أما الحاكم وابنه فقد ظلا حاقدين ومؤملين تنفيذ مأربهما في فرصة أخرى، على أن الحاكم كان عالما بأنه تجاوز حده فأصبح خائفا.
ولما نزلت الفتاة في بيتها أخذت تبحث عن طريقة نجاتها وعيناها لا تتحولان عن الباب في انتظار قدوم خطيبها لتشكره على مساعيه، وهي تستغرب حدوث ذلك منه، وتعجب بشهامته، وكان قد خرج في حاجة وما لبث أن عاد والتقى بمارية وجلسا يتشاكيان الغرام.
الفصل السادس
أرمانوسة في بلبيس
تركنا أرمانوسة في قصر حاكم بلبيس على مثل الجمر في انتظار بربارة لتعلم ما جرى أو ما كان من أمر حبيبها، وكانت جالسة إلى النافذة تفكر في حالها وما هي فيه من الخطر بين أن تذهب ضحية عواطفها أو تسلم نفسها إلى من لا تحبه، فأخذت تتلهى بما يقع عليه نظرها من بلبيس وضواحيها، فرأت القصر الذي فيه أرفع مكان في المدينة، ورأت الناس يتزاحمون في بعض الأسواق. والجند يهتمون في بناء الأسوار أو ترميمها، وشاهدت على الأسوار أبراجا عليها الأعلام الرومانية، ووراء الأسوار سهول بعضها رملي وبعضها غياض فيها الأغراس من النخيل والكرم، تتخللها أبنية قديمة أكثرها قد تداعى إلى الخراب فهجرها الناس.
وبينما هي في ذلك، وقد خيم الغسق، جاءتها إحدى الجواري فوقفت بين يديها فقالت: «ما وراءك؟» قالت: «امرأة الحاكم تسأل عن حضرتك وتريد المثول بين يديك.» فتكدرت أرمانوسة من تلك الزيارة لرغبتها إذ ذاك في الخلوة لتفكر في حالها، ولكنها رأت أن تأذن لها لئلا تستنكر أمرها أو تحسب ذلك خشونة منها، فقالت: «لتدخل.» فدخلت وقد تزينت بأحسن ما لديها من اللباس احتفاء بنزيلتها، وكان لباسها رومانيا مع أنها غير رومانية ولا مصرية، ولكنها من عائلة فارسية قديمة قد شاركت المصريين في معتقدهم وعاداتهم، وهي تناهز الأربعين من العمر، فوقفت لها أرمانوسة ورحبت بها وأجلستها إلى جانبها وأخذت تبش لها وتحادثها، فقالت المرأة: «لقد نزلت أهلا ووطئت سهلا، ونحن نعد أنفسنا سعداء بنزولك بيننا، ونطلب إليه تعالى أن يتمم أسباب سعادتك باقترانك بابن إمبراطورنا المفخم.» قالت ذلك وهي تظن أنها تسرها به، فاضطربت أرمانوسة عند سماعها أمر الاقتران، فتجلدت وأظهرت ارتياحها لذلك التلطف بغير أن تجيبها حياء، ولكنها غيرت الحديث قائلة: «إني أعد نفسي سعيدة أيتها السيدة الفاضلة.»
فقالت المرأة: «وأرجو أن تكوني مسرورة من إقامتك في بلبيس، وأن تتمتعي بما تريدينه، وتأمرينا بكل ما ترتاحين إليه، فإننا أوقفنا أنفسنا لخدمتك.»
قالت أرمانوسة: «أشكرك جزيلا فقد استأنست بك كثيرا، وأشعر بارتياح كبير إلى لطيف حديثك.»
فقالت المرأة: «وإن أكن يا سيدتي فارسية الأصل فإني أعد نفسي وطنية؛ إذ قد ولدت في هذه البلاد وربيت فيها، وآنست من أهلها رقة ودعة تنسي الغريب بلاده، وبخاصة ما نلاقيه من مولانا والدك من الأنس واللطف والاهتمام بشئوننا، وقد سمعت زوجي يقول إنه مسرور سرورا عظيما لاختيارك بلبيس موطئا لقدميك، فإنه يزداد فخرا بقدوم مولانا قسطنطين إمبراطور الرومان إليها، وهذا شرف قلما تحصل عليه مدينة، فنطلب إليه تعالى أن يعجل بمجيئه لنفرح بك ونراك عروسا لابن الإمبراطور.»
فوقعت هذه الكلمات في أذني أرمانوسة وقع الصاعقة حتى كادت الدموع تتناثر من عينيها لعظم تأثرها، فحولت وجهها إلى النافذة ولم تبد جوابا، فحملت المرأة ذلك منها على الحياء من التكلم في أمر الزواج، وأرادت أن تبالغ في ملاطفتها فقالت: «يظهر أنك غير مرتاحة أيتها السيدة إلى حديث العجائز، فهل أدعو لك ابنتي قسطنطينية لتجالسك؛ فإنها فتاة في سنك ترتاحين إلى حديثها، ولا سيما أن اسمها يشابه اسم خطيبك؟»
Bilinmeyen sayfa