متزوجة ولديها طفلة، زوجها خشن الطباع كما يبدو، ضيق الأفق، قروي كادح، يحبها لكنه لا يفهم أي شيء، هي لا تعرف شيئا مما يحدث لها ولا تفهم سر تلك الملابس الغالية التي وجدتها في بيتها، البائعة تقول إنها اشترتها، وهي لا تعرف شيئا عنها، وزوجها لا يصدقها، والسيدة إييف بلاك، ظهرت للطبيب ونعتت السيدة وايت بالمسكينة المثيرة للشفقة، وزوجها بالغبي، وادعت أنها غير متزوجة، وليس لديها أطفال، مشرقة ومحلقة، بلا روح، تحب السهر والرقص والشرب، تظهر أحيانا لتنقذ السيدة وايت من مشكلة، أو لتحظى ببعض المرح، تعرف كل شيء عن السيدة وايت، بينما لا تعرف السيدة وايت أي شيء عنها، لم تتمكن من التجاوب مع أحد طالبي المتعة بحانة ترتادها؛ فانهارت، بكت، وانزوت لتخرج لنا السيدة جين، هي الأكثر إنسانية، بلا خفوت وايت ولا جرأة بلاك، امرأة هي جين، وتدرك جيدا من أين أتت، هي من ساعدت كلا من وايت وبلاك على التلاشي، المهم في الأمر أن الطبيب رأى أن أوجه إييف الثلاثة لا تشكل خطرا على نفسها أو على المجتمع ويمكنها استكمال العلاج دون احتجاز، ورحلت السيدة وايت والسيدة بلاك وبقيت السيدة جين.
عدت لدفتري ورغما عني كنت أحاول ربط أمل بالسيدة إييف بلاك، هل أرتيميس إلهة الصيد هي السيدة بلاك إييف؟ لا، هي ليست بهذا الانطلاق، أو التحرر، هي الأقرب للسيدة جين، هي إنسانة طبيعية، ناجحة في عملها، محبوبة من تلامذتها، الغريب أن أرتيميس ربة القمر أيضا لا تشبه السيدة إييف وايت؛ فليست بهذا الخفوت، هي أيضا الأقرب للسيدة جين، على الأقل شكلا، لغتها الجسدية لم تكن منكسرة أو مترددة، يجب أن أعرف أرتيميس ربة القمر أكثر، ما الذي تملكه ولا تملكه أرتيميس إلهة الصيد؟ أو العكس، من منهم تلجأ للأخرى؟ أكرر نفس الأسئلة، وكل مرة أتمنى أن تكون إلهة الصيد هي الأساس وأحاول أن أقتنع أن ربة القمر سترحل، أو ربما ستكون السيدة جين هي الحل، هل ستراني جين كما تراني أمل؟ لا أعرف هل أهتم حقا بها لتلك الدرجة أم أنني أدافع في الأصل عن عشقي لها؟ لم يبق لي إلا الرحيل خلف أرتيميس ربة القمر.
زيارة سرية
قطار المساء يقطع جسد الإسكندرية، وينفلت بي منها، ما يظنه القطار ذهابا، أراه عودة، لم أكن عائدا للقاهرة بل لأرتيميس، ولكن تلك المرة أرتيميس ربة القمر، رجعت للمرسم، لم تتحرك مئذنة ابن طولون من مكانها، كما هي، ملوية سامراء بالقاهرة، هنا لم تعد أمل من الأوليمبس، بل كنت أراها تلك المئذنة العارية وذراعي تلتف حولها، ترتقي معها حتى تتلاشى ويتلاشى معها سلمها، حضورها هنا أقوى، لا حاجة بي للتودد لسيرابيس الغارق، أو مناجاة بوسايدون، هنا لا حضور للإغريق والبطالمة، رائحة الأحجار المبللة والمياه تطرد منها آثار البخور المستكينة لمئات السنين، وحين تمتزج الروائح وتتردد أصداء الألحان، لا يتردد منها الكثير، لا يرتد من تلك الأحجار إلا ما ترفض ابتلاعه، وهي تبتلع الكثير، شعرت برائحة غريبة بالمرسم، رائحة برية متناغمة مع خليط الروائح، رائحة الصيد، أمل كانت هنا!
أكد ظني العجوز «نصر»، السيدة التي زارتني آخر مرة أتت مرتين وقالت إن معها المفتاح وستنتظر، في كل مرة قرابة الساعتين، ماذا فعلت لساعتين؟ ديبوسي، استمعت لبعض موسيقاه، عبثت بالألوان، تحممت، لم يبق إلا أن تشرب بعض النبيذ، وتمشي عارية على أحجار السطح، وتترك كأسها على الأرض بجوار سور السطح، هل رقصت؟ هل تركت لي شيئا؟ هل أطلقت تعاويذ الإغريق بجدراني؟ كانت هنا، في انتظاري، افتقدتني، أو ربما أتت لتخبرني أين يجب أن أكون، هل لمحتني أراقبها؟ خرجت أتأمل المئذنة، تركت كل أفكاري بعتباتها، وعدت لأنام برفقة رائحتها؛ أمل. •••
كانت أشعة الشمس تدلك جسدي، لسعات متتالية تمسح ظهري لأستيقظ على ابتسامتها، وهي تجفف الأحجار وقدماي تحتجزان الأبخرة كلما خطوت، هيا؛ فلدي الكثير لأريك اليوم، هكذا قالت الشمس، ومن يملك تجاهل ندائها؟! خرجت وكان العجوز نصر يرش الماء أمام البيت، وكأنها لقنته سرا تلك الدعوات لي بالتوفيق، ابتسمت له، وشكرته، فزادني من الدعاء دعاء، لم يكن الوصول لوسط العاصمة يشبه معركة البقاء اليومي، بل كان يشبه انسياب الماء بواد رحب، هل يمكن للشمس أن تخفي الزحام؟ لا يمكن أن تكون تلك التظاهرات هي السبب، حاولت النظر إليها من نافذة سيارة الأجرة، لم تكن تصلح أن تكون لوحة، لا أصدق في تكوين لا يصنع لوحة، وصلت الجامعة، لم أمكث كثيرا، عرفت مكان بيت الطبيب الراحل إسماعيل خطاب وانصرفت.
بناية متوسطة بحي الدقي تطل على حديقة عامة، هنا تعيش أمل، ربة القمر، بعض الطعام والسجائر والعصائر والماء والجلوس في الحديقة أمام بيتها، كل شيء هادئ، لم يكن هناك سوى سيدة عجوز بالطابق الأرضي، تشاغب الحارس والمارة بابتسامة جميلة أو نظرة سخط، لم يتمكن نحت الزمن بوجهها من إخفاء جمالها، تبدو سيدة وحيدة، تقضي يومها بشرفتها بالقرب من الطريق، تأنس بالمارة وتؤنس طريقهم بتعليقاتها، راقبتها قليلا ثم انطلقت إليها، عرفت نفسي كصحفي وسألتها عن الدكتور إسماعيل، دعتني للدخول والجلوس معها بالشرفة، وبعد أن جلست طلبت مني أن أعد كوبين من الشاي. - إذن فأنت صحفي، وتسأل عن الدكتور إسماعيل. - نعم سيدتي أقوم ببحث عنه، له ابنة واحدة كما أعتقد. - نعم، أمل، هي من قتلته . - قتلته؟!
أومأت برأسها، وعيناها العسليتان تنظران في عيني كصقر ينقض على فريسته، وكأنها تريد معرفة وقع الكلمة علي، أمل قتلت أباها؟ ربما تكون تلك هي نقطة التحول، هنا تحولت لإلهة الصيد وتركت القمر؟ لم أصدق ما شعرت به، ولم أصدق أنها تقصد ما تقول. - لا تكذب يا بني على امرأة مثل أمك، أنت هنا من أجل أمل، هل تريد أن تتزوجها؟ - سيدتي لا، أقصد نعم، أنا هنا من أجلها، أقصد لم آت لأتزوجها.
ربتت على يدي بيد حانية، وتورد وجهها، وابتسمت قائلة: «حتى المجنونة لها من يحبها.» وضحكت ونكزتني لأشاركها ضحكتها فابتسمت، أخبرتها أنني أريد أن أعرف كل شيء عن أمل، وكأنها وجدت ضالتها وبدأت تحكي وبين الحين والآخر تطلب مني أن أغسل الكوبين وأعد المزيد من الشاي.
أتت كاميليا أم أمل كزهرة الربيع، وكانت تذبل كل يوم برفقة إسماعيل، كان طبيبا ناجحا، من أسرة ميسورة، كان يعامل الجميع بلطف ومودة، إلا أهل بيته، وكأنه يترك الدكتور إسماعيل بعتبة البيت ليتحول إلى شخص آخر، عكر المزاج، متسلط، متملك، لا يقبل مناقشة، لا يسمع لأحد، لا يعرف ما قد يرضي كاميليا أو أمل منذ طفولتها؛ فما يراه، هو ما يجب أن يرضيهم، وليكمل سيطرته الكاملة، اشترى البناية من مالكها، وظل يقدم الإغراءات للمستأجرين، حتى اشترى كل الشقق، إلا شقتي، لم يستطع طردي منها ولم أستطع شراءها منه، لم تختلف وحدة كاميليا عن وحدتي؛ فلم أتزوج يا بني، وكانت أمل هي ابنتي وابنة كاميليا، أول مرة أسمعها تبكي كان يضربها لأنه سمعها تقول: «ماما سناء.» لم أقل لك يا بني، اسمي هو سناء، الآنسة سناء مدرسة لغة إنجليزية، أنا من علمت أمل الإنجليزية؛ فأمها كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة لكنها لم تكن تعرف من الإنجليزية شيئا، كانت كاميليا كأخت لي قبل أن تفقد عقلها، نعم، فقدت عقلها، كانت تتناسى، حتى أصبحت تنسى كل شيء، حتى ابنتها، ولم يتوقف إسماعيل عن إهانتها، أو انتقاد أفعالها ...
Bilinmeyen sayfa