At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid
التوضيح الرشيد في شرح التوحيد
Türler
المُلْحَقُ الثَّانِي عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ) قَوَاعِدُ ومَسَائِلُ فِي التَّبَرُّكُ والبَرَكَةُ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ، أَمَّا بَعْدُ فَهَذِهِ مَسَائِلُ مُوْجَزَةٌ فِي مَوْضُوْعِ التَّبَرُّكِ؛ اقْتَطَفْتُهَا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ العِلْمِ رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى، أَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُوْنَ مُفِيْدَةً فِي بَابِهَا. (١)
- قَوَاعِدُ فِي التَّبَرُّكِ:
١) الخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدِ اللهِ تَعَالَى؛ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُ شَيْءٌ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عِمْرَان:٢٦). (٢)
وَفِي البُخَارِيِّ (٣) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا (البَرَكَة مِنَ اللهِ).
٢) مَعْنَى البَرَكَةِ: ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: الثَّبَاتُ وَاللُّزُوْمُ (٤) - النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ - السَّعَادَةُ. (٥)
وَالتَّبَرُّك هُوَ طَلَبُ البَرَكَةِ، أَيْ: طَلَبُ حُصُوْلِ الخَيْرِ بِمُقَارَبَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَمُلَابَسَتِهِ.
وَيَشْرحُ مَعْنَى البَرَكَةِ مَا جَاءَ فِي الحَدِيْثِ (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مالِهِ أَوْ مِنْ أَخِيْهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ لهُ بِالبَرَكَةِ فَإِنَّ العَيْنَ حَقٌّ) (٦)، فَالمَقْصُوْدُ بِالبَرَكَةِ هُنَا - مَثَلًا - هُوَ عَكْسُ مَا يُخْشَى مِنْهُ مِنَ العَيْنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَة ﵂ لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ ﷺ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الحَارِثِ - قَالَتْ: (فَمَا رَأَيْنَا امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا؛ أُعْتِقَ فِي سَبَبِهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي المُصْطَلِقِ) (٧)، فالبَرَكَةُ هُنَا هِيَ حُصُوْلُ الخَيْرِ بِسَبَبِهَا.
وَكَمَا قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فِي قِصَّةِ شَرْعِيَّةِ التَّيَمُّمِ (مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ) (٨)، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ خَيْرٍ يَحْصُلُ بِسَبَبِكُم.
٣) أَنَّ اللهَ تَعَالَى اخْتَصَّ بَعْضَ خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ الفَضْلِ وَالبَرَكَةِ.
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ قَدْ تَكُوْنُ فِي أَمْكِنَةٍ، وَقَدْ تَكُوْنُ فِي ذَوَاتٍ، وَقَدْ تَكُوْنُ فِي أَزْمِنَةٍ، وَقَدْ تَكُوْنُ فِي صِفَاتٍ.
ومِنَ الأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيْهَا﴾ (فُصِّلَت:١٠).
ومِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِيْنٌ﴾ (الصَّافَّات:١١٣)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا﴾ (مَرْيَم:١٣١).
ومِنَ الثَّالِثِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (القَدْر:٣)، وَمِثْلُهُ حَدِيْثُ (تَسَحَّرُوا فإنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً). (٩)
وَمِنَ الرَّابِعِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ (النُّوْر:٦١)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ (الأَنْبِيَاء:٥٠).
٤) أَنَّ التَّبَرُّكَ مِنْهُ المَشْرُوْعُ وَمِنْهُ المَمْنُوْعُ.
٥) أَنَّ التَّبَرُّكَ بِشَيْءٍ يَجْرِي عَلَى النَّحْوِ الَّذِيْ وَرَدَ فِيْهِ.
فَالتَّبَرُّكُ بِالمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَكُوْنُ بِالصَّلَاةِ فِيْهَا؛ وَلَيْسَ بالتَّمَسُّحِ بِجُدْرَانِهَا وَأَرْضِهَا،
وَالتَّبَرُّكُ بِالقُرْآنِ يكَوْنُ بِتِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالعَمَلِ بِهِ؛ لَا بِجَعْلِهِ تَمِيْمَةً، أَوْ غَسْلِ أَوْرَاقِ المُصْحَفِ وَشُرْبِهَا، وَهَكَذَا وُفْقَ مَا وَرَدَ.
_________
(١) مِثْلَ كِتَابِ (التَّمْهِيْدُ) لِلشَّيْخِ صَالِحِ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ، وَكِتَابِ (هَذِهِ مَفَاهِيْمُنَا) لَهُ أَيْضًا رَدَّ عَلَى كِتَابِ (مَفَاهِيْمٌ يَجِبُ أَنْ تُصَحَّحَ) لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلَوِي المَالِكِيِّ، وَكِتَابِ (التَّبَرُّكُ) لِلشَّيْخِ نَاصِر الجُدَيْع (رِسَالَةُ دُكْتُوْرَاه قَدَّمَ لَهَا الشَّيْخُ ابْنُ جِبْرِيْن ﵀، وَغَيْرِهَا مِنَ الكُتُبِ المُفِيْدَةِ فِي هَذَا البَابِ.
(٢) قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَبَرِيُّ ﵀ فِي التَّفْسِيْرِ (٢٩٩/ ٦): (يَعْنِي بِذَلِكَ: يَا مَالِكَ المُلْكِ، يَا مَنْ لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ خَالِصًا دُوْنَ غَيْرِهِ، ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾، أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ بِيَدِكِ وَإِلَيْكَ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ، لِأَنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ دُوْنَ سَائِرِ خَلْقِكَ، وَدُوْنَ مَنِ اتَّخَذَهُ المُشْرِكُوْنَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالأُمِّيينَ مِنَ العَرَبِ إِلَهًا وَرَبًّا يَعْبُدُوْنَهُ مِنْ دُوْنِكَ؛ كَالمَسِيْحِ وَالأَنْدَادِ الَّتِيْ اتَّخَذَهَا الأُمِّيُّوْنَ رَبًّا).
(٣) البُخَارِيُّ (٥٦٣٩).
(٤) قَالَ أَبُو مَنْصُوْرٍ الأَزْهَرِيُّ فِي تَهْذِيْبِ اللُّغَةِ (١٣١/ ١٠): (وَأَصْلُ البَرَكَةِ: الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ).
(٥) قَالَ الفَرَّاءُ فِي كِتَابِهِ (مَعَانِي القُرْآنِ) (٢٣/ ٢) - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ﴾ (هُوْد:٧٣) -: (البَرَكَاتُ: السَّعَادَةُ).
(٦) صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (٧٥٠٠) عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيْعَة مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (٢٥٧٢).
(٧) حَسَنٌ. أَبُو دَاوُدَ (٣٩٣١). صَحِيْحُ أَبِي دَاوُدَ (٣٩٣١).
(٨) وَالحَدِيْثُ بِتَمَامِهِ - كَمَا فِي البُخَارِيِّ (٣٣٤) - عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ؛ قَالَتْ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ عَلَى التِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ؛ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؛ أَقَامَتْ بِرَسُوْلِ اللهِ ﷺ وَالنَّاسِ؛ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ! فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ - وَرَسُوْلُ اللهِ ﷺ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ - فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ وَالنَّاسَ؛ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُوْلَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِيْ كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ).
(٩) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (١٩٢٣)، وَمُسْلِمٌ (١٠٩٥) عَنْ أَنَس مَرْفُوْعًا. وَهَذَا الأَخِيْرُ فِيْهِ بَرَكَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ إِتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُخَالَفَةِ أَهْلِ الكِتَابِ، وَأَيْضًا فِيْهِ بَرَكَةٌ مَادِّيَّةٌ مِنْ جِهَةِ التَّقْوِيَةِ عَلَى الصِّيَامِ.
1 / 56