وكان معظمنا يدرك - ويؤلمه أن يدرك - ما هو حادث في المدينة من تدهور سريع في أحوالها بوجه عام، وما هو حادث في الريف من تدهور أسرع منه، فضلا عما يكتنفنا نحن من صعاب، ولم يكن منا من لا يعرف بعض هذه الحقائق إن لم يعرفها كلها، رغم ما كان يفرض علينا من حظر وصمت، ورغم ما كان يحدق بمن لا يمسك لسانه عن التحدث في هذه الظروف من خطر شديد.
وكان الناس يتلقفون الشائعات التي كانت تنتشر بينهم عما كان يحدث في القرى أثناء تصفية أملاك كبار الزراع من فظائع تقشعر لها الأبدان ولا تصدقها العقول، وكنا نرى قطرا طويلة من العربات غاصة بالزراع تمر بمدينة خاركوف، وأكبر الظن أنها كانت تقلهم إلى أقاليم التندرا في الشمال، وكانت هذه وسيلة من وسائل «تصفيتهم». وكان الموظفون الشيوعيون يغتالون في القرى، والفلاحون المشاغبون ينفذ فيهم حكم الإعدام جماعات، وراجت الشائعات أيضا أن من الوسائل التي يلجأ إليها الفلاحون لمقاومة نظام المزارع الجماعية أن يذبحوا ماشيتهم حتى تبقى الأرض بلا حرث ولا زرع، وكان مما أيد أسوأ هذه الشائعات ذلك المرسوم الذي صدر في موسكو، والذي يعد ذبح الماشية بلا إذن جريمة يعاقب مرتكبها بالإعدام.
وغصت محطات السكك الحديدية في المدينة بالفلاحين الجياع ذوي الملابس الرثة البالية الفارين من منازلهم، وانتشر الأطفال المشردون الذين لا مأوى لهم، والذين كانوا في أثناء الحرب الأهلية وسني القحط يواجهون الإنسان أينما سار، وعاد المتسولون إلى الظهور في شوارع المدن، وكان معظمهم من الفلاحين، ولكن كان من بينهم أيضا بعض سكان المدن.
ومع هذا فقد كانت الصحف تشيد بما قامت به الدولة من أعمال عظيمة، فقد تم إنشاء الخط الحديدي بين التركستان وسيبيريا، وشيدت مصانع جديدة في جبال أورال وفي سيبيريا وفي جميع أنحاء البلاد، وتم في إقليم بعد إقليم تحويل المزارع كلها إلى مزارع جماعية، ونشرت الخطابات المفتوحة «ثناء على ستالين»؛ لما شيده من المصانع وما وضعه من مشروعات لإنشاء المساكن، وجاءت الوفود من البلاد الأجنبية النائية - ومن بلاد أمريكا وأستراليا نفسها - تشاهد معجزات مشروع السنوات الخمس، وأخذوا في مقابلاتهم يمتدحون بحماسة جنونية ما أحرزه السوفيت من نصر عجيب، أما كيف غفل هؤلاء الزوار عن الجانب الآخر من الصورة فذلك سر لم نستطع نحن الروس أن نكشف عنه الستار.
ترى أين الحقيقة وأين الخداع؟ هل الحقيقة هي ما في القرى من جوع وفزع وأطفال مشردين، أو ما تنشره الصحف من إحصاءات وما تشيد به من أعمال مجيدة؟ أو هل كانت هذه وتلك عناصر من حقيقة واحدة مركبة معقدة؟ إن هذه الأسئلة وأمثالها لم يكن يسألها إنسان أو يجيب عنها جهرة، ولكننا كنا نتحدث عنها في مجالسنا الخاصة، كنت أتحدث عنها أنا وألكسي وكان يتحدث عنها آلاف الآلاف غيرنا.
وحدث بعد دخولي المعهد بزمن قليل حادث آخر زاد الحياة فيه اضطرابا على اضطرابها، وذلك أنه صدر أمر يقضي بأن تكون اللغة الأوكرانية لا الروسية لغة التعليم كله ولغة الامتحانات كلها، وطبق هذا النظام على جميع المدارس ومعاهد التعليم على السواء، وكان أكبر إذعان من جانب موسكو للأماني القومية في أكبر جمهورية من جمهوريات السوفيت التي تقطنها العناصر غير الروسية.
وكان حقا علينا نحن الطلبة الأوكرانيين أن نغتبط بهذا القرار من الوجهة النظرية، ولكن الواقع أن القرار الجديد أساء إلينا بقدر ما أساء إلى الأقلية غير الأوكرانية؛ ذلك أننا لم نتعود قط أن نستخدم اللغة الأوكرانية في التعلم والدرس حتى الذين كانوا مثلي يتخذونها منذ طفولتهم لغة للتخاطب؛ ولذلك كان لهذا التغيير المفاجئ أسوأ الأثر في عدد كبير من أحسن الأساتذة، وشر من هذا كله أن لغتنا القومية لم ترتق بارتقاء العلم الحديث، ولم تكن تفي بحاجاته، فقد كانت مفرداتها خالية من الاصطلاحات الفنية في الكهرباء والكيمياء وعلم الغازات وضغطها وحركتها والعلوم الطبيعية ومعظم العلوم الأخرى.
وأصبح فانيا المسكين في حال من العجز يرثى لها بسبب هذه العاصفة الجديدة التي قلبت كل شيء فجعلته أوكرانيا، وقد كان من قبل يضل في بيداء التعليم أيا كانت اللغة التي تدرس بها العلوم، وكان شأنه في ذلك شأن مئات غيره من الطلاب، واستطاع جورج فجورا بطبيعة الحال أن يستعين بولاة الأمور في الحزب على ترجمة نصوصه المقدسة كلها إلى اللغة الأوكرانية، فلم يتأثر بهذا التغيير المفاجئ كما تأثر به غيره، أما سائر الطلبة فقد قاسوا الأمرين من جراء هذا العبء الجديد، وكانوا يرجعون إلى الكتب المدرسية الروسية في الخفاء، ويهزءون في مجالسهم الخصوصية من هذا الإغراق الساخر في القومية.
وكان الواجب يقضي بأن يكون هذا حقا من الحقوق يمارسه الناس بحريتهم، ولكنه استحال في تطبيقه إلى فرض بغيض مرهق؛ ذلك أن استخدام لغتنا القومية لم يسمح به فحسب بل أرغمنا عليه إرغاما، وطرد من وظائف الحكومة مئات ممن لم يستطيعوا إتقان هذه اللغة رجالا كانوا أو نساء، وكاد يصبح من أعداء الثورة كل من ينطق في خارج داره بغير اللغة الأوكرانية، ولاقى أبناء الأسر التي تروست أشد العناء، وتأخروا في دراستهم؛ لأن اللغة الأوكرانية كانت بمثابة لغة أجنبية لهم.
ولا حاجة إلى القول بأن هذه التطورات الجامحة كلها ألغيت فيما بعد، وعوقب دعاة الوطنية الأوكرانية المختلفة عن الوطنية السوفيتية - والتي كانت وليدة هذه التطورات - بالنفي أو الإعدام.
Bilinmeyen sayfa