مذبحة هيكس وجيشه
فسارت الحملة في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) يوم السبت قاصدة كشجيل، وبعد مسيرة عشرة أميال في غابات غبياء وقفوا وقد وقع الرعب في قلوبهم؛ خوفا من أن يكونوا قد تاهوا عن الطريق. وكان الخبراء معهم يرسفون بالقيود؛ خوفا من فرارهم. وفي اليوم التالي (الأحد)، ساروا قاصدين غابة شيكان بين البركة وكشجيل.
وفي تلك الغابة كانت جنود أبي عنجر، وأما المتمهدي فكان قد علم بقصد هيكس المسير إلى كشجيل، فسار لملاقاته في طريقه إلى شيكان ومعه الخلفاء الثلاثة، وولد النجومي وغيرهم، وكان عالما أنه لا بد له من المرور في تلك الطريق. وأما شفيق، فكان لا يزال في جيش عبد الحليم يتتبعون خطوات الحملة، وقد أيقن بسقوطها، وتحقق أن فوزها لم يعد ممكنا لما علمه من استعداد المتمهديين، ولكنه كان ينتظر فرصة يمكنه بها إفادة هيكس باشا بشيء، وكان قلبه يكاد ينفطر عند ما يتصور الخطر الذي أحدق بتلك الحملة المنكودة الحظ، وفيها نحو 11 ألفا من الرجال قد ساقتهم الأقدار إلى حتفهم؛ ليكونوا طعاما للوحوش في تلك البيداء.
فلما هيأ المتمهدي جنده على هذه الطريقة جمع أمراءه يبلغهم الأوامر الأخيرة، فاجتمعوا للصلاة، فولوا وجوههم البيت الحرام، ووقف المتمهدي فيهم وقفة الإمام، وبدأ بالتكبير والفاتحة، ثم قال رافعا بصره إلى السماء: اللهم لا عيش إلا في دارك، ولا نعيم إلا في لقائك، ولا خير في غيرك، ولا نصر إلا من عندك، بك الحياة، وبك الممات، وبك التقلبات، وإليك المصير. وكان الجميع يرددون ذلك بعده بالخشوع والوقار. ولما انقضت الصلاة استل سيفه بيده وقال: الله أكبر. لا تخافوا؛ إن النصر لنا.
أما شفيق فأخذ يفكر في ماذا يجب أن يفعل، ولما لم ير حيلة قال في نفسه: إذا استطعت فإني أحمي هيكس من القتل. وفي يوم الأحد المشار إليه، وصل مربع هيكس إلى غابة شيكان في البر بين البركة وكشجيل، فهجم عليه المختبئون في تلك الغابة، فانكسر المربع بأقل من لمح البصر، ثم هجم المتمهدي برجاله من الجهة الأخرى، وجاء عبد الحليم من الوراء والتحم الفريقان يقتتلان بالسلاح الأبيض. وكان المصريون لوهلتهم يطعنون بعضهم بعضا، فأراد شفيق أن يسير إلى هيكس لعله يستطيع إغاثته، فلم يدركه إلا مقتولا بسيف الخليفة محمد الشريف. فقتلت حملة هيكس برمتها إلا 300. أما من العرب فلم يقتل إلا خمسمائة.
الفصل الحادي والخمسون
البيعة
أما من بقي حيا من رجال هيكس فصاحوا يستغيثون الدراويش لكي يكفوا عن قتلهم، فصدر أمر محمد أحمد بالقبض عليهم أحياء، فقبض على أكثرهم وقيدوا موثقين إلى معسكر المتمهدي.
وكان المتمهدي وقواده في فرح لا مزيد عليه من النصر، وكان الدراويش مشتغلين بالغنائم. أما شفيق فكان يطوف بين القتلى، فإذا بالجثث متراكمة أتلالا، والدماء جارية نهرا، فمر بجثة هيكس ملقى صريعا بحربة أصابته في صدره، وشاهد علاء الدين باشا في مثل ذلك، وشاهد كثيرين غير هؤلاء عرفهم مذ كان برفقة تلك الحملة، فكاد قلبه ينفطر لتلك المناظر حتى كاد يبكي، ولكنه تجلد خوف الفضيحة. وفيما هو في ذلك رأى الناس يهرولون إلى مكان المتمهدي، فسار في أثرهم، وإذا بالأسرى الذين قبض عليهم قد أوقفوهم في بقعة من الأرض موثقين، وعلى وجوههم علامات الشقاء والتعب والجوع والعطش، فسأل عما دعاهم إلى ذلك، فقيل له إنهم سلموا أنفسهم، وأحبوا مبايعة المهدي، فوقف شفيق ليسمع المبايعة، فإذا بمحمد أحمد قد انتصب بثيابه المعلومة، فجيء له بالفرو ليسجد عليه، فصلى صلاة النصر، وصلى كل من معه، ثم وقف أحد الخلفاء يلقن الأسرى سورة المبايعة، وهم يرددونها بعده حانين رءوسهم إجلالا لها؛ وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم. بايعنا الله ورسوله ومهديه. بعنا أرواحنا وأموالنا وعيالنا في سبيل الله، فلا نهرب من الجهاد، ولا نزني، ولا نسرق، ولا نشرب الخمر، ولا نعصيه في معروف.
Bilinmeyen sayfa