كانت إدارة «مكنة» الطحين مثل كسوف القمر ووهج البرق، إحدى الطلاسم التي لا يفهمها أحد، ومع هذا فالناس كانوا ينتظرون إدارتها بصبر فارغ، ويحسبون ليوم الطحين ألف حساب، ويحمدون الله أن هيأ لهم مكنة قريبة من البلدة.
ولم يكن أحد يدري متى بنيت ولا كيف أحضرت عدتها مع أن الشيخ الهادي العجوز يزعم أنه رأى بعينه «الونش» الذي حملها، ولكن الجيل الحديث لا يطرق باله هذا الزعم، ولا يصدقه فمن يومه وهو يراها هكذا قائمة ثابتة كالجميزة الطاعنة، ترسل دقاتها مثل القلب النابض بنغم منتظم رتيب.
وكان الناس حين يمرون فوق السكة الضيقة المؤدية إلى الطريق الزراعي، ويرون باب المكنة مفتوحا، وشبح الأوسطى محمد يروح ويجيء داخلها يدركون من فورهم أنها سرعان ما تدور، فيلقي كل مستعجل نظرة خاطفة إلى الباب، ويتلكأ من ليس وراءه عمل، وقد يجلس البعض فوق كومة السباخ القريبة. يحدث هذا من بعيد لبعيد، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب، حتى الأولاد الذين كان الطفل منهم مستعدا أن يتنازل عن الرغيف الذي في يده، أو الجلباب الذي يرتديه على اللحم ليستطيع مشاهدة ما يدور في الغرفة المظلمة المصنوعة من الصلج، حتى هؤلاء الصغار كانوا غير راغبين في المجازفة بأعمارهم والاقتراب، فالكل يعلم أن الأوسطى محمد هناك، وأنه الآن في أتعس حالاته، ولو وضع إنسان عود كبريت على طاقة أنفه في هذا الوقت لاشتغل العود.
والذي يرى الأوسطى محمد في غيظه وسخطه وحنقه يعجب حين يشاهده يدخل المكنة في الصباح، يربت على العدة القديمة المهروشة المتآكلة بيده، ويطمئن إلى سلامتها، وإلى أن ذرات الدقيق الناعم لم تتسرب من حجرة الطحين، ولم تفسد خضرة دهانها الذي لم يبلى. ويدور الأوسطى محمد حولها، ويفرغ وعاء الزيت، ويعمر الوابور ثم يشعله، ويضعه في مكانه من العدة حتى تسخن «طاستها»، ولا يتوقف أثناء هذا عن دق أشياء بداخلها، وتلمس أشياء، وتجربة مسالك ومقابض، حتى يرى بينه وبين نفسه أن الوقت قد حان، فيضع رجله في «الحدافة» الكبيرة الضخمة، ويستند بذراعيه القويتين إلى الحائط، ثم يستعين بالسيد البدوي، ويدفع العجلة.
وقد تقوم «المكنة» في ساعة، وقد لا تقوم، فيسب لها الأخضرين. وقد تعمل مرة، ويتصاعد صوتها الحبيب إلى نفسه من المدخنة الحديدية، ولكنه لا يلبث أن يتلاحق وقعه، ويهبط حتى يموت ليعود إلى إشعال الوابور، وتسخين الطاسة.
ونادرا ما كانت تقوم قبل العصر بعد أن يكون الأوسطى قد هدهد عليها وهو حانق، واستعطفها وهو يكاد ينفجر، وتحايل عليها، وداعت «البستم» ونغمش «الشنابر» بأصابعه.
وحين يتم قيامها كان الأوسطى ينتظر قليلا ليطمئن أنها لن تفعلها معه وتقف، وأن العادم تمام، و«البوبينات» شغالة بالمضبوط.
وكان حينئذ ينفض يده منها، ويمسحها بقطعة «الاصطبة» وهو يقول بكل الحقد الرءوف الذي في قلبه عليها: الله يلعن أبو أصحابك.
وكان وهو يستدير لا يستطيع إخفاء شبح ابتسامة راضية يداريها عن المكنة وهو يخرج. وكان يغادر الباب المظلم وعليه غبرة وزيت وشحم، وهو لا يني عن مسح الجاز والعرق الذي في وجهه وذراعيه وصدره بقطعة «الاصطبة»، ثم يضعها في حرص بجوار الحائط الصاج. ويمشي إلى الخليج القريب حيث يغمر كل ما هو بائن من جسده بالتراب، ويظل يدعكه حتى يتحول إلى طين أسود يغسله، فينداح الزيت والجاز على سطح الماء في حلقات.
ويعود بعد هذا إلى جلسته المختارة تحت شجرة الخروع بجوار حائط المكنة، وفي مواجهة بابها، وتكون الأدوات جاهزة، فيتربع ويشعل النار في الاصطبة من الولاعة النحاس التي صنعها بنفسه. ويغلي الماء في الكوز الذي له يد طويلة من السلك المبروم، ويظل يغلي الشاي حتى يستوي ويخرط مرات.
Bilinmeyen sayfa