Arabs in Ancient Times
العرب في العصور القديمة
Yayıncı
دار المعرفة الجامعية
Baskı Numarası
الثانية
Türler
المقدمة
تقديم الطبعة الثانية
...
تقديم الطبعة الثانية
كنت أود لهذه الطبعة الثانية من الدراسة أن تكون أكثر اكتمالًا من الطبعة الأولى وبخاصة في القسم الثالث منها الخاص بالمجتمع، وهو قسم أشعر أنه مضغوط في تفاصيله إلى حد كبير بالنسبة للقارئ العام. ولكن ضيق الوقت لا يزال يحول دون التوفر على تحقيق هذا الهدف في الوقت الحالي، وأرجو أن يتيح لي هذا التأخير الذي اضطررت إليه فرصة الانتفاع بما قد يظهر في الموضوعات التي طرقتها في هذا القسم من مناقشات وآراء جديدة.
على أني اغتنمت فرصة هذه الطبعة الجديدة لأسد بعض مواطن النقص التي تنبهت إليها في عدد من النقاط أو التي نبهني إليها الأصدقاء من المهتمين بموضوع هذه الدراسة، كما انتفعت في الوقت ذاته ببعض الدراسات الجديدة التي ظهرت في العام الحالي أو الدراسات القديمة التي فاتني الانتفاع بها قبل الآن.
وقد وجدت في هذا الصدد أن اللوحة اليونانية "٨ - ب" في الطبعة الأولى لا يبرز وجه المقارنة فيها مع اللوحة اليمنية "٨ - أ" إلا من بعد واحد هو ليونة الحركة، وهو بعد قد لا يظهر بالقدر الكافي للقارئ الذي ليس له اهتمام متخصص بالعناصر الفنية في مجال النحت أو صناعة التماثيل، فاستبدلت بها اللوحة الحالية التي تضم إلى ليونة الحركة بعدين آخرين هما: عنصر الطفولة وعنصر الحوار بين الإنسان والحيوان في عمل فني واحد، كما أضفت لوحتين أخريين هما "٨ - ج" و"٨ - د" لتعميق فكرة المقارنة التي قصدت إليها، كذلك نبهني تلميذي وصديقي الدكتور أحمد غزال، أستاذ الآثار بقسم الحضارة اليونانية والرومانية بجامعة الإسكندرية، إلى تطور ظهر في العملة الأثينية في القرن الخامس ق. م. يكتمل فيه التطابق بينها وبين العملة الحميرية التي ترجع إلى القرن الثالث أو الثاني ق. م. ومن ثم تخدم النقطة التي تعرضت لها في هذا الصدد "الباب الرابع: ٢- ج" بشكل أفضل، كما زودني بالصور الخاصة بهذه العملة فوضعتها بدلا من صور العملة الأثينية التي ترجع إلى القرن السادس ق. م. والتي لم يكن التطابق المطلوب مكتملًا فيها "لوحة ١٥ - ب".
1 / 5
وفيما يخص الحديث عن المصادر الكلاسيكية لهذه الدراسة "الباب السادس: ١ - ج" كان قد فاتني أن أتناول بالعرض والنقد كتابات المؤرخ فلافيوس يوسفوس الذي يعتبر أحد المصادر المهمة عن إحدى مراحل تاريخ الأنباط، وقد بادرت في الطبعة الحالية باستكمال هذا النقص.
كذلك انتفعت في الباب الخاص بالشعر الجاهلي "الباب السابع: ٣" كمصدر من مصادر المجتمع العربي القديم، بدراستين قيمتين صدرتا هذا العام لأستاذين صديقين من قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس بالقاهرة: إحداهما عن "الشعر الجاهلي" للدكتور إبرهيم عبد الرحمن محمد، وقد تناول في أحد أبوابها التفسير الميثولوجي للشعر الجاهلي، والأخرى عن "قضايا الأدب الجاهلي" للدكتور عفت الشرقاوي، وقد تناول في أحد أبوابها التفسير النفسي لشعر امرئ القيس، وقد أضافت هاتان الدراستان بعدين جديدين لتدعيم قضية هذا الشعر كمصدر رئيسي من مصادر التعرف على مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.
وأخيرًا فقد انتفعت في القسم الخاص بالحياة الدينية "الباب التاسع: ٣" بدراسة للأستاذ ف. و. وبنيت F.W.WiNNET العدد ٢٨ من مجلة "THE MOSLEM WORLD" لم أكن قد استطعت الحصول عليها قبل الآن، وفيها يناقش الباحث عددًا من النصوص العربية الشمالية القديمة عن عبادة "الله" قبل الإسلام، كما انتفعت في زيادة استيضاح هذه النقطة بمناقشة قيمة مع المؤرخ الكبير الدكتور قسطنطين زريق الأستاذ بالجامعة الأمريكية في بيروت.
ل. ع.ى.
1 / 6
تقديم الطبعة الأولى
لا أهدف من هذه الدراسة إلى تقديم عرض شامل أو مفصل لتاريخ العرب في العصر السابق للإسلام، وإنما أردت أن تكون مدخلا حضاريا لهذا التاريخ يمكننا من فهمه في إطاره السليم، لا كحشد من الأحداث والأسماء والأوضاع تسرد كمقدمة مطولة لعصر لاحق، وإنما ككيان تاريخي يمتد عبر ستة عشر قرنًا في الحدود المعروفة لنا حتى الآن والتي تتسع من يوم إلى يوم كلما عثر المنقبون على أثر جديد أو على مجموعة من النقوش، وينتمي إلى عصر له أبعاده المميزة ومقوماته وعلاقاته وتياراته التي تتفق وهذه الأبعاد.
وفي حدود هذا الإطار الحضاري سارت الدراسة في خطين متوازيين ومتلازمين. وفيما يخص الخط الأول حاولت أن أجيب على عدد من التساؤلات التي لم تطرح حتى الآن، أو التي طرحت كنوع من الترف الفكري أو الاستكمال الشكلي للموضوع، الذي يكتفي بالتعريف بالمسائل أو بمناقشتها دون أن يوضح موقعها من تاريخ المنطقة ووقعها عليه. وفي هذا الصدد كانت التساؤلات الرئيسية التي طرقتها هي: أين تقف شبه الجزيرة العربية من المسار الحضاري الذي عرفه العالم في العصور القديمة؟ ما هو الأثر الذي تركته الظروف الطبيعية للمنطقة على مواردها الاقتصادية وعلى تكويناتها السياسية وأوضاعها الاجتماعية والدينية؟ ثم متى ظهرت هوية العرب في المجال الدولي؟ وما هو الشكل الذي اتخذته هذه الهوية وسط قوى الشرق والغرب المتصارعة في العالم القديم؟.
أما الخط الآخر فهو يخص مصادر الدراسة، وقد هدفت هنا إلى نقل تاريخ العرب قبل الإسلام إلى دائرة الاعتماد على المصادر الجادة الوحيدة
1 / 7
التي يمكن أن نعتمد عليها بشكل علمي، وهي المصادر المعاصرة لهذا التاريخ.
وهكذا بدأت بترك ما خلفه لنا كتاب العصر الإسلامي فيما عدا استثناءات قليلة ذكرتها في موضعها. فهؤلاء الكتاب كانوا بكل بساطة يكتبون عن عصر بدأ قبل وقتهم بألف وسبعمائة سنة على الأقل، كما أنهم نحوا فيما كتبوه منحى "القصاص وجروا على أساليبهم ولم يلتزموا فيها الصحة ولا ضمنوا لنا الوثوق بها" على حد تعبير واحد من هؤلاء الكتاب أنفسهم وهو ابن خلدون، ومن ثم "فلا ينبغي التعويل عليها وتترك وشأنها" حسب حكم الكاتب نفسه. وفي هذا المجال فقد اعتمدت على ما وصل إلى أيدينا، وهو كثير، من الآثار والنقوش والكتابات الكلاسيكية "اليونانية واللاتينية" التي عاصر كتابها ما كانوا يكتبون عنه. كما حاولت أن أحسم مسألة الانتفاع العلمي الكامل بمصدرين معاصرين أساسيين، فطرحت للمناقشة قيمة الاعتماد على الشعر الجاهلي كمصدر تاريخي وإلى أي حد يجوز لنا اعتماد ذلك، كما حاولت أن أبين كيفية الاعتماد على آيات القرآن الكريم بشكل علمي لا يزال الانتفاع به حتى الآن أقل من القليل.
وتبقى في نهاية الحديث كلمة شكر أوجهها إلى عدد من الذين أسهموا في ظهور هذه الدراسة في شكلها الحالي، فقد شارك تلميذي وزميلي الدكتور إبراهيم بيضون في صياغة عنوان الدراسة بما يتطابق مع مضمونها، كما قام الأستاذ أمين منيمنة برسم الخرائط اللازمة لها وإن كان ما جاء بها من تحديد تقريبي للمواضع قد لا يتفق مع الدقة الجغرافية هو من تسجيل الباحث وعليه تقع مسئوليته. أما عن دار النهضة العربية التي نشرت هذه الدراسة فلها كل التقدير على ما أبداه كل أفرادها من سعة صدر في الالتزام بمتطلباتي التي كثيرًا ما وصلت إلى درجة الإرهاق. وأخيرًا وليس آخرًا، فهناك دائما زوجتي التي ساندت وساعدت وعانت في سبيل إخراج هذه الدراسة ربما أكثر مما بذلت في كتابتها.
ل. ع.ى
1 / 8
المحتوى
تقديم
القسم الأول
المنطقة والشعب والأرض
الباب الأول:
منطقة نشوء الحضارات وشبه جزيرة العرب ١٧ - ٣٩
١- أبعاد منطقة نشوء الحضارات ١٧
أ- تحديد المنطقة ١٧
ب- المنجزات الحضارية الأولى وهذه المنطقة ٢١
ج- المقارنة الحضارية بين هذه المنطقة والمناطق الأخرى ٢٣
٢- أسباب نشأة الحضارات الأولى في هذه المنطقة ٢٦
أ- ظرف المناخ ٢٧
ب- ظرف المواصلات السهلة ٢٨
ج- الحدود شبه المانعة للمنطقة ٣٠
٣- شبه جزيرة العرب ضمن منطقة نشوء الحضارات ٣٣
أ- حول الدور الحضاري لشبه جزيرة العرب ٣٣
ب- مقدمات هذا الدور قبل ظهور الإسلام ٣٥
الباب الثاني:
الساميون وشبه الجزيرة والعرب ٤٠ - ٨٧
١- قضية الساميين أو الشعوب السامية ٤٠
أ- افتراض لوجود عنصر سامي ٤١
ب- رد على هذا الافتراض ٤٤
1 / 9
٢- قضية أصل الساميين وشبه جزيرة العرب ٤٩
أ- ملاحظات مبدئية ٤٩
ب- افتراض أصل إفريقي للساميين ٥٠
ج- افتراضات أصل آسيوي للساميين ٥٤
د- حول أصل الساميين وشبه جزيرة العرب ٥٨
٣- الساميون والعرب ٧٠
أ- ملاحظات حول فكرة موطن أصلي للساميين ٧١
ب- تصور مطروح حول هذه الفكرة ٧٤
ج- العرب وفكرة الأصل السامي ٨١
الباب الثالث:
شبه جزيرة العرب: الملامح العامة ٨٩ - ١١٨
١- الموقع والسطح والأقسام الطبيعية ٨٩
٢- المناخ ١٠٤
٣- النبات والحيوان ١٠٧
القسم الثاني
المصادر
الباب الرابع:
الآثار والنقوش ١٢١ - ١٥٧
١- قيمة الآثار والنقوش في التأريخ لشبه الجزيرة ١٢٢
٢- أمثلة من المخلفات الأثرية ١٢٨
أ- الآثار المعمارية ١٢٨
ب- النحت والمخربشات ١٣٦
ج- الفخار والعملة ١٤٠
٣- النقوش ١٤٧
أ- نقوش عن الأحوال الداخلية لشبه الجزيرة ١٤٧
ب- نقوش عن العلاقات الخارجية لشبه الجزيرة ١٥١
ج- تقويم عام للنقوش ١٥٥
1 / 10
الباب الخامس:
المصادر الدينية ١٥٩ - ١٩٤
١- القرآن الكريم ١٦٠
أ- أمثلة لأقوام شبه الجزيرة في القرآن ١٦١
ب- أمثلة عن الحياة الدينية في شبه الجزيرة ١٧١
ج- مثال لتكوين المجتمع في شبه الجزيرة ١٧٥
٢- الحديث الشريف ١٧٩
٣- التوراة والتلمود ١٨٢
الباب السادس:
المصادر الكتابية ١٩٥ - ٢٢٤
١- الكتاب الكلاسيكيون ١٩٦
أ- كتاب المرحلة المبكرة ١٩٦
ب- كتاب العصر المتأغرق ٢٠٣
ج- كتاب العصر الروماني ٢٠٦
د- كتاب المرحلة المتأخرة ٢١٧
٢- الكتابات العربية في العصر الإسلامي ٢٢٩
أ- صعوبات أمام الاعتماد على هذه الكتابات ٢٢٩
ب- استثناءات ممكنة من هذا التعميم ٢٣٥
الباب السابع:
الشعر الجاهلي
١- الشعر كمصدر تاريخي ٢٣٨ - ٢٨٥
٢- اعتراضات على الشعر الجاهلي كمصدر تاريخي ٢٣٨
٣- ردود على هذه الاعتراضات ٢٥٢
٤- حول مجالات الشعر الجاهلي ٢٨٠
1 / 11
القسم الثالث
المجتمع
الباب الثامن: ٢٨٩
الموارد الاقتصادية ٢٩٠
١- الرعي ٢٩٢
أ- الرعي والرعاة ٢٩٤
ب- الموارد المكملة لحياة الرعاة ٢٩٤
٢-الزراعة والمحاصيل الطبيعية ٣٠٤
أ- المورد الزراعي ٣٠٤
ب- المحاصيل الطبيعية ٣٠٦
٣- التجارة ٣٠٧
أ- أهمية هذا المورد ومظاهر ذلك ٣١٤
ب- طرق التجارة البرية ٣٢٤
ج- النشاط التجاري البحري ٣٣٣
٤- التعدين والصناعة
الباب التاسع:
الأوضاع الداخلية ٣٤١ - ٣٩٩
١- الوضع السياسي ٣٤٢
أ- التكوينات السياسية ٣٤٢
ب- نظام الحكم ٣٥٨
٢- الوضع الاجتماعي ٣٦٧
أ- عوامل التماسك ٣٦٧
ب- عوامل الانقسام ٣٧٣
٣- الوضع الديني ٣٧٨
أ- تطور العقائد الدينية وانتشارها ٣٧٩
ب- الظروف المحيطة بالحياة الدينية ٣٩٢
1 / 12
الباب العاشر:
العلاقات الخارجية ٤٠٠ - ٤٤٠
١- المرحلة الأولى: ظهور الهوية العربية ٤٠٠
أ- بدايات غير محددة ٤٠٠
ب- العلاقات مع العبرانيين ٤٠٤
ج- العلاقات مع القوى الشرقية ٤٠٨
٢- المرحلة الثانية: العلاقات مع القوات الغربية ٤٢٠
أ- الإسكندر الأكبر والدول المتأغرقة ٤٢٠
ب- العلاقات مع الإمبراطورية الرومانية ٤٢٤
٣- المرحلة الثالثة: العرب بين قوى الشرق والغرب ٤٣٥
أ- الإمارات العربية الحدّية ٤٣٥
ب- الدين والسياسة في الصراع الدولي ٤٣٨
1 / 13
القسم الأول: المنطقة والشعب والأرض
الباب الأول: منطقة نشوء الحضارات وشبه جزيرة العرب
إبعاد منطقة نشوء الحضارات
تحديد المنطقة
...
الباب الأول: منطقة نشوء الحضارات وشبه جزيرة العرب
١- أبعاد منطقة نشوء الحضارات:
أ- تحديد المنطقة:
الحديث عن الحضارات القديمة لا يزال يشكل مجالًا خصبًا لكثير من المناقشات وكثير من التكهنات، سواء من حيث المناطق التي ظهرت فيها هذه الحضارات، أو من حيث توقيت ظهورها ومن ثَمَّ السبق الزمني لكل منها، فالكتابات التاريخية القديمة التي حاول أصحابها أن يقوموا بالتعريف بهذه الحضارات بشكل جدي لم تظهر إلا في فترة متأخرة من العصور القديمة، ومن ثم فإن القدر الأكبر من تاريخ هذه الحضارات لم يعاصره المؤرخون القدماء، وكانت سبيلهم الوحيدة إلى التعرف إليه هي ما استطاعوا أن يحصلوا عليه من أخبار المجتمعات القديمة عن طريق الرواية أو عن طريق المعلومات المتناثرة التي كانت تتأرجح بشكل غير محدد بين الحقيقة والمبالغة والأسطورة. كذلك لم تكن كتابة التاريخ تمارس آنذاك على أساس علمي كما هو الحال في الوقت الحاضر، ومن ثم فإن المؤرخ القديم لم يكن في مقدوره دائمًا أن يقوم بتحقيق المعلومات التي يجمعها، بل إنه في أغلب الأحوال لم يكن يرى من الضروري أساسًا أن يقوم بمثل هذا التحقيق ليميز بين ما هو حقيقي وما هو
1 / 17
غير حقيقي. هذا إلى أن هؤلاء المؤرخين القدماء لم يتناولوا في كتاباتهم إلا أماكن أو مناطق محدودة، هي التي أثارت انتباههم لسبب أو لآخر، أو هي التي استطاعوا أن يصلوا إليها أو يسمعوا عنها؛ ومن هنا فإن هذه الكتابات، حتى إذا تغاضينا عما جاء فيها من عيوب في جمع المعلومات أو تدوينها، لا يمكن أن ننظر إليها على أنها حصر لكافة الحضارات التي ظهرت في العصور القديمة أو لترتيبها الزمني.
فإذا انتقلنا إلى علم الآثار الذي يعني بالتنقيب عن المخلفات القديمة وكشفها وتفسير مدلولاتها، نجد أن هذا العلم لم يبدأ إلا منذ فترة وجيزة نسبيًّا لا تزيد في عمومها على قرن ونصف القرن. وفي هذا المجال فإننا إذا تغاضينا عن مجهودات الهواة أو المجهودات الاستطلاعية الفردية أو شبه الفردية، فإننا نجد أن التنقيبات الأثرية التي قامت على أساس منظم ومنتظم تدعمه الإمكانات العلمية والمادية لم يبدأ في مصر، على سبيل المثال، إلا في أواسط القرن الماضي، ولم يبدأ في العراق إلا في أواخره، ولم يبدأ في شبه الجزيرة العربية إلا في أواسط القرن الحالي، وهكذا نجد أنفسنا -مرة أخرى- بعيدين عن ادعاء المعرفة اليقينية بكل الحضارات السالفة أو بالتوقيت الدقيق لظهور ما نعرفه من بينها. وما أكثر ما يؤدي كشف أثري في منطقة أو في أخرى إلى تعديل في تواريخ ظهور الحضارات القديمة قد يصل إلى عدة قرون، أو إلى تسبيق ظهور حضارة على حضارة يؤدي إلى تعديل جذري في ترتيب كان معترفًا به، بكل ما يستتبعه هذا من تغيير في الأبعاد الحضارية من حيث التأثر والتأثير والتأصيل والتفصيل في الجوانب المتعددة التي تتشكل من مجموعها ومن تداخلاتها وتفاعلاتها هذه الحضارات.
ومن هنا فمن المرجح، أو على الأقل من المحتمل، أن هناك حضارات أخرى وجدت في فترة أو أخرى من العصور القديمة، غير تلك الحضارات التي وصل إلينا العلم بها، ولكنها لم تكشف إلا في حدود ضيقة أو لم تكشف
1 / 18
إطلاقًا حتى الآن، وربما كانت هذه الحضارات التي نجهلها أو نجهل أغلب مراحل تطورها، محلية في طبيعتها، وربما أثرت في الحضارات التي نعرف عنها ما يمكننا من تتبع تطورها وتسجيل صورة عامة أو متكاملة لها. ومن بين المناطق التي تدخل ضمن هذا الإطار، على سبيل المثال، المنطقة الممتدة في أواسط القارة الآسيوية التي شهدت منذ فترة موغلة في القدم قبل بداية التاريخ المعروف حتى الآن إنجازات حضارية في مجال زراعة الحبوب وتدجين الحيوانات واستخدام المعادن وزخرفة الأواني الفخارية، وهي منطقة آناو ANaU في جنوبي تركستان، التي كشف العالم الأثري بمبللي PUMPeLLI في ١٩٠٧ عن مخلفات أثرية تثبت وجود هذه الإنجازات بها منذ بدايات الألف الخامسة ق. م. على أقل تقدير. وهي إنجازات تشير إلى أن بدايات التطور الحضاري الذي وصل بها إلى هذه المرحلة الحضارية يرجع إلى تاريخ أقدم من هذا بكثير١، ولكن هذه المنطقة شهدت تغيرًا مناخيًّا بدأ فيه الجفاف يزحف عليها بعد أن كانت منطقة أمطار غزيرة تكفي للزراعة والرعي والاستقرار، وعلى أثر هذا الجفاف بدأت الهجرة منها إلى كل الجهات تقريبا، ومن ثم بدأ اختفاء المظاهر الحضارية فيها. ومن بين ما يذكر ضمن هذا الإطار كذلك شذرات عن حضارة قارة أطلانطيس ATLaNTIS التي يتلمس الباحثون شيئًا عن وجودها في حقبة من حقب الماضي السحيق قبل أن تهبط، في حدود الافتراض العلمي السائد الآن، لتستقر في قاع المحيط الأطلسي من شمالي هذا المحيط إلى جنوبيه٢، نتيجة لتحركات جيولوجية، وغير هذه الأحاديث أحاديث
_________
١ "CaMbRIDGe ANCIeNT HISTORY "C A H ط ٣ ج١، القسم الأول "١٩٧٠" صفحات ١٦٩، ٢٥٣، ٢٩٨-٣٠٣، ٤٦٠-٤٦١. وقد وجدت مخلفات أثرية في بعض مناطق إيران قريبة في أوصافها من تلك التي وجدت في آناو لدرجة توحي بصلات حضارية بين المنطقتين في فجر الحضارة "حوالي ٤٠٠٠ق. م.". قارن المرجع ذاته: صفحات ٢٩٤، ٢٩٨، ٢٩٩.
٢ أول إشارة وردت في هذا الصدد نجدها عند أفلاطون "حوالي ٤٢٩-٣٤٧ ق. م." في محاورات: Timaeos ٢٥، KritiaS ١١٣ وتدور حول حضارة قديمة ظهرت في جزيرة تخيلها أفلاطون "أو بالأحرى سمع بها من الأساطير المتواترة في عصره" قرب الشواطئ الغربية لأوروبة وأفريقية ثم هبطت في قاع المحيط.
1 / 19
أخرى يرد بعضها، نتيجة لروايات متواترة أو لبقايا أثرية لا تزال قائمة، عن دول وحضارات قديمة سادت في مجموعة جزر بولينيزية بالمحيط الهادي، ثم بادت في وقت من الأوقات٣.
وفي ضوء هذه الاعتبارات السابقة فإن أي تحديد للمنطقة التي نشأت فيها أولى الحضارات القديمة لا يمكن، بالضرورة إلا أن يكون تحديدا نسبيا. ومن منطلق هذا التحديد النسبي لنا أن نفترض أن منطقة نشوء الحضارات هي تلك المنطقة التي ظهرت فيها حتى الآن أقدم الحضارات التي عرفنا عنها شيئا متكاملا أو قريبا من التكامل من جهة، والتي كان لها، من جهة أخرى، حتى بعد أن اضمحلت وسقطت، تأثير مستمر على الحضارات التالية لها لتترك بذلك طابعها، بشكل مباشر أو غير مباشر، على المسيرة الحضارية التي تعيش الآن أحدث مراحلها.
وفي حدود هذا الإطار فإن مجموعة الحضارات القديمة المتكاملة والمؤثرة بالشكل الذي ذكرته تقع ضمن منطقة حدودها الجغرافية هي خطوط الطول من ١٠ إلى ٧٠ شرقًا، وخطوط العرض من ١٠ إلى ٤٥ شمالًا، وتشمل من
_________
٣ الظواهر الموجودة في بعض هذه الجزر، مثل التماثيل البالغة الضخامة في "جزيرة الفصح" Easter Island، وعدد من القصص الشعبية التي تواترت عن طريق الرواية لتصف عهدًا كان فيه محاربون من الأبطال وأمم قوية في جزيرتي "ساموا" samoa و"تاهيتي" Tahiti والمقدرة الفنية والحساسية الشعرية عند السكان الحاليين لهذه الجزر، كلها توحي بأننا لسنا بصدد حضارة جديدة في طريق الصعود بقدر ما نحن بصدد حضارة قديمة كانت موجودة ثم اندثرت: راجع:
will Durant: the story of Civilization ج١، ط٢٢ "١٩٥٤ New york"، ص ١٨٧.
1 / 20
الشرق إلى الغرب "بغض النظر عن الترتيب الزمني لظهور هذه الحضارات": إيران ووادي الرافدين وآسيا الصغرى وسورية "بالمعنى الجغرافي الذي يشمل المنطقة الممتدة من حدود آسيا الصغرى شمالًا إلى حدود مصر عند الحد الشرقي لشبه جزيرة سيناء جنوبا" وبعض مناطق شبه جزيرة العرب -هذا في القارة الآسيوية، ثم مصر في آسيا وإفريقيا، ثم قرطاجة في إفريقيا، ثم بلاد اليونان وشبه جزيرة إيطالية وسواحل شبه جزيرة أيبريه "أسبانية والبرتغال في الوقت الحالي" في القارة الأوروبية، ثم عددًا من الجزر الواقعة في البحر المتوسط أهمها جزيرة كريت٤.
_________
٤ راجع ملحق الخرائط، خريطة رقم ١.
ب- المنجزات الحضارية الأولى وهذه المنطقة: في هذه المنطقة -والحديث هنا هو عن العصور القديمة- ظهرت المنجزات الحضارية الأولى للإنسان، ففي مجال تنظيم المجتمع ظهرت أول مجموعة قانونية متكاملة تنظيم القيم الجماعية والعرف والتقاليد والسوابق وتغطي ثغراتها، في وادي الرافدين على زمن حمورابي "ثم بشكل متطور في فترة متأخرة عند الرومان". وفي مجال العقائد الدينية ظهرت فكرة التوحيد لأول مرة على يد إخناتون في مصر. كذلك ظهرت أولى الرسالات السماوية في سورية "ليعقبها ظهور الرسالتين السماويتين الأخريين مرة في سورية ومرة في شبه الجزيرة العربية". وفي مجال العلوم شهدت المنطقة أولى المحاولات لتحويل المعرفة القائمة على التجربة أو الخبرة إلى نسق علمي في ميادين الفلك والرياضة، لتتطور بعد ذلك إلى نظريات علمية متكاملة عند اليونان، وفي مجال الهندسة المعمارية ظهرت أولى السدود المستخدمة في التحكم في المياه وتخزينها في وادي الرافدين واليمن، كما ظهرت أولى معجزات البناء الذي ترتكز فيه عشرات الآلاف من أطنان الحجر على سقف غرفة صغيرة في أهرام مصر. والشيء
ب- المنجزات الحضارية الأولى وهذه المنطقة: في هذه المنطقة -والحديث هنا هو عن العصور القديمة- ظهرت المنجزات الحضارية الأولى للإنسان، ففي مجال تنظيم المجتمع ظهرت أول مجموعة قانونية متكاملة تنظيم القيم الجماعية والعرف والتقاليد والسوابق وتغطي ثغراتها، في وادي الرافدين على زمن حمورابي "ثم بشكل متطور في فترة متأخرة عند الرومان". وفي مجال العقائد الدينية ظهرت فكرة التوحيد لأول مرة على يد إخناتون في مصر. كذلك ظهرت أولى الرسالات السماوية في سورية "ليعقبها ظهور الرسالتين السماويتين الأخريين مرة في سورية ومرة في شبه الجزيرة العربية". وفي مجال العلوم شهدت المنطقة أولى المحاولات لتحويل المعرفة القائمة على التجربة أو الخبرة إلى نسق علمي في ميادين الفلك والرياضة، لتتطور بعد ذلك إلى نظريات علمية متكاملة عند اليونان، وفي مجال الهندسة المعمارية ظهرت أولى السدود المستخدمة في التحكم في المياه وتخزينها في وادي الرافدين واليمن، كما ظهرت أولى معجزات البناء الذي ترتكز فيه عشرات الآلاف من أطنان الحجر على سقف غرفة صغيرة في أهرام مصر. والشيء
1 / 21
ذاته ينطبق على تحويل الصور المستخدمة للتعبير كتابيا عن الأسماء والأشياء إلى قيم صوتية، ومن ثم إلى أول حروف هجائية يعرفها العالم -توصل إليها المصريون في البداية وإن كانوا لم يضمنوها حروف الحركة "حروف العلة" كما استبقوا في آخر كل كلمة مكتوبة بالحروف الهجائية علامة تخصيص أو تمييز بالطريقة التصويرية القديمة، ثم نقلها الفينيقيون بوضعها الذي لا تظهر فيه حروف الحركة ولكنهم طوروها بتنقيتها من علاقات التخصيص التصويرية فأصبحت حروفا هجائية صرفة، ثم نقلوها إلى اليونان الذين استكملوها بزيادة حروف الحركة إليها. وأخيرا، وليس آخرا، فقد كانت منطقة نشوء الحضارات التي نتحدث عنها هي المنطقة التي عرفت تطور النظم والنظريات السياسية في شكلها الناضج من بداياتها الفردية التي تقوم على المساندة الإلهية أو الحق الإلهي للحاكم حتى وصلت عند اليونان إلى أوسع مراحل هذه النظم والنظريات شعبية، وهي مرحلة الديمقراطية٥.
_________
٥ راجع النص الكامل لتشريعات حمورابي في:
j. b. pritchard "ed.": ancient near eastern texts، reluting to the old testamen: anet "ط ٢ ١٩٦٦ priceton صفحات ١٦٣- ١٧٩ ترجم النص الأكدي إلى الإنكليزية theOphile meek هذا وقد سبقت هذه المجموعة مجموعات تشريعية أخرى في وادي الرافدين كذلك ولكنها لم تكن متكاملة، مثل مجموعة ليييت عشتار lippit - lshtar ومجموعة إيشنونه eshnuna المرجع ذاته: صفحات ١٥٩-١٦٢. فيما يخص المجموعات التشريعية في القانون الروماني، راجع على سبيل المثال مجموعة جوستنيان، ويجد القارئ ترجمة إنجليزية لهذه المجموعة هي:
i.b.moyle: the institutes of justinian، ط ٥ "١٩١٣ oxford" ويجد القارئ العربي ترجمة لها "عن الفرنسية" قام بها عبد العزيز فهمي: "مدونة جوستنيان"، دار الكاتب المصري، القاهرة ١٩٤٦. ثم "ملاحق مدونة جوستنيان" مطبعة جامعة فؤاد الأول "القاهرة حاليا" ١٩٥١. فيما يخص فكرة التوحيد عند إخناتون راجع: cyril aldred: akhenaten، طبعة abascus، "١٩٧٢ london"، صفحات ١٢٣-١٤١. عن ظهور الحروف الهجائية في مصر وانتقالها إلى الفينيقيين الذين طوروها راجع:
S.R.K. glanville "ed.": the legacy of egypt oxford، ١٩٦٣" صفحات ٥٣ - ٦٤، مقال بقلم Alan a. gardiner تحت عنوان: writing and literature عن النظريات السياسية اليونانية راجع، على سبيل المثال، أفلاطون في محاورات "الدولة" politeia و"رجل الدولة" politikos، وأرسطو في "السياسة" politika عن النظام السياسي الشعبي عند اليونان راجع، على سبيل المثال: paul cloche: la democratie athenjenne pars ١٩٥٢".
1 / 22
ولم تكن هذه المنجزات مجرد نشاط حضاري ظهر وانقرض في الحدود المحلية للمنطقة. وإنما كانت منجزات أثرت في غيرها من المناطق واستمر تأثيرها كأساس للتطور الحضاري فيما بعد، فعن منطقة الشرق الأدنى أخذ اليونان دروسهم الأولى وطوروها، ثم أعادوها للشرق الأدنى في أعقاب فتوح الإسكندر كما صدروها للرومان، وعممها هؤلاء في الإمبراطورية الرومانية التي شملت كل حوض البحر المتوسط وجزءًا من منطقة الشرق الأدنى، وعن هذا التراث كله أخذ العرب بعد ظهور الدعوة الإسلامية والفتوح العربية التي أعقبتها وطورها وأضافوا إليها. وعنهم وعما تبقى من التراث اليوناني الروماني أخذت أوروبا في عصر النهضة أو عصر الإحياء "القرن السادس عشر الميلادي"، وفي بدايات العصر الحديث، لتطورها بدورها وتنشرها في العالم الحديث بما فيه الوطن العربي، ليسترد بذلك جزءًا من تراثه القديم في صورته المتطورة الحديثة.
ج- المقارنة الحضارية بين هذه المنطقة والمناطق الأخرى: هذه المنطقة التي اصطلحنا على تسميتها منطقة نشوء الحضارات، مرة أخرى في حدود ما تم اكتشافه حتى الآن من الحضارات القديمة، كانت، كما رأينا، منطقة الحضارات القديمة المؤثرة التي أسهمت في التطور الحضاري المستمر، ونحن نستطيع أن ندرك هذا بشكل واضح إذا ألقينا نظرة مقارنة
ج- المقارنة الحضارية بين هذه المنطقة والمناطق الأخرى: هذه المنطقة التي اصطلحنا على تسميتها منطقة نشوء الحضارات، مرة أخرى في حدود ما تم اكتشافه حتى الآن من الحضارات القديمة، كانت، كما رأينا، منطقة الحضارات القديمة المؤثرة التي أسهمت في التطور الحضاري المستمر، ونحن نستطيع أن ندرك هذا بشكل واضح إذا ألقينا نظرة مقارنة
1 / 23
سريعة على بقية المناطق الموجودة في العالم القديم. ففي المنطقة الواقعة إلى شمالي هذه المنطقة، نجد بقية القارة الأوروبية والجزر البريطانية، وهي منطقة لم تدخل على مسرح التاريخ الحضاري إلا بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية ابتداء من القرن الخامس الميلادي. وحتى بعد ذلك فقد ظلت حتى عصر النهضة في أوائل القرن السادس عشر الميلادي في شبه انغلاق مظلم على نفسها، بينما ظلت الجزر البريطانية في انعزالها الحضاري حتى أوائل العصر الحديث. والسبب في ذلك هو سلسلة الحواجز الجبلية التي تمتد إلى جنوبي هذه المنطقة وتكاد تفصل بينها وبين حوض البحر المتوسط في حاجز يكاد يكون مستمرًا من غربي أوروبا إلى شرقيها والتي تشكل سياجًا طبيعيًّا مانعًا أو شبه مانع، إذا استثنينا بعض الفجوات أو الممرات التي لا تسمح بأكثر من تسرب حضاري ضئيل وبطيء، ومن ثم غير مؤثر في الأحوال العادية. وإذا كان الرومان قد انطلقوا من خلاله في أواخر العصور القديمة إلى غاله "فرنسا الحالية" وإلى بريطانية، فإن انطلاقهم كان في حالة "غاله" لا يشكل إلا حركة تأمين لحدود الإمبراطورية الرومانية ضد القبائل الكلتية المتبربرة الموجودة في هذه المنطقة، ولا يشكل في حالة بريطانية أكثر من فضول استعماري -وفي كلتا الحالين لم يترك أكثر من بعض الآثار اللغوية في المنطقتين. وباستثناء ذلك فقد بقيت المنطقة الأوروبية الواقعة إلى شمالي منطقة نشوء الحضارات طوال العصر القديم مغلقة على نفسها، ومن ثم منعدمة التأثير من الناحية الحضارية.
والشيء ذاته نجده في المنطقة الواقعة إلى جنوبي منطقة نشوء الحضارات والتي يسكنها العنصر الأسود أو الزنجي إلى الجنوب من الصحراء الكبرى التي تمتد عبر القارة الإفريقية من غربها إلى شرقيها. إذ لم تكن هناك طريق لاتصال هذا العنصر بمنطقة نشوء الحضارات إلا نهر النيل والوادي الضيق الذي يحدُّه من الشرق والغرب. ولكن هذه الطريق لم تكن تساعد على أكثر من التسرب البسيط المتقطع لسببين: أولهما أن النيل، كوسيلة للمواصلات، تعترضه
1 / 24
من شمالي السودان وحتى الطرف الجنوبي لمصر مجموعة من الجنادل والشلالات التي تقف حاجزًا في سبيل الملاحة النهرية، والثاني هو انحسار الوادي في أقصى جنوب مصر بحيث تكاد الصحراء تلتصق بمجرى النهر مما يحول دون أي نزوح أو اتصال بشري وحضاري على نطاق واسع. وهكذا فإن هذا الجنوب الزنجي، إذا كانت له منجزات حضارية قديمة، فإنها بقيت مغلقة في أرجائه دون أن تجد سبيلها للانتشار وللتأثير في استمرار التطور الحضاري٦.
ونأتي أخيرًا إلى المنطقة المترامية الواقعة إلى الشرق من منطقة نشوء الحضارات والتي يقطن أغلبها الجنس الأصفر أو العنصر المغولي. إن هذه المنطقة لم تظهر فيها الحضارة إلا في وقت متأخر كانت فيه حضارات الشرق الأدنى "وهو جزء من منطقة نشوء الحضارات" قد وصلت إلى درجة كبيرة من التقدم، ففي الصين مثلا، التي كان يعتقد خطأ أنها ذات حضارة بالغة في القدم، نجد أن أول قطعة معدنية تشير إلى استخدام الصينيين للمعادن ترجع إلى القرن الثاني عشر "١٢٠٠" ق. م. أي بعد استخدام المعادن في مصر بنحو ثلاثة آلاف سنة على الأقل، وبعد استخدامها في غربي آسيا بأكثر من ذلك. أما عن الكتابة، فإن أقدم وثيقة مكتوبة باللغة الصينية عثر عليها حتى الآن ترجع إلى القرن الحادي عشر ق. م. أو إلى القرن الذي يسبقه على أكثر تقدير، أي بعد ١٠٠٠ سنة من ظهور الكتابة في منطقة الشرق الأدنى. وفوق هذا فإن قبائل الجنس الأصفر، التي حملتها هجراتها في اتجاهات متعددة بسبب الجفاف والقحط الذي كان دائم الزحف على امتدادات وسط آسيا، حين وصلت عن طريق هذه الهجرات إلى منطقة نشوء الحضارات، كانت الإنجازات الحضارية قد وصلت في هذه المنطقة إلى ذروة نضجها٧.
_________
٦ j.b.breasted: ancient times، ahistory of the early world ص١٣٣. ط ٢ "١٩٤٤ boston".
٧ المؤلف ذاته: المرجع ذاته: صفحات ١٣٢ - ١٣٣.
1 / 25
أسباب نشأة الحضارات الاولى في هذه المنطقة
مدخل
...
٢- أسباب نشأة الحضارات الأولى في هذه المنطقة:
المنطقة التي نحن بصدد الحديث عنها، إذن، والتي أطلقنا عليها اصطلاحًا اسم منطقة نشوء الحضارات كانت، كما رأينا، أسبق من غيرها في ظهور الإنجازات الحضارية الأولى -مرة أخرى في حدود ما نعرفه من الحضارات القديمة حتى الآن. ولكن ما هي الظروف التي اختصت هذه المنطقة دون غيرها بالسبق الحضاري؟ هل هي الصدفة التاريخية؟ إن الصدفة التاريخية قد تلعب في أحيان غير قليلة دورًا كبيرًا في تحويل مسار الحضارة البشرية، وهو أمر من الطبيعي أن يسوقنا إلى التساؤل عما إذا كانت كذلك قد لعبت دورا في ظهور الحضارة البشرية. ولكن مع ذلك فالحديث عن عامل الصدفة حديث لا يمكن ضبطه أو تقنينه؛ ومن ثم، فرغم كونه واردًا من حيث الاحتمال، إلا أن الخوض فيه يصبح من قبيل الحديث عن الغيبيات التي يمكن أن تؤدي بنا إلى آفاق مجهولة.
كذلك هل نستطيع أن نعزو السبق الحضاري لمنطقة نشوء الحضارات إلى أسباب تتعلق بالتفوق العنصري للسكان الذين قطنوا هذه المنطقة منذ أقدم العصور البشرية؟ إن أحدث البحوث الأنثروبولوجية "المتعلقة بعلم الإنسان" قد أثبتت أن التفوق العنصري، فضلًا عن النقاء العنصري أصلا، خرافةً لا تقوم على أسس علمية٨. هذا، فضلا عن أن استقراء الواقع التاريخي منذ أقدم العصور حتى الوقت الحاضر، يثبت بشكل قاطع أن الإنجاز الحضاري لم يكن حكرا على عنصر بشري دون غيره من العناصر؛ ومن ثم يصبح الخوض في الحديث عن التفوق العنصري، هو الآخر، أمرًا لا يرتكز على أسس علمية يمكن أن نثق بنتائجها.
هل هناك أسباب أخرى لهذا السبق الحضاري الذي تميزت به المنطقة؟
_________
٨ خوان كوماس "ترجمة محمد رياض": القاهرة ١٩٦٠، ص ٦٣.
1 / 26
ربما كانت هناك أسباب متعددة، ولكن يوجد على الأقل سبب واحد لا يمكن أن نتجاهل أثره على المجموعات البشرية. وهذا السبب يكمن في ظروف البيئة الجغرافية في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها. وظروف البيئة أمر أثبت البحث العلمي أثره الفعال على المجموعات البشرية في كل العصور، وبخاصة في العصور القديمة التي لم يكن فيها الإنسان قد سيطر بعد على الطبيعة بالشكل الذي عرفه في العصور التالية والذي نعرفه الآن، ومن ثم كان أكثر تأثرًا وانطباعًا بهذه الظروف، فإما أن تكون ظروف البيئة مواتية للنشاط البشري فيكون هناك انطلاق وإنجاز. وإما ألا تكون مواتية فيكون هناك تقييد وجمود، وقد كان هناك أكثر من ظرف جغرافي ترك أثره بشكل واضح على منطقة نشوء الحضارات.
أ- ظرف المناخ: وقد كان المناخ أحد الظروف الجغرافية الرئيسية التي أثرت على المنطقة، وكان المناخ الذي سادها مواتيا للنشاط البشري بشكل ملحوظ. ونحن نستطيع أن ندرك ذلك بصورة واضحة إذا عرفنا أن الخطوات الأولى التي خطاها الإنسان على طريق الحضارة في العصر الحجري القديم. وهو أول العصور الحضارية للمجموعات البشرية، قد عاصرت الدهر البليستوسيتي، وهو أحدث الدهور الجيولوجية في تاريخ الأرض، وكان ابتداؤه منذ نحو نصف مليون سنة ونهايته في أوائل الألف العاشرة ق. م. تقريبا. لقد شهدت الأرض في هذا الدهر أربع فترات طويلة من الزحف الجليدي على المناطق الشمالية من الكرة الأرضية امتدت كل منها عبر عشرات الآلاف من السنين، كانت تناظرها في المناطق الاستوائية أربع فترات من الأمطار السيلية الغزيرة، وهذه ظروف تجعل الهم الأول والأخير للإنسان أن يتفادى قسوتها، ومن ثم لا يمكن أن تكون مواتية لأي نشاط بشري إيجابي سواء في المنطقة الشمالية أو في المنطقة الاستوائية.
أ- ظرف المناخ: وقد كان المناخ أحد الظروف الجغرافية الرئيسية التي أثرت على المنطقة، وكان المناخ الذي سادها مواتيا للنشاط البشري بشكل ملحوظ. ونحن نستطيع أن ندرك ذلك بصورة واضحة إذا عرفنا أن الخطوات الأولى التي خطاها الإنسان على طريق الحضارة في العصر الحجري القديم. وهو أول العصور الحضارية للمجموعات البشرية، قد عاصرت الدهر البليستوسيتي، وهو أحدث الدهور الجيولوجية في تاريخ الأرض، وكان ابتداؤه منذ نحو نصف مليون سنة ونهايته في أوائل الألف العاشرة ق. م. تقريبا. لقد شهدت الأرض في هذا الدهر أربع فترات طويلة من الزحف الجليدي على المناطق الشمالية من الكرة الأرضية امتدت كل منها عبر عشرات الآلاف من السنين، كانت تناظرها في المناطق الاستوائية أربع فترات من الأمطار السيلية الغزيرة، وهذه ظروف تجعل الهم الأول والأخير للإنسان أن يتفادى قسوتها، ومن ثم لا يمكن أن تكون مواتية لأي نشاط بشري إيجابي سواء في المنطقة الشمالية أو في المنطقة الاستوائية.
1 / 27