أما بربارة فذهبت إلى غرفتها وهي تعجب لما وقفت عليه من أمر أرمانوسة، وقد خافت عليها من وطأة الحب، ولا سيما أن حبيبها من أعداء أبيها، والبلاد في حالة حرب لا تتيح لها السعي فيما تريد، ولكنها وطنت النفس على ما في وسعها خدمة لسيدتها.
وكانت بربارة ذات رأي صائب وحيلة محكمة، وسيطرة على من في القصر من الخدم؛ لأنها من أكثر الناس تقربا من المقوقس الذي كان يحترمها ويصغي إلى مقالها، وكانت هي تحب أرمانوسة كثيرا ، فلما أقبل الصباح جاءت إلى سيدتها وقد استيقظت من رقادها فأعدت لها ثيابها وأمرت الخدم أن يهيئوا معدات السفر فأعدوا المراكب وأنزلوا فيها المؤن، وجاءوا بقارب خاص لأرمانوسة وحاشيتها، ومضى ذلك اليوم في الاستعداد وأرمانوسة لم تذق طعاما، فلما جن الليل أظلمت الدنيا في عينيها، وهاج بلبالها لعلمها أنها تاركة قصر والدها في الصباح وقد لا تعود له، فقضت الليل في البكاء خفية، وأهل القصر فرحون بسفرها لملاقاة خطيبها، وهم لا يعلمون بمكنونات قلبها إلا بربارة فإنها سألتها قائلة: «أأذهب معك أم أبقى هنا لأستطلع أمر أركاديوس؟» قالت: «إن ذهابي وحدي يشق علي كثيرا؛ إذ ليس بين هؤلاء من أركن إليه فأبثه شكاتي، ولكنني كذلك أود ذهابك إلى الحصن لتري أركاديوس. لعله إذا علم بما سيحل بي شاركك في تدبير وسيلة لإنقاذي، وأنا أعلم أنه باسل، إذا أراد أمرا لم يرجع حتى يناله، وها إني ذاهبة إلى عين شمس لأرافق أبي إلى بلبيس، وسأنتظر خبرا منك قبل وصول ذاك الذي لا أحبه ولا أريده. فإذا أبطأ الفرج فقد تسمعين ما لا يسرك.» قالت ذلك وترقرقت الدموع في عينيها، فبكت بربارة لبكائها وهونت عليها قائلة: «لا، لا سمح الله بأن يحدث غير ما يسرك، فاذهبي على بركة الله وعلي تدبير الأمر ...»
وفي صباح اليوم التالي ارتدت أرمانوسة أفخر ثيابها، وأحاط بها الخدم والجواري، وأنزلوها إلى زورقها الخاص بين الألحان والأنغام، وهي تجر ذيل ثوبها المزركش بألوان تبهج الناظرين، وقد ضفرت شعرها وزينته، وتقلدت حليها الفاخرة وفيها رأس الثعبان المرصع على رأسها، والأقراط في أذنيها، وجعلت على صدرها قلادة من الذهب تتدلى منها زوائد من الذهب، وفي يدها سواران من الذهب الخالص كذلك على شكل ثعبانين ملتفين على معصميها، وفي موضع عيونها حجارة من الزمرد الثمين، وتمنطقت بمنطقة من الحرير المزركش بالقصب النقي، وأرخت طرفيه إلى جنبيها.
فلما وصلت إلى الزورق أجلسها البحارة في مكانها، وجواريها بين يديها فيهن الحبشيات والنوبيات وبعض الروميات، ونزل الرجال في زوارقهم وقد نشرت الشراع وتحركت المجاديف ، حتى إذا مرت الزوارق بالقرب من حصن بابل وقفت برهة ريثما يفتح لها الجسر الموصل بين الحصن وجزيرة الروضة، وهو مصنوع من قوارب مشدود بعضها إلى بعض، تغطيها ألواح غليظة من الخشب، فتلفتت أرمانوسة نحو باب الحصن الجنوبي لعلها ترى حبيبها مارا أو واقفا ولكن القوارب مرت دون أن تراه.
الفصل الثالث
أركاديوس
مكثت بربارة بقية ذلك اليوم في القصر، وهمت في اليوم التالي بالمسير إلى الحصن قبل قدوم الجيش، فركبت سفينة حتى أتت الجسر الممتد بين الجيزة والروضة فقطعته على قدميها إلى الجزيرة، ثم عبرت الجسر الآخر الممتد بين الجزيرة والحصن، فدخلت من بابه الجنوبي الكبير فلم يعترضها الحرس لأنهم يعرفونها، فصعدت إلى كنيسة المعلقة، فلاقتها الراهبات هناك واحتفين بقدومها لما يعلمن من منزلتها عند المقوقس، فتظاهرت برغبتها في زيارة الكنيسة وتقبيل الأيقونات، ثم أخذت تفكر في طريقة توصلها إلى مرامها، فلما كانت الظهيرة انتشر خبر قدوم الجنود في الحصن، وأخذت الراهبات يتساءلن عن سبب ذلك، فلما علمن بحقيقة الحال جعلن يصلين ويتضرعن إلى الله تعالى أن يلطف بهن ويهيئ ما فيه الخير، ورأت بربارة أن تمكث هناك تلك الليلة تنتظر ما يكون، فلما كان المساء وصل الجنود مدججين بالسلاح، وفي مقدمتهم موكب يرأسه أركاديوس بن الأعيرج وعليه لباس قواد الرومانيين، فلما رأته خفق قلبها قلقا على سيدتها ومكثت تلك الليلة ساهرة تدبر الحيلة، بينما الجند يعدون معدات الدفاع من هدم وبناء، والراهبات يتضرعن إلى الله أن ينجيهن من عاقبة تلك الحرب.
ولما خيم الغسق، سمعن طرقا عنيفا على باب الدير، وجلبة وقرقعة نصال، ففرغت الراهبات، وذهبت أحداهن لفتح الباب وفرائصها ترتعد، فلم تكد تفتحه حتى دخل منه جماعة من الجند الرومان يتقدمهم شاب في لباس فاخر على رأسه الخوذة الرومانية وإلى جانبه السيف الصقيل، وقد تقلد الخنجر في منطقته وارتدى طيلسانا يجر ذيله وراءه، فلما رأته بربارة عرفت أنه أركاديوس، وسمعتهم يكلمونها بلسانهم فلم تفهم مرادهم، ثم تقدم واحد منهم وكلمها بالقبطية قائلا: «إن القائد يأمركن بإخلاء هذا المكان ليجعله معقلا لفرقة من الجند؛ لأنه واقع فوق باب الحصن.» فنادت بربارة رئيسة الدير وأفهمتها الأمر، فتضرعت هذه إليهم أن يختاروا مكانا غير الدير لأنهن لا يعرفن مكانا يلتجئن إليه سواه، ولكنهم أصروا على عزمهم، ولم ينتظروا رضاءهن بل جعلوا ينتهرونهن ويصيحون بهن، فخرجن يولولن ويصحن باكيات، وخرجت بربارة معهن، ولم يكن أحد من هؤلاء الرومانيين يعرفها، ولو عرفها أركاديوس أو عرف ما جاءت من أجله لأذعن لما أرادت، فذهبت الراهبات وبربارة معهن إلى مأوى تحت الكنيسة كن يدخرن فيه مئونتهن من الطعام والشراب. فجلسن هناك وقد علا صياحهن وعويلهن، فدنت بربارة من الرئيسة وخاطبتها على انفراد، ووعدتها بإعداد وسيلة تنجيهن من تلك الحال.
فقالت الرئيسة: «وما الوسيلة وقد أصبح هؤلاء الجند أبغض إلينا من عدو يغتالنا؟! أما كفانا ما يسوموننا من الخسف والجور وإهانة رجالنا وقتل بطاركتنا، حتى جاءوا يخرجوننا من هذه الكنيسة ليجعلوا أماكن العبادة معاقل وحصونا؟!»
فقالت بربارة: «طيبي نفسا، ولا بد من أن يقتص الله من أهل الجور والفجور، ولا بد لحكمهم من نهاية، وأرجو أن يكون ذلك بخروج هذه البلاد من أيديهم، وما على الله عسير.»
Bilinmeyen sayfa