قال: «قلت يظهر أن الفرج قد اقترب؛ وأعني أن الله قد أراد إنقاذنا من هؤلاء الظالمين. ولكنني أتكلم الآن وأخاف أن يسمعني واحد منهم.» فقال الجنديان: «قل ولا تخف، ليس منهم أحد هنا.»
فقال الشيخ: «سمعت من بعض جالية الشام أنه ظهر في بلاد العرب رجل عظيم دعا الناس إلى دين جديد، والتفت حوله عصابة قوية من الرجال الأشداء، حاربوا الروم في بلاد الشام وغلبوهم، ويلوح لي أنهم لا يقعدون عن طلب مصر؛ فإنها أخصب بلاد الروم وأكثرها نتاجا، ولا أظنهم يلاقون في فتحها مشقة، وقد سمعت بالأمس من بعض رجال مولانا المقوقس أن هؤلاء العرب قد عولوا على القدوم إلينا، والظاهر أنهم لا يزالون بعيدين.»
فقال مرقس - وكان أفصح من رفيقه جرجس وأكثر منه جرأة: «ما الموجب لظنك بعدهم؟»
قال: «لأني أرى سيدي المقوقس ذاهبا بموكبه يهتم بتزويج ابنته أرمانوسة بقسطنطين بن هرقل، وهذا ما علمته أيضا من هؤلاء، فلو كان العدو على الأبواب ما حمل ابنته إلى بلبيس وهي في طريق العدو إذا جاء من ناحية الشام.»
فقال مرقس: «إن المصائب قد كتبت علينا ولا ندري عاقبة هذه الحروب، ولكنا نرجو النصر لنا؛ لأن حصوننا ومعاقلنا منيعة، وليس هؤلاء العرب إلا فئة قليلة من البدو يركبون الجمال ويرعون الماشية، وأما جنود الروم فرجال محنكون، وأما هرقل فإنه شديد البطش، وقد حدثني أبي أنه هو الذي أخرج الفرس من مصر بعد أن ملكوها ورسخت أقدامهم فيها.»
فهز الشيخ رأسه ومشط لحيته بأصابعه كأنه تذكر أمرا ساءه، ونظر إلى مرقس وقال: «لقد ذكرتني يا ولدي أمورا كادت تذهب من ذاكرتي. نعم إن هرقل أخرج الفرس من مصر بالقوة، ولكنه لا يستطيع دفع العرب عن بلاده، والظاهر لنا من حاله وحالهم أن دولته قد دنا أجلها؛ لأن النصر مرافق لهؤلاء القوم، فلم يهاجموا مدينة إلا فتحوها، حتى ملكوا الشام والقدس والعراق واليمن وغيرها، ولم تستطع جنود الروم الوقوف أمامهم، وما ذلك إلا لما أراده الله من انقسامنا وقيام بعضنا على بعض، وإلا ما كان العرب ولا غيرهم يقوون على جندنا، وكيف يستطيع هرقل دفع هذا العدو عن بلاده وهو على ما تعلم من حاله معنا؟! أتظن القبط إذا جاءهم العرب محاربين يقاومون حبا للروم؟! بل أقول لك وأنا أحد الأقباط إني أفضل أية دولة تحكم هذه البلاد على دولة الروم لما قاسيناه من جورهم واستبدادهم؛ نعم إنهم مسيحيون مثلنا ولكن الوثني خير منهم، اسألوا هذه الشيبة فتنبئكم بما قاسيناه من ذلك؛ فكم هدموا من كنائسنا، وأهلكوا من بطاركتنا، وجردونا من أملاكنا، أهذه أعمال مسيحيين؟! انظروا إلى هذه البساتين؛ فإني أعمل في فلاحتها مع أولادي وأحفادي فنزرعها كرما ونخيلا فلا يبقى لنا من النخيل إلا بعض القطع نجعلها سقوفا لبيوتنا، وقليل من التمر نأكله، ولا يكاد يبقى لنا من الكرم إلا بعض العنب نصطنع منه شيئا من الخمر، وأما الباقي فيأكله المارون من جند الروم ويغتصبه الجباة وغيرهم، فضلا عما يسوموننا من الخسف والذل. أما ماشيتنا فنصيبها مثل نصيب الزرع أيضا، وبعد أن كانت ثيراننا عشرة نستخدمها للركوب أو لجر الأثقال لم يبق لنا منها إلا هذا الثور، وقد سمعت من رجل قدم من الشام حديثا أن العرب بعد أن فتحوا الشام أمنوا النصارى على أموالهم وأعراضهم، وأباحوا لهم الصلاة في معابدهم لا يعارضهم أحد في ذلك، أليسوا إذن خير من الروم؟!
ولكن آه من حظنا نحن المصريين؛ فإن الشقاء قد كتب علينا، وأذكر يوم جاء الفرس بلادنا منذ أربعين سنة - وقد كنت كهلا، وكان مقامي في الإسكندرية أتجر في الغلال والذرة، وكنت في سعة من العيش - أننا سمعنا أن دولة الفرس قامت على الروم، وكان ملك الروم إذ ذاك يدعى «قوقا»، وكان ضعيفا فحاربوه وفتحوا الشام وقدموا مصر، وكان ملك الفرس يدعى كسرى، وقد اشتهر بشدة البأس، فلما سمعنا بقدوم جنده إلى مصر قلنا في أنفسنا عساهم أن يكونوا خيرا لنا من الروم فننجو من جورهم، ولكن وا أسفاه، لم يمض زمن حتى علمنا بدخولهم بلادنا، وكانوا كلما دخلوا بلدة قتلوا أهلها وخربوا كنائسها، وكسروا نخيلها، وقد أحصي عدد ما أحرقوه من الأديار فبلغ ستمائة، فأسقط في يدنا وخفنا عاقبة أمرهم، إلى أن وصلوا إلى الإسكندرية وأخذوها، فأظهروا لنا في بادئ الأمر أنهم يريدون بنا خيرا، ولكنهم عاملونا بعدئذ معاملة لم يعاملنا بمثلها الروم؛ وذلك أنهم دعوا أهل المدينة إلى الاجتماع زاعمين أنهم يريدون الإنعام عليهم وإكرامهم، فتقاطر الناس أفواجا إلى مكان الاجتماع، ولم أستطع الذهاب إليه لبعده وانشغالي بعملي، وكان اجتماعهم في قاعة كبيرة منيعة السور، في المكان الذي كان أجدادنا المصريون يعبدون فيه الصنم سيرابيس، وحكاية هذا الصنم تذكرني بما أتاه أباطرة الرومان القدماء من الخير لبلادنا، وما جاء به هؤلاء المتأخرون من الشر.»
الفصل الرابع
المسيحيون ومظالم الرومان
قال مرقس للشيخ وقد حلا له حديثه؛ لكثرة ما أفاد منه: «وما حكاية الصنم سيرابيس يا سيدي؟» فقال الشيخ: «لا يخفى عليكم يا أولادي أن أجدادنا المصريين كانوا يعبدون الأصنام التي ترون بعضها أمامكم، وأمثالها كثير في أنحاء القطر، وبعد أن ظهرت الديانة المسيحية ودخلت هذه الديار تنصر أجدادنا الأقباط وبقي حكامنا الروم على اعتقادهم الوثني، وأذاقونا العذاب والاضطهاد ألوانا، وأشد تلك الاضطهادات ما هو معلوم بيننا من أمر الإمبراطور دقلديانوس المشهور بظلمه، وهو الذي قتل الشهداء منذ ثلاثة قرون أو أكثر، فكان ذلك شر ما جناه الروم علينا، حتى إذا ما تولى قسطنطين الأكبر اعتنق الديانة المسيحية وحمى المسيحيين، وكانت أمه القديسة هيلانة التي ذهبت وعثرت على صليب المسيح كما تسمعون.
Bilinmeyen sayfa