وها هي الصين التي تموج بسكانها كالنمل ناهضة بثورتها الحاضرة بعد سباتها الطويل العميق، نهضة يرجى منها كل خير.
فاليابان لم يصدها حائل لا من أصولها السماوية ولا من عاداتها القومية عن اقتباس أسباب الحضارة ممن سبقها في ذلك من الأمم، فهجرت القديم ولاذت بالجديد جريا على سنن الارتقاء كأنها أدركت أن التمسك بالقديم جمود والجمود تقهقر، فتزيت بأزيائهم وتلقبت بألقابهم واستنسخت نظاماتهم واقتبست صناعاتهم وعلومهم، ونبغت فيها حتى صارت في مقامهم عظمة واقتدارا.
ومقدمات الثورة الصينية تبشر بمستقبل عسى أن لا يكون حظ الصين فيها دون حظ جارتها، وإن كانت الصعوبات التي تعترضها فيها أشد؛ لأن ثورة اليابان قامت بها القوة الحاكمة، وقادت الأمة فيها بالقوى السلمية فهي نشوء سريع لا ثورة بالمعنى المشهور، ولا يكاد يكون لها نظير في تاريخ الانقلابات الاجتماعية ، وأما ثورة الصين فالهيئة الحاكمة كانت ضدها، فهي كسائر الثورات التي مصدرها الأمة، إلا أن ذلك يجعل دعائم الارتقاء فيها إذا قامت أعلى وأرسخ.
ولم يفت الشرق الأدنى نصيب من هذه الحركة إلى النهوض، فكلنا يذكر ثورتنا العثمانية وما جلبت لنا من السرور، وإن كانت مقدماتها لا تبشرنا حتى اليوم بمستقبل زاه لعيوب فيها تجعل نورها فينا سريع الانطفاء، كالنار في الهشيم لعدم اشتراك الأمة فيها اشتراكا محسوسا بسوى الإكثار من التغني في أول الأمر، وهي اليوم تكثر من العويل ولا تتعداه إلى عمل حازم وتخرسها أقل كمامة، فثورتنا حتى الآن عسكرية اقتصر التغيير فيها على صورة الهيئة الحاكمة، فلم تغير شيئا من أخلاقنا ولم تتصل إلى علومنا وصناعاتنا وتجارتنا ولم تتغلب فيها مداركنا على أهوائنا؛ فلا تزال أغراضنا القريبة والبعيدة سدا يمنعنا عن اقتباس كل إصلاح مطلوب، فضلا عن اختلاف أجناسنا وتباين مشاربنا ووجودنا كالقوم العزل في وسط هذا التنازع الشديد المحيق بنا من كل جانب، وقربنا من معالم الحضارة وقيامنا في قلبها كالخرائب والأطلال في وسط الحدائق والقصور، ومع ذلك فالفرق بين ما كنا عليه منذ أربعين سنة وما صرنا إليه اليوم عظيم جدا. •••
ولا ريب أن هذا الفرق العظيم المحسوس يشاهد اليوم بأجلى صورته في مصر وأبنائها، فإن النهضة التي نهضتها مصر في هذه المدة القصيرة، والتي لا يقدرها حق قدرها إلا الذي عرف بنفسه العهدين لمما يحمد جدا؛ حتى إن أبناء اليوم لا يصدقون ما كان عليه في ذلك العهد القريب آباؤهم الأقربون لا أجدادهم الأبعدون، وسهولة ارتقائهم هذه تدل على أن عامل الترقي الموجود فيهم من عهد بعيد والذي طمسته يد المظالم كل تلك القرون الطويلة، عريق فيهم من يوم كان تمدنهم نبراس الأمم.
ولكن إذا كانوا يحمدون من جهة سرعة التحصيل كأكثر الأمم ذات التاريخ المجيد في الحضارة في الماضي، فهل يحق لهم هذا الحمد من جهة أنهم عرفوا كيف يستفيدون من الأحوال السياسية التي طرأت عليهم في الحاضر؟ فالمنصف لا يسعه إلا أن يرميهم في باطن الأمر بالتقصير في مصلحة أنفسهم وهم في الظاهر مجدون في طلبها، فقد قضوا الزمن الطويل من حكم الاحتلال الذي رفع عنهم الضواغط وهم يسمونه نيرا ويسعون للتخلص من ربقته، ولكنهم يسعون إلى ذلك بالطرق التي تزيده فيهم تحكما وتزيدهم في معالم الحضارة الحقيقية تقهقرا، فصرفوا كل هذا الوقت الثمين وهم يدعون إلى الاستقلال، ولكن من غير السبيل الموصل إليه فطلبوه بالتمني، وخدعتهم ثروتهم الطبيعية التي زادت قيمتها زيادة فاحشة؛ نظرا لاصطلاح نظامهم في حكومتهم الجديدة، كأن المال إذا لم يمد لا يفرغ وكأن الاستقلال الاكتفاء بالمصنوع المجلوب حتى صار قسم عظيم من الأرض رهنا الدين، فنهضتهم اليوم إذا كان أثرها باديا جيدا في العلوم الأدبية والأمور النظرية، لكنها في العلوم الحقيقية والأمور العملية لا تزال جرثومة لا ترى إلا بالنظارات المعظمة، فليس لهم يد حتى اليوم لا في العلم الراقي ولا في الصناعات الدقيقة ولا في التجارة الواسعة. والزراعة التي تكاد تكون موردهم الوحيد لا يزالون فيها كما كان آباؤهم في الماضي، ويكادون يكونون غرباء في وسط هذا التمدن الظاهر الذي يحيط بهم كأن البلاد أشبه شيء بمعرض كل معروضاته غريبة، ولعل الحرية التي باغتتهم بها الدولة المحتلة قبل أن تتولى تدريبهم على العمل كانت السبب في كل ذلك؛ فبلغت فيهم ثورة الأفكار أقصاها وبالضد من ذلك ضعفت فيهم ملكة العمل. •••
فنهضة المملكة العثمانية ونهضة مصر اليوم إنما هي نهضة فكرية بحتة لم تقرن حتى الساعة بشيء من عوامل الارتقاء الحقيقية، وأعني بالبلادين شعبيهما وإلا ففي الأمور الإدارية فرق عظيم هو لمصلحة مصر، وما ذلك إلا لانصراف أكثر الأفكار الراقية إلى الاشتغال بمسائل ماضية أو حاضرة بائدة أو بادية، قلما تهم العمران لانحصار دائرة هذه الحركة فيها بمباحث أدبية يجوز أن تكون كمالية ولكن ليست حاجية، وبأمور نظرية يصح أن تكون نتيجة ولكن لا يجوز أن تكون سببا.
انظر إلى القطرين العربيين الراقيين اليوم مصر وسورية، انظر إلى أبنائهما في وطنهم وفي مهجرهم تجد الحركة الفكرية في أشد غليانها ، ولكنها على حال واحد فيهم من الانصباب إلى جهة واحدة، فكلنا اليوم كاتب وكلنا أديب وكلنا شاعر، ولو يقاس الارتقاء في العمران بهذا المقياس لكنا اليوم أرقى الأمم بلا شك، ولا سيما في هذه الأيام التي ثارت فيها العواطف وفاضت القرائح، فلم يبق منا كاتب أو شاعر إلا وطبق السماء بالتغني بمجد الآباء، وما كان لنا من الهمم الشماء في اقتحام الهيجاء من دون أن يدلنا أحد على عيوبنا، ويلفتنا إلى أيدينا الوعثاء وأرجلنا الفدعاء في العمران اليوم. وأما العالم والمهندس والصانع والتاجر منا فأندر من الكبريت الأحمر حتى صار كل مصنوع نحتاج إليه من نعلنا إلى أوتوموبيلنا إلى سلاحنا غريبا ومجلوبا بيد غريبة أيضا، وإذا وجد لنا تجارة فهي أثرية وثروتنا الطبيعية التي نتناولها بسهولة من سطح الأرض لا من باطنها الموصد على هممنا الفاترة مهما عظمت، لا بد أن تفرغ حيال هذا المنصرف حتى تفرغ الأرض نفسها إلى أيد هي أحق من أيدينا باستثمارها. •••
وفتور هممنا ناشئ من تربيتنا البيتية والاجتماعية ونظام أحكامنا، خاصة الذي ينزع من نفوسنا كل رغبة في العمل، والتربية المدرسية التي هي ذات الشأن الأكبر في التأثير على الأخلاق والأجسام والعقول قلما تهتم بإصلاح ذلك فينا؛ فهي لا تزال ناقصة حتى في أرقى المعمورة، ونقصها في مدارسنا أظهر بكثير على تفاوت بينها. وعيباها الأكبران أنها أولا: تعليمنا المجرد قبل المحسوس والموضوع قبل المطبوع، وثانيا: ليس فيها اقتصاد في الزمن فتحمل العقول ما لا طاقة لها به من علوم الاستظهار، التي لا يبقى لها مع كرور الأيام أثر أو يبقى لها أثر لا فائدة به. وتقلل لها من علوم الاستحضار ما لو مرت الحواس عليه مرة، لبقي أثره في الذهن طول العمر، ولجعل الطفل رجلا زمانا طويلا قبل أن يترجل رجال اليوم، فلكي تكون المدارس أجمع للغرض الذي أنشئت لأجله وتنمي في الطالب ملكة العمل خاصة، يجب أن تتحول إلى حقول وحدائق ومعارض ومعامل؛ ليكون العلم موصوفا محسوسا لا موصوفا فقط، وأن تستعين بمخترعات العلم والصناعة كاليسنماتوغراف مثلا لسد ما يتعذر علينا من هذا القبيل، وتقتصر من علوم الأدب على اللازم الضروري لسهولة الفهم وحسن التعبير، وتقلل من العلوم الموضوعة ما أمكن، وكثير منه يمكن الاستغناء عنه بالمرة من دون بخس للعلم بل بفائدة له أكثر؛ إذ تجعل العقل أقل تقيدا وأكثر حرية أيضا. •••
ولولا أن الاعتقاد شائع كثيرا بين الناس حتى اليوم، أن علوم الأدب أرقى العلوم حتى إن الخارج من المدرسة ومعه شيء من هذه البضاعة ليأنف من تعاطي صناعة من الصناعات لما أسهبت هنا في البيان، وما مثل هذا المترفع اليوم إلا مثل أشراف الماضي الذين كانوا يترفعون عن تعلم القراءة والكتابة، ويعهدون بهما إلى الموالي لحقارتهما في اعتبارهم، فإذا كان قد جاز ذلك في الماضي لاعتبار الناس يومئذ صناعة السلب والنهب والقتل والضرب من الصناعات الشريفة، فهل ذلك يجوز اليوم؟
Bilinmeyen sayfa