واتخذت لنفسي في المدرسة عدة أصدقاء ظلت صداقتي لكثيرين منهم قائمة إلى أيام كهولتي، وهو أمر يدعو إلى الدهشة في بلادنا وفي أيامنا هذه، وكانت أوقات الدراسة طويلة يعقبها في معظم الأيام واجبات نؤديها في منازلنا، وكانت العقوبات البدنية التي توقع علينا لتأخرنا وعدم التفاتنا للدرس من الأمور العادية، وكانت تعد من العناصر الضرورية التي لا غنى عنها في تربية الأولاد.
وكنت لحسن الحظ سريع الحفظ، ولم يكن يضايقني إلا دروس الدين التي يلقيها علينا الأب مكسيم العجوز ويتمتم بها من بين لحيته، كان يطلب إلينا أن نحفظ عن ظهر قلب أدعية طويلة لا نفقه لها معنى باللغة السلافونية القديمة، فإذا عجزنا عن أن نعيدها، وهو ما كان يحدث لنا كلنا تقريبا، عوقبنا على هذا عقابا صارما، وكان الذي يحدث وقتئذ أن يأتي كوزيا تلميذ الأب مكسيم المقرب إليه، والذي شوهت آثار الجدري وجهه، بعصا أعدها لهذا الغرض، ثم يركع المجرمون صفا ويأخذ كوزيا يجلدهم بالعصا على أعجازهم، والقسيس في هذه الأثناء يعد الضربات، وما من شك في أن الأب مكسيم كان يرى في هذا إصلاحا لأرواحنا، وإن لم نفد منه أقل فائدة في تعليم اللغة السلافونية، وكان الذي يحدث على الدوام بطبيعة الحال أن نكمن لكوزيا في الطريق بعد خروجنا من المدرسة ونكيل له الصاع صاعين، وكان هذا أيضا جزءا لا يتجزأ من منهج تعليمنا.
وكان ثمة هدف آخر نوجه إليه ضروب قسوتنا وهو الشاب شتشيكتهين ابن أغنى إنسان في البلدة ووارثه، ولم يكن نك هذا يأتي إلى المدرسة كما نأتي إليها نحن مشيا على الأقدام مسافات طويلة، بل كان يأتي إليها مستقلا عربة جميلة يحرسه الخدم، وكان يرتدي سترة من المخمل وطوقا مكويا منشى، وحذاءين ذوي أزرار براقة، وكان يسره فضلا عن هذا أن يصلصل بالنقود في جيبه، وكنا نحن نرى أن هذه جرائم لا يصح أن ينجو مقترفها من العقاب، على أنه كان يسعه أحيانا أن يرشونا بالنقود والحلوى فنتركه وشأنه، ولكني لا أنكر أننا كثيرا ما كنا نقبل منه الرشوة ثم نضربه على عمله ضربا شديدا.
وكنا على الرغم من شدة نظام المدرسة نلعب الهوكي ونرتكب الكثير من عبث الطفولة، وأذكر أني أنا ورفيقا لي اعتزمنا أن نغير على مزرعة للخضر في طرف المدينة، أذكر هذه الغارة أكثر مما أذكر أية مأساة حقة أصابتني في مستقبل حياتي، ولم نكد نملأ جيوبنا بالخيار الصغير ونتذوق البطيخ الحلو حتى داهمنا البلغاري الضخم، ولكنه لم يضربنا بل استعاض عن الضرب بمحاضرة ألقاها علينا عن ضرر السرقة، ثم أمرنا أن نخلع سروالينا، وأعطى كلا منا حفنة من الخيار، وأخلى سبيلنا وتركنا نعود من حيث جئنا من غير سروالين.
وانتظرنا عدة ساعات حتى جن الليل، فلما أظلمت الدنيا عدنا إلى بيتينا على هذه الحالة غير المشرفة بطرق ملتوية حتى لا يلتقي بنا أحد، وظل ما لحقنا من العار بسبب هذا العمل يلازمنا وقتا طويلا، وكان ما لقيناه من الألم بسبب السخرية التي أثارتها هذه الحادثة في المدينة أشد من كل ما كان يحدث لنا لو أن الرجل ألهب جلدنا بالعصي أو السياط.
وليس في وسعي أن أذكر الآن ما كنا نجلبه من البؤس والشقاء على المتكبرين المتغطرسين من المدرسين دون أن تصتك ركبتاي ويرتجف سائر جسمي من هول ما كنا نعمل، ولكن أفريشيف مدرس اللغة الروسية البائس الرقيق الحال ذا المنظارين، كان ينجو من عنتنا وعبثنا، ويكاد هذا الرجل أن يكون نموذجا متقدما لرجال الفكر الروس، فكان يتصف بالشدة والنزعة الشعرية والثرثرة وبعض المسكنة، وكانت عيناه غائرتين تبدو فيهما سمات التعصب، وكانت دروسه في الأدب الروسي تثير مشاعرنا جميعا، لا يستثنى منا الأولاد الصغار، وقد علمت بعد سنين من ذلك الوقت في أثناء زيارة لزبرزهي أن أفريشيف قتل في أثناء الثورة.
وكان صغار الأولاد من أبناء الأسر الكريمة ينهون عن الاختلاط بالغجر، ولكني كنت رغم هذا كثير الاختلاط بهم، فقد اتخذت لي صديقا منهم، وهو صبي يدعى سيدمان، وكانت نتيجة هذه الصداقة أن أصبحت وكأني من أفراد تلك العشيرة، وحدث مرة ونحن ننزلق على ماء نهر الدنيبر المتجمد أن هوى الجليد فجأة تحت قدمي، فما كان من سيدمان إلا أن غاص في الماء الثلجي وانتشلني، وقوى هذا الحادث ما كان بيننا من صداقة.
وكثيرا ما كنت أغادر البيت وأذهب إلى معسكر الغجر لأعذار أنتحلها، وكنت في هذه الزيارات أجلس إلى جوار نارهم، أصطليها معهم، وأصغي إلى قصصهم الشعبي، وأرقب أساليب أولئك القوم الأوداء الذين لا تفارقهم البهجة والمرح، وأنا مسرور بوجودي بينهم مفتتن بأساليبهم، وكانت نساء الغجر ينبئنني بمستقبلي نظير كوبك أو كوبكين أنقدهن إياهما، كن على الدوام يتنبأن لي بأني سأصبح رجلا سريا جميل المحيا ذائع الصيت، وأن حياتي ستكون حياة منعمة في جنان الخلد المرصعة بالجواهر، تجري فيها أنهار من عسل مصفى، وتشاركني فيها غادة حسناء شقراء اللون حينا، وسمراء حينا آخر.
وكان عرس هام سيحتفل به في معسكر الغجر في وقت قريب، وأخذوا يستعدون له في معسكرهم قبل يوم الزفاف بعدة أسابيع، وألح علي سيدمان أن أشهده، وصادف ذلك هوى في نفسي، فقد كنت شديد الحرص على حضوره، ولكن كيف السبيل إلى مغادرة المنزل في ليلة العرس؟ ولما أعيتني الحيل أفضيت بالسر إلى جدي، فغضب في أول الأمر، ولما أن نبأته كيف أنقذ سيدمان حياتي سمت دواعي النجدة والمروءة فوق الترفع العنصري، فلم يكتف بالإذن لي بالذهاب، بل رضي أن يرافقني بنفسه.
وارتدى جدي حلته الرسمية في هذه المناسبة، ومشط لحيته حتى جعلها أوسع مما كانت عادة، وجاء معه ببضع هدايا جعلته ضيفا مكرما في الحفل، وزاد ذلك من قدري في أعين الغجر، وكانوا كلهم صغارهم وكبارهم قد ارتدوا أبهى حللهم وازينوا بكل ما لديهم من حلى براقة، وأخذوا يعزفون على آلات الطرب من كمان وقيثارة حتى ذهب من الليل أكثره، وكان لهذا الحفل أعظم الأثر في نفسي، وجعلني طوال حياتي المقبلة أرثي لمن حرموا لذة الاستمتاع بحياة الغجر.
Bilinmeyen sayfa