فإذا ما سألتني قلت فيهم
أمة حرة وفرد أسير
وعلينا بعد هذا أن نعلم أن ليس لشعب من طبيعته وجنسه ما يحول دون انحطاطه؛ فقد قال العلامة ألفريد فوليه: «قاعدة من قواعد التاريخ أن العوامل العلمية والاجتماعية أو العقلية والأخلاقية تتغلب على العوامل الجنسية والجغرافية والإقليمية بالنظر إلى ما بلغته الحضارة الحديثة من الارتقاء، وأن حركة العلوم وما أوجدته الصناعة لا تزال تبدل أسباب الحياة الاجتماعية وأساليب العمل، على نحو ما تبدل العلائق المتبادلة بين الطبقات المختلفة، وليس لشعب أن يتبجح بأنه راق وسيظل راقيا على وجه الدهر، وما من شعب يحكم عليه بالانحطاط الذي لا يشفى منه، وكل شعب يستفيد بما في التضامن العام من مكتشفات وتجارب، وليس المستقبل للأنجلوسكسونيين ولا للجرمانيين ولا للاتينيين، بل المستقبل للعالمين والصانعين ومن كانوا أحسن أخلاقا وخلاقا.»
حضرة الأستاذ الدكتور علي مصطفى مشرفة، وقد بحث الموضوع التالي.
الأثر العلمي في الثقافة المصرية الحديثة للدكتور علي مصطفى مشرفة
هذه المحاضرة هي حلقة في سلسلة من المحاضرات التي يقصد بها بحث الثقافة المصرية من نواحيها المختلفة للوقوف على المصادر المتعددة التي كان لها الأثر في تكوين هذه الثقافة، ومهمة الباحث في ذلك أشبه شيء بمهمة الكيميائي يحلل المادة المركبة إلى عناصرها ويستنبط الكيفية التي بها تفاعلت هذه العناصر فتكون من اجتماعها وتآلفها ذلك الجسم المركب، فالثقافة المصرية كانت في المحاضرات السالفة من هذه السلسلة، وستكون في هذه المحاضرة موضع بحثنا وتحليلنا، تارة نذيبها وأخرى نصهرها وثالثها نبخرها أو نقطرها؛ ولذا فسأطلب إلى حضراتكم إذا وجدتموني أعالج مادتنا بهذه الوسائل الفعالة أن تحملوا عملي هذا على الرغبة في الوصول إلى حقيقة جوهرها واكتناه سرها، لا على مجرد الشغف بالتحطيم والإتلاف الذي أنا بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وستكون مهمتي مقصورة على البحث عن عنصر واحد من العناصر الداخلة في تركيب الثقافة المصرية الحديثة، ألا وهو العنصر العلمي؛ ذلك لأن حضرات الذين نظموا عقد هذه المحاضرات قد استحضروا خبراء غيري يتحدثون إليكم عن العناصر الأخرى التي هم أدرى بها وأعلم بخواصها مني.
فلنعتبر إذن ثقافتنا المصرية، وأعني بها الثقافة المصرية في عهدنا الحالي، طبعا من الممكن أن ننسب إلى مصر ثقافات مختلفة في أزمة مختلفة؛ فنتكلم عن الثقافة المصرية القديمة، والثقافة الإغريقية في مصر، والثقافة العربية في مصر وهكذا، ولكنني أعتقد أن هذا يكون خطأ في التعبير؛ فكما أننا لا ننسب إلى الشخص الواحد شخصيات مختلفة في أدوار حياته المختلفة، بل نفترض أن له شخصية واحدة تتطور وتنمو وتتكيف من حين إلى آخر، كذلك يجب أن نعتبر ثقافتنا المصرية وحدة متواصلة الوجود منذ أقدم المدنيات المصرية إلى اليوم، وأن ننظر إلى الحضارات الإغريقية والعربية وما اقترحها لاستكشاف العلوم هي بحيث لا تترك إلا القليل لحدة الذهن وقوته تكاد تتساوى في استعمالها العقول على تفاوت مداركها، فكما أنه في رسم خط مستقيم أو دائرة كاملة الشكل يتفاوت الناس بحسب مهارة أيديهم ومقدرتهم على الرسم إذا هم رسموها معتمدين على اليد فقط، ولكنهم يتساوون أو يكادون إذا هم استعملوا المسطرة والبرجل، فكذلك الحال في أمر طريقتي، وخلاصة هذه الطريقة الباكونية - كما تسمى - أن الباحث لكي يصل إلى معرفة أسباب الظواهر الطبيعية، عليه أن يدرسها دراسة مباشرة في ظروف مختلفة، ثم يقارن بين هذه الظروف ليصل إلى ربط الأسباب بمسبباتها الحقيقية مراعيا في ذلك أنه كلما وجد السبب وجد المسبب، وكلما غاب السبب غاب المسبب، وكلما زاد مقدار السبب أو نقص زاد مقدار المسبب أو نقص تبعا لذلك.
ولا أنكر على حضراتكم أنني عندما لقنت هذه الأشياء عجبت أشد العجب من أن تعتبر طريقة باكون هذه بدعة في التفكير، كما أنني أصارحكم القول بأنني تشككت كثيرا في مدارك باكون عندما قرأت وصفه لها بأنها طريقة «تكاد تتساوى في استعمالها العقول على تفاوت مداركها»؛ إذ إنني لم أجد في طريقته إلا أمورا تكاد تكون بديهية، أعتقد أن الشخص العادي عندنا يفطن لها بغاية السهولة بل وأظنه يطبقها في حياته اليومية، واليوم، وأنا أعيد التفكير في هذا الموضوع أراني أجد في عمل باكون وما علق عليه من الأهمية دليلا على شيء واحد ألا وهو انحطاط التفكير العلمي في البلاد الأوروبية في عصر باكون، والظاهر أن الأمم المختلفة تأتي عليها أدوار في تاريخها تخزن فيها عقولها في خزانات من حديد وتسير منقادة بحكم التقاليد والآراء البالية حتى إذا أخرج واحد منهم عقله من خزانته، وأزال عنه شيئا من الصدأ المتراكم عليه ثم استعمله مرة أو مرتين، هلل القوم وكبروا وطبلوا وزمروا معجبين بلباقة هذا الفرد وشدة مهارته، وربما عدوه ساحرا أو مارقا خارجا عليهم لما يأتيه من الأمور المدهشة التي لا يجسر على الإتيان بمثلها سواه، ولا بد أن شيئا من هذا القبيل حدث في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وهنا يجب علي أن أرد على اعتراض ربما بدا لبعض حضراتكم، فربما قيل إنه من الظلم أن أحكم وأنا ابن القرن العشرين وقد تشبعت بالتفكير الحديث وتأثرت بمؤثراته على أمثال السير فرنسيس بيكن الذي هو من واضعي أسس هذا التفكير، فكأنما الغصن ينظر إلى الجذع ويعجب من انحطاطه وقربه من الأرض ناسيا أنه لولا هذا الانحطاط لما كان ارتفاع الغصن، جوابي على هذا أن شجرة التفكير البشري يذهب أصلها إلى أعمق بكثير من أيام فرنسيس بيكون؛ فالتفكير البشري وعلى وجه الخصوص التفكير العلمي المبني على المشاهدة المباشرة كان موجودا قبل بيكن عند العرب وعند الإغريق وعند المصريين القدماء، وقد وصل في كل من هذه العصور إلى مستوى يفوق بكثير ما كان عليه في أيام بيكن، وكل ما يمكن أن يقال عن عصر بيكن هو أنه عصر نهضة، عصر استيقاظ تبعه تقدم مبني على نتائج أعمال العصور التي سبقته.
فالعقلية العلمية والطريقة العلمية إذن ليستا وليدتي الحضارة الأوروبية الحديثة ولكنهما كانتا موجودتين أينما ومتى وجد العلم، وعلى وجه الخصوص كانتا موجودتين في مصر في أيام الفراعنة وفي عصر الإغريق وأيام ازدهار الحضارة العربية، وأخيرا هما موجودتان بيننا اليوم، وقد سبق أن بينت لحضراتكم أن الثقافة المصرية الحالية هي أيضا ليست وليدة العصر الحالي، بل يرجع تاريخها إلى فجر التاريخ يوم كانت مصر مبعث ثقافات الأسرة البشرية.
Bilinmeyen sayfa