وعلى هذا المنوال، فكل ممثل أسمر اللون شهدته مصر في السنوات الماضية كان «النمر الأسود» أو خليفة أحمد زكي، وكل مطربة جديدة ستكون أم كلثوم الجديدة، وكل زعيم جديد هو امتداد ل «عبد الناصر». أما الذين يفكرون في تحرير القدس، فهم طوال الوقت ينتظرون «صلاح الدين» الجديد، وهي حالة الانتظار المتجذرة في الوعي الديني من «المهدي المنتظر» إلى «المسيح الدجال».
والملاحظة هنا ليست فقط الغرام بالشخصيات القديمة والسقوط في أسرها، بل وأسطرتها أيضا. ويمكن إحالة هذا إلى ظاهرة ثقافية أخرى متجذرة في الوجدان الشعبي، وهي «ميلاد البطل الشعبي»، وبطولته في هذه الحالة هي حالة التشابه بينه وبين رمز سابق تكونت أسطورته من دراماتيكية حياته (مرض عبد الحليم حافظ، تأثير النكسة على صلاح جاهين، علاقة أم كلثوم بثورة 1952، مرض أحمد زكي، فضلا عن الموت المبكر الذي لاحق معظم هؤلاء)، وهو ما يجعلنا نفكر في أسباب عدم وجود من يتم تشبيهه بفاتن حمامة على سبيل المثال، والإجابة هي أنها صنعت أسطورتها الخاصة من خلال فنها وليس من خلال دراماتيكية حياتها الشخصية. ومن هنا ظلت بعيدة عن المخيلة الشعبية وطريقتها في صناعة الأسطورة؛ لذا لا يرد المتخصصون في الأدب الشعبي مولد البطل إلى الفرد ذاته، بل إلى الجماعة والطقوس التي تقوم بدور الجهاز العصبي في حياة الجماعة؛ لذا قالوا إن الأساطير لم تكن إلا التعبير القولي عما يمارس عملا في الطقوس القبلية، وإن البطولة في تلك الأساطير لم تكن إلا تجسيما للوعي الجماعي، أو تعبيرا عن النظام الذي تقوم عليه حياة الجماعة. ومن هنا يصبح البطل (النجم الجديد) تعبيرا عن الجماعة أو عن وظيفة اجتماعية، لكن هذا لا يبدو كافيا في الفن؛ لأنه يحتاج في الأساس إلى موهبة، وآليات صناعة مختلفة عن تلك الآليات المستخدمة في خلق البطل (النجم) الشعبي.
وصناعة البطل، أو الأسطورة أو الرمز، تتجلى في ظاهرة ثقافية عربية أخرى؛ هي ظاهرة الألقاب التي يمنحها النقاد دائما لكل مبدع في مجاله، سواء عن وجه حق أو غير ذلك؛ لدرجة أن بعض الألقاب إذا فكرت فيها تبدو غريبة وغير مفهومة وغير ذات دلالة إلا أنها مجرد لقب، فقد يكون من المفهوم أن يكون هناك «أمير الشعراء» أو «شاعر الشباب» أو «رب السيف والقلم»، ويفهم منها أن الأول «أحمد شوقي» أفضل الشعراء، والثاني «أحمد رامي» جل إنتاجه موجه للشباب، والثالث «محمود سامي البارودي» كان ضابطا وشاعرا، وكان بارعا في المجالين، فإليه ينسب فضل إحياء القصيدة المعاصرة، كما دفع ثمن وطنيته بنفيه، لكن من غير المفهوم ألقاب شعراء مثل «شاعر الكوخ» الذي أطلق على الشاعر الراحل محمود حسن إسماعيل، أو «شاعر الجندول» الذي أطلق على الشاعر الراحل علي محمود طه، أو «شاعر الأطلال» الذي أطلق على الشاعر الراحل إبراهيم ناجي.
وقبل أن يفهم أحد أنني أشكك في شاعرية أي منهم، أود أن أقول إنني أعرف دورهم المهم في تطور القصيدة العربية الجديدة، فينسب إلى محمود حسن إسماعيل - مثلا - أنه أول من كتب قصيدة التفعيلة، لكن سؤالي هو ما الذي يعنيه لقب «شاعر الكوخ»؟ الإجابة طبعا أنه كتب ديوان «أغاني الكوخ»؛ ولذا أطلق عليه هذا اللقب. لكن الحقيقة هي أن اللقب لا يعني شيئا، ولا يضيف شيئا، وهو ليس أكثر من مجرد لقب حتى يصبح شاعرا «ذا لقب»، لا يضيف شيئا إليه ولا إلى شاعريته، ولا يضيف له قيمة، ولا يصف حتى دوره.
ويذكرني هذا بإعلانات شهيرة انتشرت قبل أكثر من عقد من الزمان في شوارع القاهرة على جدران المترو وأسوار المدارس لكاتب مغمور اسمه محمود عبد الرازق عفيفي، أطلق على نفسه لقب «أديب الشباب»، لم يكن أحد يعرفه، وكان يكتب أدبا أصفر، لكنه أدرك أنه لن يصبح معروفا ما لم يطلق على نفسه لقبا، فأغرقت إعلاناته جدران القاهرة، بجوار إعلانات مدرسي الدروس الخصوصية «صاروخ الكيمياء» و«آر بي جي الفيزياء». وهذه الظاهرة نراها موجودة الآن في السينما بصورة مكثفة، فكل ممثل قدم عملين دراميين نجد من يشتق لقبا له من أحد عمليه سواء كان «قطة السينما» أو «بلطجي الشاشة» ... وهكذا، وهي الظاهرة التي لا نجدها في الغرب، فلم نسمع عن لقب منح لممثلين كبار مثل آل باتشينو، أو أنتوني هوبكنز، أو ميريل ستريب، على سبيل المثال. ويمكننا هنا أن نمد الخيط على امتداده ونقول إن هذا موجود في التعاملات العادية في الشارع، وهو ما يعني أنه جزء من تكوين الثقافة الشعبية، فإذا كانت الألقاب الرسمية قد ألغيت مع الثورة، فإنها ما زالت سارية بشكل غير رسمي، بالإضافة إلى عشرات الألقاب التي يمكن أن يناديك بها الناس إذا سرت في الشارع بداية من «يا باشا» إلى «يا برنس»، ومن «يا هانم» إلى «يا عروسة».
وإذا عدنا لأصل الفكرة التي نناقشها، فسنجد أن محاولة التشبيه بالقدامى هي في جزء منها محاولة لمنح لقب جديد، لكنه مرتبط بحنين إلى الماضي، ومحاولة لاستعادة أمجاد ما مضى، وهو ما يمكن تفسيره باضمحلال الواقع الحالي، فلو كان الواقع يعبر عن نفسه بشكل جيد، ويفرز نجومه في مجالات الإبداع المختلفة لما ظل الناس متعلقين بهذا الشكل بالماضي، وهو التفسير الذي لا ينفي أيضا الرغبة العربية العارمة دائما في تقديس ما سلف وأسطرته.
والإجابة دائما لمن يقول إننا في انتظار «المتنبي» الجديد، بسيطة جدا؛ وهي أن المتنبي صنع مجده باختلافه عمن سبقه ومن جايلوه، فماذا سيصنع الصوت الجديد؟ وبمناسبة الصوت، فدار الأوبرا تمتلئ بعشرات الأصوات القوية التي تشبه وتقلد أم كلثوم، لكن لا أحد يسمع عنها، وعلى مدار السنوات الماضية، قدمت وسائل الإعلام عشرات أخرى من الأصوات التي وصفتها بأنها أم كلثوم جديدة، ومع ذلك لم يبق منها شيء، والسبب يرجع إلى أن أدوات تكوين أم كلثوم الثقافية والاجتماعية والسياسية مختلفة، كما أن العوامل التي كونت «فكرة أم كلثوم» ذاتها تغيرت، وهي غير قابلة للتكرار، كما أن آليات الاستقبال والتذوق تغيرت؛ لأن كل عصر يفرض أدواته وآلياته.
ورغم أن البعض يقول إن التاريخ يعيد نفسه، لكن أظن أن أخطاء الإنسان وعدم تعلمه من دروس الزمن هي التي تجعله يعتقد ذلك؛ لأنه إذا تكررت المعطيات الموجودة طوال الوقت وتكررت نفس ردود الفعل، فمن الطبيعي أن تتكرر النتائج، لكن في الفن أنت لا تستطيع أن تتحكم في الذوق الجمعي الذي هو نتاج عصارة اجتماعية وسياسية وفكرية عصرية.
وأعتقد أن الناس لا يريدون من يكرر لهم الماضي حتى لو قالوا ذلك؛ لأنهم يحبون الماضي كما هو، بصورته الذهنية المرتسمة لديهم عنه، ورغم السعي طوال الوقت للتشبه بالماضي، وتشبيه كل «مبدع» جديد بأحد الرموز القديمة، فهذا ليس أكثر من انعكاس الوجه في صفحة النهر، يدرك الجميع أن حصاة صغيرة ستضيع كل ما تشكل في الماء.
ما يحتاجه كل مبدع هو أن يكون ذاته، لا أن يكون غيره؛ لأن غيره كان موجودا بالفعل وترك بصمته، وما يحتاجه المبدع هو أن يضع بصمته الجديدة بجوار بصمة من مضى؛ فمن دون هذا لن يكون له وجود. ففي كل يوم تصدر المطابع مئات الكتب لا يبقى منها إلا الصوت الحقيقي القادر على البقاء، وصنع أسطورته الخاصة، سواء حمل لقبا أو ظل حرا طليقا كريشة في الهواء، هي لقب ذاتها.
Bilinmeyen sayfa