فلما كان يوم عشرين يناير سمع إطلاق المدافع في معسكر المتمهدي، فتعجب؛ إذ لم يكن يعلم بما يوجب ذلك؛ لأنهم بعيدون من الخرطوم، والدراويش ليسوا في حال حربية، فسار إلى صديقه حسن، وفيما هو في الطريق إليه مر بجماعات من الدراويش يتعجبون من أمر ينظرون إليه، فتقدم إليهم، فإذا بجماعة منهم في أيديهم برانيط إنكليزية، وآخرون يقلبون قطعا أخرى من ثياب الإنكليز، وآخرون غير ذلك من أسلابهم، فأوجس خيفة حتى كاد يتحقق لديه أن المهدويين فازوا بالإنكليز وجاءوا بأسلابهم. فلما وصل إلى صديقه سأله عن السبب فقال له: إن صاحبنا المتمهدي علم بانكسار رجاله في أبي طليح والمتمة، فأراد أن يوهم من معه خلاف ذلك، فأمر بإطلاق مائة مدفع ومدفع، وهي علامة النصر؛ إيهاما لرجاله أن رفاقهم في أبي طليح فائزون، وأما هذه الأسلاب فلا عبرة بها؛ إذ قد يترك الإنكليزي كل ثيابه في ساحة الحرب ولا يبالي.
فقال شفيق: وما قولك بعد هذا يا حسن؟ قال: إني صرت مائلا إلى رأيك، ولكنني سمعت أن المتمهدي جمع خلفاءه والمقربين من الأمراء في هذا الصباح للشورى، وفي المساء نعلم ماذا يكون من اجتماعهم.
قال شفيق: كيف يمكنك أن تعرف ذلك إذا كانت الشورى سرية.
قال: إن لي بينهم صديقا حميما لا يخفي عني شيئا، فإذا أتيتني في صباح الغد أخبرك بماذا يتم، فقال شفيق: حسنا. ومضى.
وفي الصباح التالي، جاء شفيق وقد صمم في باطن سره على الفرار من معسكر المتمهدي إلى الخرطوم، فلما التقى بصديقه استطلعه الخبر، فقال له: اجلس لأخبرك بما تم في اجتماع أمس.
فجلس شفيق وجلس حسن بجانبه يقص عليه قال: اجتمع المتمهدي أمس بخلفائه المعلومين، وبالمقربين من رجاله، ولما استتب بهم الجلوس قرءوا الفاتحة، ثم قال لهم المتمهدي: جاءتني الحضرة في الليل الغابر، وقد جمعتكم لأقص عليكم ما قاله لي
صلى الله عليه وسلم ، فقد أمرني بالهجرة إلى الأبيض؛ لأن الإنكليز قوم لا نقوى على قتالهم، فإذا كان غوردون وهو فرد منهم قد دافعنا شهورا، فكم يفعل الآلاف منهم وقد ظفروا برجالنا المحنكين في أبي طليح؟! أفلا يستطيعون غلبتنا؟! فماذا ترون؟ فوافقه الجميع في رأيه إلا الأمير محمد عبد الكريم، فإنه اعترض على الهجرة قائلا: إننا نهاجم الخرطوم مهاجمة اليأس، فإن ظفرنا بها فلا يعود الإنكليز ولا غيرهم يستطيعون الوقوف أمامنا، وإذا ظفروا بنا، فإن الهجرة مستدركة لا تفر من أمامنا. وارفض المجلس مرجحين رأي عبد الكريم، على أن يعودوا إلى الاجتماع مرة أخرى.
فقال شفيق: ها قد تحققنا حبوط مسعى المتمهدي، ولم يعد لدينا ما يمنع انحيازنا إلى حامية الخرطوم.
فقال حسن: إن لدي موانع تحول دون مرافقتي إياك، وأما أنت فسر بحراسة الله، فإنك تلاقي صدورا مفتوحة، وإذا قدر لنا الاجتماع ثانية، فإننا لا نفترق بعد ذلك، بإذن الله.
الفصل السابع والسبعون
Bilinmeyen sayfa