وعلا «ديخوفتسف» بصوته فوق الضحك، وقال: «أنا أعلم يا رفاقي أن مثل هذا الكلام يبعث على الضحك، إنه مهزلة مضحكة وأنا بذلك أعترف. إن الحفل يعقد في الكنيسة ليس يعني عندي شيئا، صدقوني فيما أقول، لكني شغفت بزوجتي حبا وأبى والداها علي زواجها إلا إذا قبلت مهزلة الكنيسة، إنهما رجعيان، وليست زوجتي بأقل مني استخفافا بالخرافات، لكنها الابنة الوحيدة لأبويها ولم ترد أن تؤذي الأبوين الشيخين.
ناقشتها ورجوتها وأنذرتها أن ذلك لن يؤدي إلى خير نرجوه، لكنها لم تذعن، ولم أستطع العيش بغيرها، فانتهى أمرنا إلى زواج عقدناه في كنيسة ريفية بعيدة، ولما كنا في طريقنا عائدين، أخفيت برقع العرس وزهوره في محفظة أوراقي.»
لم يملك الحاضرون إلا مضيا في زئاطهم، ونقر الرئيس يطلب النظام، ولا نظام، وفقد «ديخوفتسف» اتزانه فازداد بصوته ارتفاعا: «أؤكد لكم أننا بالله كافران، إن زوجتي عاملة وأنا ماض في دراستي ولنا طفل، أتوسل إليكم يا رفاقي أن تصفحوا عن زلتي، إني أعترف أنني قد أذنبت بما أخفيت من هذه الجريمة عن الحزب.»
وحاول كثير من الناس أن يدفعوا عنه الأذى، لكنه طرد، فليست جريمته تنحصر في عقد زواجه بالكنيسة فحسب، بل ما هو أخطر من ذلك، وهو أنه قصر فلم ينبئ رؤساءه بمثل هذا العدوان الفظيع على مبادئ حزبه.
هكذا مضت حركة التطهير بوما بعد يوم، فتبدأ الجلسة بعد الفراغ من الدراسة فورا، أي نحو الساعة الخامسة عصرا، ثم تظل منعقدة حتى تضرب في أحشاء الليل، وفي ختام الأسبوع الأول، وقد أصبح الأمر مشهدا لأفظع المآسي، بما يصاحبه من عبرات وضحكات ولهو العابثين، فوجئنا بما هزنا فأيقظنا؛ ذلك أن معلما موهوبا وإخصائيا في البحث العلمي، وهو الرفيق «بطرس بولكين» نودي للمحاكمة، إننا نعلم عنه أنه من أب قسيس، وهي حقيقة تزعزع موقفه، ولو أن أباه بطبيعة الحال قد برئ من الكنيسة، بل والتحق بجمعية «الكافرين بالله» ليمحو من صحيفة أبنائه نقطة سوداء.
وما كان «بطرس» ليقبل عضوا في الحزب بغير انسلاخ أبيه عن الكنيسة، على الرغم من أنه عالم بارع، لقد أخلص الرجل للعلم إخلاصا نسي فيه نفسه، فواصل العمل ساعات بعد ساعات، يشير على كثير من المصانع، ويقف أمام مخابير العامل، ويشرف على طلابه في حجرات الدرس، فكأنما أسرف في حماسته للعلم على هذا النحو ليمحو «عارا» يصمه من تاريخ أسرته.
وتصادف أني قابلته في البهو صباح اليوم السابق ليوم محاكمته في التطهير.
سألته: «كيف حالك يا بطرس؟» - «ليست حالي أطيب حال يا «فيتيا»، فما أدري أيصيب السهم مني مقتلا فأسقط صريعا أم يخطئ فأنجو.»
وضحكت قائلا: «أوهو! ما دمت قد جعلت تتمثل بشعر من نظم «يوجين أونجين» إذن فقد ملأ صدرك الهم.»
أخذ يروي قصة حياته على مسمع من الحضور الذين زاد عددهم عن المألوف، ولعله فيما أظهر من براعة في طريقة الاعتراف قد استفاد من أصله الكنسي، فقد صرح أنه لم يستر قط وصمة العار في حياته، زد على ذلك أن أباه قد طلق العقيدة الدينية تطليقا أعلنه للناس في الصحف، ومضى فقال: إنه لم يكن يسيرا أن يمحو القديم ليستبدل به جديدا، بل اقتضاه الأمر مجهودا شاقا طويلا لكي يقضي على كل أثر من آثار الخرافة التي تلقاها إبان الطفولة، لكنه فعل ذلك ووفق فيما فعل أيها الرفاق، وها هو ذا قد كرس كل فكره للبحث العلمي، فالبحث العلمي - فما يرى - خير وسيلة يستطيع أن يخدم بها الحزب وستالين.
Bilinmeyen sayfa