تحولت الصورة إلى دليل إدانة لمن يصورها، وليس لمن قام بالجريمة؛ ففي كل موضع ألم، مكان كل حادث، في محيط كل انفجار، تجد العشرات يرفعون هاتفهم المحمول؛ ليسجلوا اللحظة الفارقة، ليسجلوا الألم والحزن، لكي ينشروه لأصحابهم، لكي يميلوا على أصحابهم في المقهى بشاشة الهاتف، وهم يقولون: «انظروا أين كنا، ومع ذلك لم يحدث لنا شيء.» انبهار الأصدقاء بالصورة يوازيه انهيار في إنسانية من التقط الصور، الذي ترك «الألم والحزن والموت» يحدث، واكتفى هو بالتقاط الصورة، كأنه يظن أن شاشة الكاميرا تفصله عن عالم مواز دار فيه هذا الحادث، كأنه يجلس في السينما ويشاهد ما يحدث عبر نظارة
3D
يرى كل شيء يحدث حوله، لكنه يعرف أنه في مأمن.
أفقدت الصور المتتالية الكثيرة الناس الإحساس بالحدث، أفقدتهم الشعور بالسعادة بما يحدث؛ لأنهم يهتمون بتوثيق الصورة أكثر من اهتمامهم بالحدث نفسه، يهتمون بصورة جميلة يضعونها على «فيس بوك» تجلب الإعجابات والتعليقات أكثر من أي شيء آخر، كأن كل شيء يحدث من أجل هذه الصورة ليس أكثر.
تعلمنا في الصحافة أن الصورة أحيانا تكون خيرا من ألف كلمة، لكن مع هذا الكم الهائل من الصور يقول العلماء إنها تساعد على ألزهايمر، تلتهم الذاكرة؛ لأنه استعاض عن ذاكرته بذاكرة الهاتف وذاكرة الكمبيوتر.
الإشكالية الحقيقية هنا هي أنه لن نشعر بالحنين فيما بعد لأي شيء؛ لأن كل اللحظات تساوت في الصور، لأن كل شيء أصبح متاحا في الذاكرة الاصطناعية. الأمر لا يتعلق بالصورة فقط، بل بالفيديو الذي يحمله موقع «يوتيوب» على كتفيه، كل شيء أصبح متاحا، لن نشعر بالحنين فيما بعد إلى أغنية قديمة أو جديدة، إلى برنامج عرض من عام أو عشرة، لن تكون هناك «نوستالجيا»؛ فكل شيء تحت أيدينا، بضغطة زر؛ ضغطة واحدة، ويأتي كل ما نريده. ما حاجتك إلى ذاكرتك إذن؟! ما حاجتك إلى ذكرياتك؟! ما حاجتك إلى الذهاب إلى استوديو للتصوير؟! ما حاجتك إلى جلسة عائلية حول ألبوم صور؟! ما حاجتك إلى ألبوم صور أصلا؟! ضع ما تريده في خانة البحث وجد ما تريده، لكن حاذر من الفوضى؛ فوضى كراكيب الذكريات، التي يلتهم بعضها بعضا، فماذا تفعل تفاحة فاسدة في جوال تفاح طيب؟!
تتسارع وتيرة الزمن، ويغدو ما حدث من عام - مع كثرة ما مر، مع كثرة مقاطع الفيديو والصور - كأنه مر من زمن بعيد، يضحي تاريخا، يأكل التاريخ بعضه ، ولا يتبقى أي شيء.
هل أنا غاضب من التكنولوجيا؟ هل أنا ناقم على الصور؟ لست غاضبا ولا ناقما، لكن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده. فتش عن إنسانيتك، وتمسك بها.
الخوف من التكنولوجيا
يسمونه «التكنوفوبيا»، أو «رهاب التكنولوجيا». ظهر لأول مرة خلال الثورة الصناعية، ويصيب من يخافون التقدم التقني؛ لذا يحجمون عن التعامل معه. قد يكون هذا منطقيا مع بعض الذين آثروا الابتعاد عن كل ما أنتجته يد الإنسان، وفضلوا النأي بأنفسهم، مستخدمين ما أنتجته الطبيعة فقط، لكن ماذا عندما يصيب هذا «الرهاب» أحد «آلهة» التقدم؟ هل يدفعنا هذا للقلق مثله على مستقبل البشرية؟ «ستيفن هوكينج» هو أحد أشهر علماء البشرية، صاحب نظرية إمكانية «السفر عبر الزمن»، له أبحاث نظرية في علم الكون والعلاقة بين الثقوب السوداء والديناميكا الحرارية، كما أن كتابه الأشهر «تاريخ موجز للزمن» باع ملايين النسخ، فضلا عن تخصصه في الفيزياء النظرية. هو لمن لا يعرفه لا ينطق ولا يتحرك، لكنه يستخدم كرسيا متحركا ويتكلم مستعينا بجهاز كمبيوتر بصوت صناعي بات مميزا له، هوكينج يدين بحياته للتكنولوجيا، لكنه رغم ذلك يرى أنها السبب في قرب فناء الجنس البشري، وربما لهذا السبب يجب أن نستمع له.
Bilinmeyen sayfa