وكانت الصحافة والإذاعة ترددان العبارات التي اتخذت شعارا للعهد الجديد، اللحاق بالبلاد الرأسمالية وسبقها! إلى العمل على تصنيع الروسيا والقضاء على طبقة كبار الملاك! وكأن البلاد كلها قد استحالت مصنعا ضخما تغلي مراجله، فكنا نأكل وننام ونعمل وسط عجيج المعارك، وكانت حياتنا تغمرها اجتماعات المال والدرس المتواصل، والاستماع إلى الخطب الرنانة طعنا على أعداء البلاد من أهلها ومن الأجانب عنها.
وكان يخيل إلينا أن مناقشة القرارات التي تهبط علينا من سماء الكرملن بألفاظ من نار لا تقل حمقا عن مناقشة الصواعق أو الزلازل، لقد كنا نقبل هذه القرارات كأنها وحي من السماء، وكانت بطبيعة الحال تشرح لنا وتفسر في خلال دراساتنا السياسية التي لم تكن تنقطع أبدا، ولم يكن ما يقال لنا يتفق حتما مع ما تضمره عقول الزعماء في الكرملن، ولكن عقولنا لم تفطن إلى هذه الحقيقة في تلك الأيام.
ولم يكن لي قط شأن بالشرطة السياسية المعروفة «بالقسم السياسي»، على أني كنت أحسب أن الخطر المحدق بالبلاد في تلك الساعة الحاسمة من حياتها يحتم فرض الرقابة على كل إنسان فيها، ولم يكن أحد تسوءه هذه الرقابة إلا أبي وأمثاله من الشيوخ ذوي الذكريات الماضية الطويلة، ولكن هذا التحذلق كان يبدو لنا في غير موضعه، ولا فرق بينه وبين الدعوة للسلم في ميدان القتال.
وجاء إلى مصنعنا في أوائل عام 1929م رجل من كبار البلاشفة القدامى يدعى كرستيان ركوفسكي، وألقى خطبة في اجتماع عام، شهده عدد كبير من المستمعين، وتكاد تكون هذه آخر مرة أجيز فيها لرجل من أعداء ستالين أن يتحدث إلى الجماهير، وجاء أبي بعد بضعة أيام يقص علينا نبأ هذا الاجتماع، وكان في أثناء حديثه مكتئبا، وأنا أدرك الآن سبب هذا الاكتئاب.
وكان مما قاله لنا: «لقد انتقد ركوفسكي زعماء الحزب، ولست واثقا من أن هذا النقد صحيح كله أو أن كثيرا من العمال يوافقونه عليه، ولكنا فهمنا من قوله أن هناك نزاعا على السلطة، وأن كفة ستالين هي الراجحة في هذا النزاع، وكان بعض المستمعين يميلون إلى جانب ركوفسكي ويعطفون عليه، وأخذوا يلقون عليه الأسئلة ويصفقون بأيديهم تأييدا لرأيه، ثم غادرنا ركوفسكي، ولم تكد تشرق شمس اليوم الثاني يا ولدي حتى استدعى رجال القسم السياسي العمال الذين أظهروا شيئا من العطف عليه ...»
وبعد بضعة أيام من ذلك الوقت ذهبت إلى كزلوف أمين سر اللجنة الإقليمية (الرايكوم) للحزب، فلما أقبلت عليه حياني أحسن تحية، وكان يعرف أني أوشك أن أتقدم بطلب رسمي للانضمام إلى الحزب، ويرى في جنديا من جنوده كبير القيمة عظيم النفع، فقد أصبحت جم النشاط في شئون المصنع والمدينة على السواء، وأخذ اسمي وصورتي يظهران كثيرا في نشرات النقابات والنشرات الصناعية والمحلية التي تصدر في المدينة.
وقال لي كزلوف وهو يضحك: «إن أباك يا رفيق كرافتشنكو رجل شاذ غريب الأطوار.»
فسألته وقد استولى علي بعض القلق: «ماذا حدث؟» - «لم يحدث شيء ذو بال، وكل ما في الأمر أن عددا قليلا منا ممن ينتمون إلى لجنة الحزب الإقليمية ذهبوا إلى الإدارة الميكانيكية، حيث لا يزال لزيارة ركوفسكي بعض الأصداء الفاسدة، وأردنا أن نتحدث إلى عدد قليل من الصناع لنتعرف حقيقة الموقف هناك، فسألنا منهم أفرادا قلائل متفرقين، ثم تقدمنا آخر الأمر إلى أبيك الشيخ.»
وسألته أنا بأرق الألفاظ وأكثرها مجاملة: «كيف تسير الأمور؟ فماذا كان جوابه في ظنك؟ لقد حدجني بنظرة فاحصة من قمة رأسي إلى أخمص قدمي ثم قال لي: لا تتدخل في عملي، إن هذا مصنع لا ناد، وإذا أردت أن تعرف أفكار العمال فاسأل عنها قسمك السياسي فإن من عمله أن يعرف هذه الأفكار.
ما أغرب أباك يا فكتور أندريفتش! وكان سينيا فلجن معي في أثناء الحديث وهو عضو في لجان الشباب كما تعرف، ولهذا حاول هو أيضا أن يحمل أباك على الإفصاح عن رأيه فقال له: إنك يا مواطن كرافتشنكو من العمال القدامى المحترمين، وقد حاربت القيصر، ونحن أعرف الناس بك، وهذا هو السبب الذي يدعونا إلى أن نعرف أفكارك، فما كان من أبيك الشيخ إلا أن ثار وقال محتدا: اسمعا أيها الشابان، إنكما لا تزالان طفلين في السياسة، وليس في وسعي أن أناقشكما في شيء من الشئون الجدية.»
Bilinmeyen sayfa