لم يدخل جبريل في معارك جانبية مع أحد، ولم ينشغل كما يفعل الكثيرون بالنميمة وتمضية الوقت في الكلام. اكتفى بدوره في صنع عالم من الكتابة آمن به؛ بكتابته، وبالمساهمة في صنع أجيال من الكتاب من خلال ندوته أو صفحته الأسبوعية بجريدة المساء، وإذا سألت العشرات، بل المئات ممن مروا على ندوته، فستجدهم يحملون له الكثير من الحب على صنيعه معهم.
أسأل صديقا لي - وأنا خارج مصر - هل لا يزال يذهب إلى ندوة الأستاذ جبريل، فيجيبني بأن الندوة توقفت، فتتداعى الذكريات، عن الدور الذي لعبه في تشكيل وعيي ووعي الكثيرين غيري؛ بدوره المهم في كتابته وفي ندوة استمرت قرابة الثلاثين عاما. ربما لم يقدم أحد منا له الشكر على ذلك، وأعرف أنه لا ينتظر ذلك من أحد؛ لأنه كان مؤمنا بما فعله، لكنني أود أن أقول له إنني أحمل له كل العرفان والمحبة والامتنان.
نهاية الذكريات
مشهد (1):
دم يسيل، رائحة موت في كل مكان، شخص يتسلق لافتة إعلانات ضخمة يهدد بالانتحار، بعد دقائق يترنح جسده جيئة وذهابا من حبل معلق في اللافتة العالية. في الأسفل ترتفع عشرات الأيدي تراقب ما يحدث عبر شاشات الهواتف التي تسجل ما حدث وما يحدث بالصوت والصورة، كأن الموت الذي زكم الأنوف في عالم آخر، في زمان آخر، في مكان مواز، تفصله عن الزمان والمكان والعالم شاشة الهاتف المحمول.
مشهد (2):
طقس عائلي جميل، ثلاثة أبناء يتحلقون حول أب وأم يقلبان ألبوما للصور، يتذكران تاريخ كل صورة، مكان التقاطها، حكاية كل ضحكة، نكتة عن كل انحناءة غريبة، أسماء الموجودين في الصور ومصائرهم. تتوالى اللقطات لتحكي تاريخ عائلة وأصدقاء في محطات واضحة حددتها نظرة الكاميرا ، تتقاطر الحكايات مثل عربات قطار ملون لا ينتهي، شغف بلا نهاية يجعل العائلة تلتف كل فترة حول الألبوم لتستعيد الحكايات والذكريات.
ما بين المشهدين؛ الأول والثاني، تقف الإنسانية عاجزة الآن ولا تعرف ماذا تفعل؛ فلم تعد الصورة ذاكرة إضافية للإنسان، تحفظ له بعض الذكريات السعيدة من النسيان، تهون عليه مر الأيام كلما عاد إليها لتذكرها؛ فالكاميرا التي أصبحت في كل هاتف في يد كل شخص تقريبا، امتهنت هذه الذكريات السعيدة، ليس هذا فقط، بل حولت «اللقطة» - مع كثرتها - إلى مجرد حدث عادي، لا يستحق الاحتفال.
قبل عشرة أعوام لم يكن الأمر هكذا، كان ثمة طقس بين الأصدقاء في المناسبات، وبين الأسرة في الأوقات التي يراد إضافتها إلى أرشيف العائلة، يتطلب الذهاب إلى «استوديو التصوير» ارتداء أجمل ما لديهم، الوقوف في وضعيات خاصة يطلبها المصور، الذي يقترب كي يعدل انحناءة رقبة، أو يغير اتجاه نظرة، أو يرفع خصلة شعر سقطت من مكانها، أو يضبط ياقة قميص، ثم يعود مرة أخرى إلى مكانه، يقول كلمة أو كلمتين، يرفع يده، ويضم إصبعا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم يضيء المكان بضوء الكاميرا المبهر. يضحك الجميع، ويبتسم المصور الذي يقف بين مظلتين، وفي يده كاميرا، كأنه صانع بهجة من نوع خاص، ومن عالم آخر.
تراجع كل ذلك، قل المارون أمام استوديوهات التصوير، أصبحت المهنة بالنسبة للعاملين فيها «قليلة الرزق»، مجرد تصوير أفراح قليلة، وصور صغيرة للجهات الحكومية. «السيلفي» الآن في كل يد، في كل مكان، على المقهى، في الجامعة، في الحافلة، في الطريق، في السرير، في المقابر. «السيلفي» يلتهم الروح، يلتهم جمال الإنسانية، لكن لا شيء يوقف «السيلفي» الذي تأتي صوره من البر والبحر والفضاء وكل مكان.
Bilinmeyen sayfa