فقال: إن الجنود المصريين قد اتحدوا وبعثوا من ينوب عنهم إلى سراي المالية يطلبون رواتبهم، فأمسكوا برئيس النظار. وكانت فدوى مقبلة إليه بنظرها، فقاطعته قائلة: كيف آل الأمر؟ فقال: آل إلى تفرقهم حالما شاهدوا أفندينا إسماعيل باشا مطلا من إحدى نوافذ السراي، وهو لم يكلمهم إلا كلمات قليلة، فذهب كل إلى مكانه.
فقالت فدوى: إني لم أسمع عمري حدوث مثل هذا في زمن إسماعيل باشا.
فقال: إن هذا لم يحدث إلا بعد صيرورة الحكومة المصرية شوروية.
وكانا يتحدثان وهما ماشيان الهويناء نحو الحديقة وبخيت يتقدمهما حتى دخلا، فإذا هما في حديقة غناء، ملتفة الأشجار، زاهية الأزهار، يانعة الأثمار، قد جمعت بين عذوبة التنسيم واعتلال النسيم، يتخللها ممار مفروشة بالرمال والحصباء، والماء موزع في جنباتها، وفيها مرتفع اصطناعي يزيد تلك الحديقة بهجة وإتقانا، فسارا إليه ولم يدهشهما شيء من تلك المناظر الآخذة بمجامع النفوس لاشتغال فؤاديهما بما هو أسمى من ذلك.
فنظر شفيق إلى فدوى، فإذا هي على أجمل ما يكون، وقد زادها خجل الحب بهاء، فأبرقت عيناها، وندي وجهها، ولازمتها رجفة الحب فأطرقت في الأرض ولم تقو على رفع نظرها إليه. أما هو فلم يكن أقل منها اضطرابا. وبقيا على ذلك برهة والحياء يمنع فدوى من النظر إلى وجهه أو مفاتحته بالكلام، فأخذت تشغل نفسها بتلك المناظر؛ لعلها تسكن شيئا من هياج عواطفها واضطرابها؛ لأنها لم تعتد مجالسة الشبان ولا مخاطبتهم، ولا سيما على انفراد؛ إذ قد عاشت عيشة التحجب المتبعة عند عائلات الأتراك، مع أن والدها لم يكن منهم، ولكنه تخلق بأخلاقهم، وسار على عوائدهم، فشبت فدوى على ذلك. وما زالا على هذا الاضطراب حتى وصلا المرتفع وقد كساه الزهر، وظلله الشجر، فجلس كل منهما على مقعد متقابلين يفصلهما ممر الحديقة الضيق، وكلاهما يتناظران بألحاظ ناطقة، ولا يقوى أحدهما على إطالة النظر إلى الآخر، ولبثا زمنا لا يجسر أحدهما على افتتاح الحديث، ثم رفعت فدوى بصرها تفاتحه بالكلام، فارتج عليها، لكنها تجلدت جهدها وقالت: لقد سرنا ما قرأناه في الصحف عن سبقك أقرانك ونيلك إنعام الخديوي.
فأطرق شفيق خجلا ولم يجب بكلمة، فقالت: ولكن بعض الناس ساءهم الأمر لما يترتب على ذلك الإنعام من الأسفار في أنحاء الممالك الأوروبية بضع سنين. قالت هذا وخنقتها العبرات، ولكنها تجلدت وأحبت إتمام الحديث فلم تستطع.
أما شفيق، فكان ينكت الأرض بشيء كان في يده إخفاء لعواطفه حتى سمع منها ذلك، ولحظ ما أرادت، فقال لها: وايم الحق، يا حبيبتي، إني لم أسر بهذا الإنعام تمام السرور؛ لابتعادي به عن كل الناس، وليس بعضهم؛ فأنت عندي كل الناس، ولكن قد تكرهون شيئا وهو خير لكم، فعسى أن أصيب بسفري هذا ما يجعلني أقرب إلى استحقاقك مما أنا الآن؛ فإني لا أجهل منزلتي منك.
فقاطعته قائلة: حاشا لله يا منى فؤادي. إنك في الحقيقة فوق ما أستحق، وأكثر مما أتمنى؛ فنحن لا نقدر الناس بأموالهم، وإنما بصفاء جوهرهم، وصحة أدبهم وشهامتهم، وأنت قد زينك الله بصفات شريفة لو تفرقت في جماعة لكفتهم؛ فإنك غني غنى لا يستحصل بالقوة ولا بالحيلة، وإنما هي مواهب يخص الله بها من يشاء من عباده.
فالتفت إليها شفيق وقد كاد يتلعثم لسانه وقال: إنك غنية عن الوصف، وقد خصك الله بكمال الصفات، فلا يفي الكلام ولا يحيط بوصفك. أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟! فصفاء عنصرك يجعلك تصفينني بصفات أنت الحقيقة بها؛ لسمو أدبك، وتفرد صفاتك.
أما هي، فظهر اضطرابها جليا مع محاولتها إخفاءه، وكانت تسعى إلى تخفيفه فتنظر إلى جمال الحديقة وتتلاهى بمنظرها اللطيف فلم تقدر، ثم أطرقت في الأرض إخفاء لاضطرابها، ثم رفعت بصرها إلى شفيق وقالت: إني ممتنة من عواطفك الشريفة التي لا أستحقها، وأسألك أيها الحبيب أن تقول لي: هل أنت حقيقة مسافر إلى أوروبا؟
Bilinmeyen sayfa