At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid
التوضيح الرشيد في شرح التوحيد
Türler
- الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ قَبْرِ النَّبِيِّ ﷺ فِي مَسْجِدِهِ الشَّرِيْفِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لَمَا دَفَنَهُ أَصْحَابُهُ رِضْوُانُ اللهِ عَلَيْهِم فِي مَسْجِدِهِ!
وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
١) أَنَّ هَذَا - وَإِنْ كَانَ هُوَ المُشَاهَدُ اليَوْمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ ﵃؛ فَإِنَّهُم لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ ﷺ دَفَنُوْهُ فِي حُجْرَتِهِ الَّتِيْ كَانَتْ بِجَانِبِ مَسْجِدِهِ وَكَانَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ فِيْهِ بَابٌ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى المَسْجِدِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوْفٌ مَقْطُوْعٌ بِهِ عِنْدَ العُلَمَاءِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَهُم، وَالصَّحَابَةُ ﵃ حِيْنَمَا دَفَنُوْهُ ﷺ فِي الحُجْرَةِ؛ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَيْ لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ بَعْدَهُم مِنِ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ مَسْجِدًا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي حَدِيْثِ عَائِشَة وَغَيْرِهِ، وَلَكِنْ وَقَعَ بَعْدَهُم مَا لَمْ يَكُنْ فِي حُسْبَانِهِم، ذَلِكَ أنَّ الوَلِيْدَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ أَمَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِيْنَ بِهَدْمِ المَسْجِدِ النَّبَويِّ وَإِضَافَةِ حُجَرِ أَزْوَاجِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ إِلَيْهِ فَأُدْخِلَتْ فِيْهِ الحُجْرَةُ النَّبَويَّةُ - حُجْرَةُ عَائِشَةَ - فَصَارَ القَبْرُ بِذَلِكَ فِي المَسْجِدِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي المَدِيْنَةِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ حِيْنَذَاكَ خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُم. (١)
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي ﵀ فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المُنْكي فِي الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِيِّ) (٢): (وَإنَّمَا أُدْخْلَتِ الحُجْرَةُ فِي المَسْجِدِ فِي خِلَافَةِ الوَلِيْدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ بَعْدَ مَوْتِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ الَّذِيْنَ كَانُوا بِالمَدِيْنَةِ، وَكَانَ آخِرَهُم مَوْتًا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَتُوفِّيَ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ المَلِكِ، فَإِنَّه تُوفيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِيْنَ، وَالوَلِيْدُ تَوَلَّى سَنَةَ سِتِّ وَثَمَانِيْنَ، وَتُوفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِيْنَ، فَكَانَ بِنَاءُ المَسْجِدِ وَإدْخَالُ الحُجْرَةِ فِيْهِ فِيْمَا بَيْنَ ذَلِكَ).
وَعَلَيْهِ فَلَا يُحْتَجُّ بِفِعْلِ الوَلِيْدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ عَلَى أَحَادِيْثِ النَّبِيِّ ﷺ النَّاهِيَةِ؛ مَعَ مَا عَلِمْتَ مِنْ سَعْي الصَّحَابَةِ إِلَى عَزْلِ القَبْرِ عَنِ المَسْجِدِ. (٣)
قَالَ النَّوَوِيُّ ﵀ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: (وَلَمَّا احْتَاجَتِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِيْنَ وَالتَّابِعُوْنَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ حِيْنَ كَثُرَ المُسْلِمُوْنَ؛ وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوْتُ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ فِيْهِ، - وَمِنْهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ ﵂؛ مَدْفِنُ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ﵄؛ بَنَوْا عَلَى القَبْرِ حِيْطَانًا مُرْتَفِعَةً مُسْتَدِيْرَةً حَوْلَهُ لِئَلَّا يَظْهَر فِي المَسْجِدِ - فَيُصَلِّي إِلَيْهِ العَوَامُّ وَيُؤَدِّي المَحْذُوْرِ - ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ القَبْرِ الشَّمَالِيَّيْنِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى التَقَيَا؛ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيْثِ: (لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ). (٤)
٢) أَنَّ القَبْرَ مَعْزُوْلٌ عَنِ المَسْجِدِ لَا سِيَّمَا وَأَنَّهُ قَدْ أُحِيْطَ بِجُدْرَانٍ عِدَّةٍ تَعْزِلُهُ عَنِ المَسْجِدِ (٥)، لِذَلِكَ لَوْ تَقَصَّدَ رَجُلٌ أَنْ يُصَلِّيَ عِنْدَ القَبْرِ وَيَرْتَكِبَ المَحْذُوْرَ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيْعَ لِأَنَّ القَبْرَ مَعْزُوْلٌ عَنِ المَسْجِدِ قَدْ أُغْلِقَتْ كُلُّ المَنَافِذِ إِلَيْهِ، فَبِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِ صُوْرَتِهِ صُوْرَةَ قَبْرٌ فِي مَسْجِدٍ. (٦)
وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنَ القَوْلِ بِأَنَّ المَسْجِدَ النَّبَويَّ - عَلَى فَرْضِ أَنَّ الآنَ صُوَرتُهُ صُوْرَةُ قَبْرٍ فِي مَسْجِدٍ، فَلَا يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ النَّهْي لِمَا لَهُ مِنْ فَضِيْلَةٍ عُظْمَى فِي مُضَاعَفَةِ أَجْرِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَعْرُوْفٌ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ بِقَاعِدَةِ (مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيْعَةِ؛ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ). (٧)
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ﵀ فِي كِتَابِهِ (الجَوَابُ البَاهِرُ فِي حُكْمِ زِيَارَةِ المَقَابِرِ): (وَالصَّلَاةُ فِي المَسَاجِدِ المَبْنِيَّةِ عَلَى القُبُوْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا مُطْلَقًا؛ بِخِلَافِ مَسْجِدِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيْهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، فَإِنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَكَانَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَيَاتِهِ ﷺ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ قَبْلَ دُخُوْلِ الحُجْرَةِ فِيْهِ حِيْنَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فِيْهِ وَالمُهَاجِرُوْنَ وَالأَنْصَارُ، وَالعِبَادَةُ فِيْهِ إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ إدْخَالِ الحُجْرَةِ فِيْهِ؛ فَإِنَّهَا إنَّمَا أُدْخِلَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ الوَلِيْدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ). (٨)
(١) بَلْ إِنَّ عَائِشَةَ ﵂ جَعَلَتْ جِدَارًا فِي بيْتِهَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ القَبْرِ، كَمَا فِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ (٢٩٤/ ٢) عَنِ الإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ يَقُوْلُ: (قُسِمَ بَيْتُ عَائِشَة بِاثْنَيْن: قِسْمٌ كَانَ فِيْهِ القَبْرُ، وَقِسْمٌ تَكُوْنُ فِيْهِ عَائِشَةُ، وَبَيْنَهُمَا حَائِطٌ).
(٢) (ص١٥١).
(٣) هَذَا وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ كَثِيْرْةٌ فِي بَيَانِ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ ﵃ عَنْ ذَلِكَ البِنَاءِ وَالاتِّخَاذِ، وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ ثَلَاثَةٌ:
أ) أَوْرَدَ السُّيُوْطِيُّ ﵀ فِي الجَامِعِ الكَبِيْرِ (وَالأَثَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ زَنْجَوِيه) عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَة؛ قَالَ: لَمَّا ائْتَمَرُوا فِي دَفْنِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ قَالَ قَائِلٌ: نَدْفِنُهُ حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي فِي مَقَامِهِ! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَجْعَلَهُ وَثَنًا يُعْبَدُ. وَقَالَ آخَرُوْنَ: نَدْفِنُهُ فِي البَقِيْعِ حَيْثُ دُفِنَ إِخْوَانُهُ مِنَ المَهَاجِرِيْنَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّا نَكْرَهُ أَنْ نُخْرِجَ قَبْرَ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ إِلَى البَقِيْعِ فَيَعُوْذُ بهِ عَائِذٌ مِنَ النَّاسِ - للهِ عَلَيْهِ حَقٌّ - وَحَقُّ اللهِ فَهُوَ حَقُّ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنْ أَخَذْنَا بِهِ ضَيَّعْنَا حَقَّ اللهِ، وَإِنْ أَخْفَرْنَاهُ أَخْفَرْنَا قَبْرَ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ. قَالُوا: فَمَا تَرَى أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ يَقُوْلُ: (مَا قَبَضَ اللهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ قَبَضَ رُوْحَهُ). قَالُوا: فَأَنْتَ - وَاللهِ - رَضِيُّ مُقْنِعٌ، ثُمَّ خَطُّوا حَوْلَ الفِرَاشِ خَطًّا، ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلِيٌّ وَالعبَّاسُ وَالفَضْلُ وَأَهْلُهُ، وَوَقَعَ القَوْمُ فِي الحَفْرِ يَحْفِرُوْنَ حَيْثُ كَانَ الفِرَاشُ. ذَكَرَهُ فِي فِضَائِلِ الصِّدِّيْقِ.
قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ ﵀ فِي كِتَابِهِ (تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ) (ص١٣): (قَالَ ابْنُ كَثِيْرٍ: (وَهُوَ مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، فَإِنَّ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ - مَعَ ضَعْفِهِ - لَمْ يُدْرِكْ أيَّامَ الصِّدِّيْقِ). كَذَا فِي (الجَامِعِ الكَبِيْرِ) لِلسُّيُوْطِيِّ (٣/ ١٤٧/١٢».
ب) رَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ (٢١/ ٤) عَنْ سَالِمِ أَبِي النَّضْرِ؛ قَالَ: لَمَّا كَثُرَ المُسْلِمُوْنَ فِي عَهْدِ عُمَرَ ضَاقَ بِهُمُ المَسْجِدُ؛ فَاشْتَرَى عُمَرُ مَا حَوْلَ المَسْجِدِ مِنَ الدُّوْرِ إِلَّا دَارَ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلبِ وَحُجَرِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، فَقَالَ عُمَرُ لِلعَبَّاسِ: يَا أَبَا الفَضْلِ إِنَّ مَسْجِدَ المُسْلِمِيْنَ قَدْ ضَاقَ بِهِم، وَقَدْ ابْتَعْتُ مَا حَوْلَهُ منَ المَنَازِلِ نُوَسِّعُ بهِ عَلَى المُسْلِمِيْنَ فِي مَسْجِدِهِم إِلَّا دَارَكَ وَحُجَرَ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، فَأَمَّا حُجُرَ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْن فَلَا سَبِيْلَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا دَارُكَ فَبِعْنِيْهَا بِمَا شِئْتَ مِنْ بَيْتِ مَالِ المُسْلِمِيْنَ أُوَسِّعُ بِهَا فِي مَسْجِدِهِم).
جـ) أَنْكَرَ سَعِيْدُ بْنُ المَسَيِّبِ ﵀ (وَقَدْ تُوُفِّيَ بَعْدَ التِّسْعِيْن) ذَلِكَ الِإدْخَالَ، فَقَدْ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ ﵀ فِي تَارِيْخِهِ (٤١٥/ ١٢) بَعْدَ أَنْ سَاقَ قِصَّةَ إِدْخَالِ الحُجْرَةِ فِي المَسْجِدِ: (وَيُحْكَى أَنَّ سَعِيْدَ بْنَ المُسَيِّبِ أَنْكَرَ إِدْخَالَ حُجْرَةِ عَائِشَة فِي المَسْجِدِ - كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ القَبْرُ مَسْجِدًا -).
(٤) شَرْحُ مُسْلِمٍ (١٤/ ٥).
تَنْبِيْهٌ) عَزُو إِدْخَالِ الحُجْرَةِ فِي المَسْجِدِ إِلَى الصَّحَابةِ لَا يَثْبُتُ؛ كَمَا أَوْضَحَهُ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الهَادِي ﵀ فِي كِتَابِهِ (الصَّارِمُ المُنْكِي) (ص١٥١).
قُلْتُ: وَفِي (إِكْمَالِ المُعَلِّمِ) (٢٥٢/ ٢) شَرْحُ مُسْلِمٍ لِلقَاضِي عِيَاض: (وَلِهَذَا لَمَّا احْتَاجَ المُسْلِمُوْنَ إِلَى الزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ ﷺ لِتَكَاثُرِهِم بِالمَدِيْنَةِ، وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ أُدْخِلَ فِيْهَا بُيُوْتَ أَزْوَاجِهِ)، فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّحَابَةَ؛ فَتَنَبَّهْ.
(٥) وَالمَوْجُوْدُ عَلَيْهِ الآنَ مِنَ الجُدْرَانِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ:
فَالجِدَارُ الأَوَّلُ - وَهُوَ مُغْلَقٌ تَمَامًا - هُوَ جِدَارُ حُجْرَةِ عَائِشَةَ - وَهُوَ الَّذِيْ سَقَطَ فأُعِيْدَ وَسُدَّ بَابُهُ.
وَالجِدَارُ الثَّانِي هُوَ الَّذِيْ عُمِلَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ فِي إِمَارَةِ الوَلِيْدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، جَعَلُوا جِهَةَ الشَّمَالِ - وَهِيَ عَكْسُ جِهَةِ القِبْلَةِ- جَعَلُوْهَا مُثَلَّثَةً.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَزْمَان جَاءَ جِدَارٌ ثَالِثٌ أَيْضًا وَبُنيَ حَوْلَ هَذَيْنِ الجِدَارَيْنِ، وَهُوَ الَّذِيْ قَالَ فِيْهِ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي القَصِيْدَةِ النُّونِيَّةِ يَذْكُرُ دُعَاءَ النَّبِيِّ ﷺ (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ) - وَهُوَ صَحِيْحٌ؛ وَسَيَأْتِي - قَالَ: (فَأَجَابَ رَبُّ العَالَمِيْنَ دُعَاءَهُ ... وَأَحَاطَهُ بِثَلَاثَةِ الجُدْرَانِ
حَتَّى غَدَتْ أَرْجَاؤُهُ بِدُعَائِهِ ... فِي عِزَّةٍ وحِمَايَةٍ وَصِيَانِ)
وَهَذَا الجِدَارُ كَبِيْرٌ مُرْتَفِعٌ إِلَى فَوْقٍ، وُضِعَتْ عَلَيْهِ القُبَّةُ فِيْمَا بَعْدُ - وَهَذِهِ القُبَّةُ بُنِيَتْ سَنَةَ (٧٧٨ هـ) فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ المَلِكِ المَنْصُوْرِ قَلَاوون -، وَكُلُّ هَذِهِ الجُدْرَانِ لَيْسَ لَهَا بَابٌ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وُضِعَ السُّوْرُ الحَدِيْدِيُّ هَذَا وَهُوَ الرَّابِعُ، وَهَذَا السُّوْرُ الحَدِيْدِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِدَارِ الثَّالِثِ نَحْوَ مِتْرٍ وَنِصْفٍ فِي بَعْضِ المَنَاطِقِ وَنَحْوَ مِتْرٍ فِي بَعْضِهَا، وَبَعْضُهَا نَحْوَ مِتْرٍ وَثَمَانِيْنَ (سَنْتِيمِتْر) إِلَى مِتْرَيْنِ فِي بَعْضِهَا، يَضِيْقُ وَيَزْدَادُ. اُنْظُرْ كِتَابَ (التَّمْهِيْدُ) (ص٢٦١) لِلشَّيْخِ صَالِحِ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ.
(٦) وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ - مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ هَذَا الأَمْرِ عِنْدَ التَّابِعِيْنَ وَمَنْ بَعْدَهُم - أَنَّهُم أَخَذُوا مِنَ الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِيْ هِيَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ؛ كَمَا قَالَ ﵊: (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (١١٩٦)، وَمُسْلِمٌ (١٣٩١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، فَأَخَذُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْتَارٍ كَيْ يَقُوْمَ الجِدَارُ الثَّانِي ثُمَّ يَقُوْمَ الجِدَارُ الثَّالِثُ ثُمَّ يَقُوْمَ السُّوْرُ الحَدِيْدِيُّ، وَمَا هَذَا إِلَّا لِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ شَأْنِ الرَّوْضَةِ؛ أَلَا وَهُوَ الخَوْفُ مِنَ الافْتِتَانِ بِالقَبْرِ وَاتِّخَاذِهِ مَسْجِدًا.
(٧) وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ القَاعِدَةَ ابْنُ القيَّمِ ﵀ فِي كِتَابِهِ (إِعْلَامُ المُوَقِّعِيْنَ) (١٠٨/ ٢).
(٨) وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الأَفَاضِلِ إِلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ جَاءَ مِنْ كَوْنِ المَسْجِدِ طَارِئًا عَلَى القَبْرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ. وَهُوَ جَوَابٌ ضَعِيْفٌ سَبَقَ رَدَّهُ فِي مَسَائِلِ البَابِ المَاضِي، وَالحَمْدُ للهِ.
1 / 163