2
يا أخي صاحب الرسالة: «أما صاحبك فقد ساءتني حربه وسلمه، وهو في سلمه أشد إساءة، وأعظم جناية؛ صورته لي غاضبا للأخلاق، راثيا للفضيلة، ثائرا على الناس، يقذفهم بالتهم، ويرميهم بالحمم، يشتط في غضبته، ويغلو في ثورته، فقلت: حر غضب فأخطأ، وكريم ثار فجار، وأبي بر أسخطته المذلة، وهاجه الفجور، فانطلق لا يقف عند حد، ولا يرضى بأمد، ثم صورته قنوعا مستسلما، فقلت: وا سوأتا! أهذا المبطان جادلت، وهذا الجبان نازلت؟ لقد كان جهادا في غير عدو، لم تكن شقشقة هدرت ثم قرت، بل معدة قرقرت ثم استقرت، وما الشقاشق إلا لفحول الجمال، وأشباههم من فحول الرجال.
وأما أنت يا أخي الزيات، فما أحسبك إلا شريك محمود في رأيه، أو صاحب وحيه، قدمته للكلام ونطقت على لسانه، وعرضته للنضال ونزعت في قوسه، ولا أقول: أقمته مقام الوثن من سادنه، والصنم من كاهنه، فلما تبين أنه في الخصام غير مبين، وفي المآزق غير دفاع، وفي المعارك لا يثبت للمصاع، وإنه لجوع يثيره، وشبع يرضيه، أبدلت به جماعة حسبتهم أقوم بحجتك، وأشد هيبة في صدور خصومك، فقلت: «على أن مجلسنا كان حافلا بغير محمود، من رجال العلم والدين والأدب، وكلهم كانوا له وعليك.»
وأكبر ظني أن هؤلاء «رجال العلم والدين والأدب» شركوا محمودا في المائدة، وإلا فكيف جمعهم بمحمود المجلس، وقد قام منذ هنيهة عن مائدة الإفطار الغنية الشهية؟ والعجيب أن تذهب المائدة بثورة محمود، وتثير سخط هؤلاء، ولعله كان أثبتهم على المائدة حملة، وأطيشهم في الصحاف يدا، ولعلهم آثروا القناعة، واصطنعوا الحياء، وتمسكوا بالأخلاق، فحرموا الطعام، فكانت ثورتهم على الأخلاق.
وبعد، فموضع الخلاف بيننا في هذه القضية: هل الخلق الفاضل سبيل النجاح؟ قال محمود إبان ثورته: لا، وقلت: نعم نعم، وضربت مثلا الصانع المجيد، الحسن المعاملة، الصادق الوعد، والتاجر الأمين المخلص، والمزارع الأمين، ثم قلت: ولا يزال الرجل الصادق الأمين في كل جماعة وفي كل طائفة موضع المودة والثقة، ينال بسيرته ما تقصر عنه ثروته؛ إن استقرض أقرض، وإن استعار أعير إلخ ، فبأي هذا يرتاب أصحابك؟ يقولون: ما أهون الأخلاق إن كان قصاراها هذا النجاح الحقير، ويقولون: إن الذين ضربتهم مثلا من الأخيار لن يستطيعوا أن يكونوا يوما من رجال المال والأعمال كفلان وفلان. وأنا يا صديقي ما خصصت بقولي ضربا من النجاح دون ضرب، ولم يكن ذكري التاجر والصانع والمزارع إلا مثلا
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، ولا أتم الآية إشفاقا على أصحابك، إني أقولها كلمة عامة شاملة: الخلق الفاضل، في أغلب الأحوال، سبيل إلى النجاح، في كل طرائق الحياة، إن أخفق حينا نجح أحيانا ، وإن أكدى مرة أورى مرارا، فالحاكم الخير، والرئيس البر، والقائد الصالح، والمؤلف الصادق، والأديب النزيه، والصانع والتاجر والزارع، بل الموظف، كل أولئك أقرب إلى النجح، وأظفر بالطلبة في أكثر الأحوال من أندادهم من الأشرار، بعد أن يتخذوا للمقاصد سبلها، ويعدوا لكل أمر عدته، فإن قصروا في الأهبة، وتوانوا في اتخاذ العدة، فماذا يجديهم الخلق وحده؟
إن بعض الأخيار تجنبوا المعارك، وأشفقوا من المهالك، وضيعوا الحزم، فلما أوفت بهم الأعمال على نتائجها، التبس الأمر على كثير من الناس، فحسبوا إخفاقهم بما استمسكوا بالحق والخلق الطيب، وخالوا نجاح أضدادهم بما ركبوا إلى غاياتهم مراكب الباطل والرذيلة، فقل لهؤلاء: أعيدوا النظر، وأحسنوا التفكير، ولا تقصروا النجاح على المال، فيجور بكم المنطق، فهناك الكرامة والجاه والرياسة والزعامة، وهناك الطاعة والمودة، وانظروا إلى الزعماء الذين يسوسون الأمم؛ أهم من أصحاب المال؟
وقلت في مقالي السابق: إن للأخيار إلى مقاصدهم سبيلا واحدة، وللأشرار سبلا شتى، ولكن هذه السبيل الواحدة أحرى بأن تؤدي إلى الغاية، وتوفي على المطلوب، فقلت: إن أصحابك يرون في قالتي هذه نزوعا إلى رأي محمود، ثم قلت: «وما دام جوهر الرأي واحدا، فالسبيل القاصدة أن نطلب لهذه الحال بما يوائم طموح الناس، وكرامة الأخلاق، وسلامة المجتمع.» ثم قلت: «إنه لا معدى عن إحدى وسيلتين: أن تحمل الناس بالدين والسلطان على سبيل الحق الواحدة، وذلك خيال نبيل لا يقع في الإمكان، وإما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق. وهذا على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد.»
وجوابي أنه ليس في كلامي نزوع إلى رأي محمود إلا أن تقطع المقدمات بعضها عن بعض، ويفصل بين أول الحجة وآخرها، وأما الدعوة إلى إعادة النظر في الأخلاق، فأنا لم أعد في مقالي جملة الأمر إلى تفصيله، لم أجادل عن خلق بعينه، ولم أقل: إن خلقا ما صالح لهذا الزمن أو غير صالح، ولكني قلت: إن الأخلاق الفاضلة التي تتفق عليها أمة أو أمم، لا تكون سبلا إلى الخيبة والحرمان، وإن أردت أن تعيد النظر في الأخلاق فما أنا بمنكر أن الأخلاق تقبل بعض التغيير، ولكن لا إخال إعادة النظر ستغير تغييرا ذا بال فيما سارت عليه الأمم منذ هداها الوجدان والعقل إلى سبل الخير، ولن تحلل هذه الإعادة رذائل كالكذب والسرقة والتزوير والظلم، أو تحرم فضائل الصدق والأمانة والعدل. ومهما تكن النتيجة، فالأخلاق القديمة أو الجديدة لا تكون قرينة الخيبة والشقاء.
وقد ذكرت أيها الأخ الكريم أخلاقا تجعلها مثلا لما تريد تغييره، ذكرت التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل، وهذه أمور يختلف فيها النظر، وليست من قواعد الأخلاق، فقل فيها ما يهديك إليه النظر الصائب، ورأيي أن التواضع محمود ما لم يكن ذلة، والقناعة حميدة بقدر ما تحول بين الإنسان وبين الشره والاستكلاب، فإن كانت ضعفا في الهمة، وعجزا عن الإدراك، فهي رذيلة، وكذلك الزهد، وأما التوكل فإن يكن استكانة للحادثات، وخضوعا لكل ما هو آت، فما يرضاه إنسان، وإن كان ثقة بالنفس وانطلاقا في سبل الحياة، لا ترده دون غايته المشاق والأهوال، فما أحوج الناس إليه!
Bilinmeyen sayfa