وإذا هم بين حالم سودت أعماله أحلامه، ينشره النهار للضر، ويطويه الليل للشر، ويسلمه النهار الأثيم إلى الحلم الأثيم، وآخر أضاءت رؤياه نيته، وازدهرت بالحلم الطيب طويته، فهو خير اليقظة والنوم، طاهر الحقائق والرؤى، وضروب أخرى من البشر طاف بها الخيال، واسع المجال، ثم انثنى قلقا مضطربا.
وكاد يخل هذا التفكير المتنافر بهذا المشهد المتآلف، ويقطع الهم المضطرم هذا النغم المنسجم، فعدت إلى النيل أطالعه، والزرع أراقبه، والخليقة آنس بها، وأسكن إليها، وأتغلغل فيها وأناجيها.
ودوت الأرجاء بالصياح، من ديكة الصباح، وانبجست النواحي بالأذان، يتجاوب في القلوب والآذان، وسرت في الخليقة قشعريرة هزت يقظانها وهاجعها، وأنعشت حيها وهامدها، وتوهمت أشعة الفجر الخفية، تخالط هذه الأصوات الندية، بل خلت الأشعة استحالت أصواتا، أو الأصوات تحولت أشعة.
استحال العالم كله معبدا، وبدا كل شيء راكعا أو ساجدا، فهذه الأضواء، وهذه النسائم، وهذه المياه، وهذه الزروع، والديكة المؤذنة، والجنادب الصارة، كلها في خشوع وقنوت، وتسبيح وتهليل، والنجوم الغاربة على الأفق ساجدة، والسماء المحدودبة الخاشعة، لجلال الخالق راكعة، سمعت من الخليقة ومن قلبي ومن لساني الآية الكريمة، تفسيرا لما أرى وأسمع وأتوهم:
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
لم أجد غيري خاليا من الصلاة، ولم أر سواي شذوذا في هذا النغم، فرددت نظرات في العالمين، ثم أسرعت لأكون من الساجدين.
وديعة ميافارقين
1
سيف الدولة علي بن حمدان، أمير حلب والعواصم، يخط بسيفه مملكة في ثغور الروم، ويقزها على الزلازل، ويثبتها على الأهوال، ويمكنها في مضطرب الأمواج، ومدارج السيول.
لبث الرجل عشرين عاما يغزو الروم، ويدفع غزواتهم، ويجاهد وحده هذا العدو الذي جاهده العرب وجاهدهم، منذ زال سلطان الروم عن الشام. لا تفتر همة علي بن حمدان، ولا يكل عزمه، ولا تفل شباته، وجيوش الروم وأتباعهم تطغى على البلاد العربية ، موجة بعد موجة، فتتكسر على هذه الصخور من الشجاعة والعزم، والجهاد والصبر، ويسيل السيل بعد السيل، فيصده هذا السد الذي مكنته شجاعة سيف الدولة وجنده القليل، وكم نكبت جيوش سيف الدولة فما وهن ولا استكان، ولا ساير الزمان، ولا أخلد إلى السلامة، ولا آثر العافية! ولكن الحوادث انجلت عن هذا الوجه الوضاء بساما للخطوب، وهذه العزة القعساء راسية على الأهوال:
Bilinmeyen sayfa