وهل تعرف ما يدور من معارك تتقزز منها النفوس للاستيلاء على بيت ريفي في الغابات الفضية القريبة من موسكو، أو بيت شتوي كان يملكه في يوم من الأيام أمير من تجار القفقاس؟ ألا ما أكثر ما يذاع من أكاذيب وأباطيل! إني قريبة من هذا كله بحكم مركزي الذي أوجدتني فيه الظروف، حتى ليخيل إلي أحيانا أني أكاد أختنق منه، وما أشبهني في هذا الوضع بإنسان في حمأة يزيد تورطا فيها كلما حاول التخلص منها.»
ولم يخالجني أدنى ريب في إخلاص جوليا رغم ما بدا لي من مغالاة في أقوالها.
ثم تشجعت فقلت لها: «لو أنك كنت شديدة الحب لزوجك لما رأت عينك هذا، وأرجو ألا تسيئي فهم قولي إذا ما ذكرت لك أن سخطك السياسي قد لا يكون إلا صدى لسخطك الشخصي.»
وسكتت جوليا وهي تفكر برهة طويلة ثم قالت بعد هذا التفكير: «لا، لست أظن أن هذا هو السبب، لقد كنت حتى في السنين الأولى من حياتي الزوجية أنكر على «ر» وعلى أصدقائه العظماء الحياة التي يحيونها، والطريقة التي يتحدثون بها، وشدة احتقارهم للشعب الذي يستغلونه ويمتصون دماءه، وكنت أحس من أول الأمر أنني أشبه برقيق الأرض في مزرعة رجل من أصحاب الحول والطول.» - «ولم إذن لا تفارقين زوجك، وتتخذين لك عملا، وتعيشين من أجل مثلك العليا؟ إني أحبك وأظنك تحبينني، فما الذي يمنعنا أن نعيش معا؟» - «لا يا فيتيا، ليس الأمر سهلا كما تظن، فأنا أعرف الكثير مما لا تعرفه أنت، وليس فرار امرأة في مثل مركزي بالأمر اليسير، إذ ليس في وسعي أن أفارق زوجي وأختفي في غمار الشعب المجهول، لقد كنت طول حياتي شديدة القرب من ذوي السلطان؛ ولهذا فإنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي إذا أقدمت على هذا العمل، وأرجو ألا تطلب إلي أن أصرح لك بأكثر مما صرحت به، وإذا كنت تحبني حقا فلا تردني عنك، وهذا كل ما أريده منك.»
وكان ما أشارت إليه من عالم السلطان غير المحدود والدسائس التي لا تقف عند حد، عالما أجهله كل الجهل ولا أستطيع قط أن أفهمه، وما من شك في أن روسيا من السوقة يقع في حب أميرة من البيت المالك لا بد أن يشعر ببعض ما كنت أشعر به وقتئذ.
وكثيرا ما قابلت جوليا في بيت صديقتها ماري بعد عودة زوجها من موسكو، ولم يكن خافيا علي أن زوجها يعلم بأنها تحيا حياتها الخاصة، وأنه كان يغمض عينيه عما تفعل، وكنا في لقائنا نتحدث عن أملنا في أن نعيش معا جهرة كما يعيش الزوجان، ولكن لم يكن منا من يصدق هذا القول؛ ذلك أن اسم «ر» كان يبرز كثيرا في أعمدة الصحف، فهو اليوم يلقي خطبة وغدا يوقع مرسوما، وأخذت الألسنة تلهج بذكره «لقد قال «ر» هذا، وفعل «ر» ذاك.» ومن أجل هذا كان مركزه السامي وسلطانه القوي، ومهابته في جميع القلوب، كان كل هذا يبدو لي كأنه حواجز قائمة بيني وبين جوليا حتى في تلك اللحظات التي كنت أحتضنها بين ذراعي.
ثم تبدلت الأحوال فجأة؛ ذلك أنني استدعيت للمثول أمام لجنة الحزب المركزية، واستقبلني من أعضائها رجل يدعى الرفيق شلكين مساعد رئيس قسم المستخدمين.
وقال لي: «يا رفيق كرافتشنكو، لقد أصدر الحزب قرارا يأمرنا فيه بأن نوائم قدر المستطاع بين عمل المهندسين الآن وبين تجاربهم السابقة، ولقد كنت قبل أن تلحق بالمعهد تعمل في صناعة التعدين، أليس كذلك؟» - «بلى، وكنت في مصنع بتروفسكي-لينين.» - «ها أنت ذا ترى بنفسك، وأي معنى في تدريبك على صنع الطائرات على حين أنك بدأت العمل بداية موفقة في صناعة التعدين؟»
فأجبته في وهن: «ولكني أفضل العمل في الطيران.» - «ربما كان هذا، ولكني لا أظنك تنكر أن هذا التفضيل لا يعدو أن يكون مسألة شخصية محضة.» ثم التفت إلى أحد أمناء السر وقال له: «اعمل على نقل الرفيق كرافتشنكو إلى معهد التعدين في دنيبروبتروفسك.»
وقضيت بعدئذ عدة ساعات أطوف في بستان سمسكايا، لا أبالي بالأوحال التي تتراكم في أواخر الربيع، وأسائل نفسي كيف يعرف الحزب أن الأمر ليس مجرد انتقال من الطيران إلى التعدين، بل هو انتقال من الحياة مع جوليا إلى الحياة بعيدا عنها، ولم يدر قط بخلدي إلا بعد زمن طويل أن الحزب، أو على الأقل بعض أعضاء الحزب، قد عرفوا ذلك الأمر ، وسواء أكان ذلك أم لم يكن فقد بدا لي أن قرار الحزب قرار عادل في جوهره.
Bilinmeyen sayfa