لست معنيا هنا بالقول بأفضلية أحد الفنين على الآخر؛ فالفن في النهاية واحد، أيا كانت الطريقة التي يقدم بها. لكن في معظم الحالات تكون البداية من الشعر. كل الروائيين بدءوا بكتابة الشعر في صباهم، قبل أن يتجهوا للرواية. الشعر كان هو ضربة الموهبة الأولى، لطخة الفرشاة الأولى التي ستشكل الرسم، السلمة الأولى لصعود الدرج، اكتشاف بدايات الدهشة. حتى في الخيال الجمعي الشعبي؛ يبدو الشاعر هو القادم من «وادي عبقر»، الذي يحمل السحر، ربما يمكن رد هذا إلى حداثة فن السرد العربي نسبيا، لكن الأمر أبعد من ذلك في العقل الباطن.
الشعراء عادة يتجهون لكتابة الرواية، لكن قلما تجد روائيا اتجه لكتابة الشعر. هذا لا يعني أيضا صعوبة أحدهما عن الآخر، لكن مفهوم الشعر يبدو ملغزا قليلا لمن لم يكتبه منذ البداية. لا أتكلم هنا عن «العروض»، أو «التفعيلات والقوافي»، فقد تجاوزت قصيدة النثر ذلك من زمن، لكنها هالة الشعر التي تختصر كل شيء في كلمات قليلة.
الشعر يطرح الأسئلة، والرواية تقدم أجوبتها. الشعر هو اللغز، والرواية هي المفتاح الكامن بين الورق. الشعر كلمة، والرواية فقرة. الشعر سير فوق السحاب، الرواية انتظار نزول المطر. الشعر من عالم آخر، الرواية من هذا العالم. الشعر هو السراب، الرواية هي الماء الذي كان سرابا. الشعر قائم بذاته حتى لو اعتمد على السرد، الرواية وعاء جامع يستطيع أن يضم كل الفنون. الشاعر يملك عيني صقر تنظران للمشهد من أعلى، والروائي يسير في الدروب بحثا عن خيط طويل. الشاعر يفضل أن يحمل لقب «شاعر» حتى لو كتب الرواية، الروائي يتمنى أن يصبح شاعرا. قراء الشعر قلة لأنهم نخبة، الرواية أكثر انتشارا حتى بين العامة. الشعر لا يصل إلى «البيست سيلر» ولا يهتم بذلك، الروايات - حتى الرديئة منها - تصبح الأكثر مبيعا. الشاعر بجناحين، الروائي يقود دراجة في حي شعبي. الشعر صوت الرعد وضوء البرق ونزول المطر، والرواية صعود البذور من الأرض في شجيرات. الشعراء من السماء والروائيون من الأرض.
هل أنا منحاز للشعراء؟ طبعا.
فنية الغناء في «الحمام»
في إحدى حلقات برنامج المواهب «أرابس جوت تالنت
Arabs Got Talent »، في موسمه الرابع، قدم أحد المتسابقين نفسه، بأن موهبته أنه «يأخذ حماما»؛ كان يقصد أنه يغني وهو يقوم بالاستحمام. وبالفعل، دخل «حماما» مغلقا لا يظهر منه إلا رأسه، وبدأ الغناء وسط انهمار المياه عليه، ووسط سخرية لجنة الحكام وضحكات الجمهور.
هذا المشهد، رأيناه من قبل في فيلم «إلى روما مع الحب» الذي أخرجه وقام ببطولته «وودي آلان»، وكان يقوم فيه بدور منتج أوبرا معتزل، يفاجأ بأن هناك متعهد جنائز يتمتع بصوت عذب عندما يغني أثناء «الاستحمام»، ويصبح صوته سيئا إذا حاول الغناء خارج حدود ذلك، فيقرر أن يقدمه للجمهور على خشبة المسرح، وهو يغني أسفل «الدش»، داخل حمام متنقل، مثل الذي قدمه متسابق البرنامج الشهير.
لاقى الفيلم نجاحا كبيرا، ولفتت شخصية «مغني الحمام» الانتباه، بفنيتها وطرافتها وغرائبيتها، لكن لم تفعل ذلك الشخصية الحقيقية في برنامج المواهب. هل هذا يعني أن الفن يضفي هالة على الشخصية، ويمنح متعة إضافية للمتلقي، حتى لو كانت الشخصية غير اعتيادية في الواقع؟
ثمة مثال آخر: فقبل أعوام أمطرت السماء ضفادع في اليابان، ووقعت أحداث مشابهة تعرف بتسمية «فافروتسكايز» (مختصر السقوط من السماء) في أماكن أخرى حول العالم؛ حيث حملت زوابع عابرة ضفادع وقناديل بحر. وبعيدا عن التفسير العلمي لذلك؛ فإن استقبال المتلقي كان مختلفا عن مشهد سقوط الضفادع نفسه في الفيلم المهم «ماجنوليا» الذي كتبه وأخرجه «بول توماس أندرسون»، أو مشهد سقوط الأسماك من السماء في رواية «هاروكي موراكامي» الأشهر «كافكا على الشاطئ».
Bilinmeyen sayfa