وما زال سائرا حتى صار على مقربة من الأبيض، فقال له الدليل: إننا بالقرب من الأبيض، فلم يعد يمكننا المسير بهذا اللباس، ولا بد لك من لبس المرقعية وغيرها من لباس الدراويش، وألق هذا الغليون؛ لأن التدخين به محظور على أتباع المتمهدي. ففعل شفيق كما أشار الدليل ولاقى جماعة قادمين من الأبيض فقيل له: إن المتمهدي خارج اليوم بموكبه يخطب في الرجال السائرين لتعقب الترك
1
في طريقهم إلى الأبيض، فأحب شفيق مشاهدة ذلك الموكب، فوقف بين الناس وهو فيما تقدم من اللباس المشابه للباسهم، ولكنه كان موجسا شرا، فلما كان العصر سمع نقر الدفوف (النقارات) عن بعد، فسأل عن السبب، فقيل له: هذه موسيقى الجيش، ومعها الجند السائر إلى الدويم. فوقف لمشاهدته.
وبعد يسير، رأى الناس يهرولون أفواجا على غير انتظام تتقدمهم جماعة حاملون نقارتين؛ وهما حلتان كبيرتان من النحاس، قد شد على فم كل منهما جلد، ويحمل كلا منهما رجلان بحبال في عنقيهما ، ورجل ثالث ينقر عليها نقرة تقلق الأذن، على أنهم يطربون بها، ويشنفون الأذن بسماعها، ووراء هذه الموسيقى خيالة على أفراس بسرج عربية، وهم قليلون، عليهم لباس الدراويش؛ وهو جبة من قماش الدمور نسيج السودان يقال لها مرقعية؛ لأنها مرقعة بقطع مختلفة الألوان، وعلى رءوسهم عمارات من القش الأبيض أو القطن حولها عمامة بيضاء تسترسل منها في قفا الرأس ذؤابة طويلة تتدلى على صدورهم حتى يلفونها لفا عريضا محكما، وحول أوساطهم مناطق من نسيج القش أو نسيج الدمور يقال لها في لغتهم كربة يخفون للجري. والسواد الأعظم منهم حفاة. أما المحتذون فحذاؤهم نعل ثخين يشد بالرجل بسيور من جلد، وقد تكون تلك الأحذية من نسيج القش، وحول أعناقهم المسبحات المدلاة على صدورهم. والجانب الأعظم منهم متقلد أسلحة معظمها من الرماح والحراب. أما سيوفهم فمستطيلة ذات حدين، أغمادها من الجلد الأصفر يعلقونها بأكتافهم. ويحملون درقا من جلد بقر النهر، وقلما يخلو كبراؤهم من خنجر يعلقونه في أكواعهم، أو يشدونه في مناطقهم. وكان شفيق يسمع عن ملابس هؤلاء الدراويش فلم يعجب من ذلك كثيرا، ولكنه تعجب لما رأى بينهم من يظهر من ملامحهم أنهم من المصريين، وأسلحتهم أسلحة الحكومة المصرية من البنادق وما يتبعها.
فنظر إلى هؤلاء الجماهير فإذا بهم حطوا رحالهم حالما وصلوا، ونصبوا بيارقهم بين حمر وبيض وزرق، وشاهد على بعضها كتابة عربية فقرأها فإذا هي: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والإمام المهدي خليفة رسول الله.» وشاهد على البعض الآخر كتابة تختلف عن هذه لفظا وتتفق معنى. ثم نقرت النقارة فاصطفت الرجال الخيالة في ناحية، والمشاة في أخرى، ونظر شفيق نظرا عاما إلى تلك الجنود، فإذا هي مؤلفة من ثلاثة أشكال؛ الأول: الدراويش؛ وهم اللابسون المرقعيات، وألوانهم سمراء، وليسوا سودا، والثاني: الجهادية؛ وهم حملة البنادق، وفيهم السود والسمر، وهم حامية الأبيض الأصليون، والثالث: العبيد؛ وهم خدم الدراويش أو عبيدهم؛ يلبسون شملة من قماش أصله أبيض من نسيج السودان يسترون بها عوراتهم وبعض صدورهم. وهؤلاء جميعهم سود، وقد يلبسون المرقعية .
أما الأمراء فكانوا يميزون بركوبهم الخيول النفيسة، وبما يحدق بهم من الخدم، وأما لباسهم فلم يكن يميز عن سائر الدراويش بما يستحق الذكر. وسمع شفيق الجميع ينادون أثناء قدومهم بصوت واحد: «في سبيل الله قتل الكفار.» فأخذ قلبه يخفق وجلا وقد ندم لعظم ما عرض نفسه للخطر، فانسل في الجماهير كواحد منهم يقوم لقيامهم ويقعد لقعودهم.
فلما وقفوا في حد النظام بقدر الإمكان، وكان كل أمير بجانب قبيلته، نهض أمير ووقف على مرتفع وفي يده كتاب، فضج الناس يقول بعضهم لبعض: اسمعوا ماذا يقول الخليفة محمد الشريف. إنه والله لأشبه بالإمام علي - عليه السلام. فعلم أنه أحد خلفاء الخليفة الأربعة.
فوقف محمد الشريف في الجماهير وهو بلباس الدراويش ونادى بأعلى صوته: الفاتحة أيها المسلمون، فقالوا جميعا: بسم الله الرحمن الرحيم إلخ، وأنصتوا إليه، ففتح ورقة كبيرة وقبلها ووضعها على رأسه، ثم قال: اعلموا، أيها الأحباب، أن هذا منشور من سيدنا الإمام المهدي - صلوات الله عليه - سأتلوه عليكم. ثم بدأ يقرأ.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد، فمن عبد الله محمد المهدي ابن السيد عبد الله إعلاما منه إلى كل المشايخ في الدين والأمراء والنواب والمقاديم أتباع المذكورين. يا عباد الله، اسمعوا ما أقوله لكم، وكونوا على بصيرة، واحمدوا ربكم واشكروه على النعمة التي خصكم بها؛ وهو ظهورنا بينكم؛ فهو شرف لكم على سائر الأمم، ولكن المطلوب منكم، يا أحبابنا، المهاجرة والمجاهدة في سبيل الله، والزهد في الدنيا. وكل ما فيها إلى البوار ... وجاهدوا في سبيل الله، فلهزة سيف مسلم في سبيل الله أفضل من عبادة سبعين سنة، وعلى النساء الجهاد إذا كن قاعدات وقد انقطع منهن إرب الرجال، والشبابة فليجاهدن نفوسهن، وليسكن بيوتهن، ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، ولا يخرجن إلا لحاجة شرعية، ولا يكلمن كلاما جهرا، ولا يسمعن الرجال أصواتهن إلا من وراء حجاب، وليقمن الصلاة، ويطعن أزواجهن، ويسترن ثيابهن، فمن كانت قاعدة كاشفة فاتحة رأسها ولو لحظة عين، فتؤدب وتضرب سبعة وعشرين سوطا، ومن تكلمت بفاحشة فضربها ثمانون سوطا، ومن قال لأخيه: يا كلب، أو يا خنزير، أو يا يهودي، أو يا فاجر، أو يا سارق، أو يا زان، أو يا كافر، أو يا نصراني، أو أو ... فيضرب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام، ومن تكلم مع أجنبية وليس بعاقد عليها ولا لأمر شرعي يجوز ذلك الكلام، ومن حلف بطلاق أو حرام يضرب سبعة وعشرين سوطا، ومن شرب الدخان ومن خزنها في فيه أو عملها في أنفه يؤدب ثمانين سوطا، ويحرق التنباك إن كان عنده، ومن باعها واشتراها ولم يستعملها يؤدب سبعة وعشرين سوطا، ومن شرب الخمر ولو مصة إبرة، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد، وإن لم يكلمه يؤدب ثمانين سوطا، ويحبس سبعة أيام، وكذلك من ساعد شارب الخمر بشربة ماء أو إناء. ومجاهدة النفس في طاعة الله حقيقة أشد من الجهاد بالأرماح؛ لأن النفس أشد من الكافر مقاتلة، فالكافر تقاتله وتقتله، وتكون لك الراحة منه، وهي عدوة في صورة حبيب، فقتلها صعب، ومسلكها تعب. ومن ترك الصلاة عمدا فهو عاصي الله ورسوله، وقيل كافر، وقيل يقتل، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد، فإن لم يكلمه فيضرب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام.
واعلموا، أيها الأحباب، أن خلافتكم وإمارتكم ونيابتكم عنا في الأحكام والقضايا لأجل أن تشفقوا على الخلق، وتزهدوهم في الدنيا ... ويزوج الفتى بعشرة ريالات مجيدية أو أنقص، والعزبة بخمسة أو أنقص، ومن خالف هذا عليه الأدب بالضرب والحبس بالسجن حتى يتوب، أو يموت في سجنه، ومقطوع من أهل زمرتنا، ونحن بريئون منه وهو بريء منا، والسلام.
Bilinmeyen sayfa