غير أننا ما زلنا نقاسي الاضطهاد ممن خلفوه إلى أن تولى العرش الإمبراطور الطيب الذكر ثيودوسيوس الأعظم منذ قرنين ونصف قرن، وكان حسن الإيمان فأفرج عن الأقباط، وبعث إلى مصر بهدم الهياكل الوثنية وبناء الكنائس على رغم الشعب الروماني، وكان في الإسكندرية هيكل اسمه هيكل سيرابيس فيه صنم هائل كسروا فكه بالفئوس فتراكضت منه أسراب من الفيران كانت تعيش فيه فسقطت منزلته لدى الوثنيين أنفسهم، ومن عهد ثيودوسيوس هذا ثبتت الديانة المسيحية وأخذت تنتشر، وعمد المصريون إلى إقامة الكنائس حتى قام ما قام من الانشقاق بين لاهوتيي الإسكندرية ولاهوتيي القسطنطينية بسبب مسألة الطبيعة والطبيعتين، مما جر علينا هذا البلاء، والبقية تعرفونها.»
قال مرقس: «وماذا كان من أمر الفرس وإخواننا الأقباط بعد أن جمعوهم في مكان واحد؟» قال الشيخ: «سمعنا أنهم قتلوا الآلاف منهم صبرا، فلما سمعت بالواقعة حملت أولادي وأهلي وما خف حمله من المال، وخرجت حتى جئت هذا الموضوع وأقمت به، وقد خسرت كل ما ملكت يداي، ورضيت بالفقر والمسكنة تخلصا من الموت. أما الفرس فإنهم تمكنوا من دخول القسطنطينية وهي عاصمة الروم كما تعلمون، ثم علمت أن الروم لما رأوا ضعف ملكهم «فوقا» عزلوه ونصبوا «هرقل» هذا، وكان قبلا واليا على أفريقية، فجاء القسطنطينية وقتل فوقا وإخوته، وحارب الفرس مرارا، ثم يئس من الفوز، فعزم على أن ينقل مقر ملكه إلى تونس، ولكن ذلك عظم على الروم، وقام البطريرك إذ ذاك وشد أزره، فرجع إلى محاربة الفرس، فمكنه الله منهم حتى دفعهم عن بلاده، وعادت مصر إلى حوزته، ولكنه عاد إلى ما كان عليه أسلافه من الاستبداد بنا واضطهاد بطاركتنا، وكان على الإسكندرية البطريرك بنيامين التقي الورع فاضطهده واستبدل به بطريركا اسمه قورش، وأراد هذا القبض على بنيامين ففر من الإسكندرية إلى برية أسقيط، وأقام في «تيبايس» حيث يكثر نصراؤه، وهو هناك إلى الآن.
على أن هرقل لم يكتف بهذا العمل، فلما فاته القبض على البطريرك قبض على أخيه مينا، وكان لا يزال في الإسكندرية، وأرسله مغلولا إلى القسطنطينية، وقد سمعت أن هرقل تملقه استجلابا له حتى يسلم برأيه وهو التعليم بالمشيئة الواحدة والطبيعتين، فلم يذعن له، فأمر به فطرح في النار حتى كاد يحترق، ثم أخرجه منها وجعل يلكمه على فكيه حتى سقطت أسنانه، وأمر بكيس فملئ رملا ثم وضعه فيه وأمر بإلقائه في البحر حيث مات شهيدا.»
وسكت الشيخ قليلا، ثم استأنف حديثه فقال: «هذه حكايتنا يا ولدي حكيتها لكم كما شاهدتها، وتحدثني النفس أحيانا أن هؤلاء العرب يعاملوننا معاملة الفرس والرومان فتكون البلية الثانية شرا من الأولى، ثم تخطر ببالي معاملاتهم للبلاد التي افتتحوها إلى الآن فأراهم أفضل لنا من الروم.»
ولم يستطع الشيخ أن يتم حديثه لشيخوخته وضعفه، وكان الجنديان وبربارة وسائر الحضور مصغين إليه وقد ارتاحوا إلى حديثه واستأنسوا به، فالتفت مرقس إليه وقال: «قد سرنا حديثك أيها الشيخ، ولك شكرنا على ما جئتنا به من الفوائد، وقد صدقت في قولك بأننا خلقنا لنشقى، ولكننا نتوسم في قدوم هؤلاء العرب خيرا. أما إذا غلبتهم الروم فإننا في حوزة الروم نحارب بسيفهم، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، وإلا فإننا نكون مع الغالب.»
ثم نهض من مجلسه ودنا من الشيخ وهمس في أذنه قائلا: «إن مولانا المقوقس مصمم على ما ذكرت، فإذا رأى الغلبة للعرب انحاز إليهم، وهو سيدنا ووالينا، ولولا الحامية الرومية المراقبة لأعماله لفتح للعرب صدر بلاده ولم يرم عليهم نبلا.»
فقال جرجس - الجندي الآخر - وكان يسمع حديثهما: «ولكن كيف يكون هذا عزمه ويزوج ابنته لقسطنطين بن هرقل ويحملها بنفسه إلى بلبيس؟!»
فقطع الشيخ عليه الكلام قائلا: «لا تتجاهل يا ولدي الحقيقة. كيف تستغرب ذلك وأنت تعلم أن تمنعه يجر وبالا على جميع الأقباط، وهو يود كتمان هذا الأمر عن كل إنسان إلى أن يقضي الله ما يشاء.»
أما بربارة فكانت مستأنسة بالحديث فلما ذكرت حكاية أرمانوسة وقسطنطين تذكرت سيدتها وما تحمله إليها من الأخبار المهمة، وخافت أن يسبق السيف العذل فيأتي قسطنطين ويأخذ سيدتها قبل وصولها إليها بخبر أركاديوس، فقالت للشيخ: «اسمح لي أن أتطفل عليك بالسؤال عن أمر يهمني، سمعتك تقول خلال كلامك أنك عرفت رجلا قادما من الشام، وهو الذي أخبرك عن معاملة العرب لأهلها، فهل أخبرك بشيء عن مجيء قسطنطين.»
قال الشيخ: «أظنه قال لي إن قسطنطين قتل في بعض المواقع، ولكنني لم أتحقق الخبر.»
Bilinmeyen sayfa