Athar Tarikh al-Nass al-Hadithi fi Tawjih al-Ma'ani
أثر تاريخ النص الحديثي في توجيه المعاني
Yayıncı
مستلة من حولية كلية أصول الدين والدعوة بالمنوفية
Türler
جامعة الأزهر الشريف
كلية أصول الدين والدعوة الإسلامية بالمنوفية
أثر تَارِيخ النَّص الحَدِيثِي في توجيه المعاني
عند شُرَّاح الحديث
دراسة تطبيقية
د. يُوسُف جوده يس يوسف
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد - جامعة طيبة
المدينة المنورة - المملكة العربية السعودية
مستلة من حولية كلية أصول الدين والدعوة بالمنوفية
العدد السادس والثلاثون لعام ١٤٣٨ هـ / ٢٠١٧ م
والمودعة بدار الكتب تحت رقم ٦١٧٥/ ٢٠١٧
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ونَعُوذُ باللهِ مِن شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمن سَيَّئَات أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، الحمد لله العزيز الحكيم، العلي الكبير أمر أهل العلم وأخذ عليهم الميثاق ببيان الوحي المنزل إليهم، فقال تعالى: "لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ" (١)، وأَنَّهُ ﷾ أَمَرَ كذلك بإقامة الدين وعدم التَّفرق فيه، فقال تعالى: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ". (٢)، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وَصَحْبِهِ وسَلَّم تَسْلِيمًا كَثيرًا، أَمَّا بعد:
إنَّهُ ممَّا لا شك فيه عند أهل العلم أنَّ معرفة معاني نصوص السُّنَّة تحْتَاجُ إِلَى معرفَة التَّارِيخ، وتحْتَاج كذلك إلى عَقْلٍ وَفهمٍ للوصول للمعاني العميقة فيها واستنباط الأحكام؛ ولأنَّ شهادةَ التَّاريخ لا يماثلها ولا يدانيها شهادةً؛ بل هي من أقوى المرجحات في حال الاضطراب وكثرة الأقاويل في المسألة الواحدة،
_________
(١) سورة آل عمران آية (١٨٧).
(٢) سورة الشورى آية (١٣).
1 / 3
فكانت دراسة ومعرفة أثر تاريخ النَّص في توجيه المعاني عند شُرَّاح الحديث النَّبوي، الجَدِيدُ في مَقْطعِهِ ونهايتِهِ، القَديمُ في مَشْرَبِهِ وأَصَالتِهِ، من أجلِّ المهمات في علم دراية الحديث، ولمن لا يكتفي بالخبر عن المعاينة، إذ ليس كُلُّ من رام معاني نصوص الحديث وجدها، فقد حَيَّرت عقول الأفذاذ من علماء هذه الأمة، فإذا عُلِمَ ذلك ظهرت قيمة التَّاريخ للنصوص الحديثية، فهي بمثابة الحَدَقِ للعُيون لمن أراد التَّحقيق ومعرفة المعاني والتَّرجيح بينها، وليأخذ منها المتأمل في معاني الحديث النَّبوي الأحكام على بصيرةٍ وبينة، ويذر ما يذر على بصيرةٍ وبينةٍ.
ولاشك أنَّ موجهات وأدوات معرفة المعاني عند شُرَّاح الحديث كثيرة، فمنها ما يختص باللغة والسِّياق، ومنها ما يختص بأسباب ورود الحديث، ومنها ما يختص بتاريخ الحدث أو النص، وغير ذلك كثير فليس المقام حصر تلك الأنواع؛ وإنَّما لبيان أنَّ أداة تاريخ الحدث أو النَّص تندرج تحت تلك الأدوات، وكثيرًا ما تَذْكُرُ لنا كُتب التَّاريخ والتراجم وشُرَّاح الحديث أزمنةً ويستدلون بها، بعضها يبدو واضحًا وصريحًا، والبعض الآخر عميق الغوص طويل الذَّيل، وبإمعان النظر في كتبهم يجد الباحث الكثير من هذه العلوم والأدوات، وأنهم في ثنايا كتبهم قد استخدموا دلالة تاريخ حدوث هذه النصوص في التَّرجيح بين المعاني في الألفاظ التي قد تكون مشتركة، أو تحتمل أكثر من معنى، وغير ذلك من أوجه التَّرجيح ومعرفة المعاني والاستنباط، مما سنُبَيِّنُهُ إن شاء الله في هذه الدِّراسة، وفيها أيضا نحاول إلقاء الضوء على تلك العلوم والأدوات وذكر الأمثلة التطبيقية عليها من مصنفات شُرَّاح الحديث النَّبوي.
1 / 4
مشكلة البحث:
كان محتم على الناظر والباحث في مصنفات شُرَّاح الحديث من علماء الأمة الإسلامية أن يعي أنهم استخدموا تاريخ النصوص في بيان حقائق علمية، واستنباط الأحكام، والتَّرجيح بين المرويَّات، وبيان المشكل من السُّنّة؛ فكان من أصعب المهمات على الباحث أَنْ يثبت أنهم استخدموا ذلك العلم العزيز، ولاسيما في بيان تحديدهم لتاريخ النصوص الحديثية بطريقة علمية وتوثيق ذلك، فإذا ظهر هذا فإنَّهُ يَقُودنا إلى سؤالٍ غاية في الأهمية وهو هل يمكن تحديد جميع تواريخ النُّصُوص الحديثية؟، في الحقيقة إننا نجد صعوبة في الموافقة على هذا القول؛ لأنَّ كثيرًا من النصوص الحديثية لا يُعْلَم لها تَارِيخٌ يمكن الاعتماد عليه في تحديد تاريخ النَّص؛ على الرَّغم من أننا بالقطع نَجْزم أنَّ هذه الأحداث قد وقعت في زمنٍ محددٍ وكانت في عهد النَّبُوة، ومِن الصُّعوبات التي واجهتني أيضا التَّفريق بين علمي النَّاسخ والمنسوخ وعلم تاريخ النص الحديثي، وقد بينته في موضعه بفضل الله تعالى.
الدراسات السابقة:
لم أجد دراسات جديدة سابقة متصلة بهذه الدراسة بالتحديد مع طول تفتيش.
تحديد نطاق البحث:
إنَّ تحقيق واستخراج ما أَجملَه علماء الحديثِ في مصنفاتهم عملٌ ضخمٌ كبير، ولاسيما استخراج ذلك من أغوار البحار العميقة، أو إظهار فَن مِن أبدع فنونهم المملوءة بالذخائر والنَّفائسِ، وسوف أُحَاول في هذه الدِّراسة توضيح كيفية استخدام علماء الحديث لِتَارِيخ النُّصُوصِ فِي بَيان أوجه المعاني؛ لِيَظهر للدَّارس أو الباحث كنوز وذخائر هذا العلم.
1 / 5
ومِن البَدِهِي أَنِّي لم أضع هَذَا البحث لبيان تفاصيل علم تاريخ النَّص الحديثي؛ وإنِّمَا لبيان قيمته وأثره عند شُرَّاح الحديث النَّبوي؛ فكان حَسْبِي من القِلادَةِ ما أحَاطَ بالْعُنُقِ، ورضِيتُ بالقَصدِ ما بَلَغَ المنزِلَ؛ لِذَا قمتُ باختيار ثلاث من أَعْرَقِ وأنفع شُرُوح الحديث وهي: فتح الباري شرح صحيح البخاري لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العَسْقَلانِيّ، والمنهاج شرح صحيح مسلم لمحيي الدين يحيى بن شرف النَّوويّ، والاستذكار (شَرْحُ كِتَاب مُوَطَّأ الإمام مالك) لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القُرْطُبِيّ؛ كنماذج لشُرُوح الحديث، وقد اعتمدتُ أَشْهَر خَمْسةَ مَحَاورٍ يُدَنْدِنُ حولها علماءُ الحديث في شرحهم للحديث، وقد اجتمع فيها ما تفرق، واتصل فيها ما انقطع، واكتفيتُ بذكر ثلاث أمثلة لكل محور، وعلقت عليها ولم أُطِلْ النفس فيها، واقتصرتُ على ذِكْرِ ما له علاقة بالبحث، ومَحَلُّ الشَّاهدِ والغرض منه؛ وذلك ليظهر ما كان غامضًا من المعاني؛ ولإيضاح الفكرة، وإبراز معالم استخدام علم تاريخ النص الحديثي عند أولئك الشُّرَاح في مصنفاتهم.
خطة البحث:
المقدمة وفيها: أهمية البحث، وأسباب اختياره، ومشكلة البحث، والدِّراسات السابقة، وتحديد نطاق البحث، ومنهجية البحث، وخطة البحث، والدراسة تشتمل على سِتَّةِ مَبَاحث.
المبحث الأول: تاريخ النص في الحديث النَّبوي، وارتباطه بالعهد النَّبوي.
المبحث الثاني: أثر تاريخ النَّص على الفهم الصحيح، وسلامة الاستنباط.
المبحث الثالث: أثر تاريخ النَّص في الجمع أو التَّرجيح بين النصوص.
المبحث الرابع: أثر معرفة التاريخ النَّص في إيضاح المشكل في متن الحديث.
1 / 6
المبحث الخامس: أثر معرفة تاريخ النَّص في إثبات تعدد القصة، أو نفي تعددها.
المبحث السادس: أثر معرفة تاريخ النَّص في توجيه دلالة الحديث.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
قائمة المصادر والمراجع.
منهج البحث:
اتبعتُ في هذه الدِّراسة المنهج الاستقرائي والمنهج الوصفي التَّحليلي:
فالأول: يكون بجمع وفحص ودراسة المادة العلمية للدراسة المتمثلة في الأمثلة التطبيقية على أثر تاريخ النَّص الحديثي في توجيه المعاني عند شُرَاح الحديث في المحاور المذكورة سالفًا، والثاني: في استعمال الوصف التَّحليلي، والتَّوثيق العلمي للنُّصُوص واستخدام الطرق العلمية للوصول إلى النتائج المرجوة من الدِّراسة، فاتبعت المنهج التالي:
١ - أذكر الأحاديث المرفوعة من أصول الشروح المذكورة في نطاق البحث مع اختصار الإسناد وذكر الصحابي الرَّاوي للحديث لما له من فوائد في تحديد تاريخ النَّص النَّبَوي.
٢ - في محَاور الدِّراسة أقومُ بشرحٍ مختصرٍ للمحور وبيان أهميته، وعلاقته بتاريخ النَّص إجمالا، مع توضيح المصطلحات المستخدمة في محور المبحث لتظهر أهمية تاريخ النَّص فيه.
٣ - أنقل نص الإمام في شرح الحديث الْمُبَيِّن لاستخدام تاريخ النَّص فإنْ كان النّصُّ طولا اقتصرتُ على المقصود منه، ثم أعلق عليه لزيادة إيضاح أثر تاريخ النَّص في المحور المذكور.
1 / 7
٤ - إذا كان هناك تعليقات لبعض شُرَّاح الحديث غير المذكورين في نطاق البحث مما يفيد بيان استخدام تاريخ النَّص، وزيادة الإيضاح ذكرتها في التعليق على شرح الحديث.
٥ - وثقت التَّواريخ الخاصة بتاريخ النَّص من المصادر التَّاريخية المعتمدة والموثوق بها مع مقارنة ذلك بالتَّواريخ التي ذكرت في نصوص الحديث.
٦ - إذا كان هناك اختلاف في تواريخ الحدث رجحتُ تاريخًا واحدًا تبعًا للأدلة، ولكلام المحققين من أهل الحديث، وما اتفق عليه أهل السير. ...
1 / 8
المبحث الأول: تَارِيخُ النَّص في الحديث النَّبوي
قَبْل الخوض في معرفة تاريخ النَّص وتأثيره في توجيه المعاني والتَّرجيح عند علماء الحديث يجب معرفة المقصود بِتَاريخ النَّص وما لازمه من معاني، وبما أنَّ الأشياء لا تعرفُ إلا بحقائقها وأنواعها وأمثالها وأضدادها، فسوف نتكلم في هذا المبحث عن تلك المصطلحات، ثم نحاول الجواب عن تساؤل مهم وهو: ما الفائدة من وراء التَّحليل بشكلٍ دقيقٍ لتَوَارِيخِ حُدُوث النَّص الحديثي، وما لازمه من أحداث وَوَقَائع؟؛ وذلك لبيان أهمية تاريخ النَّص في الحديث النَّبوي.
المطلب الأول: مصطلحات البحث:
التاريخ لغة: أصل التاريخ أَرَّخَ، وجاء في لسان العرب: " أَرَّخَ: (التَّارِيخُ) وَ(التَّوْرِيخُ) تَعْرِيفُ الْوَقْتِ تَقُولُ (أَرَّخَ) الْكِتَابَ بِيَوْمِ كَذَا، وَقَّته وَالْوَاوُ فِيهِ لُغَةٌ" (١)، وقال صاحب المصباح: " أَرَّخْت الْكِتَابَ بِالتَّثْقِيلِ فِي الأَشْهَرِ وَالتَّخْفِيفُ لُغَةٌ حَكَاهَا ابْنُ الْقَطَّاعِ إذَا جَعَلْت لَهُ تَارِيخًا وَهُوَ مُعَرَّبٌ وَقِيلَ عَرَبِيٌّ وَهُوَ بَيَانُ انْتِهَاءِ وَقْتِهِ". (٢)
_________
(١) محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، (٤/ ٣).
(٢) أحمد بن محمد الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، (١/ ١١).
1 / 9
التَّارِيخ اصطلاحًا: " أَنَّهُ فَنّ يبحث عن وقائع الزَّمان، من حيثية التَّعِيين والتَّوقيت، بل عمّا كان في العالم. وأما موضوعه، فالإنسان والزمان، ومسائل أحوالهما المفصّلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة الموجودة للإنسان، وفي الزمان". (١)
النص لغة: أصل لفظة "النَّص" تدور على معانٍ في اللغة فمنها: رَفْعُكَ الشَّيء، والظهور وكلُّ مَا أُظْهِرَ فقد نُصَّ، ومنه لفظة: "المنصة"، ونهاية الشيء وغايته، ومادة " (نَصَّ) النُّونُ وَالصَّادُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى رَفْعٍ وَارْتِفَاعٍ وَانْتِهَاءٍ فِي الشَّيْءِ. مِنْهُ قَوْلُهُمْ نَصَّ الْحَدِيثَ إِلَى فُلانٍ: رَفَعَهُ إِلَيْهِ. وَالنَّصُّ فِي السَّيْرِ أَرْفَعُهُ". (٢)
النَّص اصطلاحًا: قال المازري: " وهو عند الأُصوليين اللَّفظُ الكَاشِفُ لِمَعنَاهُ الذي يُفْهَم الْمُراد بهِ مِن غَيرِ احْتِمَال، بل من نفس اللَّفظ، وهكذا حَدَّهُ بَعْضُهُم، فإنَّهُ اللَّفظ الكَاشِف للمعنى بنفسه، وبَعْضهم يَذْكُر هَذَا الْمَعنى بِطَريقَةٍ أُخْرَى في العِبَارة فيقول: ما يُفْهَم الْمُرَاد مِنْهُ عَلَى وَجهٍ لا احْتَمَال فِيهِ" (٣).
وأرى أنَّ يُعَرَّفَ النَّص اصطلاحًا على وجه العموم بأنَّه كُلُّ كَلامٍ مُفِيدٍ يُظْهِرُ المعنى المراد منه، ويحتوي على جملة وما فوقها وما دونها؛ فالنَّص عند المحدثين هو متن الحديث المنقول من الرسول ﷺ إلى مصنف الكتاب، وعند الفقهاء نص القرآن أو السنة أو نص الإمام في الأحكام، أو نص المخطوط أو
_________
(١) عبد الحي بن أحمد العَكري الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، (١/ ١٥).
(٢) أحمد بن فارس القزويني، معجم مقاييس اللغة، (٥/ ٣٥٦).
(٣) محمد بن علي بن عمر، أبو عبد الله المازري (ت: ٥٣٦ هـ)، إيضاح المحصول من برهان الأصول، (ص ٣٠٥).
1 / 10
نص الكتاب وغير ذلك كثير، ومما سبق يمكن استنتاج تعريف خاص بتاريخ النَّص النَّبوي.
تاريخ النَّص النَّبوي اصطلاحًا: هُو الزَّمَن الذي حَدَثَ فيه النَّص الحديثي المأثور عن النَّبِيِّ ﷺ سواء كان ذلك قولًا أو فعلًا أو تقريرًا، وما لازمه في العهد النَّبوي من أحداث وقَرَائِن تدل على تحققه في هذا الزمن المحدد، مع اعتبار معيار التتابع في الحدوث (١).
وبهذا التَّعريف يتضح أن تاريخ النَّص في الحديث النَّبوي يُعَبِّرُ عن الزَّمن الذي حَدَثَ فيه قولٌ أو فعلٌ أو تقريرٌ للنَّبِيِّ ﷺ في زمن البعثة، والحقائق التَّاريخية تؤيد وقوعه، وهذه الأحداث هي أحد العناصر الْمُكَونة للنص وتدل على التتابع الزَّمني في الحدوث وعلاقة ذلك ببقية الأحداث، وسوف نضرب الأمثلة حتى نقرب مفهوم تاريخ النَّص الحديثي إن شاء الله تعالى.
ولا يرتابُ أَحَدٌ في أهمية النَّص؛ فِإنَّه حَامِلُ العُلُومِ ومَصْدَرُ العِرْفَان، وبه تُعْرَفُ الحقائق التي تقوم عليها جميع المعارف الإنسانية، وبدراسة تَارِيخ حُدُوث النَّص يَتَبَيَّن لنا الْمُشْكَل من ألفاظه، أو التَّرجيح بين الرِّوايات المختلفة، أو توجيه المعاني وغير ذلك كما أسلفنا من قبل، وفي ضوء ما تقدم يمكننا إدراك دور تاريخ النَّص في الكشف عن معاني الحديث النَّبوي الشَّريف، وبهذا نُدْرك الفوائد من وراء التحليل بشكل دقيق لتواريخ حُدُوث النَّص الحديثي وما لازمها من أحداث؛ لاستخراج كنوز هذه النُّصُوص.
ومما هو متسقٌ مع ما قبله، قادتنا آلية البحث إلى سؤال مهم: هل كان النَّصُ النَّبويّ مُرْتَبِطًا بالتَّاريخ والأحداث في عهد النّبُوة؟ أم أَنَّهُ لم يكن مُرْتَبطًا بالأحداث؟ وهذا ما سنوضحه إن شاء الله بالتفصيل في المطلب التالي.
_________
(١) تعريف تاريخ النَّص النَّبوي اصطلاحًا لم أجد من عرفه بعد طول بحث، وقد اسنبطتُ هذا بعد استقرائي لمادة التعريف في كتب اللغة والحديث والأصول.
1 / 11
المطلب الثاني: مدى ارتباط النَّص النَّبوي بالتَّاريخ والأحداث:
تُشِيرُ المصادر والمراجع التَّارِيخية إلى أنّ النَّص النَّبوي كان مُرْتَبطًا بالأحداث في عهد النّبُوة ارتباطًا وثيقًا؛ إذ كان قَولُ النَّبي ﷺ أو فعله أو تقريره لا يكون إلا بسببِ حدثٍ أو موقف وقع في زَمَنٍ مُحَدَدٍ، وهو ما أسميته تاريخ النَّص الحديثي، ولا شك أَنَّ العِبْرةَ مِن النَّص بعموم اللَّفظ المفهوم منه لا بمجرد معرفة ملابسات تاريخ النَّص فقط؛ وإنَّما هو من أدوات توجيه المعاني والترجيح بينها عند الاختلاف؛ كأسباب النزول للقرآن، وأسباب ورود الحديث وغيرها من أدوات الفهم والاستنباط، فتَارِيخُ النَّص النَّبوي يُضبَطُ بِضَوابطٍ عِدةٍ أولها: زمن وقوع القول أو الفعل أو التقرير، وثانيها: تأثير ذلك الزمن على ما ارتبط به من أحداث، وثالثها: معرفة تتابع الأحداث السابقة واللاحقة لذلك الزمن، وبالمثال يتضح المقال فمن وقائع التَّاريخ والسِّير ما يُبيِّنُ ذلك:
مثال من قول النَّبي ﷺ: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلا
فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَاتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَلَمْ يُعَنِّفْ
وَاحِدًا مِنْهُمْ. (١)
_________
(١) البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الجمعة، بَابُ صَلاَةِ الطَّالِبِ وَالمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً، (٢/ ١٥)، حديث رقم ٩٤٦، وكذا مسلم، الجامع الصحيح، كِتَابُ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ، بَابُ الْمُبَادَرَةِ بِالْغَزْوِ، وَتَقْدِيمِ أَهَمِّ الأَمْرَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، (٣/ ١٣٩١)، حديث رقم ١٧٧٠.
1 / 12
قلت: إذا أردنا معرفة تاريخ هذا النَّص القولي من رسول الله ﷺ، ففي نص الحديث قد ذُكِرَ أنَّه ﷺ قاله "لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ"، وذكرت لنا المصادر التَّارِيخِية أنَّ غزوة الأَحْزَابِ كانت فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ هجرية على الصحيح المعتمد (١)، ويؤيد ذلك ما ذكره شمس الدين الذَّهَبِي بإسناده عن الزُّهْرِيِّ: " من أنَّ الخندق كَانَتْ بَعْد أُحُدٍ بِسَنَتين" (٢)، وذَكَرُوا أنَّه ﷺ وأصحابه حُوصِروا فيها شهرًا (٣)، فيكون زَمَنُ هذا القول في أوائل شهر ذي القعدة مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ هجرية، وهو تاريخ هذا النَّص الحديثي.
مثال من فعله ﷺ: ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ (٤)، وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ، «فَصَلَّى العَصْرَ، ثُمَّ دَعَا
_________
(١) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، (٧/ ٣٩٣)، وقد ذَكَرتْ بَعْضُ المصادر التَّاريخية أنَّ غَزْوَةَ الأحزاب كانت في سنة أَرْبَعٍ من الْهِجْرَةِ، وتعقب ذلك ابنُ حَجَرٍ في نفس الموضع الخلاف، ثم قال: «وَقَدْ بَيَّنَ الْبَيْهَقِيُّ سَبَبَ هَذَا الاخْتِلافِ وَهُوَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ كَانُوا يَعُدُّونَ التَّارِيخَ مِنَ الْمُحَرَّمِ الَّذِي وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَيَلْغُونَ الأَشْهُرَ الَّتِي قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ فَذَكَرَ أَنَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ الْكُبْرَى كَانَتْ فِي السَّنَةِ الأُولَى وَأَنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ كَانَتْ فِي الثَّانِيَةِ وَأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَتْ فِي الرَّابِعَةِ وَهَذَا عَمَلٌ صَحِيحٌ عَلَى ذَلِكَ الْبِنَاءِ؛ لَكِنَّهُ بِنَاءٌ وَاهٍ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ جَعْلِ التَّارِيخِ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ الْهِجْرَةِ وَعَلَى ذَلِكَ تَكُونُ بَدْرٌ فِي الثَّانِيَةِ وَأُحُدٌ فِي الثَّالِثَةِ وَالْخَنْدَقُ فِي الْخَامِسَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ».
(٢) محمد بن أحمد الذهبي، تاريخ الإسلام، (٢/ ٢٩٦).
(٣) إسماعيل بن عمر بن كثير، البداية والنهاية، (٤/ ١٢٠).
(٤) هي التي أعرس بها رسول الله ﷺ، وهى من خيبر على بريد، ذكره عبد الله بن عبد العزيز، أبو عبيد البكري (ت: ٤٨٧ هـ) في معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، (٢/ ٥٢٢).
1 / 13
بِالأَزْوَادِ (١)، فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِالسَّوِيقِ (٢)، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى المَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّا» ". (٣)
قلت: ولمعرفة تاريخ هذا النَّص الفعلي من رسول الله ﷺ، ففي نص الحديث ذُكِرَ
أنَّ الحادثة كانت في "عَام خَيْبَرَ"، وغزوة خَيْبَرَ وقعت في صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ هجرية (٤)، فكان
فعله ﷺ ذلك في سَنَةَ سَبْعٍ هجرية لا يخرج عنها، وهو تاريخ ذلك النَّص.
مثال من إقراره ﷺ: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ ﵄، قَالَ: أَقْبَلْتُ وَقَدْ نَاهَزْتُ الحُلُمَ، أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِي «وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى» حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا، فَرَتَعَتْ (٥)، فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ: يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: بِمِنًى فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ". (٦)
_________
(١) قال ابن سيده في مادة [ز ود] الزّادً: طَعَامُ السَّفَرِ والحَضَرِ، والجَمْعُ: أَزْوَادٌ. وتَزَوَّدَ: اتَّخَذَ زَادًا، وزَوَّدَه بالزّادِ. كما في المحكم والمحيط الأعظم، (٩/ ٩٨).
(٢) السَّوِيقُ مَا يُعْمَلُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ مَعْرُوفٌ، كما في المصباح المنير، (١/ ٢٩٦).
(٣) البخاري، الجامع الصحيح، كِتَابُ المَغَازِي، بَابُ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، (٥/ ١٣٠)، رقم: ٤١٩٥.
(٤) محمد بن عمر، الواقدي، المغازي، (٢/ ٦٣٤).
(٥) قال الجوهري في مادة [رتع] رَتَعَتِ الماشيَةُ تَرْتَعُ رُتوعًا، أي أكلت ما شاءت. ويقال: خرجنا نَرْتَعُ ونلعب، أي ننعم ونلهو، كما في الصحاح تاج اللغة، (٣/ ١٢١٦).
(٦) البخاري، الجامع الصحيح، كِتَابُ الحَجِّ، بَابُ حَجِّ الصِّبْيَانِ، (٣/ ١٨)، رقم: ١٨٥٧، وكذا مسلم، الجامع الصحيح، كِتَابُ الصَّلاةِ، بَابُ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي، (١/ ٣٦١)، رقم: ٥٠٤.
1 / 14
قلت: لمعرفة تاريخ هذا النَّص من إقرار رسول الله ﷺ، نجد في نص الحديث أنَّ الحادثة كانت في حَجَّةِ الوَدَاعِ، وذكرت المصادر التَّاريخية أن رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ إلَى الْحَجِّ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعَدَةِ من سنةِ عَشْرٍ هجرية (١)، لكنَّ النَّص ذَكَر أنَّ رسول الله ﷺ كان قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى فيكون تاريخ نص هذه الحادثة في شهر ذِي الحجة من السَّنةِ العَاشِرة.
ونحن نَجُولُ في جَنَبَاتِ هذا البحث، وفي ضوء هذه الحقائق نستطيع أن نستنتج أنَّ النَّص النَّبوي كان مُرْتَبطًا بالأحداث في عهد النّبُوة ارتباطًا وثيقًا، وليس بالضروري أن يَذْكُرَ الرَّاوي أو النَّص شيئًا يَدُّل على الزَّمن كما في الأمثلة السابقة؛ وإنما يُحْسَب زمن النَّص بأدوات يعرفها الخبراء في النُّصُوص الحديثية، مثل جمع الطُّرق والمرويَّات، ومعرفة مخرج الحديث، وتاريخ إسلام الصحابي الرَّاوي للحَدَثِ المشترك فيه، وتاريخ الوفود، وأحداث ووقائع الغزوات، وقرائن أخرى كثيرة تدل على زمن النَّص الحديثي، وليس المقامُ مُقامَ تفصيل ذلك؛ وإنَّما المقصود الإشارة إليها.
ولم تَكُنْ الأسْبَاب والدَّوافِع لِدِرَاسة تَاريخ النَّص الحديثي لمجرد معرفة النَّاسِخ والْمَنْسُوخ من الحديث بل كانت أعمق من ذلك، وسوف نُبَيّن في المباحث التالية أثر معرفة تاريخ النَّص الحديثي في توجيه المعاني وهو قلب هذه الدِّراسة، والجدير بالذكر أنَّ استخدام التَّاريخ لتحديد النَّاسِخ والْمَنْسُوخ من الحديث ليس كاستخدام تاريخ النَّص الحديثي اجتمعا في استخدام التَّاريخ؛ ولَكِن افترقا في طريقة استعمال التَّاريخ وأثر ذلك في جميع مفاصل العلوم؛ فالنسخ اصطلاحًا: هو رَفْعُ الْحُكْم الشَّرعى بدليل شَرْعى مُتأخر (٢)، أي إِنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ
_________
(١) عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، (٢/ ٦٠١).
(٢) أبو القاسم هبة الله بن سلامة البغدادي، الناسخ والمنسوخ، (ص ٢٠).
1 / 15
بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وأَنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَكَانَ ثَابِتًا بِهِ مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ (١)، وجمهور العلماء على أنَّ النسخَ لا يقع إلا في الأمر والنهى ولو بلفظ الخبر، وخُلاصَةُ ذلك أنَّ النسخ يستخدم التَّاريخ لمعرفة الْحُكم الْمُتَقدم لإزالته وإحلال مَحَله الْحُكم الْمُتأخر.
وأمَّا استخدام تاريخ النَّص الحديثي فهو أعمق وأشمل من مجرد معرفة الحديث المتقدم أو المتأخر وحسب؛ وإنما يدخل كما أسلفنا في الاستنباط، والتَّرجيح بين الأقوال، وتفسير الْمُشْكَل، وغير ذلك كثير، ولا يمكن تَصَور ذلك إلا بضرب الأمثلة؛ لِذَا اخْتَرتُ بعض النماذج من تُرَاثِ شُرَاح الحديث النَّبوي الشريف فإنَّهُ قد مُلِيء بكنوزٍ خَفِياتٍ، وفوائد كامناتٍ، وعلوم راسخاتٍ فاقوا بها عصرهم، وكان لهم قَصَبُ السَّبق فيها.
ومن هَذِه العُلُوم عِلْمُ تَارِيخ النَّص الحديثي الذي استخرجاه من هذا التُّرَاث العظيم بفضل الله وحده، واخْتَرتُ هَذِهِ النَّماذج بدون أَنْ يكون لَدَىّ أسبابٌ للتَّرجيح بينها؛ وإنَّما هو عرض لبعض استخدامات علماء الحديث لتاريخ النَّص لبيان أوجه المعاني، واستخراج الفوائد والحكم والأحكام؛ وكان غرضي من إيرادها بُرُوز قيمة تاريخ النَّص في توجيه المعاني، وضرب الأمثلة التَّطبيقية نرجو أن تكون هي السبيل بأمر الله لأَنْ تُقَرِّبَ المستعصي، وتَفْتَحَ المستغلق، وتَجْمَعَ المتفرق البعيد، وتُحَرِّرَ الغير مُحَرَّر.
_________
(١) أبو بكر محمد بن عثمان الحازمي، الاعتبار في الناسخ والمنسوخ، (ص ٦).
1 / 16
المبحث الثاني: أثر تَارِيخ النَّص على الفَهْم الصَّحِيح، وسَلامة الاسْتِنْبَاط
إنَّ من نَفَائِسَ مَا يُعْلَمُ في علم دِرَاية الحديث معرفة التَّوَارِيخ التي تفسر الوقائع، وتحدد المعالم، وترجح بالأدلة الدَّامغة مسار النص ومقصوده؛ ممَّا يؤدي إلى أنوار الفهم والاستنباط الصحيح، قال النَّووي: "وَلَقَدْ أَحْسَنَ القَائِلُ: مَنْ جَمَعَ أَدَوات الْحَدِيثِ اسْتَنَارَ قَلْبُهُ واسْتَخْرَجَ كُنُوزَهُ الْخَفِيَات" (١)، فإنَّ الحكمة ضالة المؤمن أَنَّى وجدها فهو أحقُّ النَّاسِ بها (٢)، ولا يمكن لأَحَدٍ أن يدرك حقيقة أي علم، أو أن يكشف خباياه إلا بالغوص في أعماق زواياه.
وعِلْمُ تَارِيخ النَّصِ النَّبوي يَعْتَمدُ على طرق تحديد وحساب الزَّمن الذي حَدَثَ فيه القول أو الفعل أو التَّقرير، وسوف نجد في الأمثلة التالية أنَّ أئمة شُرَّاح الحديث يذكرون مباشرةً تاريخ النَّص المحدد، ثم يُبَيِّنُون أو يُرَجِّحُون على ضوء هذا التَّاريخ من غير ذِكْرٍ مفصلٍ لكيفية تحديدهم لهذه التَّواريخ؛ وذلك إمَّا أنَّ يكون قَدْ حَسَبَهُ بقرائن ومرويَّات استحضرها من حفظه، أو أنَّهُ أخذها من شيخه، أو ممن قد حَسَبَهَا بقرائن ومرويَّات كذلك؛ ولِذَا قد خَفِيَ علينا هذا العلم الجليل "علم تاريخ النَّص النَّبوي"، فهو أشبه بعلم علل الحديث من هذه
_________
(١) يحيى بن شرف، النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم، (١/ ٤).
(٢) حديث إسناده ضعيف جدًا؛ لكنَّ معنى المتن صحيح وهو المراد من ذكره، أخرجه الترمذي في السنن، أَبْوَابُ الْعِلْمِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الفِقْهِ عَلَى العِبَادَةِ، (٥/ ٥١)، برقم ٢٦٨٧، وابن ماجه في السنن، كِتَاب الزُّهْدِ، بَاب الْحِكْمَةِ، (٢/ ١٣٩٥)، برقم ٤١٦٩، مداره على إِبْرَاهِيمَ بْنِ الفَضْلِ المخزومي، متروك الحديث انظر تهذيب التهذيب لابن حجر (١/ ١٥٠).
1 / 17
الجهة، وفي هذا المبحث سوف نُحَاول توضيح كيفية استخدام أولئك القوم لهذه التَّواريخ في التوصل للفَهْم الصَّحِيح، وسَلامة الاسْتِنْبَاط.
المثال الأول: ما أخرجه البخاري في الصحيح، من حديث مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ﵁، قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: «هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الحُمْسِ فَمَا شَانُهُ هَا هُنَا» ". (١)
قَالَ الحَافظُ ابْنُ حَجَرٍ في الفتح: " وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ (٢): وَقْفَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعَرَفَةَ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ، وَكَانَ جُبَيْرٌ حِينَئِذٍ مُسْلِمًا لأَنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ؛ فَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ ذَلِكَ إِنْكَارًا أَوْ تَعَجُّبًا فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى: "ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس"، وَإِنْ كَانَ لِلاسْتِفْهَامِ عَنْ حِكْمَةِ الْمُخَالَفَةِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْحُمْسُ فَلا إِشْكَالَ". (٣)
قلت: قال الأزهري: " الحُمْسُ: قُرَيْش وَمن ولدت قُرَيْش وكنانة، وجَديلَةُ قيس، وهم فهْم وَعَدْوان ابْنا عَمْرو بن قَيْس عَيْلاَن، وَبَنُو عَامر بن صعصعة هَؤُلاءِ الحُمْس، سُمُّوا حُمْسًا لأَنهم تَحمَّسُوا فِي دينهم أَي تَشَدَّدوا، قَالَ: وَكَانَت الحُمْسُ سُكَّانَ الْحرم، وَكَانُوا لا يخرجُون أَيَّام المَوْسِم إِلَى عَرَفَات، وَإِنَّمَا يقفون بالمُزْدَلِفة ". (٤)
_________
(١) البخاري، الجامع الصحيح، كِتَابُ الحَجِّ، بَابُ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، (٢/ ١٦٢)، رقم: ١٦٦٤.
(٢) انظر: محمد بن يوسف، الكرماني، الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، (٨/ ١٦٠).
(٣) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، (٣/ ٥١٧).
(٤) محمد بن أحمد الأزهري، تهذيب اللغة، (٤/ ٢٠٦).
1 / 18
وقد حَلَّ هذا الإشْكَالٍ في فهم مَعنى الحديث الحافظُ ابْنُ حَجَرٍ فذكر أنَّ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ﵁ أنكر وتعجب من وقُوفِ رَسُولِ ﷺ بِعَرَفَةَ لأنَّه من قُرَيْش؛ على الرغم من أنَّهُ في هذه الحادثة كان مُسْلِمًا، فقال: وَقْفَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعَرَفَةَ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ وَكَانَ جُبَيْرٌ حِينَئِذٍ مُسْلِمًا لأَنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فقال: فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى: "ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس"، فَرُفِعَ الظنّ أنُّه لم يكن مسلمًا وقتئذٍ، أو الظن بأنَّه يعترض على رسول الله ﷺ حاشاه من ذلك، فَكَان الفَهَمُ الصَّحيح للنَّص بسبب معرفة تاريخ النَّص.
المثال الثاني: مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ من حديث غُنَيْمِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعْدَ ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ ﵁ عَنِ الْمُتْعَةِ؟ فَقَالَ: «فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ، يَعْنِي بُيُوتَ مَكَّةَ» ". (١)
قال النَّووي في شرح مسلم: "وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ فَالإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَفِي الْمُرَادِ بِالْكُفْرِ هُنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي بُيُوتِ مَكَّةَ قَالَ ثَعْلَبٌ يُقَالُ اكْتَفَرَ الرَّجُلُ إِذَا لَزِمَ الْكُفُورَ وَهِيَ الْقُرَى وَفِي الأَثَرِ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَهْلُ الْكُفُورِ هُمْ أَهْلُ الْقُبُورِ يَعْنِي الْقُرَى الْبَعِيدَةَ عَنِ الأَمْصَارِ وَعَنِ الْعُلَمَاءِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُرَادُ الْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ أَنَّا تَمَتَّعْنَا وَمُعَاوِيَةُ يَوْمئِذٍ كَافِرٌ عَلَى دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ، ... وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ وَالْمُرَادُ بِالْمُتْعَةِ الْعُمْرَةُ الَّتِي كَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ لْهِجْرَةِ وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَقِيلَ إِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَالصَّحِيحُ الأَوَّلُ وَأَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الْعُمْرَةِ مِنْ عُمَرِ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَكُنْ مُعَاوِيَةُ فِيهَا كَافِرًا وَلا مُقِيمًا بِمَكَّةَ بَلْ كَانَ مَعَهُ ﷺ". (٢)
_________
(١) مسلم، الجامع الصحيح، بَابُ جَوَازِ التَّمَتُّعِ، كِتَابُ الْحَجِّ، (٢/ ٨٩٨)، رقم: ١٢٢٥.
(٢) يحيى بن شرف النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم، (٨/ ٢٠٤)، بتصريف يسير.
1 / 19
قلت: أنَّه لْمَّا كان للفظة "كَافِر" في قوله: " فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ، يَعْنِي بُيُوتَ مَكَّةَ " في الحديث وَجْهَانِ، إمَّا بمعنى "كفر" أي قرية، وإمَّا بمعنى الكفر أي الجحود وعدم الإيمان برسالة النَّبِيِّ ﷺ؛ فاستخدم الإمام النَّووي تاريخ النَّص الحديثي لبيان أي هذه المعاني يقصد بها في هذا الحديث؛ فاستند إلى أنَّ هذا النَّص كان في عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، فرجح المقصود باللفظة وهو الكفر بمعنى الجحود وعدم الإيمان برسالة النَّبِيِّ ﷺ، فَعُلِمَ مقصود سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ ﵁ على الوجه الصَّحيح.
المثال الثالث: ما أَخْرَجَهُ الإمَامُ مَالِكٌ في الموطأ من رواية يَحْيَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ﵁، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ، قَالَ: " أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِي. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ". (١)
قَالَ ابْنُ عَبْدُ البَر في الاستذكار: "وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كِتَابِهِ الْمَبْسُوطِ (٢) فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ حَاكِيًا عَنِ اللَّهِ ﷿ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ
_________
(١) مالك بن أنس الأصبحي المدني، الموطأ، باب مَا جَاءَ فِي الاِسْتِمْطَارِ بِالنُّجُومِ، كتاب الاسْتِسْقَاء، (٢/ ٢٦٨)، رقم: ٦٥٣.
(٢) كتاب الْمَبْسُوطِ (في نُصُوص الشَّافِعِي) جمعه البيهقي، وهو كتاب عظيم وصفه السٌُّبكي فقال: "وَأما الْمَبْسُوط فِي نُصُوص الشَّافِعِي فَمَا صُنف فِي نَوعه مثله"، كما في طبقات الشافعية الكبرى (٤/ ٩)، وأشار بروكلمان إلى وجود نسخة منه في مكتبة بودليانا بعنوان: " نصوص الإمام الشافعي"، كما في تاريخ الأدب العربي (٦/ ٢٣٢).
1 / 20
الْحَدِيثَ، قَالَ هَذَا كَلامٌ عَرَبِيٌّ مُحْتَمِلُ الْمَعَانِي، وَكَانَ ﷺ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلامِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَمُشْرِكِينَ فَالْمُؤْمِنُ يَقُولُ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَذَلِكَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ لأَنَّهُ لا يُمْطِرُ وَلا يُعْطِي وَلا يَمْنَعُ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا النَّوْءُ لأَنَّ النَّوْءَ مَخْلُوقٌ لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا وَلا لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ وَقْتٌ، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا يُرِيدُ فِي وَقْتِ كَذَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ مُطِرْنَا فِي شَهْرِ كَذَا وَهَذَا لا يَكُونُ كُفْرًا، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يُضِيفُونَ الْمَطَرَ إِلَى النَّوْءِ أَنَّهُ أَمْطَرَهُ فَهَذَا كُفْرٌ يُخْرِجُ مِنْ مِلَّةِ الإِسْلامِ". (١)
قلت: المتأمل في قول الإمام الشَّافِعِيّ ﵀ يجد أنَّه قد استخدم تاريخ النَّص القولي للنَّبِيِّ ﷺ الذي حَدَثَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ بشهر ذِي الْقِعْدَةِ سنة سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ (٢)، وعلى ضوء ذلك فَسَّرَ قوله ﷺ تفسيرًا صحيحًا؛ واستنبط أنَّه: "مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا يُرِيدُ فِي وَقْتِ كَذَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ مُطِرْنَا فِي شَهْرِ كَذَا وَهَذَا لا يَكُونُ كُفْرًا"، مما يثبت قيمة تاريخ النَّص وأثره في فهم الحديث على الوجه الصَّحيح وسَلامة الاستنباط، وهذا مما يبرهن أنَّ علم تاريخ النَّص النبوي ربما ساهم في رفع الفتن عن الأمة الإسلامية في هذا العصر برفع الجهل عنها، والحكم على الأحداث ببصيرةٍ العلم وليس بمجرد التخرص والتأويل الفاسد.
_________
(١) يوسف بن عبد الله بن عبد البر، الاستذكار، (٢/ ٤٣٨).
(٢) أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الصغير، (٢/ ١٤٠).
1 / 21