ومغامرات «علي أمين» مع الصحافة كثيرة، يحكيها واحدة تلو الأخرى في كتابه، وكلها تدور حول أحلامه عندما كان طفلا، وكيف استطاع أن يفتح الأبواب المغلقة، وألا يستسلم لليأس، وأن يصبح صحافيا مشهورا. ولعل من ألطف حكاياته عندما قرر أن يصدر مجلة «التلميذ» عندما كان طفلا، وكان من المقرر أن يبيع خروفا لكي يسدد بثمنه تكلفة طباعة المجلة، فهرب الخروف في السوق، فاضطر أن يبيع ساعته، وأن يبيع شقيقه مصطفى دراجته.
كان الكتاب حاضرا في تفاصيل طفولتي بشكل كبير. تأكدت من ذلك وأنا أعيد قراءة الكتاب قبل أيام مستمتعا ومستعيدا ذكريات طفولتي، ورابطا بينها وبين ما يقصه ويرويه علي أمين في كتابه؛ لأكتشف مجددا أن هكذا هو «الكتاب»؛ أي كتاب - حتى لو كان البعض يراه غير مهم، أو ليس مهما لكثيرين - قد يؤثر فيك ويغير حياتك إلى الأبد، إذا قرأته في وقت كنت تحتاج فيه إلى ذلك، فسيبدو في هذه اللحظة مثل «مغارة علي بابا» التي فتحت على كنوز الدنيا بعد أن سمعت عبارة «افتح يا سمسم!» وساعتها ستعتبر هذا الكتاب «فانوس حياتك»، وكتابك الأول، وربما الأخير.
العودة إلى الماضي
عندما كنت في سنوات الدراسة الأولى، في الأعوام الأخيرة من القرن الماضي، كان هناك درس في كتاب اللغة العربية يتحدث عن العالم سنة 2000، وما الذي سيحدث فيه.
كان الدرس يتصور كيف سيصير العالم في القرن القادم الجديد، ومما أذكره أنه كان يتحدث عن أن السيارات سوف تسير بعصير القصب. كنت صغيرا، أمسك بعود القصب بينما أنا جالس في الحقل، وأنظر إليه مفكرا في الآلية التي ستحوله إلى بنزين، ولم تخطر ببالي وقتها أسئلة من عينة: هل سيكون هناك قصب 80، وقصب 92، وقصب 95؟ وهل سيكون مدعوما أم سيرفع عنه الدعم؟ وهل سنطلب من البائع لتر قصب، أم «لبشة قصب»؟
كما أذكر أنني ظللت طيلة آخر يوم في ذلك القرن (31 / 12 / 1999) متوجسا مترقبا لما سيفصح عنه الغد، فيما تملأ القنوات التليفزيونية أدمغتنا بأن غدا قرن جديد، وأن العالم سيتغير في القرن الجديد، وأن غدا شيء يختلف تماما عما نحن فيه، وتصب الصحف في آذاننا كلاما عن أن يوم القيامة غدا، مع أن المسيح الدجال لم يظهر بعد. وبين هذا وذاك، حرصت في تلك الليلة على أن أنام مبكرا حتى أستطيع أن أكون موجودا في القرن الجديد من أوله، وعندما استيقظت في الصباح لم يكن هناك شيء قد تغير.
أفتح عيني، فإذا أنا في سريري المعتاد، أدور بهما في الغرفة فأجد كل شيء كما تركته من قبل، أخرج لأفطر نفس الإفطار الذي أفطره كل يوم، أفتح التليفزيون لأشاهد نفس المذيعات والبرامج تقريبا، أنظر من النافذة أجد السيارات القديمة تسير كما هي، أرفع عيني إلى السماء لا أرى غزاة قادمين من كوكب آخر؛ إذن فالقيامة لم تقم، ولم يحدث شيء يوم 1 يناير 2000، كما أوهمونا. في ذلك الوقت سقط أمامي أي مستقبل متخيل أو يحاول أحد إيهامي به.
ربما يبدو ما أتحدث عنه الآن ماضيا للقارئ، لكنه كان مستقبلا في ذلك الوقت بالنسبة إلي، تماما كما كان عام 2000 مستقبلا لصناع أحد أعداد مجلة الهلال سنة 1950، والذي تخيلوا فيه مصر بعد خمسين عاما - أي عام 2000 - وتخيلوا وقتها أن مصر ستقوم بإقراض بريطانيا أقوى دولة في العالم وقتها، أما فكري أباظة رئيس تحرير مجلة المصور آنذاك فكتب في مقالته التي يتخيل أنه سيكتبها في يناير 2000: «أعارض أشد المعارضة القرض الذي اعتزمت حكومة مصر أن تقرضه لبريطانيا؛ فالمبلغ جسيم، وحقيقة أن ميزانية الدولة بلغت خمسمائة مليون من الجنيهات، وبلغ الاحتياطي مائتي مليون إلا أن أمام مصر مشروعات في تعمير الأقاليم الجنوبية حتى خط الاستواء، فضلا عن أن الضمانات التي عرضتها إنجلترا ضمانات ضعيفة غير موثوق بها، ولقد كان بوسع أمريكا أن تعاون في هذا القرض لولا الأزمة التي حلت بها في السنتين الماضيتين.»
هذا الخيال الجامح من الأستاذ فكري أباظة أكمله الكاتب الكبير توفيق الحكيم في مقال بعنوان «تحديات سنة 2000»، قال فيه إنه «بإمكان الفرد أن يتنزه لا إلى حديقة الحيوان كالمعتاد، بل بإمكانه أن يؤجر سفينة فضائية ويذهب ليزور خالته على سطح القمر.» طبعا يبدو أقرب تعليق بلغة هذه الأيام على ما مضى مقولة الفنان عادل إمام الشهيرة: «ناس طيبين أوي!»
لكن بعيدا عن عام 2000، ودرس اللغة العربية الذي لا أذكر منه شيئا آخر، وعدد الهلال التنبئي، كان عام 2014 بالنسبة إلي عاما فارقا لسببين؛ الأول: أن إحدى سلاسل الخيال العلمي التي كنت أقرؤها طفلا «ملف المستقبل» وصدرت عام 1984، بدأت أحداثها في عام 2014، وكانت تتحدث عن مخابرات علمية موجودة في مصر - لماذا تضحك؟ - كما أن أحد أفلام الخيال العلمي الشهيرة «العودة إلى المستقبل
Bilinmeyen sayfa