وأخيرا سلم رمضان بعد ليال، وقال لنفسه في صباح يوم بصوت لا يدري أكان مسموعا أم غير مسموع: لا حول ولا قوة إلا بالله، والله ضعت يا رمضان واللي كان كان.
ولم تكن أول مرة يتحاشى فيها امرأته وهي تقدم له الفطار، وإنما كان يود أن يزيحها في هذا اليوم من أمامه، ثم يسرح ويخبط رأسه في الحائط عله ينفلق، كان شيء غريب يدور فيه، فبالقوة والعافية والعرق والليالي الطويلة كان عليه أن يصدق أنه لم يعد رجلا. وكان هو يأبى أن يصدق، ويكابر هذه الحقيقة، وهو مكسوف خجل كما لو كانوا يزفونه في البلد فوق الحمارة، وهو عاري الجسد وعلى رأسه كومة طين.
ويعود من جديد يقول وكأنه يتلو آية الكرسي ليطرد جنية من الجان: والله ضعت يا رمضان، واللي كان كان.
ويصمت، ثم يقطع لقمة كبيرة من الرغيف ولا يأكلها ويقوم، وينظر من النافذة، ثم يكح ويبصق بصقة كبيرة على العشش التي فوق السطوح أمامه، ويعود إلى جلسته أمام الطبلية، ويسرح في صمت طويل آخر، وهو يحدق في الطعام، ويمضغ صمته حتى يشبع فيرتدي البدلة، وكأنه يخلع كل ملابسه، ثم يتسلل من البيت كحرامي النحاس، وجسده هارب منه، وأطرافه لا يعثر عليها.
وحين يقف وسط الميدان، والعربات تزدحم حوله، والأرض والسماء تتحرك، وهو وحده الواقف الهامد الضائع، حينئذ يشعر بتفاهة هذه المملكة التي له، ويضايقه القفاز الأبيض، ويحس بالقبعة وكأنها حجر الطاحونة يكتم أنفاسه، ويومها لا يقيد محضرا واحدا، وماله هو والمحاضر والمخالفات، فليدع من يخطئ يخطئ، ومن يتحطم يتحطم، ومن يقتل يقتل. وهل هو الذي ينظم الكون؟ لعن الله العربات وأصحاب العربات، والمرور، وكل ما يمت إلى خلية النحل التي يلسعه دويها وصرخاتها.
ولأول مرة في حياته كره بيته، ووجه امرأته النحس، ولم يعد توا إليهما.
وفي خطوات لا يهمه وقعها، ولا أين تقع راح يدق الشارع بحذائه الثقيل، وقد كفأ القبعة فوق جبهته، وامتلأت أخاديد وجهه بالاشمئزاز واليأس، وفك حزامه العريض، وتمنى أن ترحمه عربة نقل وتأكله. ووصل أخيرا إلى باب الإنسان الذي لا يصادق في المدينة إنسانا سواه، وطرق الباب - ونادرا ما كان يطرقه - ولم يفاجأ طنطاوي، وإنما رحب به وسأله عن الصحة، وكالمعتاد عن البلد والقرايب والنسايب، والذي مات، والذي عاش، ومن تزوج، ولكنه فوجئ فعلا حين قطع رمضان أسئلته، وقال في جد: اسمع يا واد يا طنطاوي، عايزين تعميرة.
ولم يكن رمضان يشرب الحشيش كثيرا، ولكنه شرب هذه المرة حتى إن طنطاوي لم يأتمن الطريق عليه، فأصر على مرافقته، ولم يرفض رمضان، ولم يقبل، ولم يرد على أسئلة صاحبه عن السر الذي يكمن وراء سكوته.
وفي الطريق سرح رمضان بعيدا، وأوغل في الزمان والمكان، حتى وصل سكينة جارتهم في بيتهم القديم على الترعة، ثم السنوات القليلة التي أعقبت بلوغه، وكان رمضان يتوقف عن السير، ولا يدري لماذا، ثم تجذبه ذراع طنطاوي فيمشي، ويسرح، ثم يتوقف، حتى خطر له خاطر قاله في انبهار: يكونشي يا ولاد الحشيش ينفع؟!
وانفجر ضاحكا، وقد كف عن المشي، وغمغم الطنطاوي وهو يهز رأسه في رثاء: الجدع انسطل والنبي.
Bilinmeyen sayfa