فعجب الأمير عبد الحليم لذلك الاتفاق، واستنتج من اتفاق الحلمين أنهما صحيحان، وبعث إلى المتمهدي فقال: إنه ممن اختارهم الله لدعوتنا؛ فلا تقتلوه، بل ولوه منصبا يليق بعلمه ومعارفه.
فلما جاء الأمر إلى عبد الحليم بطلب ذلك سأل كاتبه حسنا أن يمتحن الرجل، ويرى ما إذا كان فيه منفعة، فاختلى به وامتحنه، وبلغ الأمير أنه يعرف الكتابة والرطانة باللسان الأجنبي، فأمر أن يضم إلى كاتبه ويرافقه في الحملة.
الفصل التاسع والأربعون
حملة هيكس باشا
فلبس شفيق ما بقي من ملابس الدراويش، وانضم إلى معسكر عبد الحليم. وكان ذلك غاية ما يريد؛ لأنه استأنس بحسن وتوسم فيه الخير.
وفي اليوم التالي، سارت الحملة بجمالها وخيولها، وسار فيها حسن وشفيق، وقد عجب شفيق لقلة انتظام ذلك الجيش، وعلى كل درويش منهم جلد خروف (فرو) يستخدمه للجلوس والركوع والرقاد. وما زالت الحملة حتى وصلت أبو جوي، وهناك التقوا بجيش هيكس باشا، وكان ذلك الجيش هناك يجمع إليه بعض القبائل البدوية تعزيزا له. أما هيكس ورجاله فلم يعلموا بجيش عبد الحليم.
فلما علم شفيق بذلك صار قلبه يخفق ونفسه تحدثه بالفرار إلى معسكر هيكس، ولكنه لم يكن يستطيع ذلك لبعد المسافة. أما عبد الحليم فإنه أنفذ حسنا يستخير المتمهدي في الحرب، فأجابه أن: لا يفعل، ولكنه أمره أن يتبع تلك الحملة في خور أبي حبل إلى بحيرة الرهد، وهناك تصله الأوامر النهائية.
وكان هيكس مذ فارقه شفيق قد جاء الدويم، وهناك تفاوض هو وعلاء الدين باشا رفيقه بالحملة في أي الطريقين يتخذان: طريق خور أبي حبل أم طريق بارا؟ فكان من رأي علاء الدين اتخاذ طريق الخور؛ لأنها كثيرة المياه، وإن كانت بعيدة الشقة، فسارت الحملة حتى جاءت نورابي أول الخور في 8 أكتوبر؛ حيث كان موعد الالتقاء بشفيق، فانتظر هيكس رؤيته، فلم يظفر به، فظنه أصيب بسوء، فاغتاظ ولكنه لم يعلم أحدا بذلك، وسارت الحملة من نورابي إلى جلبن هار في الخور أيضا، ولكنهم علموا هناك أن جنود المتمهدي تتعقبهم، فندموا على قطع خط الرجعة بينهم وبين الدويم، ولكنهم ما زالوا سائرين وثقتهم في الحياة تقل يوما بعد يوم؛ لأنهم رأوا أنفسهم محاطين بالعدو من كل ناحية. وزد على ذلك النفور الذي وقع بين القائدين هيكس وعلاء الدين، وما زالوا بين حل وترحال حتى ألقوا عصى التسيار في بحيرة الرهد المتقدم ذكرها، فابتنوا زريبة وتحصنوا هناك، وأخذوا يتفاوضون في أمر الجهة التي يسيرون منها إلى الأبيض؛ لأن الخور هناك ينفصل إلى فرعين: فرع يتصل بمحلة البركة، وفرع يتصل بمحلة كشجيل. وهذه الثانية أقرب إلى الأبيض، فبقيت الحملة في رهد ستة أيام، وشاهدوا في اليوم الخامس بعضا من العربان على الجهة الأخرى من البحيرة، فظن علاء الدين أنهم الرجال الذين جمعهم الشيخان؛ اللذان كان قد أرسلهما لجمع النجدة من الجوار، فشد منديلا إلى عصا وجعل يلوح لهم بالمجيء. أما هم فلم يبالوا، بل ملئوا قربهم ماء وعادوا، فبعث هيكس في أثرهم خيالة، فعادوا وأخبروا أنهم رأوا عددا كبيرا من العدو معسكرين بين الشجر. وبعد ستة أيام، سارت الحملة قاصدة البركة، فوصلت إلى محل على مسافة 8 أميال من الوبا.
ومن هناك بعث هيكس جاسوسا إلى الأبيض يستطلع قوة المتمهدي، وفي اليوم التالي ساروا إلى الوبا، وفيها كثير من الماء، فبقوا هناك حتى يرجع الجاسوس، وأرسلوا جاسوسا آخر ليستطلع أحوال البركة، ولم يمض أربعة أيام حتى عاد الجاسوس من الأبيض ومعه كتاب من المتمهدي لقواد الحملة يدعوهم فيه إلى دعوته. وبعد قليل، جاءهم الجاسوس الآخر وأخبر أن العدو جاء جهة البركة لملاقاة جيش هيكس، فوقع هيكس في حيرة وفاوض خبراءه عن أفضل السبل للمسير إلى الأبيض، بحيث لا يلتقون بالدراويش في البركة، فأجمع الرأي على أن تكون طريقهم على كشجيل، وإنما اختلفوا فيما إذا كان الأفضل أن يعودوا إلى رهد ومنها في الخور إلى كشجيل، أو يسيروا مختصرين الطريق في الصحراء إلى كشجيل تاركين البركة على يسارهم، وعزموا أخيرا أن يسيروا على الطريق المختصر، على أن يأخذوا معهم ما يكفيهم من الماء ليومين.
الفصل الخمسون
Bilinmeyen sayfa