصامتا ومزدحما عن آخره بأقارب العائلة ومعارفها. وحتى المقاعد الخلفية امتلأت بفلول العائلة من الفقراء شبه المنسيين الذين لم يملكوا ثروة تجعلهم ينعمون بالهناء ورغد العيش. جلست السيدة فيذرستون العجوز (التي كانت تتخذ الغسيل اليدوي مهنة لها ) تجهش بالبكاء لأنها اعتادت على البكاء في جميع الجنازات، والآنسة هادون العجوز، ابنة العم الأرستقراطية من آل بينتلاند، التي كانت ترتدي حتى في عز الصيف عباءتها الصوفية السوداء الثقيلة المعهودة، والسيدة مالسون، التي تحاول الحفاظ على أرستقراطيتها البائدة رغم مظهرها الرث بقلنسوتها الحريرية العالية، والآنسة مورجاترويد، صاحبة المنزل المحاط بالأسوار العالية والذي كانت معلقة عليه الآن لافتة «حانة ويتشيز برووم» حيث كان المرء يحصل على كوب شاي سيئ وشطائر بشعة ...
كان الأسقف سمولوود والعمة كاسي قد تعاونا معا لإعداد قداس جنازة مدروس بمهارة ليحرك المشاعر ويطلق العنان للقدرات العاطفية الفياضة لجيلهما وخلفيتهما الاجتماعية.
اختارا أكثر الترانيم جياشة وتحريكا للمشاعر، وقال الأسقف سمولوود، المشهور بأثره على المسنات الورعات والمرهفات الحس، بضع عبارات رنانة تفيض بالنفاق جعلت العمة كاسي والسيدة فيذرستون العجوز البائسة تدخلان في نوبة حزن شديد جديدة. صار قداس الجنازة على روح الصبي أشبه بطقس بربري لم يكن مكرسا لحياته القصيرة المفجعة وإنما تمجيدا للاسم الذي حمله وجميع الخصال المرتبطة به - كضيق الأفق والخيلاء وتمجيد الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى للممتلكات - التي كانت قد تجلت في المأساة الدائمة المتمثلة في الحياة التي عاشها في مرض. ملأ الفخر آنسون والعمة كاسي في مقعديهما المتجاورين عند ذكر أسلاف عائلة بينتلاند. حتى إن نظر السيدات البولنديات العاملات النشيطات السمينات، اللاتي كن يحدقن في موكب الجنازة بعيون مذهولة قبل قليل، تحول إليهما الآن في موجة من الفخر والاعتزاز المستتر. سرت موجة المشاعر نفسها بشكل أو آخر عبر الكنيسة الصغيرة بداية من المنبر حيث وقف الأسقف سمولوود (بالنبرة الشجية في صوته التي كان نال بها جوائز من معهد اللاهوت) تحيطه زهور منتصف الصيف، عبر جميع الأقارب والمعارف، وصولا إلى الجزء الخلفي بين المجهولين والأقارب من درجة بعيدة حيث صارت مشاعر فخر واعتزاز بصلتهم بإقليم نيو إنجلاند والقرية العريقة المحتضرة التي كانت آخذة في الاضمحلال سريعا تحت غزو عالم أكثر نشاطا وحركة. غمرهم جميعا شيء من سحر عائلة بينتلاند، حتى السيدة فيذرستون العجوز، بظهرها الضعيف المحدب من العمل بالغسيل اليدوي لإعالة أحفادها الأربعة المرضى الذين ما كان ينبغي لهم أن يأتوا إلى هذه الحياة. وعبر دموعها الطيعة (كانت تبكي لأن البكاء كان المتعة الوحيدة الباقية لها في الحياة)، التمع بريق الفخر بالانتماء إلى هؤلاء الأشخاص، الذين اضطهدوا الساحرات وابتدعوا نزعة التعالي، وإلى السيد لويل ودكتور هولمز والسيد لونجفيلو الطيب اللطيف. رفعها هذا بطريقة ما فوق مستوى أولئك الغرباء الوقحين الذين كانوا يتبعون كنيسة روما الكاثوليكية ويزاحمونها على أرصفة شارع هاي ستريت.
وبداخل الكنيسة الصغيرة بأكملها، ربما لم ينج إلا شخصان أو ثلاثة فقط من تلك الموجة المفاجئة الغامرة من الشعور بالرضا عن الذات ... كان هؤلاء هم أوهارا الذي كان دوما خارج نظام الطبقات الاجتماعية، وأوليفيا وجون بينتلاند، اللذان جلسا متجاورين يملؤهما الحزن والأسى لدرجة أنهما حتى لم يستنكرا سلوك الأسقف سمولوود الغريب. شعرت سابين (التي كانت قد جاءت، على أي حال، لتحضر الجنازة) بحدة المشاعر الغامرة. وملأها هذا بشعور من الغضب الكامن والمبيت والمضمر.
بينما كان الموكب الصغير في سبيله إلى مغادرة الكنيسة، وأفراده يكفكفون دموعهم ويغمغمون بنبرات حزينة، بدأت السماء تكفهر بالسحب التي كانت قبل قليل قد انتشرت في الأفق البعيد. صار الهواء ساكنا جدا حتى أن أوراق أشجار الدردار السامقة تدلت بلا حراك كأنها أوراق مرسومة في لوحة، ومن مسافة بعيدة، تعالى هدير الرعد الآتي من بعيد، برفق في البداية، ثم بوتيرة تدريجية متزايدة تنذر بوقوع خطر وشيك. وفي حركة مضطربة، اجتمع المعزون في مجموعات صغيرة على درجات السلم، يقلبون أبصارهم بين السماء المنذرة بالخطر وعربة نقل الموتى المنتظرة، وبعد قليل، بدأ الأكثر جبنا يتسللون بعيدا، واحدا تلو الآخر، في خوف ورعدة. وببطء تبعهم آخرون وبحلول الوقت الذي حمل فيه التابوت خارجا، كان الجمع الغفير قد تبدد ولم يتبق إلا «أفراد الأسرة المباشرين» وواحد أو اثنان آخران. بقيت سابين وأوهارا والسيدة سومز (التي توكأت على ذراع جون بينتلاند كما لو كان الميت حفيدها)، والآنسة هادون بعباءتها السوداء، وحاملو التابوت، وبالطبع الأسقف سمولوود وكاهن أبرشية البلدة، والذي كانت قد توارت أهميته في حضرة هذه الركيزة المهيبة والجليلة من ركائز الكنيسة. بالإضافة إلى هؤلاء، كان هناك قريب أو اثنان آخران، مثل سترازرس بينتلاند، وهو رجل أصلع متأنق ضئيل البنية (ابن عم جون بينتلاند وهوراس المشين) الذي لم يتزوج أبدا وإنما كرس نفسه بدلا من ذلك لتنشئة صبية فصوله الدراسية في هارفرد.
استقلت هذه المجموعة الصغيرة المتبقية السيارات وأسرعت خلف عربة نقل الموتى في سباقها المحموم مع العاصفة الوشيكة. •••
كانت مقابر البلدة تقع أعلى قمة تل أجرد مرتفع حيث كان مستوطنو دورهام الأوائل قد اختاروا أن يتخلصوا من موتاهم هناك، وكان الدرب القديم المؤدي إلى التل صخري شديد الانحدار بحيث لم يكن يسمح بمرور السيارات، ولذا عند الجزء العلوي من التل اضطرت المجموعة إلى النزول من السيارات واستكمال باقي الرحلة سيرا على الأقدام. وبينما كانوا يحتشدون، في صمت وعجالة، حول القبر المفتوح والمنتظر، كان هدير الرعد، الذي صحبه في تلك اللحظة ومضات برق جامحة، يقترب أكثر فأكثر، وبدأت أوراق الأشجار المتقزمة والشجيرات، التي كانت قبل لحظات ساكنة، ترقص وتهتز بجنون في الضوء الأخضر الذي سبق العاصفة.
وقف الأسقف سمولوود، وهو رجل هلوع بطبعه، بجوار القبر وفتح كتاب الصلوات الخاص به المرصع بالجواهر (كان شديد التعلق بطقوس الكنيسة العليا ومولعا بالبخور والجواهر والأحجار الكريمة) وأخذ يقلب بإصبعه الصفحات باضطراب، وفي تلك اللحظة ثبت نظره على الصفحات، متفحصا حينئذ حافري القبور البولنديين المتبلدي الحس الذين وقفوا منتظرين دفن آخر ذرية آل بينتلاند. حدثت تأخيرات طفيفة مزعجة، ولكن أخيرا صار كل شيء جاهزا، وبدأ الأسقف القداس، وهو يتلو بأسرع ما يمكنه، بصوت أقل ترفا وتصنعا من المعتاد. «قال الرب: أنا هو القيامة والحياة ...»
وتبدد ما قيل بعد هذه العبارة وسط هزيم الرعد المدوي حتى إن الأسقف استطاع أن يغفل سطرا أو سطرين دون أن يفتضح أمره. وبدأت الأشجار القليلة الموجودة على التل الأجرد تهتز وتتمايل، وتنحني نحو الأرض، وأخذت الأوشحة السوداء المصنوعة من القماش الكريب التي ترتديها النساء تتلوى بجموح . ووسط هزيز الريح وهدير الرعد، لم يسمع الحضور سوى عبارة أو عبارتين فقط من القداس. ... «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعد ما عبر، وكهزيع من الليل ...»
ثم عادت الطبيعة الجامحة والغاضبة وسيطرت على القداس، ليعلو صوتها فوق الصوت المرتعد للأسقف والنحيب المتصنع الصاخب للعمة كاسي، وعاد صمت مفاجئ مبهور يخيم على المكان وصوت الأسقف، الهزيل والضئيل وسط العاصفة، يتلو ... «إحصاء أيامنا هكذا علمنا فنؤتى قلب حكمة.»
ثم أردف مرة أخرى: «برحمة الرب العلي القدير وبعنايته الإلهية يسترد روح أخينا المتنيح من هذا العالم.»
وأخيرا، وبارتياح، كرر الصوت الواهن الشبيه بنغمة المزمار على نحو أقل رتابة من المعتاد، قائلا: «نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين.»
سمعت سابين، التي كان يكمن في طبيعتها الصلبة شيء يبتهج في الجو العاصف، القداس بشق النفس. وقفت تتأمل الجمال الجامح للسماء والبحر البعيد والأهوار، وتفكر في أنه لا بد وأن الأمور عند دفن أول شخص من عائلة بينتلاند كانت مختلفة كثيرا عن هذا الطقس المتهيب والمتعجل الذي اتسم به دفن آخر الراحلين من العائلة ذاتها. ظلت تتخيل أولئك البيورتانيين المتشددين المتعصبين المتزمتين الأوائل واقفين على أضرحتهم كأشباح تتأمل بسخرية الهيئة الأنيقة لأسقف الطبقة الأرستقراطية وكتاب الصلوات المرصع بالجواهر الخاص به ... •••
بدأ حافرو القبور البولنديون عملهم بتبلد غير مبالين بالعاصفة، وقبل أن تتحرك السيارة الأولى نزولا على الدرب الصخري المنحدر، انهمرت الأمطار بعنف جنوني جامح، مندفعة إلى الداخل مشكلة جدارا عبر البحر والأهوار المعتمة. رفعت سابين، وهي تقف عند باب سيارتها، رأسها وأخذت نفسا عميقا، كما لو أن القوة الوحشية المدمرة للعاصفة ملأتها بنوع من النشوة.
وفي اليوم التالي، وفي أجواء باردة ومشرقة وصافية بعد هبوب العاصفة، شق موكب ثان طريقه إلى أعلى التل الأجرد عبر الدرب الصخري، ولكن في هذه المرة لم يحضر الأسقف سمولوود، ولا ابن العم سترازرس بينتلاند؛ لأنهما كانا قد استدعيا على نحو مفاجئ وغامض. ولم يحضر آنسون لأنه لم تكن له صلة بوغد مثل هوراس بينتلاند، حتى في الموت. وفي مجموعة صغيرة حول القبر المفتوح، وقفت أوليفيا وجون بينتلاند والعمة كاسي، التي كانت قد جاءت، على أي حال، لأن المتوفى كان يحمل اسم بينتلاند، والآنسة هادون (بعباءتها الصوفية الثقيلة)، التي لم تكن تفوت أبدا أي جنازة وكانت قد علمت بهذه الجنازة من صديقها، الحانوتي، الذي كان يطلعها دوما على آخر أخبار الجنازات. ولم يحضر أي من الأصدقاء ليحمل التابوت إلى القبر، ولذلك قسم هذا العمل بين رجال الحانوتي وحافري القبور ...
وبدأ القداس مرة أخرى، ولكن هذه المرة تلاه الكاهن، الذي بدا أنه رسخ أقدامه في المكانة المقدسة منذ رحيل الأسقف ... «قال الرب: أنا هو القيامة والحياة ...» «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعد ما عبر، وكهزيع من الليل ...» «إحصاء أيامنا، هكذا علمنا فنؤتى قلب حكمة.»
بكت العمة كاسي مرة أخرى، رغم أن مستوى أدائها كان أقل جودة من اليوم السابق، أما أوليفيا وجون بينتلاند فوقفا في صمت بينما دفن هوراس بينتلاند أخيرا وسط تلك المستعمرة الصغيرة من الأموات المتجهمين والمحترمين.
وقفت سابين هناك أيضا، على مسافة قصيرة، كما لو أنها تكره جميع الجنازات. كانت تعرف هوراس بينتلاند وكانت قد زارته في منفاه الطويل كلما قادتها جولاتها إلى جنوب فرنسا، ولم يكن ذلك من منطلق الحب بقدر ما كان من منطلق إثارة غيظ الأفراد الآخرين في العائلة. (لا بد أنه كان أسعد في ذلك البلد الثري الدافئ أكثر مما كان على هذه الأرض الصخرية الباردة.) ولكنها لم تأت اليوم لأسباب عاطفية، وإنما كان السبب أن حضورها منحها الفرصة لانتصار على العمة كاسي. كان بوسعها أن تراقب بعينيها الخضراوين الباردتين العمة كاسي أثناء وقوفهم جميعا لدفن مصدر الإحراج والخزي للعائلة. كانت سابين، التي لم تحضر أي جنازة منذ وفاة والدها قبل خمسة وعشرين عاما، قد تسلقت التل الصخري المؤدي إلى مدافن بلدة دورهام مرتين في أسبوع واحد ...
كان الكاهن يتلو مكررا ... «نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين .»
انصرف الرهط في صمت، وفي صمت أيضا اختفى أفراده عن الأنظار عند حافة التل أثناء نزولهم على الدرب المنحدر. انتهت مراسم الجنازة السرية وترك هوراس بينتلاند بمفرده مع حفاري القبور البولنديين، بعدما عاد أخيرا إلى أرض الوطن.
3
عادت السكينة، التي كانت قد استحوذت على أوليفيا أثناء جلوسها بمفردها إلى جوار جثمان ابنها المتوفى، إليها تدريجيا مع انتهاء فورة الانفعال المصاحبة لمراسم الجنازة. بالطبع، شعرت لأول مرة بالامتنان للأجواء العبثية والفاترة التي غزت هذا العالم الهادئ القديم. وللحظة هدأت تلك الأجواء من روعها حين أرادت أن تترك وشأنها لتنعم بالسكينة، بعد أن فقدت كل مظاهر الاهتمام بالحياة. أدركت يقينا أن موت ابنها لم يكن مأساة في حد ذاته؛ وإنما تمثلت المأساة الوحيدة في الحياة المضطربة والأليمة واليائسة التي عاشها. والآن، بعد سنوات كثيرة جدا من القلق والتوتر، كان ثمة شعور بالسكينة بدا غريبا ولكنه مستساغ نوعا ما ... لحظات كان يغشاها فيها شعور بعزلة عميقة وشافية أثناء استلقائها على كرسي المضجع بجوار النافذة المطلة على الأهوار. وحتى زيارات العمة كاسي، التي كان من شأنها أن تشق طريقها عنوة إلى غرفة أوليفيا من منطلق أداء «الواجب»، ما كانت تترك إلا انطباعا مبهما كالحلم. صارت السيدة المسنة يوما بعد يوم أشبه بذبابة طنانة نشطة، صار طنينها نائيا ومبهما أكثر، مثل طنين ذبابة تحوم عند زجاج نافذة يسمعها النائم من خلال الحجب التي يسدلها النوم.
من نافذتها، كانت أحيانا ترى الرجل المسن من بعيد، يستقل بمفرده عربة يجرها الحصان الأبيض الطاعن في السن عبر الحقول، وأحيانا كانت تلمح جسده المنحني ممتطيا الفرس الحمراء الجامحة على الطرق الترابية. لم يعد يركب الفرس بمفرده؛ إذ رضخ إلى تحذيرات هيجينز الملحة من طباع الفرس الحادة، وسمح للسائس أن يرافقه، ليسير دائما إلى جواره أو خلفه قليلا ليحرسه، ممتطيا حصان البولو الصغير الحجم بسلاسة وخيلاء جعلتا الحصان وفارسه يبدوان كائنا واحدا ... أشبه بالقنطور. وعلى صهوة حصان، بدا أن قبح الرجل النشيط الشهواني الضئيل البنية يتوارى. بدا الأمر وكأنه ولد هكذا، على صهوة حصان، وأنه يشعر بالارتباك والقلق عندما يسير على قدميه.
وكانت أوليفيا تدرك الفكرة التي تراود دوما عقل حميها أثناء ركوبه الحصان عبر الحقول الجرداء الصخرية. كان يفكر طوال الوقت في أن كل هذه الأراضي الشاسعة، وكل هذه الثروة الطائلة، وحتى الأكوام التي كانت العمة كاسي تكدسها بحرص، ستئول ذات يوم إلى عائلة تحمل اسما آخر، ربما اسم لم يسمع عنه من قبل مطلقا.
لن يعود ثمة وجود لآل بينتلاند. ستكون سيبيل وزوجها أثرياء، بل وفاحشي الثراء، بأموال عائلة بينتلاند وأموال أوليفيا ... ولكن لن يعود ثمة وجود لأفراد يحملون اسم بينتلاند. لقد آل كل شيء إلى نهايته في هذا ... العقم والاندثار. وبعد مرور مائة عام أخرى، سيبقى الاسم، إن ظل قائما من الأساس، مجرد ذكرى، محفوظة في صفحات كتاب آنسون.
في النهاية أثرت حالة الكآبة الجديدة، التي خيمت على المنزل، حتى على معنويات سيبيل، الشابة الغضة والمتشوقة جدا لخوض تجارب جديدة، وكأن تلك الحالة عفن فطري سام تغلغل في روحها. لاحظت أوليفيا هذا لأول مرة في فتور غامض معين بدا أنه يؤثر على كل تصرف من تصرفات الفتاة، ثم في تنهيدة خافتة عابرة تنم عن الإجهاد، وفي زيارات الفتاة لغرفتها، وفي الطريقة التي زهدت بها طواعية قضاء الأمسيات في منزل «بروك كوتيدج» لتبقى في البيت مع والدتها. لاحظت أن سيبيل، التي كانت دوما تتحلى بالحماس البالغ، قد مستها نزعة من العقم الذي كانت (أوليفيا) قد قاومته طويلا. وكانت سيبيل، سيبيل من بينهم جميعا، هي الوحيدة التي تمتلك فرصة النجاة.
كانت تقول في نفسها: «يجب ألا أضغط عليها. يجب ألا أكون مثل هذه النوعية من الأمهات اللاتي يفسدن حياة أبنائهن.»
وعندما كان جون بينتلاند يأتي ليجلس إلى جوارها فاتر الهمة، صامتا أحيانا، وفي أحيان أخرى مختلقا أحاديث فارغة لم تكن تعني شيئا، بغية إخفاء يأسه، لاحظت أنه، هو الآخر، كان يأتي ليستمد منها القوة التي لا يستطيع أحد سواها أن يمنحها له. فحتى السيدة سومز المسنة خذلته، إذ أصابها المرض مرة أخرى ولم تتمكن من مقابلته إلا لبضع دقائق كل يوم. (كان رأي سابين، الذي عبرت عنه أثناء إحدى زياراته الصباحية، أن هذه النوبات المرضية المفاجئة الغريبة كانت بسبب تعاطي جرعات زائدة من المخدرات.)
لذا، أدركت أن تخليها عن النضال الآن سيجعلها تندرج في خانة الجبناء، واستيقظت ذات صباح عند الفجر تقريبا لترتدي ملابس ركوب الخيل، وتخرج مع سيبيل عبر المروج الرطبة لتلتقي بأوهارا. عادت وقد اختفى بعض من شحوبها واستعادت تقريبا روحها المرحة، وارتفعت روحها المعنوية بفعل الهواء الطلق، والتواصل مع أوهارا، والشعور بمواصلة النضال مرة أخرى.
ولاحظت سابين، التي تتسم باليقظة دوما، الفارق وأرجعته إلى وجود أوهارا وحده، وفي هذا لم يجانبها الصواب كثيرا؛ فنظرا لاستقراره هنا في دورهام، أثر وجوده على أوليفيا تأثيرا بالغا باعتباره شخصا لم يكن له ماض وإنما مستقبل. فمعه كانت تستطيع أن تتحدث عن أشياء مستقبلية؛ عن خطته للمزرعة التي اشتراها، وعن مستقبل سيبيل، وعن مساره المهني الرائع المتسم بالتهور. •••
كان أوهارا نفسه قد وصل إلى حالة ذهنية خطيرة. كان واحدا من أولئك الرجال الذين يسعون وراء الشهرة والنجاح ليس من أجل المكافآت المادية في حد ذاتها وإنما بقدر أكبر من أجل الشعور بالرضا النابع من خوض النضال، والمتعة الشديدة للفوز رغم جميع الاحتمالات التي ضده. كان قد حقق نجاحات بالفعل. إذ كان لديه منزله الخاص وخيوله وسيارته وملابسه الأنيقة، وكان يدرك قيمة هذه الأشياء، ليس فقط في عالم دورهام؛ وإنما في عالم الأحياء الفقيرة وعلى أرصفة موانئ بوسطن. لم تكن لديه أي أوهام بخصوص الآليات المنقوصة للديمقراطية. وأدرك (ربما لأنه بدأ من القاع وشق طريقه حتى اقترب من القمة) أن الفقراء يتوقعون من السياسي أن يكون شخصا عظيما رائعا نوعا ما، وخاصة عندما يكون قد بدأ مشواره المهني كشخص عادي جدا وفقير ذي خلفية اجتماعية متواضعة. لم يكن أوهارا يتصرف بحماقة أو تهور. فعندما كان يزور الأحياء الفقيرة أو يحضر الاجتماعات السياسية، كان يتصرف باعتباره رجلا عاديا شاملا، أخا للجميع. وعندما كان يخطب في جموع عريضة أو يترأس اجتماعا ما، كان يصل بسيارة لامعة ويظهر بملابس أنيقة تليق بممثل عن الحكومة أو السلطة؛ ولذا كان يرجع الفضل إلى أولئك الرجال الذين لعبوا معه في صباهم على رصيف ميناء إنديا وارف وأشبعوا الرغبة العارمة داخله في شيء أروع من آليات الديمقراطية المثالية.
لقد استوعب قواعد اللعبة على أكمل وجه ولم يرتكب أي أخطاء؛ لأنه كان قد حظي بأفضل تدريب ممكن؛ ألا وهو التعرف على جميع أنواع البشر في مختلف الظروف. كان هو في حد ذاته يجسدهم جميعا، إذا ما تغاضينا عن البساطة والنزاهة واللطف التامين؛ نظرا لأنه لم يكن حقا رجلا بسيطا ولا نزيها تماما، وكان لا يعرف الرحمة لدرجة تتنافى مع أن يكون لطيفا. وفهم الناس (كما خمنت سابين)، بما لديهم من قليل من كبر وزهو وفشل وطموح.
كانت العمة كاسي وآنسون، من منطلق تفكيرهما المتزمت والمحدود، مجحفين في اعتقادهما بأن عالمهما كان هدف طموحات أوهارا. كانا، بطريقة أولئك الأشخاص الذين يعتمدون على بيئتهم لتسويغ وجودهم، يضعان قيمة لعالمهما لا تتناسب مطلقا مع مكانة رجل مثل أوهارا؛ إذ إنهما يفكران. فبالنسبة إليهما كان عالمهما هو كل شيء، أقصى ما يطمح إليه المرء على وجه الأرض، ولذلك كانا يفترضان أن الأمر حتما كان يبدو هكذا لأوهارا. وكان من المستحيل في نظرهما أن يؤمنا بأنه كان يعتبر هذا مجرد جزء صغير من مخططه الأكبر للحياة وأنه فرض حصارا حول هذا العالم من أجل المتعة التي يجدها في خوض المعركة؛ لأن أوهارا في حقيقة الأمر لم يكن يعرف ما الذي سيفعله بثمار انتصاره في هذه المعركة، بمجرد الفوز بها.
وبالفعل كان قد بدأ يدرك ذلك بنفسه. كان قد بدأ يدرك أن الفوز كان سهلا جدا لدرجة أن المعركة نفسها فقدت متعتها عنده. كانت لحظات الشعور بالرضا عن الذات، كتلك التي غمرته أثناء جلوسه مع سابين، تزداد ندرة أكثر فأكثر ... اللحظات التي من شأنه أن يتوقف فيها ويقول لنفسه: «ها أنا، مايكل أوهارا، النكرة ... ابن العامل البسيط وربة المنزل، أستقر وسط عالم مثل دورهام، وأتحدث إلى امرأة مثل السيدة ريتشارد كاليندار.»
كلا، كانت المتعة قد بدأت تفقد، وينحسر وجودها في الصراع. وبدأ يتسلل إليه الملل، ومع تزايد شعوره بالملل، صار يشعر أيضا بالقلق والتعاسة.
ومع أنه نشأ في ظل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، لم يكن متدينا متشددا ولا مؤمنا بالخرافات. كانت تساوره الشكوك بما يكفي لئلا يؤمن بجميع المعتقدات التي كانت الكنيسة تسعى لفرضها عليه، إلا أن هذه الشكوك لم تبلغ مبلغا عظيما لدرجة تجعله يجد راحة البال إرادة متذرعة بالإيمان. فعلى مدار فترة طويلة جدا كان معتمدا على ذاته تماما لدرجة أنه لم تخطر على باله فكرة التوكل على الرب أو الكنيسة حتى في أحلك اللحظات التي تسودها الوحدة والاضطراب. وظل من الناحية الظاهرية معتنقا لمعتقد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية؛ لأنه بإنكاره للعقيدة، كان سيجلب لنفسه عداوة الكنيسة وعدة آلاف من الأيرلنديين والإيطاليين المتدينين. وهي بكل بساطة مشكلة لم تكن تشغله كثيرا بشكل أو بآخر.
هكذا كان قد وصل، بعدما فقد في الوقت الحالي أي شغف قوي يرشده، إلى حالة من ركود الارتباك والملل. حتى زملاؤه الساسة في بوسطن لاحظوا التغيير عليه واشتكوا من عدم إبدائه اهتماما كبيرا بالحملة التي تستهدف أن يكون نائبا بالكونجرس. كان يتصرف أحيانا كما لو أنه لم يكن يشكل له فارقا على الإطلاق سواء انتخب في الكونجرس أم لا ... وهو، مايكل أوهارا، الذي كان يمثل قيمة كبيرة لحزبه، الرجل الجذاب جدا والداهية، الذي بوسعه أن يفوز تقريبا بأي شيء يختاره.
وعلى الرغم من أنه حرص على ألا يتكهن أحد بحاله، فإن هذه الحالة النفسية الغريبة أزعجته كثيرا وعلى نحو أعمق من أي من أصدقائه. اجتاحه يقين بأن شيئا ما ينقصه في حياته، شيئا أقرب إلى المقومات الأساسية. وبعدما انتابته حالة من الخمول والملل، بدأ يفكر في نفسه لأول مرة. كانت فورة مرحلة الشباب بوهجها البهي، التي يبدو فيها كل شيء جزءا من لعبة رائعة، قد انتهت وزالت، وشعر بنفسه ينزلق إلى أعتاب الكهولة. ونظرا لكونه رجلا مفعما بالطاقة والشغف، وحب الحياة، شعر بالتغيير على نحو أشعره بحزن شديد. كان لديه نوع من الهلع من فكرة تباطؤ إيقاع الحياة؛ خوف ملأه أحيانا بشعور مرض جدا بكآبة تليق برجل أيرلندي.
في تلك اللحظات، كان يفكر بنزاهة شديدة في كل ما يمتلكه، ووجد بمرارة أن النتيجة التراكمية لم تكن مرضية. كان لديه سجل جيد بما يكفي. كان قطعا أكثر نزاهة من أغلب الرجال المنخرطين في مجال قذر كمجال السياسة؛ وبالطبع أكثر نزاهة بكثير وأكثر تحررا من الأحقاد والضغائن من كثير ممن خرجوا من عالم دورهام المقدس جدا هذا. كان قد جنى ما يكفي من المال خلال مسيرته المهنية، وكان يفوز بمعركته في دورهام. غير أنه في سن الخامسة والثلاثين، كان إيقاع الحياة قد بدأ يتباطأ، ويفقد بعضا من تلك المتعة التي جعلته فيما مضى يستيقظ كل صباح متمتعا بالصحة والنشاط، وذهنه متقد بخطط مدهشة.
ثم، وسط هذه الحالة الذهنية المضطربة، اكتشف ذات صباح أن الشعور القديم بالابتهاج قد عاوده مرة أخرى، ولم يكن ذلك راجعا إلى أن ذهنه كان عامرا بخطط مذهلة. استيقظ ولديه اهتمام بالحياة؛ لأنه أدرك أنه بعد قليل سيلتقي بأوليفيا بينتلاند. استيقظ، متحمسا لركوب حصانه والانطلاق عبر المروج، لينتظر إلى جوار مقلع الحجارة المهجور إلى أن رآها قادمة عبر الحقول المغطاة بقطرات الندى، وبدت له متألقة كتألق الصباح ذاته. وفي الأيام التي كانت لا تأتي فيها، بدا له أن وجوده بأكمله قد فقد معناه فجأة.
لم يكن الأمر بالنسبة إليه أنه رجل يواجه فكرة وجود المرأة لأول مرة في حياته. كانت ثمة نساء في حياته دوما، بداية من الفتاة الإيطالية الأولى المتسخة بالوحل التي التقى بها في صباه وسط أكوام الخشب المكدسة على أرصفة الميناء. كانت ثمة نساء دوما في حياته لأنه من المستحيل على رجل نشيط جدا ومفعم بالحيوية، وقاس جدا وساخر للغاية، أن يكون قد عاش خمسة وثلاثين عاما بلا نساء، ولأنه كان رجلا جذابا، مفعما بالسحر والدهاء، حينما كان يختار أن يكون كذلك، وكان يصعب على النساء مقاومته. كان يوجد عدد كبير من النساء، اللواتي يبقيهن دوما في الخلفية، ويعاملهن باعتبارهن ضرورة ملحة ويمنعهن ببراعة من التدخل في الجانب الأهم من حياته ألا وهو صنع مساره المهني.
ولكن فيما يخص أوليفيا بينتلاند، كان شيء جديد ومربك يحدث له ... شيء كان، في خضم تلهفه لعيش الحياة وخوض التجارب كلها، يزخر بافتتان حسي طاغ. لم تكن مجرد امرأة أخرى في طابور طويل للغاية. اكتشف أن أوليفيا بينتلاند امرأة مختلفة عن الأخريات ... امرأة تتحلى بالنضج والاتزان والجمال والسحر والذكاء، وبالإضافة إلى كل هذه الأمور كان يرى أنها تتحلى بقدر من النضارة العذبة والمتقلبة، نفس النضارة التي كانت لدى ابنتها الشابة، ولكن شابها فحسب قليل من الحزن.
في البداية، عندما تحدثا معا أثناء تنسيقها لحديقة منزل «بروك كوتيدج»، وجد نفسه يراقبها، مستغرقا في حالة من العجب، لدرجة أنه كاد ألا يستوعب ما كانت تقوله. وفي نفس الوقت ظل يردد في نفسه: «يا لها من امرأة رائعة ... أروع امرأة رأيتها أو سأراها في حياتي ... امرأة بإمكانها أن تجعل الحياة مختلفة بالنسبة إلي، امرأة من شأنها أن تصنع من الحب شيئا يقول الناس أنه موجود.»
لقد حركت مشاعره بطريقة جعلته ينحي جانبا كل ما كان لديه من غلظة مبتذلة وسخرية من المرجح أن يتعامل بهما رجل مثله يتمتع بهذا القدر من التجارب مع فكرة المرأة برمتها. حتى ذلك الحين، كان النساء يبدون له أنهن خلقن ليمتعن الرجال أو لينجبن لهم الأبناء، والآن كان يرى أنه كان ثمة شيء، في نهاية الأمر، في هذا الرأي الذي كان الناس يحصرون فيه العلاقات الغرامية. وظل طويلا يبحث عن كلمة تصف أوليفيا وفي النهاية عاد إلى الكلمة العتيقة البالية التي كانت دوما تستحضرها في الذهن. كانت «سيدة راقية» - وبهذه الطريقة كان لها تأثير طاغ على مخيلته.
كان يقول لنفسه إنه أمام امرأة يمكنها أن تفهمه، ليس بطريقة متحفظة وتحليلية لامرأة ذكية مثل سابين كاليندار، وإنما بطريقة أخرى تماما . كانت امرأة بإمكانه أن يقول لها: «أنا كذا وكذا. وحياتي تسير على هذا النهج. ودوافعي هي كذا»، ومن شأنها أن تفهمه، وتتقبله كما هو بمساوئه ومحاسنه. من شأنها أن تكون الشخص الوحيد في هذه الدنيا الذي يمكن أن يفضي إليه بعبء أسراره كله، المرأة الوحيدة التي يمكنها أن تقضي على الشعور المجهد بالوحدة الذي يسيطر عليه أحيانا. جعلته يشعر بأنها، رغم كل ألمعيته ومخططاته العنيدة، كانت هي أكثر حكمة بكثير مما كان عليه في أي وقت مضى، وبأنه نوعا ما كان فتى صغيرا ربما يأتي إليها ليدفن رأسه في حجرها ويجعلها تمسد شعره الأسود الكثيف. فمن شأنها أن تفهم أن ثمة أوقات يرغب فيها الرجل أن يعامل على هذا النحو. وبطريقتها الهادئة، كانت امرأة قوية، إيثارية، لا تعتمد على الإطراء والاهتمام الدائم، وكانت نوعا من النساء له قيمة كبيرة عند رجل عازم على تحقيق مستقبله المهني. ملأه التفكير فيها بشعور مرير بالحزن، ولكن في لحظاته الأقل رومانسية، رأى، أيضا، أنها كانت تتمتع بالقدرة على إخراجه من حالة الملل المتزايد التي كانت تخيم عليه. ستكون ذات قيمة عظيمة له.
وهكذا، لم يجانب الصواب سابين كثيرا عندما فكرت فيه باعتباره الصبي الصغير الجالس على حافة الرصيف الذي كان قد تطلع إليها بجدية وقال: «ألعب». كان أحيانا يشبه كثيرا هذه الصورة.
ولكن في النهاية، كان دوما يستفيق فجأة على الحقيقة القاسية المتمثلة في أنها متزوجة بالفعل من رجل لم يكن يرغب فيها لنفسه ومع ذلك لن يطلق سراحها أبدا، رجل قد يضحي بكل شيء في الدنيا ليقي عائلته شر فضيحة. وفيما وراء هذه الصعوبات القاسية والملموسة، أدرك أيضا الشبكة الخبيثة المتهاوية بأكملها، التي كانت خفية ومع ذلك قوية، التي كانت قد وقعت في أسرها.
إلا أن هذه العوائق لم تترك في الذهن إلا انبهارا معقدا جدا، وغير منطقي للغاية، لدرجة أن في عزلته الذهنية وفي مرارة الصراع الطويل الذي أدركه، صار يزدري العالم كله ولا يرى سببا يمنع إقدامه على أخذ ما يريد من عالم دورهام هذا. قدمت له عوائق كهذه أساسا لمعركة جديدة، محل اهتمام جديد في ظل الاضطراب الذي كان يسود حياته؛ ولكن هذه المرة كان ثمة اختلاف ... وهو أنه كان يبتغي الجائزة في حد ذاتها أكثر من الصراع. كان يريد أوليفيا بينتلاند، والأمر الغريب جدا أنه لم يكن يريدها لدقيقة أو حتى لشهر أو عام، وإنما للأبد.
انتظر لأنه عرف، بدهاء خبرته الطويلة، أن الإلحاح لن يؤدي إلا إلى نفور امرأة مثلها ويتسبب في أن يخسرها تماما، ولأنه لم يعرف خطة عمل يمكن أن تتغلب على العوائق التي تفرق بينهما. انتظر، مثلما فعل مرات كثيرة في حياته المهنية، أن تزول الظروف من تلقاء نفسها. وبينما كان ينتظر، كان في كل مرة يلتقي فيها بها تزداد رغبته فيها أكثر فأكثر، ويضعف شعوره المنيع بالحذر أكثر فأكثر.
4
في تلك الأيام الطوال التي قضتها أوليفيا في غرفتها، أدركت شيئا فشيئا وجود الوافد الجديد بمنزل «بروك كوتيدج». كان ذلك قد بدأ ليلة وفاة جاك بصوت موسيقاه تنساب عبر الأهوار، وبعد انتهاء مراسم الجنازة تحدثت سابين عنه مع أوليفيا بحماس غير معهود منها على الإطلاق. وكانت قد لمحته مرة أو مرتين يعبر المروج متجها صوب مداخن أوهارا اللامعة أو ماضيا في الطريق الذي يقود إلى البحر عبر الأهوار - كان شابا طويل القامة أصهب الشعر، في مشيته عرج طفيف. واكتشفت أن سيبيل كانت تلوذ بالصمت بخصوصه على نحو غريب، ولكن حين كانت تسأل الفتاة عن خططها لقضاء اليوم كانت، عادة، تجد أن لتلك الخطط صلة به. وعندما كانت تتحدث عنه، كان يبدو الخجل على سيبيل وتقول: «إنه لطيف جدا، يا أمي. سآتي به إلى هنا عندما تكون لديك رغبة في مقابلة الناس ... كنت أعرفه في باريس.»
وبحكمة، لم تلح أوليفيا عليها بالأسئلة. وعلاوة على ذلك، كانت سابين قد أخبرتها بكل ما يمكن معرفته تقريبا ... ربما بأكثر مما كانت سيبيل نفسها تعرف.
قالت سابين: «إنه ينتمي قطعا إلى عائلة هامة ... عنيد ومتهور ومفعم بالحيوية. ربما تكون والدته هي أروعهم جميعا. إنها امرأة ساحرة عاشت جل حياتها في ترف بباريس ... وليس في واحدة من المستعمرات الأمريكية. وهي لا تقلد أحدا وعاجزة عن التظاهر بأي شكل من الأشكال. لقد عاشت هناك، بمفردها إلى حد ما، على المال ... الكثير من المال ... الذي يأتي فيما يبدو من مصانع الصلب في بلدة قذرة بالغرب الأوسط. إنها واحدة من أعز صديقاتي ... امرأة تفتقر إلى الذكاء، لكنها جميلة للغاية ورزقت جاذبية مدمرة. إنها واحدة من النساء اللاتي خلقن من أجل الرجال ... فهم يجدونها لا تقاوم، وأظن أنه كان يوجد رجال في حياتها دوما. لقد خلقت من أجل الرجال، ولكن ذوقها مثالي، لذا أخلاقها لا تهم.»
بدا أن المرأة ... بل وعائلة جان دي سيون كلها ... تثير إعجاب سابين أثناء جلوسها لتناول الشاي مع أوليفيا؛ لأنها واصلت الحديث عنهم، أكثر بكثير من المعتاد، فوصفت منزل والدة جان، وأصدقاءها، والأشخاص الذين كان المرء يلتقي بهم على العشاء عندها، وكل شيء يمكنها أن تخبرها به. «إنها من نوعية النساء الموجودات منذ الأزل. ثمة بعض الغموض الذي يحيط بالمرحلة الأولى من حياتها. الأمر له علاقة بوالد جان. لا أظن أنها كانت سعيدة معه. لا يأتي ذكره مطلقا. بالطبع، تزوجت مرة أخرى من رجل فرنسي ... أكبر سنا منها بكثير ... رجل بارز جدا، عمل في ثلاثة مجالس وزراء. ومنه حصل الصبي على اسمه الفرنسي. لقد تبناه الرجل المسن وعامله مثل ابنه. دي سيون هو اسم ذو سمعة طيبة في فرنسا، واحد من أفضل الأسماء؛ ولكن بالطبع لا تجري في عروق جان أي دماء فرنسية. فهو أمريكي خالص، ولكنه لم يكن قد رأى بلاده مطلقا حتى الآن.»
أنهت سابين تناول الشاي وبينما كانت تضع فنجانها على الطاولة الكلاسيكية من طراز ريجنسي (التي ورثتها أوليفيا عن أمها وشقت طريقها بأناقة إلى داخل منزل يزخر بالأثاث الأمريكي البدائي ذي الطابع الجامد) أضافت قائلة: «إنها عائلة بارزة ... جامحة ومضطربة. كان لجان خالة توفيت في دير الرهبنة الكرملية ببلدة ليزيو الفرنسية، وابنة خالته تدعى ليلي بار ... موسيقية رائعة حقا.» تطلعت من النافذة وبعد دقيقة قالت بصوت خفيض: «ليلي بار هي السيدة التي تزوجها زوجي ... ولكنها تطلقت منه، هي الأخرى، والآن نحن صديقتان ... أنا وهي.» ترددت ضحكتها الرنانة الجامدة المألوفة، وأردفت قائلة: «يخيل إلي أن تجربتنا معه جعلتنا متعاطفتين ... حسنا، أنا أعرف العائلة جيدا. إنها سلالة تخرج للحياة أشخاصا نوابغ ... يعيشون في اللحظة الحالية.»
لم تقل إن جان وأمه وابنة خالته المضطربة يثيرون إعجابها لأنهم بطريقة ما يمثلون الحرية التي جاهدت لنيلها خلال السنوات التي هربت فيها من دورهام. كانوا ينعمون نوعا ما بالتحرر من الدول، ومن المدن، ومن القوانين، ومن الأحكام المسبقة، بل بشكل أو آخر من القوميات. وكانت قد أملت يوما أن يولي جان اهتماما بابنتها تيريز العنيدة والمستقلة والذكية، ولكن من منطلق خبرتها بالحياة كانت قد فقدت ذلك الأمل منذ وقت طويل، لعلمها بأن صبيا جامحا ورومانسيا، متأثرا جدا بنشأته وسط الفرنسيين، شابا متمتعا برجولة تامة، كان من المؤكد أنه سيسعى وراء فتاة أرق وألطف وأكثر أنوثة من تيريز. عرفت أنه لا مفر من وقوعه في حب فتاة مثل سيبيل، وكانت تشعر نوعا ما بالسرور لأن هذا كان يتوافق على نحو رائع مع خططها المتأنية. كانت متأكدة من أن عائلة بينتلاند ستنظر إلى جان دي سيون باعتباره شخصا غجريا، عندما يعرف أفرادها الحقيقة الكاملة ...
أدهشتها التكهنات. ثبت لها أن فصل الصيف، حتى مع شبح موت جاك الذي يحوم حول المكان، لم يكن مروعا كما كانت تخشى؛ وهذا التطور الجديد أثار اهتمامها باعتباره شيئا لم تكن قد لاحظته من قبل أبدا ... قصة حب شاعرية بين شابين بدا لها كل منهما شخصا مثاليا وجذابا.
5
كان الأمر كله قد بدأ قبل عام تقريبا في يوم احتفال مدينة باريس بأكملها بالذكرى السنوية للهدنة، وفي صباح ذلك اليوم خرجت سيبيل مع تيريز وسابين ليضعن إكليلا من الزهور إلى جوار شعلة قوس النصر (لأن الحرب كانت واحدة من الأشياء التي اختارت سابين، بما لا يمكن تفسيره، أن تظهر المشاعر نحوها ). وبعد ذلك لعبت في الحديقة مع الكلاب التي لم تكن المدرسة في بلدة سان كلو لتسمح بالاحتفاظ بها، ثم عادت إلى المنزل لتجد امرأة جذابة وجميلة ربما في الخمسين من عمرها - مدام دي سيون، التي كانت قد جاءت لتناول الغداء مع ابنها، الشاب ذي الأربعة والعشرين عاما الطويل القامة والفارع والنحيل، ذي الشعر الأصهب والعينين الزرقاوين الداكنتين والصوت الرنان المبهج. واحتفالا بذلك اليوم، كان يرتدي زي الفرسان الأسود والفضي الخاص به، وبسبب إصابة قديمة كان في مشيته عرج طفيف. وعلى الفور تقريبا (تذكرت هذا حين كانت تفكر فيه) نظر إليها بإعجاب واضح وهو ما منحها شعورا بإثارة ممتعة كان جديدا تماما عليها.
كان قد استحوذ عليها شيء ما عندما رأت الزي الرسمي، أو ربما تأثرت بالمشاعر السائدة في الأجواء، أو بصوت الموسيقى العسكرية، أو بأصداء أنغام النشيد الوطني الفرنسي وقصيدة «سامبغ إيه ميوز» الغنائية، أو مشهد الجنود في الشارع وقوس النصر بشعلته المتقدة هناك ... شيء في الأجواء الباريسية، شيء أحبته بشغف. كان شيء قد أخذ يحتشد في تلك اللحظة، واستقر على الشاب الغريب الذي أخذ يرمقها بعينين تفيضان بالإعجاب.
أدركت على نحو مبهم أنها وقعت حتما في الحب في اللحظة التي وقفت فيها في صالون سابين كاليندار تنحني لليلي دي سيون. وكانت شدة التجربة قد ازدادت عندما اصطحبته، بعد الغداء، إلى الحديقة لتريه كلابها ورأته يمسد أذني كلب الدوبرمان «إمب» ويتحدث برفق إلى الكلب بطريقة تجعلها تعرف أنه كانت لديه نفس المشاعر التي لديها تجاه الحيوانات. كان لطيفا جدا في أسلوبه، ورقيق الحاشية جدا حتى مع ضخامته، ويسهل تبادل الحديث معه، كما لو كانا صديقين دوما.
ثم على نحو شبه مفاجئ سافر إلى الأرجنتين، دون حتى أن يلتقي بها ثانية، في رحلة لتعلم الأعمال الخاصة بتربية الماشية، لأنه كانت تراوده فكرة أنه ربما ينتهي به المطاف ذات يوم إلى أن يكون صاحب مزرعة. إلا أنه ترك وراءه صورة حية ازدادت بمرور الوقت شدتها في أعماق طبيعتها الرومانسية التي تمردت على فكرة اختيار تيريز أبا مناسبا لأطفالها من الناحية العلمية. كانت صورة صارت، على نحو غير واع تقريبا، تقيم على أساسها الرجال الآخرين، حتى في تفاصيل صغيرة مثل وضعية أكتافهم والطريقة التي يستخدمون بها أيديهم ونغمة أصواتهم. كانت هذه الصورة هي ما قصدته فعلا حين قالت لأمها: «أعرف أي نوع من الرجال أريد الزواج منه. أعرف بالضبط.» كانت تقصد، بقدر كبير دون أن تدرك، أنه لا بد أن يكون رجلا مثل جان دي سيون ... رجلا جذابا ورومانسيا وجامحا قليلا.
لم تكن قد نسيته، رغم أنه أتت عليها لحظات في المدرسة ببلدة سان كلود كانت قد اعتقدت فيها أنها لن تراه مرة أخرى مطلقا - لحظات غمرها فيها إحساس ممتع بكآبة يائسة اعتقدت خلاله أن حياتها كلها قد فسدت، وهو ما قادها إلى كتابة تدوينات طويلة ورومانسية في المذكرات التي كانت تخفيها تحت مرتبتها. وهكذا مع شعورها المتزايد باليأس، صارت ألوان الهالة الرومانسية المحيطة به أكثر عمقا وتنوعا وحدة. وازدادت شحوبا لدرجة أن الآنسة فيرنويل عمدت إلى مداواتها بالعقاقير، واتهمتها تيريز فجأة بالوقوع في شباك الحب، وهو أمر أنكرته على نحو مبهم وبإيحاءات يشوبها غموض رومانسي.
ثم بمجرد العودة إلى منزل عائلة بينتلاند (وهي عودة نصحتها بها والدتها بسبب الوضع الصحي لجاك)، أعتمت الصورة قليلا إيمانا منها بأنه لم تكن أمامها فرصة لمقابلته ثانية ولو في أكثر شطحات الخيال جموحا. صار الأمر أشبه برغبة حبيسة ميئوس منها؛ وأعدت نفسها لنسيانه، وكذلك، من منطلق حكمة عقلها الغض، الاعتياد على فكرة الزواج من أحد الشباب المملين الذين كانوا أكثر ملائمة لها والذين كانت عائلتها قد عرفتهم دوما. وكانت قد أخذت تراقب معجبيها بحرص، وتقيمهم دوما بالمقارنة بصورة الشاب الأصهب، الذي يرتدي زي الفرسان الأسود والفضي، ومقارنة بتلك الصورة بدوا في نظرها - حتى فتى عائلة مانرينج الأشقر الوسيم - صبية صغارا، أشقياء نوعا ما ولا يضاهونها في السن والحكمة. كانت قد روضت نفسها سرا وبجدية على فكرة القبول بزيجة من الزيجات المناسبة في عالمها - زيجة تتحدد وفقا للممتلكات وحقيقة أن خطيبها من شأنه أن يكون «شخصا من النوعية المناسبة».
وهكذا، اتخذت المسألة برمتها طابع قصة حب مأساوية، يجب أن تحاط بالسرية. ربما عندما تصير عجوزا، ستحكي القصة لأحفادها. اعتقدت أنه مهما كان الشخص الذي ستتزوجه، ستظل تفكر دوما في جان دي سيون. كان هذا واحدا من أوهام الشباب المضحكة التي ليس فيها مثقال ذرة من الحقيقة الكئيبة.
ثم فجأة وصلت أخبار زيارته إلى منزل «بروك كوتيدج». ظلت محتفظة بسرها، ولكنها لم تحتفظ به جيدا بالقدر الكافي الذي لا يدع الشك يتسرب إلى والدتها وسابين. كانت تعبيراتها قد خانتها في الليلة الأولى لوفاة جاك حين قالت، ببريق مفاجئ في عينيها: «إنه جان دي سيون ... لقد نسيت أنه سيصل الليلة.» وكانت أوليفيا قد لاحظت البريق لأنه صار مستمرا ومتواصلا. •••
وفي منزل «بروك كوتيدج»، كان دي سيون الشاب، الذي كان مستاء جراء التأجيل الذي تسببت فيه الجنازة وضرورة احترام الحداد المعلن بمنزل عائلة بينتلاند، متجهما وتصرف بطريقة كان من شأنها أن تتسبب في إزعاج أي شخص باستثناء سابين، التي وجدت المشهد ممتعا. وإذ كان معتادا على الاندفاع بتهور نحو أي شيء يرغبه (مثلما اندفع نحو الالتحاق بالجيش الفرنسي في السابعة عشرة من عمره والسفر إلى الأرجنتين قبل تسعة أشهر مضت)، تعكر مزاجه وأمضى أيامه في الهواء الطلق، مجدفا في النهر أو سابحا في عزلة الشاطئ الأبيض العظيم. وتشاجر مع تيريز، التي كان يعرفها منذ كانت فتاة صغيرة، وحاول أن يكون متحضرا قدر الإمكان مع سابين المستمتعة بما كان يحدث.
أدركت منذ ذلك الحين أنه لم يأت إلى دورهام من منطلق أي اهتمام بها أو بتيريز. وأدركت منذ ذلك الحين إلى أي مدى كانت تتحلى بالحكمة (لأغراض تخدم خطتها) حين أدرجت في دعوتها إليه السطر الذي كتبت تقول فيه ... «سيبيل بينتلاند تعيش في المزرعة المجاورة لنا. لعلك تتذكرها. لقد تناولت معنا الغداء في احتفال يوم الهدنة العام الماضي.»
عرفت أنه بالأحرى يتخيل نفسه رجلا محنكا عركته الحياة وأنه بارع جدا في الحفاظ على أسراره. سألها عن سيبيل بينتلاند بطريقة عرضية بدت مصطنعة على نحو واضح، واستشارها بخصوص الفترة التي من اللازم انتظارها من باب اللياقة قبل أن يقاطع الحداد في منزل عائلة بينتلاند ويزورهم، وهل أبدت الآنسة بينتلاند أي إعجاب تجاه الشباب في دورهام؟ ولو لم يكن جذابا وعجولا، لكان الملل قد تغلب على سابين.
كان الشاب يخشى شيئا واحدا فقط ... وهو أنها ربما تكون قد تغيرت بشكل أو بآخر، أو ربما لا تكون في الحقيقة جذابة بقدر ما بدت له طوال أشهر غيابه الطويلة. لم يكن بلا تجارب (في الواقع، اعتقدت سابين أنه سافر إلى الأرجنتين هربا من إشكال ما في باريس) وكان يدرك أن مثل هذه الخيبات المأساوية يمكن أن تحدث. وربما حين يعرفها على نحو أفضل سيتلاشى افتتانه بها. ربما لا تتذكره هي مطلقا. ولكنها بدت له، بعد شهور من الاستغراق في التفكير الرومانسي الطويل، المرأة الأكثر جاذبية بين جميع النساء اللاتي وقعت عيناه عليهن. •••
كان عالما جديدا اكتشف فيه نفسه، وكان بطريقة ما عالما أحدث وأكثر اختلافا عن السهول الشاسعة المغطاة بالحشائش التي كان قد أتى منها لتوه. وأدرك أن من عادة الناس في دورهام أن يقولوا إن بوسطن ودورهام تشبهان إنجلترا، ولكنه اعتبر في صمت أن هذا نوع من الكبر والغطرسة؛ لأن بوسطن ودورهام لا تشبهان إنجلترا مطلقا، حسبما رأى؛ ففي بعض المواضع بدت بوسطن ودورهام عتيقتين، ولكن لم يكن بهما نفس القدر من الثراء، ولا نفس الرونق. كان ينبغي أن تتحليا بالرومانسية ولكنهما لم تكونا كذلك؛ وإنما بدتا له أشبه بالصور الإيضاحية في أحد كتب التاريخ المدرسية. كانتا جافتين ... فكر في أن استخدام الكلمة الفرنسية (
sec ) التي تعني «جاف» أفضل في هذه الحالة بسبب وقعها الصوتي.
لم يكن التشابه مع إنجلترا هو ما وجده مثيرا للاهتمام، وإنما بالأحرى الاختلاف معها ... طبيعة الريف الجرداء الباعثة على الكآبة وكان منظر مستعمرات كاملة من شعوب غريبة وغير مألوفة، مثل التشيكيين والبولنديين، يضفي خلفية غريبة على الصورة بأكملها.
كان قد انخرط في مهمة التعرف على بلاده بطريقة دقيقة ومفعمة بالحيوية، ومشبعة بالإحساس بالألوان والأصوات وكل عناصر المنظر المذهل للحياة، وكان واعيا تماما لذلك.
إذ قال لسابين: «تعرفين أن المضحك هو أن هذا يبدو لي أشبه بالعودة إلى الوطن. وهو ما يجعلني أشعر بأنني أنتمي إلى أمريكا ... ليس إلى دورهام، وإنما إلى نيويورك أو إحدى تلك المدن الصاخبة التي مررت بها.»
تحدث، بقدر كاف من التلقائية، ليس مثل الأمريكيين على الإطلاق وإنما بطريقة الإنجليز المقتضبة، مبتلعا كلماته إلى حد ما، ومن وقت لآخر كانت تظهر لكنة فرنسية خفيفة. كان صوته أكثر عمقا وثراء من أصوات أهل منطقة نيو إنجلاند، بطريقة نطقهم لشارع تشارلز «شارع تشالز» وهارفرد المقدسة «هافااد».
كان مشهد نيويورك المذهل هو ما أثار إعجابه أكثر من أي شيء آخر؛ لأنها تجاوزت كل ما حلم به عنها وكل الأوصاف التي ذكرها له الناس بخصوص قوتها الهائلة وفخامتها الجامحة والتنوع الرهيب للغات والأشخاص فيها. أخبرته سابين، وهي تعي أن ما تقوله فيه خيانة مطلقة، أن نيويورك تمثل أمريكا، أكثر بكثير من نوعية الحياة التي سيصادفها في دورهام.
وبينما كان يتحدث مع سابين عن نيويورك، كانت نبرة صوته ترتفع بالإثارة والحماس مثلما يحدث للأشخاص المفعمين جدا بالحيوية. وأسر إليها بأنه كان قد هجر أوروبا ولن يعود للعيش فيها أبدا.
قال: «إنها بلاد عتيقة، وإذا نشأ فيها المرء، مثلما نشأت، فلن يكون لديه أي مبرر للعودة والعيش فيها. إنها بطريقة ما عالم خامل ... خامل بالتأكيد مقارنة بالأمريكتين. والمستقبل هو ما يثير اهتمامي ... لا الماضي. أريد أن أكون حيثما تدور معظم الأحداث ... في قلب الأحداث.»
عندما لم يكن يعزف البيانو بجموح، أو يتحدث مع سابين، أو يجادل تيريز بخصوص ضفادع وحشرات المعمل التي جمعتها في الشرفة الزجاجية، كان يتجول في الحديقة في حالة من الإثارة المكبوتة، وهو يتفكر في ذهنه اليافع في مشكلته والخطط التي يعتزم اتباعها ليتأقلم في هذا البلد المفعم بالنشاط. كان اكتشاف هذا البلد الآن، وهو في الخامسة والعشرين من عمره ، تجربة مثيرة. بدأ يفهم أولئك الشباب الأمريكيين الذين كان يقابلهم أحيانا في أوروبا (مثل ابن خالته فيرجوس توليفر، الذي لقي حتفه في الحرب)، الذين كانوا يبدون مفعمين جدا بالحيوية وبإحساس متهور بالمغامرة ... شباب لا يقاومون في عالم عتيق ومنهك؛ لأن الطبيعة نفسها كانت في صفهم.
ولكي يخفف من حدة نفاد صبره، لجأ إلى نشاط بدني عنيف، التجديف والسباحة والتجول بالسيارة مع سابين في أنحاء ريف دورهام. لم يكن بإمكانه السير لمسافات طويلة، بسبب المشكلة التي تسبب فيها جرحه القديم، إلا أنه سار كل المسافة إلى منزل أوهارا، حيث قابل الأيرلندي وصارا صديقين. وأعطاه أوهارا زورق كانوي ومجدافا وأخبره أنه وقتما يشعر بأن ساقه في حالة أفضل يمكنه أن يأخذ حصانا من إسطبلاته.
ذات صباح بينما كان يجدف بزورقه بحذاء الضفة الموحلة للنهر بعد ممارسة تمارينه المبكرة، سمع صوت وقع حوافر في الوحل السميك بالقرب منه، وما إن التفت حتى رأى سيبيل بينتلاند تمتطي فرسها أندروماك تخرج من الأجمة التي كانت تقريبا إلى جانبه.
كان صباحا رائعا - باردا مقارنة بطقس دورهام في منتصف شهر أغسطس - وعلى صفحة النهر الخامل نشرت زنابق الماء أزهارها البيضاء اللينة في مجموعات على شكل نجوم مفروشة على بساط من الأوراق الخضراء. كان صباحا مفعما بالمسرات، تسقط فيه أشعة الشمس المشرقة على شباك العنكبوت، التي تربط الكتل المتشابكة لكرمات العنب البري، فتكسوها بلون فضي؛ وغمر دي سيون الشاب، الواقف على حافة الدرب، مفعما بالصحة بفضل التمارين الرياضية الصباحية، وقد تشابك شعره الأصهب الكثيف تماما، بشعور مفاجئ بعافية وبقوة جسدية مهولتين. كان أمامه عالم كامل ينتظر من يغزوه؛ وإليه، من الأيكة المتشابكة أقبلت سيبيل بينتلاند، أكثر سحرا وجاذبية على الطبيعة مما كانت تبدو في خياله في الليالي الطويلة التي سهرها مستيقظا يفكر فيها على ضوء النجوم فوق السهوب.
ولثانية لم ينبس أي منهما ببنت شفة. أجفلت الفتاة وتوردت وجنتاها قليلا؛ ولكن متأثرة، أيضا، بإحساس صامت بالوقار، سحبت إليها فرسها؛ وتطلع إليها جان وقال بطريقة عفوية مصطنعة (نظرا لأن عروقه كانت تنتفض بالإثارة): «أوه! أهلا! أنت الآنسة بينتلاند.» «أجل.» ولكن فجأة بدا عليها الإحباط، كما لو أنها حقا صدقت أنه كاد ينساها.
ونظرا لأنه لم يكن يرتدي إلا سروالا وقميصا للتجديف، طأطأ رأسه ونظر إلى زيه، وقال مبتسما: «لم أرتد ملابس تليق باستقبال زوار.»
بطريقة ما ساعد هذا في كسر الإحساس بالتحفظ، وانخرطا في حوار، تبادلا فيه بضع تعليقات مبتذلة عن جمال الصباح، ونظر جان، واقفا بجوار أندروماك، يمسد أنفها بنفس الرقة التي أبداها تجاه كلاب سيبيل، إليها بعينيه الزرقاوين الصافيتين وقال: «كان ينبغي أن آتي لرؤيتك في وقت أبكر من ذلك، إلا أنني ظننت أنك ربما لا ترغبين في رؤيتي.»
كانت نبرة دافئة مرتعشة تشوب صوته.
أجابته: «ما كان هذا سيشكل أي فارق. والآن يجب أن تأتي كثيرا ... بقدر ما تشاء. كم مدة إقامتك في منزل «بروك كوتيدج»؟»
لثانية تردد. ثم أردف: «أسبوعين ... ربما. وربما أطول من ذلك.»
وبينما كانت تتطلع إليه، قالت في نفسها: «يجب أن أجعله يبقى. إن فقدته مجددا هذه المرة ... يجب أن أجعله يبقى. أنا معجبة به أكثر من أي شخص في العالم. لا يمكن أن أفقده هذه المرة.»
وبدأت تقول لنفسها إن القدر في صفها، وأن النصيب أعاده إلى يديها مرة أخرى. بدا وكأنه أمر مقدر، وأن الحياة معه ستكون علاقة ممتعة ومثيرة. بدأ العناد الهادئ، الذي ورثته عن أوليفيا، يظهر ويستحوذ عليها. كانت مصممة على ألا تفقده.
ابتعدا عن النهر، وهما لا يزالان يتحدثان بتحفظ نوعا ما، بينما كان جان يسير إلى جوار أندروماك، وهو يعرج قليلا. وأخذا يتلفظان بكلمة مبتذلة تلو الأخرى بينما يتلمس كل منهما طريقه نحو الآخر، وكل منهما مترفع ويخشى إظهار مشاعره، وكل منهما متردد ولكنه متحمس ونافد الصبر. كانت الإثارة الناتجة من تقاربهما هي ما أكسب الحوار قدرا من الأهمية. لم يعرف أي منهما حقا ما كانا يقولانه. من ناحية بدا كل منهما للآخر غريبا ومثيرا؛ ولكن من ناحية أخرى لم يكونا غريبين على الإطلاق لأنه كانت بينهما تلك المشاعر القديمة، التي أدركتها سيبيل في حديقة شارع دي تيلسيت، كما لو أن أحدهما يعرف الآخر منذ الأزل. لم يكن يوجد أي تردد أو شكوك أو شبهات.
كانت السماء مشرقة؛ ورائحة النهر الموحل والأعشاب النامية غامرة. وراودت كل منهما أحاسيس متأججة، ونوع من نشوة متزايدة، مما عزلهما عن بقية العالم. كان نوعا من السحر، ولكنه مختلف عن السحر الذي يحيط بمنزل عائلة بينتلاند الخامد.
6
في كل مرة كانت فيها أوليفيا تستيقظ عند الفجر لتركب الخيل مع سيبيل وتقابل أوهارا عند مقلع الحجارة العتيق، كانت الرحلة البسيطة تصير أروع في نظرها. كان ثمة شعور بحيوية الشباب ينبع من التعامل مع سيبيل والأيرلندي، شعور كادت تنساه، شعور بالقوة كانت تتوق إليه طويلا. وجدت أنها طريقة رائعة لبدء اليوم؛ تخرج في برودة الصباح، وتركب الخيل فوق الحشائش المبللة بقطرات الندى؛ فكان هذا يصنع تباينا منعشا مع بقية اليوم الذي كان يشغل الجزء الأكبر منه أشخاص كبار السن مثل حميها وآنسون (الذي كان حقا رجلا مسنا) والعجوز التي تسكن في الجناح الشمالي من المنزل والهجمات المهتاجة والمتواصلة للعمة كاسي. وبدأت أوليفيا، التي كانت تخفي في نفسها خيلاء مستترة، تلاحظ نفسها في المرآة ... فرأت أن عينيها صارتا أكثر بريقا وبشرتها أكثر صفاء. ورأت أنها حتى ربما كانت جميلة، وأن عادة ركوب الخيل جعلتها ذات طابع رومانسي.
وأدركت، أيضا، أثناء ركوب الخيل عبر الحقول بين سيبيل وأوهارا، أنه كان أحيانا يراقبها ببريق فضولي في عينيه الزرقاوين. لم يقل شيئا؛ ولم يفش بأي طريقة الشعور الذي كان وراء كل ذلك الإفصاح المفاجئ والهادئ للمشاعر في فناء منزل «بروك كوتيدج». بدأت تلاحظ (كما كانت سابين قد اكتشفت على الفور تقريبا) أنه رجل بارع وخطير جدا. لم يكن هذا بسبب التأثير الغريب، شبه المادي، الذي يتركه على في نفوس الناس وحسب - وهو تأثير أشبه بما لو كان وجوده يستحوذ عليك تماما - ولكن بسبب أنه كان يتمتع بالصبر ويعرف كيف يلتزم الصمت. فلو أنه اندفع، بطيش وتهور، لعجل كل شيء وفسد في الحال. وكان من شأن الأمر أن ينتهي بمشهد طرده، وربما كان من شأن أوليفيا أن تتحرر؛ ولكنه لم يلمس شعرة منها قط. كان الأمر بكل بساطة أنه موجود دوما، يؤكد لها بطريقة غامضة أن عواطفه لم تتغير، وأنه لا يزال راغبا فيها أكثر من أي شيء في هذه الدنيا. ولامرأة رومانسية بطبيعتها ولم تعش أي قصة حب في حياتها من قبل، كان هذا أسلوبا خطيرا.
ثم في صباح أحد الأيام، بينما كان أوهارا منتظرا بجوار مقلع الحجارة، رأى أن فارسة واحدة فقط آتية نحوه عبر الحقول من ناحية منزل عائلة بينتلاند. في البداية، خطر على ذهنه أن هذه حتما سيبيل آتية وحدها، بدون أمها، واستحوذ عليه بسرعة الشعور المعهود بالملل واليأس. ولم يدرك أنها أوليفيا نفسها إلا عندما اقتربت منه أكثر ورأى النجمة البيضاء على جبين حصانها. اعتبر أن قدومها بمفردها، وهي تدرك ما صرح لها به بالفعل، علامة بالغة الأهمية.
هذه المرة لم ينتظر أو يمضي على صهوة حصانه في تؤدة نحوها. وإنما انطلق على حصانه يعدو بفارغ الصبر كصبي عبر الحقول الرطبة ليستقبلها.
كان يبدو عليها الإشراق المعهود بها وأيضا الخجل الذي جعلها تبدو لأول وهلة فاترة قليلا ومنطوية. قالت له بنبرة هادئة: «لم تأت سيبيل هذا الصباح. خرجت في الصباح الباكر لصيد السمك مع جان دي سيون. بدأ سمك الماكريل يخرج للمياه المفتوحة بعيدا عن الأهوار.»
ساد صمت غريب يشوبه التوتر، ثم قال أوهارا: «إنه شاب لطيف ... دي سيون.» ثم بمجهود بطولي للتغلب على الخجل الذي استطاعت دوما أن تفرضه عليه، قال بصوت خفيض: «ولكنني سعيد بأنها لم تأت. أردت أن يكون الأمر هكذا منذ البداية.»
لم تقل بمكر إنه يجب ألا يتحدث بهذا الأسلوب. لقد كان جزءا من جاذبيتها أنها تتمتع بصدق وذكاء شديدين يمنعانها من أن توقفه بهذا النوع من الدلال. كان قد اكتفى من دلال النساء الرخيصات وسئمه منذ زمن طويل. بالإضافة إلى ذلك، لقد أرادت هي نفسها الأمر أن يكون «هكذا» وأدركت أنه من الحماقة أن تتظاهر بغير ذلك مع أوهارا؛ لأنه عاجلا أم آجلا سيكتشف الأمر دوما. لم يكونا طفلين، لم يكن أي منهما كذلك. كانا يعرفان ما يفعلانه، ويعرفان أنه خطير، بل ومتهور؛ لكن الشعور بالإثارة كان ما يجعل المغامرة لا تقاوم لكليهما على حد سواء.
لوقت قصير، ركبا حصانيهما في صمت، وأخذا يرقبان الحوافر الداكنة للحصانين وهي ترسل للأعلى زخات صغيرة من الندى المتلألئ من العشب والنفل اللذين يصل طولهما إلى الركبة، وبعد قليل بينما كانا يبتعدان عن الحقول ويمضيان في الدرب المؤدي إلى غابة أشجار البتولا، ضحك وهو يقول: «أدفع بنسا مقابل أن تطلعيني على أفكارك.»
أجابته مبتسمة: «لن أبيعها ولو بملايين.» «لا بد من أنها ثمينة جدا.» «ربما ... ثمينة لي، وليس لأحد سواي.» «لا أحد على الإطلاق ...» «كلا ... لا أظن أنها ستهم أي أحد. فهي ليست مبهجة للغاية.»
عند هذا، لاذ بالصمت مرة أخرى، باديا عليه التفكير العميق والإحباط.
لبعض الوقت أخذت تراقبه، وبعد قليل قالت: «يجب ألا تعبس في صباح كهذا.» «لست عابسا ... كنت فقط ... أفكر.»
ضحكت. ثم قالت: «أدفع بنسا مقابل أن تطلعني على أفكارك.»
لم يضحك. وإنما تحدث بحرارة مفاجئة: «هي أيضا تستحق الملايين ... بل أكثر من ذلك ... لكني سأشاركها معك. ما كنت لأشاركها مع أحد غيرك.»
وإثر سماعها لنغمة صوته، غمرت أوليفيا موجة سخيفة من السعادة. وقالت في نفسها: «أشعر بأنني شابة وأتصرف بسخافة وأستمتع بوقتي.»
ثم قالت جهرا: «ليس معي بنس، ولكن هل تثق بي حتى آتيك به غدا؟»
عندئذ التفت إليها فجأة، وقد زال الخجل وحلت مكانه عاطفة أقرب إلى الانزعاج والغضب. ثم سألها: «ولماذا تدفعي مقابلا لها؟ أنت تعرفين جيدا ماهيتها. لم تنسي ما قلته لك في الفناء بمنزل «بروك كوتيدج» ... يزداد صدقه يوما بعد يوم ... كل ما قلته.» وعندما لاحظ عليها الجدية المفاجئة، أردف قائلا: «وماذا عنك؟» «تعرف مدى استحالة الأمر.» «لا شيء مستحيل ... لا شيء. بالإضافة إلى ذلك، أنا لا أقصد الصعوبات. فتلك ستأتي في وقت لاحق ... لا أقصد سوى المشاعر.» «ألا ترى أنني معجبة بك؟ ... يجب أن أكون معجبة بك وإلا ما كنت لآتي بمفردي هذا الصباح.»
ردد عبارتها بمرارة قائلا: «معجبة بي. لا يهمني إعجابك بي!» وعندما لم يتلق منها أي رد، أضاف بنبرة كادت أن تكون قاسية: «لماذا تبقينني بعيدا عنك؟ لماذا تضعين حولك سورا صغيرا دوما؟»
سألته بغباء وبشعور بالحزن: «وهل أفعل حقا؟» «أنت تبدين باردة ومنعزلة حتى عندما تضحكين.» «لا أريد أن أكون كذلك؛ فأنا أكره الأشخاص الباردين.»
وللحظة لمحت ومضة سريعة من العصبية المفاجئة التي تخونه أحيانا. «هذا لأنك تتصرفين بالطريقة اللعينة التي تتصرف بها سيدة راقية. أحيانا أتمنى لو كنت خادمة أو عاملة نظافة.» «وحينئذ لن أكون نفس الشخص؛ أليس كذلك؟»
رفع عينيه بسرعة، كما لو أنه سيرد ردا حاسما مفاجئا، ثم تمالك نفسه، وواصل السير في صمت. وحين اختلست أوليفيا النظر إليه، لمحت على خلفية الخضرة صورة سريعة للرأس العنيد الأسمر الداكن الشعر - يشبه رأس ثور جميل، هكذا ظنت في مخيلتها - منحنيا قليلا، غارقا في التفكير وأقرب إلى الحزن؛ ومرة أخرى هاجمها شعور واهن وضعيف؛ نفس الإحساس الذي استحوذ عليها ليلة وفاة ابنها حين جلست تنظر إلى مؤخر رأس آنسون ولا تراه مطلقا. وتساءلت في نفسها: «لماذا هذا الرجل - الغريب - يبدو أقرب إلي مما كان آنسون في أي وقت مضى؟ ولماذا أتحدث إليه بطريقة لم أتحدث بها قط مع آنسون؟» وتملكها شعور غريب بالشفقة عند مرأى الرأس الداكن الشعر. وفي لحظة فهم خاطفة، رأته في هيئة صبي صغير يبحث بارتباك عن شيء لا يفهمه؛ أرادت أن تمسد الشعر الداكن الكثيف مطمئنة.
تحدث مرة أخرى. وكان يقول: «أنت لا تعرفين شيئا عني. وأحيانا أظن أنه يجب أن تعرفي كل شيء.» سألها وهو ينظر إليها سريعا: «هل يمكنك تحمل سماع ما سأقوله ... قدر منه؟»
ابتسمت له، متيقنة من أنها اخترقت حالته المزاجية بطريقة غامضة وتنطوي على استبصار، وقالت في نفسها: «كم أنا عاطفية ... كم أنا عاطفية على نحو مقيت !» لكنها كانت حالة مزاجية ثرية وممتعة وجدت نفسها منغمسة ومسترخية فيها بكل ذرة من كيانها. وعادت تقول في نفسها: «لماذا لا أستمتع بهذا؟ لقد كنت متحفظة طوال حياتي.»
وإذ رأى ابتسامتها، بدأ يتحدث، ويخبرها، وهما يسيران في اتجاه الشمس المشرقة، بقصة أصله المتواضع وتلك الأيام الأولى المريرة على رصيف ميناء إنديا وارف، وبين فينة وأخرى كانت تقول: «أفهم ذلك. طفولتي لم تكن سعيدة»، أو تقول: «تابع حديثك، من فضلك. إنه يأسرني ... أكثر مما تتخيل.»
وهكذا، واصل حديثه، يخبرها بقصة الندبة الطويلة الموجودة على صدغه، ويخبرها كما كان متيقنا من أنه سيفعل، عن قصة صعوده إلى النجاح، معترفا لها بكل شيء، حتى بالأشياء التي كان قد صار يشعر بالخزي منها قليلا، ويكشف من حين لآخر عن الشعور بالمرارة الذي ينتاب أولئك الذين شقوا طريقهم رغم الصعاب الكبيرة. صار الرجل الداهية الملغز ساذجا سذاجة طفل صغير، واستوعبت ما قاله، كما كانت متيقنة من أنها ستفعل. كان من المذهل كم كان محقا بشأنها.
مستغرقين في هذه الحالة المزاجية، واصلا ركوب الخيل طويلا بينما طلع الصبح وازدادت حرارة الجو، وتحيط بهما طوال الوقت رائحة الأيكة الكثيفة المتنامية المظلمة والرائحة العطرية النافذة لسراخس الأهوار الطويلة، إلى أن قالت أوليفيا، وهي تلقي نظرة خاطفة على ساعة يدها: «لقد تأخر الوقت جدا. سيفوتني إفطار العائلة.» كانت تقصد في الحقيقة أن آنسون سيكون قد ذهب إلى بوسطن الآن وأنها سعيدة بذلك - ولكن كان من المستحيل أن تقول شيئا كهذا. •••
وعند مقلع الحجارة، ودعته، وبينما كانت تدير فرسها عائدة إلى منزل عائلة بينتلاند شعرت بالتأثير الغريب لقربه منها يتفلت منها مع كل خطوة؛ وشعرت كما لو أن الجو في صبيحة هذا اليوم الحار من أيام أغسطس كان يصير باردا. وعندما كان المنزل الكبير المبني بالطوب الأحمر، راسخا بقوة وسط أشجار الدردار العتيقة، على مرمى البصر، حدثت نفسها قائلة: «يجب ألا أفعل هذا ثانية أبدا. لقد كنت حمقاء.» ثم أردفت قائلة: «ولكن لم ينبغي ألا أفعل هذا؟ لم ينبغي ألا أنعم بالسعادة؟ لا يحق لهم مطالبتي بأي شيء.»
ولكنها كانت تعرف أن ثمة حقا واحدا؛ ألا وهو حق سيبيل. يجب ألا تجعل من نفسها أضحوكة من أجل سيبيل. يجب ألا تفعل شيئا يتعارض مع ما كان يحدث في زورق الصيد الصغير هذا الصباح على مسافة بعيدة فيما وراء الأهوار في مكان ما بالقرب من الموضع الذي غرقت فيه سافينا بينتلاند. وكانت تعرف جيدا لماذا اختارت سيبيل الخروج لصيد الأسماك بدلا من ركوب الخيل؛ كان من السهل جدا إلقاء نظرة على الفتاة والشاب دي سيون ومعرفة ما كان يجري هناك. هي نفسها لم يكن يحق لها اعتراض طريق ذلك الأمر الآخر الذي كان أكثر نضارة وشبابا، وأقرب كثيرا إلى الكمال.
وبينما كانت تعقل فرسها عند السور المنخفض بجوار الإسطبل، رفعت بصرها وصادفت عيناها جسدا مألوفا متشحا بالسواد الباهت واقفا في الحديقة، كما لو أنها كانت قد وقفت هناك طوال ذلك الوقت تتطلع إلى المروج، وتراقبهما. وحين اقتربت أكثر، أقبلت عليها العمة كاسي والقلق باد على وجهها، قائلة بصوت هامس ضعيف، كما لو أنها تخشى من أن يسمعها أحد: «ظننت أنك لن تعودي أبدا، يا أوليفيا العزيزة. لقد كنت أبحث عنك في كل مكان.»
أجابتها أوليفيا، وقد أدركت من الطريقة المتسمة بالغموض الشديد أن كارثة جديدة قد وقعت: «كنت أركب الخيل مع أوهارا. ابتعدنا أكثر مما ينبغي وكان الجو حارا للغاية فلم يكن من الممكن أن نستحث الخيل.»
قالت العمة كاسي: «أعرف. رأيتكما.» (قالت أوليفيا في سرها: «بالطبع من شأنها أن ترانا. وهل يفوتها أي شيء مطلقا؟») وأردفت العمة كاسي تقول: «الأمر يتعلق بها. انتابتها نوبة عنيفة هذا الصباح والآنسة إيجان تقول إنك ربما تكونين قادرة على التصرف. ظلت تهذي بخصوص شيء متعلق بالعلية وسابين.» «أجل، أعرف ما هو. سأصعد إليها حالا.»
ظهر هيجينز، مبتسما وفي عينيه الحادتين نظرة خاطفة لامعة، كما لو أنه عرف كل ما كان يجري وأراد أن يقول: «آه، كنت مع أوهارا هذا الصباح ... بمفردك ... حسنا، أحسنت صنعا ، يا سيدتي. أتمنى أن يجلب لك هذا السعادة. يجدر بك أن تحظي برجل كهذا.»
وبينما كان يأخذ باللجام، قال: «يا له من حصان رائع ذلك الذي يركبه السيد أوهارا يا سيدتي. أتمنى أن نقتنيه في إسطبلاتنا. ...»
غمغمت بشيء ما ردا عليه ودون حتى أن تنتظر تناول القهوة أسرعت تصعد الدرج المظلم المؤدي إلى الجناح الشمالي. وفي الطريق المار أمام صف النوافذ الطويلة الغائرة في الحائط، لمحت بنظرة خاطفة سيبيل، متأنقة للغاية في ملبسها وتمسك بمظلة صفراء فاقعة اللون فوق رأسها، وتتهادى في مشيتها على ممر السيارات الطويل المؤدي إلى المنزل، ومرة أخرى خالجها شعور مفاجئ يتعذر تفسيره بقرب وقوع حادث كئيب، بل وربما مأساوي. كانت هذه واحدة من نوبات الاكتئاب السريعة غير المفسرة التي تتلبس المرء كشبح. قالت في نفسها: «أشعر بالاكتئاب الآن لأنني قبل ساعة كنت في غاية السعادة.»
وأردفت على الفور قائلة في نفسها: «لكن التفكير بهذه الطريقة من شيم العمة كاسي. يجب أن أحترس وإلا سأتحول إلى بينتلاندية أصيلة ... معتقدة بأنني إذا كنت سعيدة، فستعقب ذلك كارثة تحل قريبا.»
في الآونة الأخيرة انتابتها لحظات بدا لها فيها أن ثمة شيئا في الأجواء، قوة خفية ما في جنبات المنزل العتيق نفسه، تغيرها ببطء، على نحو لا يكاد يكون ملحوظا، رغما عنها. •••
التقت بها الآنسة إيجان على عتبة الباب من الخارج، بابتسامتها المصطنعة الدائمة التي بدت اليوم لأوليفيا كابتسامة القدر نفسه.
قالت لها: «لقد هدأت السيدة العجوز كثيرا. ساعدني هيجينز واستطعنا أن نربطها في الفراش لكيلا تتمكن من إيذاء نفسها. من المدهش مقدار القوة الهائلة التي تملكها في هذا الجسد النحيل العليل.» وأوضحت أن السيدة بينتلاند العجوز ظلت تصرخ: «سابين! سابين!» منادية السيدة كاليندار وأنها أصرت على أنه مسموح لها بالذهاب إلى العلية.
وأردفت الآنسة إيجان قائلة: «إنه الهاجس القديم بأنها فقدت شيئا بالأعلى. ولكنه ليس سوى شيء تتخيله على الأرجح.» لاذت أوليفيا بالصمت لدقيقة. ثم قالت: «سأذهب وأبحث عنه. ربما يوجد شيء هناك، وإن استطعت أن أعثر عليه ، فمن شأنه أن يضع نهاية لهذه الهواجس.» •••
ووجدته بسهولة، في الحال تقريبا؛ إذ كان ضوء النهار عندئذ يتسلل من نوافذ العلية الشبيهة بالكهف. كان مدسوسا بعيدا أسفل واحدة من العوارض الخشبية الضخمة ... حزمة صغيرة من الخطابات المصفرة القديمة التي كانت قد ربطت معا بشريط بنفسجي قبل أن يمزقها أحد ما في عجالة ويدسها في هذا المكان ليخبئهم. كانت الحزمة قد فتحت بإهمال وفي عجالة؛ لأن الورق المهترئ كان مجعدا وممزقا من عند الحواف. وكان الحبر، الذي كان لونه بنفسجيا، قد تحول إلى درجة بنية موحلة.
وبينما كانت تقف وسط الألعاب المتناثرة التي تركها جاك وسيبيل آخر مرة كانا يلعبان فيها لعبة المنزل، رفعت أوليفيا الخطابات واحدا تلو الآخر في مقابل الضوء. كانت أحد عشر خطابا وكان كل منها موجها إلى السيدة جيه بينتلاند، منزل آل بينتلاند. أرسل ثمانية منها عبر مكتب بريد بوسطن وكانت الثلاثة الباقية لا تحمل طوابع من أي نوع، كما لو أنها أرسلت عبر مرسال أو وسط باقة زهور أو بين صفحات كتاب ما. كانت الكتابة بخط يد رجل، حروف كبيرة ومكتوبة على عجل وممتدة، وتظهر نزعة لطمس الحروف معا بتسرع ونفاد صبر.
حدثت نفسها على الفور: «جميعها موجه إلى السيدة جيه بينتلاند، وهو ما يعني أنها مكتوبة إلى السيدة جاريد بينتلاند. سيفرح آنسون؛ لأنها حتما الخطابات المتبادلة بين سافينا بينتلاند وابن عمها توبي كاين. كان آنسون بحاجة إليها ليستكمل تأليف الكتاب.»
ثم خطر ببالها أن ثمة شيئا غريبا بخصوص الخطابات؛ بخصوص كونها مخبأة وربما وجدتها السيدة العجوز بالطابق السفلي ثم خبئت مرة ثانية. ولا بد أن السيدة بينتلاند العجوز قد عثرت عليها قبل أربعين عاما مضت تقريبا، حين كانوا لا يزالون يسمحون لها بالتجول في المنزل. ربما كان هذا في أحد تلك الأيام المطيرة عندما صعد آنسون وسابين إلى العلية ليلعبا في هذا الركن تحديدا بنفس هذه الألعاب القديمة؛ الأيام التي رفضت فيها سابين أن تتظاهر بأن المياه الموحلة كانت نبيذ. والآن تذكرت السيدة العجوز الاكتشاف بعد مرور كل هذه السنوات بسبب عودة سابين ولأن وقع اسمها أثار سلسلة من الذكريات المنسية منذ وقت طويل.
جلست على جذع خشب عتيق مكسور رث الحال، وفتحت أول خطاب بحرص شديد حتى لا تمزق بقايا شمع البارافين الذي لا يزال متعلقا بالحواف، وفي الحال قرأت وقد انتابتها صدمة سريعة:
انتظرتك الليلة الماضية في المنزل الريفي حتى الساعة الحادية عشرة وحين لم تأتي عرفت أنه لم يسافر إلى مدينة سالم، في نهاية المطاف، وأنه لا يزال معك في منزل عائلة بينتلاند ...
حبيبتي،
توقفت عن القراءة. فهمت الأمر الآن ... توبي كاين الحقير كان أكثر من مجرد ابن عم لسافينا بينتلاند؛ لقد كان عشيقها ولهذا السبب كانت تخفي الرسائل أسفل العوارض الخشبية للعلية الشاسعة غير المكتملة البناء، ربما بنية التخلص منها يوما ما. ثم غرقت قبل أن يمهلها الوقت لفعل ذلك وظلت الخطابات مخبأة في مكانها حتى اكتشفتها زوجة جون بينتلاند ذات يوم بالصدفة، ولم تفعل بها شيئا سوى أنها أخفتها مرة أخرى، ونسيت في تلافيف عقلها المشوش المسكين ماهيتها أو أين خبأتها. كانت هذه هي الخطابات التي كان آنسون يبحث عنها.
لكنها أدركت على الفور أن آنسون لن يستعين أبدا بهذه الخطابات في كتابه؛ لأنه لن يكشف النقاب مطلقا عن فضيحة داخل عائلة بينتلاند، على الرغم من أنها كانت فضيحة انتهت، نهاية مأساوية، قبل قرن من الزمان تقريبا وصارت الآن أقرب إلى قصة رومانسية خالصة. أدركت، بالطبع، أن علاقة حب جمعت بين مخلوقة على قدر كبير من التألق والإشراق مثل سافينا بينتلاند ووغد مثل توبي كاين ستبدو غريبة جدا في كتاب بعنوان «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس». ربما كان من الأفضل عدم الحديث عن الخطابات مطلقا. فمن شأن آنسون أن يدمر كل القيمة التي تحملها بين طياتها بطريقة أو أخرى؛ فمن شأنه أن يقدم الحقيقة قربانا لآلهة الوقار والتظاهر.
دست الخطابات في جيبها، ونزلت على درج السلم المظلم، وفي الجناح الشمالي قابلتها الآنسة إيجان لتسألها، بنزعة يغلب عليها نفاد الصبر، قائلة : «أظن أنك لم تجدي شيئا، أليس كذلك؟»
أجابتها أوليفيا سريعا بقولها: «كلا، لا شيء من المحتمل أن يثير اهتمامها.»
أجابت الآنسة إيجان، وهي تنظر إلى أوليفيا بدا منها أنها تشك في صدق ما قالته: «إنها فكرة غريبة تفتق ذهنها عنها.» •••
لم تنزل إلى الطابق السفلي على الفور. وإنما توجهت إلى غرفتها وبعد الاستحمام، جلست على كرسي المضطجع بجوار النافذة المفتوحة فوق الشرفة الأمامية، مستعدة لقراءة الخطابات واحدا تلو الآخر. ومن الأسفل، تصاعدت همهمة صوتين، أحدهما رنان وحاد؛ والآخر متوتر ورفيع وعالي النبرة - صوت سابين وصوت العمة كاسي - أثناء جلوسهما في الشرفة الأمامية تتجاذبان أطراف حديث لاذع، تتبارى فيه كل منهما في التفوق على الأخرى. وبينما كانت أوليفيا تسمع، قررت أنها سئمت من كلتيهما هذا الصباح؛ ولأول مرة يخطر ببالها أن ثمة تشابها ما بطريقة غريبة بين المرأتين اللتين كانتا تبدوان في غاية الاختلاف. كانت هاتان الفضوليتان، اللتان تبغض إحداهما الأخرى أشد البغض، تتبعان نفس الطريقة في محاولتهما التدخل في شئون حياتها.
لم تحمل الخطابات أي تواريخ، ولذا بدأت قراءتها بحماس بالترتيب الذي وجدت عليه، لتبدأ بالخطاب المكتوب فيه:
انتظرتك الليلة الماضية في المنزل الريفي حتى الساعة الحادية عشرة وحين لم تأتي عرفت أنه لم يسافر إلى مدينة سالم، في نهاية المطاف، وأنه لا يزال معك في منزل عائلة بينتلاند ...
حبيبتي،
وواصلت القراءة: «ما لا أحتمله هي فكرة قربه منك، بل وامتلاكه لك أحيانا. أتخيله الآن جالسا هناك في غرفة الاستقبال، ينظر إليك؛ يلتهمك بعينيه ويتظاهر طوال الوقت بأنه يسمو فوق شهوات الجسد. الجسد! الجسد! أنا وأنت، يا عزيزتي، نعرف عظمة الجسد. أحيانا أظن أنني جبان لأنني لا أقتله على الفور.
بحق الرب، تخلصي منه الليلة بطريقة ما. لا أستطيع أن أقضي ليلة أخرى وحدي في المنزل الريفي الكئيب المظلم منتظرا بلا جدوى. الجلوس هناك مدركا أن كل دقيقة، وكل ثانية، قد تحمل معها وقع خطواتك وأنت قادمة هو أمر يتعدى حدود قدراتي على الاحتمال. ارحميني. وتخلصي منه بطريقة ما.
لم ألمس قطرة من أي شيء منذ آخر مرة رأيتك فيها. هل يرضيك ذلك؟
أرسل إليك هذا الخطاب داخل كتاب مع هانا الزنجية. وستنتظر لتأخذ ردك.»
شيئا فشيئا، بينما كانت تواصل القراءة عبر متاهات الخطابات العاطفية المتهورة، أخذ الصوتان القادمان من الفناء بالأسفل، اللذان كان أحدهما الآن عاليا وغاضبا بعض الشيء، والآخر لا يزال رنانا، وحادا وغير مبال، يبتعدان أكثر فأكثر حتى لم تعد بعد قليل تسمعهما على الإطلاق، ومحل الصوت استولى انطباع آخر على حواسها؛ توهج مادي غريب استولى تدريجيا على كامل جسدها. بدا وكأن في وسط هذه الخطابات البنية الباهتة تتأجج نيران مستعرة لم تخمد بالكامل أبدا ولن تطفأ مطلقا إلا بعد أن تحرق الخطابات ذاتها وتصير رمادا.
كلمة تلو أخرى، وسطرا تلو آخر، وصفحة تلو أخرى، كانت الأسطورة المأساوية العاطفية تعيد تشكيل نفسها من جديد، وقرب النهاية استطاعت أن ترى الأطراف الرئيسيين الثلاثة فيها متجسدين في الحياة الواقعية، كما لو أنهم لم يموتوا قط، وإنما واصلوا العيش في جنبات هذا المنزل العتيق، ربما في ذات هذه الغرفة التي كانت تجلس فيها ... الغرفة التي لا بد وأنها كانت غرفة سافينا بينتلاند.
رأت الزوج، جاريد بينتلاند الذي لا توجد له صورة شخصية لأنه ما كان لينفق المال أبدا على مثل هذه الرفاهيات؛ إذ لا بد وأنه كان في الحياة الواقعية، رجلا ماكرا وداهية وورعا وبخيلا إلا حين حوله ولعه الغريب الكئيب بزوجته إلى شخص غير متزن. وكانت سافينا بينتلاند موجودة هناك أيضا، كما كانت تبدو من الصورة الشخصية التي رسمها آنجر - امرأة سمراء ممتلئة القوام وطائشة ذات عينين مغريتين خبيثتين - امرأة ربما يسهل أن تكون جالبة الخراب على رجل مثل جاريد بينتلاند. وبطريقة ما استطاعت أن تستحضر صورة واضحة ونابضة بالحياة لكاتب هذه الخطابات المستعرة - عشيق وغد وسيم، أسمر مثل ابنة عمه سافينا، استسلم لمعاقرة الخمر ولعب القمار. ولكن الأهم من ذلك كله أنها كانت واعية لذلك الغرام الصريح المتأجج والمتبجح الذي لم يكن له جذور مطلقا في هذه التربة الصخرية لنيو إنجلاند فيما وراء نوافذ منزل عائلة بينتلاند. رجل كان يمجد صراحة الجسد والرغبات الحسية! فاسق! مغو! ومع ذلك كان رجلا قادرا على تأجيج هذه النيران العظيمة التي كانت تتقافز من الصفحات الصفراء وتدفئ أواصرها. حينئذ خطر ببالها لأول مرة أنه كان ثمة شيء بطولي وسام وجميل في غرام عنيف كهذا. وللحظة تملكها الشعور بأن قراءة هذه الخطابات هو شكل من أشكال انتهاك الخصوصية.
كشفت الخطابات، أيضا، كيف كان جاريد بينتلاند ينظر إلى زوجته الجميلة باعتبارها قطعة رائعة من الممتلكات، استثمار كان يمنحه إشباعا حسيا وأيضا يضفي بهاء على منزله وعلى مائدة العشاء. (ما كانت سابين تطلق عليه «حس الملكية لدى الطبقة الوسطى الدنيا.») لا بد أنه أحبها وكرهها في آن واحد، بنفس الطريقة التي أحب بها هيجينز الفرس الحمراء الجميلة وكرهها. لا بد أنه كان فخورا بها ورغم ذلك كرهها لأنها كانت تتمتع بقدرة تامة على أن تجعله يظهر بمظهر غبي. كانت القصة برمتها تمضي على خلفية العائلة ... عائلة بينتلاند. كانت توجد إشارات مستمرة إلى أبناء العمومة والأعمام والأخوال والعمات والخالات وشكوكهم وتداخلاتهم.
قالت أوليفيا في نفسها: «لا بد أن هذا قد بدأ حتى في تلك الأيام.»
وعرفت من الخطابات أن الغرام كان قد بدأ في روما عندما جلست سافينا بينتلاند ليرسم آنجر صورتها الشخصية. وكان توبي كاين معها هناك وبعد ذلك ذهبت معه إلى مسكنه: وعندما عادا إلى المنزل في دورهام (الذي كان جديدا حينها وكان أكبر منزل ريفي في نيو إنجلاند كلها) كانا يلتقيان في الكوخ الريفي - منزل «بروك كوتيدج» - الذي كان لا يزال على مرمى البصر من نافذة أوليفيا - منزل «بروك كوتيدج» الذي كان جد سابين قد اشتراه بعد حادثة الغرق ثم تحول إلى أنقاض وجدد مرة أخرى بلمسة أوهارا الزاهية والمبتذلة واللامعة. كانت قصة معقدة ومتداخلة للغاية تعود جذورها إلى الماضي وبدا أنها أثرت فيهم جميعا في دورهام.
حدثت أوليفيا نفسها قائلة: «الحياة في عائلة بينتلاند تضرب بجذورها في أعماق الماضي. لا توجد فروع جديدة ولا براعم شابة قوية.»
وصلت أخيرا إلى آخر الخطابات، الذي كانت قد طمرت وسطه السطور الكاشفة للحقيقة المروعة: •••
ليتك تعلمين مدى سعادتي بخطابك الذي كتبت فيه أن الطفل دون أدنى شك هو ابننا، وأنه لا يمكن أن توجد ذرة شك في ذلك! الطفل ينتمي إلينا ... إلينا وحدنا! ولا علاقة له به في شيء. لم يكن يمكنني أن أتحمل فكرة أنه يظن أن الطفل ابنه لولا أن هذا يؤمن موقفك. الفكرة تعذبني ولكنني قادر على تحملها لأنها تحميك وتضعك فوق الشبهات.
وبترو وتفكير عميق، كما لو أنها لم تكن قادرة على تصديق عينيها، أعادت قراءة السطور مرة أخرى، ثم وضعت يديها على رأسها بحركة تنم عن شعور مفاجئ بالوهن وبأنها قد جنت.
حاولت التفكير بصفاء ذهن. «لم ترزق سافينا بينتلاند إلا بابن واحد فقط، حسب علمي ... واحد فقط. ولا بد أن ذلك الابن كان ابن توبي كاين.»
لا يمكن أن يكون ثمة شك في ذلك. كل شيء كان مذكورا هنا كتابة. الطفل كان من صلب توبي كاين والمرأة التي ولدته هي سافينا دالجيدو. لم يكن ينتمي إلى عائلة بينتلاند ولم يكن أي من أحفاده ينتمي إلى عائلة بينتلاند ... ولا واحد منهم.
لم يكونوا يمتون إلى آل بينتلاند بصلة على الإطلاق باستثناء أن أحفاد سافينا وعشيقها كانوا قد تزوجوا من نخبة بوسطن حيث كانت دماء عائلة بينتلاند تسري في عروق كل أسرة هناك. لم يكونوا ينتمون إلى آل بينتلاند بصلة الدم ومع ذلك كان انتماؤهم إلى عائلة بينتلاند لا جدال فيه، من ناحية التصرفات ووجهة النظر والتقاليد. خطر على بال أوليفيا لأول مرة مدى فداحة وفظاعة تلك البيئة، تلك الأجواء التي سحرتهم جميعا ... كل هذه الغمامة من الإجحاف والعادات والتقاليد ومظاهر الغرور والمخاوف الصغيرة. كان عالما راسخا جدا، وقويا جدا، ومنيعا جدا لدرجة أنه جعل عائلة بينتلاند قائمة على أشخاص مثل آنسون والعمة كاسي، بل وعلى شخص مثل حميها. جعل هذا العالم عائلة بينتلاند قائمة على أشخاص لم يكونوا ينتمون إلى آل بينتلاند مطلقا. أدركت الآن القوة الكاسحة المفزعة التي كانت جزءا من المنزل العتيق. كانت متغلغلة في سائر تربة الريف الذي امتد فيما وراء نوافذها.
وفي خضم هذا الوعي، انتابتها نوبة مفاجئة للضحك، على نحو هيستيري؛ إذ كانت قد خطرت على بالها فجأة صورة آنسون ... آنسون وهو يبذل نفسه بالكامل في ذلك العمل المجيد المهول الذي كان من المقرر أن يعرف باسم «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس».
وتدريجيا، ومع تلاشي الصدمة الأولى قليلا، بدأت تعتقد أن قصاصات الورق المصفرة كانت أداة شيطانية ما، وسيلة ذات قدرة على تدمير عالم بأكمله. ما الذي كان يتعين عليها فعله بهذا الشيء؛ هذا الشعار الغريب لقوة تربح دوما في كل صراع بطريقة أو أخرى، مباشرة كما في حالة سافينا وعشيقها، أو من خلال الأخذ بالثأر ماديا أو معنويا كما هو الحال مع عقل العمة كاسي المتطفل الماكر البائس؟ وهناك أيضا القصة المبهمة لهوراس بينتلاند، وجنون العجوز المحبوسة في الجناح الشمالي، وحتى نوبات السكر المفاجئة الفظيعة تلك التي تحول رجلا رائعا مثل جون بينتلاند إلى شيء أقرب إلى وحش.
بدا وكأن ضوءا ساطعا يعمي الأبصار قد سلط على موكب الأسلاف الطويل. رأت الآن أنه لو كان من المقدر لكتاب «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس» أن يحمل أي قيمة بين طياته باعتباره حقيقة فلا بد أن تعاد كتابته في ضوء الصراع بين القوى التي مجدها الوغد المخمور توبي كاين وهذه القوة الرهيبة الأخرى التي بدا أنها كانت في كل مكان من حولها، تشكلها هي نفسها ببطء وفق قالبها. كان صراعا قديما بين أولئك الذين اختاروا أن يجدوا متعتهم في هذه الدنيا وأولئك الذين كانوا يبحثون عن الوعد المبهم بوجود مستقبل مجيد.
كان بوسعها أن تتخيل آنسون وهو يسطر في كتابه: «من الجيل الحالي، (1920 وما بعده) كساندرا بينتلاند سترازرس (السيدة إدوارد كاين سترازرس)، أرملة تميزت بتفانيها للكنيسة الأسقفية الأمريكية وللأعمال الخيرية والأعمال الصالحة. وهي تقضي فصل الشتاء في بوسطن وفصل الصيف في منزلها الريفي بالقرب من دورهام في أرض انتزعها من البرية البينتلاندي الأول، أحد المؤسسين المميزين للعائلة الأمريكية.»
أجل، من شأن آنسون أن يكتب تلك الكلمات بالضبط في كتابه. ومن شأنه أن يصف العجوز التي تجلس في الطابق السفلي آملة أن تنزل أوليفيا وهي تحمل أنباء عن مأساة جديدة ... تلك العجوز العذراء التي أفسدت حياة زوجها بأكملها واحتفظت بالآنسة بيفي المسكينة البلهاء أسيرة لها لما يربو على ثلاثين عاما.
تلاشت همهمة الأصوات بعد قليل، ورأت أوليفيا، وهي تتطلع عبر النافذة، أن العمة كاسي كانت هي المنتصرة هذه المرة. كانت تقف في الحديقة تنظر إلى ممر السيارات بذلك التعبير الخبيث الذي يعلو وجهها أحيانا في اللحظات التي تظن فيها أنها بمفردها. وبعيدا على ممر السيارات المظلل على مسافات متفرقة، كانت سابين تتحرك مبتعدة في تكاسل صوب منزل «بروك كوتيدج». كانت سابين، هي الأخرى، تنتمي نوعا ما إلى العائلة؛ إذ كانت قد نشأت تحيط بها التقاليد المتشددة التي جعلت أناسا لم يكونوا ينتمون إلى عائلة بينتلاند أفرادا من العائلة. وربما كان (هكذا فكرت أوليفيا) يكمن السبب الرئيسي وراء الحياة القلقة التعسة التي تحياها سابين في ذلك الصراع الكئيب نفسه. ربما إذا استطاع المرء أن يتعمق بالقدر الكافي في التاريخ العائلي الطويل، سيجد هناك الأسباب التي جعلت سابين تكره هذا العالم الخاص بدورهام والأسباب التي جعلتها تعود إلى أشخاص كانت تكرههم بكل الحماسة المريرة، شبه المتطرفة، المتأصلة في طبيعتها. كانت سابين تمتلك مقومات القسوة البالغة.
وما إن رأت العمة كاسي أوليفيا تنزل الدرجات المؤدية إلى الحديقة، حتى استدارت واتجهت نحوها بسرعة وعلى وجهها نظرة توقع، وسألتها: «كيف حال المسكينة؟»
وعندما أجابت أوليفيا بقولها: «إنها هادئة الآن ... نائمة. مر كل شيء على خير»، تغيرت النظرة إلى نظرة خيبة أمل.
قالت بتنهيدة عميقة: «أها، ستبقى إلى الأبد. ستظل على قيد الحياة بعد أن أكون قد لحقت بالسيد سترازرس العزيز بفترة طويلة.»
ردت عليها أوليفيا، وكأنها أرادت أن تقول شيئا آخر: «هذا هو الحال مع المرضى طريحي الفراش. إنهم يعتنون بأنفسهم عناية كبيرة.» وعلى الفور تقريبا قالت في نفسها: «ها أنا ذا ألعب لعبة العائلة، وأتظاهر بأنها ليست مجنونة وإنما مريضة طريحة الفراش فحسب.»
لم تشعر بالامتعاض من العجوز المشغولة؛ بالطبع بدا لها أحيانا أنها كانت تشعر مع العمة كاسي بما يشبه الألفة؛ ألفة من قبيل ما يشعر به المرء تجاه حيوان أو قطعة أثاث موجودة منذ وقت طويل بقدر ما يستطيع المرء أن يتذكر. وفي تلك اللحظة، بدا جسد العمة كاسي، ومشهد سابين من بعيد، والحديقة البراقة المليئة بالزهور ... بدت لها كل هذه الأشياء غير حقيقية، وكأنها جزء من مشهد ميلودرامي؛ لأنها كانت لا تزال تعيش في أجواء منزل عائلة بينتلاند في زمن سافينا وتوبي كاين. كان من المستحيل عليها أن تركز انتباهها على العمة كاسي وتوتراتها.
كانت العجوز تقول: «يبدو أنكم جميعا صرتم مولعين جدا بهذا الرجل المدعو أوهارا.» (ما الذي كانت ترمي إليه الآن؟) ثم جهرا قالت أوليفيا: «ولم لا؟ فهو لطيف وذكي ... بل ومتميز بطريقته الخاصة.»
أجابت العمة كاسي قائلة: «أجل. كنت أتناقش مع سابين بشأنه، ولقد توصلت إلى استنتاج مفاده أنني ربما كنت مخطئة بشأنه. هي تراه رجلا ذكيا ذا مستقبل عظيم.» ساد صمت وجيز ثم أضافت بطريقة من يدلي بملاحظة عابرة: «ولكن ماذا عن ماضيه؟ أقصد من أين أتى؟» «أعرف كل شيء عنه. لقد أخبرني بنفسه. لهذا السبب تأخرت هذا الصباح.»
لبعض الوقت لاذت العمة كاسي بالصمت، كما لو أنها تقدر في ذهنها حجم مشكلة كبيرة. وأخيرا قالت: «كنت أتساءل عن مسألة الإفراط في مقابلته. لديه سمعة سيئة مع النساء ... على الأقل، هذا ما قيل لي.»
ضحكت أوليفيا. ثم أردفت قائلة: «على أي حال، أنا امرأة ناضجة يا عمة كاسي. أستطيع أن أعتني بنفسي.» «أجل ... أعرف ذلك.» ثم استدارت إليها بابتسامة ورعة ملطفة للأجواء: «لا أريدك أن تظني أنني أتدخل في شئونك يا أوليفيا. هذا آخر شيء أفكر في القيام به. ولكني أفكر في مصلحتك مليا. أنا واثقة من أنه لا ضرر كبيرا في ذلك. لن يفكر أحد خلاف ذلك، من منطلق معرفته بك يا عزيزتي. ولكن المشكلة فيما سيقوله الناس. حدثت فضيحة حسبما أعتقد قبل ثماني سنوات مضت ... فضيحة في حانة!» قالت كلماتها الأخيرة متظاهرة بمعاناة شديدة، كما لو أن عبارة «فضيحة في حانة» قد ختمت على فمها. «أظن ذلك. فأغلب الرجال ... أقصد رجال السياسة ... لديهم فضائح ترتبط بأسمائهم. هذا جزء من العمل يا عمة كاسي.»
وظلت تفكر بذهول في المشقة التي تكبدتها العجوز؛ فلا بد أنها كانت قد بذلت جهدا جاهدا حتى تصل إلى ماضي أوهارا وتجد مأخذا عليه. لم تساورها أي شكوك بخصوص الحقيقة المطلقة في تلميح العمة كاسي. فالعمة كاسي لم تكن تكذب عن عمد؛ إذ كانت توجد دوما ذرة حقيقة في تلميحاتها؛ رغم أنه أحيانا كانت الذرة الضئيلة تكمن مدفونة على عمق سحيق جدا تحت المبالغات لدرجة أنه يكاد يستحيل اكتشافها. فشيء كهذا ربما كان من السهل أن يكون صحيحا في حق أوهارا. ففي حالة رجل مثله، لا يمكنك أن تتوقع من النساء أن يؤدين الدور نفسه الذي يؤدينه مع رجل مثل آنسون.
كررت العمة كاسي قولها: «هذا بسبب ما سيقوله الناس فحسب.» «لقد كدت أتوصل إلى نتيجة مفادها أن ما يقوله الناس لم يعد مهما حقا ...»
فجأة بدأت العمة كاسي تقطف باقة من الزهور من رقعة الأرض الموجودة بجوارها. «أوه، لست قلقة بشأنك يا عزيزتي أوليفيا. ولكن يتعين علينا أن نضع الآخرين في اعتبارنا أحيانا ... تيريز، وسيبيل، وآنسون، بل واسم عائلة بينتلاند نفسه. لم تلتصق بهذا الاسم شكوك من هذا القبيل أبدا ... أبدا.»
كان من المذهل (هكذا قالت أوليفيا في نفسها) أن يقول أي أحد شيئا كهذا، مذهل في أي مكان آخر في العالم غير هذا المكان. وأرادت أن تسألها: «ماذا عن أخيك والسيدة سومز العجوز؟» وفي ضوء تلك الخطابات التي وضعتها في درج منضدة زينتها وأغلقته عليها. ...
عند تلك اللحظة كان موعد الغداء قد حان بظهور بيترز عند مدخل الباب. التفتت أوليفيا إلى العمة كاسي قائلة: «ستبقين معنا، بالتأكيد .» «كلا، يجب أن أذهب. لم تتوقعوا مجيئي.»
هكذا، بدأت أوليفيا اللعبة القديمة، التي ظلوا يلعبونها طوال سنوات عديدة، المتمثلة في الضغط على العمة كاسي لتبقى حتى تتناول الغداء معهم.
قالت: «هذا لا يشكل فارقا. طبق إضافي وحسب.» وواصلت قائمة الحجج التي كانت قد حفظتها عن ظهر قلب منذ زمن بعيد. وأخيرا، أذعنت العمة كاسي، متظاهرة بأن الضغط قد فاق قدرتها على الاحتمال، وقالت أوليفيا لبيترز، الذي كان قد شارك هو الآخر في اللعبة لسنوات: «ضع طبقا آخر للسيدة سترازرس.»
كانت تنوي البقاء لوقت أطول. فالغداء بالخارج كان يوفر المال وكذلك المشاكل؛ لأن الآنسة بيفي لم تكن تأكل أكثر مما تأكله عصفورة، على الأقل ليس علانية؛ وعلاوة إلى ذلك، كانت ثمة أمور يجب أن تكتشفها في منزل عائلة بينتلاند، وأمور أخرى يجب أن تخطط لها. في الواقع، ما من قوة كان يمكن أن تجعلها تبرح مكانها ولو جرت جرا.
وأثناء دخولهما المنزل، قالت العمة كاسي في معرض حديثها، وهي تحمل باقة الزهور التي قطفتها: «التقيت بفتى عائلة مانرينج على الطريق هذا الصباح وطلبت منه أن يأتي الليلة. ظننت أنك لن تمانعي. إنه مولع جدا بسيبيل، كما تعرفين.»
ردت أوليفيا قائلة: «كلا، بالطبع لا. لا أمانع. ولكن يؤسفني أن أقول إن سيبيل لا تهتم به كثيرا.»
الفصل الثامن
1
لم تكن وفاة هوراس بينتلاند حدثا يمكن أن يبقى طي الكتمان بإجراء بسيط كإقامة جنازة كانت شبه سرية؛ إذ تسربت أخبارها وتناثرت هنا وهناك على ألسنة السيدات المتلهفات لنبش فضيحة قديمة لعائلة بينتلاند انتقاما من العمة كاسي، الناشر الرئيسي لأخبار المصائب في المجتمع المحلي. ونفذ الخبر أخيرا إلى داخل مكتب صحيفة ترانسكربت، التي أرسلت طلبا بنشر نعي للرجل المتوفى؛ لأنه على أي حال كان فردا من أفراد أحد أكثر عائلات بوسطن مدعاة للفخر. ثم، فجأة وبدون سابق إنذار، ظهر شبح هوراس بينتلاند مرة أخرى في أكثر البقاع قلقا وارتباكا؛ ألا وهو منزل «بروك كوتيدج».
رافق الشبح سابين في ممر السيارات الطويل صباح أحد الأيام الحارة بينما كانت أوليفيا جالسة تستمع إلى العمة كاسي. لاحظت أوليفيا أن سابين كانت تقترب منهما بسرعة غير معتادة، وأن كل مظاهر الكسل المألوفة كانت قد اختفت. وحين بلغت حافة الشرفة، صاحت وفي عينيها نظرة إشراق: «لدي أخبار ... عن ابن العم هوراس.»
كانت مستمتعة جدا باللحظة الحاضرة، ولا بد أن رؤيتها في حالة استمتاع تسببت في اضطراب العمة كاسي، التي كانت تعرفها جيدا. أخذت وقتها قبل أن تفصح عن الخبر، فاستفسرت أولا عن صحة العمة كاسي، واتخذت جلستها على أحد الكراسي الخيزران. كانت تعرف كيف تتفنن في تعذيب السيدة العجوز لأقصى درجة، والآن تمهلت لتستخلص التأثير الذي أحدثه إعلانها عن هذا الخبر حتى آخر قطرة. ولم يكن يمكن لأي شيء أن يستعجلها حتى ولو كان هذا الشيء هو التعبير الذي كسا وجه العمة كاسي رغما عنها عندما ذكر اسم هوراس بينتلاند؛ كان أشبه بالتعبير الذي يعلو وجه من يجد نفسه محاصرا برائحة نتنة ويعجز عن الفرار.
وأخيرا، وبعد أن أشعلت سيجارة وحركت كرسيها بعيدا عن أشعة الشمس، أعلنت سابين بنبرة خالية من المشاعر: «لقد ترك ابن العم هوراس لي كل ما يملك.»
علت وجه العمة كاسي نظرة ارتياح شديد، نظرة كانت تقول: «أف! أف! أهذا كل ما في الأمر؟» ضحكت - كانت ضحكتها أقرب إلى ضحكة مكبوتة، يشوبها الاستهزاء - وقالت: «أهذا كل ما في الأمر؟ أظن أن ما تركه لا يجعلك وريثة عظيمة الثراء.» (قالت أوليفيا في نفسها: «ما كان ينبغي للعمة كاسي أن تمنح سابين فرصه كهذه؛ فقد قالت لتوها ما أرادت سابين منها أن تقوله.»)
ردت سابين عليها قائلة: «ولكنك مخطئة في هذا يا عمة كاسي. لم يترك لي مالا؛ وإنما ترك أثاثا ... أثاثا وتحفا فنية ... وهي مجموعة رائعة. لقد رأيتها بأم عيني عندما زرته في مدينة منتون الفرنسية.» «ما كان ينبغي لك أن تذهبي ... لقد فقدت قطعا أي حس أخلاقي يا سابين. لقد نسيت كل ما علمتك إياه في صغرك.»
تجاهلتها سابين. وأردفت قائلة: «حسنا، كان متيما بهذه الأشياء، وأمضى عشرين عاما من حياته في جمعها.» «على الأرجح لا تبدو ذات قيمة كبيرة ... بالمال القليل الذي كان هوراس بينتلاند يملكه ... فلم يكن يملك إلا ما كنا نعطيه له ليعيش به.»
ابتسمت سابين مرة أخرى، مستهزئة، ربما لأن الخلاف مع العمة كاسي حقق نجاحا باهرا. إذ تابعت حديثها قائلة: «أنت مخطئة مرة أخرى يا عمة كاسي ... إنها ذات قيمة كبيرة جدا ... أكثر بكثير مما دفعه فيها؛ لأنها أشياء من مجموعته لا يمكنك شراؤها من أي مكان مقابل أي مبلغ من المال. فقد أخذ يبادل القطع ويقايضها إلى أن صارت مجموعته أقرب إلى الكمال.» توقفت عن الحديث لدقيقة، لتسمح للسكين أن يستقر في الجرح. ثم أردفت قائلة: «إنها مجموعة ذات قيمة هائلة. أنا أعرفها لأنني اعتدت زيارة ابن العم هوراس كل شتاء عندما كنت أسافر إلى روما. أعرف عنه أكثر من أي منكم. كان رجلا يتمتع بذوق مثالي في تلك الأشياء. كان يعرف حقا.»
جلست أوليفيا تراقب المشهد باستمتاع صامت. كان من الواضح أن النصر في هذه المناسبة كان حليف سابين، وأدركت سابين هذا. إذ جلست تستمتع بكل لحظة منه، وهي تراقب العمة كاسي تتلوى في جلستها من فكرة خروج ميراث قيم كهذا من أفراد العائلة المباشرة ليذهب إلى شخص من درجة قرابة بعيدة ويكن لهم عداوة شديدة. كان من الواضح أنها كارثة تضاهي في أهميتها كارثة ضياع طقم عقد اللؤلؤ والزمرد الخاص بسافينا بينتلاند في قاع المحيط الأطلنطي. كانت ممتلكات ضاعت إلى الأبد وكان ينبغي أن تئول إلى العائلة وتضاف إلى ثروتها.
أخذت سابين تفتح الخطاب ببطء شديد، لتجعل الورق يصدر خشخشة مزعجة، كما لو أنها كانت تعرف أن كل خشخشة صادرة عن الورق كانت تسري في العمود الفقري للعجوز محدثة آلاما مبرحة لها.
قالت، وهي ترفع على حدة كل ورقة من الخمس ورقات الطويلة: «هذه الفاتورة الصادرة من مصلحة الجمارك. خمس صفحات طويلة ... ربما تصل القيمة الإجمالية إلى خمسة وسبعين ألف دولار ... بالطبع، لا توجد حتى أي رسوم يتعين دفعها؛ لأنها كلها أشياء قديمة.»
أجفلت العمة كاسي، كما لو أن نوبة مفاجئة من الألم قد سيطرت عليها، وتابعت سابين حديثها. قالت: «بل إنه ترك بندا بخصوص شحنها ... كلها باستثناء أربع أو خمس قطع كبيرة محتجزة في مدينة منتون الفرنسية. الإجمالي ثمانية عشر صندوقا.»
بدأت تقرأ الأصناف واحدا تلو الآخر ... الدواليب، والمناضد، والكراسي، والشمعدانات، والطاولات، والصور، وقطع من البرونز والكريستال وحجر اليشم ... وكل القائمة الطويلة للأشياء التي جمعها هوراس بينتلاند بعناية خبير محب للتحف أثناء سنوات نفيه الطويلة؛ وبينما كانت تقرأ، قاطعتها العمة كاسي، التي عجزت عن تمالك نفسها لوقت أطول من ذلك، قائلة: «يبدو لي أنه كان رجلا ناكرا للجميل ومثيرا للاشمئزاز. كان من المفترض أن يئول هذا إلى أخي العزيز، الذي سانده كل هذه السنوات. لا أفهم السبب وراء تركه كل هذا لابنة عم بدرجة قرابة بعيدة مثلك.»
أمعنت سابين البحث مرة أخرى داخل المظروف. ثم أردفت قائلة: «انتظري، لقد شرح تلك النقطة بنفسه ... في وصيته الخاصة.» فتحت نسخة من هذه الوثيقة، وأخذت تبحث للحظة، ثم قرأت: «إلى ابنة عمي، سابين كاليندار (السيدة كاين كاليندار)، القاطنة في شارع دي تيلسيت، باريس، فرنسا، ومدينة نيوبورت، رود آيلاند، أترك كل مجموعاتي من الأثاث وأقمشة النجود والتحف الفنية وما إلى ذلك، عرفانا مني بلطفها معي طوال مدة امتدت لسنوات طويلة نظير ثقتها وتفهمها في وقت كانت بقية العائلة تعاملني فيه باعتباري شخصا منبوذا.»
استشاطت العمة كاسي غيظا. وقالت: «وكيف كان ينبغي التعامل معه لو لم يعامل باعتباره شخصا منبوذا؟ كان صعلوكا بغيضا ناكرا للجميل! كانت أموال عائلة بينتلاند هي ما دعمه طوال حياته البائسة.» توقفت للحظة لالتقاط أنفاسها. ثم أردفت: «كثيرا ما كنت أقول لأخي العزيز إن مائتين وخمسين دولارا سنويا هو مبلغ أكبر بكثير مما كان يحتاجه هوراس بينتلاند. وهكذا أنفق المال، ليسيء إلى من أحسنوا إليه.»
أعادت سابين الأوراق إلى المظروف، ورفعت بصرها، وقالت بنبرتها الحادة الرنانة: «المال ليس كل شيء، كما أخبرتك من قبل يا عمة كاسي . أقول دوما إن مشكلة آل بينتلاند ... أو أغلب أهل بوسطن، في هذه المسألة ... تكمن في حقيقة أنهم كانوا في مستهل حياتهم أصحاب متاجر ينتمون إلى الطبقة الوسطى الدنيا ولم يفقدوا أبدا أيا من خصال هذه الطبقة الوسطى الدنيا ... لا سيما فيما يخص المال. لقد كانوا يفخرون بأنهم يعيشون على عائد دخولهم الخاصة ... كلا، لم يكن المال هو ما أراده هوراس بينتلاند. وإنما القليل من الذوق واللطف والتعقل. أظن أنكم حصلتم على ما يعادل قيمة مبلغ المائتين والخمسين دولارا الذي كنتم ترسلونه له كل عام. كان أمر إخفاء الحقيقة بعيدا عن الأنظار يستحق أكثر من ذلك بكثير.»
تبع هذا الحديث فترة صمت طويلة ومؤلمة، وحاولت أوليفيا، ملتفتة إلى سابين، أن تلومها بنظرة سريعة على التحدث بهذه الطريقة إلى السيدة المسنة. أخذت العمة كاسي تتجرع مرارة الهزيمة على نحو مثير للشفقة جدا، ليس على يد سابين وحسب، وإنما على يد هوراس بينتلاند أيضا، الذي ثأر لنفسه بدهاء، حتى بعد موته بفترة طويلة، وأصاب شغف عائلة بينتلاند بالممتلكات والملكية في مقتل.
لمع بريق الانتصار في عيني سابين الخضراوين. كانت، شيئا فشيئا، تسدد الحساب الطويل لطفولتها التعيسة؛ ولم تكن قد انتهت بعد.
فجأة غمر أوليفيا، التي كانت تراقب الصراع في عدم اكتراث، شعور بالشفقة تجاه السيدة المسنة. وكسرت حاجز الصمت الأليم بدعوتهما للبقاء لتناول الغداء، ولكن هذه المرة رفضت العمة كاسي، بكل صدق، ولم تلح عليها أوليفيا؛ إذ أدركت أنها لن تحتمل مواجهة ابتسامة سابين الساخرة إلا بعد أن تكون قد هدأت واستعادت رباطة جأشها. بدت العمة كاسي فجأة مرهقة وطاعنة في السن هذا الصباح. بدا أن الروح المتطفلة التي لا تكل ولا تمل قد ذبلت، ولم يعد في مقدورها أن تحلق في شموخ في عكس اتجاه الريح.
فجأة ظهرت السيارة الغريبة المكدسة في ممر السيارات، واحتلت الآنسة بيفي المقعد الخلفي بجسمها الممتلئ البدين وأحاطت بها أربعة كلاب بيكنواه تنبح في صخب. وتطايرت خلفها الأوشحة المتشابكة التي كانت ترتديها عند ركوب سيارة. نهضت العمة كاسي، وقبلت أوليفيا بتفاخر، ثم التفتت إلى سابين وعادت مرة أخرى إلى صلب الموضوع. وكررت قولها: «كثيرا ما كنت أقول لأخي العزيز إن مائتين وخمسين دولارا سنويا هو مبلغ أكبر بكثير مما كان يحتاجه هوراس بينتلاند.»
ابتعدت السيارة وهي تقعقع، وقالت سابين وهي تضع الخطاب على الطاولة بجوارها: «بالطبع، لا أريد كل هذه الأشياء الخاصة بابن العم هوراس، ولكني مصممة على ألا تئول إليها. فلو حصلت عليها، لن يرتاح المسن المسكين في قبره. علاوة على أنها لن تعرف ماذا تفعل بها في منزل يزخر بالشراريب وأغطية الكراسي وتذكارات العم نيد. فلن تفعل بها شيئا سوى بيعها واستثمار المال في سندات مالية مضمونة.»
قالت أوليفيا: «هي ليست على ما يرام ... تلك العجوز المسكينة. ما كانت ستطلب أن تأتي السيارة لتقلها لو كانت على ما يرام. إنها تتظاهر طوال حياتها، ولكنها الآن هي مريضة فعلا، وتهاب فكرة الموت. لا تستطيع تحملها.»
أضاءت الابتسامة القاسية والعنيدة المعهودة وجه سابين. وقالت: «أجل، بعدما حانت ساعتها ليس لديها يقين في ملكوت السماوات الذي ظلت تعظ به طوال حياتها.» ساد الصمت لبرهة قصيرة ثم أضافت سابين بتجهم: «قطعا ستثير ضيق القديس بطرس.»
لم يكن في عيني أوليفيا الداكنتين سوى الحزن؛ لأنها ظلت تفكر في أن حياة العمة كاسي كانت سطحية وعبثية للغاية. لقد أدارت ظهرها للحياة منذ البداية، حتى مع زوجها الذي تزوجته زواج مصلحة. وظلت تفكر في تلك الحياة كانت بائسة ومجدبة جدا؛ وفي مدى قلة رغدها، والذكريات فيها، وهي تكاد تصل إلى نهايتها.
عادت سابين تتحدث مجددا. فقالت: «أعرف أنك تظنين أنني عديمة الرحمة، ولكنك لا تعرفين إلى أي مدى كانت قاسية معي ... وما فعلته معي في طفولتي.» رق صوتها قليلا، ولكن شفقة على نفسها، لا على العمة كاسي. بدا كما لو أن شبح الفتاة الصغيرة الغريبة الأطوار التعيسة الصهباء التي كانت عليها في مرحلة طفولتها جاء فجأة ليقف هناك إلى جوارهما حيث كان يقف شبح هوراس بينتلاند قبل قليل. كانت الأشباح القديمة تتجمع مرة أخرى، حتى في الفناء الأمامي تحت أشعة شمس أغسطس الحامية في ظل حديقة أوليفيا المزهرة الجميلة.
تابعت سابين حديثها بنبرة حادة قائلة: «أخرجتني إلى الدنيا لا أفقه شيئا فيها سوى ما هو زائف، مؤمنة - وكم كان قليلا ما كنت أؤمن به - بآلهة باطلة، معتقدة أن الزواج ليس إلا عقد شراكة تجارية بين شاب وفتاة يمتلكان ثروة. كانت تسمي الجهالة براءة وتستشهد بالكتاب المقدس والفيلسوف إيمرسون السخيف ... «السيد إيمرسون العزيز» ... في كل مرة أسألها سؤالا مباشرا ومنطقيا ... والإنجاز الوحيد الذي حققته كان أنها جعلتني متعطشة للحقائق - الحقائق القاسية الصريحة - السائغة أو البغيضة.»
اختلطت عاطفة محمومة نوعا ما بنبرة الصوت الرنانة، مما أكسبها حرارة وجمالا غير مألوف. وأردفت قائلة: «أنت لا تعرفين قدر المسئولية التي تتحملها تجاه ما حدث في حياتي. فهي ... ومن على شاكلتها جميعا ... اغتالوا حظي في السعادة والشعور بالرضا. جعلتني أخسر زوجي ... ما الفرصة التي كنت أملكها مع رجل أتى من عالم أقدم وأحكم ... عالم ينظر فيه إلى الأمور بإنصاف وأمانة باعتبارها حقيقة ... رجل كان يتوقع من النساء أن يكن نساء لا ألواح ثلج خجولة؟ كلا، لا أظن أنني سأسامحها يوما ما.» توقفت عن الكلام للحظة، متأملة، ثم أضافت قائلة: «وأيا كان ما فعلته، وأيا ما كانت الفظائع التي ارتكبتها، وأيا ما كان الهراء الذي كانت تعظ به، دائما ما كان باسم الواجب ودائما ما كان «من أجل مصلحتك يا عزيزتي».»
ثم فجأة، بابتسامة مرارة، تبدل أسلوبها بالكامل واتخذ مرة أخرى مسحة معهودة من الضجر المشوب باليأس. وأردفت تقول: «لا يسعني أن أخبرك بكل شيء يا عزيزتي ... فللقصة جذور عميقة جدا. نحن جميعا فاسدون هنا ... ليس فسادا بقدر ما هو تيبس؛ لأنه لم يكن يوجد ما يكفي من الدماء بداخلنا لنفسد ... الجذور متوغلة بعمق ... ولكن لن أزعجك مرة أخرى بكل هذا، أعدك بذلك.»
بينما كانت أوليفيا تصغي إليها، أرادت أن تقول لها: «أنت لا تعرفين قدر الدماء التي هنا داخل منزل عائلة بينتلاند ... أنت لا تعرفين أنهم لا ينتمون إلى عائلة بينتلاند على الإطلاق، وإنما هم نسل سافينا دالجيدو وتوبي كاين ... ولكن حتى ذلك لم يكن مهما ... فأجواء نيو إنجلاند ذاتها، وتربتها ذاتها، قد تغيرت، وأصابتهم بالتيبس.»
ولكنها عجزت عن قول ذلك؛ لأنها أدركت أن قصة تلك الخطابات يجب ألا تصبح بحوزة سابين المجردة من المبادئ أبدا.
قالت أوليفيا بهدوء: «هذا لا يزعجني. هذا لا يزعجني. أتفهمه جيدا.»
أشعلت سابين سيجارة أخرى، وقالت بنبرة تغيرت فجأة: «على أي حال، لقد أفسدنا ما يكفي من يوم رائع بالحديث عن هذا الأمر. أما بخصوص هذا الأثاث، يا أوليفيا ... فأنا لا أريده. لدي منزل في باريس مليء بأشياء كهذه. ولن أعرف ما يتعين فعله به ولا أظن أن لدي الحق في تقسيمه وبيعه. أريدك أن تأخذيه وتضعيه هنا في منزل عائلة بينتلاند ... سيكون هوراس بينتلاند راضيا لو آل إليك أنت وابن عمه جون. وستكون حجة للتخلص من بعض الخردة الفيكتورية وبعض الأغراض الأمريكية البائدة البشعة. كثيرون سيشترون الأغراض الأمريكية البائدة. فأفضلها ليس إلا نسخا مقلدة رديئة من التحف الأصلية التي جمعها هوراس بينتلاند، وحري بك أن تقتني التحف الأصلية.»
أبدت أوليفيا اعتراضها، ولكن سابين استمرت في ضغطها، ولم تتح لها وقتا لتتكلم. وتابعت حديثها قائلة: «أريدك أن تقبلي. سيكون كرما منك تجاهي ... وفي نهاية المطاف، يجب أن يكون أثاث هوراس بينتلاند هنا ... في منزل عائلة بينتلاند. سآخذ شيئا أو شيئين من أجل تيريز، ويجب أن تحتفظي أنت بالباقي، وفقط لا ينبغي أن يذهب أي شيء ... ولا حتى ميدالية أو علبة نشوق ... إلى العمة كاسي. كانت تكرهه وهو على قيد الحياة. وسيكون من الجور أن تحتفظ بأي شيء يخصه بعد وفاته. علاوة على ذلك، يمكن لقطعة أثاث جديدة أن تسهم أيما إسهام في جعل المنزل مبهجا. كان هذا المنزل خاليا وباردا دائما. إنه بحاجة إلى القليل من الأناقة وقدر من الفخامة. فلم يكن هناك أي مظهر من مظاهر الفخامة في عائلة بينتلاند؛ أو في نيو إنجلاند بأكملها، فيما يخص تلك المسألة.»
2
في نفس اللحظة تقريبا التي دخلت فيها أوليفيا وسابين إلى المنزل العتيق لتناول الغداء، ظهر سيبيل وجان عند الأفق على حافة التل الأجرد المهيب الذي تتوجه مقابر البلدة. بعيدا عن عيون تيريز الفضولية اللحوحة، كانا قد صعدا إلى التل ليتناولا الغداء في الهواء الطلق. كان نهارا صافيا على نحو رائع، وامتد المشهد المألوف أسفل منهما مثل خريطة مترامية الأطراف تمتد على مسافة تضاهي ثلاثين ميلا تقريبا. بدت الأهوار خضراء وداكنة، يقطعها على نحو متكرر تشابك مداخل المد والجذر التي ترددت عليها في فترة الغسق زوارق صغيرة محملة بالويسكي وشراب الروم آتية من البحر المفتوح. ومن بعيد، كانت أكوام من الصخور الحمراء ترتفع من شريط الشاطئ الأبيض المتصل بلا نهاية، وبعيدا على البحر الأرجواني تحرك قاربان من قوارب الصيد ذات الأشرعة البيضاء مبتعدين صوب جلوستر. حملت الأشرعة البيضاء، المتقارب بعضها من بعض، قدرا من الود الحميمي في عالم مهيب ولكنه موحش وقاحل قليلا.
وما إن وصلا إلى حافة التل، حتى أوقفهما للحظة التكشف المفاجئ للمشهد الطبيعي. كان اليوم حارا، ولكن على هذا التل المهيب، بعيدا عن المروج الرطبة المنخفضة، كانت تهب رياح باردة منعشة، أقرب إلى عاصفة، آتية من البحر المفتوح. خلعت سيبيل قبعتها وألقتها على الأرض وتركت النسيم يداعب خصلات شعرها المتشابك في كتلة داكنة تحيط بوجهها اليافع الجاد الملامح؛ وفي اللحظة نفسها أمسك جان، الذي تملكته رغبة عارمة ومفاجئة، بيدها في هدوء. لم تحاول أن تسحبها؛ وإنما بكل بساطة وقفت في هدوء، كما لو أنها لا تعي شيئا سوى الجمال الجامح للمشهد الطبيعي الممتد أسفل منهما وشعور بقرب الفتى منها. بدا أن الخوف القديم من الوحدة والاكتئاب قد تلاشى تدريجيا عنها؛ هنا على هذا التل البني السامق، والعالم كله ممتد تحتهما، بدا لها أنهما كانا وحدهما تماما ... أول وآخر شخصين في العالم كله. كانت تدرك أن شيئا مثاليا كان قد حدث لها، مثاليا للغاية ومتجاوزا لعالم تخيلاتها الشديد الرومانسية لدرجة أنه كاد يبدو غير حقيقي.
حلق نحوهما سرب من طيور النورس البيضاء اللامعة، المندفعة من ناحية البحر، تنعق بجموح، فقالت سيبيل: «ينبغي أن نجد مكانا لنتناول فيه الطعام.»
لقد تولت عن سابين مهمة اصطحاب جان لمشاهدة هذا الركن الصغير من بلاده، واليوم كانا قد جاءا لرؤية المشهد من عند المقابر وقراءة النقوش الغريبة العتيقة الممسوحة على شواهد القبور. وما إن دخلا المقبرة، حتى أفضيا على الفور تقريبا إلى البقعة الصغيرة المخصصة منذ زمن بعيد للمهاجرين الذين يحملون اسم عائلة بينتلاند؛ وهو ركن كان الآن يكاد يمتلئ بصفوف مرتبة من القبور. وقفا بجوار أحدث قبرين، اللذين كانا لا يزالان جديدين ومغطيين بطبقة عشبية حديثة العهد، وبدأت في صمت تفصل الزهور التي كانت قد أتت بها من حديقة والدتها إلى باقتين كبيرتين.
قالت مشيرة إلى القبر الذي عند قدمها: «هذا قبره. والقبر الآخر لابن العم هوراس بينتلاند، الذي لم أره مطلقا. توفي في مدينة منتون ... هو ابن عم لجدي من الدرجة الأولى.»
ساعدها جان في ملء المزهريتين بالماء ووضع الزهور فيهما. وعندما انتهت من ذلك وقفت وهي تطلق تنهيدة، منتصبة القامة جدا ببنيتها الضئيلة، قائلة: «تمنيت لو أنك تعرفت عليه، يا جان. كنت ستحبه. كان يتمتع دوما بروح الدعابة وأحب كل شيء في الدنيا ... إلا أنه لم يكن يتمتع بالقوة الكافية لفعل أي شيء سوى الاستلقاء في الفراش أو الجلوس في الشرفة الأمامية في أشعة الشمس.»
انهمرت الدموع من عينيها بهدوء، ليس حزنا على أخيها، وإنما إشفاقا على حياته البائسة الواهنة؛ وأمسك جان، متأثرا بشعور فوري بالرثاء، بيدها مرة أخرى وهذه المرة قبلها، بتلك الطريقة الوقورة غير المألوفة التي كان يفعل بها مثل هذه الأمور.
كانا الآن قد عرف أحدهما الآخر على نحو أفضل، أفضل كثيرا من صباح اليوم الساحر الذي أمضياه عند حافة النهر؛ وفي أحيان، كهذه، كان من شأن الكلام أن يفك التعويذة السحرية الثمينة بأكملها. تراجع الشعور بالخجل بينهما ليحل محله شعور بالرهبة تجاه ما كان قد حدث لهما. في تلك اللحظة، أراد أن يحتفظ بها إلى الأبد هكذا ، معه بمفردها، على هذا التل الأجرد المرتفع، ليحميها ويشعر بوجودها إلى جواره دائما تلمس ذراعه برفق. هنا، في مثل هذا المكان، من شأنهما أن يكونا في مأمن من كل التعاسة والعناء اللذين عرف بطريقة مبهمة أنهما كانا لا محالة جزءا من الحياة.
وبينما كانا يسيران في الدرب الضيق بين صفوف الحجارة العتيقة البالية المتكسرة، توقفا من آن لآخر ليقرآ النقوش الباهتة المتآكلة المكتوبة على الأضرحة بلغة الكتاب المقدس البليغة التي كان يستخدمها المستعمرون الأوائل الأشداء؛ وأحيانا كان يخالجهما شعور بالاستمتاع، وأحيانا أخرى كانا يشعران بالحزن بسبب العبارات العاطفية غير المألوفة. مرا أمام صفوف قبور آل سترازرس وآل فيذرستون وآل كانز وآل مانرينج، الذين صاروا ترابا منذ أمد بعيد، الأسماء الشهيرة في نيو إنجلاند، ذلك الركن الصغير من العالم؛ وأخيرا مرا على مجموعة صغيرة من القبور منقوش على كل شاهد منها اسم ميلفورد. هناك لم يكن يوجد أي نصب تذكاري جديد؛ نظرا لأن العائلة كانت قد اختفت منذ زمن طويل من عالم دورهام.
ووسط هذه القبور وقف جان فجأة، وانحنى فوق شاهد أحد القبور وقال: «ميلفورد ... ميلفورد ... هذا غريب. كان لي جد أكبر يدعى ميلفورد وكان ينحدر من هذا الجزء من البلاد.» «كان يوجد كثيرون يحملون اسم ميلفورد هنا؛ ولكن لم يعد يوجد أحد منهم بقدر ما تسعفني الذاكرة.»
قال جان: «كان جدي الأكبر واعظا. خادم أبرشية. وقاد أفراد أبرشيته جميعا إلى الغرب الأوسط. وأسسوا البلدة التي تنتمي إليها والدتي.»
للحظة لاذت سيبيل بالصمت. ثم سألته: «هل كان يدعى جوشيا ميلفورد؟» «أجل ... كان هذا اسمه.» «لقد انحدر من دورهام. وبعد أن تركها، تداعت الكنيسة شيئا فشيئا. لا تزال قائمة ... الكنيسة البيضاء الكبيرة ذات البرج العالي، بشارع هاي ستريت. صارت الآن متحفا فقط.»
ضحك جان. وأردف قائلا: «إذن، نحن لسنا متباعدين جدا، في نهاية المطاف. يبدو كما لو أننا أقارب.» «أجل؛ لأن أحد أفراد عائلة بينتلاند تزوج بالفعل من عائلة ميلفورد، قبل فترة طويلة ... أكثر من مائة عام على ما أظن.»
أسعدها هذا الاكتشاف بطريقة مبهمة، ربما لأنها أدركت أن هذا جعله يبدو أقل شبها بما كانت عائلة بينتلاند تدعوه «دخيلا». فلن يكون من الصعب أن تقول لوالدها: «أريد أن أتزوج جان دي سيون. تعلم أن أجداده انحدروا من دورهام.» كان من شأن اسم ميلفورد أن يترك انطباعا لدى رجل مثل والدها، الذي كان يهتم بالأسماء اهتماما شديدا؛ ولكن جان لم يكن قد طلب منها الزواج بعد. لسبب ما التزم الصمت، ولم ينبس ببنت شفة بخصوص الزواج، وعكر الصمت صفو سعادتها بالقرب منه.
قال جان، وهو مستغرق في التفكير فجأة، كحال الرجال دوما، في هذه المسألة المحددة الخاصة بالأسلاف: «هذا غريب. لا بد أن بعض أفراد عائلة ميلفورد هؤلاء أجداد مباشرون لي، وليس لدي أدنى فكرة أيهم كذلك.»
قالت: «عندما ننزل من التل، سأصطحبك إلى المصلى الكنسي وأريك اللوحة التذكارية التي تسجل رحيل القسيس جوشيا ميلفورد المبجل وأبرشيته.»
أجابته دون حتى أن تفكر فيما تقوله، وقد أصابتها خيبة الأمل فجأة من أن الاكتشاف قطع عليهما قطعا حالة المثالية التي جمعتهما قبل قليل. •••
وجدا بقعة عشبية تحميها من شمس أغسطس أوراق شجرة كرز برية غير مكتملة النمو، تشابكت جميع أوراقها بفعل نسائم البحر، وهناك جلست سيبيل لتفتح السلة وتخرج الغداء؛ الدجاج والشطائر المقرمشة والفاكهة. بدا الأمر كله مغامرة، كما لو أنهما كانا بمفردهما على جزيرة صحراوية، وهذا التظاهر البسيط جعلها تشعر بنوع جديد من المتعة، متعة فطرية وجدتها في خدمته بينما وقف ينظر إليها بابتسامة إعجاب صريحة.
وعندما انتهت، استلقى بكامل جسده على العشب إلى جوارها، ليأكل بشهية رجل قوي يتمتع بصحة جيدة ميال إلى ممارسة التمارين البدنية العنيفة. تناولا الطعام في صمت تقريبا، ولم يتبادلا سوى عبارات قليلة، وهما يتطلعان إلى الأهوار والبحر. ومن وقت إلى آخر، كانت تدرك أنه يراقبها ببريق غريب في عينيه الزرقاوين، وعندما انتهيا من تناول الطعام، جلس القرفصاء مثلما يجلس خياط، ليدخن؛ وبعد هنيهة، قال دون أن ينظر إليها: «منذ قليل، عندما صعدنا لأول مرة على التل ، سمحت لي أن أمسك يدك، ولم تمانعي.»
ردت سيبيل بسرعة: «أجل.» وبدأت ترتجف قليلا، في خوف ولكن بسعادة جامحة. «هل كان هذا لأن ... لأن ...» وتلعثم للحظة بحثا عن الكلمات، وأخيرا وجدها، فتابع حديثه سريعا: «لأنك تشعرين بما أشعر به؟»
أجابته همسا. وقالت: «لا أعرف»، وشعرت فجأة برغبة عارمة في البكاء.
قال بسرعة: «أقصد أنني أشعر بأن كلا منا خلق من أجل الآخر ... بشكل مثالي.» «أجل ... يا جان.»
لم يمهلها حتى تنهي كلامها. واندفع، وقد سيطرت عليه موجة عاطفية صبيانية غامرة، قائلا: «تمنيت لو لم يكن الحديث ضروريا. فالكلمات تفسد كل شيء ... إنها ليست جيدة بما يكفي ... كلا، يجب أن تتقبليني، يا سيبيل. أحيانا، أكون بغيضا وضيق الصدر وأنانيا ... ولكن يجب أن تتقبليني. سأبذل قصارى جهدي لإصلاح نفسي. سأجعلك سعيدة ... سأفعل أي شيء من أجلك. ويمكننا أن نسافر إلى أي مكان في العالم ... دوما معا، ولن نفترق أبدا ... كما نحن هنا الآن، على قمة هذا التل.»
ودون أن ينتظر منها إجابة، قبلها بسرعة، برقة حانية جعلتها تبكي مرة أخرى. وأخذت تقول مرارا وتكرارا: «أنا سعيدة جدا، يا جان ... سعيدة جدا.» ثم قالت في خجل: «يجب أن أعترف لك بشيء ... كنت أخشى ألا تعود أبدا، ورغبت فيك دوما ... منذ اللحظة الأولى. أقصد أنني كنت أرغب في أن تكون لي من البداية ... منذ ذلك اليوم الأول في باريس.»
وضع رأسه في حجرها بينما أخذت تمسد شعره الأصهب الكثيف، في صمت. وهناك عند المقابر، وعاليا فوق مستوى البحر، نسيا نفسيهما في الوهم الذي يستحوذ على العشاق الشباب من أمثالهما ... بأنهما كانا بالفعل قد وصلا إلى حياة ... بدلا من أن تكون في مستهلها، كانت بالفعل كاملة ومثالية.
وتابعت: «عزمت دوما على الارتباط بك ... يا جان. وبعد أن جئت إلى هنا ولم تأت لمقابلتي ... قررت أن أسعى وراءك ... خشية أن تهرب مرة أخرى. كنت عديمة الحياء ... وماكرة أيضا ... في صباح ذلك اليوم الذي لقيتك فيه عند النهر ... لم ألقك صدفة. عرفت أنك كنت هناك طوال الوقت . اختبأت في الأجمة وانتظرتك!» «ما كان هذا ليحدث أدنى فارق. أنا أيضا عزمت على الارتباط بك.» وارتسم على الوجه اليافع تعبير متجهم هلع مفاجئ. وأردف قائلا: «لن تدعي شيئا يغيرك، أليس كذلك؟ أي شيء ربما يقوله أي أحد ... أي شيء قد يحدث ... أي شيء؟»
رددت قائلة: «أي شيء. أي شيء في هذه الدنيا. لا شيء يمكن أن يغيرني.» «ولن تمانعي الرحيل من هنا معي؟» «بلى ... أود ذلك. هذا ما أردته دوما. سيسعدني أن أرحل من هنا.» «حتى إلى الأرجنتين؟» «إلى أي مكان ... إلى أي مكان على الإطلاق.» «يمكننا أن نتزوج قريبا جدا ... قبل أن أرحل ... ثم يمكننا السفر إلى باريس لزيارة أمي.» اعتدل في جلسته وعلت وجهه نظرة غريبة مضطربة. وأضاف قائلا: «إنها امرأة رائعة يا عزيزتي ... جميلة ولطيفة وجذابة.» «ظننت أنها كانت جميلة ... في ذلك اليوم بباريس ... أروع امرأة رأيتها في حياتي يا عزيزي جان.»
بدا أنه لم يكن يصغي إليها. بدأت الرياح تسكن مع ارتفاع حرارة الجو في فترة ما بعد الظهيرة، وبعيدا وسط البحر الأرجواني استقر القاربان الشراعيان بلا حراك. وحتى أوراق شجرة الكرز البري المتشابكة كانت تتدلى في تخاذل وخمول في الجو الحار. صار العالم بأكمله من حولهما في حالة من الهدوء والسكون.
التفت إليها، وأمسك يديها ونظر إليها. وقال: «ثمة شيء يجب أن أقوله لك ... يا سيبيل ... شيء ربما لن يعجبك. ولكن يجب ألا تدعيه يحدث أي فارق ... في النهاية، أشياء كهذه لا تهم.»
قاطعته قائلة: «إن كان الأمر متعلقا بالنساء ... فأنا لا أكترث بذلك. أعرف من أنت، يا جان ... لن يغير أي شيء آخر سأعرفه من موقفي الذي أنا عليه الآن ... أنا لا أكترث.» «كلا ... ما أريد أن أخبرك به لا يخص النساء. وإنما يخص والدتي.» حدق بها مباشرة، بنظرة نافذة. ثم أردف قائلا: «ما أريد أن أقوله لك ... إن أمي وأبي لم يتزوجا مطلقا. وإنما تبناني السيد دي سيون المسن الطيب ... لا حق لي في حمل الاسم ... حقا. فاسمي الحقيقي هو جون شين ... لم يتزوجا مطلقا، لكن الأمر ليس كما يبدو. إنها سيدة عظيمة، أعني والدتي، ورفضت الزواج من أبي لأنها ... تقول ... تقول إنها اكتشفت أنه لم يكن كما كانت تحسبه. توسل إليها. وقال إن الأمر دمر حياته بأكملها ... ولكنها ما كانت لتتزوجه ... ليس لأنها كانت ضعيفة، وإنما لأنها كانت قوية. ستفهمين ذلك حين تعرفينها.»
ما قاله كان سيصدمها على نحو أعمق من ذلك لو لم تستحوذ عليها رغبة عارمة في التمرد على كل العالم الذي حولها، كل التحيزات وسوء الفهم الذي عرفت من منطلق حكمتها الفتية أنه سيقف عائقا أمامها هي وجان. وفي هذه الحالة المعنوية، صارت والدة جان في نظرها رمزا للبطولة، امرأة جديرة بالإعجاب.
مالت نحوه. وقالت: «هذا لا يهم ... على الإطلاق يا جان ... فأشياء كهذه لا تهم في النهاية ... كل ما يهم هو المستقبل ...» أشاحت بنظرها بعيدا عنه وأضافت بصوت خفيض: «علاوة على أن ما أنا بصدد أن أقوله لك أسوأ بكثير من ذلك.» ضغطت على يده بشدة بالغة. وأردفت قائلة: «لن تدعه يغيرك؟ لن تتخلى عني؟ ربما تعرفه بالفعل ... وهو أن لدي جدة مجنونة ... لقد فقدت عقلها طيلة سنوات ... طوال حياتها تقريبا.»
أسرع بتقبيلها. وقال: «كلا، لا يهم ... لا شيء يمكن أن يجعلني أفكر في التخلي عنك ... لا شيء في العالم.» «أنا سعيدة جدا، يا جان ... أشعر بسكينة بالغة ... كأنك أنقذتني ... كأنك غيرت حياتي بأكملها. لقد ساورني الخوف أحيانا ...»
ولكن كدرت غمامة مفاجئة صفو سعادتهما ... الغمامة التي لم تبرح أبدا منزل عائلة بينتلاند.
إذ قال: «لن تدعي والدك يفرق بيننا يا سيبيل ... إنه لا يحبني ... من السهل ملاحظة ذلك.» «كلا، لن أدعه يفعل.» توقفت فجأة عن الحديث. ثم تابعت قائلة: «ربما يبدو ما سأقوله مروعا ... لا ينبغي أن آخذ ما يقوله والدي في أي شيء مسلما به. لن أدعه يؤثر علي. لقد أفسد حياته وحياة أمي أيضا ... أشعر بالأسى على والدي ... إنه غافل تماما ... ويقلق كثيرا ... دوما على أشياء لا تهم.»
جلسا في صمت لفترة طويلة، وكانت سيبيل قد أغمضت عينيها واستندت عليه، حين سمعته فجأة يقول هامسا في غضب: «تيريز اللعينة تلك!» فرفعت بصرها ورأت على حافة التل فيما وراء شواهد القبور المتآكلة، تيريز بجسدها الممتلئ، متسلحة بشبكة صيد الحشرات وحقيبة ظهر تزخر بطعام الغداء. كانت واقفة وقد باعدت ساقيها كثيرا، تحدق فيهما بعينيها الرماديتين الغريبتين بتعبير خبيث هزلي. ومن ورائها في نصف دائرة وقف جيش صغير من أطفال بولنديين متسخين كانت قد جندتهم لمساعدتها في جمع الحشرات. عرفا أنها كانت قد تعقبتهما عن قصد للتجسس عليهما، وأنها ستتظاهر بلطف بأنها عثرت عليهما بمحض الصدفة.
سألها جان هامسا في غضب: «هل نخبرها؟» «كلا ... لا تخبر أحدا بأي شيء في دورهام.»
انكسر السحر الآن وبدا الغضب على جان. هب واقفا وهو يصيح في تيريز قائلا: «اذهبي وطاردي حشراتك العتيقة ودعينا وشأننا!» أدرك أن تيريز كانت، مثل أمها، تراقبهما من ناحية علمية، كما لو أنهما زوج من الحشرات.
3
لم يكن آنسون رجلا خبيثا بطبعه أو حتى مقيتا بدرجة كبيرة؛ فلم تكن أنشطته المضطربة باسم الأخلاق نابعة من رغبة مكبوتة ومنحرفة بداخله في الرزيلة. في الواقع، كان رجلا ذا رغبات قليلة جدا؛ إذ كان إلى حد كبير رجلا تافها وسطحيا، تبنى القضايا الأخلاقية لأنها كانت ذات صلة بتقاليده ومن ثم كان ينبغي أن يشجعها. وفي نظر سابين، كان أسوأ حالا من شخص فاسق متحرر من القيود؛ كان شخصا أخرق، ولم يكن يتسم بالذكاء الشديد، رجل لم يكن يرى بنظرته المحدودة المباشرة سوى الجزء الضئيل من العالم الذي كانت الظروف قد وضعته فيه. فبعد مرور تسعة وأربعين عاما من تدقيق النظر، صار حسير النظر، وصارت الأشياء المادية التي تحيط به - منزله، ومكتبه، وطاولته، ومنضدته وقلمه - أشياء استثنائية ومبجلة بحكم وجودها باعتبارها أدوات نافعة في أكثر المجتمعات رفعة وكمالا في الوجود. ومع أنه كان يمتلك قدرا كبيرا من اللباقة الاجتماعية المعقدة، كان يفتقر حتى إلى مسحة من الدراية بالحياة، وهكذا كانت العادات والتقاليد والأعراف قد حولت حياته إلى حياة باهتة وذابلة، تفتقر إلى سمة المبادرة أو الفردية، وتنزلق عبر أخدود ضيق يتسم بالرتابة والملل. وربما كان هذا هو مبعث شعور سيبيل بالشفقة تجاهه.
ونظرا لتقديسه الشديد لعادات عالمه الرتيب الممل، كان يظل قانعا بل ولطيفا ما دامت كرامته لم تتعرض للاعتداء؛ وهي مسألة مقدسة ومعقدة شملت بيته وأصدقاءه وأوساط معارفه وأسلافه، وحتى الممتلكات الصغيرة التي سمح له والده بامتلاكها. غير أن هذه الكرامة كانت أيضا في حد ذاتها مسألة هشة، وعرضة للانهيار بسهولة ... وكأنها قوقعة رقيقة تحيط به وتحميه. وعكف هو على حمايتها بحماس صبياني مستميت. وفي حين أن كل تهديدات العمة كاسي وتوسلاتها لم تكن تدفعه إلى الإقدام على أي تصرف قاطع أكثر من اللجوء إلى المراوغة المضطربة، فإن تهديد أي من الأشياء التي كانت تقع في حيز كرامته كان يطلق العنان لكراهية غير متوقعة وبغيضة.
كان يكره أوهارا ربما لأنه أدرك أن الأيرلندي كان ينظر إليه وإلى عالمه بسخرية واستهزاء؛ وكان أوهارا وأمثاله من الأيرلنديين - المنتمين إلى الحزب الديمقراطي (حسبما ظن آنسون) ولذلك كان يعتبرهم حثالة البشر - هم من أطاحوا بالنموذج المثالي الهادئ الراسخ للحياة في بوسطن. وكان يكره سابين للأسباب نفسها؛ ومنذ أول لحظة كان قد قرر أن يبغض «ذلك الشاب دي سيون» لأن الشاب بدا قائما بذاته تماما، مستقلا عن تلك المقدسات، دون أي بادرة احترام تجاهها. كما أنه كان متحالفا تحالفا وثيقا مع أوهارا وسابين و«تيريز الغريبة الأطوار».
ساورت أوليفيا الشكوك بأنه كان يزداد حدة وهيسترية فقط في الأوقات التي يعصف به فيها الشك في أنهم يستهزئون به ويسخرون منه. وحينئذ كان يصبح غير مسئول عما يقوله ويفعله ... غير مسئول مثلما كان في تلك الليلة بعد الحفل الراقص. وأدركت أنه يوما بعد يوم تزداد شدة حساسيته بشأن كرامته، لأنه بدأ يفسر أصغر التلميحات باعتبارها هجوما على كرامته.
وما إن أدركت هذه الأمور، حتى بدأت تعامله دوما معاملة الأطفال، فتمازحه وتسايره حتى تحقق مرادها في النهاية، بثبات ويسر. ولقد اتبعت معه هذه الطريقة في المعاملة في مسألة تغيير أثاث المنزل. فعلما منها بأنه كان منهمكا في إنهاء الفصول الأخيرة من كتاب «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس»، اقترحت عليه أن ينقل منضدته إلى «غرفة الكتابة» النائية حيث ستقل المقاطعات التي تسببها له أنشطة الأسرة؛ واعتبر آنسون ذلك اقتراحا ممتازا، اعتقادا منه بأن زوجته تأثرت أخيرا بأهمية عمله وعظمته. حتى إنه ابتسم وشكرها.
ثم، بعد أن استشارت العجوز جون بينتلاند ووجدت أنه موافق على الخطة، بدأت تدريجيا في إدخال قطع أثاث هوراس بينتلاند إلى المنزل. ترددت سابين على المنزل يوميا لتراقب التقدم المحرز نحو التغيير، ولتبدي التعليقات والإعجاب وتقترح تغييرات. وساورهم شعور غريب بالحماس مع خروج القطع الفنية الجميلة واحدة تلو الأخرى من صناديقها المغلفة؛ فخرجت من وسط الأسمال البالية والنشارة الخشبية أروع الطاولات والخزائن، والتحف الصينية، والكتب القديمة والنقوش. وعلى التوالي نقل المكتب القبيح الذي استخدمه السيد لويل، ثم المصباح البشع الذي أهداه إليهم السيد لونجفيلو، ثم اللوحة المرسومة بألوان مائية باهتة للآنسة ماريا بينتلاند ... حتى نقلت جميع قطع أثاث المتحف العائلي إلى العلية القديمة الشاسعة؛ إلى أن ظهرت في النهاية غرفة استقبال جديدة، متألقة وجميلة، تتسم بالرقي والدفء بل وقدر من الغرابة، مزدانة بجميع الكنوز التي أمضى هوراس بينتلاند حياته في جمعها بشغف وحرص بالغين. وبهدوء ودون أن يلاحظ أحد شيئا تقريبا، استحوذ مصدر الإحراج والخزي للعائلة على المنزل، وغير طابعه بالكامل.
أحدث التغيير لدى العمة كاسي مجموعة متنوعة من المشاعر المشوشة والمتضاربة. بدا لها تدنيسا للمقدسات أن تقصى الهدايا التذكارية العائلية البالية المعتادة المنزلية المقدمة من «الأصدقاء الأعزاء» لوالدها إلى الخلفية، لا سيما على يد هوراس بينتلاند؛ ورغم ذلك كان من المستحيل أن تغفل عن القيمة الفعلية للمجموعة. لم تر القطع باعتبارها أغراضا ذات قيمة جمالية نادرة وإنما رأتها بصفتها أشياء ثمينة ذات قيمة مالية. وعلقت قائلة: «أغراض عائلة بينتلاند يجب أن توضع في منزل عائلة بينتلاند.» وتشككت في أن سابين تتبع تكتيكات ميكافيللية وعجزت عن أن تحسم أمرها بشأن ما إذا كانت سابين وهوراس بينتلاند قد انتصرا في النهاية عليها وعلى «السيد لويل العزيز» و«السيد لونجفيلو الطيب اللطيف».
والغريب في الأمر أن آنسون أعجب بالتغيير، مع بعض التحفظات. فمنذ فترة طويلة، كان قد أدرك أن غرفة الاستقبال وأجزاء كبيرة من بقية المنزل بدت في حالة رثة ومتهالكة؛ ومن ثم لم تكن تستحق شرف أن ترتبط باسم عائلة بينتلاند.
وقف آنسون عند مدخل غرفة الجلوس، متفحصا التحول، وعلق قائلا: «التأثير يبدو جيدا ... ربما قليل من بهرجة، لا تليق بوقار هذا المنزل، ولكن في المجمل ... جيد جدا. أنا نفسي أفضل كثيرا الأثاث الأمريكي القديم البسيط ...»
فقاطعته سابين فجأة قائلة: «لكنه يصعب الجلوس عليه.»
وحتى هذه اللحظة، لم يكن ثمة وجود للموسيقى مطلقا في منزل بينتلاند، وهذا لأن العائلة كانت تعتبر الموسيقى شيئا يجب أن يسمعه المرء في قاعات الحفلات الموسيقية، ويجب أن يرتدي من أجلها أفضل الثياب. كانت العمة كاسي، وبرفقتها الآنسة بيفي، قد اعتادت أن تتردد بانتظام على مدار سنوات عصر كل يوم جمعة على قاعة سيمفوني هول لتجلس هناك وعلى رأسها وشاح لا قبعة تستمع إلى «أوركسترا الكولونيل هيجينسون العزيز» (التي كان مستواها قد تراجع على نحو مؤسف منذ وفاته)، لكنها لم تتعلم مطلقا تمييز لحن عن آخر ... دائما ما كانت الموسيقى في منزل عائلة بينتلاند واجبا ثقافيا، ممارسة تشبه واجب الذهاب إلى الكنيسة. ولم تترك أي انطباع لدى العمة كاسي أكثر من تلك الرحلات الدورية إلى أوروبا، حيث كانت تأخذ عالمها معها، وتقيم دوما في فنادق تلتقي فيها بأصدقاء من بوسطن ولا تتعرض مطلقا لضغوط التعامل مع وجوه وحوارات همجية غير محببة.
والآن، وعلى نحو مفاجئ جدا، صارت الموسيقى في منزل عائلة بينتلاند شيئا نابضا بالحياة ومبهجا وإنسانيا. اختفى البيانو المربع القديم الصغير وحل محله آخر كبير وجديد اشترته أوليفيا من مالها الخاص. وفي الأمسيات، كان يتردد بين جنبات المنزل صوت أنغام مقطوعات شوبان وبرامز وبيتهوفن وباخ، بل والمؤلفين الموسيقيين المبهرجين الجدد من أمثال سترافينسكي ورافيل. وكانت السيدة سومز العجوز تأتي، عندما تكون بصحة جيدة بما يكفي لأن تجلس على أكثر الكراسي الكلاسيكية المريحة من طراز ريجنسي وإلى جوارها العجوز جون بينتلاند، تستمع إلى الموسيقى وقد عاد شبح الشباب البائد إلى عينيها العجوزتين الضريرتين تقريبا. كان صوت موسيقى جان يخترق أحيانا أبعد مكان في البيت ليصل إلى غرفة العجوز المجنونة في الجناح الشمالي وإلى غرفة الكتابة، حيث كانت تزعج آنسون أثناء عمله في تأليف كتاب «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس».
ثم ذات ليلة، جاء أوهارا بعد العشاء، مرتديا ثيابا من الواضح جدا أنها تساير أحدث صيحات الموضة. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدماه أرض عائلة بينتلاند.
4
في ذلك الحين، كانت تأتي على العمة كاسي أوقات تقول فيها لنفسها إن الحالات المزاجية الغريبة التي كانت تصيب أوليفيا كانت قد اختفت أخيرا، تاركة مكانها أوليفيا المعهودة المطيعة اللطيفة التي كانت لها دوما طريقة خاصة في تهدئة الاضطرابات في منزل عائلة بينتلاند. لم يعد هناك الهدوء المخيف المفاجئ يخيم على حواراتهما؛ ولم تعد العمة كاسي تخشى من «التعبير عن رأيها، بصراحة، من أجل مصلحتهم جميعا.» استمعت أوليفيا إليها بهدوء، وصحيح أنها كانت أكثر سعادة من ناحية أنه بدا أن الحياة في منزل عائلة بينتلاند كانت تتحسن من تلقاء نفسها؛ ولكن في قرارة نفسها، مضت بطريقتها الصامتة، تتجرع مرارة الحزن في عزلة عن الآخرين لأنها لم تكن تجرؤ على أن تضيف عبء حزنها إلى الأعباء الملقاة على كاهل العجوز جون بينتلاند. حتى سابين، التي كانت أكثر فطنة في تلك الأمور من العمة كاسي، صارت تشعر بأنها نفسها لم تعد موضع ثقة أوليفيا.
ولم تعد سيبيل، التي انتقلت سريعا من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الأنوثة، معتمدة عليها؛ كما صارت منعزلة وكتومة بخصوص جان، وتتهرب من والدتها بعبارات فارغة بعد أن كانت تأتمنها على كل الأسرار. ووراء المظهر الخارجي اللطيف والهادئ، كان يبدو لأوليفيا أحيانا أنه لم يسبق لها من قبل مطلقا أن كانت وحيدة وحدة هائلة وتامة بهذا القدر. وبدأت تلاحظ أن الحياة في منزل عائلة بينتلاند ترتبت من تلقاء نفسها إلى مجموعة من حجيرات معزولة، تشغل كل واحدة منها روح انعزلت عن الآخرين. ولأول مرة في حياتها، يتسنى لها استغراق وقت طويل في التفكير في نفسها.
مع بداية فصل الخريف، ستتم عامها الأربعين ... إذا كانت امرأة تدنو من منتصف العمر، ولها ابنة ربما تتزوج قريبا. وفي الثانية والأربعين من عمرها ربما تصبح جدة (بدا من المرجح حدوث هذا في حالة زوجين مثل سيبيل ودي سيون) ... جدة في الثانية والأربعين من عمرها ذات شعر أسود كثيف، وعينين مشرقتين، ووجه خال من التجاعيد ... امرأة في الثانية والأربعين وربما تبدو أصغر من سنها بعشر سنوات. لكن هذا لم يكن ليغير شيئا من حقيقة كونها جدة، مهما بدت شابة. وباعتبارها جدة، لم يكن في مقدورها تحمل أن تجعل نفسها مثارا للسخرية.
لعلها تستطيع أن تقنع سيبيل بأن تنتظر عاما أو عامين وبذلك تؤجل شرا لا بد منه، رغم أن تلك الفكرة كانت في نظرها ممقوتة أكثر. إذ كان الخوف الشديد الذي كان أحيانا يتملكها من فكرة تحولها تدريجيا إلى امرأة مسنة هو أيضا مبعث رفضها لتأجيل زواج سيبيل. فما كان يحدث لسيبيل لم يكن قد حدث لها مطلقا ولا يمكن أن يحدث لها الآن مطلقا؛ إذ كانت أكبر سنا وأصلب، بل وأكثر تشاؤما، من أي مما يحدث لها ذلك. فحين كان المرء صغير السن مثل جان وسيبيل، كان لديه مخزون لا ينضب من الإيمان والأمل. كان لا يزال يوجد بريق يحيط بالحياة بأكملها، ويجدر بالمرء أن يبدأ حياته هكذا. فتلك السنوات الأولى - بصرف النظر عما يأتي بعدها - ستكون الأغلى في حياتهما بأكملها؛ ومتأملة حالها، قالت في نفسها: «تتاح تلك الفرصة لقلة قليلة جدا من الناس، وقلة قليلة جدا منهم هي التي تستطيع أن تبني شيئا على أساس متين جدا هكذا.»
أحيانا كان يعاودها شعور مفاجئ بتأنيب الضمير من الإحساس القديم والمخجل بالغيرة من شباب سيبيل في تلك الليلة الخانقة بالشرفة المطلة على البحر. (بطريقة غريبة، بدا أن كل ما تكشف تدريجيا طوال الصيف كان قد نجم عن تلك الليلة).
غير أنها في النهاية، كانت تعود دوما إلى الفكرة نفسها ... وهي أنها ستضحي بكل شيء في سبيل اكتمال هذا الشيء الموجود بين سيبيل وذلك الشاب الأصهب المتلهف.
وعندما كانت تصبح صادقة مع نفسها، كانت تدرك أنها ما كان سيصيبها ذعر ولا خوف من أي شيء، باستثناء أوهارا. فلولاه، ما كانت ستخشى أبدا من فكرة التقدم في العمر، ورؤية سيبيل تتزوج، وأن تجد نفسها صارت جدة. كانت قد تضرعت إلى الرب من أجل حدوث هذه الأشياء، حتى إنها كانت قد تضرعت بأن يرسل القدر إلى سيبيل عاشقا كهذا تماما؛ والآن بعدما أجيبت تضرعاتها كانت تمر عليها أوقات تتمنى فيها بخبث لو أنه لم يأت، أو على الأقل لم يأت بهذه السرعة. وعندما كانت تصبح صادقة مع نفسها، كانت تأتيها الإجابة نفسها دوما ... وهي أن أوهارا كان قد جاء ليحتل أكبر جزء من اهتماماتها في الحياة.
وفي أكثر ركن خفي من جنبات روحها، لم تعد تتظاهر بأن مشاعرها تجاهه كانت مجرد صداقة. كانت مغرمة به. كانت تستيقظ صباح كل يوم تملؤها البهجة لتركب معه الخيل عبر المروج، سعيدة بأن مجيء سيبيل معهما صار شيئا فشيئا أقل تواترا؛ وفي الأيام التي كان يبقى فيها في بوسطن كان يبدو أن غمامة تعتم كل أفكارها وتصرفاتها. تحدثت معه عن مستقبله وخططه والتقدم الذي تحرزه حملته، كما لو أنها زوجته أو عشيقته. لعبت دور الخائنة لعالمها الذي اعتمدت حظوظه على نجاح أعدائه السياسيين ونفوذهم. وصارت تعتمد على تعاطفه السريع معها. كان لديه طريقة مميزة في استيعاب حالاتها المزاجية، وشعورها المفاجئ بالكآبة، طريقة لم يعرفها مطلقا العالم البارد والمتبلد الحس في منزل عائلة بينتلاند.
كانت صادقة مع نفسها بعد صباح ذلك اليوم الذي بينما كانا يركبا فيه الخيل معا عبر الدروب الرطبة الخفية بين أيكة أشجار البتولا، أوقف حصانه فجأة وأخبرها بلوعة أنه لم يعد بوسعه الاستمرار بالطريقة التي يتبعانها.
قال لها: «ماذا تريدين مني أن أفعل؟ لا يرجى مني نفع. لا أستطيع أن أفكر في شيء سواك ... طوال الليل والنهار. أذهب إلى بوسطن وأحاول العمل وأفكر فيك طوال الوقت ... أفكر فيما سنفعله. يجب أن تدركي الجحيم الذي أعيش فيه ... أن أكون بقربك هكذا ومع ذلك تعاملينني كصديق فحسب.»
وفجأة، عندما التفتت ورأت المعاناة في عينيه، عرفت أنه لم يعد يوجد أي مجال للشك. سألته بنبرة حزينة: «ماذا تريد مني أن أفعل؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟ أنت تشعرني بأنني أرخص وأسخف امرأة على وجه الأرض.» وأضافت بصوت خفيض قائلة: «لا أقصد أن أكون هكذا يا مايكل ... أنا أحبك يا مايكل ... ها قد أخبرتك. أنت الرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي ... ولم أكن أي مشاعر لأي أحد آخر.»
تملكه شعور غامر بالنشوة. مال عليها وقبلها، فتبلل وجهه المسمر بدموعها المنهمرة.
قالت: «أنا سعيدة جدا، ومع ذلك حزينة جدا ...» «إذا كنت تحبينني ... إذن يمكننا أن نمضي قدما في طريقنا ... لسنا بحاجة إلى التفكير في أي من الآخرين.» «أوه، الأمر ليس بهذه السهولة يا عزيزي.» لم يكن قد سبق لها أن كانت بهذا القدر من الوعي لحضوره، ولذلك الإحساس الغريب بالدفء والروعة الذي بدا أنه كان يضفيه على كل شيء يخصه.
قالت: «يجب أن أفكر في الآخرين. لا أقصد زوجي ... فلا أظنه حتى يهتم ما دام لا أحد يعرف شيئا. ولكن أقصد سيبيل ... لا أستطيع أن أجعل من نفسي أضحوكة على حساب سيبيل.»
أدركت على الفور أنها استخدمت العبارة الخطأ، وأنها جرحته؛ إذ مست دون قصد الهاجس الذي كان يتملكه أحيانا بأنها تحسبه سياسيا أيرلنديا مبتذلا وسوقيا.
سألها بنبرة يشوبها بعض المرارة: «أتظنين أن ما بيننا ... يمكن أن يطلق عليه «أضحوكة»؟» «كلا ... أنت تعرف أنني لا أقصد ذلك ... تعرف أنني كنت أفكر في نفسي فحسب ... كوني امرأة في منتصف العمر لديها ابنة في سن الزواج.» «ولكنها ستتزوج ... قريبا ... بالتأكيد. دي سيون الشاب ليس من النوعية التي تطيق الانتظار.» «أجل ... هذا صحيح ... ولكن حتى ذلك الحين.» ثم التفتت إليه بسرعة قائلة: «ماذا تريد مني أن أفعل؟ ... أتريدني أن أكون عشيقتك؟» «أريدك لنفسي ... أريدك أن تكوني زوجتي.» «أتريدني إلى هذا الحد؟» «أريدك إلى هذا الحد ... لا يمكنني أن أحتمل فكرة مشاركتك ... فكرة أنك تخصين شخصا آخر.» «أوه ... لم أعد أخص أحدا منذ سنوات طويلة ... منذ ولادة جاك.»
واصل حديثه بسرعة وحماس قائلا: «هذا من شأنه أن يغير حياتي كلها. من شأنه أن يعطيني سببا للاستمرار ... لولاك أنت ما عشت ... لأهملت كل شيء ورحلت ... لقد سئمت الحياة.» «وهل تريدني لذاتي ... أم فقط لأنني سأساعدك في حياتك المهنية وأمنحك شغفا بالحياة.» «من أجلك أنت ... ولا شيء آخر، يا أوليفيا.» «حسنا، أسألك لأنني فكرت كثيرا بخصوص هذا الأمر. أنا أكبر منك سنا، يا مايكل. الآن، أبدو شابة. ولكن في سن الأربعين سيتغير ذلك ... سأبلغ الأربعين في الخريف ... في الأربعين كون المرء أكبر سنا يشكل فارقا. فالوقت المتبقي لنا قصير ... لا يكون الأمر كما كنا في العشرينيات من عمرنا ... أسألك أيضا لأنك رجل ذكي ولماح ولا بد أنك أيضا تلاحظ هذه الأمور.» «لا شيء من هذا يشكل فارقا.» بدا عليه الحماس الشديد، ووأد بريق في عينيه الزرقاوين شكوكها. فصدقته.
وقالت: «ولكننا لا نستطيع أن نتزوج ... مطلقا، ما دام زوجي على قيد الحياة. لن يطلقني أبدا ولن يدعني أتطلق منه. فأحد معتقداته الراسخة ... أن الطلاق شيء بغيض. بالإضافة إلى أنه لم يقع طلاق أبدا في عائلة بينتلاند. وقعت أشياء أسوأ من ذلك.» ثم أضافت بمرارة: «ولكن لم يقع طلاق أبدا، ولن يكون آنسون أول من يكسر العادات والتقاليد.» «هل ستتحدثين إليه؟» «في هذه اللحظة يا مايكل، أظن أنني يمكن أن أفعل أي شيء ... حتى هذا. ولكن هذا لن يجدي نفعا.» لاذا بالصمت لبعض الوقت، واستحوذ عليهما شعور عميق باليأس، وبعد قليل قالت: «هل يمكننا الاستمرار على هذا النحو لوقت قصير ... حتى ترحل سيبيل؟» «لسنا في العشرينيات من العمر ... لا أنا ولا أنت. لا يمكننا الانتظار طويلا جدا.» «ولكن لا يمكنني التخلي عنها. أنت لا تعرف كيف هي الأمور في منزل عائلة بينتلاند. يجب أن أنقذها، حتى لو خسرت نفسي. أظن أنهما سيتزوجان قبل حلول فصل الشتاء ... بل قبل الخريف ... قبل أن يسافر. وحينئذ سأصير حرة. لا يمكنني ... لا يمكنني أن أكون عشيقتك الآن، يا مايكل ... بينما لا تزال سيبيل معي في منزل عائلة بينتلاند. ... ربما أكون مراوغة ... ربما أبدو سخيفة، ولكن هذا يحدث فارقا ... ربما لأنني عشت بينهم لمدة طويلة جدا.» «هل تعدينني بأنك ستصبحين حرة عندما ترحل؟» «أعدك بذلك، يا مايكل ... لقد أخبرتك بأنني أحبك ... وأنك الرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي ... ولم أكن أي مشاعر، ولا حتى بأدنى قدر، لأي شخص آخر.» «ستساعدنا السيدة كاليندار ... إنها ترغب في ذلك.»
أجفلت وقالت: «أوه، سابين ... هل تحدثت معها؟ هل أخبرتها بأي شيء؟» «كلا ... ولكنك لست بحاجة إلى إخبارها بأمور كتلك. فهي لديها طرق خاصة لتعرف.» ثم قال بعد لحظة: «يا إلهي، حتى هيجينز يريد ذلك. ظل يقول لي، بطريقة غير مباشرة، كما لو أنه لا يقصد شيئا مما يقوله: «السيدة بينتلاند امرأة رائعة يا سيدي. أنا أعرفها منذ سنوات. يا إلهي، لقد ساعدتني على الخروج من ورطات وقعت فيها. ولكن من المؤسف أنها محبوسة داخل تلك المقبرة مع كل أولئك الأموات. يجب أن يكون لديها زوج يكون رجلا بمعنى الكلمة. إنها متزوجة من جثة حية.».»
توردت أوليفيا خجلا. ثم قالت: «لا يحق له التحدث بتلك الطريقة.» «لو كان بإمكانك سماعه وهو يتحدث، لعرفت أن ما قاله ليس من منطلق عدم الاحترام؛ وإنما لأنه متيم بك. فمن شأنه أن يقبل الأرض التي تمشين عليها.» وأضاف، وهو يطأطئ رأسه: «يقول إنه من المؤسف أن تحبس فرس أصيلة مثلك في منزل عائلة بينتلاند. يجب ألا تنزعجي من الطريقة التي قال بها ذلك. فهو مربي خيول ولذلك يرى مثل هذه الأمور في ضوء الحقيقة.»
حينئذ أدركت ما كان أوهارا قد أخفق في فهمه -وهو أن هيجينز كان يتناول مأساة ابنها، ابن كان ينبغي أن يكون قويا ومفعما بالحيوية، مثل جان . وراودتها فكرة جامحة؛ هي أنها ربما لا يزال من الممكن أن ترزق بابن قوي، من أب كأوهارا، ابن من شأنه أن يكون وريثا لعائلة بينتلاند ولكن دون أن يحمل وصمة العائلة. ربما تقترف ما اقترفته سافينا بينتلاند من قبل. ولكنها رأت على الفور إلى أي مدى كانت هذه الفكرة سخيفة؛ لأن آنسون سيعرف جيدا أن الطفل ليس ابنه.
امتطيا حصانيهما بتمهل وفي صمت بينما ظلت أوليفيا تجول وتجول بأفكارها بسأم عبر المتاهة المظلمة والمتشابكة التي وجدت نفسها فيها. بدا أنه لا سبيل للخروج منها. كانت محاصرة وحبيسة سجن، في نفس اللحظة التي جاءتها فيها فرصة للسعادة.
وخرجا فجأة من الأجمة إلى الطريق المؤدي إلى منزل عائلة بينتلاند والمار من أمام منزل العمة كاسي الذي كان أشبه بمقصورة مراقبة، وبينما كانا يمران من البوابة، رأيا سيارة العمة كاسي العتيقة تتوقف على جانب الطريق. ولكن السيدة المسنة لم يكن لها أثر، ولكن على وقع الحوافر خرجت الآنسة بيفي بجسدها البدين ووجهها السخيف من بين الشجيرات على جانب الطريق، وقد تأبطت تحت ذراعيها الممتلئتين حزما كبيرة من عشب ما.
ألقت التحية على أوليفيا وأومأت برأسها لأوهارا. وصاحت قائلة: «كنت أجمع النعناع البري من أجل قططي. إنه ينمو جيدا وبكثافة في الأرض الرطبة بالقرب من الينبوع.»
ابتسمت أوليفيا ... ابتسامة أوجعتها وجعا محسوسا ... وواصلا سيرهما وقد أدركا أن عيني الآنسة بيفي الفيروزيتين تتبعانهما. كانت تعرف أن الآنسة بيفي حمقاء وبريئة للغاية لدرجة أنها لن تشك في أي شيء، ولكنها، بلا أدنى شك، ستذهب مباشرة إلى العمة كاسي بوصف تفصيلي عن اللقاء. فحياة الآنسة بيفي كانت غير مليئة بالأحداث ولقاء كهذا كان يحتل أهمية كبرى. وستجمع منها العمة كاسي جميع التفاصيل الصغيرة والكبيرة، مثل حقيقة أن أوليفيا بدت وكأنها كانت تبكي.
التفتت أوليفيا إلى أوهارا. وقالت: «الآنسة بيفي المسكينة ليست خبيثة؛ ولكنها حمقاء، وهذا أخطر بكثير.»
الفصل التاسع
1
مع اقتراب شهر أغسطس من نهايته، لم يعد هناك أدنى شك في «تدهور» حالة العمة كاسي؛ وهو ما أكده الصمت التام الذي أحاطت به حالتها الصحية. فعلى مدار أربعين عاما، كان المرء يناقش الحالة الصحية للعمة كاسي مثلما يناقش حالة الطقس؛ باعتباره شيئا له حضور دائم في وعي المرء ولا يمكنه أن يفعل شيئا بشأنه، أما الآن فقد توقفت العمة كاسي فجأة عن الحديث عن صحتها بأي شيء. بل وتخلت أيضا عن عادتها المتمثلة في التجول سيرا على الأقدام وعمدت إلى إجراء جولات زياراتها بالسيارة الصاخبة التي كانت تعارض ركوبها إلى حد الخوف والكره؛ وصارت تعتمد أكثر فأكثر على صحبة ومعونة الآنسة بيفي النشيطة. وبزعم الخوف من اللصوص، كانت قد جعلت الآنسة بيفي تنقل الفراش إلى الغرفة المجاورة لغرفتها وتركت الباب بينهما مفتوحا. اكتشفت أوليفيا أنها أصيبت بخوف شبه مرضي من أن تترك بمفردها.
وهكذا أضيفت وطأة إحباط إصابة فرد من العائلة بعلة أخرى إلى العبء الثقيل الذي خلفته وفاة جاك وحزن جون بينتلاند. وزادت مهمة تبديد سحابة الكآبة التي خيمت على المنزل العتيق أكثر وأكثر من ثقل العبء الملقى على عاتق أوليفيا. ظل آنسون كالمعتاد غير مبال بأي تغيرات في الحياة من حوله، يعيش حياته فعليا في الماضي بين أكوام الأوراق البالية، رجلا كان حاله أقرب إلى انعدام العاطفة والحيوية من أن يكون قاسيا؛ لأن طبيعته لم تكن تتسم بالحيوية أو اليقظة؛ وإنما بجمود شديد فحسب، وتفتقر إلى أي حماس. وكان من المستحيل اللجوء إلى سابين، التي بدت على نحو غريب باردة ومنفصلة عن الواقع مثل آنسون؛ بدت وكأنها تقف على مسافة بعيدا عنهم، تنتظر، وتراقبهم جميعا، حتى أوليفيا نفسها. وبالطبع، كان من المستبعد تماما أن تعكر صفو سعادة سيبيل باللجوء إليها طلبا للدعم.
كان هناك على الأقل أوهارا، الذي زاد تردده على منزل عائلة بينتلاند، بعد أن تمت الزيارة الأولى وأذيب الجليد. التقى به آنسون ذات مرة في الرواق، ببرود؛ ولكنه كان قد صار على علاقة ودية للغاية مع جون بينتلاند العجوز. كانا يتمتعان باهتمام مشترك بالخيول والكلاب والماشية؛ وإذ كان أوهارا، الذي ولد في أحياء بوسطن الفقيرة، لا يعرف سوى القليل جدا عن أي من هذه الموضوعات، فلعله وجد النبيل العجوز مصدرا قيما للمعلومات. وقال لأوليفيا: «ما كنت لآتي إلى المنزل لولاك. لا أطيق فكرة وجودك هنا ... وحدك دائما ... مهمومة دائما.»
وفي الأمسيات، بينما كانوا يلعبون البريدج أو يستمعون إلى موسيقى جان، كانت أحيانا تضبطه يراقبها وفي عينيه نظرة الإعجاب المعهودة، وكأنه يقول لها إنه على استعداد ليدعمها مهما حدث.
وبعد أسبوع على اللقاء بالآنسة بيفي عند حوض النعناع البري، أتى بيترز إلى غرفة أوليفيا في وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة ليقول لها، بنبرة هي مزيج غريب من الاحترام والائتمان على سر: «لقد مرض مرة أخرى، يا سيدة بينتلاند.»
عرفت ما كان بيترز يقصده؛ إذ كانت هذه أشبه بشفرة بينهما ... فقد استخدمت العبارة نفسها مرات عديدة من قبل.
توجهت بسرعة إلى غرفة المكتبة الضيقة الشاهقة التي فاحت منها رائحة الكلاب والتفاح ودخان الخشب، وهي تعلم جيدا ما كانت بصدد أن تجده هناك؛ وما إن فتحت الباب حتى رأته، مستلقيا يغط في النوم على الكرسي الجلد الضخم. كانت رائحة الويسكي الخفيفة - وهي رائحة صارت منذ وقت طويل تملؤها دوما بالذعر - عالقة في الجو، وعلى المكتب الماهوجني وضعت ثلاث زجاجات ويسكي، كل زجاجة منها شبه فارغة. نام نوما هادئا، بذراع ملقاة على صدره، والأخرى متدلية إلى الأرضية، حيث استقرت الأصابع النحيلة بإنهاك على السجادة التركية الحمراء. كان ثمة شيء طفولي في حالة السكينة التي كانت تحيط به. بدا لأوليفيا أنه كان الآن متحررا من المتاعب التي كانت منذ زمن بعيد قد تركت أثرها في الخطوط الجامدة والقاسية للوجه المسن. كانت الخطوط قد زالت، تلاشت بطريقة أو أخرى، غمرها الهدوء الشديد الذي اتسم به هذا الموت الظاهري. لعله لم يكن يغط في نوم هادئ، بلا أحلام مزعجة، إلا هكذا. ولم يكن يهرب أبدا إلا هكذا.
وقفت عند المدخل تراقبه لبعض الوقت، في هدوء، ثم التفتت وقالت لبيترز: «هلا أخبرت هيجينز؟» وما إن مرت عبر الباب حتى أسدلت الستائر القطيفة الحمراء اللون، لتحجب أشعة شمس الأصيل.
جاء هيجينز، كما فعل من قبل مرات كثيرة، ليغلق الباب ويجلس في الغرفة، بل ولينام على الأريكة الجلدية البالية، إلى أن يستيقظ جون بينتلاند ببطء وينظر حوله ذاهلا، ليكتشف أن سائسه جالس في الغرفة نفسها، يلمع لجاما أو زوجا من أحذية ركوب الخيل. لم يكن الرجل الضئيل البنية يجلس بلا عمل أبدا. ففي قرارة نفسه كان شيء ما يطالبه بالعمل: يجب أن يفعل شيئا دوما. وهكذا، عقب هذه الأوقات الكئيبة، ظلت رائحة جديدة عالقة لأيام في أجواء المكتبة ... الرائحة المنعشة والفواحة والنضرة للجلد وصابون السرج. •••
لمدة يومين مكث هيجينز في المكتبة، لا يغادرها أبدا إلا لتناول الوجبات، ولمدة يومين لم تتلق السيدة العجوز بالجناح الشمالي أي زيارات. وباستثناء هذه الغرفة الوحيدة، لم يكن ثمة أي دليل على أي تغيير في نظام الحياة داخل منزل عائلة بينتلاند. ففي المساء، كان جان، جاهلا لما كان قد حدث، يأتي إليهم للعب الورق. ولكن سابين عرفت؛ وكذلك، العمة كاسي، التي لم تطرح أسئلة مطلقا بخصوص الغياب الغامض لأخيها خشية أن تقال لها الحقيقة. وكعادته، لم يلاحظ آنسون شيئا. جاء التغيير الحقيقي الوحيد على هيئة ظهور مفاجئ للعبوس وحدة الطبع على الآنسة إيجان. إذ صارت الممرضة التي لا غنى عنها تتشاجر حتى مع الطباخ، وتعاملت بفظاظة مع أوليفيا، التي قالت في نفسها: «ماذا سيحدث بعد ذلك؟ سأضطر إلى البحث عن ممرضة جديدة.»
وفي مساء اليوم الثالث، بعد تناول العشاء مباشرة، فتح هيجينز الباب ومضى يبحث عن أوليفيا.
قال: «عادت صحة السيد المسن على ما يرام. ذهب ليغتسل ويود أن يقابلك في المكتبة بعد نصف ساعة.»
وجدته هناك، جالسا على المكتب الماهوجني الكبير، مغتسلا ومتأنقا في ثياب كتانية نظيفة؛ ولكنه بدا هرما ومجهدا جدا، وخلف سمرة الوجه الجامد، كان ثمة شحوب جعله يبدو ممتقعا. كان من عادته ألا يتحدث مطلقا عن هذه الأوقات الحزينة، وأن يتصرف دوما كما لو أنه كان مسافرا ليوم أو يومين ويرغب في سماع ما حدث أثناء فترة غيابه.
تطلع إليها وقال بجدية: «أردت أن أتحدث إليك يا أوليفيا. لم تكوني منشغلة، أليس كذلك؟ لم أزعجك، أليس كذلك؟»
أجابت: «بلى. لست منشغلة بشيء مهم ... جان وتيريز هنا مع سيبيل. ... هذا كل ما في الأمر.»
كرر قائلا: «سيبيل. سيبيل ... إنها في غاية السعادة هذه الأيام، أليس كذلك؟» أومأت أوليفيا برأسها بل وابتسمت قليلا بطريقة ودودة ومتفهمة، فأضاف قائلا: «حسنا، يجب ألا نفسد عليها سعادتها. يجب ألا نسمح لأي شيء بأن ينال منها.»
لمعت عينا أوليفيا. وكررت قوله: «أجل؛ يجب ألا نفعل.» ثم أردفت قائلة: «إنها فتاة ذكية ... وهي تعرف ما الذي تريده من الحياة، وهنا يكمن السر كله. فمعظم الناس لا يعرفون أبدا حتى فوات الأوان.»
أعقب هذا الحديث صمت، بليغ للغاية، زاخر بالكثير من الأشياء غير المعلنة، وجعل أوليفيا تشعر بعدم الارتياح. «أردت أن أتحدث معك بخصوص ...» تردد للحظة، ولاحظت أنه أسفل حافة المكتب كانت يداه مقبوضتين بشدة بالغة لدرجة أن البراجم النحيلة برزت من تحت الجلد الأسمر. تشجع وواصل حديثه قائلا: «أريد أن أتحدث معك عن أشياء كثيرة جدا.» ثم أضاف فجأة: «أولا وقبل كل شيء، ها هي وصيتي.»
فتح درج المكتب وأخرج حزمة أوراق، وفصلها بحرص إلى رزم صغيرة قبل أن يتحدث مجددا. بدا الإنهاك في كل حركاته. ثم قال: «لقد أجريت بعض التعديلات. تعديلات يجب أن تعرفي بشأنها ... وثمة أمر أو أمران آخران.» نظر إليها بعينين قابعتين أسفل حاجبين أشعثين محتدين قائلا: «كما تلاحظين، ليس أمامي وقت طويل لأعيشه. وليس لدي سبب يجعلني أتوقع أنني سأعيش إلى الأبد وأريد أن أترك الأمور مرتبة ترتيبا مثاليا، كما كانت دوما.»
رأت أوليفيا، التي جلست ملتزمة الصمت، أن الحوار صار فجأة موجعا. مع كل كلمة شعرت بأن سورا يرتفع حولها، ويعزلها، بينما واصل الرجل المسن حديثه بهدوء موجع، وبطريقة متسمة باليقين بأن مشيئته ستطاع في موته كما كانت دوما في حياته. «بداية، ستكونون جميعا أثرياء جدا ... أثرياء جدا ... بثروة تتعدى ستة ملايين دولار . وهي أموال خالصة، يا أوليفيا ... أموال لم تجن بالمقامرة، وإنما وفرت وضوعفت بالعيش بحرص. فعلى مدار خمسة وسبعين عاما، صار تقليدا في العائلة أن تعيش على عائد دخلها. استطعنا أن نفعل ذلك بشكل أو آخر، وفي النهاية صرنا أثرياء ... أثرياء جدا.»
أثناء حديثه، ظل يلمس الأوراق بأصابعه في عصبية موزعا إياها في رزم صغيرة منظمة، ثم مرتبا إياها ومعيدا ترتيبها. «وكما تعرفين، يا أوليفيا، سيظل المال محفوظا بطريقة تمنع إنفاق رأس المال الأساسي مطلقا. وسيستطيع أحفاد سيبيل أن ينعموا بجزء منه ... هذا إن بلغت بكم الحماقة أن تتركوه لهم على تلك الحال.»
تطلعت إليه أوليفيا فجأة. وأردفت قائلة: «ولكن لماذا أنا؟ ما علاقتي أنا بهذا؟» «هذا ما أنا بصدد توضيحه يا عزيزتي أوليفيا ... هذا لأنني سأترك الثروة بأكملها لك.»
وفجأة شعرت بشدة بأنها لا ترغب في أي من هذا. تملكتها رغبة سريعة وحماسية بالإمساك بجميع الرزم الورقية المرتبة وإحراقها كلها وتقطيعها إلى قصاصات صغيرة وإلقائها من النافذة.
ردت قائلة: «لا أريدها! لماذا تتركها لي؟ أنا نفسي ثرية. أنا لا أريدها! أنا لا أنتمي إلى عائلة بينتلاند ... هذه ليست أموالي. لا علاقة لي بها.» رغما عنها، ظهرت نبرة استياء منفعل في صوتها.
رفع حاجبيه الأشعثين قليلا في نظرة دهشة.
وسألها: «لمن أتركها إذن، إن لم يكن لك؟»
بعد لحظة، قالت: «عجبا، آنسون ... لآنسون، على ما أظن.» «أحقا تظنين هذا؟» «هذه أمواله هو ... أموال عائلة بينتلاند ... وليست أموالي. لدي كل ما أحتاجه من المال بل وأكثر من حاجتي.»
نظر إليها بحدة قائلا: «إنها لك يا أوليفيا ... أنت تنتمين إلى عائلة بينتلاند أكثر من آنسون نفسه، بصرف النظر عن الدم ... بصرف النظر عن الاسم. أنت تنتمين إلى عائلة بينتلاند أكثر من أي منهم. إنها أموالك بموجب كل حق وبصرف النظر عما يمكنك فعله.» (قالت أوليفيا في نفسها: «ولكن آنسون لا ينتمي إلى عائلة بينتلاند، ولا أنت أيضا.») «إنك أنت الجديرة بالثقة، والتي تتسمين بالحرص، والجديرة بالاحترام، يا أوليفيا. إنك أنت من تتحلين بالقوة . عندما أموت، ستكونين أنت كبيرة العائلة ... بالتأكيد، تعرفين ذلك ... بالفعل.» (قالت أوليفيا في سريرتها: «أنا. أنا الطائشة، التي تخطط لخيانتكم جميعا ... أنا كل هذا!») «إذا تركتها لآنسون، ستهدر، ستبدد على أفكار حمقاء. فليس لديه أدنى فكرة عن العمل التجاري ... بعقل آنسون بعض العته ... إنه غريب الأطوار. من شأنه أن يهب هذه الأموال إلى البعثات التبشيرية واللجان الغريبة ... والجمعيات التي تتدخل في شئون الناس. وليس لهذا جمعت هذه الثروة. كلا، لن أسمح بتبديد أموال عائلة بينتلاند على هذا النحو ...»
سألته أوليفيا: «وأنا، كيف لك أن تعلم ما سأفعله بها؟»
ابتسم برفق ومودة. وأردف قائلا: «أعلم ما ستفعلينه بها؛ لأنني أعرفك يا عزيزتي، أوليفيا ... ستبقينها في الحفظ والصون. ... أنت الأكثر انتماء إلى عائلة بينتلاند. لم تكوني كذلك حين جئت هنا، لكنك كذلك الآن. أقصد أنك تتبعين التقليد الأعظم لآل بينتلاند ... الأجداد المعلقة صورهم في الردهة. أنت الوحيدة المتبقية ... فسيبيل صغيرة جدا في السن. هي لا تزال مجرد طفلة ... حتى الآن.»
لاذت أوليفيا بالصمت، ولكن وراء هذا الصمت كان ينهمر سيل جارف من الأفكار المتمردة المبيتة. إذن الانتماء إلى عائلة بينتلاند لم يكن مسألة صلة دم؛ وإنما فكرة، بل ونموذج يحتذى به. قالت في سرها بمرارة: «أنا لست من آل بينتلاند. لا أزال مفعمة بالحياة. ولي كياني الخاص. ولم يستحوذ علي العدم. لم تغيرني كثيرا كل هذه السنوات. لم يجعلوني من آل بينتلاند.» ولكن جراء شعورها بالإشفاق، لم تستطع أن تتفوه بأي مما دار في خلدها. وإنما قالت: «كيف لك أن تعلم ما سأفعله بها؟ كيف لك أن تعرف أنني لن أبذرها في إسراف - أو - أو حتى ألوذ بالفرار، وآخذ معي كل ما هو متاح. لا أحد يستطيع أن يمنعني - لا أحد.»
لم يفعل شيئا سوى أنه كرر ما قاله من قبل، ولكن قالها ببطء أكبر هذه المرة، كما لو أنه أراد أن يؤثر فيها. ردد قائلا: «أعلم ماذا ستفعلين بها يا أوليفيا، لأنني أعرفك يا عزيزتي، أوليفيا؛ لن تقترفي أبدا حماقة أو شيئا معيبا - أعرف ذلك - ولهذا السبب أثق بك.»
وعندما لم تجبه، سألها: «ستقبلين تنفيذ الوصية، أليس كذلك، يا أوليفيا؟ سيعينك فيها محام كفء ... واحد من أكفأ المحامين ... جون مانرينج. سيسعدني هذا يا أوليفيا، وسيجعل العالم يعرف رأيي فيك، وما كنت تمثلينه لي طوال كل هذه السنوات ... كل ما عجز آنسون عن أن يكونه ... وما عجزت عنه أيضا أختي، كاسي.» وانحنى إلى الأمام على المكتب، ولمس يدها البيضاء برفق. وقال: «ستقبلين يا أوليفيا؟»
كان من المستحيل أن ترفض، من المستحيل حتى أن تواصل الاعتراض أكثر من ذلك، من المستحيل أن تقول إنه في تلك اللحظة بالذات كانت تريد أن تهرب، أن تلوذ بالفرار فحسب، أن تتركهم إلى الأبد، بعد أن صارت سيبيل في أمان. أشاحت بناظريها بعيدا وقالت بصوت خفيض: «أجل.»
كان من المستحيل أن تتخلى عنه الآن ... بعد أن صار عجوزا منهكا. كانت الرابطة التي تجمعهما قوية للغاية؛ وقد كانت موجودة منذ وقت طويل جدا، منذ أول يوم دخلت فيه بيت عائلة بينتلاند بصفتها عروس آنسون وأدركت أنها تكن الاحترام للأب، وليس للابن. نوعا ما، كان قد فرض هو عليها قدرا من سلطته الأبوية القاسية. بدا لها أنها محاصرة في حين كانت في قرارة نفسها تنوي الفرار؛ كما كانت خائفة من الفكرة التي كانت لا تنفك تراودها بأنها ربما صارت، في نهاية المطاف، واحدة من آل بينتلاند ... قاسية، حريصة، متحفظة، تتجرع قدرا من المرارة، وتفتقر حياتها إلى الحماس والبهجة، ومولعة بتقديس إله فظ، متلون، خفي، يطلق عليه الواجب. ظلت تفكر في تعليق سابين الساخر عن «خصال الطبقة الوسطى الدنيا التي تتسم بها عائلة بينتلاند» ... الافتقار إلى الحماس، الافتقار إلى الفخامة، وإلى النبل. ورغم ذلك، كان هذا العجوز الشرس نبيلا، بطريقة غريبة ... حتى سابين أدركت ذلك.
عاد يتحدث مجددا. قال: «لم يترك لك أمر المال فحسب ... فلديك أيضا سيبيل التي لا تزال أصغر سنا من أن يطلق لها العنان ...»
قالت أوليفيا بعناد رزين: «كلا، ليست صغيرة جدا. لها مطلق الحرية في أن تفعل ما تشاء. حاولت أن أجعلها أكثر حكمة مني حين كنت في نفس عمرها ... ربما أكثر حكمة مما كنت في أي يوم من الأيام ... حتى في الوقت الحاضر.» «لعلك محقة، يا عزيزتي. لقد كنت كذلك مرات كثيرة جدا ... والأمور ليست كما كانت على أيامي ... بالتأكيد ليست كما كانت فيما يخص الفتيات الصغيرات.»
أمسك الأوراق مرة أخرى، وأخذ يقلب فيها بطريقة غريبة ومتوترة، تتعارض جدا مع أسلوبه الصارم والحازم المعتاد. وخطرت لها لمحة تبصر أوحت لها بأنه كان يتصرف على هذا النحو؛ لأنه أراد أن يتحاشى النظر إليها. كانت تكره الأسرار وفي تلك اللحظة كانت خائفة من أن يكون على وشك أن يخبرها بأشياء كانت تفضل ألا تسمعها أبدا. كانت تكره الأسرار ومع ذلك بدت من الأشخاص الذين يجذبون الأسرار إليهم دوما.
واصل حديثه قائلا: «لنستبعد سيبيل من هذا، فلدينا الآنسة هادون العجوز الغريبة الأطوار التي تعيش في دورهام، التي، كما تعلمين، كنا نعتني بها لسنوات؛ ولدينا كاسي، التي تشيخ وتزداد اعتلالا، على ما أظن. لا يمكننا أن نتركها للآنسة بيفي المحدودة الذكاء. أعرف أن أختي كاسي كانت عبئا عليك ... ما برحت أن كانت عبئا علي، طيلة حياتي.» ابتسم ابتسامة متجهمة. قائلا: «أظن أنك تعرفين ذلك ...» ثم قال بعد أن سكت لبرهة: «ولكن الأهم من ذلك كله، لدينا زوجتي.»
اتخذ صوته نبرة غريبة وغير طبيعية، كانت خالية تماما من المشاعر. صار أشبه بصوت صادر عن شخص أصم لم يسمع مطلقا الأصوات الصادرة عنه.
أردف قائلا: «لا أستطيع أن أتركها بمفردها. بمفردها ... دون أحد يعتني بها عدا ممرضة مدفوعة الأجر. لا يسعني أن أموت وأنا أعرف أنه لا أحد يفكر فيها ... باستثناء الآنسة إيجان الكفء التعسة ... الغريبة عنها. كلا يا أوليفيا ... لا يوجد أحد سواك ... لا يوجد أحد يمكنني أن أثق به.» نظر إليها بحدة. وأردف قائلا: «هل ستعدينني بأن تعتني بها دوما ... ولن تسمحي لهم بأن يتخلصوا منها؟ هل ستعدينني بذلك؟»
شعرت مرة أخرى بأنها محاصرة. قالت: «بالطبع. بالطبع، سأعدك بذلك.» وماذا كان عساها أن تقول غير ذلك؟
أضاف، وهو يشيح بنظره بعيدا عنها مرة أخرى، قائلا: «لأنني ... لأنني مدين لها بذلك ... حتى بعد موتي. لن أرتاح لو حبست في مكان ما ... وسط غرباء. ما أريد أن أقوله إنه ... ذات مرة ... ذات مرة ...» ثم توقف فجأة عن الحديث، كما لو أن ما كان على وشك أن يقوله لا يحتمل.
تغير الشعور بالارتباك لدى أوليفيا إلى شعور حقيقي بالرعب. أرادت أن تصرخ قائلة: «توقف! لا تواصل الحديث!» ولكن حدسا ما أنبأها بأنه ينوي الاستمرار في الحديث حتى النهاية، حديثا مؤلما، بصرف النظر عن أي شيء يمكنها فعله.
قال بنبرة هادئة تماما: «إنه أمر غريب، لكن يبدو أنه لم يبق سوى النساء ... لا رجال ... لأن آنسون في الواقع امرأة عجوز.»
وبنبرة هادئة وحازمة، وكأنها نبرة رجل جالس أمام كاهن اعتراف، واصل حديثه معها كما لو كانت خفية، مجهولة، مخلوقة أشبه بآلة، قائلا: «وبالطبع، هوراس بينتلاند مات، ولذا لم نعد بحاجة إلى التفكير فيه ... ولكن لدينا السيدة سومز ...» سعل وبدأ مجددا يفرك أصابعه النحيلة الهزيلة، كما لو أن ما يتعين عليه قوله كان يخرج من أعماق روحه بمعاناة شديدة. كرر قائلا: «لدينا السيدة سومز. أعرف أنك تتفهمين وضعها يا أوليفيا ... وأنا ممتن لك لأنك كنت لطيفة وعطوفة في مواقف ما كان أحد من الآخرين سيتصرف فيها هكذا. يخيل إلي أننا كنا موضوعا تلوكه الألسن في حي بيكون هيل وشارع كومنويلث أفانيو، ببوسطن على مدار ثلاثين عاما ... ولكن أنا لا أكترث بذلك. لقد كانوا يراقبوننا ... وكانوا يعرفون في كل مرة أصعد فيها درجات منزلها الحجري البني ... وحتى الساعة التي وصلت فيها والساعة التي غادرت فيها. الناس في عالمنا لهم عيون، يا أوليفيا، حتى في مؤخرة رءوسهم. يجب أن تتذكري هذا، يا عزيزتي. إنهم يراقبونك ... ويلاحظون كل شيء تفعلينه. إنهم يكادون يعرفون ما تفكرين فيه ... وحين لا يعرفونه، يختلقونه. تلك إحدى العلامات على عالم معتل متدهور ... وهي أنهم يعيشون حياة الآخرين ... بالترصد ومراقبة حياتهم ... وأنهم يعيشون دوما في الماضي. وذلك هو السبب الوحيد الذي جعلني أشعر بالأسف على هوراس بينتلاند ... السبب الوحيد الذي جعلني أشعر بالتعاطف معه. كان من القسوة أنه ولد في مكان كهذا.»
كانت المرارة تقطر كحمض من الحديث بأكمله، وعبر نبرة صوته ذاتها. وتأججت تلك المرارة في العينين السوداوين الشرستين اللتين لم تكن النار قد خمدت فيهما بعد. اعتقدت أوليفيا أنها تراه لأول مرة الآن بكامل حقيقته، دون أن يخفي شيئا. وبينما كانت تستمع إليه، بدأت سحابة الغموض القديمة التي كانت دوما تحجبه عنها تنقشع مثلما ينقشع الضباب عن الأهوار في الصباح الباكر. رأته الآن على حقيقته ... رجلا بالغ الرجولة، موجوعا، صافي الذهن، وأكثر إنسانية من بقيتهم، لم يفصح عن مكنونات نفسه قط ولو للحظة. «ولكن بخصوص السيدة سومز ... إذا حدث لي أي شيء يا أوليفيا ... إذا قدر لي أن ألقى حتفي قبلها، أريدك أن تكوني لطيفة معها ... من أجلي ومن أجلها. لقد كانت صبورة وكريمة معي طويلا جدا.» بدا أن المرارة كانت الآن تزول قليلا من صوته، لتحل محلها حماسة متأججة. تابع حديثه قائلا: «لقد كانت كريمة معي ... كانت دوما متفهمة يا أوليفيا، حتى قبل أن تأتي أنت إلى هنا لتمدي إلي يد العون. أنت وهي يا أوليفيا، جعلتما حياتي تستحق العيش. لقد كانت صبورة ... أكثر صبرا مما تعرفين. لا بد أنني أحيانا جعلت حياتها جحيما ... ولكنها كانت موجودة دوما، مترقبة، مفعمة بالرفق والتعاطف. لقد كانت معتلة أغلب فترة معرفتك بها ... عجوز ومعتلة. لا يمكنك أن تتخيلي إلى أي مدى كانت فيما مضى جميلة.»
قالت أوليفيا برقة: «أعرف ذلك. أذكر أنني رأيتها حين دخلت منزل عائلة بينتلاند لأول مرة ... كما أن سابين أخبرتني.»
بدا أن ذكر اسم سابين أثار حفيظته فجأة. اعتدل في جلسته وقال: «لا تفرطي في الثقة في سابين يا أوليفيا. إنها واحدة منا، في نهاية المطاف. إنها تشبه أختي كاسي كثيرا ... تشبهها أكثر مما يمكنك أن تتخيلي. ولهذا السبب تكره إحداهما الأخرى هكذا. إنها ما بداخل كاسي مجسدا ، إن جاز التعبير. كلتاهما يمكن أن تضحي بكل شيء من أجل تأجيج مشكلة أو فاجعة من شأنها أن تثير اهتمامهما. إنهما تعيشان ... حياة الآخرين.»
كان من شأن أوليفيا أن تقاطعه، لتدافع عن سابين وتخبره بالشيء الحقيقي الوحيد الذي حدث لها ... الحب المأساوي لزوجها؛ كان من شأنها أن تخبره بكل الأسرار الخطيرة وغير المترابطة التي أسرت بها سابين إليها؛ ولكن الرجل المسن لم يتح لها أي فرصة. بدا فجأة وكأنه صار ممسوسا، عازما بشدة على أن يبوح لها بمكنون صدره من كل الخبايا التي ظل يخفيها طويلا جدا. (وظلت تقول في نفسها: «لماذا يجب أن أعرف كل هذه الأشياء؟ لماذا يجب علي أن أتحمل العبء؟ لماذا عثرت على تلك الخطابات التي ظلت في مأمن ومخبأة طويلا جدا؟»)
عاد يتحدث بنبرة هادئة، وهو لا يزال يفرك أصابعه النحيلة بحركة متوترة عقيمة. قال: «ما أريد أن أقوله، يا أوليفيا ... ما أريد أن أقوله، إنها تتعاطى المخدرات الآن ... ولا طائل من محاولة شفائها. إنها مسنة الآن، والأمر حقا لا يهم. الأمر ليس كما لو كانت صغيرة في السن ولا تزال الحياة كلها أمامها.»
ودون تفكير تقريبا، ردت أوليفيا: «أعرف ذلك.»
رفع بصره إليها سريعا. وسألها بحدة: «تعرفين؟ وكيف عرفت هذا؟» «سابين أخبرتني.»
عاد يطأطئ رأسه. وقال: «أوه، سابين! طبعا! إنها خطيرة. إنها تعرف أكثر من اللازم عما يجري في العالم. لقد عرفت عددا كبيرا جدا من الأشخاص غريبي الأطوار.» ثم كرر مرة أخرى ما قاله قبل أشهر بعد انتهاء الحفل الراقص قائلا: «ما كان ينبغي أن تعود إلى هنا أبدا.»
وفي خضم الحديث الغريب والمفكك، تناهى إلى مسامعهما صوت الموسيقى الآتية من غرفة الجلوس البعيدة. في البداية، لم يسمعها جون بينتلاند، الذي كان يعاني من بعض الصمم، ولكن بعد قليل اعتدل في جلسته، يستمع، والتفت إليها متسائلا: «هل ذلك هو الشاب المعجب بسيبيل؟» «أجل.» «هو فتى لطيف، أليس كذلك؟» «فتى لطيف جدا.»
وبعد فترة من الصمت، سألها: «ما اسم الأغنية التي يعزفها؟»
لم تستطع أوليفيا أن تمنع نفسها من الابتسام. وأجابته قائلة: «إنها تدعى «أنا واقع في الحب مرة أخرى وقد جاء الربيع (آم إن لوف أجين أند ذا سبرينج إز كامينج).» لقد أحضرها جان من باريس. ألفها صديق له ... ولكن الأسماء لم تعد ذات مغزى في الموسيقى. لا أحد يستمع إلى الكلمات.»
للحظة اكتست ملامح وجهه بلمحة بهجة خاطفة. وعلق قائلا: «للأغاني أسماء غريبة هذه الأيام.»
كان من شأنها أن تفر، حينئذ، مغادرة المكان في هدوء. تململت في جلستها، بل همت بإشارة بأنها تريد المغادرة، ولكنه رفع يده بطريقته المعهودة، مما جعلها تشعر بأنها يجب عليها أن تطيعه كما لو كانت طفلة. «ثمة أمر أو أمران آخران يجب أن أخبرك بهما، يا أوليفيا ... أمران سيساعدانك في فهم الأمور. لا بد أن يعرفهما شخص ما. شخص ما ...» توقف فجأة وبذل مجددا مجهودا مضنيا ليواصل الحديث. برزت العروق بحدة على صدغيه.
تابع حديثه، مشيرا بالإشارة الحتمية ناحية الجناح الشمالي، قائلا: «الأمر متعلق بها في المقام الأول. لم تكن على تلك الحال دوما. ذلك ما أريد أن أوضحه. ما أريد أن أقوله إننا ... تزوجنا عندما كان كلانا في سن صغيرة جدا. كان أبي هو من أراد ذلك. كنت في العشرين من عمري وهي كانت في الثامنة عشرة. كان أبي يعرف عائلتها على الدوام. كانوا أبناء عمومة لنا، بصورة أو أخرى، مثلما كانوا أبناء عمومة لسابين. كان أبي يدرس مع والدها في نفس المدرسة وكانا ينتميان إلى النادي نفسه وكانت هي ابنة وحيدة من المحتمل أن ترث ثروة كبيرة. إنها قصة قديمة، كما ترين، ولكنها مألوفة نوعا ما في عالمنا ... وكل هذه الأشياء كان لها اعتبارها، وفيما يخصني، لم يكن لي قبلئذ أي علاقة بالنساء ولم أعشق أي امرأة قط. كنت صغيرا جدا في السن. أظن أنهم رأوها زيجة مثالية ... بتوفيق إلهي كما صورت لهم أحلامهم السعيدة. كانت جميلة جدا ... بإمكانك أن تلاحظي الآن أنها حتما كانت جميلة جدا ... كانت حلوة المعشر، أيضا، وبريئة.» سعل، ثم واصل حديثه بجهد بالغ. «كان ... كان عقلها كعقل طفلة صغيرة. لم تكن تفقه شيئا ... زهرة بريئة»، قالها بنبرة تشوبها همجية غريبة.
ثم توقف عن الحديث لبرهة، كما لو أن المجهود الذي بذله كان يفوق طاقته، وجلس محدقا من النافذة صوب البحر. بدا لأوليفيا أنه كان يسترجع السنوات وصولا إلى الفترة التي كانت فيها السيدة العجوز المسكينة شابة صغيرة وربما خجلة جدا من تودده المتحمس. ساد الصمت مرة أخرى في جنبات الغرفة، صمت مطبق جدا لدرجة أن الهدير الخافت البعيد لارتطام الأمواج بالصخور صار مسموعا، ثم تناهت إلى مسامعهما مجددا موسيقى جان. كان يعزف لحنا آخر ... ليس أغنية «أنا واقع في الحب مرة أخرى»؛ وإنما أغنية أخرى تدعى «سيدة القيثارة» (يوكلالي ليدي).
قال جون بينتلاند: «أتمنى أن يوقفوا تلك الموسيقى الملعونة!»
قالت أوليفيا وهي تقوم من مكانها: «سأذهب.» «كلا ... لا تذهبي. يجب ألا تذهبي ... ليس الآن.» بدا عليه التوتر، بل والفزع تقريبا، ربما خوفا من أنه لو لم يخبرها الآن بالقصة الطويلة التي يجب أن يقصها على أحد فلن يخبرها بها أبدا. «كلا، لا تذهبي ... ليس قبل أن أنهي حديثي يا أوليفيا. يجب أن أنهي حديثي ... أريدك أن تعرفي السبب وراء الأمور التي حدثت مثلما حدث هنا أمس وأول أمس في هذه الغرفة ... لا يوجد مبرر، ولكن ما سأقوله ربما يفسر الأمر ... قليلا.»
نهض وفتح إحدى خزائن الكتب، وأخرج زجاجة ويسكي. قال، وهو ينظر إليها: «لا تقلقي يا أوليفيا، لن أكررها ثانية. كل ما في الأمر أنني أشعر بالضعف. لن يحدث مجددا مطلقا ... ما حدث بالأمس ... مطلقا. أعدك بذلك.»
صب كأسا كاملة وعاود الجلوس، يرتشف الويسكي على مهل أثناء حديثه. «وهكذا تزوجنا، وظننت أنني وقعت في حبها؛ لأنني لم أكن أعرف أي شيء عن مثل هذه الأمور ... لا شيء. لم يكن حبا حقا ... أوليفيا، سأخبرك بالحقيقة ... بكل شيء ... الحقيقة كاملة. لم يكن حبا حقا. كل ما في الأمر أنها كانت المرأة الوحيدة التي تقربت منها بتلك الطريقة ... كنت شابا قويا معافى.»
بدأ يتحدث ببطء أكثر فأكثر، كما لو أن كل كلمة كانت تخرج من شفتيه بجهد جهيد نابع من الإرادة. وتابع حديثه بمرارة: «ولم تكن تفقه شيئا ... لا شيء على الإطلاق. كانت تمثل كل ما يفترض أن تكون عليه امرأة شابة. وبعد الليلة الأولى من شهر العسل، لم تعد الإنسانة نفسها مرة أخرى ... لم تعد الإنسانة نفسها مطلقا، يا أوليفيا. هل تعرفين ما الذي يعنيه هذا؟ انتهى شهر العسل بحالة من الجنون، هوس دائم. كانت قد تربت على تصور مثل هذه الأمور برهبة مقدسة، وكانت بعائلتها مسحة من الجنون. لم تعد الإنسانة نفسها مرة أخرى»، كررها بنبرة حزينة، وأردف قائلا: «وعندما ولد آنسون ذهب عقلها تماما. ما كانت لتلتقي بي أو تتحدث إلي. توهمت أنني ألحقت بها العار إلى الأبد ... وبعد ذلك لم يكن بالإمكان أن تترك وحدها دون رقيب. لم تعد تخرج إلى العالم مطلقا ...»
تلاشى الصوت حتى صار همسا مبحوحا. كان قد أفرغ كأس الويسكي بجهد بالغ ليخترق القوقعة الفولاذية التي كان قد أغلق على نفسه داخلها بعيدا عن العالم، وعن أوليفيا التي كان يكن لها معزة، ربما أكثر حتى من السيدة سومز، التي أحبها. ومن على مسافة بعيدة، استمر عزف الموسيقى، وهذه المرة كان يصاحبه صوت تيريز الأجش بنبرة عالية وهي تغني أغنية «أنا واقع في الحب مرة أخرى وقد جاء الربيع.» ... تيريز، السمراء، الساخرة، العنيدة، التي لم يكن في حياتها، بداية من الضفادع وصولا إلى الرجال، إلا أسرارا قليلة جدا.
واصل جون بينتلاند حديثه بوهن قائلا: «ولكن القصة لم تنته عند هذا الحد. بل استمرت ... لأنني صرت أعرف كيف يكون الوقوع في الحب حين التقيت بالسيدة سومز ... حينئذ فقط»، قالها بنبرة حزينة، كما لو أنه رأى المأساة من بعيد كأنها شيء لا يخصه. وكرر قوله قائلا: «حينئذ فقط، عندما كان الأوان قد فات. بعد كل ما فعلته من أجلها، كان قد فات أوان الوقوع في الحب. عجزت عن التخلي عنها. كان هذا مستحيلا. ما كان ينبغي أبدا أن يحدث.» عدل وضعية جسده الواهن المتصلب وأضاف قائلا: «لقد أخبرتك بكل هذا يا أوليفيا؛ لأنني أريدك أن تفهمي السبب وراء أنني أحيانا ...» توقف عن الحديث لبرهة ثم واصل حديثه بكل عزم قائلا: «السبب وراء أنني أتصرف بوحشية مثلما فعلت أمس. لقد مرت علي أوقات كان فيها هذا التصرف هو السبيل الوحيد حتى يمكنني من مواصلة الحياة ... وهو لا يضر أحدا. ولا يعرف كثيرون عنه شيئا ... أخفي نفسي دائما عن العيون. لم يحدث ذلك علنا مطلقا.»
ببطء امتدت يد أوليفيا البيضاء عبر سطح المكتب اللامع ولمست يده النحيلة السمراء المستقرة هناك، في هدوء، كصقر حط من عل ليستريح. لم تنبس ببنت شفة ومع ذلك انطوت اللفتة البسيطة على تعبير بليغ عجزت عنه الكلمات. جعلت تلك اللمسة الدموع تترقرق في العينين المتقدتين للمرة الثانية في حياة جون بينتلاند. لم يكن قد بكى من قبل سوى مرة واحدة ... ليلة وفاة حفيده. وأدركت أوليفيا أنها لم تكن دموعا نابعة من رثاء على الذات؛ لأنه لم يكن يوجد رثاء على الذات في الجسد الهرم الذي أوهنه الزمن؛ كانت دموعا تزرف على المأساة التي شاءت الأقدار أن يكون مهموما بها. «أريدك أن تعرفي يا عزيزتي أوليفيا ... أنني لم أخنها مطلقا، ولو لمرة واحدة طيلة كل السنوات التي مرت منذ ليلة زفافنا ... أعرف أن العالم لن يصدق هذا أبدا، ولكن أردتك أن تعرفي؛ لأنك أنت والسيدة سومز الشخصان الوحيدان المهمان لي ... وهي تعرف أن هذا صحيح.»
ومع أنها عرفت أن القصة انتهت، لم تغادر؛ لأنها أدركت أنه كان يريد منها أن تبقى، جالسة إلى جواره في صمت، تلمس يده. كان من نوعية الرجال - رجال، حسبما قالت في نفسها، مثل مايكل - يحتاجون إلى النساء بقربهم.
وبعد مدة طويلة، التفت إليها بغتة وسألها: «هذا الفتى المعجب بسيبيل؛ من يكون؟ وما صفاته؟» «سابين تعرف بشأنه.» «هذا ما يخيفني ... إنه من عالم مختلف عن عالمها ولست واثقا من أن هذا يروق لي. ففي عالم سابين، لا يهم من يكون هذا الشخص أو من أين يأتي ما دام شخصا ذكيا ومسليا.» «لقد راقبته ... وتحدثت معه. أظن أنه فيه كل ما يمكن أن تطلبه فتاة ... أقصد فتاة مثل سيبيل ... لا أنصح به لفتاة حمقاء ... فمن شأنه أن يجعل زوجة من هذا النوع تقضي أوقاتا عصيبة جدا. بالإضافة إلى ذلك، لا أظن أن في وسعنا الكثير في هذا الشأن. فسيبيل، على ما أظن، قد اتخذت قرارها.» «هل عرض عليها الزواج؟ هل تحدث إليك؟» «لا أعرف إن كان قد عرض عليها الزواج. لم يتحدث إلي. الشباب لا يهتمون بمثل هذه الأمور هذه الأيام.» «ولكن آنسون لن يعجبه هذا. ستحدث مشكلة ... وكاسي، أيضا.» «أجل ... ومع ذلك، إذا أرادته سيبيل، فسوف تتزوجه. لقد حاولت أن أعلمها أنه في مسألة كهذه ... حسنا»، ثم أشارت إشارة صغيرة بيدها البيضاء، وأردفت قائلة: «لا ينبغي لها أن تدع شيئا يشكل أي فارق.»
جلس مستغرقا في التفكير لمدة طويلة، وأخيرا، ودون أن يتطلع إليها كما لو أنه يتحدث إلى نفسه، قال: «لقد حدث ذات مرة في العائلة أن فرت المرأة مع عشيق لها ... لقد تزوج جاريد وسافينا بينتلاند بتلك الطريقة.»
قالت أوليفيا: «ولكن تلك لم تكن زيجة سعيدة ... لم تكن سعيدة جدا.» وعلى الفور، أدركت أنه كادت أن تفضح نفسها. لو كانت قد تلفظت بكلمة أو كلمتين أخريين ربما كانت ستوقع نفسها في الشرك. ورأت أنه من المستحيل أن تضيف عبء الخطابات إلى هذه الأسرار الأخرى.
وبالفعل، نظر إليها بحدة، قائلا: «لا أحد يعرف ذلك ... كل ما نعرفه أنها غرقت.»
رأت بوضوح كاف تماما ما كان ينوي أن يخبرها به، بذلك التلميح المبهم بهروب سافينا؛ الآن فقط عاد ليختبئ مجددا داخل القوقعة الشنيعة؛ عاد جون بينتلاند الغامض المزيف الذي لا يستطيع سوى أن يلمح فحسب ولا يتحدث مباشرة مطلقا.
توقفت الموسيقى تماما في غرفة الجلوس، ولم يتبق سوى الصوت المبهم البعيد المستمر بلا انقطاع لاصطدام الأمواج بالصخور الحمراء، وتردد صوت وقع أقدام بعيد قادم من الجناح الشمالي. قال الرجل المسن على الفور : «إذن، لم تكن واقعة في حب هذا الرجل الذي يدعى أوهارا في نهاية المطاف، أليس كذلك؟ لا داعي للقلق إذن، أليس كذلك؟» «بلى، لم تفكر فيه مطلقا بتلك الطريقة، ولو للحظة ... من منظورها، بدا كهلا. يجب ألا ننسى كم هي صغيرة في السن.»
رد العجوز قائلا: «هو ليس من نوعية الرجال الحقيرة. لقد صرت مولعا به، وهيجينز يظن أنه رجل رائع. أميل إلى أن أثق في رأي هيجينز. فهو يتمتع بحاسة مرهفة بشأن الناس ... ويتمتع بالحاسة نفسها فيما يخص الطقس.» توقف لبرهة، ثم تابع حديثه قائلا: «ومع ذلك، أظن أنه من الأفضل أن نتوخى الحذر بشأنه. فهو رجل أيرلندي ذكي في سبيله إلى الوصول لغايته ... ومثل هؤلاء الرجال يجب أن يخضعوا للمراقبة. إنهم عادة لا يفكرون إلا في أنفسهم.»
همست أوليفيا قائلة: «ربما. ربما ...»
قطع الصمت بصوت طنين وضجيج ساعة الحائط الموجودة بالردهة وهي تستعد لتدق معلنة الحادية عشرة مساء. كان المساء قد انقضى سريعا، متواريا وسط غشاوة من الزيف. أخيرا، قيلت الحقيقة في منزل عائلة بينتلاند - الحقيقة القاسية، العارية، المروعة؛ ووجدت أوليفيا، التي كانت تتوق إليها منذ فترة طويلة جدا، نفسها ترتجف.
نهض جون بينتلاند ببطء وبألم؛ نظرا لأن جسده كان قد ازداد تيبسا وهشاشة مع انقضاء فصل الصيف. قال: «الساعة الآن الحادية عشرة، يا أوليفيا. حري بك أن تأوي إلى الفراش وتأخذي قسطا من الراحة.»
2
لم تتجه إلى غرفتها؛ لأنه تعذر عليها الخلود إلى النوم، ولم يكن بوسعها الذهاب إلى غرفة الجلوس، في تلك الحالة المزاجية التي سيطرت عليها، لتواجه وجوها شابة كوجوه جان وتيريز وسيبيل. في تلك اللحظة، لم يكن بوسعها أن تحتمل فكرة الوجود في أي مكان مغلق، في غرفة أو حتى أي مكان يعلوه سقف يحجب السماء المفتوحة. كانت بحاجة إلى الهواء الطلق والشعور بالحرية والسلوان الذي يبعث على الاستشفاء والذي كان يجلبه لها أحيانا مشهد الأهوار والبحر. أرادت أن تستنشق بعمق الهواء المالح المنعش، أن تركض، أن تهرب إلى مكان ما. في الواقع، استسلمت للحظة لشعور بالذعر الشديد، كما حدث لها في تلك الليلة الحارة حين تبعها أوهارا إلى الحديقة.
خرجت عبر الفناء الأمامي، وهي تهيم على وجهها، فوجدت نفسها بعد قليل تسير تحت الأشجار في اتجاه الأهوار والبحر. كانت هذه الليلة الأخيرة من شهر أغسطس حارة وصافية باستثناء طبقة رقيقة من الضباب الأبيض المائل للزرقة الذي يعلو دوما المروج المنخفضة. كانت قد مرت أوقات في الماضي أرهبتها فيها فكرة المرور عبر المروج المهجورة، والتجول في الطرق المعتمة في الظلام؛ ولكن في هذه الليلة بدت تلك المغامرة مريحة للأعصاب ومهدئة، ربما لأنها اعتقدت أنها يستحيل أن تواجه شيئا أسوأ من أسرار جون بينتلاند. كانت واعية تماما، كما كانت في تلك الليلة الأخرى، بالجمال الأخاذ لليلة، وبالخيالات غير المحددة الممتدة عبر أسيجة الأشجار وقنوات المياه، وببريق النجوم، وبالخط الأبيض البعيد لزبد البحر والرائحة الغنية الخصبة للمراعي والأهوار.
وبعد قليل، عندما هدأ روعها قليلا، حاولت أن تستخلص بعض الترتيب من الفوضى التي اجتاحت جسدها وروحها. بدا لها أن الحياة كلها صارت مشوشة ومضطربة على نحو ميئوس منه. كانت مدركة نوعا ما، تقريبا دون أن تعرف السبب؛ لأن الرجل المسن خدعها، وطوع إرادتها بسهولة وفق رغباته، مغيرا بذلك المشهد المستقبلي كله. كانت تعرف دوما أنه قوي وبطريقته الخاصة لا يقهر، ولكن حتى الليلة لم تكن قد عرفت مطلقا العظمة الكاملة لقوته ... ومدى عناده، بل وإلى أي مدى يمكن أن يكون منعدم الضمير؛ إذ كان منعدم الضمير وغير منصف، في الطريقة التي استخدم بها كل سلاح في متناول اليد ... كل إحساس، كل ذكرى ... ليحقق رغبته. لم يحدث صراع ضار علنا؛ كان الأمر أبرع من ذلك بكثير. لقد أخضعها دون أن تدري، بعون من جميع قوى الظلام التي تتمتع بالقدرة على تغييرهم جميعا - حتى أبناء سافينا دالجيدو وتوبي كاين - ليكونوا «آل بينتلاند».
أخذت تفكر بمرارة فيما حدث، وتوصلت إلى أن قوته كانت تستند على أساس فضيلته، واستقامته. يمكن للمرء أن يقول - بل ويؤمن يقينا مثلما رأى شروق شمس الأمس بعين اليقين - إن حياته كلها كانت سخيفة ووهمية على نحو مأساوي، مكرسة على نحو غريب للمثال الأعلى الجامد المتصلب لما يجب أن يكون عليه الفرد من عائلة بينتلاند؛ ورغم ذلك ... ورغم ذلك يدرك المرء أنه كان محقا، بل وربما كان شجاعا؛ كان المرء يحترم قوته التي لا هوادة فيها. كان قد قضى على سعادته ودفع السيدة سومز العجوز المسكينة إلى البحث عن السلام النفسي في تجربة نيرفانا السعادة القصوى التي تجلبها المخدرات؛ ومع ذلك كان يمثل لها الحياة كلها: كانت تعيش لأجله فقط. كان نظامه الأخلاقي صعبا وقاسيا وغير إنساني، يضحي بكل شيء في سبيل الالتزام به ... قالت أوليفيا في نفسها: «إلى حد التضحية بي وبنفسه. ولكن لن يضحى بي. سأهرب!»
وبعد فترة طويلة، بدأت ترى بالتدريج ما كان يكمن وراء السلطة الفولاذية التي مارسها على الناس، القوة التي عجزوا جميعا عن مقاومتها. كانت شيئا بسيطا ... فكل ما في الأمر أنه آمن، بشغف وبلا هوادة، كما فعل البيوريتانيون الأوائل.
أما الباقون حولها فلم تكن لهم أي أهمية. فلم يكن لأي منهم سلطة عليها ... لا آنسون، ولا العمة كاسي، ولا سابين، ولا الأسقف سمولوود. لم يكن لهم أي دور في تغيير مسار حياتها. لم تكن لهم أي أهمية. ولم تكن تخشاهم؛ وإنما بدوا في نظرها مزعجين ومثيرين للشفقة.
ولكن جون بينتلاند آمن. كان هذا ما صنع الفارق. •••
بعد أن تعثرت في طريقها وهي لا تكاد ترى، وجدت نفسها بعد قليل عند الجسر حيث الطريق الترابي المار فوق النهر والواصل بين منزل عائلة بينتلاند ومنزل «بروك كوتيدج». منذ أن كانت فتاة صغيرة، كان لمشهد المياه تأثير سحري غريب عليها ... مشهد نهر، بحيرة، ولكن كان الأكثر تأثيرا من أي شيء آخر هو مشهد البحر المفتوح؛ كانت تجد نفسها دوما منجذبة نحو هذه الأشياء مثلما ينجذب الحديد نحو المغناطيس؛ والآن، ما إن وجدت نفسها عند الجسر، حتى توقفت عن الحركة، ووقفت تتطلع من فوق المتراس الحجري تحت ظلال شجيرات الزعرور التي كانت تنمو بالقرب من حافة المياه، إلى البركة المعتمة الراكدة بالأسفل. كانت صفحة المياه داكنة وانعكس عليها ضوء النجوم الصغيرة المتلألئة وكأنها حبات ألماس منثورة فوق سطحها. عبقت الرائحة الكثيفة القوية للماشية الأجواء، مع مسحة من أريج خفيف لزنابق الماء البيضاء التي كانت تحيط بالبركة.
وبينما كانت تقف هناك، منغمسة في سكينة العزلة المعتمة، بدأت تفهم قليلا ما حدث بينهما في الغرفة المعبقة برائحة الويسكي وصابون السرج. رأت كيف أسفر غباء الآخرين وجهلهم ورياؤهم عن مأساة جون بينتلاند وحياته بالكامل، ورأت، أيضا، أنه كان بلا أدنى شك حفيد توبي كاين الذي كتب هذه الخطابات الجامحة المتقدة بالعاطفة والتي تمجد الرغبة الحسية؛ غير أن جون بينتلاند كان قد وجد نفسه حبيسا داخل سجن ذلك الشيء الفظيع الآخر؛ ألا وهو النظام الأخلاقي الذي كان قد تعود عليه، والذي كان يؤمن به. ورأت الآن أنه لم يكن من المستغرب أنه سعى إلى الهروب من الواقع بالانعزال والانغماس في الشرب حتى الدخول في غيبوبة. لقد كان محاصرا، بشكل مأساوي، بين هاتين القوتين الغاشمتين. حسب نفسه من آل بينتلاند بينما اشتعلت بداخله النار الكامنة في خطابات توبي كاين وفي النظرة الفاسقة التي تجمدت إلى الأبد في اللوحة المرسومة لسافينا بينتلاند. ظلت صورته ماثلة أمامها وهو يقول: «لم أخنها مطلقا، ولو لمرة واحدة طيلة كل هذه السنوات التي مرت منذ ليلة زفافنا ... أعرف أن العالم لن يصدق مطلقا، ولكن أردتك أن تعرفي؛ لأنك أنت والسيدة سومز الشخصان الوحيدان المهمان لي ... وهي تعرف أن هذا صحيح.»
بدا لها أن هذا الإخلاص كان شيئا مريعا وخبيثا.
وباتت تدرك أنه خلال حديثهما كله، ظلت خاطرة، فكرة مايكل حاضرة طوال الوقت. بدا وكأنهما كانا يتحدثان طوال الوقت عنها هي ومايكل. ظل الرجل المسن يتطرق إلى الأمر عشرات المرات على نحو مبهم ولكن مؤكد. لم يكن لديها أدنى شك في أن العمة كاسي عرفت منذ فترة طويلة كل ما يمكن أن تعرفه من الآنسة بيفي عن اللقاء الذي جرى بالقرب من حوض النعناع البري ، وكانت واثقة من أنها نقلت المعلومة إلى أخيها. ومع ذلك، لم يكن يوجد أي شيء قطعي فيما رأته الآنسة بيفي، وإنما القليل جدا بحيث لا يثير الشكوك على الإطلاق. ومع ذلك، أثناء استرجاعها لحديثها مع الرجل المسن، بدا لها أنه بعشرات الطرق والكلمات والنبرات والنظرات كان قد أشار ضمنيا إلى أنه عرف السر. وحتى في نهاية الحديث، عندما تطرق بقسوة وبيقين غريب إلى الخوف الوحيد، والشك الوحيد الذي كان يشوب حبها لمايكل، بقوله على نحو عرضي جدا: «ومع ذلك، أظن أنه من الأفضل أن نتوخى الحذر بشأنه. فهو رجل أيرلندي ذكي في سبيله إلى الوصول لغايته ... ومثل هؤلاء الرجال يجب أن يخضعوا للمراقبة. إنهم عادة لا يفكرون إلا في أنفسهم.»
ثم خطرت على بالها أغرب الأفكار جميعها ... ألا وهي أن حديثهما معا، حتى تلك الأسرار المؤلمة والمأساوية التي أسر بها بجهد بطولي، كان في الحقيقة يستهدفها. كان قد فعل كل هذا -خرج من قوقعة الصمت والكتمان، وأذل كبرياءه الطاغي - ليجبرها على التخلي عن مايكل، ليجبرها على التضحية بنفسها على مذبح ذلك المثال الأعلى الوهمي الذي يؤمن به.
وكانت خائفة لأنه كان قويا جدا؛ لأنه لم يطلب منها أن تفعل شيئا لم يفعله هو نفسه.
لن تعرف أبدا على وجه اليقين. رأت، في نهاية المطاف، أن جون بينتلاند الذي تركته قبل قليل كان لا يزال لغزا، ملثما بالغموض، تعجز عن سبر أغواره، ربما إلى الأبد. لم تره على حقيقته مطلقا. •••
وبينما كانت تقف عند الجسر تحت الظلال الكثيفة لأشجار الزعرور البري، تلاشى من حولها الإحساس بالزمان أو المكان، وبالعالم من حولها، بحيث لم تكن واعية إلا بنفسها بصفتها مخلوقة تتجرع كأس المعاناة. قالت في نفسها: «ربما يكون محقا. ربما صرت مثلهم، ولذلك يستمر هذا الصراع. ربما لو كنت شخصا عاديا ... سليم العقل وحسن الطوية ... مثل هيجينز ... لن توجد أي معاناة، ولا شكوك، ولا رهبة من التصرف بكل بساطة، وبلا تردد.»
تذكرت ما قاله الرجل المسن عن عالم صارت فيه جميع التصرفات مقيدة، عالم يرضى فيه المرء بمراقبة الآخرين وهم يتصرفون، وأن يعيش حياتهم. كانت قد خطرت على بالها كلمة «سليم العقل» بتلقائية شديدة وببساطة باعتبارها الكلمة الدقيقة لوصف الحالة الذهنية المناقضة للحال الذي كان عليه دوما منزل عائلة بينتلاند، وأفزعتها فكرة أنه ربما كان هذا الشيء الذي يدعى «أن تكون من آل بينتلاند»، هذه الحالة من الافتتان، كانت في نهاية المطاف مجرد حالة مرضية، ضربا من الجنون الذي يشل القدرة على التصرف تماما. وبذلك، يظل المرء يعيش في الماضي، مكبلا بديون من الشرف وواجبات تجاه أناس فارقوا الحياة قبل قرن أو أكثر من الزمان.
قالت في نفسها: «يجب، ولو لمرة واحدة، أن أتحلى بالقدرة على فعل ما أريده، ما أظنه صوابا.»
وفكرت مجددا فيما قالته سابين عندما وصفت نيو إنجلاند بأنها «مكان تصبح فيه الأفكار أرقى وأقل»، حيث يتحول كل تصرف إلى مشكلة سلوك أخلاقي، ممارسة للفلسفة المتعالية. كان هذا آخذا في الزوال الآن، حتى عن نيو إنجلاند، ومع ذلك ما زال متشبثا بعالم آل بينتلاند، إلى جانب الهدايا التذكارية من «الأصدقاء الأعزاء» المشاهير. وحتى تخزين الهدايا التذكارية في العلية لم يغير شيئا. كان كل شيء يخص عائلة بينتلاند آخذا في الزوال؛ فلم يعد يوجد أي شيء من هذا القبيل في نيو إنجلاند الخاصة بأوهارا وهيجينز وعمال المصانع البولنديين في دورهام. كانت القرية نفسها قد صارت مكانا جديدا ومختلفا.
وفي خضم هذا التمرد، باتت تدرك، بتلك الفطنة الغريبة التي بدا أنها كانت تؤثر على جميع حواسها، أنها لم تعد بمفردها على الجسر وسط المروج الخالية المغطاة بالضباب. أدركت فجأة وبيقين غريب أنه كان ثمة آخرون في مكان ما على مقربة منها وسط الظلام، ربما يراقبونها، واجتاحتها للحظة موجة من الشعور السريع والمفزع بالخوف الذي كان أحيانا يجتاحها في منزل عائلة بينتلاند في الأوقات التي كان يساورها فيها شعور بأن أشباحا لا يمكن رؤيتها أو لمسها تحيط بها. وتبينت على الفور تقريبا، وسط الضباب الذي يغطي المروج، شخصين، رجلا وامرأة، يسيران متقاربين جدا، وأحدهما يتأبط ذراع الآخر. للحظة قالت في نفسها: «هل جننت حقا؟ هل حقا أرى أشباحا؟» خطرت لها الفكرة الغريبة التي مفادها أن هذين الشخصين ربما كانا سافينا بينتلاند وتوبي كاين، وقد قاما من قبرهما المجهول وسط البحر ليهيما عبر الحقول والأهوار حول منزل عائلة بينتلاند. وبينما كانا يتحركان عبر الضباب المنتشر والمرصع بالنجوم، بدوا مبهمين وغير محددي الملامح ومبتلين، مثل شخصين خرجا توا من الماء. تخيلتهما يخرجان، مبتلين يقطران الماء، من وسط الأمواج ويعبران الزبد الأبيض للشاطئ في طريقهما إلى المنزل العتيق الكبير ...
والغريب في الأمر أن المشهد لم يملأها بأي شعور بالرهبة، وإنما فقط بالافتتان.
وبعد ذلك، بينما كانا يقتربان أكثر، تعرفت على الرجل - كان شيء ما من أول وهلة مألوفا على نحو مبهم في المشية المتغطرسة المتبخترة. عرفت الساقين المتقوستين وتملكتها فجأة رغبة في الضحك بشدة ضحكا هيستيريا. لم يكن هذا سوى هيجينز الشبيه بالأرنب منخرطا في مغامرة عاطفية جديدة. بهدوء تراجعت إلى ظلال أشجار الزعرور البري ومر الثنائي من أمامها، على مقربة شديدة لدرجة أنه كان بوسعها أن تمد يدها وتلمسهما. وحينئذ فقط تعرفت على المرأة. هذه المرة لم تكن فتاة بولندية من القرية. كانت الآنسة إيجان؛ الآنسة إيجان المتيبسة الكفء، التي أغواها هيجينز. كانت تستند عليه وهما يسيران؛ نسخة غريبة منكسرة أنثوية من الآنسة إيجان لم ترها أوليفيا من قبل مطلقا.
على الفور قالت في نفسها: «لقد تركت السيدة بينتلاند العجوز بمفردها. قد يحدث أي شيء. يجب أن أعود بسرعة إلى المنزل.» وانتابتها نوبة غضب سريعة من الممرضة المخادعة، تبعتها لحظة حدس خاطفة بدا أنها وضحت كل ما حدث منذ تلك الليلة الحارة في أوائل فصل الصيف حين رأت هيجينز يقفز فوق السور مثل الماعز ليهرب من وهج أضواء السيارات. كانت المرأة المجهولة التي اختفت وراء السور في تلك الليلة هي الآنسة إيجان. لقد كانت تترك السيدة المسنة بمفردها ليلة تلو الأخرى منذ ذلك الحين؛ وهذا يفسر تبرمها المفاجئ وحنقها في اليومين الماضيين عندما كان هيجينز محتجزا برفقة الرجل المسن.
اتضح لها الآن كل شيء - كل ما حدث خلال الشهرين الماضيين - في سلسلة مرتبة من الأحداث. لقد هربت المرأة المسنة، مما أدى إلى اكتشاف خطابات سافينا بينتلاند؛ لأن الآنسة إيجان كانت قد تركت موقعها لتتجول عبر المروج استجابة لنداء تلك القوة الغامضة الهائلة التي تسيطر فيما يبدو على الريف عند حلول الظلام. كان وجود تلك القوة محسوسا مرة أخرى الليلة، في كل مكان من حولها ... في الهواء الطلق، وفي الحقول، وفي الصوت القادم من البحر البعيد، وفي رائحة الماشية وفي البذور الناضجة ... كما حدث في تلك الليلة التي تبعها فيها مايكل إلى الحديقة.
وبطريقة ما، كانت سلسلة الأحداث كلها تجليا للقوة المزعجة التي كشفت في النهاية عن سر خطابات سافينا. لقد تلاعبت بهم تلك القوة، والآن أثقل السر كاهل أوليفيا باعتباره شيئا يجب أن تخبر به أحدا، شيئا لم يعد بإمكانها أن تكتمه في نفسها. اكتوت هي الأخرى بنار هذا السر، وتملكها شعور بأنها تمتلك سلاحا مخيفا ومخزيا ربما تستخدمه إذا تخطت الأمور قدرتها على الاحتمال.
وببطء، بعدما اختفى العاشقان، شقت طريقها عائدة نحو المنزل القديم الذي لاح في أفق السماء الزرقاء الداكنة بهيئته المربعة السوداء، وفي أثناء سيرها، بدا أن غضبها من خيانة الآنسة إيجان للثقة فيها تلاشى على نحو غامض. ستتحدث مع الآنسة إيجان غدا، أو بعد غد؛ فعلى أي حال، كانت العلاقة قد استمرت طوال فصل الصيف ولم تسفر عن أي ضرر؛ لا ضرر باستثناء اكتشاف خطابات سافينا. وشعرت بتعاطف مفاجئ تجاه تلك المرأة المتيبسة الكفء التي لم تحبها مطلقا؛ رأت أن حياة الآنسة إيجان، في نهاية المطاف، كانت مريعة؛ أيام متوالية تمضيها برفقة عجوز مجنونة. ظنت أوليفيا أن هذه الحياة كانت شبيهة بحياتها هي نفسها. ...
وخطر لها في الوقت نفسه أنه سيكون من الصعب أن تشرح لإنسانة ذكية جدا مثل الآنسة إيجان سبب وجودها هي نفسها على الجسر في تلك الساعة المتأخرة من الليل. بدا الأمر وكأن كل شيء، كل فكرة وتصرف صغير، صار متشابكا وميئوسا منه أكثر فأكثر، وأصعب وأعقد بمرور الأيام. لم يكن من مخرج سوى تمزيق الشبكة بجرأة والفكاك منها.
قالت في نفسها: «كلا. لن أبقى ... لن أضحي بنفسي. غدا سأخبر مايكل بأنه عندما ترحل سيبيل، سأفعل أيا كان ما يريد مني أن أفعله ...»
وعندما وصلت إلى المنزل وجدته مظلما باستثناء الضوء المشتعل باستمرار في الردهة الكبيرة والذي كان يضيء صفوف الصور الشخصية بإضاءة خافتة؛ وكان يعمه الصمت عدا من أصوات الصرير التي كانت تنتابه في سكون الليل.
3
استيقظت مبكرا، بعد أن نامت ليلة سيئة، على خبر مفاده أن مايكل مكث في بوسطن الليلة السابقة ولن يتمكن من ركوب الخيل معها كالمعتاد. وعندما ذهبت الخادمة أصابها شعور بالاكتئاب؛ نظرا لأنها كانت قد اعتمدت على مقابلته والتوصل إلى خطة محددة ما. وللحظة انتابها حتى شعور مبهم بالغيرة، نبذته على الفور باعتباره مخزيا. وقالت في نفسها إنه لم يهملها في أي وقت قط؛ كل ما في الأمر أن انشغاله زاد أكثر فأكثر مع اقتراب فصل الخريف. لم يكن في الأمر أي امرأة أخرى؛ كانت تشعر بالثقة فيه. ورغم ذلك، ظل ذلك الشك الصغير الغريب المزعج، الذي انزرع في عقلها حين قال جون بينتلاند: «هو رجل أيرلندي ذكي في سبيله إلى الوصول لغايته ... ومثل هؤلاء الرجال يجب أن يخضعوا للمراقبة.»
على أي حال، لم تكن تعرف عنه شيئا باستثناء ما اختار أن يخبرها به. إنه رجل حر ومستقل ومغامر بإمكانه أن يفعل ما يشاء في الحياة. فلماذا يدمر نفسه من أجلها؟
نهضت أخيرا، عازمة على ركوب الخيل بمفردها، على أمل أن يجعل هواء الصباح المنعش والتمرين الرياضي غيوم الكآبة، التي ظلت مستحوذة عليها منذ اللحظة التي تركت فيها جون بينتلاند في المكتبة، تنقشع.
وبينما كانت ترتدي ملابسها، قالت في نفسها: «بعد غد، سأبلغ أربعين عاما. ربما لهذا السبب أشعر بالإعياء والكآبة. ربما أنا على أعتاب مرحلة منتصف العمر. ولكن هذا مستحيل. فأنا أتمتع بالقوة والصحة الجيدة وأبدو صغيرة في السن، رغم كل شيء. أنا متعبة بسبب ما حدث في الليلة السابقة.» ثم جال في خاطرها فكرة أنه ربما راودت نفس هذه الأفكار السيدة سومز مرارا وتكرارا طوال الفترة الطويلة التي أخلصت فيها لجون بينتلاند. قالت في نفسها: «كلا، مهما حدث لن أعيش الحياة التي عاشتها. أي شيء أفضل من ذلك ... أي شيء.»
بدا لها غريبا أن تستيقظ وتجد أن لا شيء تغير في العالم كله من حولها. بعد ما حدث في الليلة السابقة في غرفة المكتبة وفي المروج المعتمة، لا بد أن هذا ترك أثرا ما على الحياة في منزل عائلة بينتلاند. لا بد أن المنزل في حد ذاته والمشهد الطبيعي نفسه قد سجلا ما حدث؛ ورغم ذلك كان كل شيء على حاله. انتابتها صدمة مفاجئة ضئيلة عندما وجدت أشعة الشمس ساطعة، ورأت هيجينز في ساحة الإسطبل يسرج حصانها ويصفر طوال الوقت بروح معنوية مرتفعة على نحو مبالغ فيه، وسمعت صوت نباح كلاب البيجل من بعيد، ورأت سيبيل تعبر المروج في اتجاه النهر لتقابل جان. كان كل شيء على حاله، حتى هيجينز، الذي حسبته بالخطأ شبحا أثناء عبوره المروج المغطاة بالضباب قبل بضع ساعات. بدا وكأنه توجد نسختان للحقيقة في منزل عائلة بينتلاند - واحدة، ربما يقال عنها، إنها تخص النهار، والأخرى تخص الظلمة - كما لو أن ثمة حياة - سرية وخفية - كامنة تحت السطح المشرق المبهج لعالم يتألف من الحقول والأشجار الخضراء، وصوت نباح الكلاب، ورائحة القهوة التي تفوح من المطبخ، وصوت سائس الخيل وهو يصفر بينما يسرج جوادا أصيلا. كان من سوء الطالع أن منحها الحظ نفاذ بصيرة إلى كلا العالمين؛ العالم المشرق المبهج والعالم المعتم الضبابي. لم يكن الآخرون، ربما باستثناء جون بينتلاند العجوز، يرون إلا هذه الحياة المشرقة الرغدة التي بدأت تتحرك من حولها.
فكرت مليا في أن أي شخص غريب يدخل منزل عائلة بينتلاند من شأنه أن يجده منزلا مبهجا ومريحا، حيث الحياة فيه رغدة بل ومترفة، حيث الجميع تحت حماية الثروة. من شأن ذلك الغريب أن يجدهم جميعا أشخاصا طبيعيين مبتهجين ودودين من عائلة محترمة بل ومتميزة. ومن شأنه أن يقول: «هذا العالم متماسك ومريح وآمن.»
أجل، من شأنه أن يبدو كذلك لشخص غريب، ولذلك ربما لا وجود لذلك العالم المعتم المخيف إلا في مخيلتها. ربما هي نفسها مريضة، وغير متزنة قليلا وسوداوية ... وربما تكون مخبولة قليلا مثل العجوز في الجناح الشمالي.
قالت في نفسها إنه، مع ذلك، لا بد أن معظم البيوت، ومعظم العائلات، لديها حياة مزدوجة كتلك؛ حياة يراها العالم الخارجي وأخرى تظل مخفية عن العيون.
وبينما كانت ترفع رقبة حذائها، سمعت صوت هيجينز، صاخبا ومرحا، يتبادل المزح الغرامية مع خادمة المطبخ الأيرلندية الجديدة، ليحجزها لنفسه بذلك. •••
اعتلت الفرس بفتور همة، تاركة إياها تقود الطريق عبر الأيكة الكثيفة على طول المسارات المعتمة الباردة التي لطالما سارت فيها هي ومايكل معا. لم يغير هواء الصباح من معنوياتها. كان ثمة شيء يبعث على الحزن في ركوب الخيل وحدها عبر النفق الأخضر الطويل.
وعندما خرجت أخيرا على الجانب المقابل لحقل النعناع البري حيث كانا قد التقيا بالآنسة بيفي، رأت سيارة من نوع فورد متوقفة على جانب الطريق ورجلا واقفا بجوارها، يدخن سيجارا وينظر إلى المحرك كما لو كان في ورطة. لم تر شيئا أكثر من ذلك وكانت ستتجاوزه دون أن تكلف نفسها عناء أن تلقي نظرة ثانية عليه، لولا أن سمعت اسمها ينادى. «أنت السيدة بينتلاند، أليس كذلك؟»
فاقتربت بالفرس. وقالت: «بلى، أنا السيدة بينتلاند.»
كان رجلا ضئيل البنية، متأنقا للغاية في بدلة ذات نقوش مربعة صغيرة، وياقة بيضاء عالية ومتصلبة بدت وكأنها تخنقه. كان يضع نظارة أنف وعلى وجهه نظرة بالغة التهذيب. وبينما كانت تلتفت، خلع قبعة القش التي كان يعتمرها وتقدم نحوها مظهرا قدرا كبيرا من التهذيب، وانحنى وابتسم بود.
قال: «حسنا، أنا سعيد بمعرفة أنني أصبت في تخميني. كنت آمل أن أقابلك هنا. إنه لمن دواعي سروري أن أتعرف عليك، يا سيدة بينتلاند. اسمي جافين ... وبالمناسبة أنا صديق لمايكل أوهارا.»
ردت أوليفيا: «أوه! كيف حالك ؟»
سألها: «آمل ألا تكوني في عجلة من أمرك، هل أنت كذلك؟ أود أن أتحدث معك حديثا موجزا.» «كلا، لست في عجلة من أمري.»
كان من المستحيل أن تتخيل ما في جعبة هذا الرجل الأنيق الضئيل البنية، الذي يقف في منتصف الطريق، ينحني ويبتسم.
بينما كان لا يزال ممسكا بالقبعة في يده، ألقى بعقب سيجاره ثم قال: «الأمر متعلق بمسألة حساسة جدا يا سيدة بينتلاند. الأمر متعلق بحملة السيد أوهارا الانتخابية. أظن أنك على علم بذلك. أعتقد أنك صديقته، أليس كذلك؟»
قالت ببرود: «أوه، بلى. نركب الخيل معا.»
تنحنح، وبدا واضحا عليه الاضطراب، وشرع في أن يحيد بعيدا عن الموضوع الرئيسي، قائلا: «حسنا، أنا صديق مقرب له. في الواقع، نشأنا معا ... وعشنا في الحي نفسه وتشاجرنا معا عندما كنا صبيين. قد لا يجول في ذهنك أن ترينا معا ... لأنه شخص ذكي للغاية. لقد جبل على النجاحات الكبرى أما أنا فلست كذلك ... أنا ... أنا مجرد شخص عادي يدعى جون جافين. لكننا صديقان، على أي حال، كما عهدنا أن نكون تماما ... كما لو أنه لم يكن رجلا عظيما. تلك حقيقة بشأن مايكل. إنه لا يدير ظهره أبدا لأصدقائه القدامى، بصرف النظر عن مدى العظمة التي يصل إليها.»
التمعت عينا الرجل الضئيل الزرقاوين ببريق إعجاب. فكرت أوليفيا في نفسها أن الأمر أشبه بما لو كان يتحدث عن الرب؛ غير أنه كان جليا أنه كان يعتبر مايكل أوهارا أعظم من الرب نفسه. إن كان تأثير مايكل على الرجال هكذا، فمن السهل معرفة سبب نجاحه الكبير.
ظل الرجل الضئيل يقاطع حديثه بالاعتذارات. قائلا: «لا ينبغي أن أطيل عليك يا سيدة بينتلاند ... فقط دقيقة واحدة. ما أريد أن أقوله إنني رأيت أنه من الأفضل أن أقابلك هنا بدلا من المجيء إلى المنزل.» تغيرت تعبيرات وجهه المشرق فجأة، وصار جادا بشدة. «سأخبرك بالأمر وما فيه يا سيدة بينتلاند ... أعرف أنك صديقة مقربة منه وأنك تتمنين له الخير. وترغبين في أن ينتخب ... على الرغم من أن الناس هنا لا يؤيدون الحزب الديمقراطي.»
قالت أوليفيا: «أجل، هذا صحيح.»
واصل حديثه بجهد واضح: «حسنا، مايكل صديق مقرب لي. أنا إلى حد ما حارسه الشخصي. بالطبع، أنا لا آتي إلى هنا مطلقا. أنا لا أنتمي إلى هذا العالم ... من شأني أن أشعر بالغرابة هنا.» (وجدت أوليفيا نفسها تشعر بالاحترام تجاه الرجل الضئيل. كان بسيطا للغاية وصادقا جدا وكان من الواضح أنه يحب مايكل حبا جما.) «ما أريد أن أقوله ... أنا أعرف كل شيء عن مايكل. لقد مررت بتجارب كثيرة معه ... وهو ليس على طبيعته في الوقت الحالي. ثمة خطب ما. لم يعد مهتما بعمله. يتصرف كما لو أنه على استعداد لأن يطرح مسيرته المهنية بأكملها جانبا ... ولا أستطيع أن أتركه يفعل ذلك. لا أحد من أصدقائه ... يستطيع أن يتركه يفعل ذلك. لا يمكننا حمله على الاهتمام بشئونه الخاصة كما ينبغي. فعادة، هو من يتولى إدارة كل شيء ... أفضل من أي شخص آخر.» وفجأة بدا على ملامحه أنه يأتمنها على أسرار، وهو يغمض إحدى عينيه. وسألها: «أتعرفين ما رأيي في الأمر؟ لقد كنت أراقبه ولدي فكرة.»
انتظر حتى ردت أوليفيا قائلة: «كلا ... ليس لدي أدنى فكرة.»
أمال رأسه على أحد الجانبين متحدثا بنبرة تدل على أنه توصل إلى كشف عظيم، قال: «حسنا، أظن أن في الأمر امرأة.»
شعرت بالدماء تتصاعد إلى رأسها، بصرف النظر عن أي شيء بإمكانها فعله. وعندما تمالكت نفسها لتتحدث، سألته: «أجل، وما عساي أن أفعل؟»
اقترب منها أكثر قليلا، وقال لها بنفس نبرة ائتمانها على الأسرار: «حسنا، إليك فكرتي. الآن، أنت صديقته ... وستتفهمين ذلك. ما أريد أن أقوله هو أن المشكلة متعلقة بامرأة ما، هنا في دورهام ... شخصية اجتماعية مرموقة، مثلك. هذا ما يجعل الأمر صعبا. لقد دخل في علاقات مع نساء من قبل، ولكنهن كن نساء من خارج الدائرة الانتخابية ولم يشكل هذا فارقا كبيرا. ولكن الأمر هذه المرة مختلف. إنه مضطرب للغاية و...» تردد للحظة قبل أن يتابع حديثه. «حسنا، أنا لا أود أن أقول شيئا كهذا عن مايكل، ولكن أظن أنه مفتون قليلا. هذا شيء وضيع لأقوله، ولكننا جميعا بشر، أليس كذلك؟»
ردت أوليفيا برقة: «أجل. أجل ... في النهاية، نحن جميعا بشر ... حتى الشخصيات الاجتماعية المرموقة مثلي.» كان ثمة بريق مزاح في عينها أربك الرجل الضئيل البنية للحظة.
وواصل حديثه قائلا: «حسنا، إنه مضطرب للغاية بشأنها وعاجز عن فعل أي شيء. الآن، ما فكرت فيه هو ... هو أنه يمكنك اكتشاف من تكون هذه السيدة وتذهبي إليها وتقنعيها بأن تدعه وشأنه لبعض الوقت ... أن ترحل بعيدا إلى مكان ما ... على الأقل حتى تنتهي الحملة الانتخابية. هذا من شأنه أن يحدث فارقا. هل تفهمينني؟»
نظر إليها بجرأة، كما لو أن ما قاله كان صادقا وصريحا، كما لو أنه حقا لم يكن لديه أدنى فكرة عمن تكون هذه السيدة، ووراء شعور مستتر بالغضب، كانت أوليفيا مستمتعة بالتكتيك المتواضع الذي صيغت به هذه الحيلة.
قالت: «ليس بوسعي فعل الكثير. إنها فكرة غير معقولة ... ولكن سأفعل ما في وسعي. سأحاول. لا أستطيع أن أعدك بأي شيء. فالأمر كله في النهاية بيد السيد أوهارا.» «ما أريد أن أوضحه يا سيدة بينتلاند، أنه إن تحول الأمر إلى فضيحة، فإنه سيقضي عليه. فامرأة من خارج الدائرة الانتخابية ليست ذات أهمية كبيرة، ولكن امرأة من تلك الأنحاء من شأنها أن تحدث فارقا. ستجلب لنفسها الكثير من الدعاية من جانب رؤساء التحرير المهتمين بفضائح المجتمع وما شابه ... وهذا هو الخطير في الأمر. ستنقلب الكنيسة كلها عليه بسبب الفساد الأخلاقي.»
وبينما كان يتحدث، خطرت على بال أوليفيا فكرة غريبة؛ وهي أن الكثير مما قاله كان يبدو أشبه بمحاكاة غريبة للطرق التي تتبعها العمة كاسي في الجدال.
كان صبر الفرس قد نفد وأخذت تنبش الطريق بحوافرها وتهز رأسها بحركات فجائية؛ وصارت أوليفيا غاضبة الآن، غاضبة بحق، لذا تمهلت قليلا قبل أن تتحدث، كيلا تفضح نفسها وتفسد لعبة التظاهر الصغيرة هذه التي ابتكرها السيد جافين ليحافظ على مظهر هادئ ويخفي مشاعره. أخيرا قالت: «سأفعل ما في وسعي، ولكنك تطلب مني شيئا سخيفا.»
ابتسم الرجل الضئيل البنية كاشفا عن أسنانه. وقال: «لقد أمضيت وقتا طويلا في السياسة يا سيدتي، ورأيت أشياء أسخف من هذا ...» واعتمر قبعته، كما لو أن ذلك إشارة على أنه قال كل ما أراد قوله. وأردف قائلا: «ولكن ثمة شيء واحد أود أن أطلبه ... وهو ألا تدعي مايكل يعرف أبدا أنني تحدثت معك عن هذا الأمر.» «ولماذا ينبغي أن أعدك ... بأي شيء؟»
اقترب أكثر وقال بصوت خفيض: «أنت تعرفين مايكل جيدا، يا سيدة بينتلاند ... أنت تعرفين مايكل جيدا، وتعرفين أنه عصبي وسريع الغضب. إذا اكتشف أننا كنا نتدخل في شئونه، فقد يفعل أي شيء. قد يترك المسألة كلها فجأة وينفض يده تماما. لم يسبق له أن تصرف هكذا بشأن أي امرأة. ولكنه يمكن أن يفعل ذلك الآن ... ذلك هو ما يشعر به. أنت لا ترغبين في رؤيته وهو يدمر نفسه ولا أنا أرغب في ذلك ... رجل ذكي مثل مايكل. يا إلهي، قد يصبح رئيسا ذات يوم. يستطيع أن يفعل أي شيء يضعه نصب عينيه، يا سيدتي، لكنه صار الآن، كما يقولون، متقلب المزاج.»
قالت أوليفيا بهدوء: «لن أخبره. وسأفعل ما بوسعي لمساعدتك. الآن يجب أن أذهب.» شعرت فجأة بالود تجاه السيد جافين، ربما لأن ما قاله لها هو بالضبط ما كانت تريد سماعه في تلك اللحظة. انحنت من على فرسها ومدت يدها وهي تقول: «صباح الخير يا سيد جافين.»
خلع السيد جافين قبعته مرة أخرى، كاشفا عن رأسه المستدير الأصلع اللامع. وقال: «صباح الخير يا سيدة بينتلاند.»
وبينما كانت ماضية على صهوة فرسها، ظل الرجل الضئيل البنية واقفا في منتصف الطريق يلاحقها بنظراته حتى اختفت. لمعت عينه ببريق الإعجاب، ولكن حين انعطفت من الطريق متجهة إلى المروج، عبس وسب جهرا. فحتى هذه اللحظة لم يكن يفهم كيف يمكن لسياسي محنك مثل مايكل أن يفقد رباطة جأشه ويتصرف بلا تعقل من أجل امرأة. ولكن راودته فكرة أن بإمكانه أن يثق بهذه المرأة في أنها ستفعل ما وعدت به . كان ثمة شيء ما في مظهرها ... مظهر جعلها تبدو مختلفة عن معظم النساء؛ ربما كان هذا المظهر هو ما خدع مايكل الذي عادة ما كان يضع النساء في وضعهن المناسب.
ابتسم ابتسامة واسعة وهز رأسه، ثم استقل السيارة الفورد، وأدارها فأحدثت ضجة كبيرة، وانطلق صوب بوسطن. وبعد أن سار لمسافة صغيرة توقف مرة أخرى ونزل من السيارة، لأنه في غمرة انفعاله نسي أن يغلق غطاء محرك السيارة. •••
من اللحظة التي استدارت فيها أوليفيا وانطلقت بفرسها مبتعدة عن السيد جافين، عزمت على بذل قصارى جهدها للتصرف. رأت أن الحاجة كانت تدعو إلى ما هو أكثر من مجرد قول الحقيقة لتنظيم الفوضى المبهمة التي حلت على منزل عائلة بينتلاند؛ يجب أن يكون هناك أيضا تصرف ما. وكان الغضب الآن يتملكها، غضب شديد، حتى على السيد جافين لصفاقته، وعلى الشخص المجهول الذي كان مصدر معلوماته. وظلت الفكرة الغريبة، التي مفادها أن العمة كاسي أو آنسون كانا مسئولين بشكل أو بآخر عن هذا الأمر، احتمالا قائما؛ فتكتيكات كهذه كانت متوافقة تماما مع أساليبهما؛ أن يلجآ بأسلوب ميكيافيللي إلى رجل مثل جافين بدلا من مواجهتها مباشرة. فبالاستعانة بالسيد جافين لن تحدث جلبة، ولا خلاف محدد ليعكر حالة الافتتان المحيطة بعائلة بينتلاند. يمكنهم الاستمرار في التظاهر بأنه ليس ثمة خطب، وأن شيئا لم يحدث.
ولكن خوفها كان أقوى من غضبها؛ الخوف من أنهما ربما يستخدمان التكتيكات نفسها لإفساد سعادة سيبيل. كانت متيقنة من أنهما سيضحيان بأي شيء في سبيل إيمانهما بأنهما على صواب.
وجدت جان في المنزل عندما عادت، وبينما كانت تغلق باب غرفة الجلوس، قالت له: «جان، أريد التحدث معك لدقيقة ... على انفراد.»
قال على الفور: «أعرف يا سيدة بينتلاند. الأمر يخص سيبيل.»
كان يتردد في صوته قدر قليل من المرح وهو ما أثر فيها وجعلها ترق له كما هو الحال دوما. وأذهلها أنه كان لا يزال حديث السن بما يكفي ليكون واثقا من أن كل شيء في الحياة من شأنه أن يسير بالضبط كما تمناه ...
قالت: «أجل، إنه كذلك.» جلسا على كرسيين من كراسي هوراس بينتلاند وتابعت حديثها. قالت: «أنا لا أومن بالتدخل فيما لا يعنيني يا جان، ولكن الآن توجد ظروف خاصة ... أسباب.» قامت بإيماءة صغيرة. وأردفت قائلة: «ظننت أنه إن كنت حقا ... حقا ...»
قاطعها بسرعة قائلا: «أنا بالفعل أريد ذلك يا سيدة بينتلاند. لقد تباحثنا الأمر، أنا وسيبيل ... واتفقنا. كلانا يحب الآخر. وسنتزوج.»
راقبت الوجه اليافع المتحمس، وقالت في نفسها: «يا له من وجه لطيف لا أثر فيه لشيء وضيع أو بغيض. الشفتان ليستا رفيعتين ومتصلبتين مثل شفتي آنسون، والبشرة ليست شاحبة وباهتة كحال بشرة آنسون دوما. إنه وجه مفعم بالحيوية والقوة والسحر. إنه وجه رجل من شأنه أن يكون مناسبا لامرأة ... رجل لا يفتقر إلى العاطفة على الإطلاق.»
سألته: «هل تحبها ... حقا؟» «أنا ... أنا ... هذا سؤال أعجز عن الإجابة عنه لأنه لا توجد كلمات لوصف حبي لها.» «لأن ... في الواقع ... يا جان، ليست حالة عادية لأم وابنتها. الأمر أعمق من ذلك بكثير. الأمر عندي أهم من سعادتي الشخصية، من حياتي ذاتها ... لأن، في الواقع، لأن سيبيل مثل جزء من نفسي. أريدها أن تكون سعيدة. إنها ليست مجرد حالة بسيطة لشابين مقدمين على الزواج. الأمر أكبر من ذلك بكثير.» ساد الصمت لبرهة، ثم سألته: «إلى أي مدى تحبها؟»
تحرك حتى صار جالسا على حافة الكرسي، وكله حماس. وشرع في الرد ولكن بقليل من التلعثم قائلا: «يا إلهي ... لا يمكنني التفكير في العيش بدونها. الأمر مختلف عن أي شيء تخيلته يوما ما. رباه ... لقد خططنا لكل شيء ... لحياتنا كلها. لو فقدتها، لن يهم ما سيحدث لي بعدها.» ابتسم ابتسامة واسعة وأضاف قائلا: «ولكن ... لقد قال الناس كل ذلك من قبل. لا توجد كلمات يمكن أن تفسر ... يمكن أن تجعل الأمر يبدو مختلفا عن أي شيء آخر كما يبدو لي.» «ولكنك ستأخذها بعيدا عن هنا، أليس كذلك؟» «بلى ... تريد أن تذهب حيثما أذهب.» (قالت أوليفيا في نفسها: «إنهما صغيران في السن. لم يفكرا مطلقا في أي شخص آخر ... لا في أنا ولا في جد سيبيل.»)
ثم قالت جهرا: «أتفق معك يا جان ... أريدك أن تأخذها بعيدا عن هنا ... بصرف النظر عما يحدث، يجب أن تأخذها بعيدا.» (وأردفت قائلة في نفسها: «وحينئذ لن يكون لدي حتى سيبيل.») «سنذهب إلى مزرعتي في الأرجنتين.» «أتفق معك ... أظن أن سيبيل سيعجبها ذلك.» تنهدت، رغما عنها، وهي تشعر بحسد مبهم لكليهما. «ولكنك شاب غر. كيف يمكنك أن تعرف على وجه اليقين؟»
للحظة عابرة امتقع وجهه وقال: «أنا في الخامسة والعشرين من عمري، يا سيدة بينتلاند ... ولكن ليس هذا الشيء الوحيد وحسب ... ما أريد أن أوضحه لك أنني نشأت بين الفرنسيين ... كرجل فرنسي. وهذا هو مكمن الاختلاف.» تردد، وتجهم وجهه للحظة. ثم أردف قائلا: «ربما لا ينبغي أن أفصح ... ربما لن تفهمي. أعرف كيف تسير الأمور في هذا الجزء من العالم ... ما أريد أن أقوله، لقد نشأت على أن أعتبر الوقوع في الحب شيئا طبيعيا ... شيئا مبهجا وطبيعيا وممتعا. لقد أحببت من قبل، حبا عارضا ... بطريقة الشباب الفرنسي ... ولكن بجدية، أيضا؛ لأن الرجل الفرنسي لا يسعه إلا أن يحيط أمرا كهذا بالمشاعر والرومانسية. لا يسعه إلا ذلك. لو كان الأمر مجرد ... مجرد شيء مخجل وبغيض، فلن يستطيع تحمله. إنهم لا يدخلون في علاقات غرامية بدون مشاعر ... بالطريقة التي سمعت الرجال يتحدثون بها عن تلك الأمور منذ جئت إلى هنا. هذا مكمن الاختلاف، يا سيدة بينتلاند، إذا ما رأيت الأمر على ضوء الطريقة التي ينظرون بها إليه. الأمر مختلف هنا ... أرى الاختلاف أوضح يوما بعد يوم.»
كان يتحدث بكل جدية وشغف، وعندما توقف عن الحديث للحظة، ظلت صامتة، عازفة عن مقاطعته إلى أن ينتهي من حديثه. «ما أحاول قوله صعب ومعقد يا سيدة بينتلاند. ولكن الأمر بكل بساطة هو ... أنني في الخامسة والعشرين من عمري، ولكنني اكتسبت خبرة في الحياة. لا تضحكي! لا تظني أنني مجرد شاب جامعي أحاول جعلك تظنين أنني فاسق. كل ما في الأمر أن ما أقوله حقيقي . لدي معرفة بمثل هذه الأمور ... وأنا سعيد لأن هذا يجعلني أكثر يقينا في أن سيبيل هي المرأة الوحيدة في العالم التي تصلح لي ... التي من أجلها سأضحي بكل شيء. وسأعرف جيدا كيف أسعدها، وسأكون لطيفا معها ... وسأفهمها. ولقد تعلمت الآن، وهو أمر يحتاج إلى التعلم ... أهم شيء في الحياة كلها. الفرنسيون محقون بشأنه. إنهم يجعلون من الحب شيئا جميلا ورائعا.» أشاح ببصره وقد بدا حزن مفاجئ على ملامحه. وأردف قائلا: «ربما لم يكن ينبغي أن أفصح لك عن كل هذا ... ولكنني أخبرت سيبيل. وهي تفهم.»
ردت أوليفيا: «كلا. أظن أنك محق ... ربما.» ظلت تفكر في القصة المأساوية الطويلة لجون بينتلاند، ولآنسون، اللذين شعرا دوما بالخجل من الحب وتعاملا معه على أنه شيء مقيت. في نظرهما، كان شيئا كئيبا وغريبا دائما ما يشوبه الخزي. ظلت تفكر، على الرغم من أي شيء يمكن أن تفعله، في محاولات آنسون الخرقاء المتكلفة لممارسة الحب، وغمرها فجأة شعور بالخزي من أجله. كان آنسون، الفخور والمتغطرس جدا، بائسا، وأدنى حتى من سائسه.
ثم سألته: «ولكن لماذا لم تتحدث معي بخصوص سيبيل في وقت أبكر من ذلك؟ لقد لاحظ الجميع الأمر، ولكنك لم تتحدث إلي مطلقا.»
للحظة لم يجبها. وغشي تعبير يشي بالألم عينيه الزرقاوين، ثم قال، وهو ينظر إليها مباشرة: «ليس من السهل توضيح السبب. كنت خائفا من أن آتي إليك خوفا من أنك قد لا تفهمين، وكلما طالت مدة وجودي هنا، أجلت الأمر أكثر لأن ... في الواقع، لأن هنا في دورهام، الأسلاف، والعائلة، وكل تلك الأمور، تبدو محور كل شيء. يبدو أنه يوجد دوما تساؤل حول عائلة المرء. لا اهتمام سوى بالماضي، ولا اهتمام بالمستقبل على الإطلاق. كذلك، ما أريد قوله، إنني، نوعا ما ... لا أملك عائلة.» هز كتفيه العريضتين وكرر قوله: «نوعا ما، لا أملك عائلة على الإطلاق. ما أريد قوله، لم تتزوج والدتي أبدا من والدي ... وليس لي حق الانتساب إلى اسم دي سيون. أنا ... أنا ... في الواقع، مجرد لقيط، وبدا أن مجرد الحديث إلى أحد أفراد عائلة بينتلاند عن الارتباط بسيبيل أمرا ميئوسا منه.»
لاحظ أنها أجفلت، وانزعجت، ولكنه لم يكن بوسعه أن يعرف أن النظرة في عينيها لم يكن لها إلا علاقة ضئيلة جدا بالشعور بالصدمة مما كان قد قاله لها؛ بل كانت تفكر في أن معرفة ذلك من شأنها، في يد آنسون والعمة كاسي، بل وفي يد جون بينتلاند نفسه، أن تكون سلاحا رهيبا.
أخذ يتحدث مرة أخرى بنفس الجدية المفعمة بالحماس. «لن أجعل هذا يحدث أي فارق، ما دامت سيبيل ستقبل بي زوجا، ولكن، ما أريد قوله، من الصعب جدا أن أشرح، لأن الأمر ليس كما يبدو. أريدك أن تفهمي أن والدتي امرأة رائعة ... لن أكلف نفسي عناء التوضيح، أن أقول أي شيء ... فيما عدا لك أنت وسيبيل.» «لقد أخبرتني سابين بشأن والدتك.»
قال جان: «السيدة كاليندار تعرفها منذ فترة طويلة ... إنهما صديقتان رائعتان. وهي تتفهم الأمر.» «ولكنها لم تخبرني قط ... بذلك. هل تقصد أنها تعرف ذلك طوال الوقت؟» «هذا ليس أمرا يسهل الحديث عنه ... لا سيما هنا في دورهام، وفي تصوري أنها ظنت أنه قد يسبب لي المتاعب ... بعد أن لاحظت ما حدث بيني أنا وسيبيل.»
واصل حديثه بسرعة، ليخبرها بما كان قد أخبر به سيبيل عن قصة والدته، محاولا أن يجعلها تفهم ما فهمه هو، وسابين وحتى زوج أمه، الموقر المسن دي سيون ... محاولا شرح شيء هو نفسه كان يعرف أنه لا يمكن تفسيره. أخبرها بأن والدته رفضت الزواج من عشيقها، «لأن في حياته خارج إطار علاقتهما ... الحياة التي لم يكن لها علاقة بها ... اكتشفت أمورا لم يكن يمكنها أن تحتملها. رأت أنه كان من الأفضل ألا تتزوجه ... أفضل لها وله، والأهم من ذلك كله، أفضل لي ... لقد فعل أشياء من أجل النجاح - أشياء وضيعة وغير مشرفة - لم تستطع أن تغفرها ... ولذلك لم تكن لتتزوجه. والآن، عندما أسترجع ما حدث، أظن أنها كانت على حق. لم يحدث هذا فارقا كبيرا في حياتها. لقد عاشت بالخارج ... باعتبارها أرملة ، وكان عدد قليل جدا من الأشخاص - لا يزيد عددهم عن اثنين أو ثلاثة - يعرف الحقيقة. لم يخبر أحد مطلقا لأنه، نظرا لكونه سياسيا، كان يخشى من فضيحة كهذه. لم تكن ترغب في أن أنشأ تحت هذا التأثير، وأظن أنها كانت محقة. وواصل هو فعل أشياء وضيعة وغير مشرفة ... ولا يزال يفعلها اليوم. ما أريد قوله إنه سياسي ... سياسي وضيع جدا. إنه الآن عضو بمجلس الشيوخ ولم يتغير. يمكنني أن أخبرك باسمه ... أظن أن من شأن البعض أن يظنوه رجلا موقرا ... لكنني وعدتها ألا أفصح عن ذلك أبدا. هو يظن أنني ميت ... لقد جاء إليها ذات مرة وطلب أن يراني، وأن يساهم في تعليمي ومستقبلي. قال إن ثمة أشياء يمكن أن يفعلها من أجلي في أمريكا ... فأخبرته ببساطة بأنني توفيت ... بأنني قتلت في الحرب.»
أنهى حديثه بفورة حماس مفاجئة، وأشرق وجهه بالمحبة. وأردف قائلا: «ولكن يجب أن تعرفيها حقا لكي تفهمي ما أقوله. فعندما تعرفينها، ستفهمين كل شيء؛ لأنها واحدة من العظماء ... الأقوياء في العالم. في الواقع، إنه أحد الأمور التي يستحيل شرحها - لك أو حتى لسيبيل - يستحيل شرحها للآخرين. يجب أن يعرفها المرء بنفسه.»
إن كانت لديها في السابق أي شكوك أو مخاوف، أدركت الآن أنه فات أوان فعل شيء الآن؛ أدركت أنه من المستحيل تغيير إرادة عاشقين مثل جان وسيبيل. نوعا ما، باتت تفهم قصة والدة جان من مراقبته أكثر من الاستماع إلى شرحه المطول. لا بد أنها تتمتع بنفس ذلك الإصرار وتلك الرغبة الملحة اللذين كانا في ابنها ... وهي سمة لا تقاوم في حد ذاتها. ومع ذلك، كان الأمر صعبا؛ لأنها خشيت، بطريقة أو أخرى، من تبعات هذا الأمر غير المتوقع، ربما لأنه بدا على نحو غامض مثل وصمة سافينا بينتلاند.
قالت: «إذا كان لا أحد يعرف بذلك، فلا داعي للإفصاح عنه هنا. فلن يتسبب ذلك إلا في تعاسة جميع المعنيين بالأمر. هذا الأمر يعنيك أنت وحدك ... وسيبيل. ولا يحق للآخرين أن يتدخلوا، أو حتى أن يعرفوا؛ ولكنهم سيحاولون، يا جان ... ما لم ... تفعلا ما تريدان ... بسرعة. أحيانا أظن أنهم قد يفعلون أي شيء.»
قال بنفاد صبر: «تقصدين ...»
استرجعت أوليفيا ذلك التلميح المبهم الذي قد أشار إليه جون بينتلاند في الليلة السابقة. وقالت: «حدثت واقعة هروب مع عشيق لها ذات مرة في عائلة بينتلاند.»
سألها بحماس قائلا: «ألن تمانعي ذلك؟ ألن تتأذي ... إن تصرفنا بتلك الطريقة؟»
قالت أوليفيا في هدوء: «لن أعرف شيئا عن هذا حتى يكون قد فات أوان فعل أي شيء.»
أضاف قائلا: «الغريب في الأمر أننا فكرنا في ذلك. لقد تحدثنا عنه، لكن سيبيل كانت خائفة من أنك قد ترغبين في إقامة حفل زفاف ضخم وما إلى ذلك ...» «كلا، أظن أنه من الأفضل عدم إقامة أي زفاف على الإطلاق ... خاصة في ظل الطروف الراهنة.»
قال في حماس: «اقترحت السيدة كاليندار هذا باعتباره أفضل مخرج. ... وعرضت أن تقرضنا سيارتها الخاصة.» «هل ناقشت الأمر معها ومع ذلك لم تتحدث إلي؟» «حسنا، في الواقع، هي مختلفة ... هي وتيريز ... إنهما لا ينتميان إلى دورهام. علاوة على أنها هي التي فاتحتني في الأمر أولا. كانت تعرف بما يجري. هي تعرف دائما. أكاد أظن أنها خططت للموضوع برمته منذ فترة طويلة.»
رأت أوليفيا، وهي تتطلع من النافذة، سيارة العمة كاسي العتيقة تدخل ممر السيارات الطويل وهي بداخلها بصحبة الآنسة بيفي، بأوشحتها المتطايرة وكلابها البيكنواه.
قالت أوليفيا: «السيدة سترازرس قادمة. يجب ألا نثير شكوكها. ومن الأفضل ألا تخبرني بأي شيء عن خططك؛ ومن ثم ... لن أتمكن من التدخل حتى وإن رغبت في ذلك. فربما أغير رأيي ... لا أحد يدري مطلقا.»
نهض من مكانه، وتوجه إليها، وأمسك بيدها وقبلها. وقال: «لا يوجد ما يقال يا سيدة بينتلاند ... عدا أنك ستكونين سعيدة بما فعلته. لست بحاجة للقلق بشأن سيبيل ... سأسعدها ... أظن أنني أعرف كيف أسعدها.»
تركها، وهرع مبتعدا بسرعة مارا أمام صف صور الأجداد المعلقة في الردهة الطويلة وهو يبحث عن سيبيل، ويفكر في نفس الوقت كم سيبدو غريبا أن يحظى بحماة شابة وجميلة مثل السيدة بينتلاند. إنها امرأة فاتنة (قالها في نفسه في فورة حماسه)، امرأة عظيمة، ولكنها حزينة جدا، كما لو أنها لم تر سعادة في حياتها قط. كان ثمة حزن يخيم عليها. •••
ولكنه لم يفر بالسرعة الكافية، إذ إن عيني العمة كاسي الحادتين لمحتاه وهو يغادر المنزل في اتجاه الإسطبل. التقت بأوليفيا عند المدخل، فقبلتها وقالت: «هل الشاب الذي رأيته يغادر توا هو فتى سيبيل؟»
ردت أوليفيا: «أجل. كنا نتحدث عن سيبيل. قلت له أنه يجب ألا يفكر في الزواج منها.»
أشرق وجه العمة كاسي الشاحب بابتسامة استحسان. وأردفت قائلة: «أنا سعيدة يا عزيزتي، بأنك تتحلين بالعقلانية حيال هذا. كنت أخشى ألا تكوني كذلك، ولكنني لم أود التدخل. لا أعتقد أبدا أن خيرا يأتي من وراء هذا، ما لم يكن المرء مجبرا عليه. إنه ليس الشخص المناسب لسيبيل ... رباه، لا أحد يعرف أي شيء عنه. لا يمكنك أن تدعي فتاة تتزوج بتلك الطريقة ... من أي شخص يطرق بابها. بالإضافة إلى ذلك، السيدة بولسفير تراسلني ... أنت تتذكرينها، يا أوليفيا، خالة فتى عائلة مانرينج التي كانت تمتلك منزلا في شارع تشيسنت ... في الواقع، هي تعيش في باريس الآن في فندق كونتيننتال، وكتبت لي أنها اكتشفت لغزا غامضا بخصوص والدته. على ما يبدو لا أحد يعرف عنها الكثير.»
قالت أوليفيا: «يا إلهي، وهل ينبغي أن تراسلك بخصوص أمر كهذا؟ ما الذي جعلها تظن أنك يمكن أن تكوني مهتمة؟» «حسنا، كنا أنا وكيت بولسفير نرتاد المدرسة نفسها، وما نزال نتبادل الرسائل من وقت إلى آخر. كل ما في الأمر أنه تصادف أنني ذكرت اسم الفتى حين كنت أكتب لها عن سابين. قالت، بالمناسبة، إن سابين لديها أصدقاء غريبين جدا في باريس وإن سابين لم تزرها كثيرا مطلقا أو تطلب منها تناول الشاي معها. وثمة فضيحة جديدة بخصوص زوج سابين وامرأة إيطالية. وقعت في مدينة فينيسيا.» «ولكنه لم يعد زوجها.»
جلست السيدة العجوز وأخذت تفصح عن الأخبار التي جاءتها من رسالة كيت بولسفير؛ ومع كل كلمة بدا أنها تزداد قوة أكثر فأكثر، ويقل شحوبها وإجهادها شيئا فشيئا. (قالت أوليفيا في نفسها: «لا بد أن هذا هو أثر المصائب الكثيرة التي احتوتها رسالة واحدة.»)
رأت حينئذ أنها تصرفت في الوقت المناسب وكانت سعيدة بأنها كذبت، بطريقة قاطعة جدا، ومقتضبة جدا، دون أن تفكر في السبب وراء تصرفها هذا. لأن السيدة بولسفير كانت عازمة على سبر غور المسألة، حتى لو لم يكن يوجد سبب سوى إيذاء سابين؛ لقد عاشت فيما مضى في منزل في شارع تشيسنت ستريت كان يرى منه مدخل كل بيت من البيوت المحيطة. كانت واحدة من الأموات الذين أشار إليهم جون بينتلاند، الذين كانت حياتهم تتمحور حول التلصص على حياة الآخرين.
4
منذ اللحظة التي التقت فيها أوليفيا بالسيد جافين على الطريق الرئيسية حتى المأساة التي وقعت بعدها بيومين، بدا لها أن الحياة في منزل عائلة بينتلاند فقدت كل واقعيتها. وعندما فكرت في الأمر بعد ذلك بفترة طويلة، وجدت أن الساعات صارت أشبه بكابوس، انفكت فيه تعويذة السحر القديمة وأفسحت الطريق أمام إحساس مرهق بنزاع بين قوى، تمحورت حولها، وتركتها في النهاية مجروحة وكسيرة قليلا، ولكن تشعر بالأمان.
مرة أخرى استقرت الحرارة الخانقة التي كانت تغشى تلك الناحية من نيو إنجلاند من وقت إلى آخر، تاركة أوراق الأشجار متدلية في وهن وذبول، وتعود لتستقر فوق المروج والأهوار، وفي منتصف فترة ما بعد الظهيرة ظهر مشهد نادر الحدوث للغاية؛ ألا وهو تحرك سابين الكسولة تحت أشعة الشمس الحارقة. شاهدتها أوليفيا قادمة عبر الحقول، لا يقيها من أشعة الشمس اللافحة إلا المظلة الصفراء البسيطة. تقدمت ببطء وعدم اكتراث، وحتى دخلت غرفة الاستقبال الباردة المظلمة، كانت تبدو سابين الملولة المألوفة؛ ولم يظهر الاختلاف إلا بعد أن ألقت التحية على أوليفيا.
قالت باقتضاب: «سأغادر بعد غد.» وبدلا من أن تجلس ليتحادثا، ظلت تجول في الغرفة باضطراب، وهي تتفحص التحف الفنية الخاصة بهوراس بينتلاند وتقلب صفحات الكتب والمجلات دون أن ترى ما فيها.
سألتها أوليفيا: «لماذا؟ ظننت أنك ستمكثين حتى شهر أكتوبر.» «كلا، سأغادر على الفور.» ثم استدارت وتمتمت قائلة: «لقد كرهت دورهام دوما. إنها لا تطاق بالنسبة إلي الآن. أشعر بملل مريع. لقد كان السبب في مجيئي، في المقام الأول، هو أنني ارتأيت أنه يجب أن تتعرف تيريز على أهلها. ولكن لا جدوى من ذلك. فلن تتزوج بأي منهم. أرى الآن إلى أي مدى تشبه والدها. إنهم ليسوا أهلها ولن يكونوا كذلك أبدا ... لا أتصور أن أيا منا سترى دورهام مرة أخرى.»
ابتسمت أوليفيا. وقالت: «أعرف أن المكان هنا ممل.» «أوه، أنا لا أقصدك أنت يا عزيزتي أوليفيا، أو حتى سيبيل أو أوهارا، ولكن ثمة شيء في الأجواء ... سأذهب إلى نيوبورت لمدة أسبوعين ثم إلى بلدة بياريتز الفرنسية لقضاء شهر أكتوبر. تيريز ترغب في الالتحاق بأكسفورد.» ثم ابتسمت ابتسامة ساخرة. وقالت: «جزء ضئيل منها ينتمي إلى نيو إنجلاند، على أي حال ... مسألة التعليم هذه. أردت ابنة تكون نموذجا للفتاة الاجتماعية فمنحني الرب ونيو إنجلاند عالمة ترتدي حذاء بلا كعب وتنظر في عدسة المجهر. غريب كيف يضحي حال الأطفال.» (قالت أوليفيا في نفسها: «حتى تيريز وسابين. حتى هما ينتميان إلى هنا.»)
راقبت أوليفيا سابين، المتمرسة جدا في الحياة، المتأنقة جدا في ملبسها، الصلبة جدا - يا لها من رحالة لا تهدأ؛ وبينما كانت تراقبها خطر على بالها مرة أخرى أنها شديدة الشبه بالعمة كاسي - نسخة من العمة كاسي متمردة على آلهة العمة كاسي نفسها، «إنها ما بداخل كاسي مجسدا»، على حد قول جون بينتلاند.
قالت سابين، دون أن ترفع بصرها عن مجلة «نوفيل ريفيو» الفرنسية: «أنا سعيدة بأن هذا الأمر الذي يخص سيبيل قد حسم.» «أجل.» «هل أخبرك عن والدته؟» «أجل.» «هل جعلت ذلك يحدث فارقا؟ هل أخبرت الآخرين؟» «كلا ... أي شيء كان يمكنني أن قوله ما كان سيحدث أي فارق.» «كانت تلك حكمة منك ... أظن أن تيريز محقة، ربما ... محقة أكثر من أي منا. تقول إن الطبيعة تزدري عقود الزواج. الاحترام لا يمكن أن يبث الحياة في العفن ... وجان مفعم بالحياة ... وكذلك أمه.» «أعرف ما ترمين إليه.» «بالتأكيد يا عزيزتي، حري بك أن تعرفي. لقد عانيت منه بما فيه الكفاية. ومعرفة والدته تشكل فارقا. إنها ليست سيدة عادية تافهة، أو حتى امرأة كانت ضعيفة بما يكفي لأن تسمح بإغوائها. يصادف المرء كل خمسين عاما امرأة تستطيع أن ... كيف أقولها؟ ... أن تفلت من عواقب فعلة كهذه. يجب أن تكوني امرأة عظيمة حتى تفعلي هذه الفعلة. لا أظن أنها أحدثت فارقا كبيرا في حياتها، ويرجع هذا بالأساس إلى أنها سيدة تتمتع برجاحة العقل والذوق الرفيع. ولكن ربما كانت ستصنع فارقا في حياة جان لو أنه كان قد صادف أما أقل حكمة منك.» «لا أعرف إن كنت أتمتع بالحكمة أم لا. أنا مؤمنة به وأريد لسيبيل أن تهرب.»
أدركت أوليفيا أنهما كانتا لأول مرة تتناقشان في الأمر دون أن تذكره أي منهما، الأمر الذي كانت سابين قد تطرقت إليه تلميحا. أشاحت سابين بنظرها ووقفت تتطلع من النافذة عبر المروج حيث وقفت الأشجار النائية تتمايل مع موجات الحرارة. «لقد أفسدت إجازتي الصيفية قليلا يا عزيزتي أوليفيا، بانتزاعك صديقي الأيرلندي مني.»
فجأة غضبت أوليفيا كما كانت تغضب أحيانا من تدخلات العمة كاسي. وقالت: «أنا لم أنتزعه منك. لقد فعلت كل ما بوسعي لكي أتجنبه ... حتى جئت أنت. أنت من جمعنا معا. ولهذا السبب نحن جميعا في مأزق الآن.» وظلت تفكر في أن سابين كاليندار امرأة غريبة حقا، ومعقدة وغامضة. لم تكن تعرف أي امرأة أخرى في العالم يمكنها التحدث على نحو متجرد من المشاعر، وبدون عواطف مثلها.
قالت لها: «ظننت أنه سيؤانسني، وبدلا من ذلك وجدته يتخذني كاتمة لأسراره فحسب. يأتي إلي طلبا للنصيحة بخصوص امرأة أخرى. وهذا، في الواقع، ليس أمرا مثيرا للاهتمام جدا ...»
اعتدلت أوليفيا في جلستها فجأة. وقالت: «ما الذي قاله؟ وبأي حق يفعل شيئا كهذا؟» «لأنني طلبت منه ذلك. عندما جئت هنا لأول مرة، وعدته بأن أساعده. وكما تلاحظين، أنا ودودة جدا مع كليكما. وأريد سعادتكما و... علاوة على ذلك لا يسعني أن أفكر في حدوث أي شيء يمكن أن يمنحني سعادة أكبر.»
عندما لم تجبها أوليفيا، استدارت مولية ظهرها للنافذة وسألتها فجأة: «ماذا ستفعلين بشأنه؟»
مرة أخرى رأت أوليفيا أنه من الأفضل ألا ترد، ولكن سابين ظلت تلح في تلك النقطة بلا هوادة قائلة: «يجب أن تعذريني على التحدث بصراحة، ولكن لدي محبة كبيرة تجاهكما ... وأنا ... في الواقع، ضميري يؤنبني بخصوص هذه المسألة.» «لست مضطرة إلى ذلك. لا يوجد أي شيء يستلزم أن يؤنبك ضميرك بشأنه.» «أنت لا تتحرين الصدق كثيرا فيما تقولين.»
فجأة انفجرت أوليفيا غضبا. وقالت: «ولماذا يشغلك هذا الأمر يا سابين ... على الإطلاق؟ لماذا لا يمكنني أن أفعل ما يحلو لي، دون تدخل من أحد؟» «لأن، هنا ... وأنت تعلمين بقدر ما أعلم أنا ... هنا أمر كهذا مستحيل.»
وفجأة انتابها، بغرابة، شعور بالخوف من سابين، ربما لأنها كانت عازمة جدا على دفع الأمور نحو نتيجة محددة. بدا لأوليفيا أنها كانت تفقد أي قدرة على التصرف، أي قدرة على فعل أي شيء عدا الانتظار والتظاهر والوقوف مكتوفة الأيدي.
واصلت سابين حديثها بتأن قائلة: «وأنا مهتمة لأنه لا يمكنني أن أحتمل رؤية مشهد مأساوي آخر مماثل لمشهد جون بينتلاند والسيدة سومز.»
قالت أوليفيا بنبرة يائسة: «لن تحدث مأساة أخرى. حمي مختلف عن مايكل.» «هذا صحيح.» «نوعا ما ... هو رجل أفضل.» وجدت نفسها فجأة في موقف مدهش متمثل في الدفاع عن آل بينتلاند.
قالت سابين بقدر هائل من العقلانية: «ولكنه ليس رجلا حكيما جدا ... أو ذكيا جدا.» «أجل. من المستحيل قول ذلك ...» «شيء كهذا من المرجح ألا يأتي إلا مرة واحدة للمرأة.» (قالت أوليفيا في نفسها: «لماذا تواصل تكرار الأشياء نفسها التي ما برحت أقاومها طوال الوقت.») وجهرا قالت: «سابين، يجب أن تدعيني وشأني. أنا وحدي من أقرر.» «لا أريدك أن تفعلي شيئا ستندمين عليه بقية حياتك ... أشد الندم.» «تقصدين ...» «أوه، أقصد ببساطة أن تهجريه.»
مرة أخرى لاذت أوليفيا بالصمت، فباغتتها سابين بسؤالها: «هل زارك سيد يدعى جافين؟ رجل نبيل أصلع ذو وجه لامع؟»
نظرت أوليفيا إليها بحدة. وسألتها: «كيف عرفت ذلك؟» «لأنني من أرسله يا عزيزتي ... لنفس السبب الذي أنا موجودة هنا الآن من أجله ... لأنني كنت أريدك أن تفعلي شيئا ... أن تتصرفي. وأنا أعترف الآن لأنني ظننت أنه يجب أن تعرفي الحقيقة، ما دمت سأغادر. وإلا قد تظنين أن العمة كاسي أو آنسون من فعل هذا ... وربما تقع مشكلة من جراء ذلك.»
مرة أخرى لم تقل أوليفيا شيئا؛ إذ شردت في حزن عميق تفكر في أن سابين، في نهاية المطاف، لم تكن أفضل من الآخرين.
قالت سابين: «ليس من السهل الإقدام على تصرف في هذا المنزل. ليس من السهل فعل أي شيء سوى التظاهر ومواصلة الحياة هكذا حتى تصبحين في النهاية عجوزا وتموتين. فعلت هذا كي أساعدك ... من أجل مصلحتك.» «هذا ما تقوله العمة كاسي دوما.»
أصاب قولها هدفه؛ لأنه أسكت سابين، وبدت سابين في لحظة الصمت التي سادت بينهما أقرب إلى قوة روحية مدهشة، وتكاد تكون خبيثة، من كونها امرأة. وحين أجابت، كان ردها هزة كتف وابتسامة مريرة بدت مرارتها مضاعفة على الشفتين المطليتين بكل وضوح. وقالت: «أظن أنني أشبه العمة كاسي. رغم أنني لم أكن كذلك ... ربما كنت شخصا طبيعيا لطيفا ... مثل هيجينز أو أحد من الخدم.»
تردد صدى الحديث الغريب في قلب أوليفيا. ففي الآونة الأخيرة، ظلت الخاطرة نفسها تراودها مرارا وتكرارا؛ ليت كان بوسعها أن تكون بسيطة مثل هيجينز أو خادمة المطبخ. في هذه اللحظة بدا هذا الحال هو أكثر شيء ترغبه في الدنيا. ربما كانت هذه الرغبة الغريبة هي ما قاد سابين إلى أن تحيط نفسها بما يطلق عليه مجتمع دورهام «أناس غريبون»، كانوا، في نهاية المطاف، أشخاصا بسطاء مثل هيجينز وخادمة المطبخ ولكن تصادف أنهم كانوا يشغلون مكانة أعلى في المجتمع.
كانت سابين تقول: «الأجواء هنا بحاجة إلى تصفيتها. إنها بحاجة إلى عاصفة رعدية، ولا يمكن تصفيتها إلا بالإقدام على تصرف ... هذه العلاقة الغرامية بين جان وسيبيل ستساعد في ذلك. نحن جميعا عالقون في كتلة متشابكة من الهواجس والأفكار ... التي لا أهمية لها. ... يمكنك فعلها، يا أوليفيا. يمكنك أن تصفي الأجواء نهائيا.»
حينئذ ولأول مرة رأت أوليفيا أنها فهمت ما يكمن وراء كل هذا الفضول والاهتمام من جانب سابين؛ للحظة تصورت أنها أدركت ما هو ما تريده سابين بشغف وحماس أكثر من أي شيء في العالم.
فقالت جهرا: «بوسعي تصفية الأجواء، ولكن هذا من شأنه أيضا أن يكون فيه دمار كل شيء.»
نظرت سابين إليها مباشرة. وقالت: «وماذا في ذلك؟ ... هل ستشعرين بالأسى على ذلك؟ هل ستعتبرينه خسارة؟ هل سيصنع أي فارق؟»
باندفاع تحسست يد سابين. وقالت دون أن تنظر إليها: «سابين، أنا معجبة بك. أنت تعرفين ذلك. أرجوك، لا تعاودي الحديث في هذا الأمر ... أرجوك؛ لأنني أريد أن أظل معجبة بك ... ولا يمكنني أن أفعل خلاف ذلك. إنه شأننا، أنا ومايكل ... وسأعمل على تسوية الأمر، ربما الليلة، حالما أستطيع التحدث معه ... لا يمكنني الاستمرار أكثر من ذلك.»
سألتها سابين وهي تلتقط المظلة الصفراء: «هل تتوقعين قدومي على العشاء الليلة؟» «بالطبع، الليلة بالذات أكثر من أي وقت آخر ... يؤسفني أنك قررت الرحيل في وقت مبكر للغاية ... سأشعر بالكآبة بدونك أنت أو سيبيل.»
قالت سابين على عجل: «يمكنك أن تغادري أنت أيضا. ثمة مخرج. سيتخلى الرجل عن كل شيء من أجلك ... كل شيء. أعرف ذلك.» وفجأة رمقت أوليفيا بنظرة حادة. ثم سألتها: «أنت في الثامنة والثلاثين من عمرك، أليس كذلك؟» «بعد غد، سأبلغ الأربعين!»
أخذت سابين، بطرف مظلتها، تتفحص تصميم الزهور على سجادة سيفونيري، أشهر مصنعي السجاد في أوروبا، والتي كانت ضمن مجموعة هوراس بينتلاند. وقالت: «اغتنمي شبابك واستمتعي بحياتك قبل هرمك.» ثم خرجت إلى الحر القائظ لتعبر المروج صوب منزل «بروك كوتيدج».
بعدما صارت أوليفيا بمفردها، أدركت أنها كانت سعيدة لأن بعد غد لن تعود سابين موجودة. عرفت الآن ما كان يقصده جون بينتلاند حين قال: «ما كان يجب أن تعود سابين إلى هنا أبدا.»
5
ظلت الحرارة عالقة في الأجواء حتى المساء، مخترقة مع الظلام غرفة الاستقبال حيث جلسوا - سابين وجون بينتلاند والسيدة سومز العجوز وأوليفيا - يلعبون البريدج لآخر مرة، ومع انقضاء الأمسية ببطء شديد، سارت اللعبة على نهج أسوأ أكثر فأكثر؛ إذ أخذت السيدة سومز تنسى أوراق اللعب الخاصة بها وظل جون بينتلاند متحليا بالصبر وظلت سابين جالسة ملتزمة صمتا مكبوحا وساخرا، وقد ارتسم على وجهها تعبير كان يعني بجلاء: «يمكنني أن أحتمل هذا الليلة فقط لأنني غدا سأعاود الفرار إلى عالم نابض بالحياة.»
جلس جان وسيبيل لبعض الوقت يعزفان على البيانو، ثم انتقلا إلى مراقبة لعبة البريدج. لم يتحدث أحد إلا من أجل المراهنة أو لتذكير السيدة سومز بأنه حان الوقت لتوزع بيديها المرتعشتين أوراق اللعب على الطاولة. وحتى صوت أوليفيا الخفيض الهادئ بدا عاليا في الأجواء الساكنة الحارة للغرفة العتيقة.
في الساعة التاسعة مساء، ظهر هيجينز ومعه رسالة لأوليفيا، مفادها أن أمرا ما استبقى السيد أوهارا في البلدة وإنه إن استطاع أن يغادر قبل الساعة العاشرة فسيمر على منزل عائلة بينتلاند إذا وجد الأنوار لا تزال مضاءة في غرفة الجلوس. وبخلاف ذلك، لن يتمكن من المجيء لركوب الخيل في الصباح.
في إحدى المرات أثناء فترة توقف قصيرة عن اللعب، قالت سابين على مضض: «لم أسأل آنسون عن الكتاب. لا بد أنه اقترب من النهاية.»
عقبت أوليفيا قائلة: «اقترب كثيرا. لم يعد يوجد الكثير مما يستلزم فعله. سيأتي الرجال غدا لالتقاط صور فوتوغرافية لرسوم البورتريه الشخصية. إنه يستخدمها صورا إيضاحية في الكتاب.»
وفي الساعة الحادية عشرة، كانوا قد أنهوا جولة لعب، فقالت سابين: «أنا آسفة، ولكن يجب أن أتوقف عن اللعب. يجب أن أستيقظ مبكرا صباح غد لحزم الأمتعة.» ثم التفتت إلى جان وقالت: «هلا أوصلتني بالسيارة إلى المنزل؟ يمكن أن تأتي سيبيل معنا لتستمتع بالهواء الطلق. يمكنك أن تعيدها إلى هنا مرة أخرى.»
وعندما سمعتها أوليفيا، أرادت أن تصرخ قائلة: «كلا، لا تذهبي. يجب ألا تتركيني الآن ... بمفردي. يجب ألا تذهبي بتلك الطريقة!» ولكنها تمكنت من أن تقول بهدوء، بنبرة بدت حالمة: «لا تتأخري كثيرا يا سيبيل.» وبدون تفكير، ودون أن تدري بما كانت تفعله، بدأت تعيد أوراق اللعب إلى علبها.
رأت أن سابين خرجت أولا، ثم تبعها جون بينتلاند والسيدة سومز المسنة، وبقي جان وسيبيل حتى غادر الآخرون، وحتى ساعد جون بينتلاند السيدة المسنة لتستقل سيارته وقادها مصطحبا إياها. ثم، تطلعت بابتسامة بدت بطريقة ما مؤلمة لها، وقالت: «حسنا؟»
فأقبلت سيبيل عليها وقبلتها، وقالت بصوت خفيض: «إلى لقاء يا عزيزتي، بعد فترة قصيرة ... أحبك.» وقبلها جان بخجل على وجنتيها.
لم تستطع أن تجد ما تقوله. أدركت أن سيبيل ستعود، ولكنها ستعود سيبيل مختلفة، سيبيل التي صارت امرأة، ولم تعد الطفلة، التي كانت لا تزال وهي في سن الثامنة عشرة تمارس أحيانا اللعبة السخيفة المتمثلة في الجلوس في حجر أمها. وكانت ستأخذ معها شيئا كان لا يزال حتى حينئذ يخص أوليفيا، شيئا لا يمكنها أن تسترده ثانية أبدا. لم تستطع أن تجد ما تقوله. لم تستطع إلا أن تتبعهما إلى الباب، ومن هناك رأت سابين وقد جلست بالفعل في السيارة كما لو أنه لم يكن شيء استثنائي يحدث على الإطلاق؛ وفي نفس الوقت أرادت أن تذهب معهم، أن تهرب إلى أي مكان مهما كان.
رأتهما عبر الضباب يستديران ويلوحان لها بينما كانت السيارة تمضي مبتعدة، يلوحان لها بمرح وسعادة لأنهما كانا في مقتبل حياتهما ... وقفت عند المدخل لتراقب أضواء السيارة تبتعد في صمت على الطريق وفوق الجسر عبر الظلام متجهة إلى بوابة منزل «بروك كوتيدج». كان يوجد شيء بخصوص «بروك كوتيدج» ... شيء تفتقر إليه الأجواء في منزل عائلة بينتلاند: فهناك كان توبي كاين وسافينا بينتلاند يجتمعان في لقاءاتهما الماجنة.
وفي الجو الحار الساكن من الهواء، بلغ سمعها بخفوت صوت الأمواج النائية عبر الأهوار، وبغرابة خطرت على بالها كلمات أغنية كانت قد نسيتها منذ سنوات ... «الأمواج المتكسرة تتلاطم عالية على الشاطئ الصخري القاسي.» وفي نشاز مع نغمة الأمواج المتكسرة، ظلت الصراصير وحشرات الجندب (التي تنذر بقدوم فصل الخريف) تصدر أصواتا كعزف الكمان ونقيقا؛ ومن بعيد من ناحية مدينة ماربلهيد راقبت الضوء من نافذة الفنار يظهر ويختفى بتقطع كأنه عين تغمز. كانت واعية بكل مشهد وصوت ورائحة في هذه الليلة الخانقة. قالت في نفسها إنه ربما تهب عاصفة قبل أن يصلا إلى كونيتيكت. سيواصلان قيادة السيارة طوال الليل ...
كانت أضواء سيارة سابين قد عاودت الآن التحرك، مبتعدة عن منزل «بروك كوتيدج»، عبر أراضي أوهارا، تنهب الأرض في اتجاه الطريق الرئيسية. وفي الغور السحيق بجوار النهر، اختفيا للحظة ثم ظهرا مرة أخرى قبالة الكتلة المظلمة للتل الذي كانت تكلله مقبرة البلدة. ثم فجأة اختفيا، تاركين وراءهما صوت الأمواج المتكسرة وصفير الصراصير والضوء المتقطع البعيد المنبعث من الفنار.
ظلت تراقبهما جنبا إلى جنب في السيارة المنطلقة عبر الظلام، غافلين عن كل شيء في هذا العالم باستثناء سعادتهما. أجل، شيء ما كان قد رحل عنها إلى الأبد ... شعرت بغيرة مروعة جامحة كانت أشبه بألم جسدي، وفجأة أدركت أنها كانت واقفة بمفردها تماما في الظلام أمام باب المنزل العتيق. •••
استفاقت على صوت آنسون وهو يسألها: «أهذا أنت يا أوليفيا؟» «أجل.» «ماذا تفعلين بالخارج؟» «خرجت لأستنشق بعض الهواء.» «أين سيبيل؟»
للحظة لم تجب، ثم قالت بجرأة نوعا ما: «خرجت بالسيارة مع جان ليوصلا سابين إلى المنزل.»
قال: «تعرفين أنني لا أوافق على ذلك.» كان في تلك اللحظة قد أتى عبر الرواق ووقف بجوارها. «لن يضر ذلك في شيء.» «قيل ذلك من قبل ...» «لماذا تساورك الشكوك إلى هذا الحد، يا آنسون، تجاه ابنتك؟» لم تكن لديها رغبة في مجادلته. لم تكن تريد شيئا سوى أن تترك وشأنها، أن تذهب إلى غرفتها وتستلقي هناك وحدها في الظلام؛ إذ عرفت الآن أن مايكل لن يأتي.
قال آنسون: «أوليفيا، ادخلي للحظة. أريد أن أتحدث معك.» «حسنا ... ولكن أرجوك لا تكن مزعجا. أنا مرهقة جدا.» «لن أكون مزعجا ... لا أريد سوى تسوية أمر ما.»
عرفت حينئذ أنه عازم على أن يكون مزعجا جدا، وقالت في نفسها إنها لن تستمع إليه؛ وإنما ستفكر في شيء آخر أثناء حديثه، وهي حيلة تعلمتها منذ وقت طويل. وفي غرفة الجلوس، جلست في هدوء وانتظرت أن يبدأ حديثه. بدا مرهقا وشاحبا أكثر من المعتاد وهو يقف إلى جوار رف المدفأة. أدركت أنه كان قد عكف على العمل على تأليف كتابه؛ وأدركت أنه أفرغ كامل تركيزه، وكل ذرة في كيانه، في هذا العمل؛ ولكن بينما كانت تراقبه تلاعبت بها مخيلتها بالخدعة القديمة بتخيل أن مايكل واقف هناك مكانه ... متحديا، عابسا قليلا، مفعما بقوة متمهلة، ثابتة، لا تنضب.
قال: «الأمر بالأساس بخصوص سيبيل. أريدها أن تكف عن مقابلة هذا الفتى.» «لا تكن متشددا يا آنسون. لم تجن شيئا من هذا.» (قالت في سرها: «لا بد أنهما وصلا إلى مدينة سالم الآن.») ثم أضافت جهرا: «أنت والدها يا آنسون، لماذا لا تتحدث معها؟» «من الأفضل أن تفعلي أنت ذلك. ليس لي تأثير عليها.» «لقد تحدثت معها»، قالتها وهي تفكر بمرارة في أنه لن يستطيع أبدا أن يخمن مقصدها. «وما النتيجة؟ تشاهدينها، وهي تخرج في هذه الساعة من الليل. ...»
هزت كتفيها، يملؤها شعور حماسي بأنها تفوقت على العدو؛ إذ في تلك اللحظة لم يبد آنسون عدوا لها هي فحسب، وإنما عدو لجان وسيبيل، ولجميع الشباب المفعمين بالحيوية في العالم بأسره.
كان يقول: «علاوة على هذا، هي لا تكن الاحترام اللائق لي ... أنا والدها. أحيانا أظن أن السبب هو الأفكار التي أخذتها منك ومن الدراسة بالخارج.» «يا لحقارة ما تقول! ولكن إذا أردت الحقيقة، أظن أن السبب هو أنك لم تكن أبدا أبا صالحا. أحيانا، أظن أنك لم ترغب أبدا في إنجاب أولاد. أنت لم تهتم كثيرا بهما ... ولا حتى بجاك ... عندما كان على قيد الحياة. لم تتصرف أبدا باعتبارهما ولدانا. كنت دوما تترك الأمر لي أنا ... وحدي.»
تصلب العنق النحيل قليلا وقال: «ثمة أسباب لذلك. أنا رجل ذو مشاغل. أقضي جل وقتي، ليس في جمع المال، وإنما في مهام تجعل العالم مكانا أفضل بطريقة ما. فإذا كنت قد أهملت ولدي، فقد كان هذا لسبب وجيه ... فقلة هم الرجال الذين لديهم هذا القدر مما يشغل أذهانهم. كما أن لدي الكتاب الذي يأخذ كل طاقاتي. أنت غير منصفة، يا أوليفيا. لم تستطيعي أن تريني على حقيقتي أبدا.»
ردت أوليفيا قائلة: «ربما.» (أرادت أن تقول: «وما الفارق الذي يصنعه الكتاب لأي أحد في العالم؟ من الذي يهتم إن كتب أم لا؟») أدركت أنه يجب عليها أن تواصل خداعها، ولذا قالت: «لا داعي للقلق، لأن سابين سترحل غدا وسيرحل معها جان.» ثم تنهدت. وأردفت: «بعد ذلك، لن يعكر أي شيء صفو حياتك من ساعتها فصاعدا. من المستبعد تماما أن يحدث أي شيء استثنائي.»
قال: «ولدينا هذا الأمر الآخر، خيانتك لي وللعائلة بأكملها.»
تجمدت في مكانها قليلا، وتساءلت: «ماذا تقصد بذلك؟» «تعرفين ما أقصده.»
رأت أنه يضع نفسه في موضع الزوج المظلوم، متصنعا دور الشهيد الذي برعت العمة كاسي في أدائه بكفاءة. كان ينوي أن يلعب دور الزوج الصبور ذي النية الحسنة وأن يضعها في موضع المرأة ذات السلوك المشين؛ وتدريجيا، وبغضب عارم ومتمهل، قررت أن تبطل حيلته هذه. «أظن يا آنسون، أن ما تقوله هراء. لم أخن أحدا أبدا. سيخبرك والدك بذلك.»
قال: «أبي كان ضعيفا دوما تجاه كل ما يتعلق بالنساء، والآن بدأت تصرفاته تصبح طفولية. لقد بلغ من الكبر عتيا حتى إنه بدأ يغفر ويصفح عن أي شيء.» ثم أردف قائلا بعد برهة من الصمت: «هذا المدعو أوهارا. لست مغفلا كما تظنين يا أوليفيا.»
لم يتفوه أحدهما بكلمة لفترة طويلة، وفي النهاية كانت أوليفيا هي التي تحدثت، لتدخل مباشرة في صلب الموضوع. فسألته قائلة: «آنسون، هلا فكرت مليا في أن تسمح لي بالانفصال عنك؟»
كان وقع هذا عليه مفزعا. شحب وجهه، وبدأت اليدان الطويلتان النحيلتان المرهفتان ترتعشان. لاحظت أنها أصابته في مقتل؛ إذ نالت من شعوره المفرط بالكبرياء والكرامة. فلن يطيق تصديق فكرة أنها ترغب في التخلص منه لكي ترتبط برجل آخر، وبخاصة رجل أقر علانية أنه يحتقره، رجل يتمتع بسمات هو نفسه لا يتمتع بها. لم يستطع أن يرى في الطلب شيئا سوى إهانة لكرامته الثمينة.
بذل جهدا ليبتسم، محاولا أن يجعل الطلب مادة للسخرية، وقال: «هل فقدت صوابك؟» «كلا يا آنسون، على الإطلاق. ما أطلبه هو شيء بسيط. سبق وأن حدث من قبل.»
لم يجبها على الفور، وبدأ يتحرك في الغرفة باهتياج شديد، وبدا كجسم غريب في غير موضعه وسط الصور والكراسي والتحف الفنية المذهلة والجميلة الخاصة بهوراس بينتلاند - في غير محله في هذا المكان بقدر ما كان في محله قبل شهر أو شهرين مضيا وسط متحف الذخائر الأثرية لعائلة بينتلاند.
كرر قوله: «كلا، ما تطلبينه سخيف ومناف للعقل! غدا حين يزول عنك الإرهاق سترين كم هو سخيف. كلا ... لا أستطيع التفكير في أمر كهذا!»
بذلت جهدا للتحدث بهدوء. وسألته: «هل هذا لأنك لا ترغب في أن تضع نفسك في هذا الموقف؟» «لا علاقة للأمر بهذا. لماذا تريدين الطلاق؟ نحن موسران وقانعان وهانئان وسعيدان ...»
قاطعته متسائلة: «هل نحن حقا كذلك؟» «ما الذي تتوقعينه يا أوليفيا ... أن تعيشي دوما في حالة توهج رومانسي؟ نحن أسعد من معظم الناس.»
قالت ببطء: «كلا، لا أظن أن السعادة كانت تعني لك يوما الكثير، يا آنسون. ربما أنت أسمى من أشياء مثل السعادة والتعاسة. ربما أنت أكثر حظا من معظمنا. من أجل ذلك، أشك في أنك عرفت يوما السعادة أو التعاسة. لقد كنت، وما زلت، تشعر بالاضطراب عندما يضايقك الآخرون أو يعترضون طريقك، ولكن ... هذا كل ما تشعر به. لا شيء أكثر من ذلك. السعادة ... أقصد بمعناها العقلاني ... تتعلق في بعض الأحيان بالمتعة في عيش الحياة، ولا أظنك عرفت ذلك يوما، ولو للحظة واحدة.»
التفت إليها قائلا: «أنا رجل صادق، تقي، ذو ضمير يقظ، وأظن أن ما تقولينه هراء!» «كلا، بتاتا! الرب يعلم أنني أدرك حقيقة ما أقوله تمام الإدراك.»
مرة أخرى وصل حديثهما إلى طريق مسدود ومن جديد لاذ كلاهما بالصمت، الذي ربما كانت تعكره حالة من الاضطراب والارتباك نابعة من إدراكهما لأنهما قد دمرا فيما بينهما شيئا لا يمكن استرجاعه أبدا، ومع ذلك حل على أوليفيا شعور فاتر وقوي بالاتزان كان يهبط عليها كالمعجزة في أوقات كهذه. وشعرت أيضا أنها كانت تكافح في وضع حرج للغاية كانت خياراتها فيه محدودة. وأخيرا قالت: «سأسمح لك حتى بأن تطلقني، إن كان هذا سيكون أسهل لك. لا أمانع في أن أضع نفسي في موضع اللوم.»
مرة أخرى بدأ يرتجف. ثم قال: «هل تحاولين إخباري بأنك. ...»
قاطعته قائلة: «أنا لا أحاول إخبارك بأي شيء. ليس هناك أي شيء على الإطلاق ... ولكن ... ولكن سأعطيك أسبابا تستند إليها إذا وافقت.»
أشاح بوجهه عنها في اشمئزاز. ثم قال: «بل هذا أكثر استحالة ... الرجل النبيل لا يطلق زوجته أبدا.»
ردت قائلة: «لنترك الرجال النبلاء خارج موضوعنا هذا يا آنسون. لقد سئمت سماع ما يفعله النبلاء وما لا يفعلونه. أريدك أن تتصرف على طبيعتك، بصفتك آنسون بينتلاند، وليس كما تظن أنه حري بك أن تتصرف. لنكن صادقين. أنت تعرف أنك تزوجتني فقط لأنه كان يتعين عليك الزواج بإحداهن ... وأنا ... أنا لم أكن حقا أفتقر إلى الاحترام، حتى وإن كان والدي، كما تذكرني دوما، أيرلنديا معدما. و... لنكن منصفين أيضا. لقد تزوجتك لأنني كنت وحيدة وخائفة وأردت أن أهرب من الحياة البغيضة مع العمة أليس ... أردت بيتا. كان هذا كل ما في الأمر، أليس كذلك؟ كلانا مذنب، ولكن هذا لا يغير الواقع بتاتا. كلا، أظن أنك مارست الحب معي من منطلق الشعور بالواجب. حاولت ذلك لأطول فترة ممكنة وكرهت الأمر دوما. أوه، لقد كنت أعرف ما كان يدور. لقد كنت أعرف منذ دخلت منزل عائلة بينتلاند لأول مرة.»
كان يتأملها في تلك اللحظة بتعبير ثابت يشي بافتتان مروع؛ بل ربما كان في غشية من تأثير نبرة صوتها، وببطء وعزم، مزق كل أقنعة التظاهر التي جعلت حياتهما ممكنة لفترة طويلة جدا. وظل يتمتم: «كيف يمكنك الحديث بهذه الطريقة؟ كيف يمكنك قول مثل هذه الأمور؟»
تابعت، بنبرة متأنية وبصعوبة: «كلانا مذنب ... ولقد كانت علاقة فاشلة، منذ البداية . حاولت أن أبذل قصارى جهدي وربما فشلت أحيانا. حاولت أن أكون أما صالحة ... والآن بعد أن كبرت سيبيل ومات ... جاك، أريد فرصة أن أنال الحرية. ما أزال صغيرة السن بما يكفي لأن أعيش قليلا قبل فوات الأوان.»
قال وهو يجز على أسنانه: «لا تكوني حمقاء يا أوليفيا ... أنت في الأربعين من عمرك ...» «لست بحاجة لتذكيري بذلك. غدا سأبلغ الأربعين. أدرك ذلك ... بكل مرارة. ولكن بلوغي الأربعين لا يشكل فارقا لك. الأمر سيان لك لو كنت في السبعين من عمري. لكنه يشكل لي فارقا كبيرا.» انتظرت لحظة، ثم قالت: «تلك هي الحقيقة يا آنسون؛ والحقيقة هي ما يهمني الليلة. أطلق سراحي يا آنسون ... دعني أرحل بينما لا تزال الحرية تعني لي شيئا.»
ربما لو أنها كانت قد خرت راكعة عند قدميه متخذة موقف امرأة بائسة ذات سلوك مشين، لو أنها كانت قد جعلته يشعر بالقوة والنبل والبطولة، لانتصرت عليه؛ ولكن لم يكن في مقدورها فعل هذا. لم يكن في مقدورها إلا مواصلة التصرف بعقلانية باردة.
أخذ يقول: «وستتخلين عن كل هذا؟ ستتركين منزل عائلة بينتلاند وكل ما يمثله لتتزوجي من هذا الأيرلندي الحقير ... النكرة، الذي هو ربما ابن عامل رصيف ميناء مهاجر.»
ردت في هدوء: «إنه ابن عامل رصيف ميناء. ووالدته كانت ربة منزل. لقد أخبرني بذلك بنفسه. وما إلى ذلك كله ... عجبا يا آنسون، هذا لا يعني لي شيئا ... لا شيء على الإطلاق لا يمكنني الاستغناء عنه، لا شيء يعني لي الكثير جدا. أنا مولعة بوالدك يا آنسون، ومولعة بك حين تكون على طبيعتك لا متشدقا بما ينبغي لرجل نبيل أن يفعله أو ما لا ينبغي أن يفعله. ولكن سأتخلى عن كل هذا ... عن كل شيء ... من أجل ذلك الشيء الآخر.»
للحظة تحركت شفتاه في صمت وانفعال، كما لو أنه كان يستحيل عليه أن يرد على أشياء منافية للعقل كتلك التي تفوهت بها زوجته للتو. وأخيرا استطاع أن يقول: «أظن أنك حتما فقدت عقلك، يا أوليفيا ... لمجرد أن تفكري في أن تطلبي شيئا كهذا مني. لقد عشت هنا فترة طويلة بما يكفي لأن تعرفي مدى استحالة هذا الأمر. بعضنا يجب أن يكون قدوة في المجتمع. لم يسبق أبدا أن وقعت فضيحة، أو حتى حالة طلاق، في عائلة بينتلاند ... أبدا. لقد أصبحنا نمثل شيئا ما. ولا يمكن تنحية ثلاثمائة عام من الحياة الأخلاقية النقية جانبا بكل سهولة ... نحن في مكانة تجعل الآخرين يتطلعون إلينا بعين الاحترام. ألا يمكنك أن تري ذلك؟ ألا يمكنك أن تستوعبي هذه المسئولية؟»
وللحظة، انتابها شعور رهيب ومشوش، ومنتش، بالقوة، شعور بأنها تملك وسيلة تدميره، هو وهذا الصرح الزائف من الافتخار والاحترام. لم يكن يتعين عليها سوى أن تقول: «كان هناك سافينا بينتلاند وعشيقها ...» مرت اللحظة سريعا وأدركت على الفور أنه تصرف لا يمكنها فعله. وبدلا من ذلك، تمتمت قائلة: «أه، آنسون، هل تظن حقا أن العالم يتطلع إلينا أصلا؟ هل تظن أنهم يهتمون حقا بما نفعله أو ما لا نفعله؟ لا يمكن أن تكون أعمى هكذا.» «لست أعمى ... ولكن كل ما في الأمر أنه توجد أمور مثل الشرف والعادات والتقاليد. نحن نمثل شيئا ما.»
قاطعته: «وما هو؟» «اللياقة، الماضي المجيد، الاستقرار ... أشياء لا تحصى ... كل الأشياء التي تمثل أهمية في مجتمع متحضر.»
كان يؤمن فعلا بما يقوله؛ عرفت أنه لا بد وأنه كان يؤمن به ليؤلف آلاف الكلمات المملة والمجهدة تمجيدا في الماضي.
واصل حديثه. «كلا، ما تطلبينه مستحيل. أنت تعرفين ذلك قبل أن تطلبيه ... وسيكون لطفا منك تجاهي ألا تذكريه ثانية مطلقا.»
كان لا يزال شاحبا، ولكنه كان قد تمالك نفسه مرة أخرى ولم تعد يداه ترتجفان؛ وأثناء حديثه، إذ تصاعد شعوره بالفضيلة، ازداد فصاحة، واكتسى صوته بتلك المسحة المقدسة التي كان يصطبغ بها دوما صوت «أسقف الطبقة الأرستقراطية» وجعلته يبدو كرجل دين شهير وعصري. وربما لأول مرة منذ طفولته، منذ الأيام الخوالي التي كانت الفتاة الصغيرة الصهباء سابين تسخر فيها من خصلات شعره المجعد وبدلاته المخملية، شعر بأنه شخص قوي ذو نفوذ. كان يوجد نوع من النشوة العارمة في معرفة قدر سلطته على أوليفيا. وفي خضم حماسه العفيف، بدا للحظة أنه صار شخصا إيجابيا، بل ومثيرا للإعجاب.
وأخيرا قالت بهدوء: «وماذا لو هربت ببساطة ... دون أن أكلف نفسي عناء الطلاق؟»
حطم التعليق كل ما لديه من ثقة بنفسه مرة أخرى؛ وأدركت أنها قد ضربته في أضعف نقطة في نقاط دفاعه كلها، وهي الخوف من الفضيحة.
صاح قائلا: «لن تفعلي ذلك! لا يمكنك - لا يمكنك التصرف كعاهرة رخيصة.» «إن حب رجل لا يجعلني عاهرة رخيصة ... لم أحب أي رجل غيره قط.» «لا يمكنك أن تجلبي العار لسيبيل، حتى وإن كنت لا تكترثين ببقيتنا.» (قالت في نفسها: «إذن، هو يعرف أنني لا أستطيع فعل شيء كهذا، وأنني لا أتحلى بالشجاعة. يعرف أنني عشت فترة طويلة جدا في هذا العالم.») وجهرا قالت: «أنت لا تعرفني يا آنسون ... طيلة كل هذه السنوات لم تعرفني مطلقا.»
أضاف بسرعة قائلا: «إلى جانب أنه لن يفعل شيئا كهذا. فمن المستبعد أن يلقي شخص وصولي كهذا بحياته المهنية كلها وراء ظهره بالهرب مع امرأة. ستكتشفين هذا بنفسك إن سألته.» «بل هو على استعداد لذلك. لقد أخبرني بذلك بالفعل. ربما لا تستطيع أن تستوعب أمرا كهذا.» وعندما لم يرد عليها، أردفت تقول بنبرة ساخرة: «علاوة على ذلك، لا أظن أن الرجل المهذب سيتكلم كما تتكلم أنت الآن. كلا يا آنسون ... لا أظن أنك تعرف ماهية العالم الخارجي. لقد عشت هنا دوما، منعزلا في زاويتك الخاصة الصغيرة.» وهي تنهض، تنهدت وتمتمت قائلة: «لكن لا جدوى من الكلام. سأخلد إلى النوم ... أظن أنه يجب علينا أن نجاهد بأقصى ما نستطيع ... ولكن ثمة أوقات ... أوقات كهذه الليلة يصعب علي فيها احتمال الأمر. يوما ما ... من يدري ... لن يعود ثمة وجود لشيء يبقيني ...»
خرجت دون أن تعبأ بإنهاء ما كانت تعتزم قوله، وقد شردت مجددا في شعور مربك بعدم جدوى كل شيء. خيل إليها أنه كان ينتابها نفس شعور شخص أبله واقف وسط حقل فارغ يلوح بذراعيه في الهواء دون طائل.
الفصل العاشر
1
قبيل الصباح، ودون سابق إنذار، تحول الجو الحار الخانق الذي لا نسمة فيه إلى عاصفة هائلة ملأت السماء كلها بضوء يعمي الأبصار وأحاطت الريف بأكمله بهدير جامح ناجم عن هبوب الرياح والرعد، ليطلع بعدها الفجر كاشفا عن حقول مدمرة ومنكوبة وتتناثر فيها أغصان مكسورة، والحديقة المشرقة صارت متضررة ومقصوفة بفعل البرد.
على الإفطار بدا آنسون أنيقا حليق الذقن هادئ النفس، كما لو أنه لم يحدث أي صراع قبل بضع ساعات في غرفة الجلوس، كما لو أن الموقف لم يترك أي انطباع على السطح الخارجي الهادئ الذي يواجه به العالم. صبت أوليفيا قهوته في هدوء وسمحت له أن يقبلها كما يفعل كل يوم طيلة عشرين عاما - قبلة غريبة وباردة تطبع بذهن شارد - ووقفت عند مدخل المنزل تشاهده ينطلق مبتعدا بالسيارة إلى محطة القطار. لم يحدث أي تغيير؛ بدا لها أن الحياة في منزل عائلة بينتلاند صارت عاجزة عن أي تغيير.
وعندما استدارت مولية ظهرها للباب، استدعاها بيترز إلى الهاتف لتستقبل برقية من جان وسيبيل؛ مفادها أنهما تزوجا الساعة السابعة بمدينة هارتفورد.
فانطلقت على الفور تبحث عن جون بينتلاند وبعد بحث عثرت عليه في ساحة الإسطبل يتحدث إلى هيجينز. وقف الثنائي الغريب بجوار الفرس الحمراء، التي أخذت تراقبهما بعينين حمراوين خبيثتين صغيرتين؛ كانا يتبادلان الحديث بتلك الطريقة الحميمية الغريبة التي كانت معهودة منهما عند ذكر الخيول، وبينما كانت تقترب منهما، فوجئت، كما يحدث لها دوما، بالجمال المتوهج للفرس، وبالأنفة البادية من رأسها المنحني، واهتزاز فتحتي أنفها البديعتين وهي تتنفس، والشراسة في عينيها. كانت فرسا غريبة وجميلة وخبيثة بعض الشيء. سمعت أوليفيا هيجينز يقول إنه لا جدوى من محاولة استيلادها ... فهذا لن يجدي نفعا مع فرس كهذه ترفس وتزعق وتعض لمجرد رؤية حصان آخر ...
كان هيجينز أول من رآها، ورفع قبعته، وحياها، وعندما التفت الرجل المسن إليها، قالت: «لدي أخبار لك، يا سيد بينتلاند.»
بدت في عينيه نظرة فطنة غريبة وسألها: «هل هي بخصوص سيبيل؟» «أجل ... قضي الأمر.»
لاحظت الحيرة على وجه هيجينز، وتحركت بداخلها رغبة لإخباره. بالتأكيد يجب أن يكون هيجينز من بين أوائل المطلعين على الخبر. فأضافت قائلة: «الأمر بخصوص الآنسة سيبيل. لقد تزوجت السيد الشاب دي سيون هذا الصباح في مدينة هارتفورد.»
كان للخبر وقع السحر على السائس الضئيل البنية؛ إذ تهلل وجهه القبيح المتغضن بابتسامة واسعة ولطم فخذه في حماس. وقال: «هذا عظيم يا سيدتي ... أريدك أن تعرفي أنني كنت مؤيدا للأمر منذ البداية. لقد أحسنت فعلا ... وهو أيضا.»
متأثرة مجددا بحماسه، قالت: «إذن تظن أنه أمر جيد؟» «بل عظيم يا سيدتي. فهو شخص نادر الوجود. هو الشخص الوحيد الذي أعرف أنه كان مناسبا بالقدر الكافي. كنت أخشى من أن تحاول قصارى جهدها جذب انتباه السيد أوهارا ... ولكن كان يجب أن ترتبط برجل أصغر سنا.»
تحولت عنه، فرحة وقد زال شعور القلق الذي لم يكن قد بارحها مطلقا منذ اللحظة التي انطلقا فيها بالسيارة وسط الظلام. ظلت تقول في نفسها: «هيجينز محق دوما في حكمه على الناس. فهو يمتلك حاسة سادسة.» نوعا ما، كان أكثر من تثق في حكمه من بينهم جميعا.
اقتادها جون بينتلاند، بعيدا عن نطاق فضول هيجينز، بمحاذاة السياج الذي يحيط بالحدائق. بدا أن الخبر أثر فيه تأثيرا غريبا؛ إذ اعتلى وجهه الشحوب، ولفترة طويلة ظل واقفا ينظر من فوق السياج في صمت. وأخيرا سألها: «متى فعلاها؟» «الليلة الماضية ... خرجت بالسيارة معه ولم يعودا.»
قال: «آمل أننا كنا محقين. آمل ألا نكون قد تسترنا على حماقة.» «لا ... أنا واثقة من أننا لم نفعل.»
شيء في توهج أشعة الشمس، وفي حقيقة هروب سيبيل وسعادتها، في الهواء المنعش المتأثر بعد هبوب العاصفة باللمسات الأولى لفصل الخريف، ملأها بالشعور بالدوار، حتى إنها نسيت متاعبها؛ ونسيت حتى أن هذا كان يوم عيد ميلادها الأربعين.
سألها قائلا: «هل ذهبا بسيارة سابين؟» «أجل.»
وهو يبتسم فجأة ابتسامة عريضة، قال: «ربما ظنت أنها تؤذينا بذلك.» «كلا، هي تعرف أنني موافقة. كانت هي أول من فكر في الأمر . واقترحته فعلا ...»
وعندما تحدث مرة أخرى، كان ثمة أثر طفيف للمرارة في نبرة صوته. إذ قال: «أنا واثق من أنها فعلت ذلك. كل ما آمله أن تكف عن أذاها عند هذا الحد. فعلى أي حال، لقد حققت انتصارا على كاسي ... وهذا ما كانت ترغب فيه، أكثر من أي شيء ...» والتفت إليها بحدة، وبنبرة يشوبها القلق. أردف قائلا: «أظن أنه سيأخذها معه، أليس كذلك؟» «أجل. سيذهبان إلى باريس أولا، ثم إلى الأرجنتين.»
فجأة مس كتفها بلفتة مودة غريبة وخجلة. وقال: «سيكون الأمر صعبا عليك عزيزتي أوليفيا ... بدونها.»
جعلها هذا التصرف المفاجئ تشعر بغصة في حلقها، لكنها لم ترغب في أن تكون موضع شفقة. كانت تكره الشفقة، لأنها كانت توحي بضعف من جانبها.
سارعت بقولها: «أوه، سيأتيان من وقت إلى آخر ... وأظن أنهما ربما يعودان يوما ما للعيش هنا.» «أجل ... ومنزل عائلة بينتلاند سيئول إليهما ذات يوم.»
وحينئذ تذكرت لأول مرة أن ثمة شيء كان يجب عليها أن تخبره به، شيء بدا أشبه باعتراف. يجب أن تخبره الآن، ولا سيما أن جان سيمتلك يوما ما منزل عائلة بينتلاند وكل ثروتها.
بدأت حديثها قائلة: «ثمة شيء لم أخبرك إياه من قبل. إنه شيء كتمته في نفسي لأنني أردت أن تحظى سيبيل بسعادتها ... رغم كل شيء.»
قاطعها قائلا: «أعرف ما هو.» «لا يمكن أن تعرف ما أقصده.» «بلى، أعرف؛ لقد أخبرني الفتى بنفسه. ذهبت إليه لأتحدث معه عن سيبيل لأنني أردت أن أتيقن منه ... وبعد برهة أخبرني. كان تصرفا جديرا بالاحترام أن يفعل ذلك. لم يكن بحاجة إلى أن يفصح عن الأمر. فما كانت سيبيل لتخبرنا به مطلقا ... ما كانت لتفعل مطلقا إلا بعد فوات الأوان.»
جعلها الحديث تشعر بحالة من الضعف والاضطراب؛ لأنها كانت قد توقعت منه غضبا واستنكارا. لقد كانت تخشى من أن يعتبر صمتها خيانة له، وربما أدى هذا في النهاية إلى تدمير علاقة الثقة الطويلة بينهما.
وشرع يقول: «لا يد للصبي في هذا. إنه أمر لا يستطيع المرء أن يشرحه كما ينبغي. لكنه فتى لطيف ... وكانت سيبيل مصممة عليه. أظن أنها تتمتع بتفكير جيد وعقلاني مع حداثة سنها.» تنهد والتفت نحوها مرة أخرى، ثم أضاف قائلا: «لن أخبر الآخرين بالأمر ... ولا حتى آنسون. ربما لن يعرفوا أبدا، وإذا لم يعرفوا، فما لا يعرفونه لن يسوءهم.»
بدا أن الغموض الذي يحيط به يزداد عمقا أكثر فأكثر في كل مرة يتحدثان فيها هكذا، بحميمية، ربما لأن ثمة أغوار داخل الرجل المسن لم تتصور أبدا أنها ممكنة. وربما، في أعماق روحه تحت كل هذا التحفظ الشديد في طبيعته، كان يوجد قدر من الإنسانية أعظم بكثير من أي قدر لاقته من قبل. قالت في نفسها: «وأنا التي كنت أراه شخصا قاسيا وفاترا وانتقاديا.» بدأت تتفهم القوة البالغة الكامنة في عزلته الشديدة، قوة رجل كان بمفرده دائما.
بعد قليل سألها: «وأنت يا أوليفيا؟ هل أنت سعيدة؟» «أجل ... أخيرا، أشعر بالسعادة هذا الصباح ... بسبب سيبيل وجان.»
قال بنبرة حزن رقيق: «هذا صحيح. هذا صحيح. لقد فعلا ما عجزنا أنا وأنت عن فعله يا أوليفيا. سيحظيان بما لم نحظ به قط ولا يمكن أن نحظى به أبدا لأن الأوان قد فات. وقد ساعدناهما على تحقيق ذلك ... وهذا جانب جيد من الأمر. فقط أردتك أن تعرفي أنني أتفهم الأمر.» ثم أردف قائلا: «من الأفضل أن نذهب ونخبر الآخرين. ستفتح علينا أبواب الجحيم حين يسمعون بالخبر.»
كانت على وشك أن تذهب، ولكن خطرت لها فكرة غريبة، بصيص أمل، أمل ضئيل جدا، ولكن ربما يمنحه قدرا قليلا من السعادة. كانت قد فوجئت من طريقة حديثه؛ إذ كان كما لو أنه اقترب جدا من الموت أو قد مات بالفعل. بدا من مظهره هرما ومرهقا جدا.
قالت: «ثمة شيء واحد أردت أن أسألك عنه منذ فترة طويلة.» ترددت ثم غامرت بقوله. «هو بخصوص سافينا بينتلاند. هل أنجبت أكثر من طفل؟»
نظر إليها بحدة بعينيه السوداوين اللامعتين وسألها: «لماذا تريدين معرفة ذلك؟»
حاولت أن تخدعه بأن هزت كتفيها وقالت متظاهرة بالعفوية: «لا أعرف ... صرت مهتمة مؤخرا، ربما بسبب كتاب آنسون.» «أنت ... مهتمة بالماضي يا أوليفيا؟» «أجل.» «أجل، كان لديها طفل واحد فقط ... وغرقت حين كان يبلغ من العمر عاما واحدا. كان هذا جدي.» ثم نظر إليها بحدة مرة أخرى. وأردف قائلا: «أوليفيا، يجب أن تخبريني بالحقيقة. لماذا سألتني هذا السؤال؟»
ترددت أوليفيا مرة أخرى، قائلة: «لا أعرف ... بدا لي ...» «هل وجدت شيئا؟ هل أخبرتك بأي شيء؟» سألها وهو يشير نحو الجناح الشمالي.
حينئذ فهمت أنه، الرجل المسن الرائع، لا بد أنه يعرف بأمر الخطابات. قالت بصوت منخفض: «أجل. وجدت شيئا ... في العلية.»
تنهد وأشاح بنظره مرة أخرى، ناحية المروج الرطبة. وأردف قائلا: «إذن، أنت أيضا تعرفين ... كانت هي أول من عثر عليها، ثم خبأتها مرة أخرى. ما كانت لتعطيني إياها لأنها كانت تكرهني ... منذ ليلة زفافنا. لقد أخبرتك بذلك. ثم لم تستطع أن تتذكر أين خبأتها ... تلك المخلوقة المسكينة. ولكنها أخبرتني عنها. اعتادت إغاظتي أحيانا بقولها إنني لست من نسل آل بينتلاند على الإطلاق. أظن أن الأمر جعل عقلها أكثر سوداوية من ذي قبل. انتابتها بعض الهواجس المريعة بخصوص الخطيئة في عائلتي والتي يجب عليها أن تكفر عنها ...»
قالت أوليفيا برقة: «هذا صحيح. لا شك في ذلك. لقد كتب توبي كاين نفسه هذا ... بخط يده. لقد ضاهيته بخطاباته الموجودة بحوزة آنسون.» وبعد لحظة سألته: «وأنت ... هل كنت تعرف ذلك دوما؟»
قال بنبرة حزينة: «دوما. هذا يفسر أشياء كثيرة ... أحيانا أظن أن أولئك الذين عاشوا منا منذ ذلك الحين تعين عليهم أن يكفروا عن خطيئتهما. عندما تفكرين في الأمر برمته تستوعبين فجأة أن كل شيء دبر بطريقة قاسية ...»
خمنت مقصده من الكلام. ورأت مرة أخرى أنه يؤمن بفكرة الخطيئة، وأن الإيمان بها متأصل بعمق في كيانه.
سألها: «هل الخطابات في حوزتك يا أوليفيا؟»
أجابته قائلة: «كلا ... أحرقتها ... الليلة الماضية ... لأنني كنت خائفة منها. خشيت أن أفعل شيئا مخجلا بها. وإذا أحرقت، فلن يصدق أحد هذه القصة المنافية للعقل ولن يوجد أي دليل.» ثم أضافت بهدوء قائلة: «وخشيت أيضا مما كان فيها ... ليس مما كان مكتوبا فيها، وإنما من الطريقة التي كتب بها.»
أمسك يدها في تصرف بالغ الغرابة والإحراج، وقبلها برفق. وأردف قائلا: «كنت محقة يا عزيزتي أوليفيا. هذا كل ما لديهم ... أعنى الآخرين ... الذين يؤمنون بالماضي. لا نجرؤ على أن ننتزعه منهم. الأقوياء لا يجرءون على قمع الضعفاء. سيكون هذا قاسيا للغاية. سيكون من شأنه أن يدمر الشيء الوحيد الذي كرس له آنسون حياته كلها. في الواقع يا أوليفيا، يوجد أناس ... أناس مثلك ... ممن يجب أن يكونوا أقوياء جدا من أجل أن يعتنوا بالآخرين. إنها مهمة صعبة ... وأحيانا تكون قاسية. ولولا هؤلاء الأشخاص لتصدع العالم ولرأيناه مكانا قاسيا لا يحتمل، كما هي حقيقته. ولهذا السبب عهدت إليك بكل شيء. هذا ما كنت أحاول أن أخبرك به في تلك الليلة. في الواقع يا أوليفيا، أنا أعرفك ... أعرف أن ثمة أشياء يعجز أمثالنا عن فعلها ... ربما لأننا ضعفاء أو حمقى - من يدري؟ ولكن هذا حقيقي. عرفت أنك من نوعية الأشخاص الذين سيقدمون على شيء كهذا.»
وبينما كانت تستمع إليه، شعرت مرة أخرى بأن عزيمتها تسلب منها. كان شعورا غريبا، كما لو أنه سيطر عليها، تاركا إياها عاجزة عن التصرف، ليحبسها مرة أخرى وراء ذلك الجدار الرهيب من الصواب الذي كان يؤمن به. كان الطابع المألوف لقوته يخيفها، لأنها بدت قوة لا تقاوم. كانت قوة رجل يتعدى أمره أنه على صواب؛ كانت قوة رجل يؤمن بما يفعله.
كانت لديها رغبة جامحة في أن تتحول عنه وتركض بسرعة وبتهور عبر المروج الرطبة نحو مايكل، تاركة وراءها المنزل القديم الجميل الهادئ تحت أشجار الدردار.
كان يقول لها: «ثمة أشياء يستحيل فعلها ... على أناس مثلنا، يا أوليفيا. هي مستحيلة لأن مجرد فعلها سيدمرنا إلى الأبد. هي ليست أشياء يمكننا القيام بها بأريحية.»
وأدركت مرة أخرى ما كان يعنيه، مثلما أدركت على نحو غامض حين وقفت بمفردها في الظلام أمام جسدي هيجينز والآنسة إيجان اللذين ظهرا وسط ضباب الأهوار. «حري بك أن تذهبي الآن وتهاتفي آنسون. أظنه سينزعج بشدة، ولكني سأضع حدا لذلك ... وكاسي، أيضا. لقد خططت لكل شيء بخصوص فتى عائلة مانرينج.»
2
تعذر الاتصال بآنسون في المكتب طوال الصباح؛ لأنه كان قد ذهب، على حد قول سكرتيره، لحضور اجتماع «جمعية حماة الشابات العاملات المشردات» وترك رسالة واضحة مفادها أنه لا يريد مقاطعته. ولكن العمة كاسي سمعت بالخبر حين وصلت في زيارتها الصباحية إلى منزل عائلة بينتلاند. أخبرتها به أوليفيا بلطف بقدر الإمكان، ولكن ما إن استوعبت العجوز ما حدث، حتى انهارت تماما. ظهر الهياج في عينيها، وصار شعرها أشعث تماما. اعتبرت متيقنة أن سيبيل تعرضت للإغواء وصارت الآن امرأة ضائعة ميئوسا منها تماما. وظلت تردد وسط عبارات التعاطف الشديد مع أوليفيا في مصابها الأليم، أن هذا الأمر لم يسبق أن حدث مطلقا في عائلة بينتلاند؛ إلى أن ذكرتها أوليفيا، التي غشيتها حالة الهدوء المخيف المعهودة بها، بهروب جاريد بينتلاند وسافينا دالجيدو، وطلبت منها باقتضاب أن تكف عن التفوه بترهات.
عندئذ أظهرت العمة كاسي من نبرة صوتها أن مشاعرها قد جرحت جرحا عميقا، وتعين إرسال بيرترز لإحضار كربونات النشادر في نفس اللحظة التي وصلت فيها سابين، بابتسامة عريضة ومنتصرة على وجهها. كانت سابين هي من ساعد في وضع كربونات النشادر بطريقة كئيبة وكأنها تضع جمرا. وعندما هدأت السيدة العجوز قليلا عادت تردد مرارا وتكرارا: «سيبيل المسكينة ... طفلتي البريئة المسكينة سيبيل ... ما كان ينبغي أن يحدث لها هذا!»
وعلى هذا القول جاء أخيرا رد أوليفيا: «جان شاب رائع. وأنا متأكدة من أنها قد أحسنت صنعا.» ثم، لكي تخفف قليلا من وطأة معاناة العمة كاسي، أردفت: «وهو غني جدا، يا عمة كاسي ... أغنى بكثير من أي زوج كان يمكن أن تعثر عليه هنا.»
كان لهذه المعلومة تأثير أفضل حتى من تأثير كربونات النشادر نفسها؛ ومن ثم هدأت السيدة العجوز بما يكفي لأن تهتم بالتفاصيل وسألت من أين حصلا على سيارة للهروب بها.
قالت سابين بجفاء: «إنها سيارتي. أقرضتهما إياها.»
كان الأثر الناتج من هذه العبارة هو ما كانت ترغب فيه سابين بالضبط. انتصبت السيدة العجوز في جلستها، وانتفخت أوداجها، وصرخت، بنبرة مختنقة. قائلة: «يا إلهي، أيتها الحية الخبيثة! لا أعرف لماذا ابتلاني الرب بهذه البلية. لقد كنت دوما تتمنين الشر لنا وأظنك الآن راضية! عسى أن يرحم الرب روحك الخبيثة!» وانخرطت من جديد في نوبة بكاء، وأخذت تكرر مرة أخرى: «طفلتي البريئة المسكينة سيبيل ... ماذا سيقول الناس؟ ماذا سيظنون أنه كان يحدث؟»
قالت سابين بحدة: «لا تكوني سيئة الظن يا عمة كاسي.» ثم أردفت بنبرة أهدأ: «سيكون صعبا علي ذلك ... لن أستطيع الذهاب إلى نيوبورت إلى أن يعودا بالسيارة.»
وشرعت العمة كاسي تقول: «أنت! ... أنت! ...» ثم هوت جالسة، امرأة محطمة.
واصلت سابين حديثها بلا هوادة: «أظن أننا ينبغي أن نخبر فتى عائلة مانرينج.»
هتفت العمة كاسي، وقد استفاقت مرة أخرى: «أجل، أجل! ذلك هو الفتى الذي كان يجب أن تتزوجه ...»
قالت سابين: «والسيدة سومز. ستسعد بالخبر.»
تكلمت أوليفيا لأول مرة منذ ما يقرب من نصف ساعة. فقالت: «لا جدوى من ذلك. لقد ذهب السيد بينتلاند لزيارتها، ولكنها لم تستوعب ما أراد أن يخبرها به. كانت في حالة خدر ... غائبة عن الوعي تقريبا ... ويظنون أنها ربما لن تستفيق منها هذه المرة.»
وبصوت هامس، طغى عليه الاهتياج الأعلى صوتا لنحيب العمة كاسي، قالت لسابين: «الأمر أشبه بنهاية كل شيء بالنسبة إليه. لا أعرف ما الذي سيفعله.» •••
بدا أن الاضطراب الذي ساد اليوم كان يزداد حدة بدلا من أن يزول. طلب من العمة كاسي البقاء لتناول الغداء، لكنها قالت إنه يستحيل أن تفكر في ابتلاع ولو حتى كسرة خبز. وصرخت بنبرة ميلودرامية: «من شأنها أن تخنقني.»
ألحت عليها أوليفيا، قائلة: «إنه غداء ممتاز.» «كلا ... كلا ... لا تطلبي مني ذلك!»
ولكن، نظرا لعدم رغبتها في مغادرة مسرح الأحداث، استلقت على الأريكة الكلاسيكية من طراز ريجنسي الخاصة بهوراس بينتلاند واستعادت عافيتها قليلا بأخذ غفوة بينما كان الآخرون يتناولون الطعام.
أخيرا، اتصل بهم آنسون، وحين أبلغ بالخبر، تردد في سماعة الهاتف صدى تهديداته. قال إنه سيستأجر سيارة (وهي مبالغة تعكس مدى عمق انفعاله وغضبه) ويأتي على الفور.
ثم، مباشرة تقريبا، اتصل مايكل. وقال: «لقد وصلت توا.» وطلب من أوليفيا أن تأتي لتركب معه الخيل. وأردف قائلا: «يجب أن أتحدث إليك فورا.»
رفضت أن تركب الخيل معه، ولكنها وافقت أن تقابله في منتصف الطريق بينهما، عند أيكة أشجار الصنوبر حيث كان هيجينز قد اكتشف جراء الثعالب. وقالت له: «لا يمكنني أن أغادر الآن ولا أظن أنه من المناسب لك أن تأتي إلى هنا في الوقت الحالي.»
ولسبب ما، لم تخبره بشيء عن مسألة الهروب، ربما لأنها على نحو غامض ظنت أنه قد يستغل هذه المعلومة سلاحا لكسر إرادتها. ففي خضم الاضطراب الذي ساد اليوم، ووراء كل الاهتياج الذي ساد مشهد الأحداث، والانفعالات والمكالمات الهاتفية، أخذت تفكر، وتفكر، وتفكر، لدرجة أنها في النهاية تأثرت باللغط تأثرا طفيفا. كانت قد باتت تدرك أنه لا بد وأن جون بينتلاند قد عاش حياته هكذا، عاما تلو الآخر، متحركا دوما في إطار حياة سرية خاصة به، وبعد قليل كانت قد توصلت إلى أنها يجب أن تهجر مايكل نهائيا.
وبينما كانت تتحرك عبر المروج، لاحظت أن أشجار البتولا كانت قد بدأت تذبل وتتحول إلى اللون الأصفر وأن المروج في المنخفض بحذاء النهر قد تلونت باللونين الذهبي والأرجواني بفعل أكوام من نبات عصا الذهب ونبات عصا الراعي الأرجواني. ومع كل خطوة كانت تخطوها بدا أنها تضعف أكثر فأكثر، وعندما اقتربت من السور الأسود المائل إلى الزرقة المكون من أشجار الصنوبر انتابتها رعشة عنيفة، كما لو أن الإحساس بوجوده استطاع أن يصل إليها بشكل أو آخر ويغمرها حتى قبل أن تراه. حاولت أن تتخيل أن الرجل المسن يقف بجوارها عند السياج الشجري، ولكن شيئا أقوى من إرادتها جعلها لا ترى سوى رأس مايكل بشعره الأسود المجعد وعينيه الزرقاوين. بدأت حتى تدعو في سرها ... وهي (أوليفيا) التي لم تدع قط لأن الورع الزائف للعمة كاسي وآنسون وأسقف الطبقة الأرستقراطية حال دوما بينها وبين الدعاء.
ثم رفعت بصرها ورأته واقفا شبه متوار بين أشجار الصنوبر الأقصر طولا يراقبها. بدأت تركض نحوه، خشية أن تخذلها ركبتاها وتسقط أرضا قبل أن تصل إلى كنف الأشجار.
وفي ظلمة الأجمة، التي نادرا ما تخترقها أشعة الشمس، أحاطها بذراعيه وقبلها بطريقة لم يفعلها من قبل، ولم يؤد هذا التصرف إلا إلى ازدياد خوفها. لم تنبس ببنت شفة؛ وإنما بكت في هدوء، وأخيرا، عندما تمالكت نفسها، جاهدت لتتحرر من ذراعيه وقالت: «لا تفعل، يا مايكل ... أرجوك لا تفعل ... أرجوك.»
جلسا على جذع شجرة ساقط، وهو لا يزال ممسكا بيدها، وسألها: «ما الأمر؟ ماذا حدث؟» «لا شيء ... أنا متعبة فحسب.» «هل أنت مستعدة للمغادرة معي؟ الآن؟» ثم أضاف بنبرة حنونة منخفضة قائلا: «لن أدعك تتعبين مرة أخرى أبدا ... أبدا.»
لم تحره جوابا، لأنه بدا لها أن ما كان يجب عليها أن تخبره به سيجعل كل تصرفاتها في السابق تبدو رخيصة وبلا تفسير. غمرها شعور بالخزي، وحاولت أن تؤخر اللحظة التي يتحتم عليها فيها الحديث.
كان يقول لها: «لم أعد منذ ثلاثة أيام بسبب مشكلة في بوسطن جعلت ذلك مستحيلا. لم أنم سوى ساعة أو ساعتين في الليل. إنهم يحاولون النيل مني ... بعض الرجال الذين وثقت بهم دوما. لقد كانوا يخدعونني منذ البداية وتعين علي البقاء لمحاربتهم.»
قص عليها قصة طويلة ومعقدة عن الخيانة، وعن الأموال التي تنتقل بين الرجال الذين عرفهم ووثق فيهم دوما. كان حزينا ولكنه كان أيضا غير هياب للموقف، وتملكته رغبة في خوض المعركة حتى النهاية. عجزت عن فهم القصة؛ وفي الواقع لم تسمع حتى قدرا كبيرا منها: كل ما عرفته أنه كان يخبرها بكل شيء، ليفضي إليها بكل أحزانه ومشاكله كما لو كانت الشخص الوحيد في العالم بأسره الذي يستطيع أن يخبره بمثل هذه الأمور.
وحين انتهى من حديثه، انتظر لحظة ثم قال: «والآن، أنا على استعداد لأن ألقي هذه المسألة القذرة بأكملها وراء ظهري وأرحل ... وأقول لهم جميعا أن يذهبوا إلى الجحيم.»
أجابت بسرعة: «كلا، يجب ألا تفعل ذلك. لا يمكنك فعل ذلك. رجل مثلك يا مايكل، لا يجرؤ على فعل هذا الأمر.» وذلك لأنها كانت تعرف أنه بدون معركة ما، ستفقد الحياة معناها عنده. «لا ... أنا أعني ما أقوله. أنا على استعداد للابتعاد. أريدك أن تذهبي معي.»
قالت في نفسها: «يقول هذا ... ومع ذلك، مكث ثلاثة أيام وثلاث ليال في بوسطن ليقاتل!» لاحظت أنه لم يكن ينظر إليها، وإنما كان جالسا ورأسه بين يديه؛ كان ثمة شيء منكسر، ويكاد يكون مثيرا للشفقة، في سلوكه، وخطر ببالها أنه ربما للمرة الأولى يكتشف أن حياته كلها عبارة عن كتلة متشابكة ميئوس من فكها. قالت في نفسها: «لو لم أكن قد تعرفت عليه، ربما ما كان حدث هذا. كان سيتمكن من أن يخوض المعركة دون حتى أن يفكر في.»
جهرا قالت: «لا أستطيع يا مايكل ... لا فائدة من ذلك. لا أستطيع.»
رفع بصره سريعا، وقبل أن يتمكن حتى من الرد عليها وضعت يدها على شفتيه، قائلة: «مهلا يا مايكل، دعني أتكلم أولا. دعني أقول ما كنت أردت قوله منذ فترة طويلة جدا ... لقد فكرت ... لم أفعل شيئا سوى التفكير ليلا ونهارا على مدار الثلاثة أيام الماضية. وبلا طائل يا مايكل ... بلا طائل. بلغت الأربعين اليوم، وما الذي يمكنني أن أقدمه لك وسيعوضك عن كل ما ستخسره؟ لماذا تتخلى عن كل شيء من أجلي؟ كلا، ليس لدي ما أقدمه لك. يمكنك أن تعود وتخوض معركتك وتفوز بها. هذا أكثر ما تحبه في العالم كله ... أكثر من أي امرأة أخرى ... حتى أنا.»
حاول أن يتحدث مرة أخرى، ولكنها أسكتته. وتابعت حديثها: «أوه، أعرف أنه حقيقي ... ما أقوله. لو أنني حظيت بك نظير هذا المقابل، فلسوف تكرهني في النهاية فحسب. لا أستطيع أن أفعل ذلك يا مايكل، لأن ... لأن في النهاية، مع رجال مثلك، يأتي العمل، والحياة المهنية، في المقام الأول ... لا يمكنك أن تتحمل الاستسلام. لا يمكنك أن تتحمل الفشل ... وفي النهاية، لا يصح إلا الصحيح. هذا ما يجعل العالم يستمر.»
كان يراقبها بنظرة افتتان في عينيه، وعرفت - بل أيقنت - أنه لم يكن مغرما بها إلى هذا الحد من قبل؛ ولكنها عرفت، أيضا - من التعبير الذي علا وجهه في لمحة عابرة (بدا لها أنه أجفل تقريبا) ولأنها كانت تعرفه جيدا - أنه كان يدرك صدق ما قالته. «هذا ليس صحيحا يا أوليفيا ... لا يمكنك أن تتخلي عني الآن ... حين أكون في أمس الحاجة إليك.»
أجابته قائلة: «ستكون خيانة لك يا مايكل، لو فعلت غير ذلك. أنت لا تحتاج إلي بقدر ما تحتاج إلى ذلك الشيء الآخر. أوه، أعرف أنني محقة. ما ينبغي أن تحصل عليه في النهاية هو امرأة شابة ... امرأة ستمد إليك يد العون. لا يهم كثيرا إن كنت مغرما بها بشدة أم لا ... ولكن امرأة يمكن أن تكون زوجتك وتنجب لك أطفالا وتقيم حفلات العشاء وتساعد في جعلك رجلا شهيرا كما عزمت دوما أن تكون. أنت بحاجة إلى امرأة تساعدك في تأسيس أسرة، تملأ منزلك الجديد بالأطفال ... امرأة تساعدك أنت وأولادك على أن تحلوا محل عائلات مثل عائلتنا التي وصلت إلى نهايتها. كلا يا مايكل، أنا محقة ... انظر إلي»، قالتها فجأة بنبرة آمرة. «انظر إلي وستعرف أن هذا ليس لأنني لا أحبك.»
كان حينئذ جاثيا على ركبتيه، على بساط من إبر الصنوبر العطرية، يحيطها بذراعيه بينما تمسد شعره الأسود الكثيف بطريقة تنطوي على انفعال هيستيري. «أنت لا تعرفين ما تقولينه يا أوليفيا. إنه غير صحيح! إنه غير صحيح! أنا على استعداد لأن أتخلى عن كل شيء ... أنا لا أريد أي شيء آخر. سأبيع مزرعتي وأرحل من هنا إلى الأبد معك.» «أجل يا مايكل، أنت تفكر هكذا اليوم، الآن فقط ... وغدا كل شيء سيتغير. تلك واحدة من الحيل الدنيئة التي تلعبها الطبيعة معنا. الأمر ليس بهذه البساطة. نحن لسنا مثل هيجينز و... وخادمة المطبخ ... على الأقل ليس من بعض النواحي.» «أوليفيا ... أوليفيا، هل تحبينني بما يكفي لأن ...؟»
أدركت ما كان ينوي أن يسأل عنه. وقالت في نفسها: «وماذا يهم؟ ولما لا ينبغي أن أفعل، وأنا أحبه كل هذا الحب؟ لن أؤذي أحدا ... لا أحد سوى نفسي.»
ثم، فجأة، رأت، وسط سيل من الدموع المنهمرة من عينيها، عبر فتحة في الأجمة موكبا صغيرا يعبر المروج نحو المنزل الكبير لعائلة بينتلاند. رأته بوضوح مريع وشديد ... موكب صغير يتألف من البستاني ومساعده يحملان فيما بينهما على لوح خشبي جسدا ممددا مرتخيا وهامدا، وفي إثرهما جاء هيجينز سيرا على قدميه، وهو يسوق حصانه ويتحرك بالمشية الغريبة العرجاء التي تعتريه عندما تطأ قدماه الأرض. عرفت هوية صاحب الجسد الهامد. كان جون بينتلاند. لقد أودت الفرس الحمراء بحياته أخيرا. وسمعته يقول: «ثمة أشياء يعجز أمثالنا عن فعلها، يا أوليفيا.» •••
لم تستطع أبدا أن تتذكر بوضوح بالغ ما حدث بعد ذلك مباشرة. وجدت نفسها تنضم إلى الموكب الصغير؛ وأدركت أن مايكل كان معها، وأنه لا شك في أن المأساة قد وقعت ... مات جون بينتلاند، بعدما انكسرت رقبته. كان ممددا على اللوح الخشبي، هامدا ومطمئنا، وقد تلاشت جميع الخطوط المريرة من على الوجه الصارم المتجهم، كما كان حين التقته في المكتبة التي تفوح منها رائحة الكلاب ودخان الخشب والويسكي. ولكن هذه المرة كان قد هرب بلا رجعة. ...
ولاحقا تذكرت أنها أخبرت مايكل، أثناء وقوفهما بمفردهما في الردهة البيضاء الكبيرة، أن سيبيل وجان قد تزوجا، وصرفته بقولها: «الآن يا مايكل، صار الأمر مستحيلا. بينما كان حيا ربما كنت قد فعلتها ... ربما كنت سأهرب. ولكن الآن، صار الأمر مستحيلا. لا تطلبه مني. أرجوك، ارحل عني ودعني وشأني.»
بينما كانت تقف تحت صورة سافينا بينتلاند بنظرتها العابثة، راقبته وهو يرحل، في هدوء، ربما لأنه فهم أن كل ما قالته كان صحيحا.
3
في خضم المأساة، صارت حادثة الهروب نسيا منسيا. تردد الأطباء على المنزل ذهابا وإيابا؛ وحتى المراسلون الصحفيون وضعوا في موقف محرج؛ إذ كانوا متلهفين لمعرفة تفاصيل الوفاة والزواج في عائلة بينتلاند، وبطريقة ما أنزل الاضطراب حالة من السكينة على أوليفيا. لقد نسوا أمرها، باستثناء كونها الشخص الذي يدبر كل شيء في صمت؛ لأنهم كانوا بحاجة إلى شخص لا ينهار في نوبات حزن جامحة أو يهيم على وجهه مهيض الجناح. وفي حضرة الموت، نسي آنسون غضبه بسبب حادثة الهروب، وفي ساعة متأخرة من فترة ما بعد الظهيرة، رأته أوليفيا لأول مرة حين جاءها مغلوبا على أمره يسألها: «لقد جاء الرجال لتصوير لوحات الصور الشخصية. ماذا ينبغي أن نفعل؟»
أجابته قائلة: «اصرفهم. يمكننا التقاط صور للأجداد في أي وقت آخر. سيكونون معنا دائما.»
تطوعت سابين بإرسال الخبر إلى سيبيل وجان. ففي مثل هذه الأوقات، كان انفصالها المنعدم الشعور عن الأحداث يجعلها شخصا ذا قيمة كبيرة، وأدركت أوليفيا أنه يمكن الوثوق بها لأداء مهمة البحث عنهما لأنها أرادت بشدة استرداد سيارتها. وتذكرت أوليفيا وعدها للرجل المسن، وذهبت لزيارة السيدة سومز، لكنها كانت زيارة بلا طائل؛ إذ دخلت السيدة العجوز في حالة من فقدان الوعي التام. وقيل لأوليفيا إنها ربما تفارق الحياة دون أن تعرف أن جون بينتلاند قد فارقها قبلها.
تربعت العمة كاسي على عرشها في غرفة الجلوس المعتمة، وهناك، وسط الرائحة النفاذة للمحصول الخريفي الأول من زهور الأقحوان، استقبلت الوفود القادمة من المناطق الريفية المحيطة بعينين محمرتين وتودد بخنفرة. مرة أخرى بدت شامخة لبعض الوقت في حالة من الانتصار والقوة، لدرجة أنها تغلبت على ضعفها بما يكفي لأن تتردد على منزلها الشبيه بمقصورة المراقبة جيئة وذهابا سيرا على قدميها، لتصل مبكرا وتغادر في وقت متأخر من الليل. وأصرت على استدعاء الأسقف سمولوود ليقود القداس، واكتشفت بعد كثير عناء أنه يحضر مؤتمرا كنسيا في منطقة الغرب. وردا على تلغرافها، لم تتلق سوى ردا مفاده أنه يستحيل عليه العودة، حتى ولو أجلوا موعد الجنازة ... فنظرا لتبوئه دور المدافع البارز عن عقيدة الولادة العذرية للمسيح، لم يكن بوسعه أن يترك الميدان في لحظة يتعرض فيها نفوذ جماعته للتهديد.
بدا لبعض الوقت أن صرح العائلة بأكمله كان، كما كانت تأمل سابين، ينهار من حولهم ويتحول إلى أنقاض.
أما أوليفيا، فكانت ستنعم بالسكينة لولا أنها وصلتها رسائل من مايكل ثلاث مرات في غضون يومين - فأعادتها إلى مرسلها دون أن تفتحها لأنها كانت تخشى من أن تقرأها؛ إلى أن كتبت في النهاية ردا على إحداها تقول: «لم يعد يوجد ما يقال. دعني وشأني.» وبعد ذلك، لم يكن هناك سوى الصمت، الذي بدا لها غير محتمل أكثر من رؤية رسائله. واكتشفت أن شخصين كانا قد شهدا المأساة - هما هيجينز الذي كان يركب حصانا مع الرجل المسن، وسابين التي كانت تسير بمحاذاة النهر - تسير فقط لأن جان وسيبيل استعارا سيارتها. لم يكن هيجينز يعرف شيئا سوى أن الفرس قد انطلقت في جموح وقتلت سيده؛ أما سابين فكان لديها رواية مختلفة بغرابة للأحداث، وقصتها على أوليفيا أثناء جلوسهما في غرفتها، في اليوم التالي.
إذ قالت: «رأيتهما، قادمان عبر المروج ... ابن العم جون، يتبعه هيجينز. وفجأة، بدت الفرس خائفة من شيء ما وأخذت تركض ... في خط مستقيم نحو مقلع الحجارة. كان مشهدا مذهلا ... مشهدا مروعا ... لأنني كنت أعرف - كنت متيقنة - مما سيحدث. للحظة، بدا ابن العم جون يصارع الفرس، ثم فجأة مال إلى الأمام على عنقها وأطلق لها العنان. انطلق هيجينز خلفه؛ ولكن لم تكن ثمة فائدة من محاولة الإمساك بها ... وكأن أحدا كان يحاول السيطرة على زوبعة. بدا وكأنهما يطيران عبر الحقول مباشرة في اتجاه خط أشجار الخمان التي كانت تخفي وراءها مقلع الحجارة، وعرفت طوال الوقت أنه لا سبيل إلى إنقاذهما إلا إذا استدارت الفرس. وعند الشجيرات، قفزت الفرس ... أروع قفزة رأيت حصانا يقفزها في حياتي، مباشرة فوق الشجيرات إلى الهواء الطلق ...»
وللحظة، أشرق وجه سابين بحماس مخيف. وارتعش صوتها قليلا. وقالت: «كان مشهدا مروعا وجميلا. للحظة بدوا يكادان يرتفعان في الهواء كما لو أن الفرس كانت تطير، ثم سقطا دفعة واحدة ... إلى قاع مقلع الحجارة.»
لاذت أوليفيا بالصمت، وبعد برهة، كما لو أن سابين كانت تنتظر لتستجمع شجاعتها، واصلت حديثها بصوت منخفض قائلة: «ولكن ثمة شيء رأيته يقينا. فعند حافة مقلع الحجارة، حاولت الفرس أن تستدير. كان يمكن أن تستدير، ولكن ابن العم جون رفع سوطه وضربها بوحشية. لم يكن ثمة شك في هذا. لقد أجبر الفرس على القفز فوق أشجار الخمان ...» ومجددا، بعد توقف قصير، استأنفت الحديث مرة أخرى قائلة: «لا بد أن هيجينز، هو الآخر، رأى ذلك. إذ تبعهما إلى حافة مقلع الحارة. سأراه هناك دائما، ممتطيا حصانه والسماء في الخلفية. كان ينظر إلى أسفل نحو مقلع الحجارة وللحظة كان الحصان وفارسه معا يبدوان بالضبط مثل القنطور، الكائن الخرافي ... كانت صورة مذهلة انطبعت في ذهني.»
تذكرته على هذه الصورة؛ ولكنها تذكرته أيضا كما رأته ليلة الحفل الراقص، وهو يتسلل عبر زهور الليلك مثل شبح. قالت سابين وهي تقوم من مكانها: «جان وسيبيل سيعودان غدا، ثم سأغادر إلى نيوبورت. ظننت أنك تودين أن تعرفي ما عرفته أنا وهيجينز، يا أوليفيا.» ثم ترددت للحظة، وهي تتطلع من النافذة إلى البحر. وأخيرا قالت: «كان رجلا غريبا. كان آخر البيوريتانيين العظماء. لم يعد يوجد المزيد. لا أحد من بقيتنا يؤمن بأي شيء. نحن فقط نتظاهر ...»
ولكن أوليفيا كانت لا تكاد تسمعها. فهمت الآن لماذا تحدث إليها الرجل المسن وكأنه على شفير الموت، وقالت في نفسها: «لقد فعلها بطريقة ما كان لأحد أن يكتشفها. كان يثق في هيجينز، ووجود سابين في المشهد كان مصادفة. ربما ... ربما ... فعلها ليبقيني هنا ... لأنقذ الشيء الذي كان يؤمن به طوال حياته.»
كانت فكرة مروعة حاولت أن تخمدها، ولكنها ظلت باقية، جنبا إلى جنب مع الشعور بالندم على أنها لم تنه ما كانت قد بدأت تخبره به بينما كانا واقفين بجوار السياج يتحدثان عن الخطابات - وهو أنه يوما ما ربما يحمل جان اسم جون بينتلاند. ففي نهاية المطاف، كان حقه في حمل الاسم بقدر الحق الذي كان يملكه في حمل اسم دي سيون؛ سيكون مجرد تغيير طفيف؛ ولكنه سيسمح لاسم بينتلاند أن يظل باقيا. الأرض كلها، والأموال كلها، والعادات كلها، ستنتقل إلى أبناء بينتلاند، ومن ثم ستجعل لوجودهم سببا؛ وفي النهاية سيكون الاسم أكثر من مجرد شيء محنط في كتاب «عائلة بينتلاند ومستعمرة خليج ماساتشوستس». سيكون الأحفاد، في نهاية المطاف، من نسل آل بينتلاند، أو على الأقل من نسل سافينا دالجيدو وتوبي كاين، الذي بات منذ زمن بعيد نسل آل بينتلاند.
وقالت في نفسها متجهمة: «كان محقا، في نهاية المطاف. أنا في النهاية واحدة منهم ... رغم كل شيء. وأنا الآن من يحمل لواء العائلة.» •••
في صباح يوم الجنازة، بينما كانت واقفة في الشرفة الأمامية تنتظر قدوم جان وسيبيل، جاءها هيجينز، وهو يرتدي أفضل بدلة سوداء لديه ويبدو عليه الانزعاج والاضطراب الشديدان، ليقول وهو يشيح بنظره عنها: «سيرحل السيد أوهارا. وضعوا يافطة «للبيع» على بوابته. ولن يعود.» ثم أضاف، وهو ينظر إليها في جرأة، قائلا: «ظننت أنك ربما تودين أن تعرفي يا سيدة بينتلاند.»
للحظة، انتابتها رغبة مفاجئة وعارمة في أن تصرخ قائلة: «كلا، يجب ألا يرحل! يجب أن تخبره أن يبقى. لا يمكنني أن أتركه يرحل هكذا!» أرادت فجأة أن تركض عبر الحقول في اتجاه المنزل الجديد الساطع المبتذل، لتخبره بنفسها. قالت في نفسها: «إذن كان يعني ما قاله. لقد تخلى عن كل شيء هنا.»
ولكنها كانت تعرف، أيضا، أنه رحل ليخوض معركته، بعدما تحرر وصار لا يحركه سوى شغفه للنجاح والنصر.
وقبل أن تتمكن من الرد على هيجينز، الذي وقف راغبا في أن ترسله إلى مايكل، ظهرت الآنسة إيجان، متصلبة وجامدة ووجهها يكتسي بالتعبير الاحترافي الموحي بالرزانة والوقار والذي كانت تتخذه في حضور العائلات المكلومة. وقالت: «جئت بخصوص المرأة التي في الجناح الشمالي يا سيدة بينتلاند. تبدو مشرقة جدا هذا الصباح وسليمة العقل. تريد أن تعرف لماذا لم يأت السيد بينتلاند لزيارتها لمدة يومين كاملين. ظننت ...»
قاطعتها أوليفيا بهدوء. وقالت: «لا بأس. سأذهب إليها وأخبرها. سأوضح لها. من الأفضل أن أفعل أنا ذلك.»
وغادرت إلى داخل المنزل، وهي تعلم بمرارة أنها تركت وراءها الآنسة إيجان وهيجينز يشفقان عليها.
وبينما كانت تصعد على السجادة البالية لدرج السلم، أحست فجأة بشعور عميق بالسكينة لم تعرف مثله طيلة سنوات. لقد انتهى كل شيء الآن، وستستمر الحياة على نفس الوتيرة كما كانت تسير دوما، ملؤها النفاق والملل والخداع؛ ولكنها سائغة، أيضا، رغم كل شيء، ربما، كما قال جون بينتلاند، لأن: «المرء مضطر أحيانا إلى التظاهر.» وعلى أي حال، لقد هربت سيبيل وسعدت بحياتها.
أدركت الآن أنها، هي نفسها، لن تهرب أبدا؛ فقد صارت منذ زمن طويل جدا جزءا من عائلة بينتلاند، وعرفت أن ما قاله الرجل المسن كان هو الحقيقة. لم تتصرف على هذا النحو من منطلق الواجب أو الوفاء بالوعود أو النبل أو الكبرياء أو حتى من منطلق الفضيلة. ... ربما كان السبب هو أنها لم تتحل بالقوة الكافية لأن تفعل خلاف ذلك. ولكنها عرفت أنها تصرفت هكذا؛ لأنه كما قال: «ثمة أشياء، يا أوليفيا، يعجز أمثالنا عن فعلها.»
وبينما كانت تسير في الردهة الضيقة، رأت من إحدى النوافذ الغائرة في الحائط سابين وهي تتحرك على الطريق وسط سحابة من الغبار، وعلى مسافة أقرب، عند مدخل ممر السيارات المحفوف بأشجار الدردار، كانت العمة كاسي، متشحة بالسواد الشديد، مقبلة بسرعة وخفة وعلى وجهها غلالة من قماش الكريب. كلا، لم يتغير أي شيء. سيستمر كل شيء كما هو ...
فتح الباب وتدفقت الرائحة الكثيفة للأدوية إلى الردهة. ومن الظلام، خرج صوت واهن أشبه بصوت المزمار، مزعج حتى في تعقله، قائلا: «أوه، هذا أنت يا أوليفيا. كنت أعرف أنك ستأتين. كنت في انتظارك ...»
كولد سبرينج هاربور،
لونج آيلاند
4 يونيو، 1925
سان جان دو لوز، بي بي، فرنسا
21 يوليو 1926
بموهبة استثنائية، وجه برومفيلد طاقته الفياضة نحو الكتابة والخطابة والزراعة، ومهمة إكساب كل ما يحيط به معنى ومنطقا؛ مما أسفر عن تأسيسه لمزرعة كبيرة، استضافت أنشطة اجتماعية وكانت لها أهمية بيئية في بليزانت فالي، بولاية أوهايو، واشتهرت باسم مزرعة مالابار. لويس برومفيلد: 1896-1956؛ جائزه بولتزر 1927.
Bilinmeyen sayfa