فقاطعتها فدوى قائلة: أقصري يا دليلة، واعلمي أن مثلنا لا يقبل تذكارا من أبناء الأزقة، فخذي تذكارك وأرجعيه إلى أهله.
فنظرت إليها مستعطفة وقالت: لا تحكمي يا سيدتي قبل استيعاب الخطاب.
فقالت فدوى وقد أخذ التأثر منها مأخذا عظيما: لا حاجة بي إلى الاستيعاب وإطالة الكلام، فاذهبي من حيث أتيت. ثم تركتها وتحولت عنها، فخرجت العجوز لا تلوي على شيء.
فعادت فدوى إلى غرفتها. وبعد قليل، جاء بخيت فأطلعته على ما كان، فقال لها: لا يزال هذا اللئيم على غيه، فلعنة الله على دهر يستنسر فيه البغاث، فلا يرتد حتى أورده حتفه أو أذيقه من الإهانة ما لم يذقه عمره.
الفصل السادس والعشرون
السر المكتوب
أما ما كان من أمر سعدى، فإنها لبثت بعد ذهاب فدوى تفكر بها، وبما زينها الله من رقيق العواطف، ودقيق الإحساس، وكمال الذات، ولطيف الصفات، فكانت تعيد تاريخ معرفتها بها، وتتذكر اجتماعاتها من حين سفر شفيق، فلم تذكر عنها إلا ما يزيدها اعتبارا في عينيها، فأخلت لها مكانا في قلبها، وصارت تتلهف على رؤيتها ومكالمتها، لما رأت من الارتياح إليها، فصارت ترى ابنها سعيد الجد إذا حظي بتلك الدرة اليتيمة.
أما إبراهيم ، فلم يطلع على شيء من أمر فدوى وشفيق؛ إذ لا يعرف سوى بيته ومحل شغله، ولا سيما من يوم فتحه الصندوق، وسفر شفيق؛ لأنهما زادا انقباضه عن معاشرة الناس. ولولا ذلك لما بقي حب شفيق لفدوى مكتوما عنه، فلما صدرت الأوامر بسفر القنصلاتو، أخبر امرأته وأوصاها بالتأهب للسفر، وأعلمها أنه يريد الشخوص إلى مدينة لندرا لمشاهدة شفيق.
فشرعا في التأهب وتحضير الأمتعة السهلة الحمل، ووضعوها في الصناديق لإرسالها بالسكة الحديدية إلى الإسكندرية، وإذ هما في ذلك وقع نظر سعدى على الصندوق المعهود، فخفق قلبها، وتاقت إلى استطلاع ما فيه، فقالت لزوجها: ها إننا مسافرون على بركة الرحمن، ولا ندري ما نصيب في سفرنا هذا من خير أو شر، فأرغب إليك أن تطلعني على حكاية هذا الصندوق.
فبهت إبراهيم هنيهة ثم قال: أما اطلاعك على تلك الحكاية، فقد قلت لك: إنه لم يجئ ميقاته ولكن ... وسكت مفكرا ثم عاود الحديث قائلا: ولكني من جهة أخرى أخاف أن أصاب بسوء في سفري هذا، فينمحي خبر هذه الضفيرة من العالم؛ إذ لا يعلم أمرها إلا أنا، فأمهليني ريثما أعود إليك. قال ذلك ودخل غرفته، وأغلق بابها، وامرأته تنتظره خارجا وهي لا تدري ماذا يفعل.
Bilinmeyen sayfa